تفسير سورة الحشر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت نعمة إيجاده ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة.

ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى :﴿ سبح ﴾ أي : أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص ﴿ لله ﴾ الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿ ما في السماوات ﴾ أي : كلها ﴿ وما في الأرض ﴾ أي : كذلك، وقيل : أن اللام مزيدة، أي : نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر، وجمع السماء لأنها أجناس.
قيل : بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه وحده ﴿ العزيز ﴾ الذي يغلب كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء ﴿ الحكيم ﴾ الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً.
وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها، قال المفسرون : نزلت هذه السورة في بني النضير، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا : هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها : زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا : يا محمد واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، قال : نعم، قالوا : ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة، فقالوا : الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزفة وحصنوها، ثم إنهم اجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض، قال بعض اليهود لبعض : كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلاً اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي.
وقال الضحاك : على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.
فذلك قوله تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظنتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾.
﴿ هو ﴾ أي : وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب ﴿ الذي أخرج ﴾ أي : على وجه القهر ﴿ الذين كفروا ﴾ أي : ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبيّ الخاتم، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق، ﴿ من أهل الكتاب ﴾ أي : الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة، ﴿ من ديارهم ﴾ أي : مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان. ﴿ لأول الحشر ﴾ هو حشرهم إلى الشام، وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني : كان أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر، وقال القرطبي : الحشر الجمع، وهو على أربعة أضرب : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ﴾ كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى الشام، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم : من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم :«اخرجوا قالوا إلى أين، قال : إلى أرض الحشر » قال قتادة : هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره.
وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.
وقال ابن العربي : للحشر أوّل ووسط وآخر، فالأوّل : جلاء بني النضير، والأوسط : جلاء خيبر، والآخر : حشر يوم القيامة. وعن الحسن : هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي، ﴿ ما ظننتم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أن يخرجوا ﴾ أي : يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك، ﴿ وظنوا أنهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ ما نعتهم حصونهم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون حصونهم مبتدأ، وما نعتهم خبر مقدّماً، والجملة خبر أنهم.
الثاني : أن تكون مانعتهم خبر أنهم، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه، وإنّ عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى.
وقال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه. قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في مغازتهم، وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا. ه. وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى :﴿ من الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا عز إلا له، ﴿ فأتاهم الله ﴾ أي : جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه، ﴿ من حيث لم يحتسبوا ﴾ بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها، وهي خذلان المنافقين رعباً كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها، ﴿ وقذف ﴾ أي : أنزل إنزالاً كأنه قذف بحجارة فثبت ﴿ في قلوبهم الرعب ﴾ أي : الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ في قلوبهم الرعب، وعليهم الجلاء، ولإخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمر وبكسرهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي، والباقون بالسكون.
ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى :﴿ يخربون بيوتهم ﴾ أي : لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال : خرّب بالتشديد هدم، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خراباً وذهب عنه، وهو قول الفرّاء. قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو : فرحته وأفرحته.
وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها، ﴿ بأيديهم وأيدي المؤمنين ﴾ قال الزهري : وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الإبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم.
وقال مقاتل : إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ودربوا عليهم الأزقة، وكان المسلمون سائر الجوانب.
فإن قيل : ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين ؟ أجيب : بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء : بأيديهم في تركهم لها، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها.
ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك. قوله ﴿ فاعتبروا ﴾ أي : احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال : السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.
ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمّل بقوله تعالى :﴿ يا أولي الأبصار ﴾ بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.
﴿ ولولا أن كتب الله ﴾ أي : فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله ﴿ عليهم الجلاء ﴾ أي : الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الجلاء، وجعله على يده صلى الله عليه وسلم فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة.
تنبيه :: قال الماوردي : الجلاء أخص من الخروج، لأنه لا يقال إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره : الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك ﴿ لعذبهم ﴾ أي : بالقتل والسبي ﴿ في الدنيا ﴾ كما فعل بقريظة من اليهود ﴿ ولهم ﴾ أي : على كل حال أجلوا أو تركوا ﴿ في الآخرة ﴾ التي هي دار البقاء ﴿ عذاب النار ﴾ وهو العذاب الأكبر.
﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة ﴿ بأنهم شاقوا الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين ﴿ و ﴾ شاقوا ﴿ رسوله ﴾ أي : الذي إجلاله من إجلاله ﴿ ومن يشاق الله ﴾ أي : يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال ﴿ فإن الله ﴾ أي : المحيط بجميع العظمة ﴿ شديد العقاب ﴾ وذلك كما فعل بأهل خيبر.
