تفسير سورة غافر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

أما الكلام على الحروف المقطعمة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى :﴿ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم ﴾، أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه، ولا يخفى عليه الذَّر وإن تكاثف حجابه، وقوله عزّ وجلّ :﴿ غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب ﴾ أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه، وخضع لديه، وقوله جل وعلا ﴿ شَدِيدِ العقاب ﴾ أي لمن تمرد وطغى، وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى، وهذه كقوله :﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ] يقرن هذين الوصفين كثيراً من مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف، وقوله تعالى :﴿ ذِي الطول ﴾ قال ابن عباس : يعني السعة والغنى، وقال يزيد بن الأصم ﴿ ذِي الطول ﴾ يعني الخير الكثير، وقال عكرمة : ذي المن، وقال قتادة : ذي النعم والفواضل، والمعنى أنه المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها، ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ إبراهيم : ٣٤ ] الآية، وقوله جلت عظمته :﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ إِلَيْهِ المصير ﴾ أي المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، وقال أبو بكر بن عياش : جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، قال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه :﴿ حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم * غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ﴾، وقال : اعمل ولا تيأس، وعن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان ابن فلان؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب، قال، فدعا عمر كاتبه، فقال : اكتب « من عمر بن الخطّاب إلى فلان ابن فلان : سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير »، ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه «، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرأه ويردّده ويقول : غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم آخاً لكم زل زلة فسدّدوه ووثقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
يقول تعالى : ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان ﴿ إِلاَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه، ﴿ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد ﴾ أي في أموالهم ونعيمها وزهرتها، كما قال جل وعلا :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦-١٩٧ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، ثم قال تعالى مسلياً لنبيّه محمد ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه، بأن لوه أسوة من سلف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا قليل، فقال :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الأوثان ﴿ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ ﴾ أي من كل أمة، ﴿ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾ أي حرصوا على قتله بكل ممكن، ومنهم من قتل رسوله ﴿ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق ﴾ أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي، روى ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« من أعان باطلاً ليدحض به حقاً فقد برئت منه ذمة الله تعالى، وذمة رسوله ﷺ » وقوله جلّت عظمته ﴿ فَأَخَذْتُهُمْ ﴾ أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام، ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم لقد كان شديداً موجعاً مؤلماً؟ قال قتادة : كان شديداً والله. وقوله جل جلاله :﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار ﴾ أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد، بطريق الأولى، لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك، والله أعلم.
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة، ومن حوله الملائكة من الكروبيين، بأنهم ﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾ أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، ﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي من أهل الأرض من آمن بالغيب، فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعو للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخي بظهر الغيب، كما ثبت في الصحيح :« إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله » قال شهر بن حوشب رضي الله عنه : حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، ولهذا يقولون إذا اسغفروا للذين آمنوا :﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم ﴿ فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ ﴾، أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا، وأقلعوا عما كان فيه، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخير وترك المنكرات، ﴿ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم ﴾ أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم، ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة، كما قال تبارك وتعالى :﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ [ الطور : ٢١ ] أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني، بل رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل، تفضلاً منها ومنه. وقال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه اين هم؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل، فيقول : إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية :﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾، وقوله تبارك وتعالى :﴿ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾ أي الذي لا يمانع ولا يغالب، ﴿ وَقِهِمُ السيئات ﴾ أي فعلها، أو وبالها ممن وقعت منه، ﴿ وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾ أي لطفت به ونجيته من العقوبة ﴿ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن الكفار : أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون، وذلك عندما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم، وأبغضوها غاية البغض، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة اليت كانت سبب دخولهم النار، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا، حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون، أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم في هذه الحالة، قال قتادة : المعنى لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم، حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة، وقوله :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين ﴾ قال ابن مسعود رضي الله عنه : هذه الآية، كقوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، والمقصود أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عزّ وجلّ في عرصات القيامة، كما قال عزّ وجلّ :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] فلا يجابون، ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة، فلا يجابون، قال الله تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ] فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم، ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] كقوله :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧ ]، وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة، وهي قولهم :﴿ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين ﴾ أي وقدرتك عظيمة، فإنك أحييتنا بعد ما كان أمواتاً ثم أمتنا ثم أحييتنا فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، ﴿ فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ أي فهل انت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تمجه وتنفيه، ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ ﴾ أي أنتم هكذا تكونون، وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عزّ وجلّ ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾
2223
[ الأنعام : ٢٨ ].
