تفسير سورة الشعراء

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿طسم*﴾ لعله إشارة إلى الطهارة الواقعة بذي طوى من طور سيناء وطيبة ومكة وطيب ما نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يجمع ذلك كله - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرشد إلى ذلك، وإلى خلاص بني إسرائيل بما سمعه موسى عليه السلام من الكلام القديم، وبإتمام أمرهم بتهيئتهم للملك بإغراق فرعون وجنوده ونصرهم على من ناوأهم في ذلك الزمان بعد تطهيرهم بطول البلاء الذي أوصلهم إلى ذل العبودية، وذلك كله إشارة إلى تهديد قريش بأنهم إن لم يتركوا لددهم فعل بهم ما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال بأي وجه أراد. وخلص عباده منهم، وأعزهم على كل من ناوأهم.
ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل، وبين ذلك غاية البيان، وفصل الرحمن من عباد الشيطان، وأخبر أنه عم برسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميع الخلائق، وختم بشديد الإنذار
2
لأهل الإدبار، بعد أن قال ﴿فقد كذبتم﴾ وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم، كما كان في آخر سوة مريم، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان، والحفظ عن نوازل الحدثان، وكان ذلك أيضاً ربما أوجب أن يظن ظان، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال ﴿تلك﴾ أي الآيات العالية المرام، الحائزة أعلى مراتب التمام، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم ﴿ءايات الكتاب﴾ أي الجامع لكل فرقان ﴿المبين*﴾ أي الواضح في نفسه أنه معجز، وأنه من عند الله، وأن فيه كل معنى جليل، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها، فإن الإبانة هي الفصل والفرق، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفاً الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها - والله الموفق.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين، وختمت بما ذكر من الوعيد، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام،
3
وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه ﴿لعلك باخع نفسك﴾ - الآيتين، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: ﴿ولو شاء الله لجمعهم على الهدى﴾ [الأنعام: ٣٥]، ﴿ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها﴾ [السجدة: ١٣]، ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً﴾ [يونس: ٩٩]، ﴿ولو شاء الله ما فعلوه﴾ [الأنعام: ١٣٧] ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير ﴿أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾، ﴿وإذ نادى ربك موسى﴾ وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة، وتأنيساً له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفاً على فوت إيمان قومه؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب
4
وعظيم النعمة به فقال ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون﴾ فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها، وتعجز العقول عن تقديرها، ثم أخبر تعالى أنه ﴿بلسان عربي مبين﴾، ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال: ﴿وإنه لفي زبر الأولين﴾ وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: ﴿أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل﴾ كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال: ﴿ولو نزلناه على بعض الأعجمين﴾ - الآية، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب - مع أنه هدى ونور - قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى:
﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦]، ﴿وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم﴾ [التوبة: ١٢٥] فقال تعالى في هذا المعنى ﴿كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم﴾ الآيات، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه ﴿وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون﴾ أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه، بل هم معزولون عن السمع، مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى
5
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد المؤمنون - فقال: ﴿فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين﴾ ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين﴾ ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه، وأهلية ما تخيلوه، فقال: ﴿هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم﴾ ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما تقولوه، ثم هددكم وتوعدهم فقال: ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾ - انتهى.
ولما كان قد قدم في تلك أنه عم برسالته جميع الخلائق، وختم بالإنذار على تكذيبهم في تخلفهم، مع إزاحة جميع العلل، نفي كل خلل، وكان ذلك مما يقتضي شدة أسفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المتخلفين كما هو من مضمون ﴿إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً﴾ على ما تقدم. وذلك لما عنده صلى الله عليه سلم من مزيد الشفقة، وعظيم الرحمة، قال تعالى يسليه، ويزيل من أسفه ويعزيه، على سبيل الاستئناف، مشيراً إلى أنه لا نقص في إنذاره ولا في كتابه الذي ينذر به يكون سبباً لوقوفهم عن الإيمان. وإنما السبب في ذلك محض إرادة الله تعالى: ﴿لعلك باخع نفسك﴾ أي مهلكها غمّاً. وقاتلها أسفاً، من بخع الشاة
6
إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار ﴿أن﴾ أي لأجل أن ﴿لا يكونوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم ﴿مؤمنين*﴾ أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.
ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: ﴿إن نشأ﴾ وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: ﴿ننزل﴾ إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت
7
إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار ﴿أن﴾ أي لأجل أن ﴿لا يكونوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم ﴿مؤمنين*﴾ أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.
ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: ﴿إن نشأ﴾ وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: ﴿ننزل﴾ إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت
8
والقهر، قال: ﴿عليهم﴾ وقال محققاً للمراد: ﴿من السمآء﴾ أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، أشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال: ﴿آية﴾ أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على ﴿ننزل﴾ لأنه في معنى ﴿أنزلنا﴾ :﴿فظلت﴾ أي عقب الإنزال من غير مهلة ﴿أعناقهم﴾ التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر وألإعراض ﴿لها﴾ أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة ﴿خاضعين*﴾ جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطامن والسكون واللين ذلاً وانكساراً ﴿وما﴾ أي هذه صفتنا والحال أنه ما ﴿يأتيهم﴾ أي الكفار ﴿من ذكر﴾ أي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم ﴿من الرحمن﴾ أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم ﴿محدث﴾ أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله: ﴿إلا كانوا﴾ أي كوناً هو كالخلق لهم؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص إلى ما لهم من سعة الأفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال: ﴿عنه﴾ أي خاصة ﴿معرضين*﴾ أي إعراضاً هو صفة لهم لازمة.
9
ولما كان حال المعرض عن الشيء حال المكذب به قال: ﴿فقد﴾ أي فتسبب عن هذا الفعل منهم أنهم قد ﴿كذبوا﴾ أي حققوا التكذيب وقربوه كما تقدم آخر تلك، واستهزؤوا مع التكذيب بآياتنا.
ولما كان التكذيب بالوعيد سبباً في إيقاعه، وكان حالهم في تكذيبهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال المستهزىء لأن من كذب بشيء خف عنده قدره، فصار عرضة للهزء، قال مهدداً: ﴿فسيأتيهم﴾ سببه بالفاء وحققه بالسين، وقلل التنفيس عما في آخر الفرقان ليعلموا أن ما كذبوا به واقع. وأنه ليس موضعاً للتكذيب بوجه ﴿أَنْبَاءُ﴾ أي عظيم أخبار وعواقب ﴿ما﴾ أي العذاب الذي ﴿كانوا﴾ أي كوناً كأنهم جبلوا عليه ﴿به﴾ أي خاصة لشدة إمعانهم في حقه وحده ﴿يستهزءون*﴾ أي يهزؤون،
9
ولكنه عبر بالسين إشارة إلى أن حالهم في شدة الرغبة في ذلك الهزء حال الطالب له، وقد ضموا إليه التكذيب، فالآية من الاحتباك: ذكر التكذيب أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والاستهزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً.
ولما كانت رؤيتهم للآيات السماوية والأرضية الموجبة للانقياد والخضوع موجبة لإنكار تخلفهم عما تدعو إليه فضلاً عن الاستهزاء، وكان قد تقدم آخر تلك الحثُّ على تدبر بروج السماء وما يتبعها من الدلالات فكان التقدير: ألم يروا إلى السماء كم أودعنا في بروجها وغيرها من آيات نافعة وضارة كالأمطار والصواعق، عطف عليه ما ينشأ عن ذلك في الأرض في قوله معجباً منهم: ﴿أولم يروا﴾.
ولما كانوا في عمى عن تدبر ذلك، عبر للدلالة عليه بحرف الغاية فقال: ﴿إلى الأرض﴾ أي على سعتها واختلاف نواحيها وتربها؛ ونبه على كثرة ما صنع من جميع الأصناف فقال: ﴿كم أنبتنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فيها﴾ بعد أن كانت يابسة ميتة لا نبات بها ﴿من كل زوج﴾ أي صنف مشاكل بعضه لبعض، فلم يبق صنف يليق بهم في العاجلة إلا أكثرنا من الإنبات منه ﴿كريم*﴾ أي جم المنافع، محمود العواقب، لا خباثة فيه، من الأشجار والزروع وسائر النباتات على اختلاف ألوانها في زهورها وأنوارها، وطعومها وأقدراها،
10
ومنافعها وأرواحها - إلى غير ذلك من أمور لا يحيط بها حداً ولا يحصيها عداً، إلا الذي خلقها، مع كونها تسقى بماء واحد؛ والكريم وصف لكل ما يرضى في بابه ويحمد، وهو ضد اللئيم.
ولما كان ذلك باهراً للعقل منبهاً له في كل حال على عظيم اقتدار صانعه، وبديع اختياره، وصل به قوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإنبات، وما تقدمه من العظات على كثرته ﴿لآية﴾ أي علامة عظيمة جداً لهم على تمام القدرة على البعث وغيره، كافية في الدعاء إلى الإيمان، والزجر عن الطغيان، ولعله وحّدها على كثرتها إشارة إلى أن الدوالّ عليه متساوية الأقدام في الدلالة، فالراسخون تغنيهم واحدة، وغيرهم لا يرجعون لشيء ﴿و﴾ الحال أنه ﴿ما كان﴾ في الشاكلة التي خلقتهم عليها ﴿أكثرهم﴾ أي البشر ﴿مؤمنين*﴾ أي عريقين في الإيمان، لأنه ﴿ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون﴾ ﴿وإن﴾ أي والحال أن ﴿ربك﴾ أي الذي أحسن إليك بالإرسال، وسخر لك قلوب الصفياء، وزوى عنك اللد الأشقياء ﴿لهو﴾.
11
ولما كان المقام لإنزال الآية القاهرة، قدم قوله: ﴿العزيز﴾ أي القادر على كل من قسرهم على الإيمان والانتقام منهم ﴿الرحيم*﴾ في أنه لم يعاجلهم بالنقمة، بل أنزل عليهم الكتاب ترفقاً بهم، وبياناً لما يرضاه ليقيم به الحجة على من أريد للهوان، ويقبل بقلوب من يختصه منهم للإيمان، قال أبو حيان: والمعنى أنه عز في نقمته من الكفار، ورحم مؤمني كل أمة - انتهى. ومن هنا شرع سبحانه وتعالى في تمثيل آخر الفرقان في إظهار القدرة بالبطش عند النقمة حيث لم يشكر النعمة بأن أبى المدعو الإجابة لدعوه الرسل، وترك الداعي - عقب الانقياد من الشدائد - التضرع للمرسل، وقص أخبار الأمم على ما هي عليه بحيث لم يقدر أحد من أهل الكتاب الذين هم بين ظهرانيهم على إنكار شيء من ذلك، ومن ثم قرع أسماعهم، أول شيء بقصتهم من فرعون، وموسى عليه السلام، فصح قطعاً أن هذا الكتاب جلي الأمر، على القدر، ليس بكهانة، ولا شعر، كما سيؤكد ذلك عند إظهار النتيجة في آخرها، بل هو من عند رب العالمين، على لسان سيد المرسلين، وصح أن أكثر الخلق مع ذلك هالك وإن قام الدليل. ووضح السبيل. لأن سلك الذكر في قلوبهم شبيه في الضيق بنظم السهم فيما يرمى به، وصح أنه سبحانه يملي لهم وينعم عليهم بما فيه حياة أديانهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وما فيه حياة أبدانهم بالإيتاء من كل ما يحتاجونه إظهاراً لصفة الرحمة.
12
ثم ينتقم منهم بعد طول المهلة، وتماديهم في سكرات الغفلة، كشفاً لصفة العزة، كل ذلك تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخفيفاً وإعلاماً بأنه لا قصور في بيانه، ولا تقصير لديه.
ولما اقتضى وصف العزة الإهلاك، ووصف الرحمة الإمهال، وكان الأول مقدماً، وكانت عادتهم تقديم ما هم به أهم، وهو لهم أعنى، خيفت غائلته، فأتبع ذلك أخبار هذه الأمم، دلالة على الوصفين معاً ترغيباً وترهيباً، ودلالة على أن الرحمة سبقت الغضب، وإن قدم الوصف اللائق به، فلا يعذب إلا بعد البيان مع طول الإمهال، وأخلى قصة أبيهم إبراهيم عليه السلام من ذكر الإهلاك إشارة إلى البشارة بالرفق ببنيه العرب في الإمهال كما رفق بهم في الإنزال والإرسال، ولما كان مع ذلك في هذه القصة تسلية للنبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يقاسيه من الأذى والتكذيب، وكانت التسلية بموسى وإبراهيم عليهما السلام أتم، لما لهما من القرب، والمشاركة في الهجرة، والقصد إلى الأرض المقدسة، وكان قد اختص موسى عليه السلام بالكتاب الذي ما بعد القرآن مثله والآيات التي ما أتى بمثلها أجد قبله، وإقرار عينه بهداية قومه، وحفظهم
13
بعده بالكتاب، وسياسة الأنبياء المجددين لشريعته، وعدم استئصالهم بالعذاب والانتقام بأيديهم من جميع أعدائهم، وفتح بلاد الكفرة على أيديهم بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى غير ذلك مما شابهوا به هذه الأمة مع مجاورتهم للعرب حتى في دار الهجرة، وموطن النصرة، ليكون في إقرارهم على ما يسمعون من أخبارهم أعظم معجزة، وأتم دلالة، قدمهما مقدماً لموسى - عليهما السلام، والتحية والإكرام - فإن كان القصد تسكين ما أورثه آخر تلك من خوف الملازمة بالعذاب نظراً إلى وصف العزة، فالتقدير: اذكر أثر رحمتنا بطول إمهالنا لقومك - وهم على أشد ما يكون من الكفر والضلال في أيام الجاهلية - برحمتنا الشاملة بإرسالك إليهم وأنت أشرف الرسل، وإنزال هذا الكتاب الذي هو أعظم الكتب ﴿هو﴾ اذكر ﴿إذ﴾ وعلى تقدير التسلية يكون العطف على تلك لأن المراد بها التنبيه، فالتقدير: خذ آيات الكتاب واذكر إذ ﴿نادى ربك﴾ أي المحسن إليك بكل ما يمكن الإحسان به في هذه الدار، وعلى تقدير الترهيب يكون التقدير: أو لم يروا إذ نادى ربك، وعدّوا رائين لذلك لأن اليهود في بلادهم وفي حد القرب منهم، فإما أن يكونوا عالمين بالقصة بما سمعوه منهم، أو متهيئين
14
لذلك لإمكانهم من سؤالهم؛ ثم ذكر المنادى فقال: ﴿موسى﴾ وأتبعه ما كان له النداء فقال مفسراً لأن النداء في معنى القول: ﴿أن أئت القوم﴾ أي الذين فيهم قوة وأيّ قوة ﴿الظالمين*﴾ أي بوضعهم قوتهم على النظر الصحيح المؤدي للإيمان في غير موضعها.
15
ولما كان كأنه قيل: أي قوم؟ قال مبدلاً إشارة أن العبارتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم، لظلمهم أنفسهم بالكفرة وغيره، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد: ﴿قوم فرعون﴾.
ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى، وإعلامهم بجلاله، استأنف قوله معلماً بذلك في سياق الإنكار عليهم، والإيذان بشديد الغضب منهم، والتسجيل عليهم بالظلم، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه، وأنه قد طال إمهاله لهم وهو لا يزدادون إلا عتواً ولزوماً للموبقات: ﴿ألا يتقون*﴾ أي يحصل منهم تقوى.
ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم. لم يقبل، أخبر من تشوف إلى معرفة جوابه أنه أجاب بما يقتضي الدعاء بالمعونة، لما عرف من خطر هذا المقام، بقوله ملتفتاً إلى نحو ﴿يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً﴾ [الفرقان: ٣٠] ﴿قال رب﴾ أي أيها الرفيق بي
15
﴿إني أخاف أن يكذبون*﴾ أي فلا يترتب على إتياني إليهم أثر، ويبغون لي الغوائل، فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، ويجوز أن يريد ب (أخاف) أعلم أو (أظن)، فيكون «أن» مخففة، فيكون الفعلان معطوفين على «يكذبون» في قراءة الجمهور بالرفع مع جواز العطف على (أخاف) فيكون التقدير: ﴿و﴾ أخاف أنه، أو قال: إني ﴿يضيق صدري﴾ عند تكذيبهم أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالاً كما هو شأن أهل المروءات، وأرباب علو الهمم، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغاً ﴿ولا ينطلق﴾ ونصب يعقوب الفعلين عطفاً على ﴿يكذبون﴾ على أن (أن) ناصبة ﴿لساني﴾ أي في التعبير عما ترسلني إليهم به، لما فيه من الحبسة في الأصل بسبب تعقده لتلك الجمرة التي لدغته في حال الطفولية، فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة ﴿فأرسل﴾ أي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال ﴿إلى هارون﴾ أخي، ليكون رسولاً من عندك
16
فيكون لي عضداً على ما أمضى له من الرسالة فيعين على ما يحصل من ذلك، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل، لا على التعلل.
ولما ذكر ما تؤثره الرسالة، وقدم الإشارة إلى استكشافه لأنه أهم، أتبعه ما يترتب على مطلق التظاهر لهم فضلاً عن مواجهتهم بما يكرهون فقال: ﴿ولهم عليّ﴾ أي بقتلي نفساً منهم؛ وقال: ﴿ذنب﴾ وإن كان المقتول غير معصوم تسمية له بما يزعمونه، ولذلك قيده ب «لهم» وأيضاً فلكونه ما كان أتاه فيه من الله تعالى أمر بخصوصه ﴿فأخاف﴾ بسبب ذلك ﴿أن يقتلون﴾ أي بذلك، مع ما أضمه إليه من التعرض لهم، فلا أتمكن من أداء الرسالة، فإذا كان هارون معي عاضدني في إبلاغها، وكل ذلك استكشاف واستدفاع للبلاء، واستعلام للعافية، لا توقف في القبول - كما مضى التصريح به في سورة طه.
ولما استشرفت النفس غلى معرفة جوابه عن هذه الأمور المهمة شفى عناءها بقوله، إعلاماً بأنه سبحانه استجاب له في كل ما سأل: ﴿قال﴾ قول كامل القدرة شامل العلم كما هو وصفه سبحانه:
17
﴿كلا﴾ أي ارتدع عن هذا الكلام، فإنه لا يكون شيء مما خفت، لا قتل ولا غيره - وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام على الصدق من البراهين، المقوية لصاحبها، الشارحة لصدره، المعلية لأمره، عد عدماً - وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك ﴿فاذهبا﴾ أي أنت وهو متعاضدين، إلى ما أمرتك به، مؤيدين ﴿بآياتنا﴾ الدالة على صدقكما على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ثم علل تأمينه له بقوله: ﴿إنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿معكم﴾ أي كائنون عند وصولكما إليهم فيمن اتبعكما من قومكما؛ ثم أخبر خبراً آخر بقوله: ﴿مستمعون*﴾ أي سامعون بما لنا من العظمة في القدرة وغيرها من صفات الكمال، إلى ما تقولان لهم ويقولون لكما، فلا نغيب عنكم ولا تغيبون عنا، فنحن نفعل معكما من المعونة والنصر فعل القادر الحاضر لما يفعل بحبيبه المصغي له بجهده، ولذلك عبر بالاستماع؛ قال أبو حيان: وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط، لأن لفظة «مع» تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته - انتهى. وهو كلام نفيس مؤيد
18
بتقديم الظرف، ويكون حينئذ خطابهما مشاكلاً لتعظيم المتكلم سبحانه نفسه، لأن المقام للعظمة، وعظمة الرسول من عظمة المرسل، على أنه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البشارة بمن يتبعهما كما قدرته، ويجوز أن تكون المعية للكل كما في قوله تعالى: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ [المجادلة: ٧].
