تفسير سورة ص

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة ص من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُورَةُ ص
مكية بإجماع من المفسرين، وآيها: ثمان وثمانون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وتسعة وستون حرفًا، وكلمها: سبع مئة وائنتان وثلاثون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)﴾.
[١] ﴿ص﴾ أبو جعفر على أصله في السكت، فيقف على ص، والقراء العشرة متفقون على أن قراءة (صَادْ) بسكون الدال (١)؛ لأنها لا تستحق حركة بناء؛ لأن سكونها عارض؛ لأنها لفظ محكي (٢) كألفاظ الأعداد، ولا إعراب؛ لعدم مقتضيها، والجمهور على أنه حرف المعجم المعروف، ويدخله ما يدخل سائر السور من الأقوال.
واختلف في معناه على وجوه، منها: أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صمد، وصادق الوعد، ومنها: أن معناه صدق الله، ومنها: أنه إشارة
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤١٤)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٣).
(٢) "لأنها لفظ محكي" زيادة من "ت".
إلى صدود الكفار عن القرآن، وعن ابن عباس: معناه: "صدق محمد" (١)، وقيل غير ذلك.
﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر﴾ أي: ذكر البيان، وهو قسم جوابه محذوف، تقديره: إنه لكلام معجز. قرأ ابن كثير: (وَالْقُرَانِ) بالنقل، والباقون: بالهمز (٢).
...
﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢)﴾.
[٢] ثم قال: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة.
﴿فِي عِزَّةٍ﴾ تكبر عن الإيمان ﴿وَشِقَاقٍ﴾ عداوة للنبي - ﷺ -.
...
﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣)﴾.
[٣] ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ من الماضين ﴿فَنَادَوْا﴾ استغاثة عند حلول النقمة، ﴿وَلَاتَ﴾ بمعنى ليس، واسمها تقديره: ولاتَ الحينُ.
﴿حِينَ مَنَاصٍ﴾ والمناص: المفر، ناص ينوص: إذا فات، المعنى: ليس وقت فرار. ووقف الكسائي: (وَلاَهْ) بالهاء (٣).
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٨٥)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٤٩١).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٤).
(٣) انظر: "الكشف" لمكي (٢/ ٢٣٠)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٤).
﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤)﴾.
[٤] ولما قال النبي - ﷺ - للكفار: إن إلهكم إله واحد، نفروا ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾ هو محمد - ﷺ -.
﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ فيما يقوله على الله.
...
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ كيف يسعُ الخلقَ كلَّهم إلهٌ واحد.
﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ بليغ في العجب.
...
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ﴾ وهم أشراف قريش بعد اجتماعهم في مجلس أبي طالب، وشكواهم إليه: أن رسول الله - ﷺ - يسب آلهتهم، فبكَّتهم النبي - ﷺ -، وأمرهم بالتوحيد، فنفروا من ذلك، وانطلقوا من ذلك (١) الجمع قائلين بعضهم لبعض:
﴿أَنِ امْشُوا﴾ سيروا على طريقتكم ﴿وَاصْبِرُوا عَلَى﴾ عبادة ﴿آلِهَتِكُمْ﴾ ولا تلتفتوا إلى قول محمد.
﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي نراه من زيادة أصحاب محمد - ﷺ -.
(١) "وانطلقوا من ذلك" زيادة من "ت".
﴿لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ أي: لأمر يريده الله، وقيل: يريدون: ظهورَ محمد - ﷺ - وعلوه بالنبوة؛ أي: يراد الانقياد منا إليه، وذلك أن عمر -رضي الله عنه- لما أسلم، وحصل للمسلمين قوة بمكانه، قالوا ذلك.
...
﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)﴾.
[٧] ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ التوحيد ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ أي: دين قريش.
﴿إِنْ هَذَا﴾ القولُ بالتوحيد والبعث ﴿إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ كذب، اختلقه محمد من تلقاء نفسه.
...
﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨)﴾.
[٨] ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أَخُصَّ بالقرآن من دوننا؟ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (أَانْزِلَ) بتحقيق الهمزة الأولى، وتسهيل الثانية، وفصل بينهما بألف: أبو جعفر، واختلف عن أبي عمرو وقالون، وقرأ الباقون، وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: بتحقيق الهمزتين، واختلف عن هشام راوي ابن عامر في الفصل مع تحقيق الهمزتين (١).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٦).
﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ من القرآن، فلم يؤمنوا ﴿بَلْ لَمَّا﴾ أي: بل (١) لم.
﴿يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ فلذلك شكوا، فإذا عذبوا، زال شكهم، وآمنوا، فلا ينفعهم إيمانهم. قرأ يعقوب: (عَذَابِي) بإثبات الياء (٢).
...
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)﴾.
[٩] ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ المعنى: أيملكون مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا؟!
...
﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ فإن زعموا ذلك.
﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ أي: ليصعدوا في الطرق التي توصلهم إلى السماء، وليأتوا منها بالوحي لمن يختارون.
...
﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (١١)﴾.
[١١] ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ (ما) زائده بمعنى النفي، و (هُنَالِكَ) إشارة إلى حيث وضعوا أنفسهم من الكفر ومعاداة
(١) "أي: بل" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٦).
رسول الله - صلى الله عليه وسلم، المعنى: ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسول الله - ﷺ - مكسورٌ عن قريب، فمن أين لهم التدابير الإلهية؟! فلا يضيق صدرك، فإني ناصرك.
...
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢)﴾.
[١٢] ثم ذكر المتحزبين قبلهم فقال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ أي: البناء المحكم، وكان أيضًا يعذب الناس بالأوتاد.
...
﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ﴾ وهم قوم شعيب، وتقدم تفسير (الأيكة)، واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء.
﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون ﴿الْأَحْزَابُ﴾ الذين تحزبوا على الأنبياء.
...
﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ أي: ما كل واحد من الأحزاب ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ لأنهم إذا كذبوا واحدهم، فقد كذبوا جميعَهم؛ لأن دعوتهم واحدة.
﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ وجب عليهم عذاب. قرأ يعقوب: (عِقَابِي) بإثبات الياء (١).
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٧).
﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَمَا يَنْظُرُ﴾ أي: ينتظر ﴿هَؤُلَاءِ﴾ أي: كفار مكة ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ تحل بهم العذاب سريعًا، وهي النفخة الأولى. واختلاف القراء في الهمزتين من (هَؤُلاَءِ إِلَّا) كاختلافهم فيهما من (عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣] ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ أي: ليس بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فُوَاقٍ) بضم الفاء، والباقون: بفتحها (١)، وهما لغتان، فالفتح لغة قريش، والضم لغة تميم.
...
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦)﴾.