وقوله جل وعلا :﴿ فالحكم للَّهِ العلي الكبير ﴾ أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وقوله جل جلاله :﴿ هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة، الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، ﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً ﴾ وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد، فالبقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء، ﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ ﴾ أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها ﴿ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ﴾ أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى. وقوله عزّ وجلّ :﴿ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ﴾ أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم، قال الإمام أحمد : كان عبد الله بن الزبير يقول في دُبُر كل صلاة حين يسلم « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. قال : وكان رسول الله ﷺ يهل بهن دُبُر كل صلاة »، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يقول عقب الصلوات المكتوبات :« لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك واله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله. ولا نبعد إلا إياه » الحديث، وقال النبي ﷺ :« ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاءً من قبل غافل لاه ».
2224
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته، كالسقف لها كما قال تعالى :﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ]. وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، وقوله تعالى :﴿ يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾، كقوله جلت عظمته :﴿ يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون ﴾ [ النحل : ٢ ]، وكقوله تعالى :﴿ نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٩٣-١٩٤ ]، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق ﴾، قال ابن عباس :﴿ يَوْمَ التلاق ﴾ اسم من أسماء يوم القيامة حذر الله منه عباده، يلتقي فيه آدم وآخر ولده، وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد؟ وقال قتادة والسدي : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والخالق والخلق، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم، وقد يقال إن يوم التلاق يشمل هذا كله ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشرك ما قال آخرون. وقوله جلّ جلاله :﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾ أي ظاهرون بادون كلهم، لا شيء يكنهم ولا يظلمهم ولا يسترهم، ﴿ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار ﴾ قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول : أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أي الجبارون؟ وفي حديث الصور أنه عزّ وجلّ إذا قبض أرواح جميع خلقه، فلم يبق سواه وحده لا شريك له، حينئذٍ يقول :﴿ لِّمَنِ الملك اليوم ﴾ ؟ ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه قائلاً :﴿ لِلَّهِ الواحد القهار ﴾ أي الذي قهر كل شيء وغلبه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات، قال، وينزل الله عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا ويقول :﴿ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار ﴾، وقوله جلّت عظمته :﴿ اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾، يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة واحدة، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ لاَ ظُلْمَ اليوم ﴾، كما ثبت في « صيحيح مسلم » :« يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم أياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله تبارك وتعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلى نفسه »، وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفساً واحدة، كما قال جلّ وعلا :﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ].
يوم الآزفة : اسم من أسماء يوم القيامة، وسميت بذلك لاقترابها، كما قال تعالى :﴿ أَزِفَتِ الآزفة * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ ﴾ [ النجم : ٥٧-٥٨ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ [ القمر : ١ ]، وقال جل وعلا :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الملك : ٢٧ ] الآية، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ ﴾. قال قتادة : وقفت القلوب في الحناجر من الخوف، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها، ومعنى ﴿ كَاظِمِينَ ﴾ أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه ﴿ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٨ ]، وقال ابن جريج ﴿ كَاظِمِينَ ﴾ أي باكين، وقوله سبحانه ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾، أي ليس للذين ظلموا من قريب ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير، وقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ يخبر عزّ وجلّ عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء، جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، دقيقها ولطيفها ليحذر الناس ربهم، فيتقوه حق تقواه، ويراقبوه من يعلم أنه يراه، فإنه عزّ وجلّ يعلم العين الخائنة، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر، قال ابن عباس ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ : هوا لرجل يدخل على أهل البيت بيتهم، وفيهم المرأة الحسناء، أو تمر به وبهم المرأة الحسنا، فإذا غفلوا لحظ إليها، فإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ، فإذا فطنوا غض، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود لو اطلع على فرجها. وقال الضحّاك ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين ﴾ : هو الغمز، وقول الرجل رأيت ولم ير، وقال ابن عباس : يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا؟ ﴿ وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزوي بها أم لا؟ وقال السدي :﴿ وَمَا تُخْفِي الصدور ﴾ أي من الوسوسة، وقوله عزّ وجلّ ﴿ والله يَقْضِي بالحق ﴾ أي يحكم بالعدل. قال ابن عباس : قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة ﴿ إِنَّ الله هُوَ السميع البصير ﴾ وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية، كقوله تبارك وتعالى :﴿ لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى ﴾ [ النجم : ٣١ ]، وقوله جلّ وعلا :﴿ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ أي من الأصنام والأوثان والأنداد، ﴿ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾ أي لا يملكون شيئاً ولا يحكمون بشيء، ﴿ إِنَّ الله هُوَ السميع البصير ﴾ أي سميع لأقوال خلقه بصير بهم، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.