ولما نفى سبحانه أن يكون شيء مما خافه موسى عليه السلام على هذا الوجه المؤكد، وكان ظهور ذلك في مقارعة الرأس أدل وأظهر، صرح به في قوله: ﴿فأتيا﴾ أي فتسبب عن ذلك الضمان بالحراسة والحفظ أني أقول لكما: ائتيا ﴿فرعون﴾ نفسه، وإن عظمت مملكته، وجلّت جنوده ﴿فقولا﴾ أي ساعة وصولكما له ولمن عنده: ﴿إنا رسول﴾ أفرده مريداً به الجنس الصالح للاثنين، إشارة بالتوحيد إلى أنهما في تعاضدهما واتفاقهما كالنفس الواحدة، ولا تخالف لأنه إما وقع مرتين كل واحدة بلون، أو مرة بما يفيد التثنية والاتفاق، فساغ التعبير بكل منهما، ولم يثنّ هنا لأن المقام لا اقتضاء له للتنبيه على طلب نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤازرة بخلاف ما مر في سورة طه ﴿رب العالمين*﴾ أي المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم؛ ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير لأن الرسول
19
فيه معنى الرسالة التي تتضمن القول: ﴿أن أرسل﴾ أي خلّ وأطلق؛ وأعاد الضمير على معنى رسول فقال: ﴿معنا بني إسرائيل*﴾ أي قومنا الذين استبعدتهم ظلماً، ولا سبيل لك عليهم، نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان من المعلوم أنهما امتثلا ما أمرهما الله، فأتياه وقالا له ما أمرا به، تشوفت النفس إلى جوابه لهما، فقال تعالى التفاتاً إلى مثل قوله في التي قبلها ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام﴾ [الفرقان: ٧] ﴿وإن يتخذونك إلا هزواً﴾ [الأنبياء: ٣٦] ونحو ذلك تسلية لهذا النبي الكريم وتحقيقاً لمعنى قوله تعالى ﴿كلا﴾ و ﴿مستمعون﴾ من أن فرعون وإن بالغ في الإبراق والإرعاد لا يروع موسى عليه السلام شيء منه: ﴿قال﴾ أي فرعون حين أبلغاه الرسالة مخاطباً لموسى عليه السلام علماً منه أنه الأصل فيها، وأخوه إنما هو وزير، منكراً عليه مواجهته بمثل هذا ومانّاً عليه ليكف من جرأته بتصويب مثل هذا الكلام إليه: ﴿ألم نربك﴾ أي بعظمتنا التي شاهدتها ﴿فينا وليداً﴾ أي صغيراً قريب عهد بالولادة ﴿ولبثت فينا﴾ أي لا في غيرنا، باعتبار انقطاعك إلينا، وتعززك في الظاهر بنا
20
﴿من عمرك سنين*﴾ أي كثيرة، فلنا عليك بذلك من الحق ما ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدة مقامه عنده بأنها كانت نكده لأنه وقع فيما كان يخافه، وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال.
21
ولما ذكّره منة تحمله على الحياء منه، ذكّره ذنباً هو أهل لأن يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية عنه: ﴿وفعلت فعلتك﴾ أي من قتل القطبي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال: ﴿التي فعلت وأنت﴾ أي والحال أنك ﴿من الكافرين*﴾ أي لنعمتي وحق تربيتي بقتل من ينسب إليّ، أو عده منهم لسكوته عنهم إذا ذاك، لأنه لم يكن قبل الرسالة مأموراً فيهم بشيء، فكان مجاملاً لهم، فكأنه قال: وأنت منا. فما لك الآن تنكر علينا وتنسبنا إلى الكفر؟ ﴿قال﴾ مجيباً له على طريق النشر المشوش، واثقاً بوعد الله بالسلامة مقراً بما دندن عليه من القتل لأنه لم يكن متحققاً لذلك، وما ترك قتله إلا التماساً للبينة: ﴿فعلتها إذاً﴾ أي إذ قتلته ﴿وأنا من الضالين*﴾
21
أي لا أعرف ديناً، فأنا واقف عن كل وجهة حتى يوجهني ربي إلى ما يشاء - قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال - انتهى. وقد تقدم في الفاتحة للحرالي في هذا الكلام نفيس - على أن هذه الفعلة كانت مني خطأ ﴿ففررت﴾ أي فتسبب عن فعلها وتعقبه أني فررت ﴿منكم﴾ أي منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ ﴿لما خفتكم﴾ على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأ مع كونه كافراً مهدر الدم ﴿فوهب لي ربي﴾ الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة مما أحدثتم من الظلم خوفاً مني ﴿حكماً﴾ أي علماً أعمل به عمل الحكام الحكماء ﴿وجعلني من المرسلين*﴾ أي فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره.
ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأ بجوابه عن التعيير لأنه الأخير فكان أقرب، ولأنه أهم، ثم عطف عليه جوابه عما منّ به، فقال موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب: ﴿وتلك﴾ أي التربية الشنعاء العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها ﴿نعمة تمنها عليّ﴾.
22
ولما كان سببها ظلمه لقومه، جعله نفسها فقال مبدلاً منها تنبيهاً على إحباطها، وإعلاماً بأنها - بكونها نقمة - أولى منها في عدها نعمة: ﴿أن عبدت﴾ أي تعبيدك وتذليلك على ذلك الوجه البديع المبعد قومي ﴿بني إسرائيل*﴾ أي جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهو أبناء الأنبياء، ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة - بإحياء نفوسكم أولاً، وعتق رقابكم ثانياً - ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً، ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد، فأمرت بقتل أبنائهم، فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك - كما مر بيانه ويأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في سورة القصص.
ولما كلم اللئيم الذميم الكليم العظيم بما رجا أن يكفه عن مواجهته بما يكره، ويرجعه إلى مداراته. فلم يفعل، وفهم ما في جوابه هذا الأخير من الذم له والتعجيز، وإثبات القدرة التامة والعلم الشامل لله، بما دبر في أمر موسى عليه السلام، وأنه لا ينهض لذلك بجواب ولا يحمد له فيه قول، عدل عنه إلى جوابه عن الرسالة بما يموه به أيضاً على قومه لئلا يرجعوا عنه، فأخبر تعالى عن محاورته في ذلك بقوله على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما قال له جواباً لهذا الكلام، الذي كأنه السهام؟ :﴿قال فرعون﴾ حائداً عن جواب
23
موسى عليه السلام لما فيه من تأنيبه وتعجيزه. منكراً لخالقه على سبيل التجاهل، كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهو أعرف الناس بغالب أفعاله، كما كان فرعون يعرف، لقول موسى عليه السلام ﴿لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض﴾ [الإسراء: ١٠٢] :﴿وما رب العالمين*﴾ أي الذي زعمت أنكما رسوله. فسأل ب «ما» عن حقيقته وإنما أراد في الحقيقة إنكاره.
ولما كان تعريف حقيقته سبحانه بنفسها محالاً لعدم التركيب، فكان تعريفها لا يصح إلا بالخارج اللازم الجلي، تشوف السامع إلى ما يجيب به عنه، فاستأنف قوله إخباراً عنه: ﴿قال﴾ أي موسى معرضاً عن التعريف بغير الأفعال إعلاماً بأنه لا شبيه له، وأنه مباين وجوده لوجود كل شيء سواه، معرفاً له سبحانه بأظهر أفعاله مما لا يقدر أحد على ادعاء المشاركة فيه، مشيراً إلى خطابه في طلب الماهية بأنه لا مماثل له: أقول لك ولمن أردت بطلب الحقيقة التمويه عليهم: هو ﴿رب﴾ أي خالق ومبدع ومدبر ﴿السماوات﴾ كلها ﴿والأرض﴾ وإن تباعدت أجرامها بعضها عن بعض ﴿وما بينهما﴾ وذلك أظهر العالم الذي هو صنعته وأنتم غير مستغنين عنه طرفة عين، فهذه هي المنة، لا منتك عليّ بالتربية إلى
24
حين استغنيت عنك، وهذا هو الاستبعاد بالإحسان، مع العصيان بالكفران، لا استبعادك لقومي بإهلاكهم وهم في طاعتك، ولسلفهم عليكم من المنة ما لا تجهلونه ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً راسخاً ﴿موقنين*﴾ أي متصفين بما عليه أهل العلم بأصول الدين من الثقة بما تعتقدون اتصافاً ثابتاً، والجواب: علمتم ذلك، وعلمتم أنه لا جواب أسد منه، لأن المذكور متغير، فله مغير لا يتغير، وهو هذا الذي أرسلناه، أي إن كان لكم يقين فأنتم تعرفونه، لشدة ظهوره، وعموم نوره ﴿قال﴾ أي فرعون ﴿لمن حوله﴾ من أشراف قومه مموهاً أيضاً: ﴿ألا تستمعون*﴾ أي تصغون إليه بجميع جهدكم، وهو كلام ظاهره أنه نبههم عن الإنكار، لأنه سأل عن الماهية، فأجيب بغيرها، ويحتمل غير ذلك لو ضويق فيه، فهو من خفيّ مكره.
25
ولما وبخ اللعين في جوابه، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلوق، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه، استأنف الشفاء لعيّ هذا السؤال بقوله: ﴿قال﴾ أي موسى، مخصصاً بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود أفراده بعد أن لم تكن: ﴿ربكم﴾ أي الموجد لكم والمربي والمحسن ﴿ورب آبائكم الأولين*﴾
25
وفرعون - الذي تقرون بأنه ربكم - كان إذ ذاك عدماً محضاً، أو ماء صرفاً في ظهر أبيه، فبطل كون أحد منهم رباً لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربّاً لهم، لأن الكل عدم.
فلما أوضح بذلك بطلان ما حملهم على اعتقاده من ربوبيته لم يتمالك أن ﴿قال إن رسولكم﴾ على طريق التهكم، إشارة إلى أن الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس، ثم زاد الأمر وضوحاً بقوله: ﴿الذي أرسل إليكم﴾ أي وأنتم أعقل الناس ﴿لمجنون﴾ حيث لا يفهم أني أساله عن حقيقة مرسله فكف يصلح للرسالة من الملوك.
فلما أساء الأدب، فاشتد تشوف السامع إلى معرفة جوابه عنه، استأنف تعالى الإخبار بذلك، فحكى أنه ذكر له ما لا يمكنه أن يدعي طاعته له، وهو أكثر تغيراً وأعجب تنقلاً بأن ﴿قال رب المشرق والمغرب﴾ أي الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما ﴿وما بينهما﴾ أي من الناس الذين ليسوا في طاعتكم، والحيوان والجماد، بسبب ما ترون من قدرته على تقليب النيرات من بزوغ الشمس والقمر والنجوم وأفولها وما يظهر عنهما من الليل والنهار على تصاريف مختلفة، وحركات متقاربة
26
لولا هي لما علمتم شيئاً من أموركم، ولا تمكنتم من أحوالكم، وهذا الدليل أبين الكل لتكرر الحركة فيه وغير ذلك من معالمه، ولذلك بهت نمرود لما ألقاه عليه الخليل عليه الصلاة والسلام.
ولما دعاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللين فأساء الأدب عليه في الجواب الماضي، ختم هذا البرهان بقوله: ﴿إن كنتم تعقلون﴾ أي فأنتم تعلمون ذلك، فخيرهم بين الإقرار بالجنون أو العقل، بما أشار إليه من الأدلة في مقابلة ما نسبوه إليه من الجنون بسكوتهم وقول عظيمهم بغير شبهة، رداً لهم عن الضلالة، وإنقاذاً من واضح الجهالة، فكان قوله أنكأ مع أنه ألطف، وأوضح مع أنه أستر وأشرف.
فلما علم أنه قد قطعه بما أوضح من الأمر، ووصل معه في الغلظة إلى ما إن سكت عنه أوهن من حاله، وفتر من عزائم رجاله، تكلم بما السكوت أولى منه، فأخبر تعالى بقوله: ﴿قال﴾ عادلاً عن الحجاج بعد الخوض فيه إلى المغالبة التي هي أبين علامات الانقطاع: ﴿لئن اتخذت إلهاً غيري﴾ أي تعمدت أخذه وأفردته بتوجيه جميع قصدك إليه ﴿لأجعلنك من المسجونين﴾ أي واحداً ممن هم في سجوني على ما تعلم من حالي في اقتداري، ومن
27
سجوني في فظاعتها، ومن حال من فيها من شدة الحصر، والغلظ في الحجر ﴿قال﴾ مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان، لإرادة البيان، حتى لا يبقى عذر لإنسان، رجاء النزوع عن الطغيان، والرجوع إلى الإيمان، لأن من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف، والرجوع إلى الحق والاعتراف ﴿أولو﴾ أي أتسجنني ولو ﴿جئتك بشيء مبين*﴾ أي لرسالتي ﴿قال﴾ طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس: ﴿فأت به﴾ أي تسبب عن قولك هذا أني أقول لك: ائت بذلك الشيء ﴿إن كنت﴾ أي كوناً أنت راسخ فيه ﴿من الصادقين*﴾ أي فيما ادعيت من الرسالة والبينة، وهذا إشارة إلى أنه بكلامه المتقدم قد صار عنده في غير عدادهم، ولزم عليه أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق لأنها تصديق من الله للمدعي، وعادته سبحانه وتعالى جارية في أنه لا يصدق الكاذب ﴿فألقى﴾ أي فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى.
ولما كان الكلام مع موسى عليه السلام، فكان إضماره غير ملبس، لم يصرح باسمه اكتفاء بضميره فقال: ﴿عصاه﴾ أي التي تقدم في غير سورة أن الله تعالى أراه آياتها ﴿فإذا هي ثعبان﴾ أي حية في غاية الكبر ﴿مبين*﴾ أي ظاهر الثعبانية، لا شك عند رائية فيه، لا كما يكون عند الأمور السحرية من التخييلات والتشبيهات
28
﴿ونزع يده﴾ أي التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجز عن إبرائها، نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه ﴿فإذا هي﴾ بعد النزع ﴿بيضاء للناظرين*﴾ أي بياضاً تتوفر الدواعي على نظره لخروجه عن العادة بأن له نوراً كنور الشمس يكاد يغشي الأبصار ﴿قال﴾ أي فرعون ﴿للملأ حوله﴾ لما وضح له الأمر، يموه على عقولهم خوفاً من إيمانهم: ﴿إن هذا لساحر عليم*﴾ أي شديد المعرفة بالسحر، وخص في هذه السورة إسناداً هذا الكلام إليه لأن السياق كله لتخصيصه الخطاب لما تقدم، ونظراً إلى ﴿فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾ لأن خضوعه هو خضوع من دونه، فدلالته على ذلك أظهر، ولا ينفي ذلك أن يكون قومه قالوه إظهاراً للطواعية - كما مضى في الأعراف.
29
ولما أوقفهم بما خيلهم به، أحماهم لأنفسهم فقال ملقياً لجلباب الأنفة لما قهره من سلطان المعجزة: ﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم﴾ أي هذه التي هي قوامكم ﴿بسحره﴾ أي بسبب ما أتى به منه، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد بهم؛ ثم قال لقومه - الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم - ما دل على أنه خارت قواه،
29
فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية، وارتعدت فرائصه حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً: ﴿فماذا تأمرون*﴾ أي في مدافعته عما يريد بنا ﴿قالوا﴾ أي الملأ الذين كانوا يأتمرون به قبل الهجرة ليقتلوه: ﴿أرجه﴾ أي أخره ﴿وأخاه﴾ ولم يأمروا بقتله ولا بشيء مما يقاربه - فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه ﴿وابعث في المدائن حاشرين*﴾ أي رجالاً يحشرون السحرة، وأصل الحشر الجمع بكرة ﴿يأتوك﴾ وكأنهم فهموا شدة قلقه فسكنوه بالتعبير بأداة الإحاطة وصيغة المبالغة فقالوا: ﴿بكل سحار﴾ أي بليغ السحر ﴿عليم*﴾ أي متناه في العلم به بعد ما تناهى في التجربة؛ وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى عظمة ملكه فقال: ﴿فجمع﴾ أي بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة ﴿السحرة﴾ كما تقدم غير مرة ﴿لميقات يوم معلوم*﴾ في زمانه ومكانه، وهو ضحى يوم الزينة كما سلف في طه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وافق يوم السبت في أول يوم من سنتهم، وهو يوم النيروز. ﴿وقيل﴾ أي بقول من يقبل لكونه عن فرعون ﴿للناس﴾ أي كافة حثاً لهم على الإسراع إلى الاجتماع بأمر فرعون، وامتحاناً لهم هل رجعوا عن دينه، علماً منه بأن ما ظهر من المعجزة -
30
التي منها عجزه عن نوع أذى لمن واجهه بما لا مطمع في مواجهته بأدناه - لم يدع لبساً في أنه مربوب مقهور، وأن ذلك موجب لا تباع موسى عليه السلام: ﴿هل أنتم مجتمعون*﴾ أي اجتماعاً أنتم راسخون فيه لكونه بالقلوب كما هو بالأبدان، كلكم ليكون أهيب لكم، وزين لهم هذا القائل البقاء على ما كانوا عليه من الباطل بذكر جانب السحرة وإن كان شرط فيه الغلبة، ولم يسمح بذكر جانب موسى عليه السلام فقال: ﴿لعلنا نتبع السحرة﴾ لأن من امتثل أمر الملك كان حاله حال من يرجى منه اتباع حزبه ﴿إن كانوا هم﴾ أي خاصة ﴿الغالبين*﴾ أي غلبة لا يشك في أنها ناشئة عن مكنة نعرض عن أمر موسى الذي الذي تنازع الملك في أمره، وهذا مرادهم في الحقيقة، وعبر بهذا كناية عنه لأنه أدل على عظمة الملك، وعبر بأداة الشك إظهاراً للإنصاف، واستجلاباً للناس، مع تقديرهم لقطعهم بظفر السحرة.
