تفسير سورة النحل

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة النحل من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

السورة التي يذكر فيها النحل
قوله جل ذكره: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألف الوصل فى «بِسْمِ اللَّهِ» لم يكن لها فى التحقيق أصل، جلبت للحاجة إليها للتوصل بها إلى النطق بالسّاكن، وإذ وقع ذلك أنفا عنها أسقطت فى الإدراج، ولكن كان لها بقاء فى الخط وإن لم يكن لها ظهور فى اللفظ، فلمّا صارت إلى «بِسْمِ اللَّهِ» أسقطت من الخط كذلك..
وكذلك من ازداد صحبة استأخر «١» رتبة.
ويقال أي استحقاق لواو عمرو حتى ثبتت فى الخط؟ وأي استحقاق إلى الألف فى قولهم قتلوا وفعلوا؟ وأىّ موجب لحذف الألف من السماوات؟
طاحت العلل فى الفروق، وليس إلا اتفاق الوضع... كذلك الإشارة فى أرباب الردّ والقبول، قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)
صيغة أتى للماضى، والمراد منه الاستقبال لأنه بشأن ما كانوا يستعجلونه من أمر الساعة، والمعنى «سيأتى» أمر القيامة، والكائنات كلّها والحادثات بأسرها من جملة أمره أي حصل أمر تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصل بتقديره وتيسيره، وقضائه وتدبيره فما يحصل من خير وشرّ، ونفع وضرّ، وحلو ومرّ.. فذلك من جملة أمره تعالى.
«فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئا باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمرا، وإذا أمّلوا شيئا، أو أخبروا بحصول شىء فلا استعجال لهم، بل شأنهم
(١) إن صح نقل هذه الكلمة عن الأصل فلربما يقصد القشيري منها استخفى عن الظهور، وازداد ذبولا، وبعدا عن التظاهر والدعوى.
(٢) آية ١٠٧ سورة هود.
التأنّى والثبات والسكون. وإذا بدا من التقدير حكم فلا استعجال لهم لما يرد عليهم، بل يتقبلون مفاجأة التقدير بوجه ضاحك، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردّ والقبول، والمنع والفتوح بوصف الرضاء، ويحمدون الحق- سبحانه وتعالى- على ذلك.
«سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تعالى عما يشركون بربهم، والكفار لم ييسر لهم حتى أنّه لا سكن لقلوبهم من حديثه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
ينزل الملائكة على الأنبياء- عليهم السلام- بالوحى والرسالة، وبالتعريف والإلهام على أسرار أرباب التوحيد وهم المحدّثون. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير مردود لكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك، ولا يحملون رسالة إلى الخلق.
ويراد بالروح الوحى والقرآن، وفى الجملة الروح ما هو سبب الحياة إمّا حياة القلب أو حياة الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
خلقها بالحق، ويحكم فيها بالحق، فهو محقّ فى خلقها لأنّ له ذلك، ويدخل فى ذلك أمره بتكليف الخلق، وما يعقب ذلك التكليف من الحشر والنّشر، والثواب والعقاب.
«تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» : تقديسا وتشريفا له عن أن يكون له شريك أو معهم ليك قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
تعرّف إلى العقلاء بكمال قدرته حيث أخبر أنه قدر على تصوير الإنسان على ما فيه من التركيب العجيب، والتأليف اللطيف من نطفة متماثلة الأجزاء، متشاكلة فى وقت الإنشاء، مختلفة الأعضاء وقت الإظهار والإبداء، والخروج من الخفاء. ثم ما ركّب فيه من تمييز وعقل،
ويسّر له النطق والفعل، والتدبير فى الأمور، والاستيلاء على الحيوانات على وجه التسخير.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥)
ذكّرهم بما تفضّل عليهم، وأخبرهم بما للحيوانات من النّعم، وما لهم فيها من وجوه الانتفاع فى جميع الأحوال، كالحمل وكالسفر عليها وقطع المسافات، والتوصّل على ظهورها إلى مآربهم، وما لنسلها ولدرّها من المنافع.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦ الى ٧]
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
الغنيّ له جمال بماله، والفقير له استقلال بحاله.. وشتّان ماهما! فالأغنياء يتجملون بأنعامهم حين يريحون وحين يسرحون، والفقراء يستقلون بمولاهم حين يصبحون وحين يمسون. أولئك تحمل أثقالهم جمالهم، وهؤلاء يحمل الحقّ عن قلوبهم أثقالهم.
«لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» : قوم أحوالهم مقاساة الشدائد يصلون سيرهم بسراهم، وقوم فى حمل مولاهم بعيدون عن كدّ التدبير، مستريحون بشهود التقدير، راضون باختيار الحقّ فى العسير واليسير «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)
فالنفوس فى حملها كالدواب، والقلوب معتقة عن التعنّى فى الأسباب. «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» : كما أن أهل الجنة من المؤمنين يجدون فى الآخرة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فكذلك أرباب الحقائق يجدون- اليوم- ما لم يخطر قطّ على بال، ولا قرأوا فى كتاب، ولا تلقنوه من أستاذ، ولا إحاطة بما أخبر الحق أنه
(١) يطلق القشيري على الأول اصطلاح (متحمل) وعلى الثاني (محمول). [.....]
لا يعلم تفصيله «١» سواه.. وكيف يعلم من أخبر الحقّ- سبحانه- أنه لا يعلم؟
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
قوم هداهم السبيل، وعرّفهم الدليل، فصرف عن قلوبهم خواطر الشكّ، وعصمهم عن الجحد والشّرك، وأطلع فى قلوبهم شمس العرفان، وأفردهم بنور البيان. وآخرون أضلّهم وأغواهم، وعن شهود الحجج أعماهم، وفى سابق حكمه من غير سبب أذلّهم وقمعهم «٢»، ولو شاء لعرّفهم وهداهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
أنزل المطر وجعل به سقيا النبات، وأجرى العادة بأن يديم به الحياة، وينبت به الأشجار، ويخرج الثمار، ويجرى الأنهار.
ثم قال: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ثم قال بعده بآيات: «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»، ثم قال بعده: «لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ». وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة «٣»، فأولا التفكر ثم العلم ثم التذكر، أولا يضع النظر موضعه فإذا لم يكن فى نظره خلل وجب له العلم لا محالة، ولا فرق بين العلم والعقل فى الحقيقة، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر.
ويقال إنما قال: «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» : على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير
(١) وردت (تفضله) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) (قمعهم) - قهرهم وذلهم. على أننا لا نستبعد- حسبما نعرف من كلف القشيري بالخوض على الموسيقى اللفظية- أنها ربما كانت (أقماهم) أي صغرهم وأذلهم (انظر آية ٤ سورة القصص المجلد الثالث).
(٣) هذه نقطة هامة إذا أردنا أن ندرس مذهب المعرفة عند الصوفية عموما، والقشيري بخاصة
عارفا، وكل جزء من العلم تحصل له آية ودليل، فللعالم حتى يكون عارفا بربّه آيات ودلائل، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة فبدليل واحد يعلم وجه النظر، وبأدلة كثيرة يصير عارفا بربه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
الليل والنهار ظرفا الفعل، والناس فى الأفعال مختلفون: فموفّق ومخذول فالموفّق يجرى وقته فى طاعة ربه، والمخذول يجرى وقته فى متابعة هواه.
العابد يكون فى فرض يقيمه أو نفل يديمه، والعارف فى ذكره وتحصيل أوراده بما يعود على قلبه فيؤنسه، وأما أرباب التوحيد فهم مختطفون عن الأحيان والأوقات بغلبة ما يرد عليهم من الأحوال كما قيل:
لست أدرى أطال ليلى أم لا كيف يدرى بذاك من يتقلّى؟
لو تفرّغت لاستطالة ليلى ورعيت النجوم كنت مخلّا
قوله جل ذكره: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
هذا فى الظاهر، وفى الباطن نجوم العلم وأقمار المعرفة وشموس التوحيد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
أقوام خلق لهم فى الأرض الرياض والغياض «١»، والدور والقصور، والمساكن والمواطن، وفنون النّعم وصنوف القسم.. وآخرون لا يقع لهم طير على وكر، ولا لهم فى الأرض شبر لا ديار تملكهم، ولا علاقة تمسكهم- أولئك سادات الناس وضياء الحق.