يقول تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسِيروُاْ ﴾ هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد ﴿ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي من الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حل بهم من العذاب والنكال، مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة ﴿ وَآثَاراً فِي الأرض ﴾ أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عزّ وجلّ، ﴿ وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ [ الروم : ٩ ] مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، ﴿ فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ ﴾ وهي كفرهم برسلهم، ﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ أي وما دف عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها، فقال تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات ﴾ أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات، ﴿ فَكَفَرُواْ ﴾ أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا، ﴿ فَأَخَذَهُمُ الله ﴾ تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم، ﴿ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب ﴾ أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد، وهو ﴿ شَدِيدُ العقاب ﴾ أي عقابه أليم شديد وجميع، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.
يقول تعالى مسلياً لنبيّه محمد ﷺ في تكذيب من كذبه من قومه، ومبشراً له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات، والدلائل الواضحات ولهذا قال تعالى :﴿ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ والسلطان هو الحجة والبرهان، ﴿ إلى فِرْعَوْنَ ﴾ وهو ملك القبط بالديار المصرية، ﴿ وَهَامَانَ ﴾ وهو وزيره في مملكته ﴿ وَقَارُونَ ﴾ وكان أكثر الناس في زمانه مالاً وتجارة، ﴿ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ أي كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً، مموّهاً كذاباً في أن الله جل وعلا أرسله وهذه كقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [ الذاريات : ٥٢ ]، ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا ﴾ أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالىّ أرسله إليهم، ﴿ قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ ﴾، وهذا أمر ثاني من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل، أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين، واما الأمر الثاني فلإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام، ولهذا قالوا :﴿ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ﴾ [ الأعراف : ١٢٩ ]، قال الله عزّ وجلّ :﴿ وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾، وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى ﷺ ؛ أي قال لقومه دعون حتى أقتل لكم هذا ﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾ أي لا أبالي منه، وهذا في غاية الجحد والعناد ﴿ إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد ﴾ يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم، وهذا كما يقال في المثل : صار فرعون مذكراً، يعني واعظاً، يشفق على الناس من موسى عليه السلام، ﴿ وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب ﴾ أي لما بلغه قول فرعون ﴿ ذروني أَقْتُلْ موسى ﴾ قال موسى عليه السلام : استجرت بالله، وعذت به من شره وشر أمثاله، ولهذا قال :﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ﴾ أيها المخاطبون ﴿ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ ﴾ أي عن الحق مجرم ﴿ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب ﴾، ولهذا جاء في الحديث « أن رسول الله ﷺ كان إذا خاف قوماً قال :» اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم « ».
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان ( قبطياً ) من آل فرعون، قال السدي : كان ابن عم فرعون، واختاره ابن جرير، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً، لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجله بالعقوبة لأنه منهم، قال ابن عباس : لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال :﴿ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ﴾ [ القصص : ٢٠ ]، وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون :﴿ ذروني أَقْتُلْ موسى ﴾ [ غافر : ٢٦ ] فأخذت الرجل غضبة لله عزّ وجلّ، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون، وهي قوله :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾، اللهم إلا ما رواه البخاري في « صحيحه » عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال، قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ﷺ ؟ قال : بينا رسول الله ﷺ يصل بِفناء الكعبة إذ أقبل ( عقبة بن أبي معيط ) فأخذ بمنكِب رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي ﷺ ثم قال :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾ ؟ وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل :« ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله ﷺ ؟ قال : مَرّ ﷺ ذات يوم، فقالوا له : أنت تنهاها أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال :» أنا ذاك « فقاموا إليه، فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه، وهو يصيح بأعلى صوته، وإن عينيه ليسيلان وهو يقول : يا قوم :﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾ ؟ حتى فرغ من الآية كلها »، وقوله تعالى :﴿ وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ ﴾ أي كيف تقتلونه وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تنزل معهم من المخاطبة فقال :﴿ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ ﴾، يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به، فمن العقل والرأي والحزم أن تتركوه ونفسه، فلا تؤذوه، فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه سيجازيه على كذبه، وإن يك صادقاً وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فينبغي أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وشأنه.