لما رسخ في أذهانهم في الأزمنة المتطاولة من الضلال الذي لا غفلة لإبليس عن تزيينه مع أن تغيير المألوف أمر في غاية العسر. وقال: ﴿فلما﴾ بالفاء إيذاناً بسرعة حشرهم، إشارة إلى ضخامة ملكه. ووفور عظمته ﴿جاء السحرة﴾ أي الذين كانوا في جميع بلاد مصر ﴿قالوا لفرعون﴾ مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد، ونجاح القصد ﴿أئِنََّ لنا لأجراً﴾
31
وساقوه مساق الاستفهام أدباً معه، وقالوا: ﴿إن كنا﴾ أي كوناً نحن راسخون فيه ﴿نحن﴾ خاصة ﴿الغالبين*﴾ بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له؛ ثم قيل في جواب من كأنه سأل عن جوابه: ﴿قال﴾ مجيباً إلى ما سألوه: ﴿نعم﴾ أي لكم ذلك، وزادهم ما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً له فقال: ﴿وإنكم إذاً﴾ أي إذا غلبتم ﴿لمن المقربين*﴾ أي عندي، وزاد ﴿إذاً﴾ هنا زيادة في التأكيد لما يتضمن ذلك من إبعاده عن الإيمان من وضوح البرهان، تخفيفاً على المخاطب بهذا كله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تسلية له في الحمل على نفسه أن لا يكون من يدعوهم مؤمنين، وما بعد ذلك من مسارعة السحرة للإيمان - بعد ما ذكر من إقسامهم بعزته بغاية التأكيد - تحقيق لآية ﴿فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾.
ولما تشوف السامع إلى جواب نبي الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام أجيب بقوله: ﴿قال لهم موسى﴾ عليه السلام، أي مريداً لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقائهم، لا لمجرد إلقائهم، غير مبال بهم في كثرة ولا علم بعد ما خيروه - كما في غير هذه السورة: ﴿ألقوا ما أنتم ملقون*﴾ كائناً ما كان، ازدراء له بالنسبة إلى أمر الله ﴿فألقوا﴾ أي فتسبب عن قول موسى عليه السلام وتعقبه أن ألقوا ﴿حبالهم وعصيهم﴾ التي أعدوها للسحر ﴿وقالوا﴾ مقسمين:
32
﴿بعزة فرعون﴾ مؤكدين بأنواع التأكيد ﴿إنا لنحن﴾ أي خاصة لا نستثني ﴿الغالبون*﴾ قول واثق من نفسه مزمع على أن لا يدع باباً من السحر يعرفه إلا أتى به، فكل من حلف بغير الله كأن يقول: وحياة فلان، وحق رأسه - ونحو ذلك، فهو تابع لهذه الجاهليه.
33
ولما قدم إضمار اسم موسى عليه السلام في الإلقاء الأول لأن الكلام كان معه، فلم يكن إلباس في أنه الفاعل. وكان الكلام هنا في السحرة، وختموا بذكر فرعون وعزته، صرح باسم موسى عليه الصلاة والسلام لنفي اللبس فقال: ﴿فألقى﴾ أي فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى ﴿موسى﴾ وقابل جماعة ما ألقوه بمفرد ما ألقى، لأنه أدل على المعجزة، فقالك ﴿عصاه﴾ أي التي جعلناها آية له، وتسبب عن إلقائه قوله: ﴿فإذا هي تلقف﴾ أي تبتلع في الحال بسرعة ونهمة ﴿ما يأفكون*﴾ أي يصرفونه عن وجهه وحقيقته التي هي الجمادية بحيلهم وتخييلهم إلى ظن أنه حيات تسعى ﴿فألقي﴾ أي عقب فعلها من غير تلبث ﴿السحرة ساجدين*﴾ أي فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم، علماً منهم بأن هذا من عند الله، فأمسوا أتقياء بررة، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة.
ولما كان كأنه قيل: هذا فعلهم، فما كان قولهم؟ قيل:
33
﴿قالوا آمنا برب العالمين*﴾ أي الذي دعا إليه موسى عليه السلام أو ما تكلم؛ ثم خصوه كشفاً لتلبيس فرعون بما لا يحتمل غيره فقالوا بياناً: ﴿رب﴾ ولم يدع داع هنا إلى العدول عن الأصل، فقال عبارة عن كلامهم: ﴿موسى وهارون*﴾ أي اللذين أحسنا إلينا بالتنبيه عليه، والهداية إليه، وصدقهما بما أجرى على أيديهما.
ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم، لما يرون مما هالهم من أمرهم، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه، قال تعالى مخبراً عنه: ﴿قال﴾ من غير ذكر الفاعل - أي فرعون - لعدم اللبس، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحه منه، منكراً مبادراً موهماً لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن، لا على نفس الفعل، وأنه ما غرضه إلا التثبت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما ﴿آمنتم له﴾ أي لموسى عليه السلام، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرساله، وحقيقة الكلام: أوقعتم التصديق بما أخبر به عن الله لأجله إعظاماً له بذلك ﴿قبل أن ءاذن لكم﴾ أي في الإيمان؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع، لا عن حسن اتباع، فقال: ﴿إنه﴾ أي
34
موسى عليه السلام ﴿لكبيركم﴾.
ولما كان هذا مشعراً بنسبته له إلى السحر، وأنه أعلم منهم به، فلذلك غلبهم، أوضحه بقوله: ﴿الذي علمكم السحر﴾ فتواعدتم معه على هذا الفعل، لتنزعوا الملك من أربابه، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعاً، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته، واستمرّ حتى فر منهم إلى مدين، لا يعلم سحراً، ولا ألم بساحر، ولا سافر إلا إلى مدين، ثم لم يرجع إلا داعياً إلى الله، ولكن الكذب غالب على قطر مصر، وأهلها اسرع شيء سماعاً له وانقياداً به.
ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة، أكد المنع بالتهديد فقال: ﴿فلسوف تعلمون*﴾ أي ما أفعل بكم، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع؛ ثم فسر ما أبهم بقوله: ﴿لأقطعن﴾ بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين ﴿أيديكم وأرجلكم﴾ ثم بين كيفية تقطيعها فقال: ﴿من خلاف﴾ وزاد في التهويل فقال: ﴿ولأُصلبنكم أجمعين*﴾
35
ثم استأنف تعالى حكاية جوابهم بقوله: ﴿قالوا﴾.
ولما كان قد تقدم هنا أنهم أثبتوا له عزة توجب مزيد الخوف منه، حسن قولهم: ﴿لا ضير﴾ أي لا ضرر أصلاً علينا تحصل به المكنة منا فيما هددتنا به، بل لنا في الصبر عليه إن وقع أعظم الجزاء من الله، ورد النفي الشامل في هذه السورة إيذاناً بأنه لم يقدر فرعون على عذابهم، تحقيقاً لما في أول القصة من الإشارة إلى ذلك ب ﴿كلا﴾ و ﴿مستمعون﴾ فإن الإمكان من تابعي موسى عليه السلام يؤذيه ويضيق صدره، ولما يأتي من القصص من صريح العبارة في قوله ﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾. ثم عللوا ذلك بقولهم: ﴿إنا﴾ أي بفعلك ذلك فينا إن قدرك الله عليه ﴿إلى ربنا﴾ أي المحسن إلينا وحده ﴿منقلبون*﴾ أي ولا بد لنا من الموت، فلنكن على ما حكم به ربنا من الحالات، وإنما حكمك على هذا الجسد ساعة من نهار، ثم لا حكم على الروح إلا الله الذي هو جدير بأن يثيبنا على ذلك نعيم الأبد. وذلك معنى قولهم معللين ما قبله: ﴿إنا نطمع أن يغفر﴾ اي يستر ستراً بليغاً ﴿لنا ربنا﴾ الذي أحسن إلينا بالهداية ﴿خطايانا﴾ أي التي قدمناها على كثرتها؛ ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم: ﴿أن كنا﴾ أي كوناً هو لنا كالجبلة ﴿أول المؤمنين*﴾ أي من أهل هذا المشهد، وعبروا بالطمع إشارة إلى أن جميع أسباب السعادة منه تعالى،
36
فكأنه لا سبب منهم أصلاً.
37
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به، عاطفاً على هذه القصة: ﴿وأوحينا﴾ أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود ﴿إلى موسى أن أسر﴾ أي سر ليلاً، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم ﴿بعبادي﴾ أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله: ﴿إنكم متبعون*﴾ أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر،
37
ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.
ولما كان التقدير: فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل، عطف عليه قوله: ﴿فأرسل فرعون﴾ أي لما أصبح وأعلم بهم ﴿في المدائن حاشرين*﴾ أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم: ﴿إن هؤلاء﴾ إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا، لما بهم من العجز، وبآل فرعون من القوة، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم ﴿لشرذمة﴾ أي طائفة وقطعة من الناس.
ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه أيضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضاً إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد. وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة
38
لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال: ﴿قليلون*﴾ أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى.
وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة.
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال: ﴿وإنهم لنا﴾ ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة ﴿لغائظون*﴾ أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.
ولما كان مدار مادة «شرذم» على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن
39
في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: ﴿وإنا لجميع﴾ أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب «قليلون» من الاستضعاف فقال: ﴿حاذرون*﴾ أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده،
40
والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.
ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم: ﴿فأخرجناهم﴾ أي بما لنا من القدرة، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه ﴿من جنات﴾ أي بساتين يحق لها أن تذكر ﴿وعيون*﴾ لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر ﴿وكنوز﴾ من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد ﴿ومقام﴾ من المنازل ﴿كريم*﴾ أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.
41
ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة
41
عليه بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقاً لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها ﴿وأورثناها﴾ أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل ﴿بني إسرائيل*﴾ أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان ﴿قوماً آخرين﴾.
ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة: ﴿فأتبعوهم﴾ أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم ﴿مشرقين*﴾ أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا
42
إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق ﴿فلما تراءى الجمعان﴾ أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر ﴿قال أصحاب موسى﴾ ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال: إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل، وذلك محق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم ب «أصحاب» دون «بني إسرائيل» لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم: ﴿إنا لمدركون*﴾ أي لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء، العدو وراءنا والماء أمامنا ﴿قال﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله، ناطقاً بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله: ﴿كلا﴾ أي لا يدركونكم أصلاً؛ ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله: ﴿إن معي ربي﴾ فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: ﴿سيهدين*﴾ أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم، وتقدم في براءة سر تقديم المعية وخصوصها والتعبير باسم الرب ﴿فأوحينا﴾ أي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه
43
فقال: ﴿إلى موسى﴾ وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله: ﴿أن اضرب بعصاك البحر﴾ أي الذي أمامكم، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها ﴿فانفلق﴾ أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر الله وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم ﴿فكان كل فرق﴾ أي جزء وقسم عظيم منه ﴿كالطود﴾ أي الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان ﴿العظيم*﴾ المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل، لأن الماء كان منبسطاً في أرض البحر، فلما انفرق وانكشفت فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء.
ولما كان التقدير: فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق، عطف عليه: ﴿وأزلفنا﴾ أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام؛ قال البغوي. قال أبو عبيدة: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، أي ليلة الجمع.
ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال: ﴿ثم﴾ أي هنالك، فإنها ظرف مكان للبعيد ﴿الآخرين*﴾ أي فرعون وجنوده ﴿وأنجينا موسى ومن معه﴾ وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم ﴿أجمعين*﴾ أي لم نقدر على أحد
44
منهم الهلاك.
ولما كان الإغراق بما به الإنجاء - مع كونه أمراً هائلاً - عجيباً وبعيداً عبر بأداة البعد فقال: ﴿ثم أغرقنا﴾ أي إغراقاً هو على حسب عظمتنا ﴿الآخرين*﴾ أي فرعون وقومه اجمعين، لم يفلت منهم أحد.
ولما قام عذر موسى عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة على مكنتهم في أنفسهم، وعظمته في قلوبهم، رغبة ورهبة، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة، وزاد ما أقر به العيون، وشرح به الصدرو، وكان ذلك أمراً يهز القوى سماعه، ويروع الأسماع تصوره وذكره، قال منبهاً على ذلك: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات ﴿لآية﴾ أي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار، قادر على كل شيء، وأنه رسوله حقاً ﴿وما كان أكثرهم﴾ أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها ﴿مؤمنين﴾ لله أي متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون
45
والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام - على ما يقال، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلاً يتعنت كل قليل، ويقول ويفعل ما هو كفر، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً الأصنام التي مروا عليها، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف، وأمرهم مشاهد مكشوف ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بإعلاء أمرك، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك ﴿لهو العزيز﴾ أي القادر على الانتقام من كل فاجر ﴿الرحيم*﴾ أي الفاعل فعل البليغ الرحمة، فهو يمهل ويدر النعم، ويحوط من النقم، ولا يمهل، بل يرسل رسلاً، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه، فلا يهلك إلا بعد الإعذار، فلا تستوحش ممن لم يؤمن، ولا يهمنك ذلك.
46
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة موسى عليه السلام، أتبعه دلالة على رحيميته قصة إبراهيم عليه السلام لما تقدم أنه شاركه فيه مما يسلي عما وقع ذكره عنهم من التعنتات في الفرقان، ولما اختص به من مقارعة أبيه وقومه في الأوثان، وهو أعظم آباء العرب، ليكون ذلك حاملاً لهم
46
على تقليده في التوحيد إن كانوا لا ينفكون عن التقليد، وزاجراً عن استعظام تسفيه آبائهم في عبادتها، وتعبيره سبحانه للسياق قبل وبعد، وتعبيره بقوله: ﴿واتل﴾ أي اقرأ قراءة متتابعة - مرجح للتقدير الأول في ﴿وإذ﴾ من جعله «اذكر» وتغييره في التعبير بها لسياق ما تقدم وما تأخر لتنبيه العرب على اتباعه لما لهم به من الخصوصية ﴿عليهم﴾ أي على هؤلاء المغترين بالأوثان، المنكرين لرسالة البشر ﴿نبأ إبراهيم*﴾ أي خبره العظيم في مثل ذلك ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لأبيه وقومه﴾ منبهاً لهم على ضلالهم، لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم: ﴿ما﴾ أي أي شيء، وصور لهم حالهم تنبيهاً لهم على قباحتها فعبر بالمضارع فقال: ﴿تعبدون*﴾ أي تواظبون على عبادته ﴿قالوا﴾ مبتهجين بسؤاله، مظهرين الافتخار في جوابهم بإطالة الكلام: ﴿نعبد أصناماً فنظل﴾ أي فيتسبب عن عبادتنا لها أنا نوفي حق العبادة بأن ندوم ﴿لها عاكفين*﴾ أي مطيفين بها على سبيل الموظبة متراكمين بعضنا خلف بعض حابسين أنفسنا تعظيماً
47
لها، فجروا على منوال هؤلاء في داء التقليد الناشىء عن الجهل بنفس العبادة وبظنهم مع ذلك أنهم على طائل كبير، وأمر عظيم، ظفروا به، مع غفلة الخلق عنه - كما دل عليه خطابهم في هذا الكلام الذي كان يغني عنه كلمة واحدة، وهذا هو الذي أوجب تفسير الظلول بمطلق الدوام وإن كان معناه الدوام بقيد النهار، وكأنهم قصدوا بما يدل على النهار - الذي هو موضع الاشتغال والسهرة - الدلالة على الليل من باب الأولى، مع شيوع استعماله أيضاً مطلقاً نحو ﴿فظلت أعناقهم لها خاضعين﴾، وزاد قوم إبراهيم عليه السلام أن استمروا على ضلالهم وأبوه معهم فكانوا حطب النار، ولم يتكمن من إنقاذهم من ذلك، ولم تكن لهم حيلة إلا دعاؤهم، فهو أجدر بشديد الحزن وببخع نفسه عليهم وهو موضع التسلية.
ولما فهم عنهم هذه الرغبة، أخذ يزهدهم فيها بطريق الاستفهام الذي لا أنصف منه عن أوصاف يلجئهم السؤال إلى الاعتراف بسلبها عنهم، مع كل عاقل إذا تعقل أن لا تصح رتبة الإلهية مع فقد واحدة منها، فكيف مع فقدها كلها؟ فقال تعالى مخبراً عنه: ﴿قال﴾ معبراً عنها إنصافاً بما يعبر به عن العقلاء لتنزيلهم إياها منزلتهم:
48
﴿هل يسمعونكم﴾ أي دعاءكم مجرد سماع؛ ثم صور لهم حالهم ليمنعوا الفكر فيه، فقال معبراً بظرف ماض وفعل مضارع تنبيهاً على استحضار جميع الزمان ليكون ذلك أبلغ في التبكيت: ﴿إذ تدعون*﴾ أي استحضروا أحوالكم معهم من أول عبادتكم لهم وإلى الآن: هل سمعوكم وقتاً ما؟ ليكون ذلك مرجياً لكم لحصول نفع منهم في وقت ما.
ولما كان الإنسان قد يعكف على الشيء - وهو غير سامع - لكن لنفعه له في نفسه أو ضره لعدوه كالنار مثلاً، وكان محط حال العابد والداعي بالقصد الأول بالذات جلب النفع، قال: ﴿أو ينفعونكم﴾ أي على العبادة كما ينفع أقل شيء تقتنونه ﴿أو يضرون*﴾ على الترك: ﴿قالوا﴾ : لا والله! ليس عندهم شيء من ذلك ﴿بل وجدنا آباءنا كذلك﴾ أي مثل فعلنا هذا العالي الشأن، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم فقالوا: ﴿يفعلون*﴾ أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم، مع سبقهم لنا إلى الوجود، فهم أرصن منا عقولاً، وأعظم تجربة، فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً، ما واظبوا عليه،
49
هذا مع أنهم لو سلكوا طريقاً حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديماً وحديثاً.
ولما وصلوا إلى التقليد المخض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها ﴿قال﴾ معرضاً عن جواب كلامهم بنقص، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه من شم رائحة الرجولية: ﴿أفرأيتم﴾ أي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم: أرأيتم، اي إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً ﴿ما كنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة لكم ﴿تعبدون*﴾ مواظبين على عبادتهم ﴿أنتم﴾.
ولما أجابوه بالتقليد، قال لهم ما معناه، رقوا تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته، فإن التقدم والأولوية لا تكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم، وذلك مراده من قوله: ﴿وآباؤكم الأقدمون*﴾ أي الذين هم أقدم ما يكونون: هل لهم وصف غير ما أقررتم به
50
من عدم السماع والنفع والضر؟ ﴿فإنهم﴾ أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخباراً مؤكداً أنهم.
ولما كانت صيغة فعول للمبالغة، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولا سيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول والصهيل، فقال مخبراً عن ضمير الجمع: ﴿عدو لي﴾ أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الأخرى ﴿لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين﴾ [الأنبياء: ٥٤]، ﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله﴾ [الأنبياء: ٥٧] و ﴿تالله لأكيدن أصنامكم﴾ [الأنبياء: ٦٧].
