تفسير سورة مريم

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة مريم من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله، اسم عزيز من عبده واصل جهاده، ومن طلبه ودع وساده، ومن عرفه أنكر أحبابه. ومن يسر له أوقفه على محبته.
من ذكره نسي اسمه، ومن شهده فقد عقله ولبه.
اسم عزيز جبلت القلوب على محبته، وكل قلب ليس يوقفه على محبته، فليس بحيلة يصل.
اسم ما اتصفت أشباح الأبرار إلا بعبادته، وما اعتكفت أرواح الأحرار إلا بمشاهدته.
اسم عزيز من عرفه اعترف أنه وراء ما وصفه.

تعريفٌ للأحباب بأسرار معاني الخطاب، حروف خَصَّ الحقُّ المخَاطبَ بها بفهم معانيها، وإذا كان للأخيار سماعُها وذِكْرُها، فللرسول ِ - عليه السلام - فَهْمُها وسِرُّها.
ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحُكْم.
ويقال في الكاف تعريفٌ بكونه مع أوليائه، وتخويفٌ بخِّفي مَكْرِه في بلائه.
ويقال في الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نَفْسِه قبل كتابة الملائكة الزَّلَّةَ على عباده.
والهاءُ تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه، وما له من الحق بحكم إحسانه.
والياء إشارة إلى يُسْر نِعَمِه بعد عُسْرِ مِحَنِه. وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده.
والعين تشير إلى عِلْمِه بأحوالِ عَبْدِهِ في سِرَّه وجَهْرِهِ، وقُلِّه وكُثْرِه، وحالِه ومآلِه، وقدْرِ طاقته وحق فاقته.
وفي الصاد إلى أنه الصادق في وعده.
تخصيصه إياه بإجابته في سؤال وَلَدِه، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله.
وإنما ذلك لئلا يَطَّلَع أحدٌ على سِرِّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه، والاعتقاد بالسُّوء في نفسه، ثم أخفى سِرَّهُ عن الخلْق لئلا يقعَ لأحدٍ إشرافٌ على حاله، ولئلا يَشْمَتَ بمقالته أعداؤه.
قوله جل ذكره :﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ العَظْمُ مِنّىِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ﴾.
أي لَقِيتُ بضعفي عن خدمتك ما لا أحِبُّه ؛ فطعنتُ في السنِّ، ولا قوةَ بعد المشيب ؛ فهَبْ لي ولداً ينوب عني في عبادتك.
أي إني أسألك واثقاً بإجابتك ؛ لعلمي بأني لا أشْقَى بدعائِك فإنَّك تحِبُّ أن تُسأل.
ويقال إنك عوَّدتني إجابة الدعاء، ولم ترُدَّني في سالف أيامي إذا دعوْتُك.
إني خِفْتُ أَنْ تذهبَ النبوة من أهل بيتي، وتنتقل إلى بني أعمامي فهبْ لي وَلَداً يعبدك، ويكون من نَسلِي ومن أهلي.
وهو لم يرِدْ الولدَ بشهوةِ الدنيا وأَخْذِ الحظوظِ منها، وإنما طلبَ الولدَ ليقومَ بحقِّ الله،
وفي قوله :﴿ يرثني ﴾ دليلٌ على أنه كما سأل الولدَ سأل بِقاء ولده ؛ فقال : ولداً يكون وارثاً لي ؛ أي يبقى بَعْدِي، ويرث من آل يعقوب النبوةَ وتبليغ الرسالة.
واجعله ربِّ رضياً : رَضِي فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مَرْضِيَّاً لك. ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضياً منك، وراضياً بتقديرك.
أي استجبنا لدعائِك، ونرزقك ولداً ذكَراً اسمُه يحيى ؛ تحيا به عُقْرَةُ أُمِّه، ويحيا به نَسَبُكُ، يحيا به ذكْرُك، وما سألَته من أن يكون نائباً عنك ؛ فيحيا به محلُّ العبادة والنبوة في بيتك.
﴿ لَمْ نَجْعَل لهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ﴾ : انفراده - عليه السلام - بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة ؛ أي لم يكن له سَمِيٌّ قَبْله ؛ فلا أحَدَ كُفْؤٌ له في استجماع أوصاف فَضْله.
ويقال لم تجعل له من قبل نظيراً ؛ لأنه لم يكن أحد لا ذنبَ له قَبْلَ النبوة ولا بعدها غيره.
سأل الوَلدَ فلمَّا أُجِيب قال أَنَّى يكون لي غلام ؟ ومعنى ذلك - على ما جاء في التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدةً طويلة ؛ فكأنه سأل الولدَ في ابتداء حال سِنِّه، واستجيبت دعوتُه بعد ما تناهى في سِنِّه، فلذلك قال :﴿ أَنَّى يَكُونُ لِِي غُلاَمٌ ﴾ ؟.
ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد. . أمِنْ هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفرشها ؟ فالسؤال إنما كان لتعيين مَنْ منها يكون الولد. فقال تعالى :﴿ قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾
قوله جلّ ذكره :﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ﴾.
معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة في هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرِّ العادة ولادة مثلِ هذه المرأة دلالةٌ ومعجزةٌ لك على قومك، فتكون للإجابة بالولد مِنْ وَجْهٍ معجزةٌ ؛ ومن وجهٍ راحةٌ وكرامةٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً ﴾.
دلَّت الآية على أن المعدومَ ليس بشيءٍ، لأنه نفي أن يكون قبل خَلْقِه له كان شيئاً.
أراد علامةً على علوق المرأة بالولد ؛ ولم يُرِدْ علامةَ يَسْتَدلُّ لها على صِدْق ما يقال له. فأخبره تعالى :" أُنْبِئُكَ علامةَ وقت إجابتك. . إِنَّ لسانَك لا ينطق معهم بالمخاطبة - ولو اجتهدت كُلَّ الجهد - ثلاثةَ أيام، وعليكَ أن تخاطبني، وأن تقرأ الكتب المُنَزَّلَةَ التي كانت في وقتك. فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يُكلِّمَهم، وإذا أراد أن يقرأَ الكتبَ أو يسبِّحَ اللَّهَ انطلق مع الله لسانُه ".
أي فلمَّا خرج عليهم عرَّفهم - من طريق الإشارة - أنَّ اللسانَ الذي كان يخاطبهم به ليس الآن منطلقاً.
أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة مِنَّا، خَصَصْنَاكَ بها. . . لا قوةَ يدٍ ولكن قوة قلبٍ، وذلك خيرٌ خَصَّه اللَّهُ تعالى به وهو النبوة.
ودلَّت الآية على أنه كان من الله له كتاب.
﴿ وَءَاتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً ﴾ أي النبوة، بَعَثَه اللَّهُ بها إلى قومه، وأوحى إليه وهو صبيّ.
ويقال الحُكْمُ بالصوابِ والحقِّ بين الناس.
ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر.
قوله ﴿ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا. . . ﴾ أي آتيناه رحمةً من عندنا، وطهارةً وتوفيقاً لمجلوبات التقوى وتحقيقاً لموهوباتها ؛ فإن التقوى على قسمين : مجموع ومجلوب يتوصَّلُ إليه العبدُ بِتَكَلُّفِه وتَعَلُّمِه، وموضوعٍ من الله تعالى وموهوبٍ منه يصلُ إليه العبدُ بِبَذْله سبحانه وبفضله.
﴿ براً بوالديه ﴾ كأمر الله - سبحانه - له بذلك لا لمودَّةِ البَشَرِ وموجِبِ عادة الإنسانية. ولم يكن متمرداً عن الحق، جاحداً لربوبيته.
أي له مِنَّأ أمانٌ يوم القيامة، ويوم ولادته في البداية، ويوم وفاته في النهاية، وهو أن يصونَه عن الزَيْغِ والعِوَجِ في العقيدة بما يُشْهدُه على الدوام من حقيقة الإلهية.
وكذلك هو في القيامة له منه - سبحانه - الأمان ؛ فهو في الدنيا معصومٌ عن الزَّلَّة، محفوظٌ عن الآفة. وفي الآخرة معصومٌ عن البلاء والمحنة.
اعتزلت عنهم لتحصيلٍ يطهرها، فاستترت عن أبصارهم.
فلمَّا أبصرت جبريلَ في صورةِ إنسانٍ لم تتوقعه أَحَسَّتْ في نفسها رُعْباً، ولم تكن لها حيلةٌ إلا تخويفه بالله، ورجوعها إلى الله.
قالت مريمُ لجبريل - وهي لم تعرفه - إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يُخَافَ ويُتَقَّى منه ؛ أي إنْ كنتَ تَقْصِد السوءَ. ومعنى قولها ﴿ بِالرَّحْمَنِ ﴾ ولم تقل :" بالله " - أي بالذي يرحمني فيحفظني منك.
ويقال يحتمل أن يكون معناه : إن كنتَ تعرف الله وتكون متقياً مخالفة أمره فإنِّي أعوذ بالله منك وأحذر عقوبته.
تعرَّف جبريلُ إليها بما سكَّن رَوْعَها، وقَرَنَ مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام.
قالت أنى يكونُ لي وَلَدٌ ولم أُلِمّ بِزلَّةٍ ولا فاحشةٍ ؟
فقال جبريلُ - عليه السلام - : الأمرُ كما قلتُ لَكِ ؛ فلا يتعّصى ذلك على الله تعالى ؛ إذ هو أَقْدَرُ أَنْ يجعل هذا الوَلَدَ دلالةً على كمال قدرته، ويكون هذا الولدُ رحمةً منه - سبحانه- لِمَنْ آمَنَ، وسَبَبَ جهلٍِ للآخرين.
لمَّا ظهر بها الحَمْلُ، وعَلِمَتْ أَنَّ الناسَ يستبعدون ذلك، ولم تَثِقْ بأحدٍ تُفْشِي إليه سِرَّها. . . مَضَتْ إلى مكانٍ بعيد عن الخَلْق.
أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة. ولمَّا أَخذها الطَلْقُ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ، وقالت :﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾.
ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقاً من قومها، لأنها عَلِمَتْ أَنَّهم سيبسطون لسانَ الملامةِ فيها بلسانِ الفُجْر ؛ وينسبونها إلى الفحشاء.
ويقال قالتها شفقةً على قومها لئلا تُصِيبَهم بِسبَبَها عقوبةٌ.
ويقال قالت :﴿ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾ حتى لم أسمع مَنْ قال في الله تعالى بسببي إن عيسى ابن الله وابن مريم، وإن مريمَ زوجتُه. . . تعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً !
ويقال ﴿ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾ : في الوقت الذي كنتُ مرفوقاً بي، ولم تستقبلني هذه الخشونةُ في الحالةِ التي لَحِقَتْنِي.
ويقال ﴿ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا ﴾ : في الوقت الذي لم يكن قلبي متعلقاً بسبب.
في التفسير أن المَعْنِيَّ بقوله ﴿ مِن تَحْتِهَا ﴾ : جبريلُ عليه السلام، وقيل عيسى عليه السلام. والمقصودُ منه تسكينُ ما كان بها من الوحشة، والبشارة بعيسى عليه السلام، أي يرزقك الله ولداً سرياً.
وكان جِذْعاً يابساً أخرج اللَّهُ تعالى منه في الوقتِ الثمرةَ، وهي الرُّطبُ الجنيُّ، وكان في ذلك آية ودلالة لها ؛ فالذي قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى - عليه السلام - من غير أبٍ.
ويقال عندما كانت مُجَرَّدَةً بلا علاقة، فقد كان زكريا - عليه السلام - يَجِدُ عندها رزقاً من غير أن أُمِرْتْ بتكليف، فلمَّا جاءَتْ علاقةُ الولدِ أُمِرَتْ بهزِّ النخلةِ اليابسةِ - وهي في أضعف حالها ؛ زمان قرب عهدها بوضع الولد، لِيُعْلَمَ أَنَّ العلاقةَ توجِبُ العناءَ والمشقة.
ويقال بل أُمِرَتْ بهزِّ النخلة اليابسة، وكان تمكنُها من ذلك أوضحَ دلالة على صدقها في حالها.
ويقال لمّا لم يكن لها في هذه الحالة مَنْ يقوم بتعهدها تولَّى الله تعالى كفايتها ؛ لِيَعْلَمَ العالمون أنه لا يضيع خواصَّ عِبادِه في وقت حاجتهم.
كفاها أسبابَ ما احتاجت إليه مِنْ أَكْلِهَا وشُرْبِها، وسَكَّنَ من خوفها، وطيَّبَ قلبَها.
﴿ فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدا ﴾ : فلا تخاطبيهم وعرِّفيهم - بالإشارة - أَنَّكِ نَذَرْتِ للرحمن الصمتَ مع الخَلْق، وتَرْكَ المخاطبةِ معهم.
بسط قومُها فيها لسانَ الملامةِ لما رَأَوْها قد وَلَدَتْ - وظاهرُ الحالِ كان معهم –
فقالوا لها على سبيل الملامة : يا مَنْ كنا نَعُدُّكِ في الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح. . . مِنْ أين لكِ هذه الحالة الشنعاء ؟
ويقال كان أخوها اسمه هارون. ويقال كان هارون رجلاً فاسقاً في قومهم، فقالوا : يا شبيهته في الفساد. . ما هذا الولد ؟
ويقال كان هارون رجلاً صالحاً فيهم فقالوا : يا أخت هارون، ويا مَن في حسابنا وظَنَنَّا ما كان أبواكِ فيهما سوء ولا فساد. . . كيف أتيتِ بهذه الكبيرة الفظيعة ؟ !
في الظاهر أشارت إلى الولد، وفي الباطن أشارت إلى الله، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا : كيف نكلِّم مَنْ هو أهل بأن يُنَوَّم في المهد ؟ !
ف " كان " ها هنا في اللفظ صلة. . . وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها.
لما قالوا ذلك أنطق اللَّهُ عيسى حتى قال :﴿ إني عَبْدُ اللَّهِ ﴾، فظهرت براءةُ ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثلُه. وجرى على لسانه حتى قال :﴿ إني عَبْدُ اللَّهِ ﴾ ؛ ليُقَال للنصارى إِنْ صَدَقَ عيسى أنه عبدُ الله بطل قولُكم إِنه ثالث ثلاثة، وإِن كذب فالذي يكذب لا يكون ابناً لله، وإنما يكون عبداً لله، وإذا لم يكن عَبْدَ هواه، ولا في أسرِ شيءِ سواه فَمَنْ تحرر مِنْ غيره فهو في الحقيقة عَبْدُه.
﴿ ءَاتِانِي الكِتَابَ ﴾ أي سيؤتيني الكتاب أو آتاني في سابق حكمه.
﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾ بفضله. وفي الآية ردٌّ على من يقول إن النبوة تُسْتَحقُّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك في حال ولادته ؛ لم تَكُنْ منه بَعْدُ عبادةٌ وأخبر أن الله جعله نبياً.
أي نافعاً للخلْق يرشدهم إلى أمور دينهم، ويمنعهم من ارتكاب الزَّلّةِ التي فيها هلاكهم، ومَنْ استضاء بنوره نجا. . فهذه بركاتُه التي كانت تصل إلى الخلْق. ومَنْ بركاتِه إغاثةُ الملهوف، وإعانةُ الضعيف، ونصرة المظلوم، ومواساة الفقير، وإرشاد الضال، والنصيحة للخَلْق، وكفُّ الأذى عنهم وحَمْلُ الأذى منهم.
﴿ وَبَرَّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾ أي لم يجعلني غيرَ قابلٍ للنصيحة.
ويقال ﴿ شَقِيّاً ﴾ : أي متكبراً متجبراً. ويقال مختوماً بكُفْرٍ.
قال عيسى عليه السلام :﴿ وَالسَّلاَمُ عَلَىَّ ﴾، وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج :" السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ". . فشتان ما هما !
والسلام بمعنى السلامة، أي سلامة لي يوم الولادة مما نسبوا إِليَّ من قول النصارى في مجاوزة الحدِّ في المدح، ومما وصفني به اليهود من الذمِّ، فَلَسْتُ كما قالت الطائفتان جميعاً.
وسلام عليَّ يوم أموت ؛ ففي ذلك اليوم تكون لي سلامةٌ حتى تكون بالسعادة وفاتي.
وسلام عليّ يوم أُبْعَثُ ؛ أي سلامةٌ لي في الأحوالِ مِمَّا يُبْتَلَى به غيرُ أهل الوصال.
أي الذي قال ما أخبر الله عنه هو عيسى ابن مريم. . . أيكون بقول إله ؟
وقد شكَّ فيه أكثر الخَلْق فَرَدَّه قومٌ وَقِبَله قومٌ، والفَرق بينهم أفي استحقاقه.
وقوله :﴿ قَوْلَ الحَقِّ ﴾ أي يكون بقوله الحق وهو :﴿ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾
لا يجوز أن يكون له وَلَدٌ على الحقيقة ؛ لأنه واحد، والوَلَدُ بعضُ والده.
ولأنه لا داعي له إلى صحبة زوجة فيكون له ولد على الحقيقة. ولا يجوز عليه التبني لأحدٍ لَعَدَمِ الجنسية بينهما.
وقوله :﴿ إِذَا قَضَى أَمْراً. . . ﴾ إذا أراد إحداثَ شيءٍ خَلَقَه بقدرته، وخاطَبَه بأمر التكوين، ولا يتعصَّى عليه - في التحقيق - مقدور.
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ ﴾ أي أمرني بأن تعلموا ذلك ؛ وأمرني بتبليغ رسالتي، واتباع ما شَرَعَ اللَّهُ من العبادات.
فَمَنْ عُجِنَتْ بِماءِ السعادةِ طينتُه أَطَاعَ في عاجله وما ضاع في آجله، ومَنْ أَقْصَتْه القِسْمة السابقة لم تُدْنِه الخِدْمَةُ اللاحقة، وسَيَلْقَوْنَ غِبَّ هذا الأمر.
تصير معارفهم ضروريةً، وأحوالُهم كلُّها معكوسةًَ، الحُجَّة تتأكَّد عليهم، والحاجةُ لا تُسْمَعُ منهم، والرحمةُ لا تتعلَّق بهم، فلا تُرْحَم شكاتُهم، ولا يُسْمَعُ نِداؤُهم.
تقوم الساعةُ بغتةً، وتصادفهم القيامةُ وهم غيرُ مستعدين لها فيتحسَّرون على ما فاتهم.
ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سَبَقَتْ لقوم الشقاوةُ - وهم في محو العَدَم، ولآخرين السعادة - وهم بنعت العدم - ولم يكن من أُولئك جُرْم بَعْدُ، ولا مِنْ هؤلاء وِفَاقٌ بعدُ.
يريد به إذا قَبَضَ أرواحَ بني آدم بجملتهم، ولم يبقَ على وجه الأرض منهم واحدٌ، وليس يريد به استحداث مُلْكِه، وهو اليومَ مالِكُ الأرض ومَنْ عليها، ومالكُ الكونِ وما فيه.
ويقال إن زكريا قال - لمَّا سأل الولد :﴿ يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ ﴾ [ مريم : ٦ ] وقال تعالى في صفة بني إسرائيل :﴿ كّذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرآءِيلَ ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ] وقال :
﴿ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُررِثُهُا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ الأعراف : ١٢٨ ]، ولما انتهى إلى هذه الأمة قال :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمنْ عَلَيْهَا ﴾. . فشتان بين مَنْ وارِثُه الوَلَدُ وبين مَن ْ وارِثُه الأَحَدُ !
ويقال هان على العبد المسلم إِذا مات إذا كان الحقُّ وارثَه. . . . وهذا مخلوق يقول في صفه مخلوق :
فإِنْ يكُ عتَّابٌ مضى لسبيله فما مات من يبقى له مِثْلُ خالدِ.
وقال تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءُ ﴾ [ آل عمران : ١٦٨ ] لماذا ؟ لأَِنَّ وارثَهم اللَّهُ.