2229
وقوله جلا وعلا :﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ أي لو كان هذا كاذباً كما تزعمون، لكان أمره بيناً يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقيماً، ولو كان من المسرفين الكذابين، لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله، ثم قال المؤمن محذراً قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم :﴿ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ ﴾ أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك، والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله ﷺ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله ﴿ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا ﴾ أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئاً من بأس الله إن أرادنا بسوء. ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ ﴾ لقومه راداً على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد ﴿ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى ﴾ أي ما أقو لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي، وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة، ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ]، وقال الله تعالى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ]، فقوله :﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد ﴾ كذب فيه وافترى، وخان رعيته فغشهم وما نصحهم، وكذا وله :﴿ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى ﴾ أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد، وقد كذب أيضاً في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه، قال الله تبارك وتعالى :﴿ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [ هود : ٩٧ ]، وقال جلَّت عظمته :﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى ﴾ [ طه : ٧٩ ]. وفي الحديث :« ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ».
2230
هذا إخبار من الله عزّ وجلّ عن هذا الرجل الصالح ( مؤمن آل فرعون ) أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، فقال :﴿ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب ﴾ أي الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد ﴿ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾، أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، فأنفذ فيهم قدره، ثم قال :﴿ وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد ﴾ يعني يوم القيامة، وسمي بذلك لما جاء في حديث الصور إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً، وقال الضحاك : بل ذلك إذا جيء بجهنم ذهب الناس هراباً منهم، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر وهو قوله تعالى :﴿ والملك على أَرْجَآئِهَآ ﴾ [ الحاقة : ١٧ ]، وقيل : لأن الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته، ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف عمله نادى ألا قد شقي فلان بن فلان، وقيل : سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار ﴿ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ]، ومناداة أهل النار أهل الجنة ﴿ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ]، ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة، وأهل النار كما هو مذكور في سورة الأعراف، واختار البغاوي وغيره أنه سمي بذلك لمجموع ذلك، وهو قول حسن جيد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾ أي ذاهبين هاربين، ﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه ﴿ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ أي من أضله الله فلا هادي له غيره، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات ﴾ يعني أهل مصر قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى ﷺ وهو ( يوسف ) ﷺ كان عزيز أهل مصر، وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، ولهذا قال تعالى :﴿ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ أي يئستم فقلتم طامعين ﴿ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾ وذلك لكفرهم وتكذيبهم، ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ﴾ أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى، فإن الله عزّ وجلّ يمقت على ذلك أشد المقت، ولهذا قال تعالى :﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ ﴾ أي والمؤمنون أيضاً يبغضون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، ولهذا قال تبارك وتعالى ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ﴾ أي على اتباع الحق ﴿ جَبَّارٍ ﴾ قال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق، والله تعالى أعلم.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وعتوه، وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى عليه الصلاة ولاسلام، أنه أمر وزيره ﴿ ياهامان ﴾ أن يبني له ﴿ صَرْحاً ﴾ وهو القصر العالي المنيف الشاهق، وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي، وكما قال تعالى :﴿ فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً ﴾ [ القصص : ٣٨ ]، وقوله :﴿ لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات ﴾ قال سعيد بن جبير : أبواب السماوات، وقيلأ : طرق السماوات ﴿ فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ﴾، وهذا من كفره وتمرده أنه كذب موسى ﷺ في أن الله عزّ وجلّ أرسله إليه، قال تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل ﴾ أي بصنعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية، أنه يعمل شيئاً يتوصل به إلى تكذيب موسى ﷺ، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد : يعني إلا في خسار.
