ﰡ
مكيةٌ غيرَ ثمانِ آياتٍ من قوله: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾ إلى قوله: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾، آيُها سِتٌّ ومِئَتا آيةٍ، وحروفُها أربعةَ عشرَ ألفًا وثلاثُ مئةٍ وعشرةُ أحْرُفٍ، وكَلِمُها ثلاثةُ آلافٍ وثلاث مئة وخمسٌ وعشرونَ كلمةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿المص (١)﴾.[١] ﴿المص﴾ قيل: معناه: أنا اللهُ الملك الصادق. قرأ أبو جعفر: بتقطيعِ الحروفِ يسكُتُ على كلِّ حرفٍ سكتة يسيرة، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سورةِ البقرةِ (١)، وموضِعُه رفيع بالابتداءِ.
...
﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)﴾.
﴿أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ وهو القرآنُ.
﴿فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ أي: صيقٌ. المعنى: لا يضيقُ صدرُك بالإبلاغِ مخافةَ أن تُكَذَّبَ فيه، فإنما عليك البلاغ.
﴿لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ أي: بالكتابِ المنزلِ، فالكلامُ فيه تقديم وتأخيرٌ؛ أي: أُنزلَ عليك الكتابُ لتنذرَ به، فلا يكنْ في صدرِكَ حرجٌ منه.
﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ عِظَة لهم.
...
﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾.
[٣] وقيل لهم: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يعمُّ القرآنَ والسنَّةَ؛ لقولهِ تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣، ٤].
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ﴾ أي: دونِ اللهِ.
﴿أَوْلِيَاءَ﴾ تطيعونهم في معصيةِ اللهِ.
﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ أي: تتَّعِظون قليلًا، حيثُ تتركونَ (٢) دينَ الله، و (ما) مزيدةٌ لتأكيدِ القِلَّة. قرأ ابنُ عامرٍ: (يَتَذَكَّرُونَ) بياء قبلَ التاء على أن الخطابَ بعدُ مع النبيِّ - ﷺ -، وكذا هو في مصاحفِ أهلِ الشام، والباقون: بتاء واحدة
(٢) في "ن": "تتذكرون".
...
﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤)﴾
[٤] ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أي: وكثيرًا من القرى.
﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي: أردْنا إهلاكَ أهلِها.
﴿فَجَاءَهَا﴾ أي: فجاء أهلَها.
﴿بَأْسُنَا﴾ عذابُنا.
﴿بَيَاتًا﴾ ليلًا.
﴿أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾ نائِمون نصفَ النهارِ، والقيلولةُ: استراحةُ نصفِ النهارِ وإنْ لم يكنْ (٣) نومٌ.
...
﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥)﴾.
[٥] ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ﴾ أي: تضرُّعُهم وقولهم.
﴿إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بفعلِنا، اعترفوا حيثُ لم ينفعِ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤٤).
(٣) في "ن": "يك".
...
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي: الأممَ عمَّا بلغوا؛ توبيخًا.
﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ عَمَّا أُجيبوا؛ تقريرًا لذلكَ.
...
﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (٧)﴾.
[٧] ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ﴾ على المسؤولين ما عَمِلوا.
﴿بِعِلْمٍ﴾ عالمينَ بجميعِ ما صدرَ منهم.
﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ عنهُم فيخفى علينا شيء من أحوالِهم.
...
﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَالْوَزْنُ﴾ أي: القضاءُ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يومَ السؤال.
﴿الْحَقُّ﴾ العدلُ، وقيل: المرادُ: حقيقةُ الوزنِ، وقد وردَ في الحديث:
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ﴾ رَجَحَتْ.
﴿مَوَازِينُهُ﴾ جمعُ ميزانٍ؛ لأنَّ لكلِّ عبدٍ ميزانًا، وقيلَ: جمعُ موزونٍ، وهو الحسناتُ.
﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزونَ بالنجاةِ والثواب.
...
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (٩)﴾.
[٩] ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ يجحدون.
...
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ﴾ ملَّكْناكم.
﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ فيما صنعتُ لكم.
...
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)﴾.
[١١] ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي: آدمَ.
﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ في ظهرِه، وذُكر آدمُ بلفظِ الجمع لأنه أبو البشرِ، ففي خَلقِه خلقُ مَنْ يخرجُ من صُلْبِهِ.
﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ لآدمَ، وتقدَّمَ مذهبُ أبي جعفرٍ في ضمِّ التاءِ من قوله: (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا)، والكلامُ عليه، وعلى تفسيرِ السجودِ مستوفىً في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الآية: ٣٤].
...
﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿قَالَ﴾ اللهُ: يا إبليسُ.
﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ (لا) زائدة؛ أي: أيُّ شيءٍ منعَكَ من السجودِ وقتَ أمري؟ فيه دليل على أن مطلقَ الأمرِ للوجوبِ، وأنه على الفَوْرِ.
﴿قَالَ﴾ إبليسُ مجيبًا له:
...
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ أي: من الجنةِ؛ لأنها مكانُ المطيعين.
﴿فَمَا يَكُونُ﴾ فما ينبغي.
﴿لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ﴾ بمخالفةِ الأمرِ.
﴿فِيهَا﴾ وفيه تنبيهٌ على أن التكبُّرَ لا يليقُ بأهل الجنة.
﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ الذَّليلينَ.
...
﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤)﴾
[١٤] ﴿قَالَ﴾ إبليسُ عندَ ذلك: ﴿أَنْظِرْنِي﴾ أَخِّرْني فلا تُمِتْني.
﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ من قبورِهم وَقْتَ النفخةِ الآخرةِ عندَ قيامِ الساعة، قال ابنُ عباسٍ: أرادَ الخبيثُ أَلَّا يذوقَ الموتَ (١)؛ لأنه لا موتَ بعدَها، فلم يُجَبْ، وإنما أُنْظِرَ إلى الوقتِ المعلومِ، وهي النفخةُ الأولى، فيموتُ مَعَ مَنْ يموتُ.
[١٥] ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ إلى وقتِ النفخةِ الأولى، وانظر فتنةً للعبادِ، ولبيانِ الطائعِ والعاصي، ولِيَعْظُمَ الأجرُ والوِزْرُ.
...
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ والغيُّ: الضلالُ والخَيْبةُ، ومعنى الكلام القَسَمُ؛ أي: فبإغوائِك إيايَ بواسطتِهم.
﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ﴾ أي: على صراطِكَ.
﴿الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: لأجلسنَ لهم على طرقِ الإِسلامِ والخيراتِ، وأحولُ بينَهم وبينَها.
...
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ﴾ بِوَسْوَسَتي.
﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ من جهةِ الآخرةِ، فَأُشَكِّكُهم فيها.
﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾ من جهةِ الدنيا، فأُرغِّبُهم فيها.
﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾ طرقِ الحسناتِ.
﴿وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ جمع شِمال: طرقِ السيئاتِ، رُوي أنه يأتي ابنَ آدمَ من جميعِ الجهاتِ إلَّا من فَوْق؛ لئلَّا يحولَ بينَ العبدِ والرحمةِ. تلخيصُه: أَسْعى في إغوائهم بكلِّ طريقٍ.
...
﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا﴾ بالهمز، أي: مَعيبًا.
﴿مَدْحُورًا﴾ مُبْعَدًا.
﴿لَمَنْ﴾ بفتح اللام؛ لأنها مُوَطِّئَةٌ لقسمٍ محذوفٍ تقديره: والله لَمَنْ.
﴿تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ أي: من بني آدمَ، وجوابُ القَسَم:
﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ﴾ أي: منكَ ومن أتباعِك من الجنِّ والإِنْسِ.
﴿أَجْمَعِينَ﴾ تلخيصُه: هذا الوعيدُ لمن تبعَكَ.
...
﴿وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿وَيَاآدَمُ﴾ أي: قلنا: يا آدَمُ.
﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فتصيرا (١) من الذين ظلموا أنفسَهم، تقدَّم اختلافُ القراءِ في قولهِ (حَيْثُ شِئْتُما) و (حَيْثُ شِئْتُمْ) في سورة البقرة.
[٢٠] ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ ألقى في أنفسِهما سِرًّا.
﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ﴾ بواوين، الأولى مضمومة، المعنى: زَيَّنَ لهما ما نُهِيا عنه ليكشفَ لهما ما سُتِرَ.
﴿عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا﴾ عَوْراتِهما؛ أي: فعلَ ذلكَ بهما ليريَهما ما يَسوءُهما، ولذلك سُميت سوءَة، وفي هذا دليل على (١) أن كشفَ العورةِ في غايةِ القُبْحِ في كلِّ زمانٍ، ثم بين الوسوسة فقال:
﴿وَقَالَ﴾ يعني: إبليسُ لآدمَ وحواءَ.
﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا﴾ أي: إلا كراهةَ أن تكونا.
﴿مَلَكَيْنِ﴾ روحانِيَّيْنِ.
﴿أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ الباقينَ في الجنةِ لا تموتان، واستدلَّ بعضُ الناسِ بهذه الآية على فضلِ الملائكةِ على الأنبياءِ، قالَ ابنُ فُوْرَك: لا حجَّة في هذهِ الآيةِ؛ لأنه يُحتمل أن يريدَ مَلَكَين في ألَّا تكونَ لهما شهوةٌ في طعامٍ (٢)، وتقدَّمَ ذكرُ مذهبِ (٣) أهلِ السنَّةِ في تفضيلِ الأنبياءِ على الملائكةِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١].
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٧/ ١٧٨).
(٣) "مذهب" ساقطة من "ن".
[٢١] ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾ حلفَ لهما يمينًا مَوَثّقةً.
﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ بحلفي، وإبليسُ أولُ مَنْ حلفَ كاذِبًا.
...
﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿فَدَلَّاهُمَا﴾ حَطَّهما عن منزلتهِما.
﴿بِغُرُورٍ﴾ بباطلٍ؛ أي: خَدَعَهما بحلفِه، والغرورُ: إظهارُ النصحِ مع إبطانِ الغِشِّ.
﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ﴾ ليتَعرَّفاها.
﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ ظهرتْ لهما عوراتُهما، وتهافتَ عنهما لباسُهما حتى أبصرَ كلٌّ منهما ما تَوارى عنهُ من عورةِ صاحبِه، وكانا لا يريان ذلك من أَنفسِهما، ولا أحدٌ منهما من صاحِبه، وكانَ لباسُهما نورًا يسترُهما، فاستحييا.
﴿وَطَفِقَا﴾ أَخَذا ﴿يَخْصِفَانِ﴾ يُلْصِقان ورقةً بعدَ ورقةٍ.
﴿عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ وهو ورقُ التينِ حتى صارَ كالثوبِ؛ ليستَتِرا به، وهو يتهافتُ عنهما، وأصلُ الخَصْفِ: وَصْلُ الشيءِ بالشيء يسيرٍ أو غيرِه.
﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا﴾ عتابًا وتوبيخًا.
...
﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿قَالَا﴾ معتذرين ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ ضَرَرْناها بالمعصيةِ.
﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الهالكين.
...
﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قَالَ اهْبِطُوا﴾ يا آدمُ وحواءُ وإبليسُ.
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ متعادينَ، فَيُعادِيانِ إبليسَ ويُعاديهما.
﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ إلى تَقَضِّي (١) آجالِكم، وتقدَّمَ ذكرُ هبوطِ آدمَ وحواءَ وإبليسَ والحيةِ في سورةِ البقرةِ.
...
﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾ يعني: فيها تعيشون.
﴿وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا﴾ أي: من الأرض.
...
﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ﴾ أي: خلقنا لكم.
﴿لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ﴾ التي قصدَ الشيطانُ إبداءها، ونُغنيكم عن خصفِ الورقِ، رُوي أن العربَ كانوا يطوفون بالبيتِ عُراةً، ويقولون: لا نطوفُ في ثيابٍ عَصَيْنا الله فيها، فكان الرجالُ يطوفونَ بالنهارِ، والنساءُ بالليل عراةً، فنزلَتْ (٢)؛ أمرًا بالستر. قرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ بخلافٍ عنه: (يُوَارِي) بالإمالة (٣)، وهذه الآيةُ دليل على وجوبِ سترِ العورةِ، ولا خلافَ بينَ الأئمةِ في وجوبِ سترِها عن أعينِ الناسِ.
واختلفوا في العورةِ ما هي؟ فقال أبو حنيفةَ: عورةُ الرجلِ ما تحتَ سُرَّتِهِ إلى تحتِ ركبتِه، والركبةُ عورة، ومثلُه الأَمَةُ، وبالأولى بطنُها وظهرُها؛ لأنه موضع مشتهىً، والمكاتَبَةُ وأمُّ الولدِ والمُدَبَّرَةُ كالأمَةِ،
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٢٥).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٢٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٥٠).
﴿وَرِيشًا﴾ لباسَ زينةٍ تتجمَّلُون بها، فهي للأناسي كالريشِ للطائرِ، المعنى: أنزلَ لكم لباسينَ: أحدُهما لسترِ عوراتِكم، والآخرُ لجمالكم.
﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ هو خشيةُ الله والتورُّعُ، وقيلَ: هو ما يُلْبَس من الدروع ويُتقى به.
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابن عامرٍ، والكسائيُّ: (وَلبَاسَ) بنصبِ السين عطفًا على قوله: ﴿لِبَاسًا﴾، وقرأ الباقونَ: بالرفع على الابتداء، وخبرُه (خير)، وجعلوا (ذَلِكَ) صِلَةً في الكلام (١).
﴿ذَلِكَ﴾ أي: إنزالُ اللباسِ.
﴿مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالَّةِ على فضلِه ورحمتِه.
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ فيعرفونَ نعمتَه.
[٢٧] ﴿يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ﴾ لا يُضِلَّنَكُم.
﴿الشَّيْطَانُ﴾ بأنْ يمنعَكُم دخولَ الجنةِ.
﴿كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ﴾ آدمَ وحَوَّاءَ.
﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾ بفتنتِه، النهيُ في اللفظِ للشيطان، والمعنى: نهيُهم عن اتّبَاعه.
﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ ليريَ كلَّ واحدٍ سوءةَ الآخَر؛ أي: أخرجهما نازعًا ثيابَهما؛ لكونه سببَ النزعِ، ثم حذَّر منه مُعَلِّلًا فقالَ: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ﴾ جموعُه وأعوانُه ﴿مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ لأن الله سبحانه خلقَهم خَلْقًا لا يُرَوْنَ فيه، وإنما يُرَوْنَ إذا نُقِلُوا عن صورتهم.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ أعوانًا ﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يزيدون في غَيِّهم.
...
﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً﴾ كعبادةِ الصنمِ، وكشفِ العورةِ في الطوافِ.
﴿قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا﴾ ولم يَكْفِهِمْ تقليدُهم حتى قالوا مفترين:
﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾ لاستحالتِها في حقِّه؛ لأن عادتَهُ جرتْ على الأمرِ بمحاسنِ الأفعال.
...
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ والتوحيدِ.
﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ﴾ أي: صَلُّوا.
﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ متوجِّهينَ للكعبةِ حيثُما صَلَّيتم، ولا تُؤَخِّروها حتى تعودوا إلى مساجِدِكم.
﴿وَادْعُوهُ﴾ اعبدوه.
﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ العبادةَ، ولما أنكروا البعثَ، قالَ محتجًا عليهم:
﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ أنشأَكُمْ حُفاةً عُراةً.
﴿تَعُودُونَ﴾ بإعادتِه، فيجازيكم على أعمالِكم.
...
﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعليل لخذلانِهم.
﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ يدلُّ على أن الكافرَ المخطئ والمعاندَ سواءٌ في استحقاقِ الذنبِ. قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ، وأبو جعفرٍ: (وَيَحْسَبُونَ) بفتح السين، والباقون: بكسرها (١).
...
﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾.
[٣١] قالَ أهلُ التفسير: كان بنو عامرٍ يطوفونَ بالبيتِ عُراة، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ (٢) لباسَكُم.
﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ كُلَّما صلَّيتم أو طُفْتم، وفيه دليلٌ على وجوبِ سترِ العورةِ في الصلاةِ، والحكمُ كذلكَ بالاتفاق.
﴿وَكُلُوا﴾ اللحمَ والدسمَ.
﴿وَاشْرَبُوا﴾ اللبنَ؛ لأن طائفةً كانوا في حَجِّهم لا يأكلونَ إلا قوتًا.
﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ في شيءٍ ما.
﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ أي: لا يرضَى فعلَهم، وفي معنى قوله
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٩٩)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٤٣٦).
...
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ هي ما سترَ العورةَ، وكلُّ ما يُتَجَمَّلُ به الإنسان (١) من الثيابِ وغيرِها حلالًا.
﴿وَالطَّيِّبَاتِ﴾ الحلالاتِ ﴿مِنَ الرِّزْقِ﴾ من المآكلِ والمشاربِ.
﴿قُلْ هِيَ﴾ أي: الزينةُ والطيباتُ.
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فيه حذفٌ تقديره: هي للمؤمنين والمشركين في الدنيا، وللمؤمنين.
﴿خَالِصَةً﴾ أي: مختصَّة بهم.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ لا يُشاركهم فيها غيرُهم. قرأ نافع: (خَالِصةٌ) بالرفع على أنها خبرٌ بعدَ خبرٍ، أو خبرُ ابتداءٍ تقديرُه: وهي خالصة يومَ القيامة، وقرأ الباقون: بالنصب على الحال و (٢) القطع؛ لأن الكلام قد تمَّ دونه (٣).
(٢) في "ن": "أو".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٠٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٥٣).
...
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾ ما قَبُحَ فحشُه، ويعمُّ كلَّ فاحشةٍ، قرأ حمزة: (ربِّي الْفَوَاحِشَ) بإسكانِ الياءِ، والباقون: بفتحها (١).
﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ جهرَها وسرَّها.
﴿وَالْإِثْمَ﴾ الذنبَ ﴿وَالْبَغْيَ﴾ الظلمَ والكِبْرَ.
﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ حُجَّةً وبرهانًا.
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من التحريمِ والتحليلِ.
...
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ مُدَّة، وهو وعيدٌ لأهلِ مكةَ.
﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ انقضَتْ مُدَّتُهم.
﴿لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ لا يتأخَّرونَ، ولا يتقدمونَ، وقُيِّدَ
...
﴿يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ الخطابُ في هذه الآيةِ لجميعِ الأممِ، و (إن) الشرطيةُ دخلَتْ عليها (ما) لتأكيدِ معنى الشرط، لذلكَ جازَ دخولُ (النون الثقيلة) على الفعلِ، وإذا لم تكنْ (ما)، لم يجزْ دخولُ (النون الثقيلة)؛ أي: إنْ يَأْتِكُم، أخبرَ أنه أرسلَ إليهم الرسلَ منهم؛ لتكونَ إجابتُهم أقربَ، وتَحَصَّلَ من هذا الخطابِ لحاضري محمدٍ - ﷺ - أنَّ هذا حكمُ اللهِ في العالَم منذُ أنشأه، وَ (يَأْتِيَنَّكمْ) مستقبلٌ وُضعَ موضعَ ماضٍ؛ ليفهمَ أن الإتيانَ باقٍ وقتَ الخطابِ، لتقوى الإشارةُ بصحةِ النبوةِ إلى محمدٍ - ﷺ -.
﴿يَقُصُّونَ﴾ والقصصُ: إتباعُ الحديثِ بعضِه بعضًا.
﴿عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ أحكامي، وجوابُ الشرطِ:
﴿فَمَنِ اتَّقَى﴾ الشركَ.
﴿وَأَصْلَحَ﴾ العملَ.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إذا حَزِنوا.
...
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا﴾ تَكَبَّروا عن الإيمانِ بها.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ وإدخالُ الفاءِ في الخبرِ الأولِ دون الثاني للمبالغةِ في الوعدِ، والمسامحةِ في الوعيد.
...
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ جعلَ له شريكًا.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ بالقرآن.
﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾ أي: ما قُدِّرَ لهم من خيرٍ وشَرٍّ في اللوح المحفوظِ.
﴿حَتَّى﴾ غاية لما يصلُ إلى الكفار.
﴿إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ عندَ انقضاءِ ذلك.
﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ يقبضون أرواحَهم؛ يعني: ملكَ الموتِ وأعوانَه.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يعني: أين آلهتكم فيذبُّونَ عنكم؟ سؤالُ تبكيتٍ وتقريع.
﴿قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا﴾ غابوا فلم نَرَهُمْ.
﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ عندَ معاينةِ الموتِ.
﴿أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ اعترفوا بالضلالِ فيما كانوا عليه.
...
﴿قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿قَالَ﴾ يعني: يقولُ اللهُ لهم يومَ القيامةِ: ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ أي: معَ جماعاتٍ ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مضتْ.
﴿مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ﴾ يعني: كفارَ الأممِ الخاليةِ.
﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ أي: المماثلةَ لها؛ لضلالِها بها (١).
﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا﴾ تَلاحَقوا ﴿فِيهَا جَمِيعًا﴾ واجتمعوا في النارِ.
﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ السفلةُ والأتباعُ.
﴿رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا﴾ عن الهدى، وتقدَّم التنبيهُ على اختلافِ القراءِ في الهمزتينِ عند قولِه: (لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتقولُونَ) [الأعراف: ٢٨]، وكذلك اختلافُهم (هَؤُلاَءِ أَضَلُّونا).
﴿فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا﴾ مُضاعَفًا ﴿مِنَ النَّارِ﴾ لأنهم ضلُّوا، وأَضَلُّوا.
﴿قَالَ﴾ اللهُ: ﴿لِكُلٍّ﴾ من القادةِ والأتباعِ.
﴿ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ما لكلِّ واحدٍ من العذابِ. قراءة (١) الجمهورِ: (تَعْلَمُونَ) بالخطاب، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ بالغيب (٢)؛ أي: لا يعلمُ الأتباعُ ما للقادةِ، ولا القادةُ ما للأتباعِ.
...
﴿وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَقَالَتْ أُولَاهُمْ﴾ القادةُ ﴿لِأُخْرَاهُمْ﴾ للأتباع:
﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ أي: نحن وأنتم في الكفرِ سواءٌ، فَثَمَّ تعالى يقولُ لهم جميعًا: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٥٧).
[٤٠] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾ أي: لا يصعَدُ لهم عملٌ صالح. قرأ أبو عمرو (تُفْتَحُ) بالتأنيثِ والتخفيف، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالتذكير والتخفيف، والباقون: بالتأنيثِ والتشديدِ (١).
﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ﴾ يدخل.
﴿الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ ثُقْبِ الإبرةِ، المعنى: هؤلاء لا تُجاب أدعيتُهم، ولا يدخلون الجنةَ أبدًا.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: ومثلَ ذلكَ الجزاءِ.
﴿نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ المشركينَ.
...
﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ فِراشٌ. قرأ أبو عمرو، ورويسٌ عن يعقوبَ: (جَهَنَّم مهَادٌ) بإدغام الميم في الأولى في الثانية (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ الكفارَ، رُوي عن يعقوبَ الوقفُ بالياء على (غَوَاشِي).
...
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ طاقتَها من الخيرِ والعملِ الصالحِ ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
...
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] عن عليٍّ رضي الله عنه قال: فينا واللهِ أهلَ بَدْرٍ نزلَتْ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ حقدٍ كانَ بينَهم في الدنيا، وإن كانتْ نازلةً في الصحابة رضي الله عنهم، فهي عامةٌ في جميعِ أهلِ الجنة؛ لأنهم لا يتحاسدون ولا يتباغضون، وقال علي أيضًا: "إِنِّي لأرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ مِنَ الذينَ قالَ لهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ " (١).
(١) انظر: "تفسير عبد الرزاق الصنعاني" (٢/ ٢٢٩)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٥/ ١٤٧٨)، والدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٤٥٧).
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا﴾ وَفَّقَنا.
﴿لِهَذَا﴾ لما جزاؤه هذا ﴿وَمَا كُنَّا﴾ قرأ ابن عامرٍ: (مَا كُنَّا) بغير واو (١).
﴿لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ وجوابُ (لولا) محذوفٌ؛ أي: فلولا هدايةُ الله، ما كنا نهتدي، فعندَ معاينةِ أهلِ الجنةِ صدقَ إخبارِ الرسلِ - ﷺ -، قالوا: سرورًا.
﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ فَثَمَّ أُكرِموا ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾ أُعطيتُموها.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بسببِ أعمالِكم. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وابنُ ذكوانَ عنِ ابنِ عامرٍ: (أُورِثْتُمُوهَا) بإظهارِ الثاءِ، والباقون: بالإدغام (٢).
...
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا﴾ من الثوابِ ﴿حَقًّا﴾ صِدْقًا.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٦٢).
﴿حَقًّا﴾ تقديرُه: وعد ربُّكم، فحذفَ (كُمْ) لدلالة (نا) الأول عليه؛ لأن وعدَ يُستعملُ في الخيرِ والشرِّ.
﴿قَالُوا نَعَمْ﴾ وأجاب الكفار بنعم دون بلى؛ لأنَّ (نعم) جوابُ استفهامٍ دخلَ على إيجاب، وهو (وَجَدْتُم)، و (بلى) جوابُ استفهامٍ دخلَ على نفي؛ نحو: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ١٧٢]. قرأ الكسائيُّ: (نَعِم) بكسر العين حيثُ وقعَ، والباقون: بفتحها، وهما لغتان (١).
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ أي: نادى منادٍ أسمعَ الفريقين.
﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين. قرأ ورشٌ عن نافعٍ، وأبو جعفرٍ: (مُوَذِّن) بفتح الواو بغيرِ همز (٢)، وقرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوبُ، وعاصمٌ: (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بإسكانِ النونِ مخففةً، ورفعِ (لَعْنَةٌ)، واختلفَ عن قنبلٍ راوي ابنِ كثير، وقرأ الباقون: بتشديد النون، ونصبِ (لَعْنَةً) (٣).
...
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ﴾ يَصْرِفون الناسَ ﴿عَنْ سَبِيلِ﴾ طاعةِ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٦٣).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨١)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٠٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٦٣).
...
﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَبَيْنَهُمَا﴾ أي: بينَ الجنةِ والنارِ.
﴿حِجَابٌ﴾ مانعٌ ليمنعَ وصولَ أثرِ إحداهما إلى الأُخرى، وهو السورُ المعروفُ بالأعراف، جمعُ عُرْفٍ؛ سُمِّي بذلكَ؛ لارتفاعه، ومنهُ عُرفُ الديكِ؛ لارتفاعِه على ما سواهُ من جسدِه.
﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ﴾ أي: أعالي الحجاب، وهو السورُ الذي ذكره اللهُ في قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ [الحديد: ١٣].
﴿رِجَالٌ﴾ هم قومٌ استوَتْ حسناتُهم وسيئاتُهم، فقصرتْ بهم سيئاتُهم عنِ الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم عن النار، فوقفوا هناكَ حتى يقضيَ الله فيهم ما شاءَ، ثم يُدخلُهم الجنةَ بفضلِ رحمتِه، وهم آخرُ من يدخلُ الجنةَ.
﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا﴾ من أهلِ الجنةِ والنارِ ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامَتِهم، وهي بياضُ الوجهِ للمؤمنين، وسوادُه للكافرين.
﴿وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي: إذا نظروا إليهم، سَلَّموا عليهم، وقيل: المعنى: سَلِمْتُم من العقوبة.
﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ أي: أصحابُ الأعرافِ لم يدخلوا الجنةَ.
﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ في دخولها، فيدخلونها بعد، قالَ الحسنُ: "واللهِ
...
﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ﴾ أبصارُ أهلِ الأعرافِ.
﴿تِلْقَاءَ﴾ ظَرْفٌ؛ أي: تُجاهَ.
﴿أَصْحَابِ النَّارِ﴾ فعرفوهم، ﴿قَالُوا﴾ مستعيذينَ داعينَ:
﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يعني: الكافرين في النار، وتقدَّم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتين في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]، وكذلك اختلافهم في ﴿تِلْقَاءَ أَصْحَابِ﴾.
...
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ من رؤساءِ الكفرةِ.
﴿قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ﴾ المالُ والولدُ في الدنيا.
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإيمان.
...
[٤٩] ثم يقولون للكفار، وهم الوليدُ بنُ المغيرةِ، وأبو جهلِ بنُ هشامٍ ونحوُهما؛ تنبيهًا على الأبرارِ ممن دخلَ الجنةَ، وهم سَلْمانُ (١)، وصُهَيْبٌ، وخَبَّابٌ، وبلالٌ وأشباهُهم الذين كانوا يحتقرونهم لفقرهم:
﴿أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾ حلفتُم.
﴿لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾ أي: لا يدخلون الجنةَ؛ ثم يقالُ لأصحابِ الأعراف:
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ لا تخافون على ما يأتي، ولا تحزنون على ما فات. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ بخلافٍ عن ابنِ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ: (بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا) (خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ) بضم التنوين في الوصل (٢).
...
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا﴾ صُبُّوا.
﴿عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ﴾ وَسِّعوا علينا.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٣، ٢٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٦٥).
﴿قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا﴾ يعني: الماءَ والطعامَ.
﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ منعَهما عنهم.
...
﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا﴾ كتحريمِ البَحيرةِ وأخواتِها، والمُكَاءِ والتَّصْدِيَةِ حولَ البيتِ، وغيرها مما كانوا يفعلونَ (١) في الجاهلية.
﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ﴾ نفعلُ بهم فعلَ (٢) الناسين، فنتركُهم في النار ﴿كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ فلم يُخْطِروه ببالِهم.
﴿وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ يُنكرون أنها من عند الله.
...
﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾.
(٢) في "ن": "كما فعل".
﴿فَصَّلْنَاهُ﴾ أحكامًا وقصَصًا.
﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ أي: عالِمينَ بتفصيلِه.
﴿هُدًى وَرَحْمَةً﴾ أي: جعلناه هاديًا وذا رحمةٍ.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم المنتفعونَ به.
...
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرونَ.
﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ ما يؤول إليه من (١) أمرهم يومَ القيامةِ من الوعيد ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ جزاؤه.
﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ﴾ اعترافًا حينَ لا ينفعُ.
﴿قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا﴾ حقيقةً.
﴿بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا﴾ اليومَ.
﴿مِنْ شُفَعَاءَ﴾ استفهامٌ فيهِ معنى التمنِّي.
﴿فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ﴾ إلى الدنيا.
﴿فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ وجوابُ الاستفهامِ.
﴿وَضَلَّ﴾ بطلَ.
﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ فلمْ ينفعْهم.
...
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي: في مقدارها؛ لأن اليومَ من لَدُنْ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها، ولم يكنْ يومئذٍ يومٌ ولا شمسٌ، وخلقَهُنَّ فيهنَّ تعليمًا لخلقه التثبُّتَ والتأنِّي؛ لأنه سبحانه كان قادرًا على خلقهنَّ في لمحةٍ (١)، وقد جاءَ في الحديث: "التَّأنِّي مِنَ اللهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" (٢).
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواءً يليقُ بعظمتِه بِلا كيفٍ، وهذا من المشكِلِ الذي يجبُ عندَ أهل السُّنَّةِ على الإنسانِ الإيمانُ به، ويَكِلُ العلمَ فيه إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وسُئِلَ الإمامُ مالكٌ رضي الله عنه عن الاستواءِ فقالَ: "الاستواءُ معلومٌ؛ يعني: في اللغة، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ
(٢) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (٣/ ٣٨٩)، وأبو يعلى في "مسنده" (٤٢٥٦)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (١٠/ ١٠٤)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ يُغَطِّي أحدهما بالآخرَ، وفيهِ حذفٌ؛ أي: ويُغْشي النهارَ الليلَ، ولم يُذْكَرْ؛ لدلالةِ الكلامِ عليه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصم، وخلفٌ، ويعقوبٌ: (يُغَشِّي) بالتشديد مع فتح الغين، وله قولٌ بإسكانِ الغين والتخفيفِ (٣).
﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ يَعْقُبُه سريعًا.
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ﴾ مُذَلَّلاتٍ.
﴿بِأَمْرِهِ﴾ بمشيئته. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) كلُّها بالرفع على الابتداء والخبرِ، فالشمسُ مبتدأ، والبقيةُ معطوفة عليه، وخبرُه (مُسَخَّراتٌ)، وقرأ الباقونَ: بالنصبِ وكسرِ التاء من (مُسَخَّرَاتٍ) تاء جمع المؤنث السالم عطفًا على قوله: (خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ)، فتنصب (مُسَخَّراتٍ) حالًا (٤).
(٢) انظر: "اعتقاد أهل السنة" للالكائي (٣/ ٤٠١).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٠٩)، و"الكشف" لمكي (١/ ٤٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٦٨).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٠)، =
﴿تَبَارَكَ اللَّهُ﴾ أي: دامَ ﴿رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ وتعظَّمَ بالتفرد في الربوبية.
...
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا﴾ تذلُلًا ﴿وَخُفْيَةً﴾ سِرًّا. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (وَخِفْيَةً) بكسر الخاء، والباقون: بالضم (١)، وقد أثنى الله على زكرياء بقوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣]، قال الحسنُ: "بينَ دعوةِ السرِّ ودعوةِ العلانيةِ سبعون ضِعْفًا" (٢)، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوتٌ، إن كان إلا همسًا بينَهم وْبينَ ربِّهم.
﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ المتجاوزينَ برفعِ الصوتِ والتشدُّقِ في الدعاءِ.
...
﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بالظلمِ والشركِ.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٧٠).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ١١٠).
﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا﴾ من الردِّ ﴿وَطَمَعًا﴾ في الإجابة.
﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ ذُكِّرَ (قريبٌ) على تأويلِ أنها الثوابُ ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ و (رَحْمَتَ) رُسمت بالتاء في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاء ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (١).
...
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرِّيحَ) بغيرِ ألف بعدَ الياء، والباقون: بالألف (٢).
﴿بُشْرًا﴾ قرأ عاصمٌ (بُشْرًا) بالباء الموحدة وضمِّها وإسكانِ الشين؛ أي: تبشِّرُ بالمطر، وقرأ ابنُ عامرٍ: بالنونِ وضمِّها وإسكانِ الشين، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بفتحِ النونِ وإسكانِ الشين، وقرأ الباقون:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٧٠).
﴿بَيْنَ يَدَيْ﴾ أي: قُدَّامَ ﴿رَحْمَتِهِ﴾ نعمتِه، وهو المطرُ.
﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ﴾ حملَتِ الرياحُ.
﴿سَحَابًا﴾ جمعُ سحابةٍ.
﴿ثِقَالًا﴾ بالماءِ.
﴿سُقْنَاهُ﴾ أي: السحابَ، وقيلَ: المطرُ.
﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ محتاجٍ إلى الماء. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصم: (مَيِّتٍ) بتشديد الياء، والباقون: بالتخفيف (٢).
﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ﴾ أي: بالبلد، وقيل: بالسحاب ﴿الْمَاءَ﴾ يعني: المطرَ.
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ بالبلدِ، وقيل: بالسحابِ.
﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ مثلَ إخراجِنا النباتَ.
﴿كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى﴾ منَ الأجداثِ ونُحييها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ فتؤمنونَ بالبعثِ. وتقدَّمَ اختلاف القراءِ في تخفيفِ (تَذْكُرونَ) في أولِ السورةِ.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٧٣)، ورويت بخلاف عن عاصم.
[٥٨] ثم ضربَ مثلًا لمن ينتفعُ بالوعظ، ولمن لا ينتفعُ به بعدَ ذكرِ المطرِ وإخراجِ النباتِ والثمراتِ تشبيهًا له بها فقال:
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ أي: الأرضُ الكريمةُ التربةِ.
﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ حسنًا.
﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾ كالسَّبخةِ ونحوِها.
﴿لَا يَخْرُجُ﴾ نباتُه.
﴿إِلَّا نَكِدًا﴾ عسرًا. قرأ أبو جعفرٍ: (نَكَدًا) بفتح الكاف مصدرًا؛ أي: ذو نكد، والباقون: بكسرها (١)، وعن أبي جعفر وجهٌ: (لا يُخْرِجُ) بضمِّ الياء وكسر الراء، وعنه: وجهٌ آخرُ بضمِّ الياءِ وفتحِ الراء، فالأولُ مثَلُ المؤمنِ الذي يسمعُ القرآنَ فيعقلُه وينتفعُ به، والثاني مَثَلُ الكافرِ الذي لا يسمعُ القرآنَ، فلا يؤثِّر فيه كالبلدِ الخبيثِ.
﴿كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ نُردِّدها ونوضِّحُها.
﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ نعمةَ الله.
...
[٥٩] ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ اللام في (لَقَدْ) للتأكيدِ المنبِّهِ على القسم، أقسمَ اللهُ تعالى أنّه أرسلَ نوحًا، وتقدَّمَ ذِكْرُ نوحٍ -عليه السّلام-، ونسبُه، وقدرُ عمره، ومحلُّ قبرِه في سورةِ آلِ عمرانَ، بعثه اللهُ إلى قومِه وهو ابنُ خمسينَ سنةً، وقيل: ابنُ أربعينَ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ، وقيلَ: ابنُ مئتين وخمسين، وقيل: ابنُ ثلاثِ مئةٍ وخمسين، وقال مقاتل: ابنُ مئةِ سنةٍ، وقال وهبُ بنُ منبِّهٍ: بُعث نوحٌ وهو ابنُ أربعِ مئةِ سنةٍ، وهو أولُ نبيٍّ بعثه اللهُ بعدَ إدريس، وكان نجارًا، ومن أولادِه سامٌ وحامٌ ويافثٌ، فسامٌ هو أبو العربِ وفارسَ والرومِ وأهلِ الشامِ وأهلِ اليمنِ، وكان هو القيِّم بعدَ نوحٍ في الأرض، ومن ولدِهِ الأنبياءُ كلُّهم، عربُهم وعجمُهم، وجعلَ اللهُ في ذريته النبوةَ والكتابَ، وهو الّذي اختطَّ مدينةَ القدسِ، وأَسَّس المسجدَ الأقصى، وكان مَلِكًا عليها، وحامٌ أبو السودانِ وأهلِ الهندِ والسندِ والزنْج والحبشةِ والنوبةِ وكلِّ جلدٍ أسودَ، ويافثٌ أبو التركِ ويأجوجَ ومأجوجَ والفرنجِ.
﴿فَقَالَ﴾ لقومِه، وكانوا أهلَ أوثانٍ: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّه﴾ وَحِّدُوهُ.
﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه﴾ قرأ أبو جعفرِ، والكسائيُّ: (غَيْرِهِ) بكسر الراء على نعتِ الإلهِ حيثُ وقعَ، والباقونَ: بالرفع، على التقديم؛ أي: ما لكم غيرهُ من إلهٍ (١).
﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو يومُ القيامةِ، أو يومُ الطوفان. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١).
* * *
﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
[٦٠] ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ أي: الأشرافُ، فإنهم يملؤون العيونَ والنفوسَ.
﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ﴾ خطأٍ ﴿مُبِينٍ﴾ واضحٍ.
** *
﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
[٦١] ﴿قَالَ﴾ هو نوحٌ: ﴿يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ﴾ أي: شيءٌ من الضلال، وهي أعمُّ، وفي نفيِها نفيُ جميعِ الضلالِ؛ نحو: ألكَ تمرٌ؟ ويقولُ: ولا تمرةٌ، ثمّ استدرَكَ مؤكِّدًا نفيَ الضلالةِ فقالَ:
﴿وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ المعنى: ولكني على هُدًى في الغاية؛ لأني رسولٌ من الله.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠١ - ٣٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٧٧).
[٦٢] ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ أُوصلُ إليكم.
﴿رِسَالَاتِ رَبِّي﴾ بالأحكامِ، وجُمِعَ الرسالاتُ؛ لاختلاف أوقاتها؛ أو لتنوُّعِ معانيها. قرأ أبو عمرٍو: (أُبْلِغُكُمْ) بالتخفيفِ من الإبلاع، والباقون: بالتشديد من التبليغ.
﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾ وحقيقةُ النصحِ: إرادةُ الخيرِ لغيرِه كما يريدهُ لنفسه.
﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أن عقابَه لا يُرَدُّ عن القومِ المجرمين.
* * *
﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿أَوَعَجِبْتُمْ﴾ ألفُ استفهامٍ دخلتْ على واوِ العطف لمعنى التقرير والتوبيخِ، تقديره: أَكَذَّبْتُم وعَجِبتم.
﴿أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ﴾ موعظةٌ.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾ على لسانِه.
﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾ العذابَ إنَّ لم تؤمنوا.
﴿وَلِتَتَّقُوا﴾ اللهَ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بالتقوى.
***
[٦٤] ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ﴾ من الطوفان.
﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ السفينةِ، وهم من آمن به، وكانوا أربعين رجلًا، وأربعين امرأة.
﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ بالطوفانِ.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ عُمْي القلوب.
* * *
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ أي: وأرسلْنا إلى عادٍ، وهم ولدُ عادِ بنِ عوصِ بنِ عبدِ الله بنِ سامِ بنِ نوحٍ، وهي عادٌ الأولى.
﴿أَخَاهُمْ هُودًا﴾ في النَّسبِ لا في الدِّينِ، هو ابنُ عبدِ اللهِ بنِ رباحِ بنِ الخلودِ بنِ عادِ بنِ عوصِ بنِ إرَمِ بنِ سامِ بنِ نوحٍ، بعثه الله إلى عادٍ نبيًّا، وكان من أوسطِهم نسبًا، وأفضلِهم حسبًا، وهودٌ اسمٌ (١) أعجميٌّ، وانصرَفَ لخفتِه؛ لأنّه على ثلاثةِ أحرفٍ، وبعثه اللهُ بعدَ نوحٍ وقبلَ إبراهيم، وكانت عادٌ ثلاثَ عشرةَ قبيلةً ينزلونَ الرمالَ رملَ عالجٍ، وكانوا أهلَ بساتينَ وزروعٍ وعمارةٍ، بنَواحي حضرموتَ باليمنِ، فسخطَ اللهُ عليهم، فجعلهم مفاوزَ، وكانوا يعبدون الأصنامَ، وهم جَبَّارونَ، طِوالُ القاماتِ، فبُعثَ إليهم
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ تقدَّمَ اختلافُ (١) القراء في (إِلَهٍ غَيْرُهُ) في الحرفِ المتقدم ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ نقمته.
* * *
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ﴾ يا هودُ.
﴿فِي سَفَاهَةٍ﴾ جهالةٍ وخِفَّةِ عقلٍ حيثُ تركتَ دينَ قومِك.
﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ في رسالتِكَ.
* * *
﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿قَالَ﴾ هودٌ: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧)﴾.
* * *
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ﴾ أدعوكم إلى التوبة.
﴿أَمِينٌ﴾ على الرسالة.
وتقدَّمَ اختلافُ القراء في (أُبَلِّغُكُمْ) في الحرف المتقدِّم.
[٦٩] ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾ يعني: نفسَه.
﴿لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ أي: سكانَ الأرضِ من بعدِ إهلاكِهم.
﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ قوةً وطولًا، وكانَ طولُ الطويلِ منهم مئةَ ذراع، والقصيرِ ستين ذراعًا. قرأ خلفٌ لنفسِه، وعن حمزةَ، والدوريُّ عن أبي عمرٍو، وهشامٌ عنِ ابنِ عامرٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (بَسْطَةً) بالسين؛ لأنّها الأصل، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصم، وروحٌ عن يعقوبَ: بالصاد بدلًا من السين، واختلف عن قنبلٍ والسوسيِّ وابنِ ذكوانَ وحفصٍ وخلادٍ، ورسمُها بالصادِ (١).
﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ﴾ نِعَمَهُ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تدركونَ البغيةَ والآمال.
* * *
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ أي: مفردًا موحَّدًا.
﴿وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ من الأصنامِ؟
﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ قالوا ذلكَ له استهزاءً.
* * *
﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿قَالَ﴾ هود ﴿قَدْ وَقَعَ﴾ وَجَبَ ﴿عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ﴾ عذابٌ ﴿وَغَضَبٌ﴾ سخطٌ.
﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ أو وضعتموها.
﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ حجةٌ وبرهان؛ أي في أشياء سميتموها آلهةً، وليس فيها معنى الإلهية، وكانت الأصنام يعبدونها ويسمونها بأسماء مختلفة، وهي: صُداءُ، وصَمُودُ، والهُبَاءُ، وكانوا قد فَشَوْا في الأرض، وقهروا أهلَها بقوَّتهم.
﴿فَانْتَظِرُوا﴾ نزولَ العذابِ.
﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ فأُرسلتِ الريحُ العقيمُ عليهم، فدخلوا بيوتَهم، فأخرجَتْهم الريحُ منها، وأَهالت عليهم الرمالَ سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ، ثمّ رمتْ بهم في البحر.
* * *
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)﴾.
﴿بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾ بأَنْ جُعلوا في حظيرة ما يصلُ إليهم من الريح إِلَّا ما يُلَيِّنُ عليهم جلودهم.
﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: استأصلناهم عن آخرِهم.
﴿وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أي: هلكَ الكفارُ، ونجا المؤمنون.
ويُروى أنّه كان من عادٍ شخصٌ اسمهُ لُقمانُ، وهو غيرُ لقمانَ الحكيمِ الّذي كانَ على عهدِ داودَ النبيِّ -عليه السّلام-، ولحقَ هودٌ حين أُهلك قومُه بمن آمنَ معه بمكَّة، فلم يزالوا فيها حتّى ماتوا فيها، وقيل إنَّ قبرَه بحضرموتَ، ورويَ (١) أن النبيَّ من الأنبياءِ كان إذا هلكَ قومُه، أقام بصالحيه بمكةَ يعبدونَ اللهَ حتّى يموتون (٢).
* * *
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾ هو ثمودُ بنُ عابرِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ، والمراد هنا: القبيلةُ، وقيلَ: سُميت ثمودَ؛ لقلةِ مائِها، والثَّمَدُ: الماءُ القليلُ،
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ١١٦ - ١١٧).
﴿أَخَاهُمْ﴾ أي: أرسلْنا إلى ثمودَ أخاهم في النَّسبِ لا في الدِّينِ.
﴿أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ هو ابنُ عبيدِ بنِ أسفِ بنِ ماسحِ بنِ عبيدِ بن حاذرِ بنِ ثمودَ.
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ وبالغَ صالحٌ في الإنذارِ، وادَّعى (١) النبوةَ وقال: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾ حجةٌ ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ على صِدْقي، فقالَ سيدُهم جُندعُ بنُ عمرٍو: تُخرِجُ لنا من هذهِ الصخرةِ ناقةً مُخْتَرِجَةً وَبْراءَ عُشَراءَ، والمخترجةُ: ما شاكلَتِ البخت من الإبل، فقال: إنَّ فعلتُ تؤمنوا؟ قالوا: نعم، فأخذَ مواثيقَهم على ذلك، فتمخَّضَتِ الصخرةُ عن ناقةٍ كما أرادوا، ثمّ نُتِجَتْ مثلَها في العِظَم.
﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ﴾ أضافها إلى الله على التفضيل؛ لأنّها جاءت من عندِه بلا وسائطَ (٢) وأسبابٍ معهودةٍ.
﴿لَكُمْ آيَةً﴾ نصبٌ على الحالِ.
﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ﴾ من المرعى ﴿فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾، فالأرضُ له، والناقةُ ناقته، لا اعتراضَ لكم عليها.
﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ﴾ بِعَقْرٍ وَلا ضَرْبٍ.
﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ فآمنَ جُندعُ ورهطُه.
(٢) في "ن": "بلا واسط".
[٧٤] ولما هلكت عادٌ، خلفتها ثمودُ في الأرض، وعَمَّروا القصورَ، ونحتوا البيوتَ في الجبال، فقال:
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ﴾ أَنْزَلَكُم.
﴿فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا﴾ أي: تبنونَ من سهولها بما تعملون من اللَّبِنِ والآجُرِّ.
﴿وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾ كانوا ينقبونَ في الجبال البيوتَ، ففي الصيفِ يسكنون بيوتَ الطين، وفي الشتاءِ بيوتَ الجبلِ.
﴿فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ﴾ نعمَه.
﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ والعَيْثُ: أَشَدُّ الفسادِ.
* * *
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾. قرأ ابنُ عامرٍ (وَقَالَ الْمَلأُ) بواو، وقرأ الباقون: بغير واو (١).
﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ يعني: الأتباعَ.
﴿لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ يعني: قالَ الكفارُ للمؤمنين:
﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ إليكم.
﴿قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ لا شكَّ عندَنا فيه.
* * *
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)﴾ جاحِدونَ.
* * *
﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)﴾.
[٧٧] فلما أَضَرَّتِ النَّاقَةُ بمواشيهم، كَمَنَ لها قُدار بنُ سالفٍ بطريقِها بجماعةٍ تسعةٍ، وكمنَ لها مصدعُ بنُ مِهْرجٍ بطريقٍ آخرَ، فمرَّتْ بمصدعٍ فرماها بسهمٍ، فانتظمَ ساقَها، وشدَّ قُدارٌ عليها، فَعَرْقَبَها بالسيفِ، فخرَّتْ ورَغَتْ تحذِّرُ سَقَبَها، ثمّ طَعَنَ في لَبَّتِها فنحَرها هو ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ﴾ عَرْقَبوها فقتلوها، واقتسموا لحمَها، فجاءَ صالحٌ فرآهُ الفصيلُ فبكى، ثُمَّ رغَا ثلاثًا، فانفجرتِ الصخرةُ الّتي خرجتْ منها أمُّه فدخَلَها، وكانَ يومَ الأربعاء.
* * *
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلةُ الشديدةُ، وجاءتهم صيحةٌ من السَّماء فيها صوتُ كلِّ صاعقةٍ، فتقطَّعَتْ قلوبُهم فماتوا.
﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ بعضُهم على بعضٍ.
* * *
﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿فَتَوَلَّى﴾ أعرضَ.
﴿عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾: لم تقبلوا نُصْحي، ناداهُم بذلك توجُّعًا على ما فاتَهُ من إسلامهم، وتوبيخًا لهم، كما خاطبَ رسولُ الله - ﷺ - أهلَ قَليب بَدْرٍ وقال: "إِنَّا وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا" (١)، وسارَ
* * *
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿وَلُوطًا﴾ أي: وأرسلْنا لوطًا، وتقدَّمَ ذكرهُ في سورةِ الأنعامِ، ولوطٌ اسمٌ أعجميٌّ صُرِفَ لخفَّتِه، لأنّه على ثلاثةِ أحرفٍ وهو ساكنُ الوَسَط.
﴿إِذْ قَالَ﴾ أي: وقتَ قوله.
﴿لِقَوْمِهِ﴾ وهم أهلُ سَدومَ وقُراها، وهي (١): عَمُورا، وأَدْم، وأَصْبُوئِن، ولُوشَع، وكان لوطٌ قد هاجرَ مع عمِّهِ إبراهيمَ -عليه السّلام- إلى الشامِ، فنزل إبراهيمُ فلسطينَ، وأنزلَ لوطًا الأردنَّ، وهو نهرُ الشريعةِ شرقيَّ بيتِ المقدسِ، فأرسله الله إلى أهل سدومَ، فقالَ لهم مستفهمًا على جِهَةِ التوبيخ:
﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ أي: السيئة القبيحةَ، وهي إتيانُ الذكورِ (٢).
(١) في "ن": "وهم".
(٢) في "ن": "الرجال".
* * *
﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿إِنَّكُمْ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (إِنكمْ) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ، والباقونَ: بهمزتين على الاستفهام، وهم على أصولهم تسهيلًا وتحقيقًا وفصلًا (١)، كما تقدَّمَ في سورة الأنعامِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٩].
﴿لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ﴾ في أدبارِهم.
﴿شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ يعني: أدبارُ الرجالِ أشهى عندَكم من فروج (٢) النساءِ.
﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ مجاوزونَ الحلالَ إلى الحرام؛ وتقدَّمَ حكمُ الزِّنا واللواطِ ومذاهب الأئمة فيه في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ [النساء: ١٥].
* * *
(٢) في باقي النسخ: "دون".
[٨٢] ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾ بعدَ موعظتِه إياهم.
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ أي: قالَ بعضُهم لبعضٍ:
﴿أَخْرِجُوهُمْ﴾ أي: لوطًا وأَتباعَهُ.
﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ ثمّ قالوا استهزاءً: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ هو يَتَنَزَّهونَ عن أدبارِ الرجالِ.
* * *
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ المؤمنينَ.
﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الماضينَ؛ لأنّها كانتْ مواليةً لهم، فهلكَتْ معهم.
* * *
﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ حجارةً، وقيلَ: الكبريت، قال أبو عبيدة: يقالُ في العذابِ: (أَمْطَرَ)، وفي الرّحمة (مَطَرَ) (١) ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
[٨٥] ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ هو ابنُ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصّلاة والسلام، سميت المدينةُ باسمه، وهي (١) على بحر القُلْزُمِ تحاذي تبوكَ على نحوِ ستِّ مراحلَ، وهي البئرُ الّتي استقى منها (٢) موسى لسائمةِ شعيبٍ، وهي في عصرِنا منزلةٌ للحجاجِ المتوجِّهين من مصرَ وبيتِ المقدسِ إلى مكةَ المشرفةِ، وتسمَّى في هذهِ الأزمنةِ مغارةَ شُعيب، والمغارةُ في لحفِ الجبلِ، وفيها شجرٌ عظيمٌ من الجانبِ الغربيِّ، وقومُ شعيبٍ هم أصحابُ الأيكة، وكانت الأيكةُ من شجرٍ مُلْتَفٍّ.
﴿أَخَاهُمْ﴾ أي: أرسلْنا إليهم أخاهم في النَّسَبِ لا في الدِّينِ.
﴿شُعَيْبًا﴾ واختُلِفَ في نسبه، فقيل: هو ابنُ ثوبهَ (٣) بنِ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وقيل: ابنُ مَيْكيكَ بنِ يَشْجُرَ بنِ مدينَ بنِ إبراهيمَ، وأُمُّ ميكيكَ بنتُ لوطٍ، وكان شعيبٌ أعمى، وكان يقال له: خَطيبُ الأنبياءِ، لحسنِ مراجعتِه قومَه، وكانوا أهلَ كفرٍ وبَخْسٍ للمكيالِ والميزانِ، وكانوا يظلمونَ الناسَ.
(٢) في "ن": "به"، وفي "ظ" و"ت" و"ش": "بها".
(٣) في "ن": "ذوبة".
وكان الغريبُ إذا دخلَ إلى قومِهِ، أخذوا دراهَمه، وقالوا: هي زُيوفٌ، فيقطِّعونَها ثمّ يشترونَها بنُقصانٍ، وربما أعطوهُ بدلَها زُيوفًا، فقال:
﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾ أَتِمُّوهُ ﴿وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا﴾ تنقُصوا ﴿النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ حقوقهم.
﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ ببعثِ الرسلِ وتوضيحِ الشرائع.
﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: العدلُ ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ في الدنيا والدين.
﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مصدِّقين قولي.
* * *
﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ طريقٍ من طرقِ الحقِّ ﴿تُوعِدُونَ﴾ مَنْ آمنَ بشعيبٍ العقوبةَ.
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ بَعْدَ قلَّةِ العَدَد والعُدَدِ بالبركةِ في النسلِ والمالِ (١).
﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ أي: آخِرَ أمْرِ قوم لوطٍ.
* * *
﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ فصِرْتُم فريقين: مُصدِّقين ومكذِّبين.
﴿فَاصْبِرُوا﴾ فانتظروا ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا﴾ بإنجاءِ المؤمنين، وإهلاكِ الكافرين.
﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ لأنّ الحكَمُ العدل، وليس هذا أمرًا بالمقام على الكفر، ولكنه وَعيدٌ وتهديدٌ.
* * *
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ يعني: الرؤساءَ الذين تعظَّموا عن الإيمانِ لشعيبٍ وأتباعِهِ:
﴿فِي مِلَّتِنَا﴾ ديننِا، ولم يكنْ شعيبٌ قطُّ على دينهم، وإنّما تناولَهَ الخطابُ تغليبًا للجَمْع على الواحد؛ لأنّ مَنْ تبعَه كانَ منهم.
﴿قَالَ﴾ شعيبٌ ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ أي: وإن كُنَّا كارهينَ فتجبرونا على الخروج عليه (١)؟
* * *
﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ثمّ استأنفَ قائلًا: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي: ما أكذَبَنا على الله.
﴿إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾ ثمّ قال مشيرًا إلى أن لا حكمَ له:
﴿وَمَا يَكُونُ﴾ وما يَصِحُّ ﴿لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا﴾ خِذْلاننا فنعود، وفيه دليلٌ على أن (٢) الكفرَ بمشيئته.
﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ أحاطَ علمهُ بكلِّ شيءٍ.
﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ فيما تُوعِدوننا به، ثمّ دعا شعيبٌ بعدما ما أَيِسَ من صلاحِهم فقال:
(٢) "أن" ساقطة من "ن".
* * *
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا﴾ وتركتُمْ دينَكُم.
﴿إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ مَغْبونونَ.
* * *
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الزلزلةُ، وأهلَكَهم اللهُ بسحابةٍ أمطرَتْ عليهم نارًا يومَ الظُّلَةِ، وذلك أنّهم رَأَوا حَرًّا شديدًا، فدخَلُوا الأسرابَ، فوجدُوها أشدَّ حَرًّا، فخرجوا منها، فرأَوا سحابةً، فاستظلُّوا بها، فأمطرَتْ عليهم نارًا، فاحترقوا، وصاروا رمادًا.
﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ سبقَ تفسيرُه في قصةِ صالحٍ. ولما نزلَ بهمُ العذابُ، نَجَّينا شعيبًا بمن آمنَ معه إلى الموضعِ المعروفِ بأيلةَ، ويأتي ذكرُه في السورةِ إن شاء الله تعالى. قال أبو عبد الله البجلي: كانَ أبو جادٍ، وهَوَّز، وحُطِّين، وكَلَمُنْ، وسَعْفص، وقُرِشَتْ، مُلوكَ مَدْيَنَ، وكان ملِكُهم في زمنِ شُعيبٍ يومَ الظُّلَّة كَلَمُن، فلما هلكَ قالتِ ابنتُه تبكيه:
كَلَمُنَ قد هَدَّ رُكْنِي هُلْكُهُ وَسْطَ الْمَحِلَّهْ
جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّهْ (١)
* * *
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾ مبتدأٌ، خبرُه ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا﴾ يُقيموا ﴿فِيهَا﴾ والمغاني: المنازلُ، واحدُها مَغْنَى.
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ﴾ دينًا ودنيا، لا الذين اتَّبَعُوه كما زعمَ الكفارُ.
* * *
﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُم﴾ أعرضَ شعيبٌ من بينِ أظهُرِهم حينَ أتاهُمُ العذابُ.
﴿وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ قالَه تأسُّفًا لشدةِ حزبه عليهم، ثمّ أنكرَ على نفسِه فقال:
﴿فَكَيْفَ آسَى﴾ أَحْزَنُ ﴿عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ بعدَ إنذاري لهم، ومبالغتي في نُصْحِهم، وقبرُ شعيبٍ بقريةِ حِطِّينَ من أعمالِ مدينةِ صَفَد، مسافتُها عن بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيّام.
* * *
تَأليف
الإِمَامِ القَاضِي مُجِير الدِّينِ بْنِ مُحمَّد العُليِميِّ المَقدِسِيِّ الحَنبليِّ
المولود سنة (٨٦٠ هـ) - والمتوفى سنة (٩٢٧ هـ) رَحِمَهُ الله تعَالى
المُجَلَّد الثالث
اعتَنَى بِهِ
تَحقِيقًا وضَبْطًا وتَخْريجًا
نُوْرُ الدِّيْن طَالب
إصدَارات
وزَارة الأوقاف والشُؤُوْن الإِسلامِيّة
إدَارَةُ الشُؤُوْنِ الإِسلاَمِيّةِ
دولة قطر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية
دولة قطر
الطَبعَة الأولى، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
قامت بعمليات التنضيد الضوئي والإخراج والطباعة
دارُ النَّوادر لصاحبها ومديرها العام نور الدين طالب
سوريا - دمَشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦
لبنان - بَيروت - ص. ب: ٥١٨/ ١٤
هَاتف: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠٠١ - فاكس: ٠٠٩٦٣١١٢٢٢٧٠١١
www.daralnawader.com
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ﴾ فيه إضمارٌ، يعني: فكذبوه.
﴿إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ﴾ الفقرِ ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ المرضِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ ليتذلَّلوا ويتوبوا.
* * *
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ﴾ الشدةِ ﴿الْحَسَنَةَ﴾ الرخاءَ.
﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ كَثُروا عددًا وأموالًا (١)، فَطَغَوا.
﴿قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾ أي: ليسَ ما أصابنا بالابتلاء، وإنّما هذا (٢) دأبُ الدهرِ ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بنزولِ العذابِ.
(٢) في "ش": "هو".
[٩٦] ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى﴾ المكذِّبينَ.
﴿وَاتَّقَوْا﴾ المعاصيَ.
﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (لَفَتَّحْنَا) بتشديد التاء، والباقون: بالتخفيف (١).
﴿بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ لجاءَهم المطرُ والخصبُ، وعمَّهُم الخيرُ من كلِّ جهةٍ ﴿وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الكفر والمعاصي.
* * *
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ المكذبونَ، وهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولَها، الاستفهامُ للإنكارِ، والفاءُ للعطفِ نظيرُه: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠].
﴿أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ عذابُنا ﴿بَيَاتًا﴾ ليلًا ﴿وَهُمْ نَائِمُونَ﴾.
* * *
[٩٨] ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (أَوْ أَمِنَ) بسكون الواو، جعلوها (أو) العاطفةَ تكونُ لأحدٍ الشيئين؛ كقولك: ضربتُ زيدًا أو عَمْرًا؛ وورشٌ يحذفُ الهمزةَ، ويلقي فتحتَها على الواو الساكنة، فتتصل فتحةُ الواو بكسرةِ الميم في اللّفظ، والباقون: بفتح الواو، وجعلوها واوَ العطف دخلَتْ عليها ألفُ الاستفهام (١)، نظيره: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ﴾ [البقرة: ١٠٠].
﴿أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى﴾ أي: نهارًا، والضحى: صَدْرُ النهار وقتَ انبساطِ الشّمسِ.
﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ لاهُونَ من فرطِ الغفلةِ.
* * *
﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ استدراجَه إياهم بما أنعمَ عليهم في دنياهم.
﴿فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين خَسِروا بالكفرِ.
* * *
[١٠٠] ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ﴾ أي: يُبَيَّنْ. قرأ العامة: (يَهْدِ) بالياء، وقرأ زيدٌ عن يعقوبَ: بالنون على التعظيم.
﴿لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ﴾ أي: يسكنونها.
﴿مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا﴾ الهالكينَ.
﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ أهلَكْناهم كما أَصَبْنا مَنْ قبلَهم، واختلافُ القراء في الهمزتين من (نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ) كاختلافِهم فيها من (السُّفَهَاءُ أَلَا) في سورةِ البقرةِ.
﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ كمَنْ تقدَّمَهم ﴿وَنَطْبَعُ﴾ نختمُ.
﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ سماعَ تفهُّمٍ واعتبار.
* * *
﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿تِلْكَ الْقُرَى﴾ المذكورةُ وأهلُها؛ يعني: قومَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ، وقومَ لوطٍ وشعيبٍ.
﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا﴾ أخبارِها؛ لما فيها من الاعتبارِ.
﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ عندَ مجيءِ الرُّسلِ بالبيناتِ.
﴿بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبلِ قيامِ المعجزاتِ، المعنى: لم تؤثرْ فيهم الموعظةُ، واستمروا على الكفرِ.
﴿كَذَلِكَ﴾ مثلَ ختمِنا على قلوبِ الكافرينَ قبلَكَ.
﴿يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾ من قومِك فلا يؤمنونَ.
* * *
﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ﴾ أي: الناسِ.
﴿مِنْ عَهْدٍ﴾ أي: وفاءِ عهدٍ.
﴿وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ﴾ أي: عَلِمْناهم.
﴿لَفَاسِقِينَ﴾ خارجينَ عن الطاعةِ، و (إنْ) للنفي، و (اللام) بمعنى إِلَّا، التقدير: وما وجَدْنا أكثرَهم إِلَّا فاسقينَ.
* * *
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعدِ الأنبياءِ المتقدِّمِ ذكرُهم، وأممهم.
﴿مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾ يعني: المعجزاتِ.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ وكيفَ فعلنا بهم.
* * *
﴿وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لما دخلَ على فرعونَ:
﴿يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فقال فرعونُ، كذبتَ.
* * *
﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] فقال موسى ﴿حَقِيقٌ﴾ من الحقّ.
﴿عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ قرأ نافعٌ: (عَلَيَّ) بتشديد الياءِ وفتحِها على أنّها ياءُ الإضافة، معناه: حقٌّ واجبٌ عليَّ، وقرأ الباقونَ: (عَلَى) على أنّها جرٌّ (١)، معناهُ: جديرٌ بألَّا أقولَ إِلَّا الحقَّ.
﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ اليدِ والعصا.
﴿فَأَرْسِلْ﴾ أطلِقْ.
﴿مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وخَلِّهِمْ حتّى يرجِعوا إلى الأرضِ المقدسةِ الّتي هي
* * *
﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿قَالَ﴾ فرعونُ ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ﴾ على دعواكَ.
﴿فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في الدعوى، وكان بينَ دخولِ يوسفَ مصرَ ودخولِ موسى أربعُ مئةِ سنةٍ.
* * *
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿فَأَلْقَى﴾ موسى ﴿عَصَاهُ﴾ من يدِهِ.
﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ﴾ هو ذَكَرُ الحياتِ، عظيمُ الجسمِ ﴿مبِينٌ﴾ ظاهرٌ أمرُهُ.
قال ابنُ عباسٍ: "لما أَلْقَى العَصا، صارتْ حَيّةً عظيمةً صفراءَ شعراءَ فاغرةً فاها، ما بين لَحْيَيْها ثمانون ذراعًا، واضعةً لَحْيَها الأسفلَ في الأرضِ، والأعلى على سورِ القصر، ثمّ تنفَّسَتْ في البيوتِ والخزائنِ، فاشتعلتْ نارًا، وجعلتْ تهيجُ كالجملِ، ولها صوتٌ كالرَّعد، وحملتْ على الناسِ، فانهزموا وصاحوا، وماتَ منهم خمسةٌ وعشرونَ ألفًا، قتلَ بعضُهم بعضًا، وتوجَّهَت نحوَ فرعونَ لتأخذَهُ، فوثبَ من (٢) سريرِه هاربًا، وأحدَثَ
(٢) في "ن": "عن".
* * *
﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] فلما نظرَ فرعونُ إلى ذلك، قال: يا موسى! لقد تعلمتَ سحرًا عظيمًا، هل عندَكَ غيرُ هذا؟ قالَ: نعم ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾ أدخلَها جيبَهُ ثمّ نزعَها.
﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ لها شعاعٌ يغلبُ نورَ الشّمس، ثمّ أَدخلها جيبَهُ فصارَتْ كما كانت.
* * *
﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] فّثّمَّ ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ بالسحر.
* * *
﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ﴾ معشرَ القبطِ.
﴿أَرْضِكُمْ﴾ مصرَ.
﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ تشيرون؟ هذا من قولِ فرعونَ، وما قبلَه من قولِ الملأ.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ١٣٤).
[١١١] ﴿قَالُوا﴾ يعني: الملأُ.
﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ المعنى: اتركِ التعرُّضَ له بالقتلِ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وهشامٌ عنِ ابنِ عامرٍ: (أَرْجِئهُو) بالهمزِ وضمِّ الهاء ووصلِها بواو، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بالهمزِ وبكسرِ الهاءِ، ولا يصلُها بياء، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بالهمزِ والضمِّ من غيرِ صلة، والباقون: بغير همزٍ، ثمّ نافعٌ بروايةِ ورشٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ يُشبعونَ الهاءَ كَسْرًا، ويُسكنها عاصمٌ، وحمزةُ، ويختلِسُها أبو جعفرٍ، وقالونُ (١)، وكذلك اختلافُهم في حرفِ الشعراءِ.
﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ﴾ هي مدائنُ بالصعيدِ من نواحي مصرَ.
﴿حَاشِرِينَ﴾ جامعينَ.
...
﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾.
[١١٢] ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (سَحَّارٍ) على وزنِ فَعّال مبالغةً، وأمال فتحةَ الحاءِ الدوريُّ عن الكسائيِّ، والسحارُ: هو العالِمُ المعلمُ السحر. وقرأ الباقون: (سَاحِر) على وزنِ فاعِل (٢)، والساحرُ: من يعلمُ ولا يعلِّمُهُ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٢)، =
[١١٣] ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ﴾ بعدما أرسلَ الشُّرَطَ في طلبِهم، قيلَ: كانوا ثمانينَ ألفًا، متقدَّمُهم شمعونُ، وقيلَ غيرُ ذلك، فلما اجتمعوا.
﴿قَالُوا﴾ لفرعونَ ﴿إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا﴾ أي: جُعْلًا.
﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ لموسى. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ وحفصٌ: (إِنَّ لَنَا) بهمزة واحدة على الخبر، أخبروا أَنهم يستحقُّون على غَلَبِهم موسى جُعْلًا، والباقون: بهمزتين على الاستفهام (١)؛ أي: أَتجعلُ لنا جُعلًا؟ وهم على أُصولهم تسهيلًا وتحقيقًا وفصلًا كما تقدَّمَ في سورةِ الأنعامِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٩].
* * *
﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿قَالَ﴾ فرعونُ: ﴿نَعَمْ﴾ لكم عليَّ جعلٌ.
﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ في المنزلةِ عندي.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٨٦ - ٢٨٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٣٢، ١١١ - ١١٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٨٨).
[١١٥] فعندَ اجتماعِهم بالإسكندريةِ ﴿قَالُوا﴾ تأدُّبًا.
﴿يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ عصاكَ ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ آلاتِنا.
* * *
﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)﴾.
[١١٦] ﴿قَالَ﴾ موسى: بل ﴿أَلْقَوْا﴾ أنتم.
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾ آلاتِهم.
﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ صَرَفوها عن إدراكِ حقيقةِ سحرِهم بما فعلوهُ من التَّمْويهِ والتَّخْييلِ.
﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ أخافوهم لما رَأَوا منَ الحيَّاتِ أمثال الجبالِ يركبُ بعضُها بعضًا، وكانتِ الأرضُ الملقى فيها مِيلًا في مِيل.
﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ في فَنِّه.
* * *
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فألقاها، فصارت حيةً سدَّتِ الأفقَ، وفتحتْ فمهَا ثمانينَ ذراعًا.
﴿فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ﴾ تبتلعُ.
* * *
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿فَوَقَعَ﴾ أي: ظهرَ ﴿الْحَقُّ﴾ أنّه مع موسى.
﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من السحر، وقالوا: لو كان موسى ساحرًا، لبقيتْ عِصيُّنا.
* * *
﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (١١٩)﴾.
[١١٩] فعلموا أن ذلكَ من أمرِ الله ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ ذليلين.
* * *
[١٢٠] ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾ خَرُّوا سُجَّدًا لله تعالى متطارحين. قرأ أبو عمرٍو: (السَّحَرةَ ساجِدِينَ) بإدغام التاء في السين.
* * *
﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
* * *
﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] فقال فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾.
* * *
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)﴾.
[١٢٣] ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي: بالله. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، ورُويسٌ عن يعقوبَ: (آمنتم) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبر، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ بِهِ) يُبدل في حال الوصلِ من همزةِ الاستفهامِ واوًا مفتوحةً، ويمدُّ بعدَها مدة في تقديرِ أَلِفين، والباقون: بهمزتين على الاستفهامِ، فحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ، وروحٌ عن يعقوبَ: يقرؤون بتحقيقِ الهمزتينِ على الأصلِ، والباقونَ بتحقيقِ الأولى وتسهيلِ الثّانية (١)، ولم يُدْخِلْ أحدٌ ألفًا بينَ الهمزةِ المحقَّقةِ والمسهَّلة في
﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أي: من غيرِ أَمْري إياكم.
﴿إِنَّ هَذَا﴾ الّذي صنعتُم أنتمْ وموسى.
﴿لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ﴾ لَحِيَلةٌ احْتَلْتُموها.
﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾ في مصرَ قبل أن تخرُجوا إلى هذا الموضعِ.
﴿لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا﴾ القبطَ، وتخلصُ لكم ولبني إسرائيلَ.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبةَ ما فعلتم.
* * *
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] وهو تهديدٌ مجملٌ تفصيلُه: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ من كلِّ شِقٍّ طَرَفًا، وهو أولُ مَنْ قطعَ من خلافٍ وصَلَبَ.
﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ على شاطئ نهرِ مصرِ؛ تفضيحًا لكم، وتنكيلًا لأمثالِكم.
* * *
﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] وكان موسى قد قالَ للسحرةِ لكبيرهم: أتؤمنُ بي إِنْ غلبتُك؟
﴿قَالُوا﴾ يعني: السحرةُ لفرعونَ:
﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ راجعونَ إلى الآخرة، فيرحَمُنا ويُثيبنا، فلا نُبالي بعذابِك.
* * *
﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ثمّ قالوا توبيخًا: ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا﴾ أي: تكرَهُ مِنَّا.
﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا﴾ وهو خيرُ الأعمالِ، ثمّ فزعوا إلى اللهِ فقالوا:
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي: ارزقْنا صبرًا كثيرًا يفيضُ علينا عندَ القطعِ والصَّلْبِ.
﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ ثابِتينَ على الإسلامِ، فقطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وصَلَبهم، وقيل: إنّه لم يقدرْ عليهم، لقوله تعالى: ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ [القصص: ٣٥]، ورُوي أنّه آمنَ بموسى عندَ إيمانِ السحرةِ سِتُّ مئةِ ألفٍ.
* * *
[١٢٧] و ﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ لهُ: ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بتغييرِ الناسِ عليكَ، ودعوتِهم إلى مخالفتِكَ.
﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ مَعْبوداتِك، فلا يعبدُكَ ولا يعبدُكَ، لأنّه كانَ قد أمرَ قومَه بعبادةِ الأصنامِ، فقالَ؛ هذه آلهتُكم، وأنا رَبُّها وربُّكم، ولذلكَ قالَ: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤]، وقيل: كان له بقرةٌ يعبدُها، فلذلك أخرجَ لهم السامريُّ عِجْلًا، وقيل: كانَ يعبدُ الكواكبَ، وقيل: الشمسَ. المعنى: أيكونُ منكَ تركُ موسى، ويكونُ تركُهُ إياكَ فلا يلتفِتُ إليكَ؟!
﴿قَالَ﴾ فرعونُ:
﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (سَنَقْتُلُ) بفتحِ النونِ وإسكانِ القافِ وضمِّ التاءِ من غيرِ تشديدٍ، من القتلِ، وقرأ الباقون: بضمِّ النونِ وفتحِ القافِ وكسرِ التاءِ وتشديدِها، من التقتيلِ، على التكثيرِ (١).
﴿وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ نتركُهم أحياءً كفعلِنا بهم قبلُ، وتقدَّمَ ذكرُ قِصتهم في القتلِ في سورةِ البقرةِ.
﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ غالِبونَ، وهم مقهورونَ تحتَ أيدينا.
* * *
[١٢٨] فأعادَ فرعونُ عليهمُ القتلَ، فشكَتْ بنو إسرائيل ذلكَ، فَثَمَّ: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ﴾ أرضَ مصرَ.
﴿يُورِثُهَا﴾ يُعطيها ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وعدٌ لهم بالنصرِ.
* * *
﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿قَالُوا﴾ يعني: قومَ موسى.
﴿أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا﴾ بالرسالةِ بقتلِ الأبناءِ.
﴿وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ بإعادةِ القتلِ علينا.
﴿قَالَ﴾ لهم موسى: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ فرعونَ.
﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يُسْكِنَكم أرضَ مصرَ.
﴿فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ من طاعةٍ وعصيانٍ، فيجازيكم، فحقَّقَ اللهُ ذلكَ، وأغرقَ فرعونَ، واستخلَفَهم فيها، فعبدوا العجلَ.
* * *
[١٣٠] ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ﴾ أي: سِني القحطِ لأهلِ البوادي.
﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لأهلِ الأمصارِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَتَّعِظون فيؤمنون؛ لأنّ البلاءَ يرقِّقُ القلوبَ، ويرغِّبُ في الآخرَة، رُوي أن فرعونَ عاشَ أكثرَ من ستِّ مئةِ سنةٍ، وملكَ أربعَ مئةِ سنةٍ لا يَرى مكروهًا فيها، ولو رآه، لما ادَّعى الربوبيةَ.
* * *
﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣١)﴾.
[١٣١] ﴿فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ الخصبُ والسَّعَةُ.
﴿قَالُوا لَنَا هَذِهِ﴾ أي: نحنُ مستحقُّوها، ولم يشكروا اللهَ.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ قحطٌ وغلاءٌ.
﴿يَطَّيَّرُوا﴾ يتشاءموا.
﴿بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ من المؤمنين.
﴿أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ﴾ أي: ما يصيبُهم من خيرٍ وشرٍّ.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: من قِبَلِ اللهِ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ ذلكَ.
* * *
[١٣٢] ﴿وَقَالُوا﴾ هو يعني: القبطَ لموسى ﴿مَهْمَا﴾ أصلهُ: (ما) الشرطية أضيفتْ إليها (ما) المزيدة للتأكيد (١)، فصارت ماما، ثمّ قلبتْ ألفُها استثقالًا للتكثير.
﴿تَأْتِنَا بِهِ﴾ أي: أيُّما شيءٍ تُحضِرُنا تأتنا به.
﴿مِنْ آيَةٍ﴾ بيانٌ لـ: "مهما"، وسموها آيةً استهزاءً لموسى.
﴿لِتَسْحَرَنَا بِهَا﴾ لتنقلَنا عمَّا نحن عليه.
﴿فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا نخدِعُ لك بدليلٍ ما، ولا نصدِّقُك.
قرأ أبو عمرٍو: (نَحْن لكَ) وشبهَه حيثُ وقعَ بإدغامِ النونِ في اللام (٢).
* * *
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣)﴾.
[١٣٣] ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ وهو السيلُ الشديدُ، ودخلَ بيوتَهم حتّى بلغَ تَراقِيَهم، فمن جلسَ منهم غرقَ، ودامَ سبعةَ أيامٍ من السبتِ إلى السبتِ، ولم يدخلْ بيتَ إسرائيليٍّ معَ اشتباكِها ببيوتهم، فقالوا لموسى: ادعُ رَبَّكَ يكشفْ عَنَّا، ونحن نؤمنُ بكَ، ونرسلُ معكَ بني إسرائيل، فدعا، فَرُفِعَ، فأخصبتْ بلادُهم، فلم يؤمنوا.
(٢) انظر: "الإتقان" للسيوطي في النوع "الحادي والثلاثون".
﴿وَالْقُمَّلَ﴾ بُعِثَ عليهم بعدَ الجراد، قيل: هو جرادٌ بلا أجنحةٍ، وقيل: هو القَمْلُ المعروف، وقيل: هو السوسُ يخرجُ من الحنطة، فأكلَ ما تركَ الجرادُ وأشعارَهم وأبشارَهم، وآلَمَهُمْ قرصًا، وخبثَ عليهم أطعمتَهم لوقوعها فيها وفي أفواهِهم، ولم يضرَّ بإسرائيليٍّ، فاستغاثوا بموسى، فدعا، فَرُفِعَ عنهم، فلم يؤمنوا.
﴿وَالضَّفَادِعَ﴾ بُعثتْ عليهم بعدَ القمل، فملأَتْ بيوتَهم وأطعمتَهم، وخَبَّثَتْها عليهم، ودخلَتْ أفواهَهُم، فاستغاثوا بموسى، فدعا، فَرُفِعَ عنهم، فلم يؤمنوا.
﴿وَالْدَّمَ﴾ بُعثَ عليهم بعدَ الضفادع، فصارت جميعُ مياهِهم دمًا أحمرَ عبيطًا، فكانَ فرعونُ يجمعُ بينَ القبطيِّ والإسرائيليِّ على الإِناء الواحد، فيكونُ ما يلي الإسرائيليَّ ماءً، وما يلي القبطيَّ دمًا، وتأخذُ المرأةُ الإسرائيليةُ الماءَ في فمِها فتلقيه في في القِبْطِيِّ فيصيرُ دمًا، وجعلَ (١) فرعونُ يمضغُ الشجارَ فيصيرُ ماؤها في فيه دمًا.
﴿آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ﴾ مبيناتٍ، حالٌ من هذهِ المذكوراتِ، وتفصيلُها أَن كانَ كلُّ عذابٍ أُسبوعًا، وبينَ كلِّ عذابينِ شهرٌ، رُوي أن موسى بقيَ بعدَما
﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن الآيات ﴿وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾.
* * *
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤)﴾.
[١٣٤] ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ العذابُ المفضَّلُ، وبعدَهُ طاعونٌ أَنزله اللهُ بهم، ماتَ منهم في ليلةٍ سبعون ألفَ قبطيٍّ.
﴿قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ أي: بعهدِهِ، وهو النبوةُ ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ وهو الطاعونُ ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
قال - ﷺ -: "الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ" (١).
* * *
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)﴾.
﴿إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ ينقُضون العهدَ.
* * *
﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦)﴾.
[١٣٦] ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾ البحرِ ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: بسببِ تكذيبِهم بها ﴿وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي: عن النِّقْمَةِ قبلَ حُلولِها غافلينَ.
* * *
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)﴾.
[١٣٧] ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾ بالاستعبادِ وذبحِ الأبناءِ، وهم بنو إسرائيلَ ﴿مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ والأرضُ: الشامُ ومصرُ، ومشارقُها ومغاربُها: جهاتُ الشرقِ والغربِ بها، ملكَها بنو إسرائيلَ بعدَ الفراعنةِ والعمالقةِ.
﴿الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ بالماءِ والأشجارِ والثمارِ.
﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بنصرِهِ إياهم ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ على الشدائِد.
﴿وَدَمَّرْنَا﴾ أهلَكْنا ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ في أرضِ مصرَ من العماراتِ.
﴿وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ من البساتين. قرأ ابنُ عامرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَعْرُشُونَ) بضمِّ الراء، والباقون: بكسرها (٢).
* * *
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)﴾.
[١٣٨] ﴿وَجَاوَزْنَا﴾ عَبَرْنا ﴿بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ وكانَ ذلكَ يومَ عاشوراء.
﴿فَأَتَوْا﴾ فمروا ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾ من لخم.
﴿يَعْكُفُونَ﴾ يُقيمون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بكسر الكاف، والباقون: بضمها (٣).
﴿عَلَى﴾ عبادةِ ﴿أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ كانتْ على صورةِ البقرِ يعبدونها.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٩٦ - ٣٩٧).
(٣) المصادر السابقة.
﴿يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا﴾ صنمًا نُعَظِّمُه ﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ يعبدونها.
﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون﴾ المعبود.
* * *
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)﴾.
[١٣٩] ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾ أي: عبدةَ الأصنامِ.
﴿مُتَبَّرٌ﴾ مُهْلَكٌ ﴿مَا هُمْ فِيهِ﴾ من الشركِ.
﴿وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: شركُهم يزولُ، ويَهْلِكون إن لم يؤمنوا.
* * *
﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠)﴾.
[١٤٠] ثمّ ﴿قَالَ﴾ موبِّخًا: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا﴾ أطلبُ لكم إلهًا معبودًا.
﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ في زمانكم.
* * *
﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)﴾.
[١٤١] ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ: (أَنْجَاكُمْ)، وكذلكَ هو في مُصحفِ أهلِ الشامِ، والباقون: بياء ونون وألف بعدها، وكذلك هو في
﴿مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ﴾ يذيقونكم ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أشدَّه وأسوأَه.
﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾ قرأ نافع: (يَقْتُلُونَ) خفيفةً من القَتْل، والباقون: بالتشديدِ على التكثيرِ من التَّقتيل (٢) ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ﴾ سبقَ تفسيرُه.
﴿وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ وفي الإنجاءِ والعذابِ محنةٌ عظيمةٌ.
* * *
﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)﴾.
[١٤٢] ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (وَعَدْنَا) بقصرِ الألفِ من الوعدِ، والباقون: (وَاعَدْنَا) بالمدِّ من المواعدة (٣).
﴿ثَلَاثِينَ لَيْلَةً﴾ ذا القعدةِ ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ من ذي الحجةِ {فَتَمَّ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩١)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٩٨).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٢ و ٢٧١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٩٨).
﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ تمييزٌ، وأربعين حالٌ؛ أي: بالغًا هذا العدد.
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ عندَ انطلاقِه إلى الجبلِ للمناجاةِ.
﴿لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي﴾ خليفتي.
﴿فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ أي: ومُرْهُمْ بالإصلاحِ.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين﴾ لا تطعْ مَنْ عصى الله، وصَدَّهُمْ عن المعصيةِ، وذلك أن موسى وعدَ بني إسرائيلَ بمصرَ أن يأتيَهم بعدَ مهلكِ فرعونَ بكتابٍ من عندِ اللهِ فيه بيانُ ما يَأْتون ويَذَرون، فلما هلكَ، سألَ ربَّهُ الكتابَ، فأمره اللهُ أن يصوم ثلاثينَ يومًا، فلما تَمَّت، أنكرَ خُلُوفَ فَمِهِ، فاستاكَ بعودِ خَرُّوبٍ، فقالت له الملائكة: كنا نشمُّ من فيكَ رائحةَ المسكِ فأفسَدْتَهُ بالسِّواكِ، وأوحى الله إليه: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدِي أَطْيَبُ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ؟ " فَأُمِرَ بصيامِ عشرةِ أيامٍ من أولِ ذي الحجة، ثمّ أَنزلَ عليه التوراةَ في العشرِ، وكلَّمه فيها، فكانتْ فتنتُهم في العشرِ الّتي زادَها (١).
* * *
﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)﴾.
﴿قَالَ﴾ اللهُ: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ وليسَ لبشرٍ أن يطيقَ النظرَ إليَّ في الدنيا، وسؤالُ الرؤيةِ دليلٌ على أن رؤيتَهُ تعالى جائزةٌ في الجملةِ؛ لأنّ طلبَ المستحيلِ من الأنبياءِ محالٌ، خُصوصًا ما يقتضي الجهلَ بالله، ولذلك ردَّهُ بقولِه: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ دونَ لَنْ أُرى، ولَنْ أُرِيَك، ولن تنظرَ إليَّ، وتعلّقَتْ نُفاةُ الرؤيةِ بظاهرِ هذهِ الآيةِ وقالوا: قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾، و (لن) تكونُ للتأبيد، قال البغويُّ: ولا حجَّةَ لهم فيه، ومعنى الآية: لن تراني في الدنيا، أو في الحال، و (لن) لا تكونُ للتأبيد؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا﴾ [البقرة: ٩٥] إخبارًا عن اليهودِ، ثمّ أَخبَرَ عنهم أنّهم يتمَنَّونَ الموتَ في الآخرَة، ويقولونَ: ﴿يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: ٧٧]، ﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ [الحاقة: ٢٧]، وقد وردتِ السنَّةُ بالحديثِ المتواترِ أَنَّ أهلَ الإيمانِ يرونَ الله يومَ القيامةِ، وقيل: إنَّ طلبَ الرؤية لأجلِ الذينَ كانوا معه، الذين قالوا: أَرِنا اللهَ جَهْرَةً، وردَّ البيضاويُّ هذا القولَ، وجعلَهُ خطأً، وتقدَّمَ كلامُ الأئمةِ الأربعةِ على رؤيتِه سبحانَه في الآخرةِ في سورةِ الأنعام.
﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ لم يتزلزلْ.
﴿فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ أي: سوف تثبتُ رؤيتي وتُطيقُها، وقد علمَ تعالى أن الجبلَ لا يثبتُ عندَ التجلِّي، فلذلكَ علَّقَ الرؤيةَ على ثبُوته.
﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾ أي: ظهرَ نورُ ربِّه.
﴿لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ أي: مستويًا بالأرضِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (دَكَّاءَ) بالمدِّ والهمزِ مفتوحًا؛ أي: كأرضٍ دَكَّاءَ، وقرأ الباقون: بالتنوينِ من غيرِ مَدٍّ ولا همزٍ، مصدرُ دَكَّه (١)، ومعناه التفسيرُ الأولُ.
﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ مَغْشِيًّا عليه لهولِ ما رأى، رُوي أنّه خرَّ صَعِقًا يومَ الخميسِ يومَ عرفةَ، وأُعْطِيَ التوراةَ يومَ الجمعة يومَ النَّحر.
﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾ من غشوتِهِ ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهًا لكَ عن الإدراكِ.
﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ عن سؤالِ الرؤيةِ ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ من بني إسرائيل، وقيل: أولُ المؤمنينَ بأنك لا تُرى في الدنيا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَأَنا أَوَّلُ) بالمدِّ، والباقون: بغير مد (٢).
* * *
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠٠).
[١٤٤] ﴿قَالَ﴾ اللهُ ﴿يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾ اخترتُكَ. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (إِنِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿عَلَى النَّاسِ﴾ في زمانِكَ.
﴿بِرِسَالَاتِي﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: (بِرِسَالَتِي) على التّوحيد، والباقون: على الجمع (٢)، وإن كانَ هارونُ شريكَه في الرسالة، فهو تابعٌ له ﴿وَبِكَلَامِي﴾ وبتكليمي.
﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾ أعطيتُكَ من الرسالة.
﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ للهِ على نعمِه.
رُويَ أنَّ موسى -عليه السّلام- مكثَ بعدَ أن كلَّمه الله -عَزَّ وَجَلَّ- أربعينَ ليلةً لا يراهُ أحدٌ إِلَّا ماتَ من نورِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
* * *
﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥)﴾.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠١).
﴿فِي الْأَلْوَاحِ﴾ جمعُ لَوْح، سُمِّي بهِ لأنّه يلوحُ فيه ما يُكْتَبُ، والمرادُ: ألواحُ التوراةِ، وفي الحديثِ: "كَانَتْ مِنْ سِدْرِ الجنَّةِ، طولُ اللَّوْحِ اثنا عَشَرَ ذِرَاعًا" (١)، وقيلَ: كَانَتْ من زُمُرُّدٍ، وقيلَ: من ياقوتةٍ حمراءَ، وقيل: من زَبَرْجَدٍ، وقيلَ: من صخْرَةٍ صماء (٢) لَيَّنَها اللهُ لموسى، فقطعَها بيدِه، ثمّ شقَّها بأصابعِه فأطاعَتْه كالحديدِ لداودَ، وكانت عشرةً، وقيل: سبعةً، وقيل: وقْرَ سبعينَ بعيرًا، كلُّ لوحِ كطولِ موسى، وإضافةُ الكتابةِ إلى نفسِه على جهةِ التشريفِ؛ إذْ هيَ مكتوبةٌ بأمرِهِ، كتبها جبريلُ بالقلمِ الّذي كتبَ به الذِّكْر، واستمدَّ من نهرِ النورِ، وسمعَ موسى صريرَ القلمِ بالكلماتِ العشرِ.
﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ممّا أُمروا به، ونُهوا عنه، وعن مقاتل: كتب في الألواحِ: إِنِّي أَنَا اللهُ الرّحمنُ الرحيمُ، لا تُشْركوا بي شيئًا، ولا تَقْطَعوا السبيلِ، ولا تَحْلِفوا باسمي كاذبًا؛ فإنَّ من حلفَ باسمي كاذبًا، فلا أُزكيه، ولا تَقتلوا، ولا تَزْنوا، ولا تَعقُّوا الوالدينِ.
﴿مَوْعِظَةً﴾ تذكيرًا وتحذيرًا بما يُخافُ عاقبتُه.
﴿وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ تبيينًا لكلِّ ما يحتاجون في دينهم إليه.
﴿فَخُذْهَا﴾ أي: الألواحَ ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بجدٍّ واجتهادٍ.
﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ بالأحسنِ منها، وهو الجمعُ بينَ فضائِلها وفرائِضها.
(٢) "صماء" ساقطة من "ش".
* * *
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦)﴾.
[١٤٦] ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ﴾ عن تَدَبُّرِها (١) وفَهْمِها.
﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾ على الناسِ.
﴿فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ بأن أَخْذُلَهم وأُعميَ بصائرَهم. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ: (آيَاتِي الَّذِينَ) بإسكانِ الياء، والباقون: بالفتح (٢).
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ دالَّةٍ على التوحيدِ ﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ لعنادِهم.
﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (الرَّشَدِ) بفتح الراء والشين، والباقون: بضم الراء وسكون الشين، وهما لغتان (٣)؛ كالبُخْل والبَخَل، ومعناه: الفلاحُ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٥٢ - ١٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٥٢).
﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ﴾ أي: طريقَ الضلال.
﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ فهم ضالُّون.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: الصرفُ.
﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ ساهِين.
* * *
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)﴾.
[١٤٧] ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ﴾ الدَّارِ ﴿الْآخِرَةِ﴾ الّتي هي موعدُ الثوابِ والعقابِ ﴿حَبِطَتْ﴾ بَطَلَتْ ﴿أَعْمَالُهُمْ﴾ وصارَتْ كأنْ لم تكنْ.
﴿هَلْ يُجْزَوْنَ﴾ أي: لا يجزون في الآخرة.
﴿إِلَّا﴾ جزاءَ ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا.
* * *
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (١٤٨)﴾.
[١٤٨] ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي: من بعدِ ذهابِه إلى المناجاة.
﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ الّتي استعاروها من القِبْطِ بسببِ عرسٍ كانَ لهم، ونُسِبَ الاتخاذُ إليهم، وإن اتخذَهُ السامريُّ وحدَه؛ لأنّهم رَضُوا بفعلِه، واتخذوا العجلَ معبودًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (حِلِيِّهِمْ) بكسر الحاء، ويعقوبُ: بفتح الحاءِ وإسكانِ اللام وتخفيفِ الياءِ على الإفراد، والباقون: بضمِّ
﴿عِجْلًا﴾ مفعولُ (اتخذَ).
﴿جَسَدًا﴾ ذا لحمٍ ودمٍ.
﴿لَهُ خُوَارٌ﴾ صوتُ البقرِ، رُوي أنَّ السامريَّ لما صاغَ العجلَ ألقى في فمِه من ترابِ أثرِ فرسِ جبريلَ، فصار حَيًّا، وقيل: الصوتُ من دخولِ الريحِ فيه، ثمّ عجبَ من عقولهم السخيفةِ فقال:
﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾ تقريعًا على فرطِ ضلالَتِهم، ثمّ قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ تكريرٌ للذمِّ، أي: اتخذوه إلهًا.
﴿وَكَانُوا ظَالِمِين﴾ بذلكَ.
* * *
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩)﴾.
[١٤٩] ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ أي: ندموا على عبادةِ العجل، يقال لكلِّ من ندمَ: (سُقِطَ في يدِهِ)؛ فإن النادمَ المتحسِّرَ يَعَضُّ يدَه غمًّا، فتصيرُ يدُه مسقوطًا فيها.
(٢) في "ن": "وشددوا".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٥٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠٣).
﴿قَالُوا﴾ تائبينَ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَرْحَمْنَا) (وَتغفِرْ لَنَا) بالتاءِ فيهما على الخطاب (رَبَّنَا) بنصبِ الباء على النِّداء، وقرأ الباقون: بالغيب فيهما، ورفعِ الباء فاعلًا (١).
* * *
﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)﴾.
[١٥٠] ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾ شديدَ الغضبِ، وقيلَ: حزينًا.
﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي﴾ قُمتم مَقامي؛ أي: بئسما عملْتُم.
﴿مِنْ بَعْدِي﴾ أي: بعدَ ذهابي. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (بَعْدِي) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحها (٢).
﴿أَعَجِلْتُمْ﴾ أَستَبقتم بعبادةِ العجلِ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠١ - ٣٠٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٥)، و (معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٠٥).
﴿وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ﴾ الّتي فيها التوراةُ غَضَبًا لدينِه، وكان حاملًا لها، فتكَسَّرَتْ، فرفعَ ستةَ أسباعِ التوراةِ، وبقي سُبْعُها، وهو ما فيه الموعظةُ والأحكامُ، ورفعَ ما كانَ من أخبارِ الغيبِ.
﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾ أي: بشعرِ رأسِه ولحيتِه ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ غَضبًا عليه؛ كيفَ مَكَّنَهم من عبادةِ العجلِ، وكانَ هارونُ أكبرَ من موسى بثلاثِ سنينَ، وأحبَّ إلى بني إسرائيل؛ لرقَّتِه لهم.
﴿قَالَ﴾ هارونُ عندَ ذلكَ: ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصم: (ابْنَ أُمِّ) بكسرِ الميم؛ أي: يا بن أمي، فحذفت الياء بالإضافة، وبقيتِ الكسرة لتدلَّ على الإضافة؛ كقوله: (يَا عِبَادِ)، وقرأ الباقون: بالفتح؛ أي: يا بنَ أماهُ (١)، وذَكَرَ الأُمَّ ليرقِّقَهُ عليه، وكانا من أبٍ وأمٍّ.
﴿إِنَّ الْقَوْمَ﴾ يعني: عبدةَ العجل.
﴿اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا﴾ هَمُّوا أن.
﴿يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ﴾ تُفرِحْ ﴿بِيَ الْأَعْدَاءَ﴾ بإهانتِكَ إيايَ.
﴿وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ بعبادةِ العجلِ؛ أي: قرينًا لهم.
* * *
[١٥١] فلما اتَّضَحَ عذرُ أخيه ﴿قَالَ﴾ موسى:
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ ما صنعْتُ بأخي.
﴿وَلِأَخِي﴾ إنْ كانَ منهُ تقصيرٌ؛ ليرضيَ أَخاه، ويسيءَ الشامتين.
﴿وَأَدْخِلْنَا﴾ جميعًا.
﴿فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ أرحمُ بنا منا (١) على أنفسِنا.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)﴾.
[١٥٢] ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ مخاطبةٌ من الله سبحانه لموسى عليه السّلام؟ لقولِه تعالى:
﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هو أمرُهم بقتلِ أنفسِهم توبةً.
﴿وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ خروجُهم من ديارهم؛ لأنّ في الغربة ذلةً.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾ على الله، قال أبو قلابة: هو واللهِ جزاءُ كلِّ مُفْتَرٍ إلى يومِ القيامة أَنْ يُذِلَّهُ الله.
* * *
[١٥٣] ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾ من معصيةٍ وكفرٍ.
﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي: السيئاتِ.
﴿لَغَفُورٌ﴾ لجميعِ الذنوب.
﴿رَحِيمٌ﴾ لمن تابَ.
* * *
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)﴾.
[١٥٤] ﴿وَلَمَّا سَكَتَ﴾ أي: سكنَ وزالَ.
﴿عن مُوسَى الْغَضَبُ﴾ باعتذارِ هارونَ.
﴿أَخَذَ الْأَلْوَاحَ﴾ بعدَ إلقائِها.
﴿وَفِي نُسْخَتِهَا﴾ أي: ما نُسخَ فيها؛ أي: كُتب.
﴿هُدًى﴾ من الضلالِ.
﴿وَرَحْمَةٌ﴾ من العذابِ.
﴿لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ يخافونَ من ربهم.
***
[١٥٥] ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾ أي: من قومِه، فَحُذِفَ الجارُّ، فتعدَّى الفعلُ فنصبَ (قَوْمَهُ).
﴿سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا﴾ للوقتِ الّذي واعدناه أن يأتينا فيه بسبعين رجلًا من خيارِ قومِه يعتذرونَ إلينا من عبادةِ العجلِ، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء، فسمعوا أمرَ الله ونهيَه، فقالوا: أَرِنا اللهَ جهرةً، فزجرَهم موسى فلم ينزجِروا، فأخذتهم الرجفةُ؛ أي: الصاعقةُ، فماتوا يومًا وليلة، وتقدَّم ذكرُ القصةِ في سورة البقرة، وقال وهبٌ: لم تكنِ الرجفةُ موتًا، ولكن لما رأوا تلكَ الهيبةَ العظيمةَ، أخذتهم الرِّعْدَةُ، ورجفوا حتّى كادت تبينُ مفاصلُهم.
﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ رحمَهم موسى.
﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ عن عبادةِ العجلِ.
﴿وَإِيَّايَ﴾ بقتلِ القبطيِّ.
﴿أَتُهْلِكُنَا﴾ أتعمُّنا بالهلاك.
﴿بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ استفهامُ استعطافٍ، ومعناهُ نفي؛ أي: ما تعذِّبنا بذنبِ غيرِنا.
﴿إِنْ هِيَ﴾ أي: الفتنة.
﴿تُضِلُّ بِهَا﴾ أي: بالامتحانِ.
﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ ضلالَهُ.
﴿وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾ هُداهُ.
﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا﴾ القائمُ بأمرنا، وتقدَّمَ التنبيهُ على اختلافِ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ عندَ قوله تعالى: ﴿أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ﴾ [الأعراف: ١٠٠]، وكذلك اختلافُهم في (مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ).
﴿فَاغْفِرْ لَنَا﴾ واغفرْ معناهُ: استر ما قارَفْناه.
﴿وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ تغفرُ السيئةَ، وتبدلها بالحسنة، وقيل: إنَّ السبعينَ الذين قالوا: لن نؤمنَ لكَ حتّى نرى اللهَ جهرةً، فأخذتهم الصاعقةُ، كانوا قبلَ السبعينَ الذين أخذَتْهم الرجفةُ.
* * *
﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)﴾.
[١٥٦] ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ عافيةً.
﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾ الجنةَ.
﴿إِنَّا هُدْنَا﴾ تُبْنا.
﴿إِلَيْكَ﴾ أي: حَرَّكْنا نفوسَنا إليك بالتوبةِ.
﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ﴾ من خَلْقي. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (عَذَابِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ﴾ عَمَّتْ.
﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾، فلما نزلت، قال الخبيثُ إبليسُ: أنا شيءٌ، فأُخْرِجَ منها بقوله تعالى:
﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أي: أثبتُها في الآخرة.
﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الكفرَ.
﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ خَصَّها بالذكرِ؛ لأنّها كانتْ أشقَّ عليهم.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾.
* * *
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)﴾.
[١٥٧] فقالَ أهلُ الكتاب: نحن نَتَّقي ونزكِّي ونؤمنُ، فخرجوا منها بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ﴾ هو محمدٌ - ﷺ -.
﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ﴾ أي: وصفُه.
﴿مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ الإيمانِ.
﴿وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ الشركِ، والمعروفُ: ما عرفَهُ العقلُ أو الشرعُ بالحُسْنِ، والمنكرُ: ما أنكرَهُ أحدُهما لقبحِه.
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ كالشحومِ ونحوِها ممّا كان حُرِّمَ (١) عليهم.
﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ ما يُسْتَخْبَثُ حِسًّا؛ كالدمِ والميِّتةِ ونحوِهما.
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾ وهو كلُّ ما يَثْقُلُ على الإنسانِ من قولٍ أو فعلٍ. قرأ ابنُ عامرٍ: (آصَارَهُمْ) على الجمع، والباقون: على الإفراد (٢).
﴿وَالْأَغْلَالَ﴾ الأثقالَ.
﴿الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ من التكاليفِ الشاقَّةِ؛ كتعيُّنِ القصاصِ في القتلِ العمدِ والخطأِ، وتحريمِ أخذِ الدية، وقطعِ الأعضاءِ الخاطئةِ، وَقَرْضِ موضعِ النّجاسةِ من الجلدِ والثوبِ بالمقراضِ، وتركِ العملِ في السبتِ، وأنَّ صلاتَهم لا تجوزُ إِلَّا في الكنائسِ، وغيرِ ذلك من الشدائدِ.
﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ﴾ أي: بمحمد - ﷺ -.
﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ عَظَّموه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤١٠).
﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾ أي: عليه، يعني: القرآنَ.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الفائزونَ.
* * *
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)﴾.
[١٥٨] ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ هذا أمرٌ من الله سبحانه لنبيِّهِ بإشهارِ الدعوةِ والحضِّ على الدخولِ في الشرعِ، والمعنى: إنَّ كلّ رسولٍ بُعِثَ لأمَّتِه، والنبيُّ - ﷺ - بعِثَ إلى كافةِ الثقلينِ.
﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ صفةٌ لله، وإن حيلَ بينَ الصِّفَةِ والموصوفِ بقوله: ﴿إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ لأنّه كالمقدَّمِ عليه.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبودَ سواه.
﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ مزيدُ تقريرٍ؛ لاختصاصِه بالألوهية.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ﴾ ما أَنزَلَ عليهِ وعلى سائرِ الرسلِ من كتبِه ووحيِه.
﴿وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ إرادةَ أن تهتدوا.
* * *
[١٥٩] ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ يعني: المؤمنينَ الثابتينَ من بني إسرائيل.
﴿أُمَّةٌ﴾ جماعة.
﴿يَهْدُونَ﴾ الناسَ.
﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: يرشدونهم بكلمةِ الحقِّ.
﴿وَبِهِ﴾ أي: بالحقِّ.
﴿يَعْدِلُونَ﴾ بينَهم في الحكم.
* * *
﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)﴾.
[١٦٠] ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ﴾ أي: صَيَّرْناهم، يعني: بني إسرائيلَ.
﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا﴾ والسِّبْطُ مذكَّرٌ، فرجعَ التأنيثُ إلى قوله: ﴿أُمَمًا﴾ أي: قبيلةً، والأسباطُ: القبائلُ، واحدُها سبطٌ، وكانوا اثنتي عشرةَ قبيلةً من اثني عشرَ ولدًا من ولدِ يعقوبَ -عليه السّلام-، وكانَ كلُّ سبطٍ أمةً عظيمةً، والسبطُ في ولدِ إسحاقَ كالقبيلةِ في ولدِ إسماعيلَ، وتُنصبُ (أسباطًا) بدلًا من (اثنتي عشرة) وتُنصب (أممًا) نعتًا لأسباطًا.
﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ﴾ انفجرَتْ.
﴿مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ لكلِّ سبطٍ عينٌ.
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ كلُّ سبطٍ.
﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ وكلُّ سبطٍ بَنو أبٍ واحدٍ.
﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ﴾ ليقيَهم حرَّ الشّمسِ.
﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ سبقَ تفسيرُهما في سورةِ البقرة.
﴿كُلُوا﴾ أي: وقلْنا لهم: كلوا.
﴿مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وسبق تفسيرُه أيضًا فيها.
* * *
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١)﴾.
[١٦١] ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ أي: واذكرْ إذ قيل لهم:
﴿اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ هي بيتُ المقدسِ.
﴿وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ وعدٌ بالغفرانِ والزيادةِ عليه بالإثابةِ، وتقدَّم تفسيرُه في سورة البقرة، وتقديمُ (قُولُوا حِطَّةٌ) على (وَادْخُلوا) هنا لا أثرَ له في المعنى؛ لأنّه لا يوجبُ التّرتيب. قرأ نافعٌ،
* * *
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)﴾.
[١٦٢] ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ تقدَّم تفسيره في البقرة.
* * *
﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا وَاسْأَلْهُمْيَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)﴾.
[١٦٣] ﴿وَاسْأَلْهُمْ﴾ أي: سَلْ يا محمدُ هؤلاءِ اليهودَ الذين هم جيرانُك سؤالَ توبيخ. قرأ أبنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلْهُمْ) بنقل
﴿عَنِ الْقَرْيَةِ﴾ أي: سَلْهم عن خبرِ أهلِ القرية.
﴿الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ أي: على شاطئِهِ، وهي أيلةُ مدينةٌ كانت على شاطئ البحرِ بينَ مصرَ ومكةَ، سُميت بأيلةَ بنتَ مَدْيَنَ بنِ إبراهيمَ -عليه السّلام-، وهي أولُ حَدِّ الحجازِ من جهةِ الشّام، وكانت حدَّ مملكةِ الروم في الزمنِ الماضي، وبينَها وبينَ بيتِ المقدسِ نحوُ ثمانيةِ أيامٍ، والطورُ الّذي كلَّمَ اللهُ عليه موسى -عليه السّلام- على يومٍ وليلةٍ منها.
﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ يتعدَّوْنَ ما أُمروا به من تركِ الصَّيدِ.
﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾ أي: تَعْظِيمِهم أمرَ السبتِ.
﴿شُرَّعًا﴾ ظاهرةً على الماءِ، جمعُ شارعٍ.
﴿وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ﴾ لا يقطعونَ الشغلَ.
﴿لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ مثلَ ذلكَ البلاءِ الشديدِ نبلوهم بسببِ فسقِهم، وتقدَّم ذكرُ القصة مستوفىً؛ وحكمُ طلب القاضي لليهوديِّ في يومِ السبتِ في سورة البقرة.
* * *
﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)﴾.
﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في الآخرةِ؛ لتماديهم في العصيان؛ أي: وجبَ عذابُهم، فلا ينفعُهم الوعظُ.
﴿قَالُوا﴾ أي: الناهون ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (مَعْذِرَةً) بالنصب؛ أي: نفعلُ ذلكَ معذرةً إلى ربكم، وقرأ الباقون: (مَعْذِرَةٌ) بالرفع (١)؛ أي: موعظتُنا عذرٌ عندَه لئلَّا نُنْسَبَ إلى تقصيرٍ ما في النهيِ عن المنكرِ.
﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ اللهَ.
* * *
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)﴾.
[١٦٥] ﴿فَلَمَّا نَسُوا﴾ أي: تركَ أهلُ القرية.
﴿مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ من الوعظِ من الصَّيدِ.
﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾ وهو أخذُ الحيتانِ.
﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بأخذِها.
﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ شديدٍ. قرأ ابنُ عامرٍ (بِئْسٍ) بكسرِ الباء وهمزةٍ ساكنة
﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ بسببِ فسقِهم.
* * *
﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦)﴾.
[١٦٦] ﴿فَلَمَّا عَتَوْا﴾ تجبَّروا.
﴿عَنْ مَا نُهُوا﴾ من الصَّيدِ، فلم يمتثلوا النهيَ.
﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ مُبْعَدِينَ، فمكثوا ثلاثةَ أيامٍ ينظرُ إليهم النّاسُ، ثمّ هلكوا، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ مستوفاة في سورةِ البقرة، وذكرُ الخلافِ في حكمِ الحيلِ.
* * *
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٦٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤١٦ - ٤١٨).
[١٦٧] ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾ أعلمَ.
﴿رَبُّكَ﴾. قرأ أبو عمرٍو: ﴿تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ بإدغامِ النونِ في الراء (١)، المعنى: وإذ أوجبَ وحكمَ رَبُّكَ.
﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ ليرسلَنَّ على اليهودِ.
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ﴾ يُذيقُهم ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ فبعثَ الله عليهم بعدَ سليمانَ -عليه السّلام- بُخْتَ نَصَّرَ، فخرَّبَ ديارَهم، وقتلهم، وسبى نساءهم وذراريَّهم، وضربَ الجزيةَ على مَنْ بقيَ منهم، وكانوا يؤدُّونَ الجزيةَ إلى المجوسِ إلى بعثِ محمدٍ - ﷺ -، فضربَها عليهم إلى يوم القيامة.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ عاقبَهم في الدنيا.
﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تابَ وآمنَ.
* * *
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)﴾.
[١٦٨] ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾ فِرَقًا، حالٌ.
﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ المؤمنونَ بمحمدٍ - ﷺ -.
﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: مُنْحَطُّون عن رتبةِ الصالحينَ، وهم الكفرةُ.
﴿وَالسَّيِّئَاتِ﴾ النِّقَمِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ينتهون عن كفرِهم.
* * *
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦٩)﴾.
[١٦٩] ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: فخلفَ بعدَ المذكورين جماعةٌ، وهم مَنْ عاصر النبيَّ - ﷺ - من اليهود، والخَلَفُ بفتحِ اللام: الصالحُ، وبالسكون: الطالح، والتلاوةُ بسكونِ اللام.
﴿وَرِثُوا الْكِتَابَ﴾ أي: التوراةَ.
﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ هذا الشيء الدنيءَ من حُطامِ الدنيا، وهو الرشوةُ لتغييرِ بعضِ ما في التوراةِ، وصفةِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ لا نُؤاخَذُ بذلك.
﴿وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ أي: يرجونَ المغفرةَ وهم عائدونَ إلى مثلِ فعلِهم، والمغفرةُ إنّما تحصُلُ للتائب. قرأ رويسٌ عن يعقوبَ: (يَأْتِهُمْ) بضمِّ الهاء (١).
﴿أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ والمرادُ توبيخُهم على البَتِّ بالمغفرةِ مع عدمِ التوبةِ، وليسَ في التوراةِ إيعادُ المغفرةِ معَ الإصرارِ.
﴿وَدَرَسُوا﴾ أي: قرؤوا.
﴿مَا فِيهِ﴾ وعلموه.
﴿وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ممّا يأخذُ هؤلاء.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فيعلمون ذلك. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (تَعْقِلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (١).
* * *
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)﴾.
[١٧٠] ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾ قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ (يُمْسِكُونَ) مخفَّفًا، والباقون: مشددًا (٢)؛ أي: يعتصمونَ، وهم المؤمنون من أهلِ الكتابِ: عبدُ اللهِ بنُ سلامٍ وأصحابُه تمسكوا.
﴿بِالْكِتَابِ﴾ الّذي جاء به موسى، فلم يحرِّفوه، ولم يكتموهُ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٢١).
* * *
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)﴾.
[١٧١] ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا﴾ رَفَعْنا.
﴿الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ فَرُفع على رؤوسِهم.
﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ هو كلُّ ما غَطَّى وسترَ من سحابٍ وغيرِه.
﴿وَظَنُّوا﴾ علموا وأيقنوا.
﴿أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ فلما تَيَقَّنوا الهلاكَ، قبلوا التوراةَ، فقلنا لهم:
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ عزمٍ، وإن شَقَّ عليكم.
﴿وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ من الأحكام، واعملوا بها.
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ قبائحَ الأعمالِ، وذلكَ حينَ أَبَوا أن يقبلُوا أحكامَ التوراة، فرفعَ اللهُ على رؤوسِهم جبلًا، فلما نظروا إلى الجبل، خَرَّ كلُّ رجلٍ ساجدًا للهِ على حاجبِه الأيسرِ ينظرُ بعيِنه اليمنى إلى الجبل فَرَقًا من أن يسقُطَ عليه، ولذلك لا تجدُ يهوديًّا إِلَّا ويكونُ سجوده على حاجبِهِ الأيسرِ، وتقدَّمَ ذكرُ القصةِ في سورةِ البقرة.
* * *
[١٧٢] ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ومعنى أَخذُ ذُرياتهم من ظهورِهمْ: إخراجُهم من أصلابِهم كالذَّرِّ، ولم يذكرْ ظهرَ آدم؛ للعلمِ به، والإخراجُ كانَ منهُ؛ لأنهم استُلُّوا من ظهرِ آدم، ثمّ استلُّوا نسلًا من نسلٍ كما يتوالدُ الأبناءُ من الآباء، المعنى: واذكرْ وقتَ أخذِ اللهِ تعالى الميثاقَ على بني آدم حين استُلُّوا من ظهرِه، واستلَّ أولادُهم من ظهورِهم. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ: (ذُرِّيتَهم) على الإفرادِ مع نصبِ التاء؛ لأنّها جنسٌ تعمُّ القَليلَ والكثير، وقرأ الباقون؛ (ذُرِّيَّاتِهِمْ) على الجمعِ مع كسرِ التاءِ (١)، رُويَ أَن الله مسحَ صفحة ظهرِ آدمَ اليُمنى، فأخرجَ منه ذريةً بيضاءَ كهيئةِ الذرِّ يتحرَّكون، ثمّ مسحَ صفحة ظهرِه اليسرى، فأخرجَ منه ذريةً سوداءَ كهيئةِ الذرِّ، فقال: يا آدمُ! هؤلاءِ ذريتُك، ثمّ قال لهم: ألستُ بربِّكُمْ؟ قالوا: بلى، فقالَ للبيض: هؤلاءِ في الجنةِ برحمتي، وهم أصحابُ اليمين، وقال للسودِ: هؤلاء في النارِ ولا أبالي، وهم أصحابُ الشمال، ثمّ أعادهم جميعًا في صُلبه، فأهلُ القبورِ محبوسون حتّى يخرج أهل الميثاقِ كلُّهم من أصلابِ الرجالِ وأرحامِ النِّساء، قال الله تعالى فيمن نقضَ العهدَ الأوّل: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾ [الأعراف: ١٠٢]، ورُوي أنَّ أهلَ السعادةِ أقروا طوعًا، وقالوا:
﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: أشهدَ بعضَهم على بعضٍ حينَ قالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ استفهامُ تقريرٍ؛ أي: ما تُقِرُّونَ وتعترفونَ بأني رَبُّكُم؟
﴿قَالُوا بَلَى﴾ نحنُ نقرُّ ونعترفُ بهذا الاعترافِ والإقرارِ، وهذا شأنُ بني آدَمَ لا يُسأَلُ أحدٌ منهم: ألَيس اللهُ ربَّكَ؟ إِلَّا قال: بلى، فهم مفطورونَ على ذلك، فكلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فالإقرارُ بالخالقِ فطريٌّ لهم، كلُّهم يُقِرُّ به، وقولهم: (بلى) ردٌّ للنفي، فثبتَ إيمانُهم؛ لجوابهم ببلى، ولو أجابوا بنعم، لكفروا، لأنّ (نعم) تصديقٌ لما سبقَها من نفيٍ أو إثباتٍ، و (بلى) إثباتٌ لما بعدَ النَّفْي، وليسَ نفيٌ، واستفهامُ التقريرِ أكَّدَ معنى النَّفْي، والباءُ في خبر (ليس) زادته تأكيدًا، وتقديرُه: بلى أنتَ ربُّنا.
﴿شَهِدْنَا﴾ على أنفسِنا، وأقررْنا بوحدانيتكَ.
﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ أي: فعلْنا ذلكَ بهم حتّى اعترفوا لئلَّا يقولوا.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا﴾ الإقرارِ.
﴿غَافِلِينَ﴾ لم نشعرْ، فلم يبقَ لهم حجةٌ علينا.
قال القرطبيُّ: فقد استُدِلَّ بهذه الآية أنَّ من ماتَ صغيرًا دخلَ الجنةَ؛ لإقراره في الميثاقِ الأولِ، ومن بلغ العهدَ، لم يُغْنِه الميثاقُ (٢).
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٧/ ٣١٧).
[١٧٣] ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ فاقتدَيْنا بهم. قرأ أبو عمرٍو: (أَنْ يَقُولُوا) و (أَوْ يَقُولُوا) بالغيب، لأنَّ أولَ الكلامِ على الغيبة، وقرأ الباقون: بالخطاب فيهما (١)، ردًّا على لفظِ الخطابِ المتقدِّم في قوله: (ألسْتُ بِرَبِّكُمْ)؛ أي: أخاطِبُكم بذلك لئلَّا تقولوا يومَ القيامةِ: إنَّا كُنَّا عن هذا غافلينَ.
﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ فتعذِّبُنا بجنايةِ آبائِنا المبطِلينَ، فلا يُمكنُهم الاحتجاجُ بذلكَ معَ الإقرارِ.
* * *
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)﴾.
[١٧٤] ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ أي: نُبَيِّنُها ليتدبَّرَها العبادُ.
﴿وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ من الكفرِ إلى التّوحيد، قال البغويُّ: فإن قيلَ: كيف تلزمُ الحجةُ واحدًا لا يذكرُ الميثاق؟! قيل: قد (٢) أوضحَ اللهُ الدلائلَ على وحدانيته، وصدقِ رسلِهِ فيما أخبروا، فمن أنكرَهُ، كان معانِدًا ناقِضًا للعهد، ولزمَتْه الحجةُ، وبنسيانِهم وعدمِ حفظِهم لا يسقطُ الاحتجاجُ بعدَ إخبارِ المخبرِ الصادقِ صاحبِ المعجزةِ - ﷺ - (٣).
(٢) في "ت": "وقد".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٤٢٣).
[١٧٥] ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾ أي: اسرُدْ وقُصَّ عليهم، والضميرُ في (عليهم) عائد على حاضري محمدٍ - ﷺ - من الكفارِ وغيرِهم.
﴿نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾ قيلَ: نزلت في أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ، كانَ قد قرأ الكتبَ، وعلمَ أن الله مرسِلٌ رسولًا في ذلك الزّمان، ورجا أن يكونَ هو، فلما بُعِثَ محمدٌ - ﷺ -، حسدَهُ، وكفرَ به، وقيل: نزلتْ في عالمٍ من علماءِ بني إسرائيلَ اسمُه بَلْعَمُ بنُ باعوراءَ، أُوتي علمَ بعضِ كتبِ الله، فطلبَ قومُه منه أن يدعوَ على موسى ومَنْ معه، فأبى، وقالَ: كيف أدعو على مَنْ معه الملائكةُ، فألحوا عليه، فلم يزالوا به حتّى فعلَ، فانقلبَ دعاؤه عليه، وخرجَ لسانُه على صدره، ونزع الله منه المعرفَة.
﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا﴾ فخرجَ من الآياتِ. بكفرِه كما تخرجُ الحيةُ من جلدِها، ولم ينتفعْ بعلمِه (١).
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾ أي: لحقَه وصارَ قرينًا له.
﴿فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ الضالِّينَ، وهذه أشدُّ آيةٍ على العلماء، وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ من أن يؤتى العالُم علمًا، فيكونَ وبالًا عليه؟!
* * *
[١٧٦] ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ﴾ بعلمِه.
﴿بِهَا﴾ إلى منازل الأبرارِ من العلماء.
﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ﴾ اطمأنَّ.
﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾ يعني: الدنيا.
﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ في إيثارِ الدنيا واسترضاءِ قومِه.
﴿فَمَثَلُهُ﴾ صفتُه.
﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ في أخسِّ أوصافِه، وهي.
﴿إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾ يدلعُ لسانَه.
﴿أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ أي: إِن زجرتَهُ بالموعظة، فلم ينزجِر، وإن تركته، لم يهتدِ، فالحالتانِ عنده سواءٌ.
﴿ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وابن عامرٍ بخلافٍ عن قالونَ: (يَلْهَثْ ذَلِكَ) بإظهارِ الثاءِ عندَ الذالِ، والباقون: بالإدغام (١).
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في ذلكَ، فيؤمنون.
* * *
﴿سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾.
[١٧٧] ﴿سَاءَ﴾ أي: بئسَ.
﴿مَثَلًا الْقَوْمُ﴾ التقديرُ: ساءَ مثلًا مَثَلُ القومِ.
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ بعدَ علمِهم بها.
﴿وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ أي: جمعوا بينَ التكذيبِ وظلمِ أنفسهم.
* * *
﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (١٧٨)﴾.
[١٧٨] ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ أجمع القراء على إثباتِ الياءَ هنا في (المهتدي) (١).
﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ تصريحٌ بأنَّ الهدى والضلالَ من الله تعالى، وفيه رَدٌّ على القدريَّةِ، وعلى من قال: إنَّ الله تعالى هدى جميعَ المكلَّفينَ، ولا يجوز أن يُضِلَّ أحدًا.
* * *
[١٧٩] ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾ خَلَقْنا. قرأ أبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَد ذرَأْنَا) بإدغامِ الدالِ في الذال، والباقون: بالإظهار (١).
﴿لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ وهم الذين حقَّتْ عليهمُ الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة.
﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ إذ لا يُلقونها إلى معرفةِ الحقِّ.
﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ﴾ سبيلَ الرشادِ.
﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ مواعظَ القرآن فيؤمنون، ثمّ ضربَ لهم مثلًا في الجهلِ فقال:
﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ﴾ في عدمِ الفهمِ والاقتصارِ على نيل الشهواتِ.
﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ لأنَّ الأنعامَ تطلبُ منافعَها، وتهربُ من مضارِّها.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ الكاملونَ في الغفلة.
* * *
[١٨٠] رُوي أن رجلًا دعا اللهَ في صلاته، ودعا الرّحمنَ، فقال بعضُ مشركي مكةَ: إنَّ محمدًا وأصحابَه يزعمون أنّهم يعبدون ربًّا واحدًا، فما بالُ هذا يدعو اثنين؟! فأنزلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ﴾ (١) الصفاتُ.
﴿الْحُسْنَى﴾ العُليا الدالَّةُ على معانٍ حسنةٍ.
﴿فَادْعُوهُ﴾ سَمُّوهُ ﴿بِهَا﴾.
قال - ﷺ -: "إِنَّ للهِ تِسْعًا وَتِسعينَ اسْمًا، مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاها، دَخَلَ الجَنَةَ، إِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحبُّ الْوِتْرَ" (٢)، ومعنى أحصاها: حفظها وهي: "هو اللهُ الّذي لا إلهَ إِلَّا هوُ الرّحمنُ الرحيمُ الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرُ الخالقُ البارئُ المصورُ الغفارُ القهارُ الوهابُ الرزاقُ الفتاحُ العليمُ القابضُ الباسطُ الخافضُ الرافعُ المعزُّ المذلُّ السميعُ البصيرُ الحكمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ الحليمُ العظيمُ الغفورُ الشكورُ العليُّ الكبيرُ الحفيظُ المقيتُ الحسيبُ الجليلُ الكريمُ الرقيبُ المجيبُ الواسعُ الحكيمُ الودودُ المجيدُ الباعثُ الشهيدُ الحقُّ الوكيلُ القويُّ المتينُ الوليُّ الحميدُ المحصي المبدي المعيدُ المحيي المميتُ الحيُّ القيومُ الواجدُ
(٢) رواه البخاريّ (٦٠٤٧)، كتاب: الدعوات، باب: لله مائة اسم غير واحدة، ومسلم (٢٦٧٧)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قال اليافعيُّ رحمه الله في كتابه "الدرّ النظيم في فضائلِ القرآنِ العظيم": وهي في القرآن على هذا الترتيب، في سورةِ الفاتحةِ خمسةٌ: اللهُ ربُّ الرّحمن الرحيمُ مالكٌ، وفي سورةِ البقرةِ ستةٌ وعشرون: محيطٌ قديرٌ عليمٌ حكيمٌ توابٌ نصيرٌ واسعٌ بديعٌ سميعٌ كافي رؤوفٌ شاكرٌ إِلهٌ واحدٌ غفورٌ حليمٌ قابضٌ باسطٌ لا إلهَ إلَّا هوَ حيٌّ قيومٌ عليٌّ عظيمٌ وليُّ غنيٌّ حميدٌ، وفي سورةِ آلِ عمرانَ ثلاثةٌ: قديمٌ وهابٌ سريعٌ، وفي سورةِ النساءِ سبعةٌ: رقيبٌ حسيبٌ شهيدٌ غافرٌ غفورٌ مُقيتٌ وكيلٌ، وفي الأنعامِ خمسةٌ: باطنٌ ظاهرٌ قادرٌ لطيفٌ خبرٌ، وفي سورةِ الأعرافِ اثنان: مُحْيي مُميتٌ، وفي سورةِ الأنفالِ اثنان: نعمَ المولى ونعمَ النصير، وفي سورةِ هودٍ سبعةٌ: حفيظٌ قريبٌ مجيبٌ قويٌّ مَجيدٌ وَدودٌ فَعَّالٌ لما يريدُ، وفي سورةِ الرعدِ اثنان: كبيرٌ مُتَعالٍ، وفي سورة إبراهيم: مَنَّانٌ، وفي سورةِ الحجِّ: باعثٌ، وفي سورةِ المؤمنين: كريمٌ، وفي سورةِ النورِ: ثلاثةٌ: نورٌ حقٌّ مبينٌ، وفي سورةِ سبأ: فتاحٌ، وفي سورة المؤمن أربعةٌ: قابلُ التوبِ شديدُ العقابِ ذو الطول غفارٌ، وفي سورة الذاريات اثنان: رزاقٌ ذو القوةِ المتينُ، وفي سورة الطورِ: بَرٌّ، وفي سورةِ القمرِ: مقتدرٌ، وفي سورة الرّحمن: ذو الجلالِ والإكرامِ، وفي
﴿وَذَرُوا﴾ اتركوا.
﴿الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ ويسمونه بما لا توقيفَ فيه، والإلحادُ: الميلُ عن الحق. قرأ حمزةُ: (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاء، والباقون: بضمِّ الياءِ وكسرِ الحاء (١)، وهما لغتان، والملحِدون: هم المشركون، عَدَلوا بأسماء الله عَمَّا هي عليه، فسمَّوا بها أوثانَهم، فزادوا ونَقَصوا، فاشتقوا اللاتَ من الله، والعزَّى من العزيز، ومناة من المنَّانِ.
﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الآخرَة، وهذه الآيةُ منسوخةٌ بآيةِ السيف.
* * *
﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)﴾.
[١٨١] ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ﴾ هم المسلمون.
﴿يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ يأخذونَ به.
﴿وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ في الأمرِ.
* * *
[١٨٢] ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ سنأخذُهم قليلًا قليلًا كما يترقى الدرجة درجةً درجةً.
﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما نريدُ بهم.
* * *
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)﴾.
[١٨٣] ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أطيلُ المدَّةَ.
﴿إِنَّ كَيْدِي﴾ أَخْذي.
﴿مَتِينٌ﴾ شديدٌ، وسمي كيدًا؛ لأنَّ ظاهرَه إحسانٌ، وباطنه خِذْلانٌ.
* * *
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)﴾.
[١٨٤] رُوي أنّه - ﷺ - قامَ على الصفا ليلًا يدعو قريشًا فَخذًا فَخذًا يحذِّرُهم وقائعَ الله تعالى، فقالَ قائلُهم: إنّه مجنونٌ باتَ يصوِّتُ على الصَّفا إلى الصباح، فنزل:
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ (١) أبِصاحِبهم جنونٌ أم لا؟ ثمّ نفى عنه الجنونَ بقوله:
﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أي: جنون.
﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: ما هو.
﴿إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ واضحٌ إنذارُه.
[١٨٥] ثمّ وَبَّخَهم على تركِ النظرِ المؤدِّي إلى العلمِ فقالَ:
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ﴾ أي: مُلْكِ.
﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ما فيهما من الصُّنع.
﴿وَمَا﴾ أي: وفي ما.
﴿خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ فيعلموا صدقَه.
﴿وَأَنْ﴾ أي: وأنّه.
﴿عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ فيموتوا قبلَ الإيمان.
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ﴾ أي: بعدَ القرآن.
﴿يُؤْمِنُونَ﴾ إنْ لم يؤمنوا به؟! فإنّه ليسَ بعدَه كتابٌ، ولا بعدَ محمدٍ - ﷺ - نبيٌّ.
* * *
﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)﴾.
[١٨٦] ثمّ ذكرَ علةَ إعراضهم عن الإيمانِ فقالَ:
﴿مَنْ يُضْلِلِ﴾ أي: يُضْلِلْهُ.
﴿الله فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ قرأ أبو عمرٍو، وعاصم، ويعقوبُ (وَيَذَرُهُمْ) بالياء، ورفع الراء على الاستئناف؛ أي: واللهُ يذرُهم، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: بالنون والرفعِ، أي: ونحنُ
﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يتردَّدونَ مُتَحيرين.
* * *
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (١٨٧)﴾.
[١٨٧] ولمّا قالت قريش للنبي - ﷺ -: إنَّ بيننا وبينكَ قرابةً، فأسرَّ إلينا متى الساعة؟ فأنزلَ الله تعالى:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ﴾ (٢) أي: متى.
﴿مُرْسَاهَا﴾ أي: الوقتُ الذي تقومُ فيه.
﴿قُلْ﴾ يا محمد:
﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا﴾ متى يكونُ.
﴿عِنْدَ رَبِّي﴾ استأثرَ بعلمِها.
﴿لَا يُجَلِّيهَا﴾ يظهرُها.
﴿لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ لاختصاصِه به.
(٢) انظر: "تفسير عبد الرزّاق الصنعاني" (٢/ ٢٤٥)، و"أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٢٧)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٦٢٢).
﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: خفيتْ معرفتُها على أهلِها، وإذا خفيَ الشيءُ، ثقلَ.
﴿لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ فجأةً على غفلةً كما قالَ -عليه السّلام-: "إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، والرَّجُلُ يَقُومُ بِسِلْعَتِهِ في سُوقِه، والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ" (١).
﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ أي: كأنكَ ألححْتَ في طلبِ علمِها فعلِمْتَها.
﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ كرَّرَهُ تأكيدًا؛ أي: لا يعلمُ وقتَ مجيئِها، ولا يأتي بها فيه بغتةً إِلَّا اللهُ تعالى.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ علمَها عندَ الله، بل يَظُنُّ أكثرُهم أنّه ممّا يعلمُه البشرُ.
* * *
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)﴾.
[١٨٨] قال ابنُ عباسٍ: "إنَّ أهلَ مكةَ قالوا: يا محمدُ! ألَّا يخبرُك ربُّكَ بالسعرِ الرخيصِ قبلَ أن يغلوَ، فتشتريَه وتربحَ فيه عندَ الغلاءِ، وبالأرضِ
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ﴾ (١) أي: لا أقدرُ.
﴿لِنَفْسِي نَفْعًا﴾ أي: جلبَ نفعٍ.
﴿وَلَا ضَرًّا﴾ أي: دفعَ ضرٍّ.
﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أن يوصلَه إليَّ من الضرِّ والنفعِ؛ فإني أملكُه؛ لاختصاصِه بي.
﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ أي: لو كنتُ أعلمُ الخصبَ والجدبَ.
﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ أي: المالِ لسنةِ القحطِ.
﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ أي: الضرُّ والفقرُ.
﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ﴾ للكافرينَ بالنارِ.
﴿وَبَشِيرٌ﴾ بالجنةِ.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يصدِّقون. واختلافُ القراء في الهمزتين من (السُّوءُ إِنْ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلى) في سورةِ البقرةِ، وقرأ أبو جعفرٍ، وقالونُ عن نافعٍ بخلافٍ عنه: (أَنَا إِلَّا) بالمدِّ حيثُ وقعَ (٢).
* * *
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٣١، ٢٧٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٢٧).
[١٨٩] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدمَ.
﴿وَجَعَلَ﴾ أي: خلقَ.
﴿منها زَوْجَهَا﴾ حواءَ ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ ليأنسَ بها.
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾ علاها بالنِّكاحِ ﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾ لم يثقلْ عليها، وهي النطفةُ ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ استمرَّتْ إلى وقتِ ميلاده.
﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾ أي: كبرَ الولدُ وأثقلَها حملُها وقاربت الوضعَ.
﴿دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا﴾ آدمُ وحواءُ.
﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا﴾ بشرًا سويًّا قد صلحَ بدنُه.
﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لكَ على هذه النعمةِ، ودلت الآيةُ على أن الحملَ مرضٌ من الأمراضِ؛ لقوله: ﴿دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا﴾ ولأجل عظمِ الأمرِ وشدةِ الخطْبِ جُعِلَ موتُها شهادةً كما وردَ في الحديث.
واختلف الأئمةُ في حكمِ الحاملِ، فقال مالك: إذا مضت لها ستةُ أشهرٍ من يومِ حملَتْ، صارتْ في حكمِ المريضِ في أفعالِه، لم ينفذ لها تصرفٌ في مالها بأكثرَ من الثلثِ، وقال الثّلاثة: إنّما يكونُ ذلكَ عندَ المخاضِ، واختارَ الخرقيُّ من أصحابِ أحمدَ: ما قاله مالكٌ.
* * *
[١٩٠] وروي أن الخبيثَ إبليسَ جاءهما، فقال: إنَّ ولدتِهِ سَوِيًّا، فسميهِ عبدَ الحارثِ، وكانَ اسمُه في الملائكةِ الحارثَ (١).
﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا﴾ كما طلبا.
﴿جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا﴾ بتسميتِهِ عبدَ الحارثِ من غيرِ اعتقادٍ لذلك، وإنّما كان شركًا في التسميةِ والصِّفَة، لا في العبادةِ والربوبية، وجاء في الحديث: "خَدَعَهُا إِبْلِيُس مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْجَنَّةِ، وَمَرَّةً فِي الأَرْضِ" (٢). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (شِرْكًا) بكسر الشين وإسكان الراء مع التّنوين؛ أي: ذوي شركٍ، وهم الشركاء، والباقون: بضمِّ الشينِ وفتح الراء والمدِّ والهمزِ من غيرِ تنوين، على جمع شريك، يعني: إبليس (٣)، وفي الآية قولٌ آخرُ، وهو أن الضميرَ في (آتيتَنا) و (لنكونَنْ) لهما ولأولادِهما، وفي (آتاهما) و (جعلا) لأولادِهما، وفيه حذفُ مضافٍ وإقامةُ المضافِ إليه مقامَه، تقديره: فلما آتى أولادَهما
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (٥/ ١٦٣٥).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١١١٥، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٨١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٢٩).
﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ بأن آدمَ وحواءَ لم يكونا مشرِكينِ بإجماعٍ، ولجمعِه الضميرَ في (يشركون).
* * *
﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)﴾.
[١٩١] ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾: إبليسَ والأصنامَ.
﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي: مخلوقون.
* * *
﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)﴾.
[١٩٢] ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ﴾ أي: الأصنامُ لعَبَدَتِهم.
(٢) انظر: "تفسير البيضاوي" (٣/ ٨٢).
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٧/ ٣٣٨).
(٤) انظر "تفسير البغوي" (٢/ ١٨٢).
* * *
﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (١٩٣)﴾.
[١٩٣] ثمّ خاطب المؤمنين فقال: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ يعني: المشركين.
﴿إِلَى الْهُدَى﴾ الإسلامِ.
﴿لَا يَتَّبِعُوكُمْ﴾ قرأ نافعٌ: (يَتْبَعُوكُمْ) بإسكانِ التاءِ وفتحِ الباء، وقرأ الباقون: بفتح التاءِ مشدَّدَةٍ (١) وكسرِ الباء، وهما لغتان، يقال: تبعَه تبعًا واتّبَعه اتِّباعًا (٢).
﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ إلى الدينِ.
﴿أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ عن دعائِهم؛ كما قال: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦].
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤)﴾.
[١٩٤] ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ تعبدونَ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يعني: الأصنامَ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٩٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٨٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٣٠).
﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ أي: يجيبوكم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أن لكم عندَها منفعةً.
* * *
﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (١٩٥)﴾.
[١٩٥] ثمّ وَبَّخهم على عبادةِ مَنْ هو في غايةِ العجزِ فقال: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا﴾ أي: يأخذونَ بشدة. رُوي عن قنبلٍ راوي ابنِ كثيرٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياءِ على (أَيْدِي)، وقرأ أبو جعفرٍ: (يَبْطُشُونَ) بضمِّ الطاء، والباقون: بكسرها (١).
﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ ومَنْ أنتم أقدرُ منه كيفَ تعبدونه؟! احتقارًا بهم وبمعبودِهم.
﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ يا معشرَ المشركين. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ ادْعُوا) بكسرِ اللامِ، والباقون: بالضمِّ (٢).
﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾ احتالوا أنتم وشركاؤكم في أمري وإهلاكي سريعًا.
(٢) انظر: "إملاء ما منَّ به الرّحمن" للعكبري (١/ ١٦٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٣٠).
* * *
﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)﴾.
[١٩٦] ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ أي: ناصري. واختُلِف عن أبي عمرٍو في (إنَّ وَلِيَّيَ اللهُ) فروي عن السوسيِّ حذفُ الياء وإثباتُ ياءٍ واحدةٍ مشددةٍ مفتوحةٍ، وهو الأصحُّ عنه، ورُوي عن السوسيِّ أيضًا يكسر الياء المشددةِ بعدَ الحذف، وقرأ الباقون: بياءين، الأولى مشددةٌ مكسورةٌ، والثّانية مخففةٌ مفتوحةٌ، وقد أجمعتِ المصاحفُ (٣) على رسمِها بياءٍ واحدة.
﴿الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ﴾ القرآن.
﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ الذين لا يعدِلون بالله شيئًا.
* * *
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٣١ - ٤٣٢).
(٣) في "ت ": "الصّحابة".
[١٩٧] ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ كرره لتببينِ أنَّ ما يعبدونه لا ينفعُ ولا يضرُّ.
* * *
﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (١٩٨)﴾.
[١٩٨] ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ أي: الأصنامَ.
﴿إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا﴾ مبالغةٌ في التوبيخ.
﴿وَتَرَاهُمْ﴾ يا محمدُ ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ يُشْبهون الناظرينَ إليك؛ لأنّهم صُوِّروا بصورةِ مَنْ ينظر إلى مَنْ يواجهُه.
﴿وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ لأنّ أعينَ الأصنامِ مصنوعةٌ.
* * *
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)﴾.
[١٩٩] ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي: المساهلةَ، وهو ضدُّ الصَّعب، رُويَ أنّه لما نزلتْ هذه الآيةُ، قالَ رسولُ اللهِ - ﷺ - لجبريلَ: "مَا هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ" (١).
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ أبي جهلٍ وأصحابِه، ونُسخت بآية السيفِ.
* * *
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)﴾.
[٢٠٠] ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ﴾ أي: يُحَرِّكَنَّك للشرِّ، المعنى: فإنْ يوسوسْ (١) لك الشيطانُ بوسوستِه ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: استجِرْ به ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يسمعُ استعاذتَكَ، ويعلمُ ما فيه صلاحُ أمرِكَ فيحملُكَ عليهِ.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)﴾.
[٢٠١] ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ يعني: المؤمنين.
﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ، والكسائيُّ: (طَيْفٌ) بياء ساكنةٍ بين الطاء والفاء من غيرِ همزٍ ولا ألف؛ أي: لمسةٌ
(١) في جميع النسخ "يوسوسك"، والصواب ما أثبت.
﴿الشَّيْطَانِ﴾ المعنى: إنَّ المتقين إذا وسوسَ لهم (٢) الشيطانُ.
﴿تَذَكَّرُوا﴾ ذكروا اللهَ، واستعاذوا به.
﴿فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُون﴾ مواقعَ خطئِهم، فيستغفرون.
* * *
﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)﴾
[٢٠٢] ﴿وَإِخْوَانُهُمْ﴾ أي: إخوانُ الشّياطينِ من المشركينَ.
﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ المعنى: وإخوانُ المشركينَ من الشّياطينِ يزيدونهم.
﴿فِي الْغَيِّ﴾ وهو الضلالُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُمِدُّونَهُمْ) بضمِّ الياء وكسرِ الميمِ، من الإمدادِ، وقرأ الباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الميم، وهو من المدِّ (٣)، ومعناهما واحد، وهو الزيادةُ.
﴿لَا يُقْصِرُونَ﴾ لا يُمسكون عن إغوائِهم.
* * *
﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)﴾.
(٢) في جميع النسخ: "وسوسهم"، والصواب ما أثبت.
(٣) المصادر السابقة.
﴿بِآيَةٍ﴾ من القرآنِ.
﴿قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾ هلَّا افتعلْتَها من نفسِك؛ أي: يطلبونَ أن تكذبَ لهم.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي﴾ لستُ بمختلقٍ للآيات.
﴿هَذَا﴾ أي: القرآنُ ﴿بَصَائِرُ﴾ حججٌ ودلائلُ.
﴿مِنْ رَبِّكُم﴾ تقودُكم إلى الحقِّ.
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ والهدى: الرشدُ، والرّحمةُ: النعمةُ.
* * *
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)﴾.
[٢٠٤] ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (قُرِيَ) بفتح الياء بغيرِ همز، وقرأ ابنُ كثيرٍ: (القُرْانُ) بنقل حركة الهمزِ إلى الساكنِ قبلَها وهو الراءُ.
﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ للقرآن.
﴿وَأَنْصِتُوا﴾ أصغوا.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ قال ابن عباسٍ، وأبو هريرةَ، وجماعةٌ من المفسرين: "نزلتْ في الصّلاةِ خاصَّةً حين كانوا يقرؤون خلفَه -عليه السّلام-" (١)، وقيلَ
واختلفَ الأئمةُ في القراءةِ خلفَ الإمام، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ: لا تجبُ القراءةُ على المأمومِ بحالٍ في صلاةِ جهرٍ ولا سِرٍّ، ويُستحبُّ له عندَ مالكٍ أن يقرأ في صلاةِ السرِّ الفاتحةَ، وقالَ أحمد: يُسَنُّ، وخالفَهما أبو حنيفةَ، واستدلُوا بالآيةِ على عدمِ الوجوبِ، وقال الشّافعيُّ: تجبُ على المأمومِ قراءةُ الفاتحةِ فيما أسرَّ به الإمامُ وما جهرَ، واستدلَّ بقولِه عليه السّلام: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا" (١).
* * *
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥)﴾.
[٢٠٥] ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ عامٌّ في الأذكارِ من القراءة والدعاءِ وغيرِهما ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَة﴾ مستكينًا إليَّ متخوِّفًا مِنِّي.
﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْل﴾ دونَ رفعِ الصوتِ والصياح فيه.
﴿بِالْغُدُوِّ﴾ البُكَرِ ﴿وَالْآصَالِ﴾ العَشِيّاتِ، جَمْعُ أَصْلٍ، وهو ما بينَ العصرِ والمغربِ.
﴿وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ﴾ عن ذكرِ الله تعالى.
[٢٠٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ يعني: الملائكةَ.
﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ ويُنَزِّهونهَ.
﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ يخصُّونه بالعبادةِ، وهو تعريضٌ بمن عداهم من المكلَّفينَ، ولذلك شُرِعَ السجودُ لقراءته، وعن النبيِّ - ﷺ -: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ! أُمِرَ هَذَا بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِي النَّارُ" (١).
واتفق الأئمةُ على أن هذا موضعُ سجودٍ للقارئ.
وأمّا عددُ سجداتِ القرآنِ، فهي خمسَ عشرةَ سجدةً، أولُها خاتمةُ الأعرافِ، وآخرُها خاتمةُ العَلَق، منها خمسُ سجداتٍ مختلَفٌ فيها، وهي ثانيةُ الحجِّ عندَ الشّافعيِّ وأحمدَ هي من عزائمِ السجودِ، خلافًا لأبي حنيفةَ ومالكٍ، وسجدةُ ﴿صَ﴾ عند أبي حنيفةَ ومالكٍ خِلافًا للشافعيِّ وأحمدَ؛ فإنها عندَهما سجدةُ شكر تُستحبُّ في غيرِ الصّلاةِ، فلو سجد بها فيها عالمًا عمدًا، بطلَتْ صلاتُه عندهما، وسجداتُ المفصَّل، وهي: النجمُ، والانشقاقُ، والعلّقُ عندَ الثّلاثة، خلافًا لمالكٍ، والعشرُ الباقيةُ متفقٌ عليها، وهي آخرُ الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، والأُولى في الحجِّ، والفرقان، والنمل، والم تنزيل، وحم السجدة، ومحلُّها في حم
وسجودُ التلاوةِ كالصلاةِ يُشترطُ له (٢) الطهارةُ، واستقبالُ القبلةِ بالاتفاقِ، ولا يُسجد له في وقتِ نهيٍ عند الثّلاثة، خلافًا للشافعيِّ.
واختلفوا في حكم سجودِ التلاوة، فقال أبو حنيفةَ: هو واجبٌ على التالي والسامع، سواء قصدَ السماعَ أو لم يقصدْ، فإذا أرادَ السجودَ، كَبَّرَ وسجدَ بلا رفعِ يدٍ، ثمّ كبر ورفعَ، ولا تشهُّدَ عليه ولا سلامَ، ومن تلاها في الصّلاة فلم يسجدها، سقطتْ عنه، ولو تلاها فيها، إن شاءَ ركعَ، وإن شاءَ سجدها، ثمّ قام فقرأ، وهو الأفضلُ.
وقالَ مالكٌ: هو فضيلةٌ للقارئ وقاصدِ الاستماعِ إنَّ كانَ القارئُ يصلُح للإمامة، ويكبرُ لخفضِهِ ورفعِه، وليس له تسليمٌ، وتُكره قراءتُها في صلاةِ الفرضِ جهرًا أو سِرًّا، ويسجدُ في صلاةِ النفلِ مطلقًا.
وقال الشّافعيُّ: هو سنةٌ للقارئ والمستمعِ والسامع، فإن قرأ في الصّلاة، سجدَ الإمامُ والمنفردُ لقراءتِهِ فقطْ، والمأمومُ لِسجدةِ إمامِه، فإن سجدَ إمامُه، فتخلف أو انعكس، بطلَتْ صلاتُه، ولا تُكره قراءتها في جهريَّةٍ ولا سرية، وإذا سجدَ خارجَ الصّلاة، نوى، وكبرَ للإحرام رافعًا يديه، ثمّ للهُوِيِّ بلا رفعٍ، وسجدَ كسجدةِ الصّلاة، ورفع مكبرًا، وسلَّم من غير تشهُّد، والاختيارُ تركُ القيامِ له، وإن سجدَ في الصّلاةِ، كبر للهُوِيِّ والرفع، ولا يرفعُ يديه، ولا يجلسُ للاستراحة.
(٢) في "ن": "لها".
واختلفوا في سجودِ الشكرِ عندَ تجدُّد النعمِ واندفاعِ النِّقَم، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: يُكره، فيقتصر على الحمدِ والشكرِ باللسانِ، وخالفَ أبو يوسفَ ومحمدٌ أبا حنيفةَ، فقالا: هي قُرْبَةٌ يثاب عليها، وقال الشّافعيُّ وأحمدُ: يُسَنُّ، وحكمُه عندَهما كسجودِ التلاوة، لكنه لا يُفعل في الصّلاة، واللهُ أعلم.
* * *