ولما كانوا هم مشركين، وكان في آبائهم الأقدمين من عبد الله وحده. قال: ﴿إلا رب العالمين*﴾ أي مدبر هذه الأكوان كلها - كما قال موسى عليه السلام - لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها، فإنه ليس بعدوي، بل هو وليّي ومعبودي؛ ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال: ﴿الذي﴾ ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقال: ﴿خلقني﴾ أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير
51
﴿فهو﴾ أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره ﴿يهدين*﴾ أي إلى الرشاد، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه، ولا يكن خالقه إلا سمعياً بصيراً ضاراً نافعاً، له الكمال كله، ولا شك أن الخلق للجسد، والهداية للروح، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع، والإنسان له قالب من عالم الخلق، وقالب من عالم الأمر، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية، ولقوله
﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾ [الحجر: ٢٩] وأمثال ذلك، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها ديناً ودنيا ﴿والذي هو﴾ أي لا غيره ﴿يطعمني ويسقين﴾ ولو أراد لأعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً.
52
ولما كان المرض ضرراً، نزهه عن نسبته إليه أدباً وإن كانت نسبة الكل إليه سبحانه معلومة، بقوله: ﴿وإذا مرضت﴾ باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينها من التنافر الطبيعي ﴿فهو﴾ أي وحده ﴿يشفين*﴾ بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها على الاجتماع والاعتدال، لا طبيب ولا غيره وإن تسببت أنا في أمراض نفسي ببرد أو حر أو طعام أتناوله أو غير ذلك لأنه قادر على ما يريد.
52
ولما كان الإنسان مطبوعاً على الاجتهاد في حفظ حياته وبقاء مهجته، نسب فعل الموت إليه إعظاماً للقدرة فقال: ﴿والذي يميتني﴾ أي حساً وإن اجتهدت في دفع الموت، ومعنى وإن اجتهدت في دفع الجهل.
ولما كان الإحياء حساً بالروح ومعنى بالهداية عظيماً، أتى بأداة التراخي لذلك ولطول المكث في البرزخ فقال: ﴿ثم يحيين﴾ للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض وإن وصلت إلى حد لا أرجى فيه، ولم يأت هنا بما يدل على الحصر لأنه لا مدعي للإحياء والإماتة إلا ما ذكره سبحانه عن نمرود في سورة البقرة، وأن إبراهيم عليه السلام أبهته ببيان عجزه في إظهار صورة من مكان من الأمكنة بلا شرط من روح ولا غيرها، وإذا عجز عن ذلك كان عجزه عن إيجاد صورة أبين، فكيف إذا انضم إلى ذلك إفادتها روحاً أو سلبها منها، فعدّ ادعاؤه لذلك - مع القاطع المحسوس الذي أبهته - عدماً، والله أعلم.
ولما ذكر البعث، ذكر ما يترتب عليه فقال: ﴿والذي أطمع﴾ هضماً لنفسه واطراحاً لأعماله وإشارة إلى أنه بالنسبة إلى الحضرة الأعظمية غير قادرة لها حق قدرها، فإن الطمع كما قال الحرالي في البقرة
53
تعلق البال بالشيء من غير تقدم سبب - انتهى. فلذلك لم يعد له عملاً ﴿أن يغفر﴾ أي يمحو ويستر.
ولما كان الله سبحانه منزهاً عن الغرض، فكانت المغفرة لحظ العبد ليس غير، قال: ﴿لي﴾ وأسند الخطيئة إليه هضماً لنفسه وتواضعاً لربه فقال: ﴿خطيئتي﴾ أي تقصيري عن أن أقدره حق قدره، فإن الضعيف العاجز لا يبلغ كل ما ينبغي من خدمة العلي الكبير، وما فعله فهو بإقداره سبحانه فلا صنع له في الحقيقة أصلاً ﴿يوم الدين*﴾ أي الجزاء.
ولما أثنى على الله تعالى بما هو أهله، وختم بذكر هذا اليوم العظيم، دعا بما ينحي عن هوله، فدل صنيعه على أن تقديم الثناء على السؤال أمر مهم، وله في الإجابة أثر عظيم، فقال ملتفتاً إلى مقام المشاهدة إشارة إلى أن الأمر مهول، وأنه لا ينقذ من خطره إلا عظيم القدرة، لما طبعت عليه النفس من النقائص: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ ﴿هب لي حكماً﴾ أي عملاً متقناً بالعلم، وأصله بناء الشيء على ما توجبه الحكمة، ولما كان الاعتماد إنما هو على محض الكرم، فإن من نوقش الحساب عذب، قال: ﴿وألحقني بالصالحين*﴾ أي الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة، وهم من كان قوله
54
وفعله صافياً عن شوب فساد.
ولما كان الصالح قد لا يظهر عمله، وكان إظهار الله له مجلبة للدعاء وزيادة في الأجر، قال: ﴿واجعل لي لسان صدق﴾ أي ذكراً جميلاً، وقبولاً عاماً، وثناء حسناً، بما أظهرت مني من خصال الخير ﴿في الآخرين*﴾ أي الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين، لأكون للمتقين إماماً، فيكون لي مثل أجورهم، فإن «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وقد كان ذلك إجابة من الله تعالى لدعائه، ومن أعظمه أن جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيى بهم عليهم الصلاة والسلام ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله: «صل على محمد كما صليت على إبراهيم» إلى آخره.
ولما طلب سعادة الدنيا، وكانت لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة، وكانت الجنة لا تنال إلا بمنه، لا بشيء من ذلك، ولذلك شبه إدخالها بالإرث الذي يحصل بغير اكتساب من الوارث وهو أقوى أسباب الملك، قال: ﴿واجعلني﴾ أي مع ذلك كله
55
بفضلك ورحمتك ﴿من ورثة جنة النعيم*﴾.
ولما دعا لنفسه، ثنى بأحق الخلق ببره فقال: ﴿واغفر لأبي﴾ ثم علل دعاءه بقوله: ﴿إنه كان﴾ في أيام حياته ﴿من الضالين*﴾ والظاهر أن هذا كان قبل معرفته بتأبيد شقائه، ولذلك قال: ﴿ولا تخزني﴾ أي تهني بموته على ما يوجب دخوله النار ولا بغير ذلك ﴿يوم يبعثون*﴾ أي هؤلاء المنكرون للبعث، وكأن هذا الدعاء كان بحضورهم في الإنكار عليهم في عبادة الأصنام، والظاهر أن تخصيص الدعاء بأبيه لأن أمه كانت آمنت كما ورد عن... فقد صح أنه يقول يوم القيامة: يا رب! إنك وعدتني ألا تخزيني، أي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيبدل الله صورة أبيه صورة ذيخ ثم يلقي به في النار - كما رواه البخاري في غير موضع عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الله تعالى يقول له: «إني حرمت الجنة على الكافرين» ولو كانت أمة كافرة لسأله فيها.
56
ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال: ﴿يوم لا ينفع﴾ أي أحداً ﴿مال﴾ أي
56
يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر ﴿ولا بنون*﴾ ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم ﴿إلا من أتى الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق في هذا الموطن ﴿بقلب سليم*﴾ أي عن مرض غيّره عن الفطرة الأولى التي فطره الله عليها، وهي الإسلام الذي رأسه التوحيد، والاستقامة على فعل الخير، وحفظ طريق السنة كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ليس فيها من جدعاء فإن ﴿المال والبنون﴾ ينفعانه بما تصرف فيهما من خير، والاستثناء مفرغ، والظاهر أن قوله ﴿وأزلفت﴾ أي قربت بأيسر وجه حال من واو «يبعثون» ﴿الجنة للمتقين*﴾ وعرف أهل الموقف أنها لهم خاصة تعجيلاً لسرورهم وزيادة في شرفهم ﴿وبرزت﴾ أي كشفت كشفاً عظيماً سهلاً ﴿الجحيم﴾ أي النار الشديدة التأجج، وأصلها نار عظيمة في مهواة بعضها فوق بعض ﴿للغاوين*﴾ أي الضالين الهالكين بحيث عرف أهل الموقف أنها لهم ﴿وقيل لهم﴾ تبكيتاً وتنديماً وتوبيخاً، وأبهم القائل ليصلح لكل أحد، تحقيراً لهم، ولأن المنكىء نفس القول لا كونه من معين: ﴿أين ما كنتم﴾ بتسلك الأخلاق التي هي كالجبلات ﴿تعبدون*﴾ أي
57
في الدنيا على سبيل التجديد والاستمرار. وحقر معبوداتهم بقوله: ﴿من دون﴾ أي من أدنى رتبة من رتب ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له، وكنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ويقونكم شر هذا اليوم ﴿هل ينصرونكم﴾ فيمنعون عنكم ما برز لكم ﴿أو ينتصرون*﴾ أي هم بالدفع عن أنفسهم.
ولما تسبب عن هذا التبريز والقول إظهار قدرته تعالى وعجزهم بقذفهم فيها قال: ﴿فكبكبوا﴾ أي الأصنام ونحوها، قلبوا وصرعوا ورموا، قلباً عظيماً مكرراً سريعاً من كل من أمره الله بقلبهم بعد هذا السؤال، إظهاراً لعجزهم بالفعل حتى عن الجواب قبل الجواب ﴿فيها﴾ أي في مهواة الجحيم قلباً عنيفاً مضاعفاً كثيراً بعضهم في أثر بعض ﴿هم﴾ أي الأصنام وما شابهها مما عبد من الشاطين ونحوهم ﴿والغاوون*﴾ أي الذي ضلوا بهم ﴿وجنود إبليس﴾ من شياطين الإنس والجن ﴿أجمعون*﴾.
ولما علم بهذا أنهم لم يتمكنوا من قول في جواب استفامهم توبيخاً، وكان من المعلوم أن الإنسان مطبوع على أن يقول في كل شيء ينوبه ما يثيره له إدراكه مما يرى أنه يبرد من غلته، وينفع من علته، تشوف السامع إلى معرفة قولهم بعد الكبكبة، فأشير إلى ذلك
58
بقوله: ﴿قالوا﴾ أي العبدة ﴿وهم فيها﴾ أي الجحيم ﴿يختصمون﴾ أي مع المعبودات: ﴿تالله﴾ أي الذي له جميع الكمال ﴿إن كنا لفي ضلال مبين*﴾ أي ظاهر جداً لمن كان له قلب ﴿إذ﴾ أي حين ﴿نسويكم﴾ في الرتبة ﴿برب العالمين*﴾ أي الذين فطرهم ودبرهم حتى عبدناكم ﴿وما أضلنا﴾ أي ذلك الضلال المبين عن الطريق البين ﴿إلا المجرمون*﴾ أي العريقون في صفة الإجرام، المقتضي لقطع كل ما ينبغي أن يوصل ﴿فما﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه ما ﴿لنا﴾ اليوم؛ وزادوا في تعميم النفي بزيادة الجارّ فقالوا: ﴿من شافعين*﴾ يكونون سبباً لإدخالنا الجنة، لأنا صرفنا ما كان يجب علينا لذي الأمر إلى من لا أمر له؛ ولعله لم يفرد الشافع لأنهم دخلوا في الشفاعة العظمى.
59
ولما كان الصديق قد لا يكون أهلاً لأن يشفع، قالوا تأسفاً على أقل ما يمكن: ﴿ولا صديق﴾ أي يصدق في ودنا ليفعل ما ينفعنا. ولما كان أصدق الصداقة ما كان من القريب قال: ﴿حميم*﴾ أي قريب، وأصله المصافي الذي يحرقه ما يحرقك، لأنا قاطعنا بذلك كل من له أمر في هذا اليوم؛ وأفرد تعميماً للنفي وإشارة إلى قلته في حد ذاته أو عدمه.
59
ولما وقعوا في هذا الهلاك، وانتفى عنهم الخلاص، تسبب عنه تمنيهم المحال فقالوا: ﴿فلو أن لنا كرة﴾ أي رجعة إلى الدنيا ﴿فنكون من المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً لازماً، فأزلفت لهم الجنة.
ولما كان في هذه القصة أعظم زاجر عن الشرك، وآمر بالإيمان، نبه على ذلك بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي هذا الأمر العظيم الذي قصصته ن قول إبراهيم عليه السلام في إقامة البرهان على إبطال الأوثان، ونصب الدليل على أنه لا حق إلا الملك الجليل الديان، وترغيبه وترهيبه وإرشاده إلى التزود في أيام المهلة ﴿لآية﴾ أي عظيمة على بطلان الباطل وحقوق الحق ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿كان أكثرهم﴾ أي الذين شهدوا منه هذا الأمر العظيم والذين سمعوه عنه ﴿مؤمنين*﴾ أي بحيث صار الإيمان صفة لهم ثابتة، وفي ذلك أعظم تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم آبائه عليهم الصلاة والسلام ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك وهداية الأمة بك ﴿لهو العزيز﴾ أي القادر على إيقاع النقمة بكل من خالفه حين يخالفه ﴿الرحيم*﴾ أي الفاعل فعل الراحم في إمهاله العصاة مع إدرار النعم، ودفع النقم، وإرسال الرسل، ونصب الشرائع، لبيان ما يرضاه ليتبع، وما يسخطه ليتجنب،
60
فلا يهلك إلا بعد إقامة الحجة بإيضاح المحجة.
ولما أتم سبحانه قصة الأب الأعظم الأقرب، أتبعها - دلالة على وصفي العزة والرحمة - قصة الأب الثاني، مقدماً لها على غيرها، لما له من القدم في الزمان، إعلاماً بأن البلاء قديم، ولأنها أدل على صفتي الرحمة والنقمة التي هي أثر العزة بطول الإملاء لهم على طول مدتهم، ثم تعميم النقمة مع كونهم جميع أهل الأرض فقال: ﴿كذبت﴾ بإثبات التاء اختياراً للتأنيث - وأن كان تذكير القوم أشهر - للتنبيه على أن فعلهم أخس الأفعال، أو إلى أنهم مع عتوهم وكثرتهم كانوا عليه سبحانه أهون شيء وأضعفه بحيث جعلهم هباء منثوراً وكذا من بعدهم ﴿قوم نوح﴾ وهو أهل الأرض كلهم من الآدميين قبل اختلاف الأمم بتفرق اللغات ﴿المرسلين*﴾ أي بتكذيبهم نوحاً عليه السلام، لأنه أقام الدليل على نبوته بالمعجزة، ومن كذب بمعجزة واحدة فقد كذب بجميع المعجزات لتساوي أقدامها في الدلالة على صدق الرسول، وقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن ذلك فقال: من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الكل لأن الآخر جاء بما جاء به الأول - حكاه عنه البغوي.
ولقصد التسلية عبر بالتكذيب في كل قصة ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لهم﴾ لم يتأنوا بطلب دليل، ولا ابتغاء وجه جميل؛ وأشار إلى نسبه فيهم بقوله: ﴿أخوهم﴾ زيادة في تسلية هذا النبي الكريم
61
﴿نوح﴾ وأشار إلى حسن أدبه، واستجلابهم برفقه ولينه، بقوله: ﴿ألا تتقون*﴾ أي تكون لكم تقوى، وهي خوف يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية بطاعته بالتوحيد وترك الالتفات إلى غيره؛ ثم علل أهليته للأمر عليهم بقوله: ﴿إني لكم﴾ أي مع كوني أخاكم يسوءني ما يسوءكم ويسرني ما يسركم ﴿رسول﴾ أي من عند خالقكم، فلا مندوحة لي عند إبلاغ ما أمرت به ﴿أمين*﴾ أي لا غش عندي كما تعلمون ذلك مني على طول خبرتكم بي، ولا خيانة في شيء من الأمانة، فلذلك لا بد لي من إبلاغ جميع الرسالة.
62
ولما عرض عليهم التقوى بالرفق، وعلل ذلك بما ثبت به أمرها، تسبب عنه الجزم بالأمر فقال: ﴿فاتقوا الله﴾ أي أوجدوا الخو والحذر والتحرز من الذي اختص بالجلال والجمال، مبادرين إلى ذلك بتوحيده لتحرزوا أصل السعادة فتكونوا من أهل الجنة ﴿وأطيعون*﴾ أي في كل ما آمركم لتحرزوا رتبة الكمال في ذلك، فلا يمسكم عذاب.
ولما أثبت أمانته، نفى تهمته فقال: ﴿وما أسألكم عليه﴾ أي على هذا الحال الذي أتيتكم به؛ وأشار إلى الإعراق في النفي بقوله: ﴿من أجر﴾ أي ليظن ظان أني جعلت الدعاء سبباً له؛ ثم
62
أكد هذا النفي بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿أجري﴾ أي في دعائي لكم ﴿إلا على رب العالمين*﴾ أي الذي دبر جميع الخلائق ورباهم.
ولما انتفت التهمة، تسبب عن انتفائها أيضاً ما قدمه، فأعاده إعلاماً بالاهتمام بذلك زيادة في الشفقة عليهم وتأكيداً له في قلوبهم تنبيهاً على أن الأمر في غاية العظمة لما يعلم من قلوبهم من شدة الجلافة فقال: ﴿فاتقوا الله﴾ أي الذي حاز جميع صفات العظمة ﴿وأطيعون﴾.
ولما قام الدليل على نصحه وأمانته، أجابوا بما ينظر إلى محض الدنيا كما أجاب من قال من أشراف العرب ﴿ما لهذا الرسول﴾ الآيات، وقال: لو طردت هؤلاء الضعفاء لرجونا أن نتبعك حتى نزل في ذلك ﴿ولا تطرد الذين يدعون ربهم﴾ [الأنعام: ٥٢] ونحوها من الآيات، بأن ﴿قالوا﴾ أي قومه، منكرين لاتباعه استناداً إلى داء الكبر الذي ينشأ منه بطر الحق وغمط الناس - أي احتقارهم: ﴿أنؤمن لك﴾ أي لأجل قولك هذا وما أثبته أوصافك ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿اتبعك الأرذلون*﴾ أي المؤخرون في الحال والمآل، والأحوال والأفعال، فيكون إيماننا بك سبباً لاستوائنا معهم، فلو طردتهم لم يكن لنا عذر في التخلف عنك، ولا مانع من اتباعك، فكان ما متعوا به من العرض الفاني مانعاً لهم عن السعادة الباقية، وأما الضعفاء فانكسار قلوبهم وخلوّها عن شاغل موجبٌ لإقبالها على الخير
63
وقبولها له، لأن الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم، وهكذا قالت قريش في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما زالت أتباع الرسل كذلك حتى صارت من سماتهم وأماراتهم كما قال هرقل في سؤاله عن أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان مثال المستكبرين مثال شخص كان آخر دونه بدرجة، فأصبح فوقه بدرجة، فأنف من أن يرتقي إلى درجته لئلا يساويه، ورضي لنفسه أن يكون دونه، فما اسخف عقله! وما أكثر جهله! فلا شيء أبين من هذا في أن التقدم في الأمور الدنيوية داء لا دواء له إلا إماتة النفس بالتبرؤ منه والبعد عنه.