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الأعلى فقال لهم :﴿ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد ﴾ لا كما كذب فرعون في قوله :﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد ﴾ [ غافر : ٢٩ ]، ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الأخرى، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى ﷺ، فقال :﴿ ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ ﴾ أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل، ﴿ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار ﴾ أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها، بل إما نعيم وإما جحيم، ولهذا قال جلت عظمته ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾ أي واحدة مثلها، ﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي لا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله عزّ وجلّ ثواباً كثيراً، لا انقضاء له ولا نفاد.
يقول لهم المؤمن : ما بالي أدعوكم إلى النجاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وتصديق رسوله ﷺ الذي بعثه ﴿ وتدعونني إِلَى النار * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي على جهل بلا دليل ﴿ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار ﴾ أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ ﴾ يقول : حقاً، قال ابن جرير : معنى قوله :﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ : حقاً، وقال الضحاك ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ : لا كذب، المعنى إنّ الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد ﴿ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة ﴾ قال مجاهد : الوثن ليس له شيء، وقال قتادة : يعني الوثن لا ينفع ولا يضر. وقال السدي : لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٥ ] وقوله :﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ ﴾ [ فاطر : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله ﴾ أي في الدار الآخرة فيجازي كلاً بعمله، ولهذا قال ﴿ وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار ﴾ أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزّ وجلّ ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ ﴾ أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه، ونصحكتم ووضحت لكم، وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفعكم الندم ﴿ وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله ﴾ أي وأتوكل على الله وأستعينه، وأقاطعكم وأباعدكم، ﴿ إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد ﴾ أي هو بصير بهم تعالى وتقدس، فيهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، والقدر النافذ.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى ﷺ، وأما في الآخرة فبالجنة، ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب ﴾ وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجيحم، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولهذا قال ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة علىعذاب البرزخ في القبور، وهي قوله تعالى :﴿ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله ﷺ وقال :» إنما يفتن يهود «، قالت عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله ﷺ :» ألا إنكم تفتنون في القبور «، قالت عائشة رضي الله عنها : فكان رسول الله ﷺ بعد، يستعيذ من عذاب القبر »
2234
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها :« أن يهودية دخلت عليها فقالت : نعوذ بالله من عذاب القبر، فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ، عن عذاب القبر، فقال ﷺ :» نعم عذاب القبر حق « قالت عائشة رضي الله عنها : فما رأيت رسول الله ﷺ بعدُ صلَّى إلا تعوذ من عذاب القبر » وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً.
وقال قتادة ﴿ غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ : صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم، وقال ابن زيد : هم فيها يُغْدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة، وقال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها، فذلك عرضها، وفي حديث الإسراء، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال فيه :« ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله، رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، مصفدون على سابلة آل فرعون، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعيشاً ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ وآل فرعون كالإبل المسومة يخطبون الحجارة والشجر ولا يعقلون » وروى ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى قال، قلنا : يا رسول الله! ما إثابة الله الكافر؟ فقال :» إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك «. قلنا : فما إثابته في الآخرة؟ قال ﷺ :» عذاباً دون العذاب «، وقرأ ﴿ أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب ﴾ » وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :« إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك عزّ وجل إليه يوم القيامة ».
2235
يخبر تعالى عن تحاجِّ أهل النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم ﴿ فَيَقُولُ الضعفاء ﴾ وهم الأتباع ﴿ لِلَّذِينَ استكبروا ﴾ وهم القادة والسادة والكبراء ﴿ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ﴾ أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال، ﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار ﴾ أي قسطاً تتحملونه من العذاب والنكال ﴿ قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ ﴾ أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ]، ﴿ وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب ﴾ لما علموا أن الله عزّ وجلّ لا يستجيب منهم، ولا يستمع لدعائهم، بل قد قال :﴿ قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ٨ ] سألوا الخزنة وهم كالسجَّانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في في أن يخفف عن الكافرين ولو يوماً واحداً من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم :﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات ﴾ ؟ أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ ﴿ قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا ﴾ أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم، ثم نخبركم أنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم، ولهذا قالوا ﴿ قالوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾ أي لا يقبل ولا يستجاب.
قد عُلِمَ أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيا، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً إلى الله كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى، فأين النصرة في الدنيا؟ أجاب ابن جرير على ذلك بجوابين :( أحدهما ) أن يكون الخبر خرج عاماً، والمراد به البعض، وهذا سائغ في اللغة. ( الثاني ) أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم. وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود، فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وهذه نصرة عظيمة، وسنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم، ولهذا أهلك الله عزّ وجلّ قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً، قال السدي :« لم يبعث الله عزّ و جلّ رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها »، وهكذا نصر الله نبيه محمداً ﷺ فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة، فقرت عينه ببلده المشرف المعظم، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكاملها، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم قبضه الله تعالى إليه فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله عزّ وجلّ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها؟ ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل، قال مجاهد : الأشهاد الملائكة ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين ﴾ وهم المشركون ﴿ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية ﴿ وَلَهُمُ اللعنة ﴾ أي الإبعاد والطرد من الرحمة، ﴿ وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ وهي النار، قال السدي : بئس المنزل والمقيل، وقال ابن عباس : أي سوء العاقبة.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى ﴾ وهو ما بعثه الله عزّ وجلّ به من الهدى والنور، ﴿ وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب ﴾ أي جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم ملك فرعون، وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة ﴿ هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب ﴾ وهي العقول الصحيحة السليمة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ فاصبر ﴾ أي يا محمد ﴿ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد، وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك، وقوله تبارك وتعالى :﴿ واستغفر لِذَنبِكَ ﴾ هذا تهييج للأمة على الاستغفار، ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي ﴾ أي في أواخر النهار وأوائل الليل ﴿ والإبكار ﴾ وهي أوائل النهار وأواخر الليل.
2237
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾ أي يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ﴿ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴾ أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه - من إخماد الحق وإعلاء الباطل - بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع ﴿ فاستعذ بالله ﴾ أي من حال مثل هؤلاء ﴿ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير ﴾، أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان، هذا تفسير ابن جرير.
2238
يقول تعالى منبهاً على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه يسير لديه، بأنه خلق السماوات والأرض، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقال هاهنا :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وينكرون المعاد استبعاداً وكفراً وعناداً، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا، ثم قال تعالى :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار ﴿ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ ﴾ أي لكائنة وواقعة، ﴿ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها.
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه، أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، قال كعب الأحبار : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها إلا نبي، كان إذا أرسل الله نبياً قال له : أنت شاهد على أمتك، وجعلكم شهداء على الناس، وكان يقال له : ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾ [ الحج : ٧٨ ] وكان يقال له : ادعني أستجب لك، وقال لهذه الأمة :﴿ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾، وروى الإمام أحمد، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الدعاء هو العبادة » ثم قرأ :﴿ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾، وقال رسول الله ﷺ :« من لم يَدْعُ الله عزّ وجلّ غضب عليه » وروى الحافظ الرامهرمزي، عن محمد بن سعيد قال : لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً، بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً »، وقول عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ أي عن دعائي وتوحيدي، ﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ أي صاغرين حقيرين، كما قال النبي ﷺ :« يحشر المتكبرون يوم القيامة مثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له ( بولس ) تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار » وقال وهيب بن الورد، حدثني رجل قال : كنت أسير ذات يوم في أرض الروم، فسمعت هاتفاً من فوق رأس جبل وهو يقول : يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك، يا رب عجبت لمن عرفك يطلب حوائجه إلى أحد غيرك، قال : ثم عاد الثانية فقال : يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك، قال، فناديته : أجني أنت أم إنسي؟ قال : بل إنسي، اشغل نفسك مما يعنيك عما لا يعنيك وفي الحديث :« من لم يسأل الله يغضب عليه ».