وقوله تعالى :﴿ ما ﴾ شرطية في موضع نصب بقوله تعالى :﴿ قطعتم ﴾ وقوله تعالى :﴿ من لينة ﴾ بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى :﴿ من لينة ﴾ فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة :[ من الطويل ]
كان قتودي فوقها عش طائر على لينة سوقاء تهفو جنوبها
وقال الزهري : هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق : الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان : هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل : هي النخلة الكريمة، أي : القريبة من الأرض. وقيل : هي الفسيلة، أي : بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل : هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي : هي الدقل. قال ابن العربي : والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين ؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى :﴿ أوتركتموها قائمة ﴾ عائد على معنى ما.
ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى :﴿ على أصولها فبأذن الله ﴾ أي : فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال :«حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع » واللام في قوله تعالى :﴿ وليخزي الفاسقين ﴾ متعلقة بمحذوف، أي : وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.
فإن قيل : لم خصت اللينة بالقطع ؟ أجيب : بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.
واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمجانيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود : أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي : أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذا تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي : وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى :﴿ وليخزي الفاسقين ﴾.
﴿ وما أفاء الله ﴾ أي : ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة ﴿ على رسوله ﴾ فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها ﴿ منهم ﴾ أي : ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي : تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.
وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بإيجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى :﴿ واعلموا إنما غنمتم من شيء ﴾[ الأنفال : ٤١ ] الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى :﴿ فما أوجفتم ﴾ أي : أسرعتم يا مسلمين ﴿ عليه ﴾ ومن في قوله تعالى :﴿ من خيل ﴾ مزيدة، أي : خيلاً، وأكد بإعادة النافي دفعاً لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى :﴿ ولا ركاب ﴾، والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.
وقال الرازي : العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى : لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشياً، ولم يركبوا إليها خيلاً ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم ركب جملاً، وقيل : حماراً مخطوماً بليف فافتتحها صلحاً.
قال الرازي : إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضاً فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء.
﴿ ولكن الله ﴾ أي : الذي له العز كله فلا كفؤ له ﴿ يسلط رسله ﴾ أي : له هذه السنة في كل زمن ﴿ على من يشاء ﴾ يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه، ﴿ والله ﴾ أي : الملك الذي له الكمال كله، ﴿ على كل شيء ﴾ يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره، ﴿ قدير ﴾ أي : بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى الله عليه وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء.
ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى :﴿ ما أفاء الله ﴾ أي : الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة ﴿ على رسوله من أهل القرى ﴾ أي : قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى :﴿ فلله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم ﴿ وللرسول ﴾ أي : الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى :﴿ ولذي القربى ﴾ أي : منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه » فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها : المذكور في قوله تعالى :﴿ واليتامى ﴾ أي : الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام » رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له : منقطع. ثالثها : المذكور في قوله تعالى :﴿ والمساكين ﴾ الصادقين بالفقراء، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى :﴿ ابن السبيل ﴾ أي : الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالإعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص الحاضر بموضع حصول الفيء، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج، ولا يعمّ للضرورة.
ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه، أو لخدمته إن كان ممن يخدم، ويعطي مؤنته.
ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء.
وقيل : يملكه هو ويصير إليهما من جهته، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه، ويمحى اسم كل من لم يرج، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح، وله أيضاً : قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى :﴿ كي لا يكون ﴾ أي : الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه، ومن حقه أن يعطاه الفقراء ﴿ دولة ﴾ أي : متداولاً ﴿ بين الأغنياء منكم ﴾ أي : يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون : من عزيز، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع، والباقون بالتذكير والنصب، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان ؛ لأنه تأنيث مجازي، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع، ودولة خبرها، وقيل : دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم.
﴿ وما آتاكم الرسول ﴾ أي : وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة، أو مال الفيء أو غيره ﴿ فخذوه ﴾ أي : فاقبلوه لأنه حلال لكم، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة ﴿ وما نهاكم عنه ﴾ أي : من جميع الأشياء ﴿ فانتهوا ﴾ لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل.
تنبيه : هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال : انزع عنك هذا، فقال الرجل : تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى، قال : نعم ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة.
وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار ؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾ [ النساء : ٥٩ ] وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى » فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب فجاءت فقالت : بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال : لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ قالت : بلى، قال : فإنه قد نهى عنه الحديث.
فائدة : الوشم : هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، والنامصة : هي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتفلجة : هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل : تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء. ﴿ واتقوا الله ﴾ أي : واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق ﴿ شديد العقاب ﴾ أي : العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدّة.
وقوله تعالى :﴿ للفقراء ﴾ أي : الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وماله دثار غيرها بدل من لذي القربى، وما عطف عليه قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ الله تعالى أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراء في قوله تعالى :﴿ وينصرون الله ورسوله ﴾ ولأنه تعالى يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقير، وقال غيره : إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي : ولكن الفيء للفقراء.
وقيل تقديره : ولكن يكون للفقراء، وقيل تقديره : أعجبوا للفقراء، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من لذي القربى لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء، ولذا قال البيضاوي : ومن أعطى أغنياء ذوي القربى، أي : كالشافعي خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير ا. ه. أوانهم كانوا عند نزول الآية كذلك، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى :﴿ المهاجرين ﴾ وقيد ذلك بقوله تعالى :﴿ الذين أخرجوا من ديارهم ﴾ لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى :﴿ وأموالهم ﴾ إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له.
ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى :﴿ يبتغون ﴾ أي : اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى :﴿ فضلاً من الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه ﴿ ورضوانا ﴾ بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها ﴿ وينصرون ﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار ﴿ الله ﴾ أي : دين الملك الأعظم ﴿ ورسوله ﴾ الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان ﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة ﴿ هم الصادقون ﴾ أي : العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابذوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم.
ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى :﴿ والذين تبوّؤوا ﴾ أي : جعلوا بغاية جهدهم ﴿ الدار ﴾ أي : الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى :﴿ والإيمان ﴾ أوجه :
أحدها : أنه ضمن تبوّؤوا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه ؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.
ثانيها : أنه منصوب بمقدر، أي : واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل :
علفتها تبناً وماء بارداً ***
وقول الآخر :
ومقلداً سيفاً ورمحاً ***
ثالثها : أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.
رابعها : أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
خامسها : أن يكون سمى المدينة به، لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال : هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى :﴿ فإنّ الجنة هي المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ] أي : مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي : المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل : لا نعرف فيه خلافاً.
سادسها : أنه منصوب على المفعول معه، أي : مع الإيمان. قال وهب : سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال : إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ ﴿ والذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم ﴾ أي : وهم الأنصار ﴿ يحبون ﴾ أي : على سبيل التجديد والاستمرار ﴿ من هاجر ﴾ وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى :﴿ إليهم ﴾ لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ﴿ ولا يجدون في صدورهم ﴾ أي : التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم ﴿ حاجة ﴾ قال الحسن : حسداً وحزازة وغيظاً ﴿ مما أوتوا ﴾ أي : آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية. فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين.
وقيل : إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى : ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول : خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري : والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء : مس حاجة، أي : أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤوا الدار والإيمان. قال القرطبي : كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم » فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ﴾ فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿ ولو كان ﴾ أي كونا هو في غاية المكنة ﴿ بهم ﴾ أي خاصة لا بالمؤثر ﴿ خصاصة ﴾ أي : فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال :«جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال : لامرأته هل عندك شيء ؛ قالت : لا إلا قوت صبياني، قال : فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج » وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال : إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب : بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى :﴿ والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس ﴾ [ البقرة : ١٧٧ ] فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال : هذه صدقة فرماه بها، وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس » والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال : والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك »، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول : آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي : يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت : إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال : هكذا كلاب بلخ فقلت : وما حد الزهد عندكم، فقال : إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال : ثلاث : تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه ﴿ ومن يوق شح نفسه ﴾ أي : يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح : أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم ».
وقال القرطبي : الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح : الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.
روى الأموي عن ابن مسعود : أنّ رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال : وما ذاك قال سمعت الله يقول : ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير : الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة : الشح الظلم. وقال الليث : ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.
وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«برئ من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة » وعنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها » وقال ابن الهياج الأسدي : رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له : فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي : ونزل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم » وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً » وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقر، فقال : الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً ﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو المنزلة ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري : ومجرد القلب من الأعر
ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى :﴿ والذين جاؤوا ﴾ أي : من أي طائفة كانوا ﴿ من بعدهم ﴾ أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ﴿ يقولون ﴾ على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم :﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا ﴿ اغفر لنا ﴾ أي : أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها ﴿ ولإخواننا ﴾ أي : في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم :﴿ الذين سبقونا بالإيمان ﴾ قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين، والذين تبوؤوا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم : كن مهاجراً، فإن قلت : لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.
وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم :﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ الآية، قال : لا، قال : فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم :﴿ والذين تبوؤوا الدار والإيمان ﴾ الآية، قال : لا، قال : فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام، وهي قوله تعالى :﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم، فقالوا : لا فقال : من الذين تبوؤوا الدار والإيمان، قالوا : لا قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى :﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ قوموا فعل الله بكم وفعل.
تنبيه : هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء.
قال مالك : من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ ﴿ والذين جاؤوا من بعدهم ﴾ الآية، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال :«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو رأيت إخواننا، فقالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض » فبين صلى الله عليه وسلم أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي : إنهم الذي هاجروا بعد ذلك، وعن الحسن أيضاً : أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك » وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب موسى، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا : أصحاب عيسى، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها » أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة ﴿ ولا تجعل في قلوبنا غلاً ﴾ أي : ضغناً وحسداً وحقداً، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر ﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم :﴿ إنك رؤوف ﴾ أي : راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير، ﴿ رحيم ﴾ مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة.
فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بمدها.
ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى :﴿ ألم تر ﴾ أي : تعلم علماً هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى :﴿ إلى الذين نافقوا ﴾ أي : أظهروا غير ما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، قالوا : والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى :﴿ يقولون لإخوانهم الذين كفروا ﴾ أي : غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق ﴿ من أهل الكتاب ﴾ وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والأخوان هم الأخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً :
أحدها : الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وثانيها : الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها : الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لليهود :﴿ لئن أخرجتم ﴾ أي : من مخرجّ ما من المدينة ﴿ لنخرجن معكم ﴾ أي : منها ﴿ ولا نطيع فيكم ﴾ أي في خذلانكم ﴿ أحداً ﴾ أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم :﴿ أبداً ﴾ أي : ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب ﴿ وإن قوتلتم ﴾ أي : من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا ﴿ لننصرنكم ﴾ أي : لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى :﴿ والله ﴾ أي : يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ يشهد إنهم ﴾ أي : المنافقين ﴿ لكاذبون ﴾ أي : فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى :﴿ لئن أخرجوا ﴾ أي : بنو النضير من أي مخرج كان ﴿ لا يخرجون ﴾ أي : المنافقون ﴿ معهم ﴾ أي : حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى :﴿ ولئن قوتلوا ﴾ أي : اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وسلم ﴿ لا ينصرونهم ﴾ أي : المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين ﴿ ولئن نصروهم ﴾ أي : المنافقون في وقت من الأوقات ﴿ ليولنّ ﴾ أي : المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى :﴿ الأدبار ﴾ أي : ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين ﴿ ثم لا ينصرون ﴾ أي : يتجدّد لفريقيهم، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل.
﴿ لأنتم ﴾ أيها المؤمنون ﴿ أشد رهبة ﴾ أي : خوفاً ﴿ في صدورهم ﴾ أي : اليهود ومن ينصرهم ﴿ من الله ﴾ أي : لتأخير عذابه، وأصل الرهبة والرهب : الخوف الشديد مع حزن واضطراب، والمعنى : أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له، وعدم خوفهم من الخالق على ماله من العظمة في ذاته، ولكونه غنياً عنهم ﴿ بأنهم قوم ﴾ أي : على ما لهم من القوة ﴿ لا يفقهون ﴾ أي : لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
﴿ لا يقاتلونكم ﴾ أي : اليهود والمنافقون ﴿ جميعاً ﴾ أي : قتالاً تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن ﴿ إلا في قرى محصنة ﴾ أي : ممتنعة بحفظ الدروب، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها ﴿ أو من وراء جدر ﴾ أي : محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر وبكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو، والباقون بضم الجيم والدال ﴿ بأسهم ﴾ أي : حربهم ﴿ بينهم شديد ﴾ أي : بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضاً شديدة. وقيل : بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى :﴿ تحسبهم ﴾ أي : اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها ﴿ جميعاً ﴾ لما هم فيه من اجتماع الأشباح ﴿ وقلوبهم شتى ﴾ أي : متفرقة أشدّ افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.
قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمة، والتساوي في القصد موجب كل ظفر، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وهي على وزن فعلى ﴿ ذلك ﴾ أي : الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع ﴿ بأنهم قوم ﴾ أي : مع شدتهم ﴿ لا يعقلون ﴾ فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.