(١) الغياض جمع غيضة وهى الموضع يكثر فيه الشجر ويلتف.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
سخر البحر فى الظاهر، وسهّل ركوبه فى الفلك، ويسّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحلىّ كاللؤلؤ والدّرّ، وما يقتات به من السمك وحيوان البحر.
ومن وجوه المعاني خلق صنوفا من البحر، فقوم غرقى فى بحار الشغل وآخرون فى بحار الحزن، وآخرون فى بحار اللهو.. فالسلامة من بحر الشغل فى ركوب سفينة التوكل، والنجاة من بحر الحزن فى ركوب سفينة الرضا، والسلامة من بحر اللهو من ركوب سفينة الذكر، وأنشد بعضهم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٥]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥)
الرواسي فى الظاهر الجبال، وفى الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخلق، بهم يرحمهم، وبهم يغيثهم.. ومنهم أبدال ومنهم أوتاد ومنهم القطب. وفى الخبر: «الشيخ فى قومه كالنبى فى أمته» وقال تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» «٢»، كما قال تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ» «٣»، وأنشد بعضهم:
وا حسرتا من فراق قوم هم المصابيح والأمن والمزن
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٦]
وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
الكواكب نجوم السماء ومنها رجوم للشياطين، والأولياء نجوم فى الأرض. وكذلك العلماء وهم أئمة فى التوحيد وهم رجوم للكفّار والملحدين.
(١) سقط الشاهد الشعرى من الناسخ.
(٢) آية ٣٣ سورة الأنفال.
(٣) آية ٢٥ سورة الفتح.
ويقال فرق بين نجوم يهتدى بها فى فجاج الدنيا، ونجوم يهتدى بهم إلى الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٧]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)
تدل هذه الآية على نفى التشبيه بينه- سبحانه- وبين خلقه. وصفات القدم لله مستحقّة، وما هو من خصائص الحدثان وسمات الخلق يتقدّس الحقّ- سبحانه- عن جميع ذلك. ولا تشبّه ذات القديم بذوات المخلوقين، ولا صفاته بصفاتهم، ولا حكمه بحكمهم، وأصل كلّ ضلالة التشبيه، ومن قبح ذلك وفساده أنّ كلّ أحد يتبرّأ منه ويستنكف من انتحاله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٨]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨)
الموجودات لا تحصوها لتقاصر علومكم عنها، وما هو من نعم الدفع «١» فلا نهاية له. وهو غفور رحيم حيث يتجاوز عنكم إذا عجزتم عن شكره، ويرضى بمعرفتكم (... ) «٢» لكم عن شكره.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٩]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
ما تسرّون من الإخلاص وملاحظة الأشخاص.. فلا يخفى عليه حسان، وما تعلنون من الوفاق والشقاق، والإحسان والعصيان. والآية توجب تخويف أرباب الزّلّات، وتشريف أصحاب الطاعات.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٠]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)
أخبر أن الأصنام لا يصحّ منها الخلق لكونها مخلوقة، ودلّت الآية على أنّ من وجدت له سمة الخلق لا يصحّ منه الخلق، والخلق هو الإيجاد ففى الآية دليل على خلق الأعمال.
(١) من قصور الإنسان أنه لا يشعر إلا بنعم المنح، ولكن نعم الدفع التي لا تتناهى لا يكاد الإنسان يشعر بها البتة وبالتالى لا يشكر عليها... وما أكثرها!
(٢) مشتبهة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢١]
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
لأنّ من لحقه وصف التكوين لا يصحّ منه الإيجاد. وفى التحقيق كلّ من علق قلبه بشىء، وتوهّم منه خيرا أو شرا فقد أشرك بالله بظنّه، وإنما التوحيد تجريد القلب عن حسبان شظيّة من النفي والإثبات من جميع المخلوقين والمخلوقات.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٢]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢)
لا قسيم لذاته جوازا أو وجوبا، ولا شبيه له ولا شريك. ومن لم يتحقق بهذه الجملة قطعا، وبشهادة البراهين له تفصيلا فهو فى دركات الشّرك واقع، وعن حقائق التوحيد بمعزل، قال تعالى فى صفة الكفار: «قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» أي فى أسر الشّرك وغطاء الكفر، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان لأنّ العلة- لمن أراد المعرفة- متاحة، وأدلة الخلق لائحة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٣]
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)
فيفضحهم ويبيّن نفاقهم، ويعلن للمؤمنين كفرهم وشقاقهم.
قوله جل ذكره: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين، ويكفيهم فضلا بشارة الحق لهم بمحبته لهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤)
لحقهم شؤم تكذيبهم، فأصرّوا على إعراضهم عن النظر، وقست قلوبهم ولم تجنح
إلى الإقرار بالحق، فلبّسوا على من يسائلهم، وقالوا: هذا الذي جاء به محمد من أكاذيب العجم، فضلّوا وأضلوا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٥]
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥)
لما سعوا فى الدنيا لغير الله لم تصف أعمالهم، وفى الآخرة حملوا معهم أوزارهم. أولئك الذين خسروا فى الدنيا والآخرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٦]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦)
اتصفوا بالمكر فحاق بهم مكرهم، ووقعوا فيما حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذاب من مأمنهم، واشتغلوا بلهوهم فنغّص عليهم أطيب عيشهم:
فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
الذي وصف نفسه به فى كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب فى التوسع فى الخطاب.
وهو سبحانه يكشف الليل ببدره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمكره، وفى معناه قالوا:
وأمته فأتاح لى من مأمنى مكرا، كذا من يأمن الأياما
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٢٧]
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
فى الدنيا عاجل بلائهم، وبين أيديهم آجله. وحسرة «١» المفلس تتضاعف إذا ما حوسب، وشاهد حاصله.
«قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ..» : يسمع الكافرين قول المؤمنين، ويبيّن للكافة صدقهم.
ويقع الندم على جاهلهم «٢». وأما اليوم فعليهم بالصبر والتحمّل، وعن قريب ينكشف الغطاء، وأنشد بعضهم:
خليلىّ لو دارت على رأسى الرّحى من الذّلّ لم أجزع ولم أتكلّم
وأطرقت حتى قيل لا أعرف الجفا ولكننى أفصحت يوم التكلّم
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)
«ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ» : بارتكاب المعاصي وهم الكفار.
«فَأَلْقَوُا السَّلَمَ» : انقادوا واستسلموا لحكم الله.
«ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» : جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات.
«بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» : هكذا قالت لهم الملائكة، ثم يقولون لهم:
«فَادْخُلُوا أَبْوابَ..» : وكذلك الذين تقسو نفوسهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزلت بهم الوفاة يأخذون فى الجزع وفى التضرع، ثم لا تطيب نفوسهم بأن يقرّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لما أخلّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبدا فى وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقهم فى أخراهم.
(١) وودت (مرة) بالميم (وهى خطأ فى النسخ كما هو واضح.
(٢) وردت (جاهدهم) بالدال. وربما كانت فى الأصل (جاحدهم)، فالجهل والجحد من صفات الكافرين.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٠]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠)
أما المسلمون فإذا وردوا عليهم، وسألوهم عن أحوال محمد- صلى الله عليه وسلم، وعما أنزل الله عليه، قالوا: دينه حقّ، والله أنزل عليه الحقّ.. والذين أحسنوا فى الدنيا يجدون الخير فى الآخرة.
ويقال فى هذه الدنيا حسنة، وهى ما لهم من حلاوة الطاعة بصفاء الوقت ويصحّ أن تكون تلك الحسنة زيادة التوفيق لهم فى الأعمال، وزيادة التوفيق لهم فى الأحوال.
ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يوفّقهم بالاستقامة على ما هم عليه من الإحسان.
ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يبلّغهم منازل الأكابر والسادة، قال تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» «١» ويصح أن تكون تلك الحسنة ما يتعدّى منهم إلى غيرهم من بركات إرشادهم للمريدين، وما يجرى على من اتبعهم مما أخذوه وتعلموه منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يهتدى بهداك رجل خير لك من حمر النعم» «٢».
ثم قال: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ»، لأن ما فيها يبقى، وليس فيها خطر الزوال. ولأن فى الدنيا مشاهدة وفى الآخرة معاينة «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣١]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١)
(١) آية ٢٤ سورة السجدة.
(٢) سبق تخريج هذا الحديث.
(٣) نفهم من هذا أن المعاينة أعلى درجة من المشاهدة، ونفهم كذلك أن المشاهدة- وهى تنم فى هذه الدنيا- هى أقصى درجات المعراج الروحي عند أصحاب وحدة الشهود، وكل قول بما يزيد عن ذلك خروج عن أصول هذا المذهب، وقد نعى كثير من الباحثين على الغلاة والأدعياء والظالمين، فى هذا الخصوص. [.....]
كما أن الإرادات والهمم تختلف فى الدنيا فكذلك فى الآخرة، وفى الخبر: «من كان بحالة لقى الله بها» فمن مريد يكتفى من الجنة بورودها، ومن مريد لا يكتفى من الجنة دون شهود ربّ الجنة.
ويقال إذا شاءوا أن يعودوا إلى ما فاتهم من قصورهم، وما وجدوا فى ذلك من صحبة اللّعين «١» فى سائر أحوالهم وأمورهم يسلم لهم ذلك، ومن شاء أن تدوم رؤيته، ويتأبّد سماع خطابه فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد، وهو ما لم يخطر ببال أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٢]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)
يقبض أرواحهم طيبة. أو يقال «طَيِّبِينَ» حال.
والأسباب التي تطيب بها قلوبهم وأرواحهم مختلفة، فمنهم من طاب وقته لأنه قد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه سلّم عليه محبوبه، ومنهم من طاب قلبه لأنه لم يفته مطلوبه.
ومنهم من طاب وقته لأنه يعود إلى ثوابه، ويصل إلى حسن مآبه.
ومنهم من يطيب قلبه لأنه أمن من زوال حاله، وحظى بسلامة مآله «٢»، ومنهم من يطيب قلبه لأنه وصل إلى أفضاله، وآخر لأنه وصل إلى لطف جماله، وثالث لأنه خصّ بكشف جلاله- قد علم كلّ أناس مشربهم.
ويقال «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» طيبة نفوسهم أي طاهرة من التدنّس بالمخالفات، وطاهرة قلوبهم عن العلاقات، وأسرارهم عن الالتفات إلى شىء من المخلوقات.
(١) اللعين مقصود به إبليس.
(٢) وردت (ماله) والملائم هنا أن تكون (مآله).
قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» احظوا بالجنة، منهم من يخاطبه بذلك الملك، ومنهم من يكاشفه بذلك الملك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
القوم ينتظرون مجىء الملك لأنهم لم يعرفوه ولم يعتقدوا كونه. ولكن لمّا كانوا يستعجلون معتقدين أن الرسل غير صادقين، ولمّا سلكوا «١» مسلك أضرابهم من المتقدمين- عوملوا بمثل ما لقى أسلافهم، وما كان ذلك من الله ظلما، لأنه يتصرف فى ملكه من غير حكم حاكم عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
خبثت قصودهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء، وغلبت على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم، وانكشف عدم صدقهم فى أحوالهم.
وقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ..» يشبه قولهم: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» «٢». ولا خلاف أن الله لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك.
(١) وردت (سكنوا) وهى خطأ من الناسخ.
(٢) آية ٤٧ سورة يس.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
لم يخل زمانا من الشرع توضيحا لحجته، ولكن فرّقهم فى سابق حكمه ففريقا هداهم، وفريقا حجبهم «١» وأعماهم «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
ألزمهم الوقوف على حدّ العبودية فى إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال:
إنك وإن كنت بأمرنا لك حريصا على هدايتهم فإن من قسمت له الضلال لا يجرى عليه غير ما قسمت له.
ويقال من ألبسته صدار الضلال لا تنزعه وسيلة ولا شفاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٨]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨)
القسم يؤكّد الخبر، ولكنّ يمين الكاذب توجب ضعف قوله لأنه كلما زاد فى جحد الله ازداد القلب نفرة من قوله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٩]
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)
(١) وردت (حجتهم) وهى خطأ فى النسخ إذ ربما كانت النقطتان فوق الباء فتحة فى الأصل وتوهم الناسخ أنها نقطتان.
(٢) وردت (وأعمالهم) والمعنى والسياق يرفضانها ويتقبلان (وأعماهم).
إذا بيّن الله صدق ما ورد به الشرع فى الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاح أهل التكذيب فيكون فى ذلك زيادة لهم فى التعذيب.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
فيكون بالسمع علم تعلّق قوله بما يفعله. وحمله قوم على أن معناه أنه لا يتعسّر عليه فعل شىء أراده، فالآية على القولين جميعا.
والذي لا يحتاج فى فعله إلى مادة يخلق منها لا يفتقر إلى مدة يقع الفعل فيها.
وتدل الآية على أنّ قوله ليس بمخلوق إذ لو كان مخلوقا لكان مقولا له:
كن، وذلك القول يجب أن يكون مقولا له بقول آخر وهذا يؤدى إلى أن يتسلسل ما يحصل إلى ما لا نهاية له «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤١]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
من هاجر عن أوطان السوء- فى الله- أبدل له الله فى جوار أوليائه ما يكون له فى جوارهم معونة على الزيادة فى صفاء وقته. ومن هجر أوطان الغفلة مكّنه الله من مشاهد الوصلة. ومن فارق مجالسة المخلوقين، وانقطع بقلبه إليه- سبحانه- باستدامة ذكره- فكما فى الخبر: «أنا جليس من ذكرنى». وبداية هؤلاء القوم نهاية أهل الجنة ففى الخير «الفقراء الصابرون جلساء الله يوم القيامة». ويقال القلب مظلوم من جهة النّفس لما تدعوه إليه من شهواتها، فإذا هجرها أورث الله القلب أؤطان النّفس حتى تنقاد لما يطالب به القلب
(١) كلام الله ليس بمخلوق- هذا أصل عام من أصول المذهب الأشعري الذي يعد القشيري من أعظم أنصاره. وقد ناقش هذه القضية بإسهاب فى كتابه القيم: «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة». وانظر أيضا كتابنا (الإمام القشيري: تصوفه وأدبه- فصل: القشيري متكلما) :
من الطاعة فبعد ما تكون أوطان الزّلّة بدواعى الشهوة تصير أوطان الطاعة لسهولة أدائها.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٢]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
الصبر الوقوف بحسب جريان القضاء، والتوكل التوقي بالله بحسن الرجاء.
ويقال صبروا فى الحال، وتوكلوا على الله فى تحقيق الآمال.
ويقال الصبر تحسّى كاسات المقدور، والتوكل الثقة فى الله فى استدفاع المحذور.
ويقال الصبر تجرّع ما يسقى، والتوكل الثقة بما يرجو.
ويقال إنما يقوون على الصبر بما حققوا من التوكل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٣]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣)
تعجبوا أن يكون من البشر رسلا، فأخبر أنّ الرسل كلّهم كانوا من البشر، وأنّ فيمن سبق من أقرّ بذلك. و «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم العلماء والعلماء مختلفون: فالعلماء بالأحكام إليهم الرجوع فى الاستفتاء من قبل العوام فمن أشكل عليه شىء من أحكام الأمر والنهى يرجع إلى الفقهاء فى أحكام الله، ومن اشتبه عليه شىء من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله، فالفقيه يوقّع عن الله، والعارف ينطق- فى آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها- عن الله، فهو كما قيل: (أليس حقا نطقت بين الورى فاشتهرت، كاشفها يعلم ما منّ عليها فجرت، فهى عناء به عينيه قد طهرت) «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٤]
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
أي إن البيان إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا.