الصديق الكثير الصدق، الذي لا يمازج صِدْقَه شوبٌ.
ويقال هو الصادق في أقواله وأعماله وأحواله.
ويقال الصِدِّيق لا يناقِضُ سِرُّهُ عَلَنَه.
ويقال هو الذي لا يشهد غيرَ الله مُثْبِتَاً ولا نافياً.
ويقال هو المستجيب لِمَا يُطَالَب به جملةً وتفصيلاً.
ويقال هو الواقفُ مع اللَّهِ في عموم الأوقات على حدِّ الصدق.
دلَّت الآيةُ على استحقاقِ المعبودِ الوصفَ بالسمع والبصرِ على الكمال دون نُقْصانٍ فيه، وكذلك القول في القدرة على الضَّرِّ والنفع.
وإذا رجع العبدُ إلى التحقيق عَلِمَ أن كلَّ الخَلْق لا تَصْلُحُ قدرةُ واحدٍ منهم للإبداع والإحداث، فمن عَلََّق قلبه بمخلوق، أو تَوَهَّمَ شظية منه من النفي والإثبات فَقَدْ ضَاهَى عَبَدةَ الأصنام.
أَمَرَه باتباعه لمَّا ترجح عليه جانبُه في كَوْنِ الحقِّ معه - وإِنْ كان أكبرَ منه سِنَّاً، وبيَّن أن الخلاص في اتباع أهل الحقِّ، وأَنَّ الهلاكَ في الابتداع والتطوع في مغاليط الطرق.
بيَّن أَنَّ العلةَ في منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فَبَانَ أنه لا ينبغي أَنْ تكون طاعةٌ لِمَنْ يَعْصِي اللَّهَ بحالٍ.
ويقال أساسُ الدَّين هِجْرَانُ أَرباب العصيان.
لم يغادِرْ الخليل شيئاً من الشفقة على أبيه، ولم ينفعه جميل وعظه، ولم تنجع فيه كثْرَةُ نُصْحه ؛ فإِنَّ مَنْ اَقْصَتْه سوابِقٌ التقدير لم تُخَلِّصْه لواحقُ التدبير.
منَّاه إبراهيمُ بجميل العُقْبَى، فقابلَه بتوعدُّ العقوبة فقال :﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مِليّاً ﴾.
فأجابه الخليل بمقتضى سكون البصيرة.
وهذا قبل أن ييأسَ من إيمانه، إذا كانت لديه بعدُ بقيةٌ من الرجاء في شأنه، فلمَّا تحقق أنه مختومٌ له بالشقاوة.
﴿ وَمَا تَدْعُونَ ﴾ : أي ما تعبدون، ﴿ وَأَدْعُوا رَبِىّ ﴾ : أي أعبده.
لما أَيِسَ من أصلِه آنسَه اللَّهُ بما أكرمه من نَسْلِه، فأنبتهم نباتاً حسناً، ورزقهم النبوةَ، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام فقال :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٩:لما أَيِسَ من أصلِه آنسَه اللَّهُ بما أكرمه من نَسْلِه، فأنبتهم نباتاً حسناً، ورزقهم النبوةَ، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام فقال :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ﴾.
مُخْلَصاً خالصاً لله، ولم يكن لغيرِه بوجهٍ ؛ فلم تأخذه في الله لومةُ لائم، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظٍ، ولم يُغْض في اللَّهِ على شيءٍ.
للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفَيْن : النداءَ في بدايته، والسماعَ والنجوى في نهايته ؛ فوقَفَه الحقُّ وناداه، وفي جميع الحالين تولاّه.
﴿ مِن جَانِبِ الطُّورِ ﴾ : ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور.
من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبيَّاً.
كان صادق الوعد إذ وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه، وصبر على ذلك إلى أن ظهر الفِداء. وصدق الوعد لأنه حفظ العهد.
وكان يأمر أهله بالصلاة - بأمر الله إياه - وبالزكاة، ويشتمل هذه على أمره إياهم بالعيادة البدنية والمالية حيثما وكيفما كان.
﴿ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾ وكان هذا أشرفَ خِصاله وأَجلَّ صفاته.
الصِّدِّيق كثير الصدق، لا يشوب صدقه مَذْقٌ، ويكون قائماً بالحقِّ للحق، ولا يكون فيه نَفَسٌ لغير الله.
﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾ : درجة عظيمة في التربية لم يُسَاوِه فيها أَحَدٌ.
أقامهم بشواهد الجمع، وأخبر أن مِنَّتَه كامِنَةٌ في تخصيصِهم بأحوالهم، وتأهيلهم لِمَا رقَّاهم إليه من المآل، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم. ومما أنعم به عليهم من الخصائص رِقَّةُ قلوبِهم ؛ فهم إذ تُتْلَى عليهم الآياتُ سجدوا، وسجوُد ظواهرِهم يدل على سجود سرائرهم بما حقَّقَ لهم من شواهد الجمع، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق ؛ فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية، وبِنعَت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية.