ولما كانت الجواهر متساوية في أنها مخلوقات الله، وإنما تتشرف بآثارها، فالآدمي إنما يشرف أو يرذل بحاله من قاله وفعاله، أشار إلى أنه يعتبر ما هم عليه الآن من الأحوال الرفيعة، والأوصاف البديعة، فلذلك ﴿قال﴾ نافياً لعلمه بما قالوه في صورة استفهام إنكاري: ﴿وما﴾ أي وأيّ شيء ﴿علمي بما كانوا يعملون*﴾ أي قبل أن يتبعوني، أي وما لي وللبحث عن ذلك، إنما لي ظاهرهم الآن وهو
64
خير ظاهر، فهم الأشرفون وإن كانوا أفقر الناس وأخسّهم نسباً، فإن الغني غني الدين، والنسب نسب التقوى؛ ثم أكد أنه لا يبحث عن بواطنهم بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿حسابهم﴾ أي في الماضي والآتي ﴿إلا على ربي﴾ المحسن إليّ باتباعهم لي ليكون لي مثل أجرهم، المخفف عني أن يكلفني بحاسبهم وتعرف بواطنهم، لأنه المختص بضبط جميع الأعمال والحساب عليها ﴿لو تشعرون*﴾ أي لو كان لكم نوع شعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم مما هو دائر على أمور الدنيا فقط، ولا نظر له إلى يوم الحساب.
ولما أفهم قوله رد ما أفهمه قولهم من طردهم، صرح به في قوله: ﴿وما﴾ أي ولست ﴿أنا بطارد المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً فلم يرتدوا عنه للطمع في إيمانكم ولا لغيره من اتباع شهواتكم؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿أنا إلا نذير﴾ أي محذر، لا وكيل مناقش على البواطن، ولا متعنت على الاتباع ﴿مبين*﴾ أوضح ما أرسلت به فلا أدع فيه لبساً.
ولما أياسهم مما أرادوا من طرد أتباعه لما أوهموا من اتباعه لو طردهم خداعاً، أقبلوا على التهديد، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: ﴿قالوا لئن لم تنته﴾ ثم سموه باسمه جفاء وقلة أدب فقالوا:
65
﴿يا نوح لتكونن من المرجومين*﴾ أي المقتولين، ولا ينفعك أتباعك هؤلاء الضعفاء.
66
ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك: ﴿قال﴾ شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاماً بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال: ﴿إن قومي كذبون*﴾ أي فلا نية لهم في اتباعي ﴿فافتح﴾ أي احكم ﴿بيني وبينهم فتحاً﴾ أي حكماً يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم ﴿ونجني ومن معي﴾ أي في الدين ﴿من المؤمنين*﴾ مما تعذب به الكافرين.
66
ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال: ﴿فأنجيناه ومن معه﴾ أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم ﴿في الفلك﴾ ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال: ﴿المشحون*﴾ أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.
ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال: ﴿ثم أغرقنا بعد﴾ أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه ﴿الباقين*﴾ أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيراً.
ولما كان ذلك أمراً باهراً، عظمه بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك ﴿لآية﴾ أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿كان أكثرهم﴾ أي أكثر العالمين بذلك ﴿مؤمنين*﴾ وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق ﴿وإن ربك﴾ المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك،
67
وتعظيم أشياعك ﴿لهو العزيز﴾ أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية ﴿الرحيم*﴾ أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم؟ هل اتعظ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً: ﴿كذبت عاد﴾ أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح ﴿المرسلين*﴾ بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لهم أخوهم هود﴾ لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه ﴿ألا﴾ بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم ﴿تتقون*﴾ أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله: ﴿إني لكم رسول﴾ أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك ﴿أمين﴾ أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه ﴿فاتقوا﴾ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا ﴿الله﴾ الذي هو أعظم من كل شيء ﴿وأطيعون*﴾ أي في
68
كل ما آمركم به من دوام تعظيمه ﴿وما﴾ أي أنا رسول داع والحال أني ما ﴿أسئلكم عليه﴾ أي الدعاء ﴿من أجر﴾ فتتهموني به ﴿إن﴾ أي ما ﴿أجري إلا على رب العالمين*﴾.
ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظاً لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال: ﴿أتبنون بكل ريع﴾ أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان: وقال أبو عبيدة: الريع الطريق. وقال مجاهد: الفج بين الجبلين، وقيل: السبيل سلك أم لم يسلك. وأصله في اللغة الزيادة ﴿آية﴾ أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها.
ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال: ﴿تعبثون*﴾ والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة
69
عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه.
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: ﴿وتتخذون مصانع﴾ أي أشياء بأخذ الماء، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال: ﴿لعلكم تخلدون*﴾ وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.
70
ولما بين أن عملهم عمل من لا يخاف الموت، أتبعه ما يدل على أنهم لا يظنون الجزاء فقال: ﴿وإذا بطشتم﴾ أي بأحد، أخذتموه أخذ سطوة في عقوبة ﴿بطشتم جبارين*﴾ أي غير مبالين بشيء من قتل أو غيره؛ قال البغوي: والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
ولما خوفهم لهذا الإنكار عقاب الجبار، تسبب عنه أن قال: ﴿فاتقوا الله﴾ أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام ﴿وأطيعون*﴾.
ولما كان ادكار الإحسان موجباً للإذعان، قال مرغباً في الزيادة ومرهباً من الحرمان: ﴿واتقوا الذي أمدكم﴾ أي جعل لكم مدداً،
70
وهو إتباع الشيء بما يقويه على الانتظام ﴿بما تعلمون*﴾ أي ليس فيه نوع خفاء حتى تعذروا في الغفلة عن تقييده بالشكر.
ولما أجمل، فصل ليكون أكمل، فقال: ﴿أمدكم بأنعام﴾ أي تعينكم على الأعمال وتأكلون منها وتبيعون. ولما قدم ما يقيم الأود، أتبعه قوله: ﴿وبنين*﴾ أي يعينونكم على ما تريدون عند العجز. ثم أتبعه ما يحصل كمال العيش فقال: ﴿وجنات﴾ أي بساتين ملتفة الأشجار بحيث تستر داخلها، وأشار إلى دوام الريّ بقوله: ﴿وعيون*﴾.
ولما كانوا في إعراضهم كأنهم يقولون: ما الذي تبقيه منه؟ قال: ﴿إني أخاف عليكم﴾ أي لأنكم قومي يسوءني ما يسوءكم - إن تماديتم على المعصية ﴿عذاب يوم عظيم*﴾ وتعظيم اليوم أبلغ من تعظيم العذاب ﴿قالوا﴾ راضين بما عندهم من داء الإعجاب، الموقع في كل ما عاب، ﴿سواء علينا أوعظت﴾ أي خوفت وحذرت وكنت علامة زمانك في ذلك بأن تقول منه ما لم يقدر أحد على مثله، دل على ذلك قوله: ﴿أم لم تكن من الواعظين*﴾ أي متأهلاً لشيء من رتبة الراسخين في الوعظ، معدوداً في عدادهم، مذكوراً فيما بينهم، فهو أبلغ من «أم لم تعظ» أو «تكن واعظاً، والوعظ - كما قال البغوي: كلام
71
يلين القلب بذكر الوعد والوعيد. والمعنى أن الأمر مستوٍ في الحالتين في أنا لا نطيعك في شيء؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا﴾ أي الذي جئتنا به ﴿إلا خلق﴾ بفتح الخاء وإسكان اللام في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ﴿الأولين*﴾ أي كذبهم، أو ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين في حياة ناس وموت آخرين، وعافية قوم وبلاء آخرين، وعليه تدل قراءة الباقين بضم الخاء واللام ﴿وما نحن بمعذبين*﴾ لأنا أهل قوة وشجاعة ونجدة وبراعة.
ولما تضمن هذا التكذيب، سبب عنه قوله: ﴿فكذبوه﴾ ثم سبب عنه قوله: ﴿فأهلكناهم﴾ أي بالريح بما لنا من العظمة التي لا تذكر عندها عظمتهم، والقوة التي بها كانت قوتهم ﴿إن في ذلك﴾ أي الإهلاك في كل قرن للعاصين والإنجاء للطائعين ﴿لآية﴾ أي عظيمة لمن بعدهم على أنه سبحانه فاعل ذلك وحده بسبب أنه يحق الحق ويبطل الباطل، وأنه مع أوليائه ومن كان معه لا يذل وعلى أعدائه ومن كان عليه لا يعز ﴿وما كان أكثرهم﴾ أي أكثر من كان بعدهم ﴿مؤمنين*﴾ فلا تحزن أنت على من أعرض عن الإيمان ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بإرسالك وغيره من النعم ﴿لهو العزيز﴾ في انتقامه ﴿الرحيم*﴾ في إنعامه وإكرامه وإحسانه، مع عصيانه وكفرانه، وإرسال المنذرين
72
وتأييدهم بالآيات المعجزة لبيان الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم، فلا يهلك إلا بعد الإعذار بأبلغ الإنذار؛ ثم دل على ذلك لمن قد ينسى إذ كان الإنسان مجبولاً على النسيان بقوله: ﴿كذبت ثمود﴾ وهو أهل الحجر ﴿المرسلين*﴾ وأشار إلى زيادة التسلية بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تأمل ولا توقف بقوله: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لهم أخوهم﴾ أي الذي يعرفون صدقه وأمانته، وشفقته وصيانته ﴿صالح﴾ وأشار إلى تلطفه بهم بقوله على سبيل العرض ﴿ألا تتقون*﴾ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إني لكم رسول﴾ أي من الله، فلذلك عرضت عليكم هذا لأني مأمور بذلك، وإلا لم أعرضه عليكم ﴿أمين*﴾ لا شيء من الخيانة عندي، بل أنصح لكم في إبلاغ جميع ما أرسلت به إليكم من خالقكم، الذي لا أحد أرحم بكم منه.
73
ولما قدم ذكر الرسالة فصار له عذر في المواجهة بالأمر، سبب عنه قوله ﴿فاتقوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق. ولما ذكر الأمانة قال: ﴿وأطيعون*﴾.
ولما أثبت ما يوجب الإقبال عليه، نفى ما يستلزم عادة الإدبار عنه فقال: ﴿وما﴾ أي إني لكم كذا والحال أني ما ﴿أسئلكم عليه﴾ وأعرق في النفي بقوله: ﴿من أجر﴾ ثم زاد في تأكيد هذا
73
النفي بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿أجري﴾ على أحد ﴿إلا على رب العالمين*﴾ أي المحسن إليهم أجمعين، منه أطلب أن يعطيني كما أعطاهم.
ولما ثبتت الأمانة، وانتفى موجب الخيانة، شرع ينكر عليهم أكل خيره وعبادة غيره، فقال مخوفاً لهم من سطواته، ومرغباً في المزيد من خيراته. منكراً عليهم إخلادهم إلى شهوة البطن، واستنادهم إلى الرفاهية والرضى بالفاني: ﴿أتتركون﴾ أي من ايدي النوائب التي لا يقدر عليها إلا الله ﴿في ما هاهنا﴾ أي في بلادكم هذه من النعم حال كونكم ﴿آمنين*﴾ أي أنتم تبارزون الملك القهار بالعظائم.
ولما كان للتفسير بعد الإجمال شأن. بين ما أجمل بقوله مذكراً لهم بنعمة الله ليشكروها: ﴿في جنات﴾ أي بساتين تستر الداخل فيها وتخفيه لكثرة أشجارها ﴿وعيون*﴾ تسقيها مع ما لها من البهجة وغير ذلك من المنافع ﴿وزروع﴾ وأشار إلى عظم النخيل ولا سيما ما كان عندهم بتخصيصها بالذكر بعد دخولها في الجنات بقوله: ﴿ونخل طلعها﴾ أي ما يطلع منها من الثمر؛ قال الزمخشري: كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه. ﴿هضيم*﴾ أي جواد كريم من قولهم: يد هضوم - إذا كانت تجود بما لديها، وتفسيره بذلك يجمع أقوال العلماء، وإليه يرجع ما قال أبو عبد الله
74
القزاز معناه أنه قد هضم - أي ضغط - بعضه بعضاً لتراكمه، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كثير متقارب النضد، لا فرج بينه، ولطيف لين هش طيب الرائحة، من الهضم بالتحريك، وهو خمس البطن ولطف الكشح؛ والهاضم وهو ما فيه رخاوة، والهضم: البخور، والمهضومة: طيب يخلط بالمسك واللبان؛ قال الرازي في اللوامع: أو يانع نضيج لين رخو ومتهشم متفتت إذا مس، أو يهضم الطعام، وكل هذا يرجع إلى لطافته.
ولما ذكر اللطيف من أحوالهم، أتبعه الكثيف من أفعالهم، فقال عطفاً على ﴿أتتركون﴾ أو مبيناً لحال الفاعل في ﴿آمنين﴾ :﴿وتنحتون﴾ أي والحال أنكم تنحتون إظهاراً للقدرة ﴿من الجبال بيوتاً فارهين*﴾ أي مظهرين النشاط والقوة، تعظيماً بذلك وبطراً، لا لحاجتكم إلى شيء من ذلك ﴿فاتقوا﴾ أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا ﴿الله﴾ الذي له جميع العظمة بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية باتباع أوامره؛ واجتناب زواجره ﴿وأطيعون*﴾ أي في كل ما آمركم به وأنهاكم عنه.
فإني لا آمركم إلا بما يصلحكم فيكون سبباً لحفظ ما أنتم فيه وتزدادون ﴿ولا تطيعوا﴾.
75
ولما كان لانقياد للآمر إنما هو بواسطة ما ظهر من أمره قال: ﴿أمر المسرفين*﴾ اي المتجاوزين للحدود الذي صار لهم ذلك خلقاً: ثم وصفهم بما بين إسرافهم، وهو ارتكاب الفساد الخالص المصمت الذي لا صلاح معه فقال: ﴿الذين يفسدون في الأرض﴾ أي يعملون ما يؤدي إلى الفساد لكونه غير محكم باستناده إلى الله.
ولما كان ربما ادعى في بعض الفساد أن فيه صلاحاً، نفى ذلك بقوله: ﴿ولا يصلحون*﴾ أي لأنهم أسسوا أمرهم على الشرط فصاروا بحيث لا يصلح لهم عمل وإن تراءى غير ذلك، أو أن المعنى أن المسرف من كان عريقاً في الإسراف بجمع هذين الأمرين.
ولما دعا إلى الله تعالى بما لا خلل فيه، فعلموا أنهم عاجزون عن الطعن في شيء منه، عدلوا إلى التخييل على عقول الضعفاء بأن ﴿قالوا إنما أنت من المسحرين*﴾ أي الذين بولغ في سحرهم مرة بعد مرة مع كونهم آدميين ذمي سحور، وهي الرئات، فأثر فيك السحر حتى غلب عليك؛ ونقل البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب، يقال: سحره أي علله بالطعام والشراب. ويؤيده تفسيره بقولهم إشارة إلى أنه لا يصلح للرسالة:
76
﴿ما أنت إلا بشر مثلنا﴾ أي فما وجه خصوصيتك عنا بالرسالة، وهل يكون الرسول من البشر، وإتباعهم الوصف الوصف من غير عطف عليه يدل على أنهم غير جازمين بتكذيبه. فالوصفان عندهم بمنزلة شيء واحد كما إذا قيل: الزمان حلو حامض، أي مر، ويؤيد كونهم في رتبة الشك لم يتجاوزوها إلى الجزم أو الظن بالتكذيب قولهم: ﴿فأت بآية﴾ أي علامة تدلنا على صدقك ﴿إن كنت﴾ أي كوناً هو غاية الرسوخ ﴿من الصادقين*﴾ أي العريقين في الصدق بخلاف ما يأتي قريباً في قصة شعيب عليه السلام.
77
ولما أسرع الله تعالى في إجابته حين دعا أن يعطيهم ما اقترحوا، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿قال﴾ أي جواباً لاقتراحهم: تعالوا نظروا ما آتيكم به آية على صدقي، فأتوا فأخرج الله له من الصخرة ناقة عشراء كما اقترحوا، فقال مشيراً إليها بأداة القرب إشارة إلى سهولة إخراجها وسرعته: ﴿هذه ناقة﴾ أي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم؛ ثم أشار إلى أن في هذه الآية آية أخرى بكونها تشرب ماء البئر كله في يوم وردها وتكف عنه في اليوم الثاني لأجلهم، بقوله: ﴿لها شرب﴾ أي نصيب من الماء في يوم معلوم ﴿ولكم شرب يوم﴾ أي نصيب
77
من الماء في يوم ﴿معلوم*﴾ لازحام بينكم وبينها في شيء من ذلك.
ولما أرشد السياق إرشاداً بَيِّناً إلى أن المعنى: فخذوا شربكم واتركوا لها شربها، عطف عليه قوله: ﴿ولا تمسوها بسوء﴾ أي كائناً ما كان وإن قل، لأن ما كان من عند الله يجب إكرامه، ورعايته واحترامه؛ ثم خوفهم بما يتسبب عن عصيانهم فقال: ﴿فيأخذكم﴾ أي يهلككم ﴿عذاب يوم عظيم*﴾ بسبب ما حل فيه من العذاب، فهو أبلغ من وصف العذاب بالعظم، وأشار إلى سرعة عصيانهم بفاء التعقيب في قوله: ﴿فعقروها﴾ أي قتلوها بضرب ساقها بالسيف.
ولما تسبب عن عقرها حلول مخايل العذاب، أخبر عن ندمهم على قتلها من حيث إنه يفضي إلى الهلاك، لا من حيث إنه معصية لله ورسوله. فقال: ﴿فأصبحوا نادمين*﴾ أي على عقرها لتحقق العذاب؛ وأشار إلى أن ذلك الندم لا على وجه التوبة أو أنه عند رؤية البأس فلم ينفع، أو أن ذلك كناية عن أن حالهم صار حال النادم، لا أنه وجد منهم ندم على شيء ما، فإنه نقل عنهم أنه أتاهم العذاب
78
العذاب وهو يحاولون أن يقتلوا صالحاً عليه السلام، بقوله: ﴿فأخذهم العذاب﴾ أي المتوعد به.
ولما كان في الناقة وفي حلول المخايل كما تقدم أعظم دليل على صدق الرسول الداعي إلى الله قال: ﴿إن في ذلك لآية﴾ أي دلالة عظيمة على صحة ما أمروا به عن الله، ﴿وما﴾ أي والحال أنه مع ذلك ما ﴿كان أكثرهم مؤمنين*﴾.
ولما كان ربما توهم أنه سبحانه غير متصف بالعزة لعدم قسرهم على الإيمان، أو بالرحمة لإهلاكهم، قال: ﴿وإن ربك لهو العزيز﴾ أي فلا يخرج شيء من قبضته وإرادته، وهو الذي أراد لهم الكفر ﴿الرحيم*﴾ في كونه لم يهلك أحداً حتى أرسل إليهم رسولاً فبين لهم ما يرضاه سبحانه وما يسخطه، وأبلغ في إنذارهم حتى أقام الحجة بذلك، ثم هو سبحانه يضل من يشاء لما تعلم من طبعه على ما يقتضي الشقاوة، ويوفق من علم منه الخير لما يرضيه، فيتسبب عن ذلك سعادته، وفي تكريره سبحانه هذه الآية آخر كل قصة على وجه التأكيد وإتباعها ما دلت عليه من كفر من أتى بعد أصحابها.