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه، ويستريحون فيه من حركات ترددهم في المعايش بالنهار وجعل النهار مبصراً، أي مضيئاً ليتصرفوا فيه بالأسفار، وقطع الأقطار، والتمكن من الصناعات ﴿ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي الذي فعل هذه الأشياء هو الواحد الأحد، خالق الأشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ فأنى تُؤْفَكُونَ ﴾ أي فكيف تعبدون غيره من الأصنام الي لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة منحوتة! وقوله عزّ وجلّ :﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ أي كما ضل هؤلاء بعبادة عير الله، كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره، بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته، وقوله تعالى :﴿ الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً ﴾ أي جعلها لكم مستقراً، تعيشون عليها وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، ﴿ والسمآء بِنَآءً ﴾ أي سقفاً للعالم محفوظاً، ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ أي فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم، ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ أي من المآكل والمشارب في الدنيا، فذكر أنه خلق الدار والسكان والأرزاق، فهو الخالق الرزّاق، كما قال تعالى في سورة البقرة :﴿ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الآية : ٢٢ ]. وقال تعالى هاهنا بعد خلق هذه الأشياء :﴿ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ﴾ أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين، ثم قال تعالى :﴿ هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي هو الحي أولاً وأبداً، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي لا نظير له ولا عديل له ﴿ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد الله رب العالمين، عن ابن عباس قال : من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى :﴿ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إن الله عزّ وجلّ ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان، وقد بيّن تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً ﴾ أي هو الذي يقبلكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله، ﴿ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطاً، ومنهم من يتوفى صغيراً وشاباً وكهلاً قبل الشيخوخة، كقوله تعالى :﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ الحج : ٥ ]، وقال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. قال ابن جريج : تتذكرون البعث، ثم قال تعالى :﴿ هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه، ﴿ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ ﴾ أي لا يخالف ولا يمانع بل ما شاء كان لا محالة.
يقول تعالى : ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله، ويجادلون في الحق بالباطل، كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ﴿ الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ﴾ أي من الهدى والبيان ﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، من الرب جلّ جلاله لهؤلاء، كما قال تعالى :﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ١٥ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل ﴾ أي متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارة إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم، ولهذا قال تعالى :﴿ يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ ﴾، كما قال تبارك وتعالى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ﴾ [ الواقعة : ٥١٥٢ ]، وقال عزَّ وجلَّ :﴿ خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ﴾ [ الدخان : ٤٧٤٩ ] أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتهكم والاستهزاء بهم، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله ﴾ ؟ أي قيل لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينصرونكم اليوم؟ ﴿ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ أي ذهبوا فلم ينفعونا، ﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾ أي جحدوا عبادتهم، كقوله جلَّت عظمته :﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ]، ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين ﴾، وقوله :﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾ أي تقول لهم الملائكة : هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم، ﴿ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين ﴾، أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد، لمن استكبر عن آيات الله، واتباع دلائله وحججه، والله أعلم.
يقول تعالى : آمراً رسوله ﷺ بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه :﴿ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ ﴾ أي في الدنيا وكذلك وقع، فإن الله تعالى أقر عينه يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته ﷺ، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ أي فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة، ثم قال تعالى مسلياً له :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ ﴾ أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم، ثم كان للرسل العاقبة والنصرة، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾ وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ولله الحمد والمنة، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا أن يأذن الله له في ذلك فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به، ﴿ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله ﴾ وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين، ﴿ قُضِيَ بالحق ﴾ فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون ﴾.
يقول تعالى ممتناً على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال، البلاد النائية والأقطار الشاسعة، والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الأرض، والغنم تؤكل ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة ولذا قال عزّ وجلّ :﴿ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾، وقوله جلّ وعلا :﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ أي حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم ﴿ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ ﴾ ؟ أي لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر، وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم، وما أثروه في الأرض وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا رد عنهم ذرة من بأس الله، وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل، قال مجاهد : قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب، وقال السدي : فرحوا بما عندهم من العلم بحالتهم، فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به، ﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ أي أحاط بهم، ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي يكذبون ويستبعدون وقوعه، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ أي عاينوا وقوع العذاب بهم، ﴿ قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ﴾ أي وحدوا الله عزّ وجلّ وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق ﴿ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين ﴾ [ يونس : ٩٠ ] فلم يقبل الله منه لأنه قد استجاب لنبيّه موسى عليه السلام، وهكذا قال تعالى هاهنا ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾ هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، ولهذا جاء في الحديث :« إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون ﴾.
Icon