الذين حادوا عن طريقهم، وضيعَّوا حقَّ الشرع، وتخطوا واجبَ الأمر، وزاغوا عن طريق الرشد، وأخلوا بآداب الشرع، وانخرطوا في سِلْكِ متابعة الشهوات - سيلقون عن قريبٍ ما يستوجبونه، ويُعَامَلُون بما يستحقونه، ويُعَاملون بما يستحقونه.
فأولئك الذين تداركتهْم الرحمةُ الأزليةُ، وسيبقون في النعم السرمدية. يستنجز الحقُّ لهم عِدَاتِهِم، ويُوَصِّلُهم إلى درجاتهم، ويُحَقِّق لهم ما وعدهم.
﴿ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ﴾ : لأن ما أُتِيتَه فقد أتاك أو ما أَتَاكَ فقد أتيته.
﴿ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ﴾ : فإِن أسماعَهم مصونةٌ عن سماعِ الأغيارِ، لا يسمعون إلا من اللَّهِ وبالله، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ﴾.
كانوا يعدون مَنْ عنده طعام البكرة والعشية مِنْ جملة المياسيرِ والأغنياءِ لكونهم فقراءَ ؛ إنْ وجدوا غَداءَهم ففي الغالب يَعْدِمُونَ عشاءَهم، وإِنْ وجدوا عشاءَهم فَقَلَّما كانوا يجدون غداءَهم. ويقال في :﴿ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ فيها ﴾ [ النحل : ٥٧ ] : بمقدار الغدو والعشي من الزمان في الجنة أي كالوقت. ثم إن الأرزاق تختلف في الجنة ؛ فللأشباحِ رِزْقٌ من مطعومِ ومشروب، وللأرواحِ رزقٌ من سماعٍ وشهود، ولكلٍ - على قَدْرِ استحقاقه - قِسْطٌ معلوم.
فالجنة للأتقياء من هذه الأمة مُعَدّةٌ له، والرحمةُ لُعصاةِ المسلمين مُدَّخرةٌ لهم، الجنةُ لُطْفٌ من الله تعالى، والرحمةُ وَصْفٌ لله تعالى. وقوله :﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ : فَعَبْدُه على الخصوصية مَنْ كان اليومَ في قيد أمره. وقوله :﴿ مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ : قوم يتقون المعاصي والمخالفات، وقوم يتقون الشهواتِ، وآخرون يتقون الغفلاتِ، وآخرون يتقون شهود كُلَّ غيره.
إن الملائكةَ - عليهم السلام - أبداً يَنْزِلون بإِذن الحقِّ تعالى، فبعضهم بإنجاد المظلومين، وبعضهم بإِغاثة الملهوفين، وبعضهم بتدمير الجاحدين، وبعضهم بنصرة المؤمنين، وبعضهم إلى ما لا يحصى من أمور الناس أجميعن. واللَّهُ - سبحانه - لا يترك جاحداً ولا عابداً من حِفْظٍ وإنعامٍ، أو إمهالٍ ونكَال. . . .
بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربَّها، ويكون مالكها، ويكون قادراً عليها.
وإذا وجدت فهو فاعلها، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه في مقدوره وجوده.
ويقال إذا كان ربَّ الأكابرِ من الأقوياء فهو أيضاً ربُّ الأصاغر من الضعفاء، وقيمةُ العَبْدِ بمالِكِه وقَدْرِه، لا بثمنه في نَفْسِه وَخَطَره.
قوله :﴿ فَاعْبُدْهُ ﴾ أي قِفْ حيثما أمرك، ودَعْ ما يقع لك، وخَلِّ رأيك وتدبيرك.
قوله ﴿ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ : الاصطبار غاية الصبر.
قوله :﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ﴾ : أي كفواً ونظيراً. ويقال هل تعرف أحداً يسمى " الله " غيرَ اللَّهِ ؟ ويقال أَنَّي بالنظير. . . وهو بالقِدَمِ متوحد ! والتشبيه يقتضي التسوية بين المتشابهين، ولا مِثْلَ له. . . لا موجوداً ولا موهوماً.
أنكروا حديثَ البعثِ غاية الإنكار، فأقام الحّجَة عليهم بالنشأة الأولى ؛ فقال : إن الذي قدر على خَلْقِ في الابتداء وهم نُطَفٌ ضعفاء، وقَبْلُ كانوا في أصلابِ الآباءِ وأرحامِ الأمهاتِ فَفَطَرَهمُ، وعلى ما صَوَّرَهم، وفي الوقت الذي أراد - عن بطون أمهاتهم أَخْرَجَهُم.
قوله :﴿ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ فيه دليل على صحة أهل البصائر أَنّ المعدومَ لم يك شيئاً في حال عَدَمِه.
ويقال أبطل لهم كلَّ دعوى حيث ذَكَّرَهم نَسبَهم وكَوْنَهم مِنَ العَدَمِ.
نحشرهم جميعاً فيجتمعون في العَرْصَةِ ثم يختلف مُنْقَلَبُهم ؛ فيصير قومٌ إلى النار ثم إلى دَرَكاتٍ بعضها أسفل من بعض - واسمُ جهنم يجمع أماكنهم. ويصير قومٌ إلى الجنة ثم هي دَرَجَاتٌ بعضها أعلى رتبةً ودرجةً من بعض - واسمُ الجنة يشتمل على جميع مساكنهم.
ويقال التفاوتُ في الجنةِ بين الدرجاتِ أكثرُ من التفاوت بين أهل الدارين.
مَنْ تَقدَّمَ عليهم في الإضلال والضلال ضوعف عليه غداً العذاب والأغلال.
ينزل في كل دَرَكَةٍ من دركاتها من هو أهل لها، فمن كان عتوُّه اليومَ أشدَّ غلوا كان في النار أبعدَ من الله وأشدَّ عقوبةً وإذلالاً.
كلٌّ يَرِدُ النارَ ولكن لا ضيْرَ منها ولا احتباسَ بها لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من (. . . ) والزلل ؛ فأشدُّهم انهماكاً أشدهم بالنار اشتعالاً واحتراقاً. وقوم يردونها - كما في الخبر :" إن للنار عند مرورهم عليها إذوابةً كإذوابةِ اللَّبَن، فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا : أو ليس وعدنا جهنم على طريق ؟ فيقال لهم. عبرتم وما شعرتم "
يُنَجِّي مَنْ كان مؤمناً، بعضهم قَبْلَ بعض، وبعضهم بَعْدَ بعض، ولكن لا يبقى من المؤمنين مَنْ لا ينجيهم. ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها، وعند ذلك يشتدُّ عليهم البلاء، وتُطْبقُ عليهم أبوابُ جهنم، وينقطع منهم الرجاء والأمل.
وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم ؛ فزيادة التقوى توجِب لهم التعجيل في النجاة ؛ فمن سابقٍ ومن لاحقٍ، ومن منقطع، ومن محترق. . . إلى كثيرٍ من الأصناف والألوان.
يعني إذا قُرِئَتْ عليهم آياتُ القرآن قابلوها بالردِّ والجحد والعتو والزيغ، ويَدَّعُون أنهم على حقٍ، ولا يعتمدون في ذلك إلا على الحَدْسِ والظَّنِّ.
أي إن هؤلاء ينخرطون في سِلْكِ مَنْ تَقَدَّمهم، كما سلكوا في الريب منهاجهم، وسَيَلْقَوْن ما يستوجبونه على سوء أعمالهم.
إن الله تعالى يُمْهِلُ الكفارَ ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم، ويَغْترُّوا بسلامةِ أحوالهم، فينسونه في غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم.
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ. . . ﴾ أي يحل بهم موعودُ العقوبة عاجلاً أو قيام الساعة آجلاً، فعند ذلك يتضح لهم ما تعامَوْا عنه من شدة الانتقام، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم.
أي يُغْنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس، فإذا مَتَعَ نهارُ العرفانِِ فلا ظلمة ولا تهمة.
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّا ﴾
﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾ : الشهادةُ بالربوبيةِ خيرٌ من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص.
ويقال :﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾ : التي تبقى عند الله مقبولة.
قوله تعالى :﴿ خَيْرٌ ﴾ لأن في استحقاقِ القبول زيادةً للهدى ؛ فيصير عِلْمُ اليقين عينَ اليقين، وعينُ يقينهم حَقَّ اليقين.
أخْبِرْ بقصة ذلك الكافر الذي قال بيمين - من غير حجة - لأُعْطيَنَّ مالاً وولداً، ورأى أن يكون ليمينه تصديق، فهل هو :﴿ أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ﴾
هل يقول ما يقول بتعريفِ منا ؟ أم هل اتخذ مع الله عهداً ؟ ليس الأمر كذلك ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا ظن بالله تعالى ظناً جميلاً، أو أمَّلَ منه أشياء كثيرة فالله تعالى يحققها له، ويَصْدُقُ ظَنُّه لأنه على عهد مع الله تعالى، والله تعالى لا يخلف عهده.
كلا. . . ليس الأمر على ما يقول، وليس لقولهم تحقيق، بل سنمد لهم من العذاب مداً أي سنطيل في العذاب مدتهم.
﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ. . . ﴾ لن نُمَتِّعَه بأولاده وَحَشمِه وخَدَمهِ وقَوْمه، ويعود إلينا منفرداً عنهم.
حكموا بظنهم الفاسدِ أنَّ أصنامَهم تمنعهم، وأنَّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجِبُ عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلةً. . . وهيهات ! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق، بل إذا حُشِرُوا وحُشِرَتْ أصنامُهم تَبَرَّأَتْ أصنامُهم منهم، وما أمَّلُوا نفعاً منها عاد ضرراً عليهم.
ويقال طلبوا العِزَّ في أماكن الذل، فأخفقوا في الطلب، ونُفُوا عن المراد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨١:حكموا بظنهم الفاسدِ أنَّ أصنامَهم تمنعهم، وأنَّ ما عبدوه من دون الله تعالى توجِبُ عبادتهم لهم عند الله تعالى وسيلةً... وهيهات ! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق، بل إذا حُشِرُوا وحُشِرَتْ أصنامُهم تَبَرَّأَتْ أصنامُهم منهم، وما أمَّلُوا نفعاً منها عاد ضرراً عليهم.
ويقال طلبوا العِزَّ في أماكن الذل، فأخفقوا في الطلب، ونُفُوا عن المراد.

تؤزهم أي تزعجهم، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغُمَّة، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكينة، وهذه إحدى الدلائل بينهما.
الأنفاس في الحكم معدودة ؛ فمن لم يستوف فلا انقضاء لها. وإذا انتهى الأَجَلُ فلا تنفع بعد ذلك الحِيَلُ، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل.
قيل ركباناً على نجائب طاعاتهم، وهم مختلفون ؛ فَمِنْ راكبٍ على صدور طاعاته، ومن راكبٍ على مراكب هِمَمِه، ومن راكبٍ على نجائب أنواره. ومِنْ محمولٍ يحمله الحقُّ في عقباه كما يحمله اليومَ في دنياه. وليس محمولُ الحقِّ كمحمول الخَلْق !
فأولئك يُساقون بوصف العِزَّ، وهؤلاء يُساقون بنعت الذُّلِّ، فيجمعهم في السَّوْقِ، ولكن يُغَابر بينهم في معانيه. . . . فشتَّان ما هما ! !
وذلك العهدُ حِفْظُهم في دنياهم ما أُخِذَ عليهم - يومَ الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم.
ما أعظم بهتانَهم في مقالتهم ! وما أشدَّ جرأتَهم في قبيح حالتهم ! لكنَّ الصمديةَ متقدِّسِةٌ عن عائدٍ يعود إليها من زَيْنٍ بتوحيدِ مُوَحِّد، أو شَيْنٍ بإلحاد مُلْحِد. . . فما شاهت إِلاَّ وجوهُهم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يَتَجمَّلْ بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا القائل مقابلٌ من عاجلٍ أو آجل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:ما أعظم بهتانَهم في مقالتهم ! وما أشدَّ جرأتَهم في قبيح حالتهم ! لكنَّ الصمديةَ متقدِّسِةٌ عن عائدٍ يعود إليها من زَيْنٍ بتوحيدِ مُوَحِّد، أو شَيْنٍ بإلحاد مُلْحِد... فما شاهت إِلاَّ وجوهُهم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يَتَجمَّلْ بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا القائل مقابلٌ من عاجلٍ أو آجل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:ما أعظم بهتانَهم في مقالتهم ! وما أشدَّ جرأتَهم في قبيح حالتهم ! لكنَّ الصمديةَ متقدِّسِةٌ عن عائدٍ يعود إليها من زَيْنٍ بتوحيدِ مُوَحِّد، أو شَيْنٍ بإلحاد مُلْحِد... فما شاهت إِلاَّ وجوهُهم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يَتَجمَّلْ بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا القائل مقابلٌ من عاجلٍ أو آجل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:ما أعظم بهتانَهم في مقالتهم ! وما أشدَّ جرأتَهم في قبيح حالتهم ! لكنَّ الصمديةَ متقدِّسِةٌ عن عائدٍ يعود إليها من زَيْنٍ بتوحيدِ مُوَحِّد، أو شَيْنٍ بإلحاد مُلْحِد... فما شاهت إِلاَّ وجوهُهم بما خاضوا فيه من مقالهم، وما صاروا إليه من ضلالهم. كما لم يَتَجمَّلْ بما قاله الآخرون إلا القائل، وما عاد إلا القائل مقابلٌ من عاجلٍ أو آجل.
أنَّى بالولد وهو واحد ؟ ! وأَنَّى بالولادة ولا جنسَ له وجوباً ولا جوازاً ؟ !
﴿ لَّقَدْ أَحْصَاهُم. . . ﴾ : لا يَعْزُب عن عِلْمِه معلومٌ، ولا ينفكُّ عن قدرته - مما يصح أن يقال حدوثه - موهوم.
﴿ وَكُلُّهُمْ ءَاتيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً ﴾ لا خَدَمَ يصحبهم، ولا حَشَمَ يلحقهم، كلَّ بِنَفْسِهِ مشتغِلٌ، وعن غيره منفرد.
يجعل في قلوبهم وداً لله نتيجةً لأعمالهم الخالصة، وفي الخبر :" لا يزال العبد يتقربَ إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه ".
ويقال يجعل لهم الرحمن وداً في قلوب عباده، وفي قلوب الملائكة، فأهل الخير والطاعة محبوبون مِنْ كلِّ أحد من غير استحقاق بفعل.
الكلام واحد والخطاب واحد، وهو لقوم تيسير، ولآخرين تخويف وتحذير فطوبى لِمَنْ يُسِّر لما وفِّق به، والويل لمن خُوِّف بل خُذِلَ فيه. والقومُ بين موفقٍ ومَخْذُولٍ.
أثبتهم وأحياهم، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم، ثم بعد ذلك - لما شاء - أماتهم وأفناهم، فبادوا بأجمعهم، وهلكوا عن آخرهم، فلا كبير منهم ولا صغير، ولا جليل ولا حقير، وسَيُطَالبونَ - يومَ النشور - بالنقير والقطمير.
Icon