من غير اتعاظ بحالهم، ولا نكوب عن مثل ضلالهم، خوفاً من نظير نكالهم، أعظم تسلية لهذا النبي الكريم، وتخويف لكل عليم حليم، واستعطاف لكل ذي قلب سيلم، ولذلك
79
قال واصلاً بالقصة: ﴿كذبت﴾ أي دأب من تقدم كأنهم تواصوا به ﴿قوم لوط المرسلين*﴾ لأن من كذب رسولاً - كما مضى - فقد كذب الكل، لتساوي المعجزات في الدلالة على الصدق. وقد صرحت هذه الآية بكفرهم بالتكذيب. وبين إسراعهم في الضلال بقوله: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لهم أخوهم﴾ أي في السكنى في البلد لا في النسب لأنه ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهما من بلاد الشرق من بلاد بابل - وكأنه عبر بالأخوة لاختياره لمجاورتهم، ومناسبتهم بمصاهرتهم، وإقامته بينهم في مدينتهم مدة مديدة، وسنين عديدة، وإتيانه بالأولاد من نسائهم، مع موافقته لهم في أنه قروي، ثم بينه بقوله: ﴿لوط ألا تتقون*﴾ أي تخافون الله فتجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية.
ولما كان مضمون هذا الدعاء لهم والإنكار عليهم في عدم التقوى علل ذلك بقوله: ﴿إني لكم﴾ أي خاصة ﴿رسول أمين*﴾ أي لا شيء من غش ولا خيانة عندي، ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي لقدرته على إهلاك من يريد وتعاليه في عظمته ﴿وأطيعون*﴾ أي لأن طاعتي سبب نجاتكم، لأني لا آمركم إلا بما يرتضيه. ولا أنهاكم إلا عما يغضبه.
80
ولما أثبت الداعي إلى طاعته، نفى الناهي عنها فقال: ﴿وما أسئلكم عليه﴾ أي الدعاء إلى الله ﴿من أجر﴾ أي فتتهموني بسببه؛ ونفى سؤاله لغيرهم من الخلائق بتخصيصه بالخالق فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿أجري إلا على رب العالمين*﴾ أي المحسن إليهم بإيجادهم ثم تربيتهم. فلما وجدوا المقتضى لاتباعه وانتفى المانع، أنكر عليهم ما يوجب عذابهم من إيثارهم شهوة الفرج المخرج لهم إلى ما صاروا به سبة في الخلق فقال موبخاً مقرعاً بياناً لتفاحش فعلهم وعظمه: ﴿أتأتون﴾ أي إتيان المعصية ﴿الذكران﴾ ولعلهم كانوا يفعلون بالذكور من غير الآدميين توغلاً في الشر وتجاهراً بالتهتك لقوله: ﴿من العالمين*﴾ أي كلهم، أو يكون المعنى: من بين الخلائق، أي أنكم اختصصتم بإتيان الذكران، لم يفعل هذا الفعل غيركم من الناكحين من الخلق ﴿وتذرون﴾ أي تتركون لهذا الغرض ﴿ما خلق لكم﴾ أي النكاح ﴿ربكم﴾ المحسن إليكم ﴿من أزواجكم﴾ أي وهن الإناث، على أن «من» للبيان، ويجوز أن تكون مبعضة، ويكون المخلوق كذلك هو القبل.
ولما كانوا كأنهم قالوا: نحن لم نترك أزواجنا، حملاً لقوله على
81
الترك أصلاً ورأساً وإن كانوا قد فهموا أن مراده تركهن حال الفعل في الذكور، قال مضرباً عن مقالهم هذا المعلوم تقديره لما أرادوه به، حيدة عن الحق، وتمادياً في الفجور: ﴿بل أنتم قوم عادون*﴾ أي تركتم الأزواج بتعدي الفعل بهن وتجاوزه إلى الفعل بالذكران، وليس ذلك ببدع من أمركم، فإن العدوان - الذي هو مجاوزة الحد في الشر - وصف لكم أنتم عريقون فيه، فلذلك لا تقفون عند حد حده الله تعالى.
فلما اتضح الحق، وعرف المراد، وكان غريباً عندهم، وتشوف السامع إلى جوابهم، استؤنف الإخبار عنه، فقيل إعلاماً بانقطاعهم وأنهم عارفون أنه لا وجه لهم في ذلك أصلاً لعدولهم إلى الفحش: ﴿قالوا﴾ مقسمين: ﴿لئن لم تنته﴾ وسموه باسمه جفاء وغلظة فقالوا: ﴿يا لوط﴾ عن مثل إنكارك هذا علينا.
ولما كان لما له من العظمة بالنبوة والأفعال الشريفة التي توجب إجلاله وإنكار كل من يسمعهم أن يخرج مثله، زادوا في التأكيد فقالوا: ﴿لتكونن من المخرجين﴾ أي ممن أخرجناه من بلدنا على وجه فظيع تصير مشهوراً به بينهم. إشارة إلى أنه غريب عندهم، وأن عادتهم المستمرة نفي من اعترض عليهم، وكان قصدهم بذلك أن يكونوا هم
82
المتولين لإخراجه إهانة له للاستراحة منه، فكان إخراجه، لكن إخراج إكرام للاستراحة منهم والنجاة من عذابهم بتولي الملائكة الكرام ﴿قال﴾ أي جواباً لهم: ﴿إني﴾ مؤكداً لمضمون ما يأتي به ﴿لعملكم﴾ ولم يقل: قال بل زاد في التأكيد بقوله: ﴿من القالين*﴾ أي المشهورين ببغض هذا العمل الفاحش، العريقين في هذا الوصف، المذكورين بين الناس بمنابذة من يفعله، لا يردني عن إنكاره تهديدكم لي بإخراج ولا غيره، والقلاء: بغض شديد كأنه يقلي الفؤاد.
ولما بادأهم بمثل هذا الذي من شأنه الإفضاء إلى الشر، أقبل على من يفعل ذلك لأجله، وهو القادر على كل شيء العالم بكل شيء، فقال: ﴿رب نجني وأهلي مما﴾ أي من الجزاء الذي يلحقهم لما ﴿يعملون*﴾.
ولما قبل سبحانه وتعالى دعاءه، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿فنجيناه وأهله﴾ مما عذبناهم به بإخراجنا له من بلدهم حين ستخفافهم له، ولم يؤخره عنهم إلى حين خروجه إلا لأجله، وعين سبحانه المراد مبيناً أن أهله كثير بقوله: ﴿أجمعين*﴾ أي أهل بيته والمتبعين له على دينه ﴿إلا عجوزاً﴾ وهي امرأته، كائنة ﴿في﴾ حكم ﴿الغابرين*﴾ أي الماكثين الذي تلحقهم الغبرة بما يكون من الداهية فإننا لن ننجها لقضائنا بذلك في الأزل، لكونها لم تتابعه في الدين، وكان هواها مع قومها.
83
ولما ذكر نجاته المفهمة لهلاكهم، صرح به على وجه هوله بأداة التراخي لما علم غير مرة أنه كان عقب خروجه، لم يتخلل بينهما مهلة فقال: ﴿ثم دمرنا﴾ أي أهلكنا هلاكاً بغتة صلباً أصمّ في غاية النكد، وما أحسن التعبير عنهم بلفظ ﴿الآخرين*﴾ لإفهام تأخرهم من كل وجه.
ولما كان معنى ﴿دمرنا﴾ : حكمنا بتدميرهم، عطف عليه قوله: ﴿وأمطرنا﴾ ودل على العذاب بتعديته ب «على» فقال: ﴿عليهم مطراً﴾ أي وأي مطر، ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فساء مطر المنذرين*﴾ أي ما أسوأ مطر الذين خوفهم لوط عليه السلام بما أشار إليه إنكاره وتعبيره بالتقوى والعدوان.
ولما كان في جري المكذبين والمصدقين على نظام واحد من الهلاك والنجاة أعظم عبرة وأكبر موعظة، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿إن في ذلك لآية﴾ أي دلالة عظيمة على صدق الرسل في جميع ترغيبهم وترهيبهم وتبشيرهم وتحذيرهم.
ولما كان من أتى بعد هذه الأمم كقريش ومن تقدمهم قد علموا أخبارهم، وضموا إلى بعض الأخبار نظر الديار، والتوسم في الآثار
84
قال معجباً من حالهم في ضلالهم: ﴿وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿كان أكثرهم مؤمنين*﴾.
ولما كان في ذلك إشارة إلى الإنذار بمثل ما حل بهم من الدمار، أتبعه التصريح بالتخويف والإطماع فقال: ﴿وإن ربك لهو﴾ أي وحده ﴿العزيز﴾ أي في بطشه بأعدائه ﴿الرحيم*﴾ في لطفه بأوليائه، ورفقه بأعدائه بإرسال الرسل، وبيان كل مشكل؛ ثم وصل بذلك دليله، فقال مذكراً الفعل لشدة كفرهم بدليل ما يأتي من إثبات الواو في ﴿وما أنت إلا بشر مثلنا﴾ :﴿كذب أصحاب لئيكة﴾ أي الغيضة ذات الأرض الجيدة التي تبتلع الماء فتنبت الشجر الكثير الملتف ﴿المرسلين*﴾ لتكذيبهم شعيباً عليه السلام فيما أتى به من المعجزة السماوية في خرق العادة وعجز المتحدّين بها عن مقاومتها - لبقية المعجزات الآتي بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿إذ قال لهم﴾.
ولما كانوا أهل بدو وكان هو عليه السلام قروياً، قال: ﴿شعيب﴾ ولم يقل: أخوهم، إشارة إلى أنه لم يرسل نبياً إلا من أهل القرى، تشريفاً لهم لأن البركة والحكمة في الاجتماع، ولذلك نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
85
عن التعرب بعد الهجرة، وقال: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» ﴿ألا تتقون*﴾ أي تكونون من أهل التقوى، وهو مخافة من الله سبحانه وتعالى.
ولما كان كأنه قيل: ما لك ولهذا؟ قال: ﴿إني﴾ وأشار إلى تبشيرهم إن أطاعوه بقوله: ﴿لكم رسول﴾ أي من الله، فهو أمرني أن أقول لكم ذلك ﴿أمين*﴾ أي لا غش عندي ولا خداع ولا خيانه، فلذلك أبلغ جميع ما أرسلت به، ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فاتقوا الله﴾ أي المستحق لجميع العظمة، وهوالمحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها ﴿وأطيعون*﴾ أي لما ثبت من نصحي.
ولا قدم ما هو المقصود بالذات. عطف على خبر ﴿إن﴾ قوله: ﴿وما أسئلكم عليه من أجر﴾ نفياً لما ينفر عنه؛ ثم زاد في البراءة مما يوكس من الطمع في أحد من الخلق فقال: ﴿إن﴾ أي ما ﴿أجري إلا على رب العالمين*﴾ أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فأنا لا أرجو أبداً أحداً يحتاج إلى الإحسان إليه، وإنما أعلق أملي بالمحسن الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد سائل من رفده، وآخذ من عنده ولقد اتضح أن الرسل متطابقون في الدعوة في الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة، مع النصح والعفة، والأمانة والخشية والمحسبة.
86
ولما كان كأنه قيل: ما الذي تنعى فيه؟ قال: مبيناً أن داءهم
86
حب المال، المفضي لهم إلى سوء الحال، ﴿أوفوا الكيل﴾ أي أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم. ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعم فقال: ﴿ولا تكونوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها، ولذلك قال: ﴿من المخسرين*﴾ أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله.
ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال: ﴿وزنوا﴾ أي لأنفسكم وغيركم ﴿بالقسطاس﴾ أي الميزان الأقوم؛ وأكد معناه بقوله: ﴿المستقيم*﴾.
ولما أمر بالوفاء في الوزن، أتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال: ﴿ولا تبخسوا﴾ أي تنقصوا ﴿الناس أشياءهم﴾
87
أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه. ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال: ﴿ولا تعثوا﴾ أي تتصرفوا ﴿في الأرض﴾ عن غير تأمل حال كونكم ﴿مفسدين*﴾ أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد - كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام.
ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال: ﴿واتقوا الذي خلقكم﴾ أي فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله: ﴿والجبلة﴾ أي الجماعة والأمة ﴿الأولين*﴾ الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكم، وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا ﴿من أشد منا قوة﴾ [فصلت: ١٥] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم.
ولما كان الحاصل ما مضى الإعلام بالرسالة، والتحذير من المخالفة،
88
لأنها تؤدي إلى الضلالة إلى أن ختم ذلك بالإشارة بالتعبير بالجبلة إلى أن عذابه تعالى عظيم، لا يستعصي عليه صغير ولا كبير، أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً، وباستصغار الوعيد ثانياً، بأن ﴿قالوا إنما أنت من المسحرين*﴾ أي الذين كرر سحرهم مرة بعد أخرى حتى اختبلوا، فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام، أي فأنت بعيد من الصلاحية للرسالة: ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر مطلقاً لها ولو كانوا أعقل الناس وأبعدهم عن الآفة بقولهم، عاطفين بالواو إشارة إلى عراقته فيما وصفوه به من جهة السحر والسحر، وأنه لا فرق بينه وبينهم: ﴿وما أنت إلا بشر مثلنا﴾ أي فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك، والدليل على أن عطف ذلك أبلغ من إتباعه من غير عطف جزمهم بظن كذبه في قولهم؛ ﴿وإن﴾ أي وإنّا ﴿نظنك لمن الكاذبين*﴾ أي العريقين في الكذب - هذا مذهب البصريين في أن ﴿إن﴾ مخففة من الثقيلة، والذي يقتضيه السياق ترجح مذهب الكوفيين هنا في أن ﴿إن﴾ نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في ﴿وما﴾ المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظن يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظن به، ويؤيده
89
تسبيبهم عنه سؤاله استهزاء به وتعجيزاً له إنزال العذاب بخلاف ما تقدم عن قوم صالح عليه السلام، فقالوا: ﴿فأسقط علينا كسفاً﴾ بإسكان السين على قراءة الجماعة وفتحها في رواية حفص، وكلاهما جمع كسفة، أي قطعاً ﴿من السماء﴾ أي السحاب، أو الحقيقة، وهذا الطلب لتصميمهم على التكذيب، ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلاً عن طلبه ولا سيما كونه على وجه التهكم، ولذلك قالوا: ﴿إن كنت﴾ أي كوناً هو لك كالجبلة ﴿من الصادقين*﴾ أي العريقين في الصدق، المشهورين فيما بين أهله، لنصدقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب من التهديد بالعذاب، وما أحسن نظره إلى تهديده لهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشد منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسله.
ولما كان عذاب العاصي يتوقف على العلم المحيط بأعماله، والقدرة على نكاله، استأنف تعالى الحكاية عنه في تنبيهه لهم على ذلك بقوله: ﴿قال﴾ مشيراً إلى أنه لا شيء من ذلك إلا إلى من أرسله، وهو
90
متصف بكلا الوصفين، وأما هو فإنه وإن كان عالماً فهو قاصر العلم فهو غير قادر: ﴿ربي أعلم﴾ أي مني ﴿بما تعملون*﴾ لأنه محيط العلم فهو شامل القدرة، فهو يعلم استحقاقكم للعذاب، ومقدار ما تستحقون منه ووقت إنزاله، فإن شاء عذبكم، وأما أنا فليس عليّ إلا البلاغ وأنا مأمور به، فلم أخوفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم، فطلبكم ذلك مني ظلم منكم مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.
ولما كان محط كلامهم كله على تكذيبهم له من غير قدح في قدرة الخالق، سبب العذاب عن تكذيبهم فقال: ﴿فكذبوه﴾ أي استمروا على تكذيبه ﴿فأخذهم﴾ أي أخذ ملاك ﴿عذاب يوم الظلة﴾ وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، أتتهم بعد حر شديد نالهم حتى من الأسراب في داخل الأرض أشد مما نالهم من خارجها ليعلم أن لا فاعل إلا الله، وأنه يتصرف كيف شاء على مقتضى العادة وغير مقتضاها فوجدوا من تلك الظلة نسيماً بارداً، وروحاً طيباً، فاجتمعوا تحتها استرواحاً إليها واستظلالاً بها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا بنحو مما اقترحوا وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فنفذت فيهم سهام القدرة.
ولم يجدوا من دونها وقاية ولا سترة من غير أن تدعو حاجة إلى سقوط شيء من جرم السماء، ولا بما دونها من العماء.
91
ولما كان الحال موجباً للسؤال عن يوم الظلة، قال تعالى مهوّلاً لأمره ومعظماً لقدره: ﴿إنه كان﴾ فأكد ب «إن» وعظم ب «كان» ﴿عذاب يوم عظيم*﴾ وزاده عظماً بنسبته إلى اليوم فصار له من الهول، ببديع هذا القول، ما تجب له القلوب وتعظم الكروب.
92
ولما كان لتوالي الإخبار بإهلاك هذه القرون، وإبادة من ذكر من تلك الأمم، من الرعب ما لا يبلغ وصفه، ولا يمكن لغيره سبحانه شرحه، قال تعالى مشيراً إليه تحذيراً من مثله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإنجاء المطرد لكل رسول ومن أطاعه، والأخذ المطرد لمن عصاه في كل عصر بكل قطر، بحث لا يشذ من الفريقين إنسان قاص ولا دان ﴿لآية﴾ أي لدلالة واضحة عظيمة على صدق الرسل وأن يكونوا جديرين بتصديق العباد لهم في جميع ما قالوا من البشائر والنذائر بأن الله تعالى يهلك من عصاه، وينجي من والاه، لأنه الفاعل المختار، لا مانع له، ولا سيما أنت وأنت أعظمهم منزلة، وأكرمهم رتبة، ولا سيما وقد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم بك معرفة قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم
92
لهجة، وأعظمهم أمانة، وأغزرهم عقلاً، وأوضحهم نبلاً، وأعلاهم همة، وأبعدهم عن كل دنس - وإن قل - ساحة؛ ثم عجب من توقفهم في الإيمان مع ما عرفوا من صدق نبيهم وطهارة أخلاقه، ووفور شفقته عليهم، ولم يخافوا من مثل ما تحقفوه من إهلاك هذه الأمم فقال: ﴿وما كان أكثرهم﴾ أي أكثر قومك كما كان من قبلهم مع رؤية هذه الآيات، وإحلال المثلات حتى لكأنهم تواصوا بذلك ﴿مؤمنين*﴾ أي عريقين في الإيمان، بل ما يؤمنون إلا وهو مشركون.