(١) ما بين القوسين نقلناه كما هو من النص، وربما كان شاهدا شعريا مضطرب الكتابة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
العبد فى جميع أحواله عرضة لسهام التقدير، فينبغى أن يستشعر الخوف فى كلّ نفس من الإصابة بها، وألّا يأمن مكر الله فى أي وقت، وأكثر الأسنة تعمل فى الموطأة نفوسهم وقلوبهم على ما عوّدهم الحق من عوائد المنّة، ولكن كما قيل:
يا راقد الليل مسرورا بأوّله إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا «١»
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
كل مخلوق من عين أو أثر، من حجر أو مدر أو غبر فلله- من حيث البرهان- ساجد، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٩]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩)
ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة، فإذا امتنعت عن إقامة الشهادة لقوم قالة، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٠]
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
يخافون الله أن ينزل عليهم عذابا من فوق رءوسهم.
(١) كان عبد الحميد المكفوف كثيرا ما يتمثل بهذا البيت في قصصه (الحيوان ج ٦ ص ٥٠٨).
«وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته.
ويقال خير شىء للعبد فى الدنيا والآخرة الخوف إذ يمنعه من الزّلة ويحمله على الطاعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)
الحاجة إلى إثبات صانع واحد داعية، وما زاد على الواحد (قالا... ) «١» فيه متساوية.
ويقال إثبات الواحد ضرورة، وقدرة الاثنين محصورة.
قوله جل ذكره: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ له الدين خالصا وله الدين دائما، وله الدين ثابتا، فالطاعة له واجبة. فلا تتقوا غيره، وأطيعوا شرعه بخلاف هواكم، واعبدوه وحده، واستجيبوا له فى المسرّة والمضرّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٣]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)
النّعمة ما يقرّب العبد من الحق، فأمّا مالا يوجب النسيان والطغيان، والغفلة والعصيان فأولى أن يكون محبة.
ويقال ما للعبد فيه نفع، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة سواء كان دينيا أو دنيويا، فالعبد مأمور بالشكر على كل حال. وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان، «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» «٢» على كل حال.
وفائدة الآية قطع الأسرار عن الأغيار فى حالتى اليسر والعسر، والثقة بأن الخير والشر، والنفع والضر كلاهما من الله تعالى.
قوله جل ذكره ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ إذ ليس لكم سواه فإذا أظلّت العبد هواجم الاضطرار التجأ إلى الله فى استدفاع
(١) بقية الكلمة مشتبهة.
(٢) آية ١٣ سورة سبأ.
ما مسّه من البلاء ثم إذا منّ الحقّ عليه، وجاد عليه بكشف بلائه صار كأن لم يمسه سوء أو أصابه همّ كما قيل:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا «١»
وقال:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٤]
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤)
الخطاب عام، وقوله «مِنْكُمْ» : لأنّ القوم منهم
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٥]
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
فى هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامة، ويعتذرون حين لا يقبل لهم عذر.. ومن زرع شرا فلن يحصد إلا جزاء عمله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
أي يجعلون لما لا يعلمون- وهى أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم- نصيبا من أرزاقهم فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا.
«تَاللَّهِ» أقسم إنهم سيلقون عقوبة فعلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٧]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧)
من فرط جهلهم وصفوا المعبود بالولد، ثم زاد الله فى خذلانهم حتى قالوا: الملائكة بنات الله. وكانوا يكرهون البنات، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء فى استحقاق
(١) تمول أي نما المال له.
الذمّ كلّ من آثر حظّ نفسه على حقّ مولاه، فإذا فعل ماله فيه نصيب وغرض كان مذموم الوصف، ملوما على ما اختاره من الفعل.
ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه ويتصفون به من كراهة أن تولد لهم الإناث فقال:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
استولت عليهم رؤية الخلق «١»، وملكتهم الحيرة، فحنقوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البعل فيهن.. وهذه نتائج الإقامة فى أوطان التفرقة، والغيبة عن شهود الحقيقة.
ثم قال: «أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ» أي يحبس المولود إذا كان أنثى على مذلّة، «أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» ليموت؟ وتلك الجفوة فى أحوالهم جعلت- من قساوة قلوبهم فى أحوالهم- العقوبة أشدّ ممّا كانت بتعجيلها لهم. وجعلهم فرط غيظهم، وفقد رضائهم، وشدة حنقهم على من لا ذنب له من أولادهم- من أهل النار فى دركات جهنم، وتكدّر عليهم الوقت، واستولت الوحشة.. ونعوذ بالله من المثل السوء! قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
مثل السوء للكفار الذين جحدوا توحيده فلهم صفة السوء.
ولله صفات الجلال ونعوت العزّ، ومن عرفه بنعت الإلهية تمّت سعادته فى الدارين، وتعجلت راحته، وتنزّه سرّه على الدوام فى رياض عرفانه، وطربت روحه أبدا فى هيجان وجده.
أمّا الذين وسموا بالشّرك ففى عقوبة معجّلة وهموم محصّلة. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ... »
أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلا لحلّ الاستئصال بهم، ولكنّ الحكم سبق بإمهالهم، وسيلقون غبّ أعمالهم فى مآلهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
انخدعوا لمّا لان لهم العيش، فظنوا أنهم ينجون، وبما يؤمّلونه يحيطون فحسنت فى أعينهم مقابح صفاتهم، ويوم يكشف الغطاء عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة، فلا تسمع منهم دعوة، ولا تتعلق بأحدهم رحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبى- ﷺ وذلك أنه أخبر أن من تقدّمه من الأمم كانوا فى سلوك الضلالة، والانخراط فى سلك الجهالة كما كان من قومه، ولكن الله- سبحانه- لم يعجز عنهم. وكما سوّل الشيطان لأمّته، وكان وليا لهم، فهو ولىّ هؤلاء وأمّا المؤمنون فالله وليّهم، والكافرون لا مولى لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٤]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
أنت «١» الواسطة بيننا وبين أوليائنا، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى تبلّغ عنّا وتؤدّى منّا، فأنت رحمة أرسلناك لأوليائنا.. فمن تبعك اهتدى، ومن عصاك ففى هلاكه سعى.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٥]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
أحيا بماء التوفيق قلوب العابدين فجنحت إلى جانب الوفاق، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رقّ الآثار، وانفردت بحقائق الاتصال.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
سخّرها لكم، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها، وجلدها وشعرها ودرّها، وأصلها ونسلها. ثم عجيب ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن- مع صفائه، وطعمه ونفعه- من بين الروث «٢» والدم، وذلك تقدير العزيز العليم. والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزّلّة من وجوهها المختلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
(١) وردت (آية) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(٢) الفرث والروث بقايا الطعام.
منّ على العباد بما خلق لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس..
وغير ذلك.
والرزق الحسن ما كان حلالا. ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب، ويقال هو الذي لا منّة لمخلوق فيه ولا تبعة عليه.
ويقال هو ما لا يعصى الله مكتسبه فى حال اكتسابه.
ويقال هو ما لا ينسى الله فيه مكتسبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)
أوحى إلى النحل: أراد به وحي إلهام.. ولما حفظ الأمر وأكل حلالا، طاب مأكله وجعل ما يخرج منه شفاء للناس.
ثم إن الله- سبحانه- عرّف الخلق أنّ التفضيل ليس من جهة القياس والاستحقاق إذ أن النحل ليس له خصوصية فى القامة أو الصورة أو الزينة، ومع ذلك جعل منه العسل الذي هو شفاء للناس.
والإنسان مع كمال صورته، وتمام عقله وفطنته، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى.. فأىّ فضيلة للنحل؟ وأىّ ذنب للإنسان؟ ليس ذلك إلا اختياره- سبحانه.
ويقال إن الله- سبحانه- أجرى سنّته أن يخفى كلّ شىء عزيز فى شىء حقير
فجعل الإبريسم «١» فى الدود وهو أضعف الحيوانات، وجعل العسل فى النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدّرّ فى الصدف وهو أوحش «٢» حيوان من حيوانات البحر، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر... كذلك أودع المعرفة به والمحبة له فى قلوب المؤمنين وفيهم من يعصى وفيهم من يخطىء «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
خلق الإنسان فى أحسن تركيب، وأملح ترتيب، فى الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، والنور والضياء، والفهم والذكاء. ورزقه من العقل والتفكر، والعلم والتبصر، وفنون المناقب التي خصّ بها من الرأى والتدبير، ثم فى آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردودا، ويرى فى كل يوم ألما جديدا.