﴿ كمثل الذين من قبلهم قريباً ﴾ أي : بزمن قريب، وهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عندما قصدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أثر غزوة بدر، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى فقالوا : لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. ﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ أي : عقوبته في الدنيا من القتل وغيره ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ أي : مؤلم في الآخرة.
مثلهم أيضاً في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم ﴿ كمثل الشيطان ﴾ أي : البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين ﴿ إذ قال للإنسان ﴾ وهو هنا مثل اليهود ﴿ اكفر ﴾ أي : بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر.
﴿ فلما كفر ﴾ أي : أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. ﴿ قال ﴾ أي : الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين ﴿ إني بريء منك ﴾ أي : ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم. وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك : أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم، وقوله ﴿ كمثل الشيطان ﴾ كالبيان لقوله تعالى :﴿ كمثل الذين من قبلهم ﴾ روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان : راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه » وروى عطاء وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان راهب يقال له : برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال : ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له : الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي تصدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبريل عليه السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي، فدفعه جبريل عليه السلام إلى أقصى أرض الهند، فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العباد في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه، فقال له : إنك حين ناديتني كنت مشتغلاً عنك فما حاجتك ؟ قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة، وتدعو لي، وأدعو لك فقال برصيصا : إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب الله لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً، فلما التفت بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض، قال له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد فلا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض برصيصا إن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما رأيت، وكان بلغنا عنك أنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد، وكره مفارقته للذي رآه من شدة اجتهاده فلما ودعه الأبيض قال له : إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا : أني أكره هذه المنزلة لأن في نفسي شغلاً، وإني أخاف إن علم به الناس يشغلوني عن عبادة ربي عز وجل، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال : والله قد أهلكت الرجل. فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب، فقال لأهله : إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه ؟ قالوا : نعم، فقال : إني لا أقوى على جنيته، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه. انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل، وكان لها ثلاثة أخوة، وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل قصد لها وخنقها، ثم جاء إليهم في صورة رجل مطبب فقال أفأعالجها ؟ قالوا : نعم، قال : إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده، إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتردونها صحيحة، قالوا : ومن هو ؟ قال : برصيصاً، قالوا : كيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك، قال : ابنوا صومعة إلى جنب صومعته، ولتكن لزيق صومعته حتى يشرف عليها فإن قبلها وإلا فتضعونها في صومعتها، ثم قولوا له : هي أمانة عندك فاحتسب أمانتك. فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض، ووضعوا الجارية في صومعتها، وقالوا : يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية، وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاء الشيطان وقال : ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان : ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلاً فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته ؛ إذ جاء أخوتها يتعهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فلما لم يجدوها قالوا : يا برصيصا ما فعلت أختنا ؟ قال : قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال : ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ : هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه : والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط : أنا والله رأيت مثله، وقال الأكبر : أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له : ما فعلت بأختنا ؟ فقال : أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني، فقالوا : والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال : ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال : تقتلها، ثم تكابر فيجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال : يا برصيصاً تعرفني، قال : لا، قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت فلم يزل يعيره، ثم قال : ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك، قال : فكيف أصنع ؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، فأخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال : وما هي ؟ قال : تسجد لي، قال : أفعل فسجد له فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك ».
﴿ إني أخاف الله ﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بسكونها ﴿ رب العالمين ﴾ أي : الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئا إلا بإذنه.
﴿ فكان ﴾ أي : فتسبب عن قوله ذلك أنه كان ﴿ عاقبتهما ﴾ أي : الغار والمغرور ﴿ أنهما في النار ﴾ حال كونهما ﴿ خالدين فيها ﴾ لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه ﴿ وذلك ﴾ أي : العذاب الأكبر ﴿ جزاء الظالمين ﴾ أي : كل من وضع العبادة في غير موضعها، أو هم الكافرون لقوله تعالى :﴿ إنّ الشرك لظلم عظيم ﴾[ لقمان : ١٣ ] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم، وقالوا : لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم إليه، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصاً، وخذله فكان عاقبة الفريقين في النار.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق في الأحبار، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتت أمه وهو يصلي فقالت : يا جريج، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته، فقال : مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم، قال : فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت : هو من جريج فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه فقال : ما شأنكم ؟ فقالوا : زنيت بهذه البغي فحلمت منك، فقال : أين الصبيّ فجاؤوا به، فقال : دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه، وقال : يا غلام من أبوك، فقال : فلان الراعي، قال : فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب، قال : لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث : كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة ».
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان باللسان ﴿ اتقوا الله ﴾ أي : اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي ﴿ ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ﴾ أي : في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل : ذكر الغد تنبيهاً على أنّ الساعة قريبة كقول القائل : وإنّ غداً لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة : قرب الساعة حتى جعلها كغد، لأنّ كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى ﴿ ما قدمت ﴾ أي : من خير أو شر، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال : ولتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال : الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.
وقيل : كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ﴿ خبير ﴾ أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة ﴿ بما تعملون ﴾ فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.
﴿ ولا تكونوا ﴾ أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا ﴿ كالذين نسوا الله ﴾ أي : أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ماله من صفات الجلال والإكرام ﴿ فأنساهم ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن أنساهم بماله من الإحاطة بالظواهر والبواطن ﴿ أنفسهم ﴾ أي : فلم يقدموا لها ما ينفعها، وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى :﴿ وجوه يومئذ خاشعة ٢ عاملة ناصبة ﴾ [ الغاشية، الآيتان : ٢ ٣ ] الآية لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء من كل خير ﴿ هم الفاسقون ﴾ أي : العريقون في المروق من دائرة الدين.
﴿ لا يستوي ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ أصحاب النار ﴾ أي : التي هي محل الشقاء الأعظم ﴿ وأصحاب الجنة ﴾ أي : التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر ﴿ أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾ أي : الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
﴿ لو أنزلنا ﴾ أي : بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال ﴿ هذا القرآن ﴾ أي : الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم ﴿ على جبل ﴾ أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان ﴿ لرأيته ﴾ يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية ﴿ خاشعاً ﴾ أي : متذللاً باكياً ﴿ متصدّعاً ﴾ أي : متشققاً غاية التشقق ﴿ من خشية الله ﴾ أي : من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته ﴿ وتلك الأمثال ﴾ أي : التي لا يضاهيها شيء ﴿ نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾ فيؤمنون.
والمعنى : أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره ﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ [ البقرة : ٧٤ ].
وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي : لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل : إنه خطاب للأمة، والمعنى : لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل :﴿ هو ﴾ أي : الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله ﴿ الذي لا إله إلا هو ﴾ فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلماً إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة ﴿ عالم الغيب ﴾ أي : الذي غاب عن جميع خلقه ﴿ والشهادة ﴾ أي : الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس : معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل : ما كان وما يكون. وقال سهل : عالم بالآخرة والدنيا، وقيل : استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى :﴿ هو الرحمن الرحيم ﴾ معناه ذو الرحمة، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل : إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم، ولهذا قيل : هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين.
﴿ هو الله ﴾ أي : الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو ﴿ الذي لا إله ﴾ أي : لا معبود بحق ﴿ إلا هو الملك ﴾ أي : فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته ﴿ القدوس ﴾ أي : البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس، أو يتصورّه خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج إليه ضمير.
ونظيره : السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح ﴿ السلام ﴾ أي : الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص، أو في إعطائه السلامة ﴿ المؤمن ﴾ قال ابن عباس : هو الذي أمن الناس من ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. وقيل : هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد : المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو ﴾ [ آل عمران : ١٨ ] قال ابن عباس : إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم : أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين ﴿ المهيمن ﴾ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل : هو القائم على خلقه بقدرته، وقيل : هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي لا يوجد له نظير، وقيل : هو الغالب القاهر ﴿ الجبار ﴾ الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه، والجبار في صفة الله صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى :﴿ المتكبر ﴾ أي : الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصاً، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله ﴿ سبحان الله ﴾ أي : تنزه الملك إلا على الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى :﴿ عما يشركون ﴾ أي : من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير.
﴿ هو ﴾ أي : الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه ﴿ الخالق ﴾ أي : المقدر للأشياء على مقتضى حكمته ﴿ البارئ ﴾ أي : المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود برياً من التفاوت وقوله تعالى :﴿ المصور ﴾ أي : الذي يخلق صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوباً بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز ﴿ له ﴾ أي : خاصة ﴿ الأسماء الحسنى ﴾ التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن ﴿ يسبح ﴾ أي : يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار ﴿ له ﴾ أي : على وجه التخصيص ﴿ ما في السماوات ﴾ أي السماوات وما فيها ﴿ والأرض ﴾ وما فيها ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه وحده ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿ الحكيم ﴾ أي : الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.
Icon