ولما كان هذا كله تأسية للداعي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتهديداً لمن تمادى على تكذيبه، وترجية لمن رجع عن ذنوبه، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بكل ما يعلي شأنك، ويوضح برهانك ﴿لهو العزيز﴾ فلا يعجزه أحد، ولا ينسب في إمهال عاص إلى إهمال ولا عجز ﴿الرحيم*﴾ فلا يأخذ إلا بعد تجاوز الحد، واليأس عن الرد، مع البيان الشافي، في الإبلاغ الوافي، والتلطف الكافي، وكرر الختام بهذا الكلام في هذه السورة ثماني مرات فلعل من أسراره الإشارة إلى سبق الرحمة للغضب، لأن من السورة - المفتتحة بالكتاب القيم والعبد الكامل بالإضافة إلى الملك الأعظم اللذين هما رحمة الخالق للخلائق، وذكر فيها مع تقديمها في الترهيب أهل الرحمة من أهل الكهف
93
الذين قالوا ﴿هب لنا من لدنك رحمة﴾ وموسى والخضر عليهما السلام اللذين آتى كلا منهما من لدنه رحمة، وذا القرنين الذي آتاه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً وقال ﴿هذا رحمة من ربي﴾ - إلى سورة الرحمة بإنزال الفرقان على عبده المضاف إليه للإنذار المؤذن بصفة العزة - ثماني سور، فكل منهما ثامنة الأخرى، وافتتحت السورة الوالية للفرقان تفصيلاً لما في أول الكهف بقوله: ﴿لعلك باخع نفسك﴾ وبذكر ما على الأرض من زينة ﴿ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم﴾ كل ذلك تذكيراً بما في تلك من الكتاب الجامع بالرحمة، وتحذيراً مما في القرآن من الإنذار الفارق بالعزة، فلما كان ذلك كررت صفتا العز التي أذنت بها الفرقان، والرحمة التي صرحت بها الكهف ثماني مرات بحسب ذلك العدد، تذكيراً بهذا المعنى البديع، وترغيباً وترهيباً وتذكيراً بأبواب الرحمة الثمانية مع ما لختم القصص بذلك من الروعة في النفس، والهيبة في القلب، والأنس البالغ للروح، وقدمت هنا صفة العزة الناظرة للإنذار بالفرقان على طريق النشر المشوش مع ما اقتضى ذلك من الحال هنا وجعلت القصص سبعاً تحذيراً من أبواب النقمة السبعة - إلى غير ذلك من الأسرار التي لا تسعها الأفكار.
ولما كانت آثار هذه القصص آيات مرئيات، والإخبار بها آيات
94
مسموعات، وكان في اطراد إهلاك العاصي وإنجاء الطائع في كل منهما، على تباعد الأعصار، وتناهي الأقطار، واختلاف الديار، أعظم دليل على صدق الرسل، وتقرير الرسالات لتوافقهم في الدعوة إلى الله، وتواردهم على التوحيد، والعدل مع العزوف عن الدنيا التي هي شر محض، والإقبال على الآخرة التي هي خير صرف، والتحلي بما أطبق العباد على أنه معالي الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والتخلي عن جميع الدنايا، والتنزه عن كل نقص، عطف على قوله أول السورة ﴿وما يأتيهم من ذكر﴾ - الآية الإخبار برسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إشارة إلى ما في الإخبار عن آثار هذه القصص بالآيات المسموعات من عظيم الدلالات على رسالته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما فيها من الإعجاز من جهة التركيب والترتيب وغير ذلك من عجيب الأساليب الذي لم تؤته أمة من الأمم السالفات، ومن جهة أن الآتي بتلك القصص الغريبة، والأنباء البديعة العجيبة، أمي لم يخالط عالماً مع شدة ملاءمة القرآن لخصوص ما في قصة شعيب عليه السلام من العدل في الكيل والوزن الذي هو مدار القرآن، ومن أنه الظلة الجامعة للخير، والفسطاط الدافع لكل ضير، فقال رداً للمقطع على المطلع: ﴿وإنه﴾ أي الذكر
95
الذي أتاهم بهذه الأخبار وهم عنه معرضون وله تاركون ﴿لتنزيل رب العالمين*﴾ أي الذي رباهم بشمول علمه، وعظيم قدرته، بما يعجز عن أقل شيء منه غيره لكونه أتاهم بالحق منها على لسان من لم يخالط عالماً قط، ومع أنه سبحانه غذاهم بنعمته، ودبرهم بحكمته، فاقتضت حكمته أن يكون هذا الذكر جامعاً لكونه ختاماً، وأن يكون معجزاً لكونه تماماً، ونزله على حسب التدريج شيئاً فشيئاً. مكرراً فيه ذكر القصص سابقاً في كل سورة منها ما يناسب المقصود من تلك السورة، معبراً عما يسوقه منها بما يلائم الغرض من ذلك السياق مع مراعاة الواقع، ومطابقة الكائن.
ولما كان الحال مقتضياً لأن يقال: من أتى بهذا المقال، عن ذي الجلال؟ قال: ﴿نزل به﴾ أي نجوماً على سبيل التدريج من الأفق الأعلى الذي هو محل البركات، وعبر عن جبرائيل عليه السلام بقوله: ﴿الروح﴾ دلالة على أنه مادة خير، وأن الأرواح تجيء بما ينزله من الهدى، وقال: ﴿الأمين*﴾ إشارة إلى كونه معصوماً من كل دنس، فلا يمكن منه خيانة ﴿على قلبك﴾ أي يا محمداً الذي هو أشرف القلوب وأعلاها، وأضبطها وأوعاها، فلا زيغ فيه ولا عوج،
96
حتى صار خلقاً له، وفي إسقاط الواسطة إشارة إلى أنه - لشدة إلقائه السمع وإحضاره الحس - يصير في تمكنه منه بحيث يحفظه فلا ينسى، ويفهمه حق فهمه فلا يخفى، فدخوله إلى القلب في غاية السهولة حتى كأنه وصل إليه بغير واسطة السمع عكس ما يأتي عن المجرمين، وهكذا كل من وعى شيئاً غاية الوعي حفظه كل الحفظ، انظر إلى قوله تعالى ﴿ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً﴾ [طه: ١١٤] ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ [القيامة: ١٦].
ولما كان السياق في هذه السورة للتحذير، قال معللاً للجملة التي قبله: ﴿لتكون من المنذرين*﴾ أي المخوفين المحذرين لمن أعرض عن الإيمان، وفعل ما نهى عنه من العصيان.
ولما كان القصد من السورة التسلية عن عدم إيمانهم بأنه لسفول شأنهم، لا لخلل في بيانه، ولا لنقص في شأنه، قال تعالى موضحاً لتمكنه من قبله: ﴿بلسان عربي﴾. ولما كان في العربي ما هو حوشي لفظاً أو تركيباً، مشكل على كثير من العرب، قال: ﴿مبين*﴾ أي بين في نفسه كاشف لما يراد منه غير تارك لبساً عند من تدبره
97
حق تدبره على ما يتعارفه العرب في مخاطباتها، من سائر لغاتها، بحقائقها ومجازاتها على اتساع إراداتها، وتباعد مراميها في محاوراتها، وحسن مقاصدها في كناياتها واستعاراتها، ومن يحيط بذلك حق الإحاطة غير العليم الحكيم الخبير البصير، وإنما كانت عربيته وإبانته موضحة لسبقه قلبه، لأن من تكلم بلغته - فكيف بالبين منها - تسبق المعاني الألفاظ إلى قلبه، فلو كان أعجمياً لكان نازلاً على السمع، لأنه يسمع أجراس حروف لا يفهم معانيها؛ قال الكشاف: وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات، فإذا كلم بلغته التي لقنها أولاً ونشأ عليها وتطبع بها لم يكن قلبه إلا إلى المعاني، ولا يكاد يفطن للألفاظ، وإن كلم بغيرها وإن كان ماهراً فيها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها - انتهى. ففيه تقريع عظيم لمن يعرف لسان العرب ولا يؤمن به.
ولما كان الاستكثار من الأدلة مما يسكن النفوس، وتطمئن به
98
القلوب، قال تعالى: ﴿وإنه﴾ أي هذا القرآن أصوله وكثير من قصصه وأمهات فروعه ﴿لفي زبر﴾ أي كتب ﴿الأولين*﴾ المضبوطة الظاهرة في كونها أتت من السماء إلى أهلها الذين سكنت النفوس إلى أنه أتتهم رسل، وشرعت لهم شرائع نزلت عليهم بها كتب من غير أن يخالط هذا الذي جاء به أحداً منهم أو من غيرهم في علم ما، وكان ذلك دليلاً قاطعاً على أنه ما أتاه به إلا الله تعالى.
ولما كان التقدير: ألم يكن لهم أمارة على صدق ذلك أن يطلبوا تلك الزبر فينظروا فيذوقوا ذلك منها ليضلوا إلى حق اليقين؟ عطف عليه قوله: ﴿أولم يكن لهم﴾.
ولما كان هذا الأسلوب الاستدلال، اقتضى تقديم الخبر على الاسم في قراءة الجمهور بالتذكير والنصب، فقال بعد تقديم لما اقتضاه من الحال: ﴿آية﴾ أي علامة على النسبة إلينا؛ ثم اتبع ذلك الاسم محلولاً إلى أن والفعل لأنه أخص وأعرف وأوضح من ذكر المصدر، فقال: ﴿أن يعلمه﴾ أي هذا الذي أتى به نبينا من عندنا؛ وأنث ابن عامر الفعل ورفع ﴿آية﴾ اسماً وأخبر عنها بأن والفعل ﴿علماء بني إسرائيل*﴾ فيقروا به ولا ينكروه، ليؤمنوا به ولا يهجروه، فإن قريشاً كانوا كثيراً ما يرجعون إليهم ويعولون في
99
الأخبار الإلهية عليهم، فإن كثيراً منهم أسلم وذكر تصديق التوارة والإنجيل والزبور وغيرها من أسفار الأنبياء عليهم السلام للقرآن في صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك ما يؤيد صدقه، ويحقق أمره، وقد عربت الكتب المذكورة بعد ذلك، وأخرج منها علماء الإسلام كثيراً مما أهملوه حجة عليهم، ولا فرق في ذلك بين من أسلم منهم وبين غيرهم، فإنها حين نزول القرآن كان التبديل قد وقع فيها بإخبار الله تعالى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل مكة بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هذا زمانه، وإنا لنجد في التوراة صفته، فكان ذلك ملزماً لهم بإخبار الله تعالى، وكذلك كل ما استخرج من الكتب يكون حجة على أهلها.
ولما كان التقدير: لم يروا شيئاً من ذلك آية ولا آمنوا، عطف عليه أو على قوله تعالى أول سورة ﴿فقد كذبوا﴾ الآية: ﴿ولو نزلناه﴾ أي على ما هو عليه من الحكمة والإعجاز بما لنا من العظمة ﴿على بعض الأعجمين*﴾ الذين لا يعرفون شيئاً من لسان العرب من
100
البهائم أو الآدميين، جمع أعجم، وهو من لا يفصح وفي لسانه عجمة، والأعجمي مثله بزيادة تأكيد ياء النسبة ﴿فقرأه عليهم﴾ أي ذلك الذي نزلناه عليه على ما هو عليه من الفصاحة والإعجاز مع علمهم القطعي أنه لا يعرف شيئاً من اللسان ﴿ما كانوا به مؤمنين*﴾ أي راسخين ولتمحلوا لكفرهم عذراً في تسميته سحراً أو غير ذلك من تعنتهم ﴿وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهو مشركون﴾ من فرط عنادهم، وتهيئهم للشر واستعدادهم له، بل لا يسمعونه حق السماع، ولا يعونه حق الوعي، بل سماعاً وفهماً على غير وجهه.
101
ولما كان ذلك محل عجب، وكان ربما ظن له أن الأمر على غير حقيقته، قرر مضمونه وحققه بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا السلك العجيب - الذي هو سماع وفهم ظاهري - في صعوبة مدخله وضيق مدرجه.
ولما لم يكن السياق مقتضياً لما اقتضاه سياق الحجر من التأكيد، اكتفى بمجرد الحدوث فقال: ﴿سلكناه﴾ أي كلامنا والحق الذي أرسلنا به رسلنا بما لنا من العظمة، في قلوبهم - هكذا كان الأصل، ولكنه علق الحكم بالوصف، وعم كل زمن وكل من اتصف به فقال: ﴿في قلوب المجرمين*﴾ أي الذين طبعناهم على الإجرام، وهو القطيعة
101
لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً.
ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله: ﴿لا يؤمنون به﴾ أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام ﴿حتى يروا العذاب الأليم*﴾ فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.
ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد. وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً، دل على ذلك مصوراً لحاله بقوله دالاًّ بالفاء على الأشدية والتعقيب: ﴿فيأتيهم بغتة﴾.
ولما كان البغت الإتيان على غفلة، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله: ﴿وهم لا يشعرون*﴾ ودل على تطاوله في محالهم، وجوسه لخلالهم، وتردده في حلالهم، بقوله دالاًّ على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك: ﴿فيقولوا﴾ أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه: ﴿هل نحن منظرون*﴾ أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع.
ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله، منبهاً على أن قدره يفوق الوصف بنون العظمة: ﴿أفبعذابنا﴾ أي وقد تبين لهم
102
لما ينبغي وصله، كما ينظم السهم إذا رمي به، أو الرمح إذا طعن به في القلب، لا يتسع له، ولا ينشرح به، بل تراه ضيقاً حرجاً.
ولما كان هذا المعنى خفياً، بينه بقوله: ﴿لا يؤمنون به﴾ أي من أجل ما جبلوا عليه من الإجرام، وجعل على قلوبهم من الطبع والختام ﴿حتى يروا العذاب الأليم*﴾ فحينئذ يؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان ويطلبون الأمان حيث لا أمان.
ولما كان إتيان الشر فجاءة أشد. وكان أخذه لهم عقب رؤيتهم له من غير مهلة يحصل فيها نوع استعداد أصلاً، دل على ذلك مصوراً لحاله بقوله دالاًّ بالفاء على الأشدية والتعقيب: ﴿فيأتيهم بغتة﴾.
ولما كان البغت الإتيان على غفلة، حقق ذلك نافياً للتجوز بقوله: ﴿وهم لا يشعرون*﴾ ودل على تطاوله في محالهم، وجوسه لخلالهم، وتردده في حلالهم، بقوله دالاًّ على ما هو أشد عليهم من المفاجأة بالإهلاك: ﴿فيقولوا﴾ أي تأسفاً واستسلاماً وتلهفاً في تلك الحالة لعلمهم بأنه لا طاقة به بوجه: ﴿هل نحن منظرون*﴾ أي مفسوح لنا في آجالنا لنسمع ونطيع.
ولما حقق أن حالهم عند الأخذ الجؤار بالذل والصفار به، تسبب عنه ما يستحقون باستعجاله من الإنكار في قوله، منبهاً على أن قدره يفوق الوصف بنون العظمة: ﴿أفبعذابنا﴾ أي وقد تبين لهم
103
كيف كان أخذه للأمم الماضية، والقرون الخالية، والأقوام العاتية! ﴿يستعجلون*﴾ أي بقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء، أسقط السماء علينا كسفاً، ائت بالله والملائكة قبيلاً، كما قال هؤلاء الذين قصصنا أمرهم، وتلونا ذكرهم ﴿فأسقط علينا كسفاً من السماء﴾ ونحو ذلك.
ولما تصورت حالة مآبهم، في أخذهم بعذابهم، وكان استعجالهم به يتضمن الاستخفاف والتكذيب والوثوق بأنهم ممتعون، وتعلق آمالهم بأن تمتيعهم بطول زمانه، وكان من يؤذونه يتمنى لو عجل لهم، سبب عن ذلك سبحانه سؤال داعيهم مسلياً ومؤسياً ومعزياً فقال: ﴿أفرأيت﴾ أي هب أن الأمر كما يعتقدون من طول عيشهم في النعيم فأخبرني ﴿إن متعناهم﴾ أي في الدنيا برغد العيش وصافي الحياة.
ولما كانت حياة الكافر في غاية الضيق والنكد وإن كان في أصفى رغد، عبر بما يدل على القحط بصيغة القلة وإن كان السياق يدل على أنها للكثرة فقال: ﴿سنين ثم جاءهم﴾ أي بعد تلك السنين المتطاولة، والدهور المتواصلة ﴿ما كانوا يوعدون*﴾ أي مما طال إنذارك إياهم به وتحذيرك لهم منه على غاية التقريب لهم والتمكين في إسماعهم، أخبرني ﴿ما﴾ أي أيّ شيء ﴿أغنى عنهم﴾ أي فيما أخذهم من العذاب ﴿ما كانوا﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة وطول الزمان ﴿يمتعون*﴾
104
تمتيعاً هو في غاية السهولة عندنا، وصوره بصورة الكائن تنديماً عليه، والمعنى أنه ما أغنى عنهم شيئاً لأن عاقبته الهلاك، وزادهم بعداً من الله وعذابه بزيادة الآثام الموجبة لشديد الانتقام.
ولما كان التقدير: لم يغن عنهم شيئاً لأنهم ما أخذوا إلا بعد إنذار المنذرين، لمشافهتك إياهم به، وسماعهم لمثل ذلك عمن مضى قبلهم من الرسل، عطف عليه قوله: ﴿وما أهلكنا﴾ أي بعظمتنا، واعلم بالاستغراق بقوله: ﴿من قرية﴾ أي من القرى السالفة، بعذاب الاستئصال ﴿إلا لها منذرون*﴾ رسولهم ومن تبعه من أمته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبل، وأعراها من الواو لأن الحال لم يقتض التأكيد كما في الحجر، لأن المنذرين مشاهدون. وإذا تأملت آيات الموضعين ظهر لك ذلك؛ ثم علل الإنذار بقوله: ﴿ذكرى﴾ أي تنبيهاً عظيماً على ما فيه من النجاة، وتذكيراً بأشياء يعرفونها بما أدت إليه فطر عقولهم، وقادت إليه بصائر قلوبهم، وجعل المنذرين نفس الذكرى كما قال تعالى ﴿قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً﴾ [الطلاق: ١٠] وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه.
ولما كان التقدير: فما أهلكنا قرية منها إلا بالحق، عطف عليه قوله: ﴿وما كنا﴾ أو الواو للحال من نون ﴿أهلكنا﴾ ﴿ظالمين*﴾ أي في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا، بعد الإعذار إليهم، ومتابعة الحجج، ومواصلة الوعيد.
ولما أخبر سبحانه أن غاية إنزال هذا القرآن كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنذرين، وأتبع ذلك ما لاءمه حتى ختم بإهلاك من كذب المنذرين، عطف على قوله: ﴿نزل به الروح﴾ قوله إعلاماً بأن العناية شديدة في هذا السياق بالقرآن لتقرير أنه من عند الله ونفى اللبس عنه بقوله: ﴿وما تنزلت به﴾ أي القرآن ﴿الشياطين*﴾ أي ليكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
105
ولما كان لا يلزم من عدم التلبس بالفعل عدم الصلاحية له قال: ﴿وما ينبغي لهم﴾ أي ما يصح وما يتصور منهم النزول بشيء منه لأنه خير كله وبركة، وهم مادة الشر والهلكة، فبينهما تمام التباين، وأنت سكينة ونور، وهم زلزلة وثبور، فلا إقبال لهم عليك، ولا سبيل بوجه إليك.