[١٦] ولما نزل في الحاقة: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الآية: ٢٥]، استهزأ المشركون ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ كتابنا (٢) في الدنيا.
﴿قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ والقِطُّ: الصحيفة التي أحصت كل شيء.
...
﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)﴾.
[١٧] قال الله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ يا محمد فيك مما يؤذيك، فإني ناصرك، ولما أُمر بالصبر، أُمر بذكر داود -عليه السلام-، وما جرى
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٨٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٧ - ٢٥٨).
(٢) "كتابنا" زيادة من "ت".
له؛ ليعلم الكفار أن داود وإن كان عظيمًا عند الله تعالى، لما صدرت عنه المعصية (١)، لم يزل مستغفرًا إلى أن فارق الدنيا، فلعلهم يؤمنون؛ لأن كفرهم أعظم من ذنب داود، فقال تعالى:
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾ ذا القوة في الدين والعبادة.
قال - ﷺ -: "إنَّ أَحَبَّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاةُ داود، وكان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وكان ينام نصف الليل الأول، ويقوم ثلثَه، وينام سدسَه" (٢) مع سياسته الملك، وكان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يومًا: يقضي فيه بين الناس، ويومًا يخلو في عبادة ربه، ويومًا لنسائه وأشغاله ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رَجَّاع إلى الله.
...
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ﴾ بتسبيحه ﴿بِالْعَشِيِّ﴾ وقت العشاء.
﴿وَالْإِشْرَاقِ﴾ حين تشرق الشمس.
(١) انظر ما سيأتي من التعليق (ص ١٧ - ١٨) لتعلم أن الأخبار الواردة في شأن سيدنا داود -عليه السلام- غير ثابتة، وليس لها من الصحة أدنى نصيب، ومعلوم أن من أسباب وضعها واختلاقها أن يبرِّر واضعوها -وهم بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى- لأنفسهم المعاصي والآثام، وأما الذي نصَّ عليه القرآن في قصته: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾.
(٢) رواه البخاري (٣٢٣٨)، كتاب: الأنبياء، باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، ومسلم (١١٥٩)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَالطَّيْرَ﴾ عطف على الجبال.
﴿مَحْشُورَةً﴾ حال؛ أي: مجموعةً إليه.
﴿كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾ مطيع رجَّاع بصوته، فكان إذا سبح، سبحت الجبال، وجمعت له الطير، فسبحت معه.
...
﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَشَدَدْنَا﴾ قَوَّينا ﴿مُلْكَهُ﴾ بالعدل والتأييد.
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ﴾ النبوة ﴿وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ علم القضاء، والخطاب: قول يفهم منه من سمعه شيئًا مفيدًا.
...
﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١)﴾.
[٢١] روي أن داود لما صار له ثمان وخمسون سنة، وهي السنة الثانية والعشرون من ملكه، كانت قصته مع أوريا وزوجته، وملخصها: أنه رأى في الكتب ما أُعطي إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء - صلوات الله عليهم -، فقال: يا رب! أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي، فأوحى الله إليه أنهم ابتلوا فصبروا، فقال: يا رب! لو ابتليتني، لصبرت، فأوحي إليه أنك تبتلى في شهر كذا في يوم كذا، فاحترس، فلما جاء الموعد، دخل محرابه، وأغلق عليه بابه، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فأراد أخذها
13
ليري بني إسرائيل قدرة الله تعالى، فذهبت إلى كوة هناك، فأراد أخذها، فذهبت، فنظر في الكوة، فإذا بامرأة من أجمل النساء تغتسل، فعجب داود من حسنها، فالتفتت فأبصرت ظله، فنقضت شعرها، فغطى جميع بدنها، فزاد عجبًا، فسأل عنها، فقيل: هي تيشارع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غَزاة في البلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته أيوب أن ابعث أوريا إلى موضع كذا، وقدمه قبل التابوت (١)، وكان من قدم على التابوت، لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه، أو يستشهد، فبعثه وقدمه، ففتح عليه [ثم أرسل إليه أن قدمه إلى جيش كذا، أعظم من الأول، فقدمه، ففتح عليه] (٢)، فأمره أن يقدمه ثالثة إلى جيش أعظم من الأولين، ففعل، فقتل، وانقضت عدتها، فتزوجها داود، وهي أم سليمان -عليه السلام-، فلما دخل بها، لم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله إليه ملكين في صورة رجلين في يوم عبادته، وهما جبريل وميكائيل، فطلبا أن يدخلا عليه، فمنعهما الحرس، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلا بهما بين يديه جالسين، فذلك قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ مفرد يعم الذكر والأنثى، والقليل والكثير، والمراد: الملكان ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا﴾ تصعدوا سور ﴿الْمِحْرَابَ﴾ صدر المسجد. قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر بخلاف عنه: (الْمِحْرَابَ) بالإمالة (٣)، والاستفهامُ هنا بمعنى الإخبار، المعنى: قد وصل إليك خبرهما.
(١) "التابوت" ساقطة من "ت".
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٥٩).
14
﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ﴾ بغتة من غير الباب.
﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ حين هجما عليه بغير إذنه، فقال: ما أدخلكما علي؟
﴿قَالُوا لَا تَخَفْ﴾ نحن.
﴿خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾ جئناك لتقضي بيننا، فرضا ذلك فرضًا.
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ﴾ لا تَجُرْ في حكمك.
﴿وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ أرشدنا إلى طريق الصواب.
...
﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (٢٣)﴾.
[٢٣] فقال داود: تكلما، فقال أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي﴾ أي: في الدين.
﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ تمييز، يعني: امرأة ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ والعرب تكني بالنعجة عن المرأة. قرأ حفص عن عاصم (وَلِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ ضُمَّها إلي (٢)؛ أي: طلقها لأتزوجها.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦١).
(٢) "ضمها إلي" زيادة من "ت".
﴿وَعَزَّنِي﴾ غلبني ﴿فِي الْخِطَابِ﴾ أي: في القول، المعنى: له الغلبة علي بكل حال، وإن كان الحق لي؛ لضعفي، وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود؛ حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة، ولأوريا امرأة واحدة، فضمَّها إلى نسائه.
...
﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (٢٤)﴾.
[٢٤] فبعد اعتراف المدعى عليه ﴿قَالَ﴾ داود: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾ قرأ أبو عمرو، وورش، وحمزة، والكسائي، وخلف: (لَقَد ظَّلَمَكَ) بإدغام الدال في الظاء، واختلف عن هشام في هذا الحرف، وقرأ الباقون: بالإظهار (١).
﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾ أي: بسؤاله إياها ليضيفها.
﴿إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ﴾ الشركاء.
﴿لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يظلم بعضهم بعضًا (٢).
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ استثناء من (بَعْضُهُمْ)؛ أي: لا يظلمون أحدًا.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٣٧)، و "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٢).
(٢) "يظلم بعضهم بعضًا" زيادة من "ت".
16
﴿وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ يعني: الصالحين الذين لا يظلمون قليلٌ، و (ما) زائدة، فلما قضى بينهما داود، تحولا في صورتيهما، وصعدا إلى السماء وهو ينظر، ويقولان: مضى الرجل على نفسه.
﴿وَظَنَّ﴾ أي: أيقن.
﴿دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أنا ابتليناه بالذنب، ونبهناه على خطئه بتلك الحكومة.
﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ لذنبه ﴿وَخَرَّ رَاكِعًا﴾ [حال؛ أي: ساجدًا، على تسمية السجود ركوعًا، لأنه مبدؤه؛ لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع] (١).
﴿وَأَنَابَ﴾ رجع عن جميع المخالفات، ثم مكث أربعين يومًا ساجدًا لا يرفع رأسه إلا لحاجة ضرورية، أو لصلاة مكتوبة، لا يأكل ولا يشرب، وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو يجهد نفسه بالبكاء الدائم، والتضرع والاستغفار حتى كاد يهلك (٢)، وهذه السجدة من عزائم السجود
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (٢١/ ١٨٥ - ١٨٦)، وانظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٩٦ - ٦٩٨)، وحيثما وقعت هذه القصص وأمثالها، فعقيدة أهل السنة والجماعة تنزيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - عمَّا يخلُّ بعصمتهم.
قال العلامة الآلوسي في "روح المعاني" (٢٣/ ١٨٥): وللقصاص كلام مشهور، لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه -عليه السلام-، وقال أبو حيان: "الذي نذهب إليه ما دلَّ عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب، كانوا من الإنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم؛ ظانًّا أنهم يغتالونه إذ كان منفردًا، فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة... فاستغفر من ذلك الظن وخرَّ ساجدًا ورجع إلى الله، وأنه =
17
عند أبي حنيفة ومالك، وكل منهما على أصله، فأبو حنيفة يقول: هي واجبة، ومالك يقول: هي فضيلة؛ كما تقدم ذكره عند سجدة مريم، وعند الشافعي وأحمد: هي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، فلو سجد بها في الصلاة، بطلت عندهما.
...
﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] فلما مكث داود أربعين يومًا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه، نودي: يا داود! أجائع فتطعم، أو ظمآن فتسقى، أو عار فتكسى؟ فأجيب في غير ما طلب، فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه، ثم أنزل الله التوبة والمغفرة، وأتاه نداء: إني قد غفرت لك، قال: يا رب! كيف وأنت (١) لا تظلم أحدًا؟ قال: اذهب إلى قبر أوريا، فناده، وأنا أُسمعه نداءك، فتحللْ منه، فانطلق وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره، ثم نادى أوريا، فقال: لبيك، من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني؟ قال: أنا داود، قال: ما حاجتك يا نبي الله؟ قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك، قال: وما كان منك إلي؟ قال: عَرَّضتك للقتل، قال: عرضتني للجنة، فأنت في حل، فأوحى الله إليه: يا داود! ألم تعلم أني حكم عدل، لا أقضي بالتعنت؟ ألا أعلمته أنك قد
= سبحانه غفر له ذلك الظن، فإنه -عز وجل- قال: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ ولم يتقدم سوى قوله تعالى: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾، انظر: "البحر المحيط" (٧/ ٣٧٧).
وانظر: ما سيذكره المصنف قريبًا بعد ذكره لهذه القصص المكذوبة.
(١) "وأنت" ساقطة من "ت".
18
تزوجت امرأته؟ فرجع إليه فناداه، فأجابه، فقال: من هذا الذي قطع علي لذتي؟ قال: أنا داود، قال: يا نبي الله! أليس قد عفوت عنك؟ قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك لمكان امرأتك، وتزوجتها، فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه، ثم نادى: الويل لداود إذا نصبت الموازين بالقسط، سبحان خالق النور، الويل لداود، ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور، فأتاه نداء من السماء: يا داود! قد غفرت لك ذنبك، ورحمت بكاءك، واستجبت دعاءك، وأقلت عثرتك، قال: يا رب! كيف وصاحبي لم يعف عني؟ قال: يا داود! أُعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه، وما لم تسمع أذناه، فأقول له: رضي عبدي؟ فيقول: يا رب! أنى لهذا ولم يبلغه عملي؟ فأقول: هذا عوض من عبدي داود، فأستوهبك منه، فيهبك لي، قال: يا رب! الآن عرفت أنك قد غفرت لي، فذلك قوله تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ الذنب.
﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا﴾ بعد المغفرة يوم القيامة ﴿لَزُلْفَى﴾ لقربى ومكانة.
﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ حسن مرجع ومنقلب يوم القيامة.
ولما تاب الله على داود، قال: يا رب! قد غفرت لي، فكيف لي ألَّا أنسى خطيئتي، فأستغفر منها لي وللخاطئين إلى يوم القيامة؟ فوسم الله خطيئته في يده اليمنى، فما رفع طعامًا ولا شرابًا إلا بكى إذا رآها، وما قام خطيبًا في الناس إلا بسط راحته، فاستقبلَ الناسَ ليروا وسم خطيئته، واستغفر للخطائين قبل نفسه، وكان إذا ذكر عقاب الله، تخلعت أوصاله، وإذا ذكر رحمة الله، تراجعت.
19
وقد أنكر القاضي عياض - رحمه الله - ما نقله المؤرخون والمفسرون في هذه القصة، ووهَّى قولهم فيها، ونقل عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: "ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، وأكفلنيها"، فعاتبه الله على ذلك (١)، ونبهه عليه، وأنكر عليه شغله بالدنيا، قال: وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره، وحكى قولًا أنه خطبها على خطبته، وقيل: بل أحب بقلبه أن يستشهد، ونقل عن الداودي أنه ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، انتهى (٢).
...
﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿يَادَاوُودُ﴾ في الكلام حذف يدل عليه ظاهر الكلام، تقديره: وقلنا له: يا داود ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾ تدبر أمر العباد بأمرنا، والخليفة: من استُخلف مكان من كان قبله، مأخوذ من أنه خلف لغيره،
(١) "ذلك" ساقطة من "ت".
(٢) قال الشيخ محمد أبو شهبة بعد ذكره لهذه الأقوال من أنه -عليه السلام- "خطبها أو أحب بقلبه أن يستشهد... ": وهذه الأقوال ونحوها لست منها على ثلج ولا اطمئنان؛ فإنها وإن كانت لا تخل بالعصمة، لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق وهم الأنبياء... ، وقال الشيخ الساعاتي: بل لا يصح وقوعها من المتسمين بالصلاح فضلًا عن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-: انظر: "الإسرائيليات" (ص: ٢٦٩ - ٢٧٠)، و"الأحاديث الصحيحة في أخبار الأنبياء" لإبراهيم العلي (ص: ١٨٠).
يقوم مقامه في الأمر الذي أُسند إليه فيه؛ كما قيل: أبو بكر خليفة رسول الله - ﷺ -، فأما الإمام، فمأخوذ من التقدم على غيره في سائر الأمور الشرعية، وعلى الرعية كلها أن يطيعوه في أمره، ويتدبروا بتدبيره، فهو المقدم عليهم إذا انعقد له ذلك بالحجة التي يجب على الجماعة التسليم لها، والانقياد لمن دعا إليها.
﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ بالعدل، والحكم لغةً: الفصل، وشرعًا: أمر ونهي يتضمن إلزامًا ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى﴾ هوى النفس ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ نصب جواب، أو جزم جواب النهي، وفتحت اللام للساكنين ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن الدلائل الدالة على الوحدانية.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ أي: بتركهم الإيمان به، والإعداد له.
...
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ خلقًا.
﴿بَاطِلًا﴾ إلا لغرض صحيح.
﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني أهل مكة، ظنوا أنهما خلقا لغير شيء، وأنه لا بعث ولا حساب.
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾.
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾.
[٢٨] ولما قال الكفار (١) للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة مثلَ أجركم، نزل:
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ أي: لا نجعل الصالحين كالطالحين، ولا المتقين كالكافرين.
...
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿كِتَابٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا كتاب.
﴿أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ لينظروا في معانيها فيؤمنون. قرأ أبو جعفر: (لِتَدَبَّرُوا) بالخطاب بتاء واحدة مع تخفيف الدال، وقرأ الباقون: بالغيب وتشديد الدال؛ أي: ليتدبروا، فأدغمت التاء (٢).
﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ويتعظ ذوو العقول السليمة.
...
﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ سليمانُ؛ لأنه المخصوص بالمدح.
(١) في "ت": "ولما قال كفار قريش".
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٧٠٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٤).
﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رَجَّاع عن المخالفات.
...
﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١)﴾.
[٣١] ولفظة (أَوَّاب) هي العامل في: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ﴾ وهو ما بعد الزوال، وكان لسليمان ألف فرس، فصلى الظهر، وكان يريد جهادًا، فجلس على سريره، فأمر أن تُعرض عليه ﴿الصَّافِنَاتُ﴾ جمع صافن من الخيل، وهو القائم على ثلاثة قوائم، ويثني الرابعة، والصفون يختص به عِتاقُ الخيل.
﴿الْجِيَادُ﴾ جمع جواد، وهو الخيار، إن استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت.
...
﴿فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢)﴾.
[٣٢] فعرضت عليه تسع مئة، فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت، ولم يُعلم بذلك هيبةً له، فندم ﴿فَقَالَ﴾ اعترافًا بذنبه: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ أي: آثرت حبَّ الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام، وسميت بذلك؛ لأن الخير معقود بنواصيها. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١)، المعنى اشتغلت بنظري إلى الخيل.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٤).
﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ عن صلاة العصر ﴿حَتَّى تَوَارَتْ﴾ الشمس.
﴿بِالْحِجَابِ﴾ ظلمة الليل.
...
﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣)﴾.
[٣٣] ثم قال: ﴿رُدُّوهَا﴾ أي: الخيل ﴿عَلَيَّ﴾ فرَدُّوها.
﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ فجعل يقطع سوقها وأعناقها بالسيف، وكان الذبح على ذلك الوجه مباحًا في شريعته، فذبحها وتصدق بلحومها، فأبدله الله خيرًا منها الريح.
روي أنه قتلها إلا مئة، فجميع خيل الدنيا من تلك المئة. قرأ قنبل عن ابن كثير: (بِالسُّؤُقِ) بهمز الواو مضمومًا، وعنه وجه ثان بالهمز مجزومًا، وقرأ الباقون: بإسكان الواو بغير همز (١).
...
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه (٢)، وسببه أنه
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٦٨)، و"الكشف" لمكي (٢/ ١٦٠ - ١٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٤).
(٢) قال أبو حيان في "البحر المحيط" (٧/ ٣٨١): نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالًا يجب براءة الأنبياء منها، وهي ممَّا لا يحل نقلها؛ وهي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين اللهُ الفتنةَ ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على =
24
غزا مدينة حصينة في البحر يقال لها: صيدون، فقتل ملكها، وأخذ ابنته جرادة، فاصطفاها لنفسه لحسنها، فعملت تمثال أبيها في بيتها بإذن سليمان لتأنس به، فجعلت هي وجواريها يسجدون له بكرة وعشيًّا أربعين يومًا، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك، وبلغ ذلك آصفَ بنَ برخيا، وكان صِدِّيقًا، وكان مقرَّبًا عند سليمان، فقال: يا نبي الله! كبرت سني، ورق عظمي، ونفد عمرى، ولقد حان مني ذهابه، وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأُثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم، فقال: افعل، فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه (١)، فذكر ما فضله الله به حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأفضلك في صغرك (٢)، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما تكره في صغرك! ثم انصرف، فوجد سليمانُ في نفسه من ذلك حتى ملأه غيظًا، فلما دخل سليمان داره، أرسل إليه، فقال: يا آصف! ذكرت من مضى من أنبياء الله، فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني، جعلت تثني علي بخير
= كرسي سليمان، وأقرب ما قيل فيه أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن بالحديث الذي قال: "لأطوفن الليلة على سبعين امرأة.. فلم تحمل إلا امرأة واحدة وجائته بشق رجل"، فالفتنة هو هذا، والجسد الملقى هو المولود شقَّ رجل اهـ، ولتمام الفائدة انظر التعليق في نهاية هذه القصة المختلقة.
(١) "بما فيه" زيادة من "ت".
(٢) "وأفضلك في صغرك" ساقطة من "ت".
25
في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر أمري؟ فقال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحًا في هوى امرأة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهدم التمثال، وعاقب النساء، ثم أتى الخلاء ووضع خاتمه عند امرأته الأمينة، وكان ملكه في خاتمه، وكان لا يمسه إلا وهو طاهر، فأتاها الشيطان صاحب البحر، واسمه صخر، على صورة سليمان، فأعطته الخاتم، فلبسه، وجلس على كرسي سليمان يحكم بين الناس، وعكفت عليه الطير والوحش والإنس والجن، فخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة! خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، قالت: كذبت، فقد جاء سليمان فأخذ خاتمه، وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج، فكان يقول لمن مر به: أنا سليمان بن دواد، فيهزؤون منه، ويحثون التراب في وجهه، فعمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان (١) لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى، باع إحدى سمكتيه بأرغفة، وشوى الأخرى فأكلها، فمكث كذلك أربعين صباحًا عِدَّةَ ما كان عُبد الوثنُ في داره، فأنكر آصف بن برخيا وعظماء بني إسرائيل حكم (٢) عدو الله الشيطان في تلك الأربعين، ثم استخبر آصف نساء سليمان، فأخبرنه بأمور قبيحة يعتمدها ذلك الشيطان، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم خرج على بني إسرائيل، وأخبرهم بالحال، فاجتمع القراء والعلماء، وأقبلوا حتى أحدقوا به ونشروا التوراة
(١) في "ت": "الحيات".
(٢) "حكم" ساقطة من "ت".
26
فقرؤوها، فطار من بين أيديهم، وألقى الخاتم في البحر، فابتلعه حوت، فأخذه بعض الصيادين، وقد عمل له سليمانُ صدرَ يومه ذلك، حتى إذا كان العشي، أعطاه سمكتيه، فباع إحداهما بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فوجد الخاتم في جوفها، فلبسه، وخر ساجدًا شكرًا لله تعالى، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس، وعاد إلى حسنه وبهائه وملكه كحاله الأول، ثم جلس على كرسيه، وطلب صخرًا، فجيء به، فجعله في صخرة، وأطبق عليه أخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه، وألقاه في البحر، وكانت فتنته بعد عشرين سنة من ملكه، وملك بعدها عشرين سنة (١).
(١) انظر: "تفسير الطبري" (٢١/ ١٩٧ - ١٩٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧٠٤ - ٧٠٦)، و"تفسير ابن كثير" (٤/ ٣٧).
قال الإمام ابن كثير: إسناده إلى ابن عباس قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس إن صح عنه من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان -عليه السلام-؛ فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء... وقد رويت القصة مطولة عن جماعة من السلف... وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، والله أعلم بالصواب. اهـ
يقول الشيخ محمد أبو شهبة - رحمه الله - ما ملخصُّه: قوة السند لا تنافي كونها مما أخذه ابن عباس وغيره عن كعب الأحبار وأمثاله من مُسلمة أهل الكتاب؛ فثبوتها في نفسها لا ينافي كونها من إسرائيليات بني إسرائيل وخرافاتهم وافتراءاتهم على الأنبياء... والحق أن نسج القصة مهلهل، عليه أثر الصنعة والاختلاق، ويصادم العقل السليم والنقل الصحيح في هذا، وإذا جاز للشيطان أن يتمثل برسول الله (سليمان)، فأيّ ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟ وكيف يسلِّطُ اللهُ الشيطان على نساء نبيه سليمان، وهو أكرم على الله من ذلك؟! وأيُّ ملك ونبوة يتوقف أمرهما على (خاتم) يدومان بدوامه ويزولان بزواله!!؟ وإذا =
27
وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - ﷺ - أنه قال: "إن عفريتًا من الجن تفلَّت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ فرددتُه خاسئًا" (١).
ولما رد الله على سليمان ملكه وبهاءه، وحامت عليه الطير، وعرف الناس أنه سليمان، قاموا يعتذرون إليه مما صنعوا، فقال: ما أحمدكم على عذركم، ولا ألومكم على ما كان منكم، هذا أمر كان لا بد منه.
وأطاعَ سليمانَ جميعُ ملوك الأرض، وحملوا إليه نفائس أموالهم، واستمر على ذلك حتى توفي، وتقدم ذكر وفاته في سورة سبأ، ومحل قبره في سورة البقرة، ومعنى الآية: اختبرنا سليمان بن داود بزوال ملكه.
﴿وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا﴾ يعني: العفريت الذي أخذ خاتمه، وجلس على كرسيه، وهو صخر صاحب البحر على أشهر الأقاويل، وسمي جسدًا؛ لأنه قد تمثل في جسد سليمان، وليس به.
= كان (خاتم سليمان) -عليه السلام- بهذه المثابة، فكيف يُغفِلُ اللهُ شأنه في كتابه، فلم يذكره بكلمة! وهل غيَّر اللهُ خِلْقَةَ سليمان في لحظة، حتى أنكرته أعرف الناس به وهي زوجته؟! إذن آثار الكذب والاختلاق بادية على نسج القصة.
انظر: "الإسرائيليات" (٢٧٠ - ٢٧٤).
(١) رواه البخاري (٣٢٤١)، كتاب: الأنبياء، باب قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾، ومسلم (٥٤١)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.
28
وقد أنكر (١) القاضي عياض - رحمه الله - هذه القصة، وقال: إن معنى ﴿فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ ابتليناه، وابتلاؤه ما حكي عن النبي - ﷺ -: "أنه قال: لأطوفنَّ الليلة على مئة امرأة، أو تسع وتسعين امرأة، كلُّهن يأتينَ بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحملْ منهن إلا امرأة واحدة جاءت بِشِقِّ رَجُل"، قال النبي - ﷺ -: "والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله" (٢)، قال أصحاب المعاني: والشقُّ: هو الجسد الذي أُلقي على كرسيه حين عرض عليه، وهي عقوبته ومحنته، قال القاضي عياض (٣) - رحمه الله -: وإن سئل: لِمَ لَمْ يقلْ سليمانُ في القصة المذكورة: إن شاء الله؟ فعنه أجوبة، أَسَدُّها ما روي في الحديث الصحيح: أنه نسي أن يقولها، وذلك لينفذ مراد الله، والثاني: أنه لم يسمع صاحبه، وشغل عنه.
﴿ثُمَّ أَنَابَ﴾ رجع إلى ملكه بعد أربعين يومًا.
...
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)﴾.
[٣٥] فلما رجع ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي﴾ لا يكون.
(١) جاء على هامش "ت": "وقد ذكر الزمخشري عن صاحب "المدارك" أنه من الأباطيل كما ذكرنا، وأنها مما لا يصح نقلها كما في "النهر".
(٢) رواه البخاري (٣٢٤٢)، كتاب: الأنبياء، باب قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾، ومسلم (١٦٤٥)، كتاب الأيمان، باب: الاستثناء، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٣) انظر: "الشفا" للقاضي عياض (٢/ ١٦٦ - ١٦٧).
﴿لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ المراد: أراد أن يفرده في البشر؛ ليكون خاصة له وكرامة، ولم يفعل هذا غيرةً على الدنيا، ولا نفاسةً بها.
قال ابن عطية: وهذا هو الظاهر من قول النبي - ﷺ - في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته، وقيل: أراد: لا ينبغي لأحد من بعدي مدة حياتي؛ أي: لا أُسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني (١). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (مِن بَعْدِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ المعطي ما تشاء لمن تشاء.
...
﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ﴾ فذللناها لطاعته إجابةً لدعوته. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحَ) بألف بعد الياء على الجمع، وقرأ الباقون: بغير ألف على التوحيد (٣).
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً﴾ حال من ضمير (تجري)؛ أي: رخوة لينة.
﴿حَيْثُ أَصَابَ﴾ أي: قصد.
(١) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٥٠٥).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٥).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٥).
﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَالشَّيَاطِينَ﴾ عطف على ﴿بَنَّاءٍ﴾ وتبدل من الشياطين.
﴿كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ فكانوا يبنون له الأبنية العجيبة، ويغوصون في البحر يستخرجون له اللؤلؤ.
...
﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨)﴾.
[٣٨] وتعطف على ﴿وَغَوَّاصٍ﴾: ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ﴾ مشدودين ﴿فِي الْأَصْفَادِ﴾ بالقيود، فكان يأخذ مَرَدَةَ الشياطين، فيجمع أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع، ويتركهم كذلك.
...
﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا﴾ الذي لا يقدر عليه غيرنا.
﴿فَامْنُنْ﴾ فأعطِ منه مَنْ شئت.
﴿أَوْ أَمْسِكْ﴾ امنع عن الإعطاء من شئت ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: غيرَ محاسَبْ على الإعطاء والمنع، وكان إذا أعطى أُجر، وإن منع لم يأثم، بخلاف غيره.
...
﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى﴾ لقربى في الآخرة ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ وهو الجنة.
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١)﴾.
[٤١] ثم أمر - ﷺ - بذكر - أيوب عليه السلام - وما ابتلي به؛ ليأتم به (١) الصابرون، فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي﴾ أي: بأني (٢) ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ﴾ مشقة ﴿وَعَذَابٍ﴾ ألم المرض. قرأ حمزة: (مَسَّنِي الشَّيْطَانُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها، وقرأ أبو جعفر: (بِنُصُبٍ) بضم النون والصاد، وقرأ يعقوب: بفتحهما (٣)، وقرأ الباقون: بضم النون وإسكان الصاد (٤)، وكلها لغات بمعنى البلاء والشدة، والمراد: ما قاساه في مرضه قال: ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ﴾ تأدبًا مع الله تعالى، وإن كانت الأشياء كلها منه تعالى، ونسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه كان بسببه ووسوسته، وتقدم ذكر القصة في سورة الأنبياء.
...
﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢)﴾.
[٤٢] فعوفي، وقيل له: ﴿ارْكُضْ﴾ اضرب الأرض ﴿بِرِجْلِكَ﴾ فركض، فنبعت عين ماء، فقيل: ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ﴾ أي: موضع غسل.
﴿بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ أي: ماء تغتسل به، وتشرب منه فتبرأ.
(١) "ليأتم به" ساقطة من "ت".
(٢) "أي: بأني" زيادة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٦).
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٧٠٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٦ - ٢٦٧).
روي أنه ركض باليمنى (١)، فخرجت عين حارة، وركض باليسرى، فخرجت عين باردة، فاغتسل من الحارة، وشرب من الباردة، فزال عنه كل ألم كان بظاهره وباطنه (٢).
وروي أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على مَلِكهم، فكلَّموه في ظلمه، وأغلظوا له، إلا أيوب؛ فإنه رفق به مخافة على زرعه، فعاقبه الله على ذلك ببلائه (٣).
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ﴾ روي أن الله سبحانه وهب له أهله وماله في الدنيا، فأحيا الله (٤) مَنْ مات منهم، وما هلك من ماشيته وماله (٥).
﴿وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ بارك في جميع ذلك، وولد له الأولاد حتى تضاعف الحال.
(١) في "ت": "باليمين".
(٢) انظر: "الكشاف" للزمخشري (٤/ ٩٩)، و"البحر المحيط" لأبي حيان (٧/ ٣٨٤)، وظاهر نظم القرآن الكريم عدم تعدد الضرب والنبع، كما ورد في "روح المعاني" للألوسي (٢٣/ ٢٠٧)، و"الإسرائيليات" لأبي شهبة (ص: ٢٨١).
(٣) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (١٠/ ٦١)، عن الليث بن سعد.
(٤) لفظة الجلالة لم ترد في "ش".
(٥) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٥٠٨).
﴿رَحْمَةً مِنَّا﴾ أي: لرحمتنا عليه.
﴿وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي: وتذكيرًا لذوي العقول.
...
﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)﴾.
[٤٤] روي أن أيوب -عليه السلام- كانت زوجته مدة مرضه تختلف إليه، فيتلقاها الشيطان في صورة طبيب، ومرة في هيئة ناصح، فيقول لها: لو سجد هذا المريض للصنم الفلاني، لبرئ، ولو ذبح عناقًا للصنم الفلاني، لبرئ، ويعرض عليها وجوهًا من الكفر، فكانت هي ربما عرضت ذلك على أيوب، فيقول لها: أَلَقيتِ عدوَّ الله في طريقك؟ فلما أغضبته ونحوه (١)، حلف إن عوفي ليجلدنها مئة جلدة (٢)، فلما عوفي، لطف الله تعالى بها؛ لخدمتها أيوب، فقال:
﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ هو قبضة من الشجر فيها مئة قضيب.
﴿فَاضْرِبْ بِهِ﴾ زوجتك لتبرَّ بيمينك ﴿وَلَا تَحْنَثْ﴾ أي: لا تدع الضرب فتحنث، فأخذ مئة عود، وضربها ضربة واحدة، فحلل الله يمينه، وهي رخصة في الحدود.
واختلف الأئمة فيها، فمذهب الشافعي إذا وجب الحد على مريض، وكان جلدًا، أُخِّر للمرض، فإن لم يرج برؤه، جُلد بعثكال عليه مئة غضن،
(١) "ونحوه" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (١٥/ ٢١٢).
34
فإن كان خمسون، ضرب به مرتين، وتمسه الأغصان، أو ينكس بعضها على بعض ليناله بعض الألم، فإن برئ، أجزأه، ومذهب أبي حنيفة: يؤخر فلا يجلد حتى يبرأ؛ كمذهب الشافعي، فإن كان ضعيف الخلقة يخاف عليه الهلاك لو ضرب ضربًا (١) شديدًا، يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب، ومذهب مالك: لا يضرب إلا بالسوط، ويفرق الضرب، وعدد (٢) الضربات مستحق لا يجوز تركه، فإن كان مريضًا، أخر إلى أن يبرأ؛ كمذهب الشافعي وأبي حنيفة، ومذهب أحمد: يقام الحد في الحال، ولا يؤخر للمرض، ولو رجي زواله، ويضرب بسوط يؤمن معه التلف؛ كالقضيب الصغير، فإن خشي عليه من السوط، أقيم بأطراف الثياب، وعثكول النخل، فإن خيف عليه من ذلك، جمع ضغث فيه مئة شمراخ، فضرب به ضربة واحدة؛ كقول الشافعي.
وأما إذا كان الحد رجمًا، فلا يؤخر بالاتفاق، ولا يقام الحد على حامل حتى تضع بغير خلاف، فأبو حنيفة إن كان حدها (٣) الجلد، فحتى تتعالى؛ أي: تخرج من نفاسها، وإن كان الرجم، فعقيب الولادة، وإن لم يكن للصغير من يربيه، فحتى يستغني عنها، والشافعي: حتى ترضعه اللبأ ويستغني بغيرها، أو فطام لحولين، ومالك وأحمد: بمجرد الوضع.
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ على البلاء، وقول أيوب: ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ﴾ لم يكن جزعًا؛ لأنها شكاية إلى المحبوب، فدل على أنه في غاية الصبر.
(١) "ضربًا" ساقطة من "ت" و"ش".
(٢) "الضرب وعدد "زيادة من "ت".
(٣) "حدها" ساقطة من "ت".
35
﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ أيوبُ ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ رجاع إلى الله تعالى.
﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ قرأ ابن كثير: (عَبْدَنَا) بفتح العين وإسكان الباء بغير ألف على الإفراد، فيجعل (إِبْرَاهِيمَ) عطفَ بيان، ويعطف عليه (وَإِسْحَاق وَيَعْقُوبَ)، وقرأ الباقون: (عِبَادَنَا) بكسر العين وفتح الباء وألف بعدها على الجمع (١)، جعلوا الأسماء الثلاثة بعده عطفَ بيان، ولم يذكر إسماعيل معهم؛ لأنه لم يُبتل كهؤلاء، تلخيصه: أخبر يا محمد عن هؤلاء.
﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾ القوة على العبادة والأفعال الجميلة، وعبر باليد عنها؛ لأنها غالبًا تفعل باليد ﴿وَالْأَبْصَارِ﴾ البصائر في الدين والعلم.
﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ﴾ اصطفيناهم ﴿بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: (بِخَالِصَةِ) بغير تنوين على الإضافة؛ أي: أخلصناهم بذكر الدار الآخرة؛ أي: يعملون لها، والذكرى بمعنى الذكر، وقرأ الباقون: بالتنوين (٢)؛ أي: بخالصةٍ هي ذكرى الدار، فتكون (ذِكْرَى الدَّارِ) بدلًا عن (الْخَالِصَةِ).
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١٠)، =
﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾ المختارين، جمع مصطفى.
﴿الْأَخْيَارِ﴾ جمع خَيِّر.
﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ﴾ هو ابن إبراهيم عليهما السلام.
﴿وَالْيَسَعَ﴾ هو ابن أخطوب بن العجوز [استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ، وتقدم ذكره في سورة الأنعام، وكان هو وإلياس قبل زكريا عليهم السلام] (١). قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَاللَّيْسَعَ) بتشديد اللام وإسكان الياء، والباقون: بإسكان اللام مخففة وفتح الياء (٢)، وهما لغتان، فمن قرأ بلامين، فأصل الاسم لَيْسَع، ثم أدخلت الألف واللام [للتعريف، ومن قرأ بلام واحدة، فالاسم يَسَعُ، ودخلت الألف واللام] (٣) زائدتين؛ كزيادتهما في نحو الخمسة عشر.
﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ تقدم ذكره (٤) في سورة الأنبياء.
= و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٦٩).
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٠).
(٣) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٤) في "ت": "تفسيره".
﴿وَكُلٌّ﴾ تنوينُه عوض من محذوف؛ أي: كلهم ﴿مِنَ الْأَخْيَارِ﴾.
﴿هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿هَذَا﴾ أي: الذي يتلى عليكم ﴿ذِكْرٌ﴾ شرف وثناء جميل للأنبياء.
﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ مَرْجِع.
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ عطف بيان لحسن مآب.
﴿مُفَتَّحَةً﴾ نعمت للجنات ﴿لَهُمُ الْأَبْوَابُ﴾ رفع، بدل من الضمير، تقديره: مفتحة هي الأبواب.
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ على الأرائك ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ والاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ.
﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
﴿أَتْرَابٌ﴾ جمع تِرْب، وهم الأصفياء على سن واحد، فكأن التراب (١) قد مسهم في وقت واحد عند الولادة، وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة، لا يتباغضن ولا يتغايرن.
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (يُوعَدُونَ) بالغيب؛ أي: المتقون، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢)؛ أي: قيل لهم ثَمَّ: هذا ما توعدون.
﴿لِيَوْمِ﴾ أي: لأجل يوم (٣) ﴿الْحِسَابِ﴾ كادخر هذا ليوم كذا.
﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿إِنَّ هَذَا﴾ المذكور ﴿لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ﴾ أي: انقطاع.
﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿هَذَا﴾ أي: الأمر هذا.
﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾ للكافرين ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ مرجع.
(١) "التراب" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧١).
(٣) "يوم" زيادة من "ت".
﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿جَهَنَّمَ﴾ بدل من (لَشَرَّ) ﴿يَصْلَوْنَهَا﴾ يدخلونها.
﴿فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ الفراش.
﴿هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿هَذَا﴾ أي: العذاب ﴿فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ﴾ وهو الماء الحار الذي انتهى حره ﴿وَغَسَّاقٌ﴾ الزمهرير، وقيل: هو ما يسيل من صديد أهل النار وفروج الزناة. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (وَغَسَّاقٌ) بتشديد السين، والباقون: بتخفيفها (١)، ومعناهما واحد.
﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَآخَرُ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب: بضم الألف من غير مد على الجمع؛ أي: مذوقات أخر، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة مشبعة على التوحيد (٢)؛ أي: وعذاب آخر ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾ أي: مثله.
﴿أَزْوَاجٌ﴾ أجناس تماثل العذاب؛ أي: يعذبون بأنواع مختلفة.
(١) المصادر السابقة.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١١)، و"النشر في القراءت العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧١ - ٢٧٢).
﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩)﴾.
[٥٩] فإذا دخل القادة النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة إشارة إلى الأتباع: ﴿هَذَا فَوْجٌ﴾ جمع.
﴿مُقْتَحِمٌ﴾ داخل ﴿مَعَكُمْ﴾ النار، والاقتحام: الدخول بشدة.
روي أن الزبانية تضربهم بالمقامع في النار، فثم يقول القادة دعاءً منهم على أتباعهم:
﴿لَا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ أي: لا سعة عليهم في عيشهم، والمرحبة والرحبة: السعة، تقول العرب: مرحبًا، وأهلًا وسهلًا؛ أي: أتيت رحبًا وسعة، وتقول: لا مرحبًا بك؛ أي: لا رحبت عليك الأرض.
﴿إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ﴾ داخلوها مثلنا.
﴿قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿قَالُوا﴾ أي: الأتباع للقادة: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ بل أنتم أحق بما قلتم.
﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ﴾ أي: الكفر، وشرعتموه.
﴿لَنَا﴾ فلنا ولكم النار ﴿فَبِئْسَ﴾ الدارُ ﴿الْقَرَارُ﴾ جهنم.
﴿قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿قَالُوا﴾ أي: الأتباع: ﴿رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا﴾ أي: هذا الدين، وهو الكفر ﴿فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا﴾ أي: مضاعفًا ﴿فِي النَّارِ﴾.
﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢)﴾.
[٦٢] ولما دخل الكفار من صناديد قريش النار، تحيروا ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى﴾ هنا ﴿رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ﴾ في الدنيا ﴿مِنَ الْأَشْرَارِ﴾؟ يعنون: فقراء المسلمين، وهم عمار، وخباب، وصهيب، وبلال، وسلمان رضي الله عنهم (١).
﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣)﴾.
[٦٣] ثم ذكروا أنهم كانوا يسخرون من هؤلاء، فقالوا: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف: (مِنَ الأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ) بوصل همزة (اتَّخذْنَاهُمْ) على الخبر؛ أي: إنا اتخذناهم، ويبتدئون بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بقطع الهمزة مفتوحة على استفهام توبيخ أنفسهم (٢).
﴿سِخْرِيًّا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضم السين؛ من التسخير، وهو العمل بلا أجر، وقرأ الباقون: بكسرها؛ من الهزء (٣).
(١) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (٢١/ ٢٣٢)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٢٤/ ٢٢٦). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٧/ ٢٠١).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦١ - ٢٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٦)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٦٠)، =
﴿أَمْ زَاغَتْ﴾ مالت ﴿عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ أي: هم معنا ولا نراهم.
﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الذي وصفنا ﴿لَحَقٌّ﴾ لصدق.
﴿تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ سمي تخاصمًا؛ لتقاولهم.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي مكة: ﴿إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ﴾ مخوِّف.
﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ﴾ الذي لا شريك له ﴿الْقَهَّارُ﴾ لكل شيء.
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ فهو مالك جميع العالم.
﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب ﴿الْغَفَّارُ﴾ لمن تاب.
﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿قُلْ﴾ يا محمد: ﴿هُوَ﴾ أي: القرآن.
= و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٣).
﴿نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ يتضمن وعظُه: أن التصديق فيه نجاة، والتكذيب فيه هلكة.
﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ لتمادي غفلتكم، هو توبيخ لهم.
﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى﴾ هم الملائكة ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ في شأن آدم حين قال اللهُ لهم: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ [البقرة: ٣٠]. قرأ حفص عن عاصم: (مَا كَانَ لِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿إِنْ يُوحَى﴾ أي: ما يوحى ﴿إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ قرأ أبو جعفر: (إِنَّمَا) بكسر الهمزة على الحكاية، كأنه قيل له: إنما أنت نذير مبين، فحكى هو المعنى، وهذا كما يقول إنسان: أنا عالم، فيقال له: لم قلت: إِنك عالم؟ فيحكي المعنى، وقرأ الباقون: بالفتح (٢)؛ كأنه
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٣).
(٢) انظر "تفسير البغوي" (٣/ ٧١٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
يقول: إلا الإنذار، والمعنى: ما علمت هذا إلا بوحي.
﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ بدل من قوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾:
﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ﴾ يعني: آدم.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أتممت خلقه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ وأحييته بنفخ الروح فيه ﴿فَقَعُوا﴾ خروا ﴿لَهُ سَاجِدِينَ﴾ تكرمةً وتبجيلًا، لا عبادة، ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، وإنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام، أبطله.
﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾.
﴿إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ استثناء من الساجدين.
﴿اسْتَكْبَرَ﴾ عن السجود ﴿وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ باستكباره.
= (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٤).
﴿قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿قَالَ﴾ الله: ﴿يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ بنفسي من غير توسيط كأب وأم؟ واليدان صفة من صفات الله تعالى -عز وجل- نؤمن بها كما جاءت، ونكل العلم فيها إلى الله، ثم أدخلت همزة استفهام التوبيخ على همزة الوصل، فحذفت وبقيت مفتوحة، فقيل:
﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ عن السجود لآدم ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ المتكبرين من غير استحقاق؟
﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ تقدم الكلام عليه في سورة الأعراف، والحجر، والإسراء.
﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا﴾ من الجنة ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ مطرود.
﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر: (لَعْنَتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾.
﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ هي النفخة الأولى.
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾ فبسلطانك وقهرك ﴿لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء منقطع. وتقدم اختلاف القراء في (الْمُخْلَصِينَ)، وتوجيه قراءاتهم في سورة الصافات [الآية: ٤٠].
= (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٥).
﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾.
﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾ يا إبليس وذريتك ﴿وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ أي: من ذرية آدم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد للضمير في (مِنْهُمْ). قرأ عاصم، وحمزة، وخلف: (فَالْحَقُّ) بالرفع في الأول، معناه: أنا الحقُّ، وأقول الحقَّ، والباقون: بالنصب فيهما (١)، فنصب الأول على الإغراء؛ كأنه ألزم الحق، والثاني بإيقاع الفعل عليه؛ أي: أقول الحقَّ، ومن رفعهما على القراءة الشاذة، فمعناه: أنا الحقُّ، والحقُّ أقوله، والمراد بالحق: اسمه تعالى في قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ [النور: ٢٥].
﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ على تبليغ الرسالة ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ جُعل.
﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ المتقوِّلين القرآنَ من تلقاء نفسي.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٥٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٧١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ٢٧٦).
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: القرآن ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ موعظة.
﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ للخلق أجمعين.
﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ أيها المشركون ﴿نَبَأَهُ﴾ صدقَ ما أخبرتُكم به في القرآن من الوعيد ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾ بعد مدة، وهو يوم القيامة، والله أعلم.
Icon