ويقال «مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق فهو يكون فى أول أحوال عمره مطيعا ثم يصير فى آخر عمره عاصيا.
ويقال أرذل العمر أن يرغب فى عنفوان شبابه فى الإرادة، ويسلك طريق الله مدّة، ثم تقع له فترة، فيفسخ عقد إرادته، ويرجع إلى طلب الدنيا. وعند القوم هذه ردّة فى هذا الطريق.
ويقال أرذل العمر رغبة الشيخ فى طلب.
ويقال أرذل العمر حبّ المرء للرياسة.
(١) الإبريسم- أحسن الحرير (معرب) (الوسيط ح ١ ص ٢).
(٢) هنا معناها أجوع الحيوان، من قولهم بات وحشا أي جائعا لم يأكل شيئا فحلا جوفه (الوسيط ج ٢ ص ٦، ١٠).
(٣) ينسجم اتجاه القشيري فى هذه الإشارة مع السياق القرآنى.. إذ يأتى بعد قليل: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ».. وفضل الله بلا علة.
ويقال أرذل العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يرضى خصومه.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
أرزاق المخلوقات مختلفة فمن مضيّق عليه رزقه، ومن موسّع عليه رزقه، ومن أرزاق هى أرزاق النفوس، وأرزاق للقلوب وأرزاق للأرواح، وأرزاق للأسرار فأرزاق النفوس لقوم بتوفيق الطاعات، ولآخرين بخذلان المعاصي. وأرزاق القلوب لقوم حضور القلب باستدامة الفكر، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة. وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم، فيكون بلاؤهم فى محبتهم لأمثالهم. وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقّ، فأمّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
شغل الخلق بالخلق لأنّ الجنس أولى بالجنس. ولمّا أراد الحقّ- سبحانه- بقاء الجنس هيّأ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل. ثم منّ على البعض بخلق البنين، وابتلى قوما بالبنات- كلّ بتقديره على ما يشاء.
قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ والرزق الطيب لعبد ما تستطيبه نفسه، ولآخر ما يستطيبه سرّه.
(١) أي تشتت رؤيتهم حين لم ينظروا إلى الخالق واستبدلوا ذلك بأن نظروا للمخلوق وهذه صفة هل التفرقة والغيبة- كما سيأتى بعد.
«أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ»، وهو حسبان حصول شىء من الأغيار، وتعلّق القلب بهم استكفاء منهم أو استدفاعا لمحذور أو استجلابا لمحبوب.
«وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» والنعمة التي كفروا بها هى الثقة بالله، وانتظار الفرج منه، وحسن التوكل عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٣]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)
ومن يتعلّق بشخص أو بسبب مضاه «١» لعبّاد الأصنام من حيث إنه يضيّع وقته فيما لا يعينه، فالرزق، من الله- فى التحقيق- مقدّر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٤]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
كيف تضرب الأمثال لمن (لا) «٢» يساويه أحد فى الذات والصفات وأحكام الأفعال؟
ومن نظر إلى الحقّ من حيث الخلق «٣» وقع فى ظلمات التشبيه، وبقي عن معرفة المعبود.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥)
شبّه الكافر بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شىء ولا ملك له فى الشرع، والمؤمن المخلص بمن رزقه الخيرات ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثواب وحسن المآب على ما أنفقه.
(١) فى الهامش هكذا، بينما هى فى النص (معناه)، والصواب ما جاء فى الهامش أي مماثل.
(٢) سقطت (لا) والمعنى يتطلبها.
(٣) أي من حيث مضاهاته بالخلق، ومناظرته بالحدثان.
ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس من كان بنفسه، ملاحظا لأبناء جنسه، متماديا فى حسبان مغاليطه كمن كان مدركا بربّه مصطلما «١» عن شاهده، غائبا عن غيره، والمجرى عليه ربّه ولا حول له إلا به.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
هذا المثل أيضا للمؤمن والكافر فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجىء منه شىء، ولا يحصل منه نفع، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حوله وقوّته، ولا يعترف إلا بطوله- سبحانه- ومنّته.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
استأثر الحقّ- سبحانه- بعلم الغيبيات، وسترها على الخلق فيخرج قوما فى الضّلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية، ويقيم قوما برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية.. فالعواقب مستورة، والخواتيم مبهمة، والخلق فى غفلة عما يراد بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٨]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
(١) الاصطلام: نعت غلبة ترد على المقول فيستلبها بقوة سلطانه وقهره (اللمع ص ٤٥٠).
خلقهم من غير أن شاورهم، وأثبتهم- على الوصف الذي أراده- دون أن خيّرهم، ولم يعلموا بماذا سبق حكمهم.. أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدم أخرجهم من من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاح أنفسهم علموا، ولا صفة ربّهم عرفوا ثمّ بحكم الإلهام هداهم حتى قبل الصبيّ ثدى أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف.
«وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ» : لتسمعوا خطابه، «وَالْأَبْصارَ» لتبصروا أفعاله، «وَالْأَفْئِدَةَ» لتعرفوا حقّه، ثم لتشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٩]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
الطائر إذا حلق فى الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط، وقد قامت الدلالة على أن الحقّ- سبحانه- متفرّد بالإيجاد، ولا يخرج حادث عن قدرته، وفى ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
للنفوس وطن، وللقلوب وطن. والناس على قسمين مستوطن ومسافر: فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم فالمريد أو الطالب مسافر بقلبه لأنه يتلوّن، ويرتقى من درجة إلى درجة، والعارف مقيم ومستوطن لأنه واصل متمكن والطريق منازل ومراحل، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب، والمريد سالك والعارف واصل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨١]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
فى الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالا.. كذلك جعل فى ظل عنايته لأوليائه مثوى وقرارا.
وكما ستر ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم- كذلك ألبس سرائركم لباسا يلفكم به فى السراء والضراء، ولباس العصمة يحميكم من مخالفته، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته، وكساكم بحلل الوصل مما يؤهلكم لقربته، وصحبته.
قوله: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ..»، إتمام النعمة بأن تكون عاقبتهم مختومة بالخير، ويكفيهم أمور الدين والدنيا، ويصونهم عن اتباع الهوى، ويسدّدهم حتى يؤثروا ما يوجب من الله الرضاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٢]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢)
إذا بلّغت الرسالة فما جعلنا إليك «١» حكم الهداية والضلالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٣]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
يستوفقون إلى الطاعة، فإذا فعلوا أعجبوا بها «٢».
(١) وردت (إليكم) والخطاب موجه إلى المصطفى ﷺ فالصواب (إليك).
(٢) فى هذا الصدد ينقل القشيري عن شيخه الدقاق قوله (لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبى عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟.
فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها.
فقال: هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشيها ومجريها؟) الرسالة ص ٣٤.
ويقال يستغيثون، فإذا أجابهم مقصّروا فى شكره.
ويقال إذا وقعت لهم محنة استجاروا بربهم، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة.
ويقال يعرفون فى حال توبتهم قبح ما كانوا فيه فى حال زلتهم، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٤]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤)
إذا كان يوم الحشر سأل الرسل عن أحوال أممهم، فمن نطق بحجة أكرم، ومن لم يدل بحجة لا تراعى له حرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٥]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
أي يشدّد عليهم الأمر ولا يسهّل.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٦]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦)
تمنوا أن ينقموا من إخوانهم الذين عاشروهم، وحملوهم على الزّلّة، فيتبرأون من شركائهم، ويلعن بعضهم بعضا، وتضيق صدورهم من بعض.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٧]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
استسلموا لأمر الله وحكمه، ويومئذ لا تضرّع منهم يرى، ولا محنة- يصرخون من ويلها- عنهم تكشف
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
تأتى- يوم القيامة- كلّ أمة مع رسولها، فلا أمة كهذه الأمة فضلا، ولا رسول كرسولنا ﷺ رتبة وقدرا.
«وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» أي القرآن تبيانا لكل شىء، فيه للمؤمنين شفاء، وهو لهم ضياء، وعلى الكافرين بلاء، وهو لهم سبب محنة وشقاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
العدل ما هو صواب وحسن، وهو نقيض الجور والظلم.
أمر الله الإنسان بالعدل فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين ربه، وفيما بينه وبين الخلق فالعدل الذي بينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها، قال تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» «١»، وكمال عدله مع نفسه كىّ عروق طمعه.
والعدل الذي بينه وبين ربّه إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه، وتقديم رضا مولاه على ما سواه، والتجرد عن جميع المزاجر، وملازمة جميع الأوامر.
والعدل الذي بينه وبين الخلق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل «٢» أو كثر، والإنصاف بكل وجه وألا تشى إلى أحد بالقول أو بالفعل، ولا بالهمّ أو العزم.
(١) آية ٤٠ سورة النازعات.
(٢) وردت (كل) بالكاف وهى خطأ من الناسخ.
وإذا كان نصيب العوام بذل الإنصاف وكفّ الأذى فإنّ صفة الخواص ترك الانتصاف، وإسداء الإنعام، وترك الانتقام، والصبر على تحمّل ما يصيبك من البلوى.
وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم- والعلم مأمور به- أي العلم بحدوث نفسه، وإثبات محدثه بصفات جلاله، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها. وأما الإحسان فى الفعل فالحسن منه ما أمر الله به، وأذن لنا فيه، وحكم بمدح فاعله.
ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقّ وجب عليك حتى لو كان لطير فى ملكك، فلا تقصر فى شأنه.
ويقال أن تقضى ما عليك من الحقوق وألا تقتضى لك حقا من أحد.
ويقال الإحسان أن تترك كل مالك عند أحد، فأما غير ذلك فلا يكون إحسانا. وجاء فى الخبر: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم.
قوله: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» إعطاء ذى القرابة، وهو صلة الرّحم، مع مقاساة ما منهم من الجور والجفاء والحسد.
يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» : وذلك كلّ قبيح مزجور عنه فى الشريعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩١]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١)
يفرض على كافة المسلمين الوفاء بعهد الله فى قبول الإسلام والإيمان، فتجب عليهم استدامة الإيمان. ثم لكلّ قوم منهم عهد مخصوص عاهدوا الله عليه، فهم مطالبون بالوفاء به فالزاهد عهده ألا يرجع إلى الدنيا، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نقض عهده ولم يف به. والعابد عاهده فى ترك الهوى. والمريد عاهده فى ترك العادة، وآثره بكل وجه.
والعارف عهده التجرد له، وإنكار ما سواه. والمحب عهده ترك نفسه معه بكل وجه «١».
(١) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب».
والموحّد عهده الامتحاء «١» عنه، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد منهىّ عن تقصير عهده، مأمور بالوفاء به.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٢]
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
من نقض عهده أفسد بآخر أمره أوّله، وهدم بفعله ما أسّسه، وقلع بيده ما غرسه، وكان كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا «٢»، أي من بعد ما أبرمت فتله.
وإنّ السالك إذا وقعت له فترة، والمريد إذا حصلت له فى الطريق وقفة، والعارف إذا حصلت له حجبة «٣»، والمحبّ إذا استقبلته فرقة- فهذه محن عظيمة ومصائب فجيعة، فكما قيل:
فمنهم من يستطيب مأكولا ومشروبا، ومنهم من يستطيب خلوة وصفوة إلى غير ذلك من الأرزاق.
فلأبكينّ على الهلال تأسّفا خوف الكسوف عليه قبل تمامه
فما هو إلا أن تكسف شمسهم، وينطفىء- فى الليلة الظلماء- سراجهم، ويتشتّت من السماء ضياء نجومهم، ويصيب أزهار أنسهم وربيع وصلهم إعصار فيه بلاء شديد، وعذاب أليم. فإنّ الحقّ- سبحانه إذا أراد بقوم بلاء فكما يقول: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ «٤» » فإنّ آثار سخط الملوك موجعة، وقصة إعراض السلطان موحشة وكما قيل:
والصبر يحسن فى المواطن كلها إلا عليك- فإنّه مذموم
(١) القشيري مستفيد من قول بعض الشيوخ: المحبة محو المحب بصفاته وإثبات المحبوب بذاته.
«الرسالة ص ١٥٨» [.....]
(٢) أنكاثا جمع نكث وهو ما ينكث قتله، وقيل هى ربطة، وكانت حمقاء تغزل هى وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن غزلهن.
(٣) وردت (محبة) وهى خطأ فى النسخ، وقد اخترنا (حجبة) لأنها أقرب إلى السياق، ومشابهة فى الكتابة لكلمة (محبة) حيث يحتمل أن يحدث الالتباس فى حرف الميم عند النقل.
(٤) آية ١١٠ سورة الأنعام.
هنالك تنسكب العبرات، وتشق الجيوب، وتلطم الخدود، وتعطّل العشار، وتخرّب المنازل، وتسودّ الأبواب، وينوح النائح:
وأتى الرسول فأخ... بر أنهم رحلوا قريبا
رجعوا إلى أوطانهم... فجرى لهم دمعى صبيبا
وتركن نارا فى الضلوع... وزر عن فى رأسى مشيبا
قوله جل ذكره: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بلاء كلّ واحد على ما يليق بحاله فمن كان بلاؤه بحديث النّفس أو ببقائه عن هواه، وبحرمانه لكرائمه فى عقباه فاسم البلاء فى صفته مجاز، وإنما هذا بلاء العوام. ولكنّ بلاء الكرام غير هذا فهو كما قيل:
من لم يبت- والحبّ ملء فؤاده... لم يدر كيف تفتّت الأكباد
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
ليست واقعة القوم بخسران يصيبهم فى أموالهم، أو من جهة تقصيرهم فى أعمالهم ولما ضيّعوه من أحوالهم.. فهذه- لعمرى- وجوه وأسباب، ولكنّ سرّ القصة كما قيل:
أنا صب لمن هويت ولكن... ما احتيالى بسوء رأى الموالي؟
قوله: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» : لو شاء الله سعادتهم لرحمهم، وعن المعاصي عصمهم، وبدوام الذكر- بدل الغفلة- ألهمهم.. ولكن سبقت القسمة فى ذلك، وما أحسن ما قالوا:
شكا إليك ما وجد... من خانه فيك الجلد
حيران.. لو شئت اهتدى... ظمآن... نو شئت ورد
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٤]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
أبعدكم عدم صدقكم فى إيمانكم عن تحققكم ببرهانكم، لأنكم وقفتم على حدّ التردد دون القطع والتعيين، فأفضى بكم تردّدكم إلى أوطان شرككم، إذ الشكّ فى الله والشّرك به قرينان فى الحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٥]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)
لا تختاروا على القيام بحقّ الله والوفاء بعهده عوضا يسيرا مما تنتفعون به من حطام دنياكم من حلالكم وحرامكم، فإنّ ما أعدّ الله لكم فى جناته- بشرط وفائكم لإيمانكم- يوفى ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٦]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
الذي عندكم عرض حادت فان، والذي عند الله من ثوابكم فى مآلكم نعم مجموعة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
ويقال ما عندكم أو ما منكم أو ما لكم أفعال معلولة وأحوال مدخولة «١»، وما عند الله فثواب مقيم ونعيم عظيم ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثار متعاقبة، وأصناف متناوبة، أعيانها غير باقية وإن كانت أحكامها غير باطلة «٢»، والذي يتصف الحقّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفات أزلية ونعوت سرمدية.
(١) أي مصابة بالدّخل
(٢) لأنها منكم فعلا ومن الله حكما.
ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فمعرّض للزوال، وقابل للانقضاء، وما وصفنا به أنفسا من الإقبال لا يتناهى وأفضال لا تفنى، كما قيل: قوله: «وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا... » : جزاء الصبر الفوز بالطّلبة، والظّفر بالبغية.
ألا طال شوق الأبرار إلى لقائى وإنى للقائهم لأشدّ شوقا
ومآلهم فى الطلبات يختلف: فمن صبر على مقاساة مشقة فى الله. فعوضه وثوابه عظيم من قبل الله، قال تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «١».
ومن صبر عن اتباع شهوة لأجل الله، وعن ارتكاب هفوة مخافة لله فجزاؤه كما قال تعالى: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» «٢».
ومن صبر تحت جريان حكم الله، متحققا بأنه بمرآة من الله فقد قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
الصالح ما يصلح للقبول، والذي يصلح للقبول ما كان على الوجه الذي أمر الله به. وقوله «مَنْ عَمِلَ صالِحاً» : فى الحال، «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» : فى المآل فصفاء الحال يستوجب وفاء المآل، والعمل الصالح لا يكون من غير إيمان، ولذا قال: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ».
ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن إيمانه من فضل الله لا بعمله الصالح. ويقال «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أي مصدّق بأن عمله بتوفيق الله وإنشائه وإبدائه. قوله «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» :
(١) آية ١٠ سورة الزمر.
(٢) آية ٧٥ سورة الفرقان.
(٣) صبر العبد مع الله أشد أنواع الصبر ويكون- كما يقول عمرو بن عثمان: بالثبات مع الله، وتلقى بلائه بالرحب والدعة.
وصبر الله مع العبد يصفه الشيخ الدقاق بقوله: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله تعالى معيته. (الرسالة ص ٩٣).
الفاء للتعقيب، «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ... » الواو للعطف ففى الأولى معجّل، وفى الثانية مؤجّل، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يعرف بالنطق، وإنما يعرف ذلك بالذوق فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة، وقوم قالوا إنه القناعة، وقوم قالوا إنه الرضا، وقوم قالوا إنه النجوى، وقوم قالوا إنه نسيم القرب... والكل صحيح ولكلّ واحد أهل.
ويقال الحياة الطيبة ما يكون مع المحبوب، وفى معناه قالوا:
نحن فى أكمل السرور ولكن ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودّى أنكم غيّب ونحن حضور
ويقال الحياة الطيبة للأولياء ألا تكون لهم حاجة ولا سؤال ولا أرب ولا مطالبة وفرق بين من له إرادة فترفع وبين من لا إرادة له فلا يريد شيئا «١»، الأولون قائمون بشرط العبودية، والآخرون معتقون بشرط الحرية.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٨]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨)
شيطان كلّ واحد ما يشغله عن ربه، فمن تسلّطت عليه نفسه حتى شغلته عن ربه ولو بشهود طاعة أو استحلاء عبادة أو ملاحظة حال- فذلك شيطانه. والواجب عليه أن يستعيذ بالله من شرّ نفسه، وشرّ كل ذى شر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٩]
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
أنّى يكون للشيطان سلطان على العبد والحقّ- سبحانه- متفرّد بالإبداع، متوّحد بالاختراع؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٠]
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠).
(١) فى هذا الصدد يقول القشيري فى رسالته: «والمريد- على موجب الاشتقاق- من له إرادة كالعالم من له علم لأنه من الأسماء المشتقة، ولكن المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له فمن يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا. (الرسالة ص ١٠١).
إنما سلطانه على الذين هم فى غطاء غفلهم، وسر ظنونهم ومشتبهاتهم فأمّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثات بالله ظهورها، ومن الله ابتداؤها، وإلى الله مآلها وانتهاؤها.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
ما ازدادوا فى طول مدتهم إلا شكا على شك، وجحدا على جحد، وجروا على منهاجهم فى التكذيب، فلم يصدّقوه صلى الله عليه وسلم، وما زادوا فى ولايته إلا شكا ومرية:
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ملّ الوصال وقال كان وكانا
قوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ: ردّ على فرط جهلهم بربهم، وبعد رتبتهم عن التحصيل، فلمّا كانوا متفرقين فى شهود الملك ردّوا فى حين التعريف إليهم بذكر الملك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٣]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
لم يستوحش الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تكذيبهم، وخفاء حاله وقدره عليهم.. وأىّ ضرر يلحق من كانت مع السلطان مجالسته إذا خفيت على الأخسّ من الرعية حالته؟
ثم إنه أقام الحجة فى الردّ عليهم حيث قال: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» : فمن فرط جهلهم توهموا أنّ هذا القرآن- الذي عجز كافة الخلق
عن معارضته فى فصاحته وبلاغته- مقول وحاصل باتصاله بمن هو أعجمى النطق «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٤]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
إنّ من سبقت بالشقاوة قسمته لم تتعلق من الحق- سبحانه- به رحمته، ومن لم يهده الله فى عاجله إلى معرفته لا يهديه الله فى آجله إلى جنته.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٥]
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
هذا من لطائف المعاريض إذ لمّا وصفوه- عليه السلام- بالافتراء أنار الحقّ- سبحانه- فى الجواب، فقال: لست أنت المفترى إنما المفترى من كذّب معبوده وجهل توحيده.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٦]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦)
إذا علم الله صدق عبده بقلبه، وإخلاصه فى عقده، ولحقته ضرورة فى حاله خفّف عنه حكمه، ودفع عنه عناءه فلا يلفظ بكلمة الكفر إلا مكرها- وهو موحّد، وهو مستحق العذر فيما بينه وبين الله تعالى «٢»... وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم،
(١) أرادوا به غلاما كان لحويطب اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب، أو هو جبر غلام رومى لعامر بن الحضرمي وكان يقرأ التوراة والإنجيل، أو سلمان الفارسي.. وكلهم أعاجم.
(٢) ومن أمثال ذلك عمار بن ياسر الذي جرت كلمة الكفر على لسانه مكرها وهو معتقد الإيمان، وأتى رسول الله وهو يبكى، فجعل الرسول بمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».
وكان يقول عنه: «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه»
وتجردوا لسلوك طريق الله ثم عرضت لهم أسباب، واتفقت لهم أعذار كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغال أو إلى شىء من العلوم رجوع.. لم يكن ذلك قادحا فى صحة إرادتهم، ولا يعدّ ذلك فسخا لعهودهم، ولا ينفى بذلك عنهم سمة القصد إلى الله تعالى.
أمّا «مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً» : فرجع باختياره، ووضع قدما- كان قد رفعه فى طريق الله- بحكم هواه فقد نقض عهد إرادته، وفسخ عقده، وهو مستوجب (... ) «١»
إلى (... ) «٢» تتداركه الرحمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٧]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧)
السالك إذا اثر (الحظوظ) «٣» على الحقوق بقي عن الله، ولم يبارك له فيما آثره على حقّ الله، ولقد قالوا:
قد تركناك والذي تريد... فعسى أن تملهم فتعود
قوله جل ذكره
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨)
إذا تمادى فى غفلته، ولم يتدارك حاله بملازمة حسرته، ازداد قسوة على قسوة، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة، وكما قال جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٩]
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
هم فى الآخرة محجوبون، وبذلّ البعد موسومون.
(١) مشتبهة
(٢) مشتبهة.
(٣) سقطت هذه اللفظة والسياق يتطلبها، فأثبتناها حسبما نعرف من أسلوب القشيري فى المقابلة بين حظوظ النفس وحقوق الحق. [.....]
قوله جل ذكره
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٠]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠)
ومن صبر حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرّخص، وأخذ فى الأمور بالأشقّ أكرم الله حقّه، وقرّب مكانه، ولقّاه فى كل حالة بالزيادة، وربحت صفقته حين خسر أشكاله، وتقدّم على الجملة وإن قلّ احتياله.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١١]
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
غدا كلّ مشغول بنفسه، ليس له فراغ إلى غيره. وعزيز عبد لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان بحال لقى الله بها». إنما يكون الفارغ غدا من كان اليوم فارغا، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمام بنفسه. والمؤمن لا نفس له قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» «١» اشتراها الحقّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمر الحق.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٢]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢)
فراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبد بهذه النعمة بأن فتح على نفسه باب الهوى، وانجرف فى فساد الشهوة، شوّش الله عليه قلبه، وسلبه ما كان يجده من صفاء وقته لأنّ طوارق النفس توجب عزوب شوارق القلب، وفى الخبر: إذا أقبل الليل من
(١) آية ١١١ سورة التوبة
هاهنا أدبر النهار من هاهنا». وكذلك القلب إذا انقطع عنه معهود ما كان الحقّ أتاحه له أصابه عطش شديد ولهب عظيم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٣]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
كما جاءهم الرسول جهرا فإنه تتأدّى إليهم من قبل خواطرهم إشارات تترى «١»، فمن لم يستجب لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق «٢» أخذه العذاب من حيث لا يشعر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٤]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤)
الحلال الطيب ما يتناوله العبد على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب فى ترك الشبهة «٣»، وحقيقة الشكر على النعمة الغيبة عن شهود النعمة بالاستغراق فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٥]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
يباح تناول المحرمات عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يرخّص فى ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبقدر ما يسدّ الرّمق، كذلك عند استهلاك العبد بغلبات الحقيقة لا بد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، ثم لا يمكّن من التعريج فى أوطان التفرقة والتمييز بعد مضى أوقات الصحو من أجل أداء الشرع «٤»، كما قيل:
(١) تترى أي تتابع، وربما كانت (سرا) لتقابل جهرا
(٢) أي إعتاق النفس وتحريرها من رق الشهوات
(٣) وردت (الشدة) والصواب- حسب ما يقول القشيري في مواضع مماثلة- أن تكون (الشبهة)
(٤) هذه هى حالة الفرق الثاني التي تتخلل حالة جمع الجمع، وفيها يرد العبد إلى الصحو عند أوقات الفرائض ويكون رجوعه لله بالله لا للعبد بالعبد.
فإن تك منه غيبة بعد غيبة فإنّ إليه بالوجود إيابي
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
الصدق فى كل شىء أولى «١» من الكذب، وكثير من أقوالهم فى الاعتراض عينّات «٢» من الكذب.
والصّدّيق لا يكذب صريحا، ولا يتداول أقوال كاذب مهين. وصاحب الكذب تظهر عليه المذلّة لما هو فيه من الزلّة، وله فى الآخرة عذاب أليم «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
بيّن أنه أوضح لمن تقدّم الحلال والحرام، فمنهم من أتى بما أمر به ومنهم من خالف..
وكلّ عومل بما استوجبه فمن أطاع قلبه قرّبه، ومن عصى ردّه وحجبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٩]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩).
(١) وردت (أولا) وهى خطا فى النسخ.
(٢) عينات جمع عينة وهى نموذج من أصل الشيء ومادته (الوسيط)
(٣) قمنا هنا ببعض إصلاحات طفيفة نظرا لانبهام الخط ورداءته، ووجود بعض حروف تعجز المطبعة عن نقلها كما هى فى الرسم.
إذا ندموا على قبيح ما قدّموا، وأسفوا على كثير مما أسلفوا وفيه أسرفوا، ومحا صدق عبرتهم آثار عثرتهم- نظر الله إليهم بالرحمة، فتاب عليهم إذا أصلحوا، ونجّاهم إذا تضرّعوا.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٠]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠)
قيل آمن بالله وحده فقام مقام الأمة، وفى التفسير: كان معلّما- للخير- لأمة.
ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون فى أمة متفرقا.
ويقال لمّا قال إبراهيم لكلّ ما رآه: «هذا رَبِّي» ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هى بل كان مستهلكا فى شهود الحقّ، ورأى الكون كلّه بالله، وما ذكر حين ذكر غير الله.. كذلك كان جزاء الحق فقال: أنت الذي تقوم مقام الكلّ، ففى القيام بحق الله منك على الدوام غنية عن الجميع.
و «الحنيف» : المستقيم فى الدّين، أو المائل إلى الحق بالكلية «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢١]
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)
الشاكر فى الحقيقة- من يرى عجزه عن شكره، ويرى شكره من الله عزّ وجل، لتحقّقه أنه هو الذي خلقه، وهو الذي وفّقه لشكره، وهو الذي رزقه الشكر، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له- سبحانه.
«وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي تحقّق بأنه عبده، وأنه رقّاه إلى محلّ الأكابر.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٢]
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
الحسنة التي آتاه الله هى دوام ما أتاه حتى لم تنقطع عنه.
(١) الحنيف- فى اللغة- من الأضداد- المائل والمستقيم (ابن الأنباري فى كتاب الاضداد)
ويقال هى الخلة. ويقال هى النبوة والرسالة.
ويقال آتيناه فى الدنيا حسنة حتى كان لنا بالكلية، ولم تكن فيه لغير بقية.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
«مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» أي الكون بالحق، والامتحاء «١» عن شاهد نفسه فكان نبينا- صلى الله عليه وسلم- فى اتباعه ابراهيم مؤتمرا بأمر الله. وكانت ملة إبراهيم- عليه السلام- الخلق والسخاء والإيثار والوفاء، فاتبعه الرسول ﷺ وزاد عليه، فقد زاد على الكافة شأنه، وبانت مزيّته.
قوله جل ذكره
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
قوم حرّموا العمل فيه وقوم حللوه معصية منهم، وقيل جعل الجمعة لهم فقالوا: لا نريد إلا يوم السبت.. فهذا اختلافهم فيه.
والإشارة من ذلك أنهم حادوا «٢» عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم. ثم أنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥).
(١) وردت (الامتحان) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (جادوا) وهى خطأ فى النسخ.
الدعاء إلى سبيل الله بحثّ «١» الناس على طاعة الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله.
والدعاء بالحكمة ألا يخالف بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق.
والموعظة الحسنة ما يكون صادرا عن علم وصواب، ولا يكون فيها تعنيف.
«وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» : بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» «٢» : فشرط الأمر بالمعروف استعمال ما تأمر به، والانتهاء عما تنهى عنه «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)
إذا جرى عليكم ظلم من غيركم وأردتم الانتقام.. فلا تتجاوزوا حدّ الإذن بما هو فى حكم الشرع.
«وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ» : فتركتم الانتصاف لأجل مولاكم فهو خير لكم إن فعلتم ذلك.
والأسباب التي قد يترك لأجلها المرء الانتصاف مختلفة فمنهم من يترك ذلك طمعا فى الثواب غدا فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعا فى أن يتكفّل الله بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مكتف بعلم الله تعالى بما يجرى عليه، ومنهم من يترك ذلك لكرم نفسه، وتحرّره عن الأخطار ولاستحبابه العفو عند الظّفر، ومنهم من لا يرى لنفسه حقا، ولا يعتقد أنّ لأحد هذا الحق فهو على عقد إرادته بترك نفسه فملكه مباح ودمه هدر. ومنهم من ينظر إلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنّ فعله جزاء على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» «٤». فاشتغاله باستغفاره عن جرمه يمنعه عن انتصافه من خصمه.
قوله جل ذكره: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
(١) وردت (بحيث) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) آية ٨٨ سورة هود.
(٣) أي تكون أنت قدوة فيما تدعو إليه من أوامر وما تنهى عنه من زواجر. [.....]
(٤) آية ٣٠ سورة الشورى.
«وَاصْبِرْ» تكليف، «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» : تعريف. «وَاصْبِرْ» تحقق بالعبودية «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» إخبار عن الربوبية.
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ..» أي طالع التقدير، فما لا نجعل له خطرا عندنا لا ينبغى أن يوجب أثرا فيك فمن أسقطنا قدره فاستصغر أمره. وإذا عرفت انفرادنا بالإيجاد فلا يضيق قلبك بشدة عداوتهم، فإنّا ضمنّا كفايتك، وألا نشمتهم بك، وألا نجعل لهم سبيلا إليك.
قوله جل ذكره:
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٨]
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة.
«الَّذِينَ اتَّقَوْا» رؤية النصرة من غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحول والقوة.
والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة.
330
بسم الله الرحمن الرحيم «... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة..
جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية.
ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدينا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجزلنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكا فينا غليلا، مهدّنا له فى دار فضلنا مقيلا»
عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف
331
Icon