ولما كان عدم الانتفاء لا يلزم منهم عدم القدرة قال: ﴿وما يستطيعون*﴾ أي النزول به وإن اشتدت معالجتهم على تقدير أن يكون لهم قابلية لذلك؛ ثم علل هذا بقوله: ﴿إنهم عن السمع﴾ أي
105
الكامل الحق، من الملأ الأعلى ﴿لمعزولون*﴾ أي بما حفظت به السماء من الشهب وبما باينوا به الملائكة في الحقيقة لأنهم خير صرف، ونور خالص، وهؤلاء شر بحت وظلمة محضة، فلا يسمعون إلا خطفاً، فيصير - بما يسبق إلى أفهامهم، ويتصور من باب الخيال في أوهامهم - خلطاً لا حقيقة لأكثره، فلا وثوق بأغلبه، ولا يبعد أن يكون ذلك عاماً حتى يشمل السماع من المؤمنين لما شاركوا به الملائكة من النور والخير، انظر ما ورد في آية الكرسي من أنها لا تقرأ في بيت فيقربه شيطان، وفي رواية: إلا خرج منه الشيطان، وورد نحوه في الآيتين من آخر سورة البقرة، وكذا ما كان من أشكال ذلك، وأعظم منه قوله عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه: «إنه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» وترك تعليل الانبغاء لظهوره.
ولما كان تقديره أنهم إلى الطواغيت الباطلة يدعون، والقرآن داع إلى الله الحق المبين، سبب عنه قوله: ﴿فلا تدع﴾ وخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق لديه، وأعزهم عليه، ليكون لطفاً لغيره فيما يأتيه من الإنذار، فيكون الوعيد أزجر له، ويكون هو له أقبل ﴿مع الله﴾ أي الحائز لكل كمال الداعي إليه هذا القرآن الذي
106
نزل به عليك الروح الأمين، لما بينك وبينهما من تمام النسبة بالنورانية والخير ﴿إلهاً﴾ وتقدم في آخر الفرقان حكمة الإتيان بقوله: ﴿آخر فتكون﴾ أي فيتسبب عن ذلك أن تكون ﴿من المعذبين*﴾ من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا الكلام لكل من سمع القرآن في الحث على تدبره معناه، ومقصده ومغزاه، ليعلم أنه في غاية المباينة للشياطين وضلالهم، والملاءمة للمقربين وأحوالهم، لعله خاطب به المعصوم، زيادة في الحث على اتباع الهدى، وتجنب الردى، وليعطف عليه قوله: ﴿وأنذر﴾ أي بهذا القرآن ﴿عشيرتك﴾ أي قبيلتك ﴿الأقربين*﴾ أي الأدنين في النسب، ولا تحاب أحداً، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره، لأنه سلك به مسلك الأقرب، ولقد قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية حق القيام؛ روى البخاري
«عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت صعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر يا بني عدي لبطون - قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل
107
إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيََّ؟ قالوا: نعم! ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تبت يدا أبي لهب وتب﴾ » وفي رواية أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يابني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً! يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً» وروى القصة أبو يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أن قريشاً جاءته فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وموسى في البحر وعيسى في إحياء الموت، وأن يسير الجبال، ويفجر الأنهار، ويجعل الصخر ذهباً، فأوحى الله إليه وهم عنده، فلما سُرِّيَ عنه أخبرهم أنه أعطي ما سألوه، ولكنه أن أراهم فكفروا عوجلوا. فاختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
108
الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة.
ولما كانت النذارة إنما هي للمتولين، أمر بضدها لأضدادهم فقال: ﴿واخفض جناحك﴾ أي لن غاية اللين، وذلك لأن الطائر إذا أراد أن يرتفع رفع جناحيه، فإذا أراد أن ينحط كسرهما وخفضهما، فجعل ذلك مثلاً في التواضع ﴿لمن اتبعك﴾ ولعله احترز بالتعبير بصيغة الافتعال عن مثل أبي طالب ممن لم يؤمن أو آمن ظاهراً وكان منافقاً أو ضعيفاً بالإيمان فاسقاً؛ وحقق المراد بقوله: ﴿من المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة سواء كانوا من الأقربين أو الأبعدين.
ولما أفهم ذلك أن هذا الحكم عام في جميع أحوالهم، فصل بقوله: ﴿فإن عصوك﴾ أي هم فغيرهم من باب الأولى ﴿فقل﴾ أي تاركاً لما كنت تعاملهم به حال الإيمان من اللين: ﴿إني بريء﴾ أي منفصل غاية الانفصال ﴿مما تعملون*﴾ أي من العصيان الذي أنذر منه القرآن، وخص المؤمنين إعلاء لمقامهم، بالزيادة في إكرامهم، ليؤذن ذلك المزلزل بالعلم بحاله فيحثه ذلك على اللحاق بهم.
ولما أعلمت هذه الآية بمنابذة من عصى كائناً من كان ولو كان ممن ظهر منه الرسوخ في الإيمان، لما يرى منه من عظيم الإذعان، أتبعه قوله: ﴿وتوكل﴾ أي في عصمتك ونجاتك والإقبال
109
بالمنذرين إلى الطاعة، وقراءة أهل المدينة والشام بالفاء السببية أدل على ذلك ﴿على العزيز﴾ أي القادر على الدفع عنكم والانتقام منهم ﴿الرحيم*﴾ أي المرجو لإكرام الجميع برفع المخالفة والشحناء، والإسعاد بالاستعمال فيما يرضيه؛ ثم أتبع الأمر بالتوكل الوصف بما يقتضي الكفاية في كل ما ينوب من دفع الضر وجلب النفع، وذلك هو العلم المحيط المقتضي لجميع أوصاف الكمال، فقال: ﴿الذي يراك﴾ أي بصراً وعلماً ﴿حين تقوم*﴾ من نومك من فرشك تاركاً لحبك، لأجل رضا ربك ﴿و﴾ يرى ﴿تقلبك﴾ في الصلاة ساجداً وقائماً ﴿في الساجدين*﴾ أي المصلين من أتباعك المؤمنين، لكم دوي بالقرآن كدوي النحل، وتضرع من خوف الله، ودعاء وزفرات تصاعد وبكاء، أي فهو جدير لإقبالكم عليه، وخضوعكم بين يديه، بأن يحبوكم بكل ما يسركم.
110
ولما كانت هذه الأحوال مشتملة على الأقوال، وكان قد قدم الرؤية المتضمنة للعلم، علل ذلك بالتصريح به مقروناً بالسمع فقال: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ أي لجميع أقوالكم ﴿العليم*﴾ أي بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم، وقد تقدم غير مرة أن شمول العلم
110
يستلزم تمام القدرة، فصار كأنه قال: إنه السميع العليم البصير القدير، تثبيتاً للمتوكل عليه.
ولما بين سبحانه أن القرآن مناف لأقوال الشياطين، وبين أن حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحال أتباعه منافية لأحوالهم وأحوال من يأتونه من الكهان بما ذكره سبحانه من فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل أشياعه رضي الله عنهم من الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فعلم أن بينهم وبينهم بوناً بعيداً، وفرقاً كبيراً شديداً، وأن حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافق لحال الروح الأمين، النازل عليه بالذكر الحكيم، تشوفت النفس إلى معرفة أحوال إخوان الشياطين، مقال محركاً لمن يريد ذلك، متمماً لدفع اللبس عن كون القرآن من عند الله، وفرق بين الآيات المتكلفة بذلك تطرية لذكرها وتنبيهاً على تأكيد أمرها: ﴿هل أنبئكم﴾ أي أخبركم خبراً جليلاً نافعاً في الدين، عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ﴿على من تنزل﴾ وتردد ﴿الشياطين*﴾ حين تسترق السمع على ضرب من الخفاء بما آذن به حذف التاء، ودخل حرف الجر على الاسم المتضمن للاستفهام،
111
لأن معنى التضمن أنه كان أصله: أمن، فحذفت منه الهمزة حذفاً مستمراً كما فعل في «هل» لأن أصله «أهل» كما قال:
سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
فالاستفهام مقدر قبل الجار - أفاده الزمخشري.
ولما كان كأنه قيل: نعم أنبئنا! قال: ﴿تنزل﴾ على سبيل التدريج والتردد ﴿على كل أفاك﴾ أي صراف - على جهة الكثرة والمبالغة - للأمور عن وجوهها بالكذب والبهتان، والخداع والعدوان، من جملة الكهان وأخذان الجان ﴿أثيم*﴾ فعال الآثام بغاية جهده، وهؤلاء الأثمة ﴿يلقون السمع﴾ إلى الشياطين، ويصغون إليهم غاية الإصغاء، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم، فهم بما سمعوا منهم يحدثون، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون ﴿وأكثرهم﴾ أي الفريقين ﴿كاذبون*﴾ فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات، الموقع
112
في الإفك والضلالات؛ قال الرازي في اللوامع ما معناه أنه حيثما كان استقامة في حال الخيال - أي القوة المتخيلة - كانت منزلة الملائكة، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين، فمن ناسب الروحانيين من الملائكة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وأبصروا بعينيه، فهم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين
﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة﴾ [فصلت: ٣٠] ومن ناسب الشياطين من الأبالسة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وابصروا بعينيه، هم شياطين الإنس يمشون في الأرض مفسدين - انتهى.
ولما بطل - بإبعاده عن دركات الشياطين، وإصعاده إلى درجات الروحانيين، من الملائكة المقربين، الآتين عن رب العالمين - كونه سحراً، وكونه أضغاثاً ومفترى، نفى سبحانه كونه شعراً بقوله: ﴿والشعراء يتبعهم﴾ أي بغاية الجهد، في قراءة غير نافع بالتشديد، لاستحسان مقالهم وفعالهم، فيتعلمون منهم وينقلون عنهم ﴿الغاوون*﴾ أي الضالون المائلون عن السنن الأقوم إلى الزنى والفحش وكل فساد يجر إلى الهلاك، وهم كما ترى بعيدون من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
113
ورضي عنهم الساجدين الباكين الزاهدين.
ولما قرر حال أتباعهم، فعلم منه أنهم هم أغوى منهم، لتهتكهم في شهوة اللقلقة باللسان، حتى حسن لهم الزور والبهتان، دل على ذلك بقوله: ﴿ألم تر أنهم﴾ أي الشعراء. ومثل حالهم بقوله: ﴿في كل واد﴾ أي من أودية القول من المدح والهجو والنسيب والرثاء الحماسة والمجون وغير ذلك ﴿يهيمون*﴾ أي يسيرون سير الهائم حائرين وعن طريق الحق جائرين، كيفما جرهم القول انجروا من القدح في الأنساب، والتشبيب بالحرم، والهجو. ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولهذا قال: ﴿وأنهم يقولون ما لا يفعلون*﴾ أي لأنهم لم يقصدوه. وإنما ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، انظر إلى مقامات الحريري وما اصطنع فيها من الحكايات، وابتدع بها من الأمور المعجبات. التي لا حقائق لها، وقد جعلها أهل الاتحاد أصلاً لبدعتهم الكافرة، وقاعدة لصفقتهم الخاسرة، فما أظهر حالهم، وأوضح ضلالهم! وهذا بخلاف القرآن فإنه معان جليلة محققة، في ألفاظ متينة جميلة منسقة، وأساليب معجزة مفحمة، ونظوم معجبة محكمة،
114
لا كلفة في شيء منها، فلا رغبة لذي طبع سليم عنها، فأنتج ذلك أنه لا يتبعهم على أمرهم إلا غاو مثلهم، ولا يزهد في هذا القرآن إلا من طبعه جاف، وقلبه مظلم مدلهم.
ولما كان من الشعر - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكمة، وكان - كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - بمنزلة الكلام منه حسن ومنه قبيح، وكان من الشعراء من يمدح الإسلام والمسلمين، ويهجو الشرك والمشركين، ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويحث على مكارم الأخلاق، وينفر عن مساوئها، وكان الفيصل بين قبيلي حسنة وقبيحة كثرة ذكر الله، قال تعالى: ﴿إلا الذين آمنوا﴾ أي بالله ورسوله ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي التي شرعها الله ورسوله لهم ﴿وذكروا الله﴾ مستحضرين ما له من الكمال ﴿كثيراً﴾ لم يشغلهم الشعر عن الذكر، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع، فصار لذلك كله ذكر الله، ويكفي مثالاً لذلك قصيدة عزيت لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وجوابها لابن الزبعرى، وكان إذ ذاك على شركه، وذلك في أول سرية كانت في الإسلام. وهي سرية عبيدة بن الحارث بم المطلب بن عبد مناف رضي الله تعالى عنه،
115
فإن قصيدة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس فيها بيت إلا وفيه ذكر الله إما صريحاً وإما بذكر رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أو شيء من دينه، وما ليس فيه شيء من ذلك فهو ىيل إليه لبنائه عليه، وأما نقيضها فلا شيء في ذلك فيها؛ قال ابن إسحاق: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه في غزوة عبيدة بن الحارث.
116
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث أرقت وأمر في العشيرة حادث
ترى من لؤيّ فرقة لا يصدها عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا عليه وقالوا لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا وهروا هرير المحجرات اللواهث
فكم قد متتنا فيهم بقرابة وترك التقى شيء لهم غير كارث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم فما طيباب الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب لنا العز منها في الفروع الأثائث
فأولى برب الراقصات عشية حراجيج تخذي في السريح الرثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف يردن حياض البئر ذاب النبائث
لئن لم يفيقوا عاجلاً عن ضلالهم ولست إذا آليت قولاً بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق تحرّم أطهار النساء الطوامث
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة وكل كفور يبتغي الشر باحث
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم فإني من إعراضكم غير شاعث
فأجابه ابن الزبعرى فقال:
117
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث بكيت بعين دمعها غير لابث
ومن عجب الأيام والدهر كله له عجب من سابقات وحادث
لجيش أتانا ذي عرام يقوده عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث
لنترك أصناماً بمكة عكفاً مواريث موروث كريم لوارث
فلما لقيناهم بسمر ردينة وجرد عتاق في العجاج لواهث
وبيض كأن الملح فوق متونها بأيدي كماة كالليوث العوائث
نقيم بها إعصاراً ما كان مائلاً ونشفي الذخول عاجلاً غير لابث
فكفوا على خوف شديد وهيبة وأعجبهم أمر لهم أمر رائث
ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسوة أيامي لهم من بين نسء وطامث
وقد غودرت قتلى يخبر عنهم حفيّ بهم أو غافل غير باحث
فأبلغ ابابكر لديك رسالة فما أنت عن أعراض فهر بماكث
ولما تجب مني يمين غليظة تجدد حرباً حلفه غير حانث
وروى البغوي بسنده من طريق عبد الرزاق من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده! لكأنما ترمونهم به نضح النبل» وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما ينشد الشعر ويستنشده في المسجد، وروى الإمام أحمد حديث كعب هذا، وروى النسائي برجال احتج بهم مسلم عن أنس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» قال البغوي: وروي أنه - أي ابن عباس رضي الله عنهما دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي
118
فاستنشهده القصيدة التي قالها:
أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر
وهي قريب من تسعين بيتاً، فلما فرغها أعادها ابن عباس وكان حفظها بمرة واحدة، ويكفي الشاعر في التفصي عن ذم هذه الآية له أن لا يغلب عليه الشعر فيشغله عن الذكر حتى يكون من الغاوين، وليس من شرطه أن لا يكون في شعره هزل أصلاً، فقد كان حسان رضي الله تعالى عنه ينشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل قوله في قصيدة طويلة مدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها:
119
وقد كان تحريم الخمر سنة ثلاث من الهجرة أو سنة أربع، وهذه القصيدة قالها حسان رضي الله تعالى عنه في الفتح سنة ثمان أو في عمرة القضاء سنة سبع، فهي مما يقول الشاعر ما لا يفعل.
ولما عرف سبحانه بحال المستثنين في الذكر الذي هو أساس كل أمر، أتبعه ما حملهم على الشعر من الظلم الذي رجاهم النصر فقال: ﴿وانتصروا﴾ أي كلفوا أنفسهم أسباب النصر بشعرهم فيمن آذاهم ﴿من بعد ما ظلموا﴾ أي وقع ظلم الظالم لهم بهجو ونحوه.
ولما أباح سبحانه الانتصار من الظالم، وكان البادىء - إذا اقتصر المجيب على جوابه - أظلم، كان - إذا تجاوز - جديراً بأن يعتدي فيندم، حذر الله الاثنين مؤكداً للوعيد بالسين في قوله الذي كان السلف الصالح يتواعظون به لأنك لا تجد أهيب منه، ولا أهول ولا أوجع لقلوب المتأملين، ولا أصدع لأكباد المتدبرين: ﴿وسيعلم﴾ وبالتعميم في قوله: ﴿الذين ظلموا﴾ أي كلهم من كانوا، وبالتهويل بالإبهام في قوله: ﴿أي منقلب﴾ أي في الدنيا والاخرة ﴿ينقلبون*﴾ وقد انعطف آخرها - كما ترى بوصف الكتاب المبين
120
بما وصف به الجلالة والعظم بأنه من عند الله متنزلاً به خير مليكته، على أشرف خليقته، مزيلاً لكل لبس، منفياً عنه كل باطل، وبالختام بالوعيد على الظلم - على أولها في تعظيم الكتاب المبين، وتسلية النبي الكريم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووعيد الكافرين الذين هم أظلم الظالمين، واتصل بعدها في وصف القرآن المبين، وبشرى المؤمنين ووعيد الكافرين، فسبحان من أنزله على النبي الأمي الأمين، هدى للعالمين، وآية بينة بإعجازه للخلائق أجمعين، باقية إلى يوم الدين.
121
مقصودها وصف هذا الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين، بالفصل بين الصراط المستقيم، وطريق الحائرين، والجمع لأصول الدين، لإحاطة علم منزله بالخفي والمبينن وبشارة المؤمنين، ونذارة الكافرين، بيوم احتماع الأولين والآخرين، وكل ذلك يرجع إلى العلم المستلزم للحكمة، فالمقصود الأعظممنها إظهار العلم والحكمة كما كان مقصود التي قبلها إظهار البطش والنقمة، وأدل ما فيها على هذا المقصود ما للنمل من حسن التدبير، وسداد المذاهب في العيش، ولا سيما ما ذكر عنها سبحانه من صحة القصد في السياسة، وحسن التعبير عن ذلك القصد، وبلاغة التأدية) بسم الله (الذي كمل علمه فبهرت حكمته) الرحمن (الذي عم بالهداية بأوضح البيان) الرحيم (الذي منّ بجنان النعيم.
على من ألزمه الصراط المستقيم)
122
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
كأن سيبئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء