تفسير سورة الرعد

فتح البيان
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الرعد
﴿ وهي ثلاث وقيل أربع أو خمس أو ست وأربعون آية ﴾
وقد وقع الخلاف هل هي مكية أو مدنية. وممن ذهب إلى الأول سعيد بن جبير والحسن وعكرمة وعطاء وجابر وابن زيد. وإلى الثاني ابن الزبير والكلبي ومقاتل. والقول الثالث أنها مدنية إلا آيتين فإنهما نزلتا بمكة وهما قوله تعالى :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ﴾ وقيل قوله :﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ﴾ وقيل هو الذي يريكم البرق – إلى قوله – له دعوة الحق. وعن جابر بن زيد كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه.

(المر) قد تقدم الكلام في الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة، قال ابن عباس: المعنى أنا الله أرى؛ وقال مجاهد فواتح يفتتح بها كلامه والحق أن الله تعالى أعلم بمراده أو هو اسم للسورة والتقدير هذه السورة اسمها هذا.
(تلك) أي آيات هذه السورة، وقيل إشارة إلى ما قص عليه من أنباء الرسل وقيل إلى آيات القرآن وعليه جرى الزمخشري وجمهور المفسرين (آيات الكتاب) والمراد بالكتاب السورة أي تلك آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن والإضافة بمعنى من، وقال مجاهد: الكتاب التوراة والإنجيل.
(الذي أنزل إليك من ربك) المراد به القرآن كله، قال قتادة وغيره أي هو (الحق) البالغ في اتصافه بهذه الصفة لاشك فيه (ولكن أكثر الناس) يعني مشركي مكة (لا يؤمنون) بهذا الحق الذي أنزل الله إليك، قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال:
(الله الذي رفع السماوات بغير عمد) العمد الأساطين والدعائم جمع عماد أي على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم، وقيل إن عمداً جمع عماد في المعنى أي أنه اسم جمع لا جمع صناعي وهو صادق بأن لا عماد أصلا وهذا هو أصح القولين أي قائمات بغير عمد تعتمد عليها، وقيل لها عمد ولكن لا نراها، وهذا قول مجاهد وعكرمة، قال الزجاج: العمد قدرته التي يمسك بها السماوات وهي غير مرئية لنا، وقرئ عمد على أنه جمع عمود يعمد به أي يسند إليه.
وجملة (ترونها) مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك، وقيل هي صفة لعمد، وهو أقرب مذكور ورجحه الزمخشري، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير رفع السماوات ترونها بغير عمد، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف، قال ابن عباس: وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها وقال يقول لها عمد، ولكن لا ترونها يعني الإعماد.
قال إياس بن معاوية: السماء مقببة على الأرض مثل القبة، وبه قال الحسن وقتادة وجمهور المفسرين، وعن ابن عباس قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك، قال السمين في هذا الكلام وجهان:
أحدهما: انتفاء العمد والرؤية جميعاً أي لا عمد فلا رؤية يعني لا عمد لها فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور.
والثاني: أن لها عمداً ولكن غير مرئية.
(ثم) هنا لمجرد العطف لا للترتيب لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السماوات (استوى على العرش) استواء يليق به هذا مذهب السلف، وقال المعتزلة استولى عليه بالحفظ والتدبير أو استوى أمره وأقبل على خلق العرش، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى، والحق أن الاستواء على العرش صفة الله سبحانه بلا كيف كما هو مقرر في موضعه من علم الكلام (وسخر
10
الشمس والقمر) أي ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ومصالح العباد فالحركة المستمرة على حد من السرعة تنفع في حدوث الكائنات وبقائها (كل) من الشمس والقمر (يجري لأجل مسمى) أي إلى وقت معلوم معين وهو فناء الدنيا وزوالها وقيام الساعة التي تتكور عندها الشمس وينخسف القمر وتنكدر النجوم وتنتثر، وقيل المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتيهان إليها لا يجاوزانها وهي سنة للشمس وشهر للقمر لا يختلف جري واحد منهما قيل وهذا هو الحق في تفسير الآية.
(يدبر الأمر) أي أمر العالم العلوي والسفلي يعني يقضيه ويمضيه وحده، قاله مجاهد، والمعنى يصرفه على ما يريد وهو أمر ملكوته وربوبيته يدبره على أكمل الأحوال وأتم الأفعال لا يشغله شأن عن شأن، وقيل يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، ولا وجه للتخصيص بشيء دون شيء فإن اللفظ أوسع من ذلك، قال الكرخي: وحمل التدبير على العموم أولى من حمله على نوع من أحوال العالم كما جرى عليه جمع من المفسرين، وهذا التدبير والإنفاذ والإمضاء هو من فوق العرش وهو ظاهر نظم القرآن الكريم.
(يفصل) أي يبين (الآيات) الدالة على كمال قدرته وربوبيته ومنها ما تقدم من رفع السماء بغير عمد وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى والمراد بهذا تنبيه العباد على أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة ولهذا قال (لعلكم) عند مشاهدة هذه الآيات (بلقاء ربكم توقنون) لا تشكون فيه ولا تمترون في صدقه.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال
11
(وهو الذي مد الأرض) على وجه الماء، قال الفراء: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان، وقال الأصم: أن المدّ هو البسط إلى ما
11
لا يدرك منتهاه زاد الكرخي: فقوله مد الأرض يشعر بأنه تعالى جعل الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه انتهى.
قيل وهذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كرويتها في نفسها لتباعد أطرافها، وبه قال أهل الهيئة (١)، والله أخبر أنه مد الأرض وأنه دحاها وبسطهما وأنه جعلها فراشاً وكل ذلك يدل على كونها مسطحة كالأكف، وهو أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة.
وفي الجامع الصغير حديث رواه البيهقي عن ابن عباس ولفظه: أول بقعة وضعت من الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض، وأن أول جبل وضعه الله على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال (١).
وعن ابن عمرو قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام، أربعمائة عام خراب ومائة عمران، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة، وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقريرات لم يأت عليها دليل يصح.
وعن علي بن أبي طالب قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رب تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم ترجرج.
(وجعل فيها) جبالاً (رواسي) أي ثوابت تمسكها عن الاضطراب وأحدها راسية لأن الأرض ترسو بها أي تثبت والرسو الثبوت (وأنهاراً) أي مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق، أو المراد جعل فيها مجاري الماء.
(ومن كل الثمرات) متعلق بجعل في قوله (جعل فيها زوجين اثنين) أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر، وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع، ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية، أي جعل من كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين،
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير/٢١٣١.
12
إما في اللونية كالبياض والسواد ونحوهما أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما أو في القدر كالصغر والكبر أو في الكيفية كالحر والبرد وما أشبه ذلك، ويجوز أن يتعلق بجعل الأول ويكون الثاني استئنافاً لبيان كيفية ذلك الجعل، قاله أبو السعود.
قال الفراء: يعني بالزوجين هنا الذكر والأنثى من كل صنف، ومثله عن مجاهد والأول أولى.
(يغشى الليل النهار) أي يلبسه مكانه فيصير أسوداً مظلماً بعدما كان أبيضاً منيراً أشبه إزالة نور الجو بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها أي يستر النهار بالليل، والتركيب وإن احتمل العكس أيضاً بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساتر لظلمة الليل إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي.
وعدَّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار ظهوره في الأرض فإن الليل إنما هو ظلها وفيما فوق موقع ظلها لا ليل أصلاً، ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلها، وقرئ يغشى من التغشية، وقد سبق تفسير هذا في الأعراف.
(إن في ذلك) المذكور من مد الأرض وإثباتها بالجبال وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة وتعاقب النور والظلمة (لآيات) بينة (لقوم يتفكرون) أي للناظرين المتفكرين المعتبرين فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء.
وقال صاحب المفردات: الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان ولا يقال
13
إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب، ولهذا روى تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله إذ الله منزه عن أن يوصف بصورة.
14
(وفي الأرض قطع متجاورات) أي بقاع مختلفة، وهذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات، قيل وفي الكلام حذف، أي قطع متجاورات وغير متجاورات كما في قوله (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد، وقيل المتجاورات المدن وما كان عامراً، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير معمور.
وقيل معنى متجاورات متدانيات ترابها واحد وماؤها واحد وفيها زرع وجنات ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً، والبعض طيباً والبعض غير طيب، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر.
وعن ابن عباس قال: يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا يخرج منها نباتها وهما أرض واحدة وماؤها شيء واحد، ملح أو عذب ففضلت أحداهما على الأخرى قال قتادة: قرئ متجاورات قريب بعضها من بعض.
وقال ابن عباس: الأرض تنبت حلواً والأرض تنبت حامضاً وهي متجاورات تسقى بماء واحد، وقيل متلاصقات فمنها طيب وسبخ، وقليل الريع وكثيره، وهو من دلائل قدرته تعالى سبحانه.
(و) في الأرض (جنات) أي بساتين وعلى النصب تقديره جعل فيها جنات، والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعقاب وغير ذلك، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله (من أعناب) جمع عنب (وزرع ونخيل) ذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك، ومثله في قوله سبحانه جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب
14
وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً، والنخل والنخيل بمعنى والواحد نخلة، لكن النخل يذكر ويؤنث والنخيل مؤنث لا غير.
(صنوان وغير صنوان) قرئ بالرفع في الأربعة عطفاً على جنات وبالجر عطفاً على أعناب وبضم الصاد وكسرها وهما لغتان والأولى لغة قيس وتميم والثانية لغة العامة وقرئ بفتحها وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنية فعلان بالفتح، ونظير صنوان بالفتح سعدان، قال أبو عبيدة جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحداً ثم يتفرع فيصير نخيلاً ثم يحمل.
وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير، فالصنوان جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، فالصنو المفرد واحد هذه النخلات، قال ابن الأعرابي: الصنو المثل. ومنه قوله ﷺ " عم الرجل صنو أبيه " (١) فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون.
قال في الكشاف: جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد، وقيل الصنوان المجتمع وغير الصنوان المتفرق. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر صنوان. والصنو المثل ولا فرق بين التثنية والجمع إلا بكسر النون في المثنى وبما يقتضيه الإعراب في الجمع.
عن البراء بن عازب قال: الصنوان ما كان أصله واحداً وهو متفرق وغير الصنوان التي تنبت وحدها، وفي لفظ الصنوان النخلة في النخلة ملتصقة وغير الصنوان النخل المتفرق. وعن ابن عباس: هي مجتمع النخل في أصل واحد وغيرها المتفرق، وفي السمين والصنو الفرع يجمعه، وفرعاً آخر أصل
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٣٩٧٩.
15
واحد والمثل، وفي المختار إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو، والاثنتان صنوان بكسر النون والجمع صنوان برفعها.
(يسقى) بالتحتية أي يسقى ذلك كله، يعني أشجار الجنة وزروعها (بماء واحد) والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حده هو جوهر سيال به قوام الأرواح، وقرئ تسقى بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات. وقال أبو عمرو: التأنيث أحسن لقوله:
(ونفضل بعضها على بعض الأكل) أي في الطعم ما بين الحلو والحامض وغير ذلك من الطعام ولم يقل بعضه، قرئ بالنون على تقدير ونحن نفضل، وقرئ بالياء، ومتى قرئ الأول بالتاء جاز في الثاني الياء والنون، ومتى قرئ الأول بالياء تعين في الثاني النون لا غير، فالقراءات ثلاثة لا أربعة كما توهم وكلها سبعية.
قال الكرخي: قرئ بالتحتية ليطابق قوله يدبر وقرئ بنون العظمة وأنت خبير بأن القراء يتبعون فيما اختاروه من القراءات الأثر لا الرأي فإنه لا مدخل له فيها.
أخرج الترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة عن
النبي ﷺ في الآية قال " الدقل والفارسي والحلو الحامض " (١)، وقال مجاهد هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم، وأبوهم واحد، وعن ابن عباس قال: هذا حامض وهذا حلو، وهذا دقل وهذا فارسي.
والأكل بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف المأكول والمراد به ما يؤكل منها وهو الثمر والحب، فالثمر من النخيل والأعناب والحب من الزرع، كأنه قال
_________
(١) الترمذي كتاب التفسير/سورة ١٣.
16
ونفضل الحب والثمر بعضها على بعض طعماً وشكلا ورائحة وقدراً وحلاوة وحموضة وغضاضة وغير ذلك من الطعوم، وفضلها أيضاً في غير ذلك كاللون والنفع والضر وإنما اقتصر على الأكل لأنه أعظم المنافع.
(إن في ذلك) المذكور (لآيات) دلالات على بديع صنعه وعظيم قدرته فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل فيكون طعم بعضها حلو والآخر حامضاً وهذا في غاية الجودة، وهذا ليس بجيد، وهذا فائق في حسنه، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضى لاختلافها ليس إلا قدرة الصانع الحكيم جل سلطانه وتعالى شأنه، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلا للسببين. إما اختلاف المكان الذي هو المنبت أو اختلاف الماء الذي تسقى به، فإذا كان المكان متجاوراً وقطع الأرض متلاصقة والماء الذي تسقى به واحداً لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلا تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب.
(لقوم يعقلون) أي يعملون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات، أي يستعملون عقولهم بالتفكر فيها، خص هذا بالعقل والأول بالتفكر لأن الاستدلال باختلاف النهار أسهل، ولأن التفكر في الشيء سبب لتعقله والسبب مقدم على المسبب، فناسب تقديم التفكر على التعقل.
قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، فالناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم وتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع. وقال أيضاً: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان، قال الله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً).
17
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨)
18
(وإن تعجب) يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم من الصادقين (فعجب) أي فأعجب منه (قولهم) أي تكذيبهم بالبعث، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه، وذلك في حق الله تعالى محال، قاله القرطبي.
وقيل العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله واتباعه.
قال الزجاج: أي هذا موضع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث وقد بين لهم من خلق السماوات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الإبداء فهذا موضع التعجيب، وقيل الآية في منكري الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بدّ له من مغير فهو محل التعجب.
والأول أولى لقوله (أئذا كنا تراباً أئنّا لفي خلق جديد) والجملة في محل الرفع أو النصب والعجب على الأول كلامهم وعلى الثاني تكلمهم بذلك أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة، فالخلق منها أشد من الخلق من تراب وعظام، والعامل في إذا نبعث أو نعاد، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال
18
الاستبعاد، وفي هذا الاستفهام المكرر اختلف القراء اختلافاً منتشراً وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بدّ من تعيينها.
فأولها هنا.
والثاني والثالث في الإسراء بلفظ واحد (أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً).
والرابع: في المؤمنون (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون).
والخامس: في النمل (أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون).
والسادس: في العنكبوت (أئنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) (أئنكم لتأتون الرجال).
والسابع: في ألم السجدة (أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد).
والثامن والتاسع: في الصافات (أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) وأئنا لمدينون.
والعاشر: في الواقعة مثل الصافات.
والحادي عشر: في النازعات (أئنا لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاماً نخرة). فهذه هي المواضع المختلف فيها ثم الوجه في قراءة من استفهم في الأول والثاني المبالغة في الإنكار فأتى به في الجملة الأولى وأعاد في الثانية تأكيداً له، والوجه في قراءة من أتى به مرة واحدة حصول المقصود، لأن كل جملة مرتبطة بالأخرى فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى، ذكره السمين، وتقديم الظرف في قوله (لفي خلق) لتأكيد الإنكار بالبعث.
وكذلك تكرير الهمزة في قوله أئنا، والمعنى أي نعاد خلقاً جديداً بعد
19
الموت كما كنا قبله؛ ولم يعلموا أن القادر على إنشاء الخلق وما تقدم على غير مثال قادر على إعادتهم.
ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة:
الأول: (أولئك الذين كفروا بربهم) أي أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه، وفيه دليل على كفر منكري البعث.
(و) الثاني (أولئك الأغلال في أعناقهم) الأغلال جمع غل بالضم وهو طوق من حديد يجعل في العنق أو تشد به اليد إلى العنق، أي يغلون بها يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلاً بالغل، وقيل الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق (و) الثالث (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا ينفكون عنها بحال من الأحوال، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث.
20
(ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) نزل في استعجالهم العذاب استهزاء والسيئة العقوبة المهلكة، والحسنة العافية والسلامة، قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدة تصميمهم.
(وقد خلت من قبلهم المثلات) جمع مثلة كسمرة وهي العقوبة الفاضحة، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه وهو الذنب من المماثلة في أن كُلاًّ منهما مذموم.
قال ابن الأنباري: المثلة العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئاً بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شأن خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه، وقرئ بفتح الميم وإسكان الثاء تخفيفاً لثقل الضمة، قيل وهي لغة الحجاز، وفي لغة تميم بضم الميم والثاء جميعاً، واحدتها على لغتهم مثلة، مثل غرفة وغرفات، وقرئ بفتحهما.
20
وقيل المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالاً يرتدع غيره به. قال قتادة: المثلات العقوبات، يعني وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم. وقال ابن عباس: المثلات ما أصاب القرون الماضية من العذاب، والمعنى أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بهم ويحذرون من حلول ما حل بهم.
وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك الآية (وإن ربك لذو مغفرة) أي لذو تجاوز عظيم، والمراد بها الإمهال وتأخير العذاب (للناس على) أي مع (ظلمهم) باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك ورجعوا إلى الله سبحانه، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي حال كونهم ظالمين.
وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير، لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً فيجوز العفو قبل التوبة ولهذا قيل إنها في عصاة الموحدين خاصة.
وقيل المراد بالمغفرة هنا تأخير العقاب إلا الآخرة كما تقدم ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة، وكما يفيده قوله تعالى (وإن ربك لشديد العقاب) فيعاقب من يشاء من العصاة المكذبين من الكافرين عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال.
عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد " (١).
_________
(١) ابن كثير ٥٠١.
21
(ويقول الذين كفروا) من أهل مكة (لولا) هلا (أنزل عليه) أي على
21
محمد ﷺ (آية من ربه) غير ما قد جاء به من الآيات كالعصا واليد والناقة، وهؤلاء القائلون هم المستعجلون للعذاب وإنما عدل عن الإضمار إلى الوصول ذماً لهم بكفرهم بآيات الله التي تخر لها الجبال حيث لم يرفعوا لها رأساً ولم يعدوها من جنس الآيات، وهذا مكابرة من الكفار وعناد وإلا فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه.
قال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى فقال الله تعالى (إنما أنت منذر) تنذرهم بالنار وليس إليك من الآيات من شيء وفيه إزالة لرغبته ﷺ في حصول مقترحهم، فإنه كان شديد الرغبة في إيجاب مقترحاتهم لشدة التفاته إلى إيمانهم، قاله الخطيب.
وجاء في إنما أنت بصيغة الحصر لبيان أنه ﷺ مرسل لإنذار العباد وبيان ما يحذرون عاقبته وليس عليه غير ذلك، وقد فعل ما هو عليه وأنذر أبلغ إنذار، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلا أتى به وأوضحه وكرره فجزاه الله عن أمته خيراً.
(ولكل قوم هاد) أي نبي يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم، ورشادهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها، وآيات الرسل مختلفة، هذا يأتي بآياته أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم فليس المراد من الآيات إلا الدلالة على النبوة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية، وذلك لا يختص بفرد منها ولا بأفراد معينة. قال الرازي: فهذا هو الوجه الذي قرره القاضي، وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظما. انتهى.
وقيل أن المعنى ولكل قوم هاد هو الله سبحانه عز وجل فإنه القادر على ذلك وليس على أنبيائه إلا مجرد الإنذار. قال ابن عباس: هاد أي داع،
22
وقال مجاهد: المنذر محمد صلى الله عليه وسلم، ولكل قوم هاد نبي يدعوهم إلى الله، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس نحوه، وعنه قال رسول الله ﷺ هو المنذر وهو الهادي. أخرجه ابن مردويه، وعن عكرمة وأبي الضحى نحوه.
وقيل الهادي هو العمل الصالح، وقيل الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر وهو يعم الرسل وأتباعهم إلى آخر الدهر.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله ﷺ يده على صدره فقال: أنا المنذر، وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال (أنت الهادي يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي (١))، أخرجه ابن جرير وأبو نعيم في المعرفة، والديلمي وابن عساكر وابن النجار، قال ابن كثير في تفسيره، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة.
وجملة
_________
(١) ابن كثير/٥٠٢.
23
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى) مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته سبحانه بالعلم وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور منه، وقيل الاسم الشريف خبر، أي لكل قوم هاد هو الله، وجملة (يعلم ما تحمل كل أنثى) تفسير لهاد، وهذا بعيد جداً، والعلم هنا متعد لواحد بمعنى العرفان وما موصولة، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة أو ذكر أو أنثى أو صبيح أو قبيح أو سعيد أو شقي أو طويل أو قصير، أو تام أو ناقص، أو استفهامية، أي يعلم أي شيء في بطنها وعلى أي حال هو؛ أو مصدرية، أي يعلم حملها.
(وما تغيض الأرحام وما تزداد) وما في الموضعين محتملة للأوجه المتقدمة وغاض وازداد سمع تعديهما ولزومهما ولك أن تدعي حذف العائد على القول بتعديهما وأن تجعل ما مصدرية على القول بلزومهما، والغيض النقص وعليه
23
أكثر المفسرين أي يعلم الذي تغيضه الأرحام أي تنقصه، ويعلم ما تزداده لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله فقيل المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص أصبع أو زيادتها.
وقيل أن المراد نقص مدة الحمل عن تسعة أشهر أو زيادتها، وقيل إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصا في ولدها، قاله ابن عباس وإذا لم تحض يزداد الولد وينمو فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم، وقال سعيد بن جبير: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداده منه، وقال الضحاك: ما تغيض السقط وما تزداد، ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما؛ وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ومنهن من تنقص، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله وكل ذلك يعلمه الله.
وقال مجاهد: الغيض خروج الدم؛ والزيادة استمساكه؛ ومدة الحمل أكثرها عند قوم سنتان، وبه قالت عائشة وأبو حنيفة، وقيل أن الضحاك ولد لسنتين، وقيل أكثرها أربع سنين، وإليه ذهب الشافعي وقيل خمس سنين، وبه قال مالك وأقلها ستة أشهر، وقد يولد لهذه المدة ويعيش.
(وكل شيء) من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة (عنده) سبحانه (بمقدار) هو القدر الذي قدره الله وهو معنى قوله سبحانه (إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه لا يخرج عن ذلك شيء، وهذا مذهب السلف، وقال الكرخي: هذه عندية علم، أي يعلم كيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.
ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم وهي من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة.
24
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣)
25
(عالم الغيب والشهادة) أي عالم كل غائب عن الحس وكل مشهود حاضر أو كل معدوم وموجود، وقال الضحاك: عالم السر والعلانية ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعم من ذلك (الكبير المتعال) أي العظيم الذي كل شيء دونه المتعالي عما يقوله المشركون أو المستعلى على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره أو المتعالي عن الخلق باستوائه على عرشه ومباينته عن خلقه وهو الأولي.
ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادر شيئاً منها بين أنه عالم بما يسرونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره تعالى وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال
(سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) فهو يعلم ما أسره الإنسان كعلمه بما جهر به من خير أو شر أي سواء ما أضمرته القلوب أو نطقت به الألسن، وسر من أسر، وجهر من جهر.
(ومن هو مستخف بالليل) أي مستتر في الظلمة الكائنة في الليل المتواري عن الأعين يقال خفى الشيء واستخفى أي استتر وتوارى (وسارب بالنهار).
25
قال الكسائي: سرب يسرب سراباً وسروباً إذا ذهب، وقال القتيبي: أي متصرف في حوائجه بسرعة من قولهم أسرب الماء.
قال الأصمعي: حل سربه أي طريقته، والسرب بالكسر النفس يقال هو واسع السرب أي رخى البال والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر.
وقال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات، علم الله فيهم جميعاً سواء وهذا الصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب، فالمستخفي المستتر، والسارب البارز الظاهر، ولنعم ما قاله بعضهم:
يا من ترى مدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
وترى عروق نياطها في نحرها والمخ في ذاك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول
وقيل مستخف راكب رأسه في المعاصي، وسارب ظاهر بالنهار بالمعاصي.
وعن ابن عباس: قال هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم.
26
(له) الضمير راجع إلى (من) في قوله (من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف) أي لكل من هؤلاء (معقبات) هي المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلاً منه وهم الحفظة من الملائكة تعتقبه في قول عامة المفسرين؛ قال الزجاج: المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض قيل هم خمسة بالليل وخمسة بالنهار.
وفي الخطيب أنهم عشرون لكل إنسان عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وهو
26
الذي في شرح الجوهرة، وإنما قال معقبات مع كون الملائكة ذكوراً لأن الجماعة من الملائكة يقال لها معقبة ثم جمع معقبة على معقبات ذكر معناه الفراء كما قيل أبناوات سعد، ورجالات بكر.
وقيل أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة، قال الجوهري: والتعقب العود بعد البدء قال الله تعالى (ولى مدبراً ولم يعقب) وقرئ معاقيب جمع معقب وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر "، الحديث بطوله أخرجه الشيخان (١)، وقال ابن عباس هذه للنبي ﷺ خاصة.
قلت العموم أولى ويدخل فيه سبب النزول دخولاً أولياً.
(من بين يديه ومن خلفه) أي من بين يدي من له المعقبات؛ والمراد أن الحفظة من الملائكة يتعاقبون من جميع جوانبه، وقيل المراد بالمعقبات الأعمال ومعنى من بين يديه ومن خلفه ما تقدم منها وما تأخر (يحفظونه من) أجل (أمر الله) وقيل يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب، وقيل يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وقيل من شر طوارق الليل والنهار.
قال الفراء في هذا قولان:
أحدهما: أنه على التقديم والتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه.
والثاني: أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به، قال الزجاج: المعنى حفظهم إياه من أمر الله أي مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو أن من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر
_________
(١) مسلم/٦٣٢ - البخاري/٣٥٩.
27
الله وإعانته واستظهره السفاقسي، وقيل أن من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله (أطعمهم من جوع) أي عن جوع.
وقيل يحفظونه عن ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن والأنس فهي على بابها، واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب والحراس والجلاوزة بين أيدي الأمراء في حول السلطان على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء.
وقال ابن عباس: ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله وبإذن الله، لأنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق أن يحفظ أحداً من أمر الله ومما قضاه الله عليه إلا بأمره وإذنه، وعن قتادة مثله.
وعنه أيضاً قال: وليّ السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه يقول يحفظونه من أمري، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مرد له، وقال أيضاً الملوك يتخذون الحرس يحفظونهم من أمامهم وعن خلفهم وعن شمالهم يحفظونهم من القتل، ألم تسمع أن الله يقول (إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له) أي إذا أراد سوءاً لم تغن الحرس عنه شيئاً.
وعن عكرمة قال: هؤلاء الأمراء، وعن ابن عباس قال: هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم ويحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.
وعن علي قال: ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو يغرق أو يحرق، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر، وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث.
(إن الله لا يغير ما بقوم) من النعمة والعافية (حتى يغيروا ما
28
بأنفسهم) من طاعة الله والحالة الجميلة بالحالة القبيحة؛ والمعنى أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها، قيل وليس المراد أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما في الحديث أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سائل فقال: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث (١).
(وإذا أراد الله بقوم سوءاً) أي هلاكاً وعذاباً (فلا مرد) أي فلا راد (له) وقيل المعنى إذا أراد بقوم سوءاً أعمى قلوبهم حتى يختاروا ما فيه البلاء (وما لهم من دونه من وال) يلي أمرهم ويلتجئون إليه فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقوبات، أو من ناصر ينصرهم يمنعهم من عذاب الله.
والمعنى أنه لا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه.
ولما خوف سبحانه عباده بإنزال ما لا مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه وتخاف من بعضها، وهي البرق والسحاب والرعد والصاعقة، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها فقال
_________
(١) مسلم ٢٨٨٠ - البخاري١٥٨٢.
29
(هو الذي يريكم البرق) هو لمعان يظهر من خلال السحاب.
وعن علي بن أبي طالب قال: البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب. وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه.
(خوفاً وطمعاً) أي لتخافوا خوفاً ولتطمعوا طمعاً، وقيل النصب على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع أو على الحالية من البرق أو من المخاطبين
29
بتقدير ذوي خوف، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه، قيل والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق وبالطمع هو الحاصل بالمطر.
وقال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب، قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته وعن الحسن خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر. وعن الضحاك قال: الخوف ما يخاف من الصواعق والطمع الغيث.
(وينشئ السحاب الثقال) التعريف للجنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة والسحاب الغيم المنسحب في الهواء، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء.
30
(ويسبح الرعد) نفسه متلبساً (بحمده) وليس هذا بمستبعد، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد بذلك ويكون ذكره على الإنفراد مع ذكر الملائكة بعده لزيد خصوصية له وعناية به، والمسموع لنا منه هو نفس صوته إذا سبح التسبيح المذكور.
وقيل هو صوت الآلة التي يضرب بها السحاب أي الصوت الذي يتولد عنه الضرب، وقيل المراد ويسبح سامعو الرعد، أي يقولون سبحان الله وبحمده، والأول أولى.
أخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله ﷺ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك (١)، وقيل والمراد بنطقها الرعد وبضحكها البرق، وقد ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي في
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ١٩١٦.
30
اليوم والليلة والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك (١).
وأخرج العقيلي وضعَّفه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينشئ الله السحاب ثم ينزل فيه الماء فلا شيء أحسن من ضحكه ولا شيء أحسن من نطقه، ومنطقه الرعد وضحكه البرق (٢).
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمة بن ثابت وليس بالأنصاري سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن منشأ السحاب فقال: أن ملكاً موكلاً يلم القاصية ويلحم الدانية، بيده مخراق فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت، وإذا ضرب صعقت.
وعن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملك من ملائكة الله سبحانه موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله، قالوا: فيما هذا الصوت الذي يُسمع؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، أخرجه الترمذي وغيره (٣).
وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا في المطر وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال سبحان الذي سبحت له، وقال إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وقد روي نحو هذا عنه من طرق وعن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك، وعن ابن عمر نحوه.
_________
(١) المستدرك كتاب الأدب ٤/ ٢٨٦.
(٢) أحمد بن حنبل ٥/ ٤٣٥.
(٣) الترمذي كتاب التفسير سورة ١٣ - أحمد بن حنبل ١/ ٢٧٤.
31
وعن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه فتخرج الصواعق من بينه. وعن أبي عمران الجوني قال: أن بحوراً من نار دون العرش تكون منها الصواعق. وعن السدي قال: الصواعق نار.
وتسبح (الملائكة من خيفته) سبحانه أي هيبته وجلاله، وقيل من خيفة الرعد، وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد وأن الله سبحانه جعل له أعواناً.
(ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) من خلقه فيهلكه، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها وهو الدلالة على كمال قدرته، والصواعق جمع صاعقة وهي العذاب النازل من البرق، وقيل هي الصوت الشديد النازل من الجو ثم يكون فيه نار أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد، وهذه الأشياء تنشأ منها.
قال الكرخي: وأمر الصاعقة عجيب جداً لأنها نار تتولد في السحاب وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. قال محمد ابن علي الباقر: الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر.
(وهم) أي الكفار المخاطبون في قوله، وهو الذي يريكم البرق (يجادلون في) شأن (الله) فينكرون البعث تارة ويستعجلون بالعذاب أخرى ويكذبون الرسل ويعصون الله، وقيل الضمير راجع إلى من وأعاد عليها الضمير جمعاً باعتبار معناها، ثم المجادلة المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله والجملة مستأنفة.
(وهو شديد المحال) أي المماحلة والمكايدة لأعدائه من محل بفلان إذا كاده وعرَّضه للهلاك ومنه تمحَّل إذا تكلف استعمال الحيلة، ولعل أصله المحل بمعنى القحط، والجملة حالية من الجلالة الكريمة ويضعف استئنافها.
قال ابن الأعرابي: المحال المكر والمكر من الله التدبير بالحق، وقال
32
النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر، وقال الأزهري: المحال فعال من المحل بمعنى القوة والشدة والميم أصلية وماحلت فلاناً محالاً أينا أشد، وقال أبو عبيدة المحال العقوبة والمكروه.
قال الزجاج: يقال ماحلته محالاً إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد والمحل في اللغة الشدة، قال ابن قتيبة: أي شديد الكيد وأصله مفعل من الحول أو الحيلة جعل الميم كميم المكان وأصله من الكون ثم يقال تمكنت فاعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال.
قال الأزهري: غلط ابن قتيبة إن الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس وغير ذلك من الحروف، وفي القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعادلة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك.
ومحل به مثلث الحاء محلاً ومحالاً كاده بسعاية إلى السلطان وماحله مماحلة ومحالاً قاواه حتى يتبين أيهما أشد انتهى. وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية:
الأول: العداوة.
الثاني: الحول.
الثالث: الأخذ، وبه قال ابن عباس.
الرابع: الحقد.
الخامس: القوة.
السادس: الغضب.
السابع: الهلاك.
الثامن: الحيلة.
33
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦)
34
(له دعوة الحق) الإضافة للملابسة أي الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه كما يقال كلمة الحق والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها لا كدعوة من دونه، وقيل الحق هو الله سبحانه، والمعنى أن لله سبحانه دعوة المدعوّ الحق وهو الذي يسمع فيجيب، وقيل المراد بدعوة الحق هاهنا كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له، وقيل معنى كونها له تعالى أنه شرعها وأمر بها وجعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها، وقيل دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى (ضل من تدعون إلا إياه) وقيل الدعوة العبادة فإن عبادة الله هي الحق والصدق.
(و) الآلهة (الذين يدعون) بالياء متواترة وبالتاء شاذة لا من السبعة
ولا من العشرة وعليها فيقرأ كباسط بالتنوين ويكون في قوله الآتي لا يستجيبون
التفات (من دونه) أي غير الله عز وجل وهم الأصنام (لا يستجيبون) أي
لا يجيبون (لهم بشيء) مما يطلبونه منهم كائناً ما كان (إلا كباسط كفيه إلى
الماء) أي استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه لأنه
جماد لا يشعر بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ولا يدري أنه طلب منه
34
(ليبلغ فاه) بارتفاعه من البئر إليه ولهذا قال (وما هو) أي الماء (ببالغه) أي ببالغ فيه.
وقيل وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال، وقيل وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء ذكره السمين، والأول أولى.
أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه وما الماء ببالغه، وقيل أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه، وقد ضرب العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء، وقال الفراء: أن المراد بالماء هنا ماء البئر لأنها معدن للماء وأنه شبهه بمن مدَّ يديه إلى البئر بغير رشا.
ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام، عن عليّ قال: كان الرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه، وعن ابن عباس قال: هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه.
(وما دعاء الكافرين) أي عبادتهم الأصنام أو حقيقة الدعاء والأول هو الظاهر، والثاني قول ابن عباس: (إلا في ضلال) أي يضل عنهم ذلك الدعاء إذا احتاجوا إليه لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى فلا يجدون منه شيئاً ولا ينفعهم بوجه من الوجوه بل هو ضائع ذاهب.
35
(ولله يسجد من في السماوات والأرض) إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن، وأما في الكفار فلا يصح تأويل
35
السجود بهذا في حقهم فلا بد أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى حق لله السجود ووجب حتى يتناول السجود بالفعل وغيره أو يفسر السجود بالانقياد لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت، والفقر والغنى، وجاء بمن تغليباً للعقلاء على غيرهم، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم.
ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم لله على الفعل من الاختصاص فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرون على أنفسهم بأنها من الله كالخلق والحياة والموت وغير ذلك.
وأيضاً يدل على إرادة هذا المعنى قوله (طوعاً وكرهاً) فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً، وهما منتصبان على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره، أو على الحال أي طائعين وراضين وكارهين غير راضين، قال الفراء: الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً وبعض الكفار يسجدون إكراهاً بالسيف، وخوفاً كالمنافقين فالآية محمولة على هؤلاء.
وقيل الآية في المؤمنين فمنهم من يسجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له أو المراد بالسجود هو الاعتراف بالعظمة والعبودية وكل من فيهما من ملك وإنس وجن فإنهم يقرون له بالعبودية والتعظيم، ويدل عليه قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) والأول أولى.
(وظلالهم) جمع ظل والمراد به من له ظل منهم كالإنسان لا الجن ولا الملك إذ لا ظل لهما والمعنى سجوده حقيقة تبعاً لصاحبه حيث صار لازماً لا
36
ينفك عنه، قال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله فظله يسجد لله وقال ابن الأنباري ولا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله سبحانه كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً وظل الكافر يسجد لله كرهاً.
وقيل المراد بالسجود ميلان الظلال من جانب إلى جانب آخر وطولها تارة وقصرها أخرى بسبب ارتفاع الشمس ونزولها والأول أولى.
(بالغدو والآصال) أي البكر والعشايا وخصهما بالذكر لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما وهما ظرف للسجود المقدر، أي ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين، وقيل لأنهما طرفا النهار فيدخل وسطه فيما بينهما، والغدو بالضم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والغدوة والغداة أول النهار، وقيل إلى نصف النهار.
والآصال جمع أصيل وهو العشية والآصال العشايا جمع عشية وهي ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقد تقدم تفسير الغدو والآصال في الأعراف أيضاً. وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون) قيل وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءته واستماعه لهذه السجدة.
37
(قل من رب السماوات والأرض) أي خالقهما ومتولي أمورهما، أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار مَنْ ربهما؛ سؤال تقرير، ثم لما كانوا يقرون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب فقال (قل
37
الله) فكأنه حكي جوابهم وما يعتقدونه لأنهم ربما تلعثموا (١) في الجواب حذراً مما يلزمهم.
ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال (قل أفاتخذتم) الاستفهام للإنكار، أي إذا كان رب السماوات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله) فما بالكم اتخذتم لأنفسكم بعد إقراركم هذا (من دونه أولياء) عاجزين (لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا) يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم.
ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله ﷺ أن يقوله لهم فقال (قل هل يستوي الأعمى) في دينه وهو الكافر (والبصير) فيه وهو الموحد، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه والثاني عالم بذلك. قال ابن عباس يعني المؤمن والكافر.
(أم هل) أم هذه هي النقطعة فتقدر ببل. والهمزة عند الجمهور، وببل وحدها عند بعضهم، وقد تقوى بهذه الآية من يرى تقديرها ببل فقط بوقوع هل بعدها، وأجيب بأن هل هنا بمعنى قد وإليه ذهب جماعة، وقيل استفهامية للتقريع والتوبيخ وهو الظاهر (تستوي) قرئ بالتاء والياء والوجهان واضحان (الظلمات) أي الكفر (والنور) أي الإيمان، أي كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير، وما بين الظلمات والنور، ووحد النور وجمع الظلمات لأن طريق الحق واحدة لا تختلف، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة.
_________
(١) لعثم فيه لعثمة، وتلعثم تمكث وتوقف وتأنى أو نكص عنه وتبصره. انتهى قاموس.
38
(أم) هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة أي بل أ (جعلوا لله شركاء) والاستفهام لإنكار الوقوع قال إبن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء (خلقوا كخلقه) أي مثل خلق الله، يعني سماوات وأرضاً وشمساً وقمراً، وجبالاً وبحاراً وجناً وإنساً.
(فتشابه الخلق عليهم) أي فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم، وهذا كله في حيز النفي كما علمت، أي ليس الأمر كذلك حتى يشتبه الأمر عليهم، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المتفرد بالخلق وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً. والمعنى أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه فتشابه بهذا السبب الخلق عليهم حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم. بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها بمحض سفه وجهل. وهي بمعزل أن تكون كذلك لأنه لم يصدر عنها فعل ولا خلق ولا أثر البتة.
ثم أمره الله سبحانه وتعالى بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال (قل الله خالق كل شيء) كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه فلا شريك له في العبادة، قال الزجاج: والمعنى أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق (وهو الواحد) أي المنفرد بالربوبية مقول القول أو مستأنفه (القهار) لما عداه فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب.
39
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٨)
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه وللباطل ومنتحليه، فقال
40
(أنزل من السماء ماء) مطراً يعني من جهتها والتنكير للتكثير أو للنوعية (فسالت أودية) جمع واد وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه وتنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع وإذا نزل لا يعم جميع الأرض ولا يسيل في كل الأودية بل ينزل في أرض دون أرض ويسيل في واد دون واد.
قال أبو علي الفارسي: لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلا هذا، وكأنه حمل على فعيل مثل جريب وأجربة كما أن فعيلاً حمل على فاعل فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر.
قال وفي قوله أودية توسع أي سال ماؤها قال ومعنى (بقدرها)
بقدر مائها لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها، قال الواحدي: والقدر مبلغ الشيء والمعنى بقدرها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر، قال ابن عباس: الصغير قدر صغره، والكبير قدر كبره، ونحوه قال ابن جريج وقال في الكشاف بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار، وقيل بمقدار ملئها أي ما يملؤها كل واحد بحسبه صغراً وكبراً، والباء للملابسة.
قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر
40
إذ نفْع نزول القرآن يعم كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين.
(فاحتمل السيل) احتمل بمعنى حمل فافتعل بمعنى المجرد وإنما نكر الأودية وعرف السيل لأن المطر ينزل على المناوبة والسيل قد فهم من الفعل قبله وهو فسالت (زبداً رابياً) الزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ويقال له الغُثاء والرغوة وكذلك ما يعلو عن القدر عند غليانها، وقيل الزبد وضر الغليان والوضر بفتحتين وسخ الدسم ونحوه وهو مجاز عما يعلو الماء من الغُثاء والرابي العالي المرتفع فوق الماء، قال الزجاج: هو الطافي فوق الماء، وقال غيره هو الزائد بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد.
والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح، فكذلك يذهب الكفر ويضمحل، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء نفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ووعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين ونفعه ما بعثني الله به فتعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (١)، أخرجه البخاري ومسلم.
وقد تم هنا المثل الأول ثم شرع سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال (ومما يوقدون عليه في النار) مِن لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء أو للتبعيض بمعنى وبعضه زبد مثله والضمير للناس أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره؛ هذا على قراءة التحتية واختاره أبو عبيدة، وقرئ بالفوقية على الخطاب والمعنى ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المتطرفة
_________
(١) مسلم/٢٢٨٢ البخاري/٦٨.
41
الذائبة، وفي المصباح وقدت النار وقداً من باب وعد ووقوداً والوقود بالفتح الحطب وأوقدتها إيقاداً ومنه على الاستعارة كلما أوقدوا ناراً للحرب، والوقد بفتحتين النار نفسها والموقد موضع الوقود.
(ابتغاء) أي لطلب اتخاذ (حلية) بتزينون بها ويتجملون كالذهب والفضة (أو) لطلب (متاع) آخر يتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص (زبد مثله) المراد بالزبد هنا الخبث فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في مثله يعود إلى زبداً رابياً وزبد مبتدأ وخبره مما توقدون، ووجه المماثلة أن كلا منهما ناش من الاكدار.
(كذلك) الضرب البديع (يضرب) أي يبين (الله) المثل (الحق) أي الإيمان (و) المثل (الباطل) أي الكفر فالحق هو الماء والجوهر الصافي الثابت والباطل هو الزبد الطافي الذي لا ينتفع به ثم شرع في تتميم المثل فقال:
(فأما الزبد) بقسميه (فيذهب جفاء) باطلاً مرمياً به يقال جفأ الوادي غثاء جفأ إذا رمى به أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير فلا ينتفع به والجفاء بمنزلة الغثاء وكذا قال أبو عمرو بن العلاء، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ (جفالاً) قال أبو عبيدة أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته، قال أبو حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار.
والمعنى يذهب باطلاً ضائعاً أي أن الباطل وأن علا في وقت فإنه يضمحل ويذهب، وقيل الجفاء المتفرق قاله ابن الأنباري يقال جفأت الريح السحاب أي قطعته وفرقته ووجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المتطرقة إن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام
42
المتطرقة فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها.
(وأما ما ينفع الناس) منها وهو الماء الصافي والجوهر الجيد من هذه الأجسام المذابة والذائب الخالص من الخبث (فيمكث في الأرض) أي يثبت فيها ويبقى ولا يذهب، أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فينتفع الناس به، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة.
وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل يقول إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل، وكخبث هذه الأجسام فإنه وأن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه فهذا مثل الباطل.
وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض وكذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه وهو مثل الحق.
قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به، وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن.
(كذلك) الضرب العجيب (يضرب الله الأمثال) في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم في الإرشاد والهداية، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله: (كذلك يضرب الله الحق والباطل) إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعاً.
ثم بيَّن سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده، فقال
43
فيمن ضرب له مثل الحق
44
(للذين استجابوا لربهم) خبر مقدم، أي أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه.
(الحسنى) مبتدأ مؤخر، أي المثوبة الحسنى وهي الجنة، وبه قال جمهور المفسرين، وقيل الحسنى هي المنفعة العظمى الخالصة الخالية عن شوائب المضرة والانقطاع والأول أولى. وهو قول ابن عباس. وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل:
(والذين لم يستجيبوا له) أي لدعوته إلى ما دعاهم إليه وهم الكفار الذين استمروا على كفرهم وشركهم وما كانوا عليه، والموصول مبتدأ أخبر عنه بثلاثة أخبار، الأول الجملة الشرطية وهي (لو أن لهم ما في الأرض جميعاً) من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء (ومثله معه) أي مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه (لافتدوا به) أي بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله، والمعنى ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم، ثم بين سبحانه ما أعد لهم فقال:
(أولئك) يعني الذين لم يستجيبوا وهو خبر ثان للموصول (لهم سوء الحساب) من إضافة الصفة للموصوف أي الحساب السيء، وهو أن يحاسب الرجل بذنبه كله ولا يغفر له منه شيء.
قال الزجاج: لأن كفرهم أحبط أعمالهم، وقال غيره هو المناقشة فيه، وفي الحديث " من نوقش الحساب عذب " (١) (ومأواهم جهنم) أي مرجعهم إليها (وبئس المهاد) أي المستقر الذي يستقرون فيه أو الفراش الذي يفرش لهم في جهنم، والمخصوص بالذم محذوف وهو خبر ثالث للموصول المتقدم.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٦٤٥٤.
44
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣)
45
(أفمن يعلم) الهمزة للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك ولا يؤمن به (أنما أنزل إليك من ربك الحق) أي ما أنزل الله سبحانه إلى رسوله ﷺ من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة وهو القرآن (كمن هو أعمى) فإن الحال بينهما متباعد جداً كالتباعد الذي بين الماء والزبد وبين الخبيث والخالص من تلك الأجسام.
قيل نزل في حمزة وأبي جهل، ومع هذا فالأولى حمل الآية على العموم وإن كان السبب خاصاً، والمعنى لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه، وعن قتادة قال: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق فلا يبصره ولا يعقله (إنما يتذكر أولو الألباب) أي إنما يقف على تفاوت المنزلتين وتباين الرتبتين أو يتعظ أهل العقول الصحيحة.
ثم وصفهم بالأوصاف المادحة فقال
(الذين يوفون بعهد الله) أي بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين العباد (ولا ينقضون الميثاق) الذي وثقوه على أنفسهم وأكدوه بالإيمان ونحوها، وهذا تعميم بعد التخصيص لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها.
45
ويجوز أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عباده على ألسنة الرسل في الكتب الإلهية ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه ويراد بالميثاق ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذر المذكور في قوله سبحانه (وإذ أخذ ربك من بني آدم) الآية بأن يؤمنوا إذا وجدوا في الخارج ولا يكفروا، قال قتادة: أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن.
46
(والذين يصلون ما أمر به أن يوصل) ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده، ومنه الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرق بين أحد منهم، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أولياً ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله ﷺ ووصل قرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان (إنما المؤمنون إخوة) بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذب عنهم والشفقة عليهم وإفشاء السلام وعيادة المرضى.
ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر إلى غير ذلك وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم، واللفظ أوسع من ذلك.
أخرج الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البر والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله ﷺ والذين يصلون ما أمر الله -إلى- ويخافون سوء الحساب وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة.
(ويخشون ربهم) خشية تحملهم على فعل ما وجب واجتناب ما لا يحل والخشية خوف يشوبه تعظيم وإجلال، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه (ويخافون سوء الحساب) وهو الإستقصاء فيه والمناقشة للعبد، فمن نوقش
46
الحساب عذب ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
47
(والذين صبروا) قيل مستأنف وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ الماضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه. وقيل على الرزايا والمصائب، وقيل عن الشهوات والمعاصي والأولى حمله على العموم (ابتغاء وجه ربهم) أي ثوابه ورضاه معناه أن يكون خالصاً له لا شائبة فيه لغيره كأن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل أو لأجل أن لا يعاب على الجزع أو لأجل أن لا يشمت به الأعداء.
(وأقاموا الصلاة) أى فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص والمراد بها الصلوات المفروضة وقيل أعم من ذلك (وأنفقوا) في الطاعة (مما رزقناهم) أي بعضه (سراً وعلانية) المراد بالسر صدقة النفل والعلانية صدقة الفرض، وقيل السر لمن لم يعرف بالمال ولا يتهم بترك الزكاة والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة والحمل على العموم أولى.
(ويدرؤون بالحسنة السيئة) أي يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن، أو يدفعون بالعمل الصالح السيء فيمحوه أو يدفعون الشر بالخير أو المنكر بالمعروف أو الظلم بالعفو أو الذنب بالتوبة أو الحرمان بالإعطاء أو القطع بالوصل أو الهرب بالإنابة ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور.
(أولئك) الموصوفون بالصفات المتقدمة (لهم عقبى الدار) العقبى مصدر كالعاقبة والإضافة على معنى في، أي العقبى المحمودة فيها قال الخطيب العقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، والمراد بالدار الدنيا وعقباها الجنة، وقيل المراد دار الآخرة وعقباها الجنة للمطيعين والنار للعصاة.
(جنات عدن يدخلونها) أي لهم جنات عدن والعدن أصله الإقامة ثم
47
صار علماً لجنة من الجنان واسم المكان معدن مثال مجلس لأن أهله يقيمون عليه الصيف والشتاء أو لأن الجوهر الذي خلقه الله فيه عدن به، قال القشيري: وجنات عدن وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن ولكن في صحيح البخاري وغيره إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة (١).
وعن ابن مسعود قال: جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها، وعن الحسن إن عمر قال لكعب: ما عدن قال هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل.
وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له كن فكان (٢).
(ومن صلح) أي آمن في الدنيا، قاله مجاهد (من آبائهم) أي أصولهم وهي تشمل الآباء والأمهات ومن لبيان الجنس (وأزواجهم) اللاتي متن في عصمتهم (وذرياتهم) أي ويدخلها هؤلاء الفرق الثلاث وإن لم تعمل بأعمالهم تكرمة لهم قاله ابن عباس ورجحه الواحدي.
قال الرازي: وليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلا من كان كذلك من قرابات أولئك، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج أو الذرية بدون صلاح.
(والملائكة يدخلون عليهم) في قدر كل يوم وليلة ثلاث مرات للتهنئة، وقيل بل هو في أول دخولهم. قاله السيوطي في الجمل والتقييد بهذا لم نره لغيره من المفسرين. بل في كلام غيره ما يدل على عدمه (من كل باب) أي من جميع أبواب القصور والمنازل التي يسكنونها أو من كل باب من أبواب الجنة أو من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه.
_________
(١) البخاري، كتاب التوحيد ٢٢ - كتاب الجهاد ٤.
(٢) الترمذي، كتاب الجنة، الباب ٤.
48
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)
49
(سلام عليكم) أي قائلين سلام عليكم، فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه أي سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة، وقيل دعاء لهم من الملائكة، أي سلمكم الله تعالى (بما صبرتم) أي بسبب صبركم في الدنيا على الآفات وهو متعلق بالسلام، أي إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم أو بمحذوف، أي هذه الكرامة بسبب صبركم وبدل ما احتملتم من مشاق الصبر (فنعم عقبى الدار) أي نعم ما أعقبكم الله من الدنيا الجنة.
أخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم، فتقول اللائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا إن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟.
قال الله: إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد
49
بهم الثغور وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب قائلين لهم سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " (١).
وفي القرطبي عن عبد الله بن سلام وعلي بن الحسين: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتلقاهم الملائكة فتقول إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة، قالوا: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، فيقولون: من أنتم، فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معاصي الله، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا.
قال علي بن الحسين: فتقول لهم الملائكة: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار أي نعم عاقبة الدار التي كنتم فيها وعملتم فيها ما أعقبكم هذا الذي أنتم فيه، فالعقبى على هذا اسم والدار هي الدنيا.
وقال أبو عمران الجوني: أي الجنة عن النار بضم الجيم، وعنه الجنة عن الدنيا وبالجملة فقد جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدم ذكرها للترغيب والتشويق.
ثم أتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء فقال:
_________
(١) أحمد بن حنبل ٢/ ١٦٨.
50
(والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول بقولهم بلى (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) من الإيمان والرحم وغير ذلك، وقد مر تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض القطع ولم يتعرض
50
لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدمة لدخولها في النقض والقطع (ويفسدون في الأرض) بالكفر وارتكاب المعاصي والإضرار بالأنفس والأموال.
(أولئك) الموصوفون بهذه الصفات الذميمة (لهم) بسبب ذلك (اللعنة) أي الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه (ولهم سوء الدار) أي سوء عاقبة دار الدنيا وهي النار أو عذاب جهنم فإنها دارهم.
51
(الله يبسط الرزق) أي يوسعه (لمن يشاء) أي لمن كان كافراً استدراجاً (ويقدر) أي ويقتره على من كان مؤمناً إبتلاء وامتحاناً وتكفيراً لذنوبه ولا يدل البسط على الكرامة، ولا القبض على الإهانة، ومعنى يقدر يضيق، ومنه ومن قدر عليه رزقه، أي ضيق، وقيل معنى يقدر يعطي بقدر الكفاية، وقرأ السبعة يقدر بكسر الدال وهو أفصح، واستعمل بالضم أيضاً على ما في المصباح، ومعنى الآية إنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره.
(وفرحوا) أي مشركو مكة (بالحياة الدنيا) فرح بطر لا فرح سرور والفرح لذة تحصل في القلب عند حصول المشتهى وجهلوا ما عند الله، والجملة مستأنفة لبيان قبح أفعالهم مع ما وسعه عليهم، وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا والركون إليها حرام.
قيل وفي هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا، والأولى أولى لأنه ماض وما قبله مستقبل، وقيل العطف على ينقضون ولا يصح لأنه يستلزم تخلل الفاصل بين أبعاض الصلة.
(وما الحياة الدنيا في الآخرة) أي بالنسبة إليها وفي جنبها ففي هنا
51
للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وليست ظرفاً للحياة ولا للدنيا لأنهما لا يكونان في الآخرة (إلا متاع) أي ما هي إلا شيء يستمتع به. وقيل المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما، وقيل المعنى شيء قليل ذاهب، من متع النهار إذا ارتفع فلا بدّ من زوال، وقيل زاد كزاد الراكب يتزودونه منها إلى الآخرة. وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن.
وعن ابن عباس قال: كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله أو غنمه فيقول لأهله متعوني فيمتعونه فلقة الخبز أو التمر، فهذا مثل ضربه الله للدنيا.
وأخرج الترمذي وصححه عن ابن مسعود قال: نام رسول الله ﷺ على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك، فقال: " ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " (١).
واخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع " وأشار بالسبابة (٢).
_________
(١) الترمذي كتاب الزهد باب ٤٤.
(٢) مسلم ٢٨٥٨.
52
(ويقول الذين كفروا) أي المشركون من أهل مكة (لولا) هلا (أنزل عليه) أي على محمد (آية) أي معجزة، مثل معجزة موسى وعيسى عليهما السلام (من ربه) كالعصا واليد والناقة، وقد تقدم تفسير هذا قريبا وتكرر في مواضع.
52
(قل إن الله يضل من يشاء) أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه من شاء أن يضله كما ضل هؤلاء القائلون (لولا أنزل عليه آية من ربه) ولا ينفعه نزول الآيات وكثرة المعجزات إن لم يهده الله عز وجل وإن أنزلت كل آية فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء.
(ويهدي إليه) أي إلى الحق أو إلى الإسلام أو إلى جنابه عز وجل (من أناب) أي رجع إلى الله بالتوبة والاقلاع عما كان عليه، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير. كذا قال النيسابوري.
53
(الذين آمنوا) منصوب على البدل من أناب، والمعنى أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه: أو خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين آمنوا (وتطمئن قلوبهم بذكر الله) أي تسكن عن القلق والاضطراب وتستأنس بذكره سبحانه بألسنتهم كتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتوحيد أو بسماع ذلك من غيرهم عبر بالمضارع لأن الطمأنينة تتجدد بعد الإيمان حيناً بعد حين، قاله الشهاب. وقال الكرخي المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ومنه الآية أهـ.
قال في الجمل: وهذا ينفع في مواضع كثيرة وقد سمى الله سبحانه القرآن ذكراً قال (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) وقال (إنا نحن نزلنا الذكر).
قال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
وقيل الذكر هنا الطاعة وقيل بوعد الله وقيل بالحلف بالله فإذا حلف
53
خصمه بالله سكن قلبه، قاله السدي، وقيل بذكر رحمته، وقيل بذكر دلائله الدالة على توحيده، وقال قتادة هشت إليه واستأنست به، وقال مجاهد بمحمد ﷺ وأصحابه ولا مانع من حمل الآية على جميعها.
(ألا بذكر الله) وحده دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنيويات (تطمئن القلوب) والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة لكن ليست كهذه الطمأنينة وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر.
وأما قوله تعالى في الأنفال (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) والوجل ضد الاطمئنان فالمعنى أنهم إذا ذكروا العقوبات وجلوا وإذا ذكروا المثوبات سكنوا.
أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية: هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: من أحب الله ورسوله وأحب أصحابي.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ أن رسول الله ﷺ لما نزلت هذه الآية قال ذلك من أحب الله ورسوله وأحب أهل بيته صادقاً غير كاذب وأحب المؤمنين شاهداً وغائباً ألا بذكر الله يتحابون.
54
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠)
55
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) مبتدأ خبره جملة (طوبى لهم) وجاز الابتداء بطوبى إما لأنها علم لشيء بعينه وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء كسلام عليك وويل له، قال أبو عبيدة والزجاج: وأهل اللغة طوبى فعلى من الطيب فهو يائي وأصله طيبي، قال ابن الأنباري: وتأويلها الحال المستطابة، وقيل طوبى شجرة في الجنة. وقيل هي الجنة وقيل هي البستان بلغة الهند وقيل هي اسم الجنة بالحبشية وقيل معناه حسنى لهم وقيل خير لهم وقيل كرامة لهم وقيل غبطة لهم قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة، واللام في لهم للبيان مثل سقياً لك ورعياً لك.
قال الأزهري: تقول طوبى لك وطوباك لحن لا تقوله العرب وهو قول أكثر النحويين وقيل هو مصدر من طاب كبشرى ورجعى وزلفى فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى ومعناه أصبت خيراً وطيباً، وقيل هي شجرة في جنة عدن تظلل الجنان كلها، وقال ابن عباس: طوبى لهم فرح لهم وقرة أعين، وقال عكرمة: نعمى لهم، وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدمنا ذكره من الأقوال.
والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبي ﷺ كما أخرجه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن عتبة بن عبد قال: جاء إعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة قال: " نعم فيها شجرة تدعى طوبى " الحديث.
55
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك قال: " طوبى لمن آمن بي ورآني ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، فقال رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " (١) وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرأوا إن شئتم وظل ممدود " وفي بعض الألفاظ إنها شجرة الخلد وفي بعضها شجرة غرسها الله بيده (٢).
(وحسن مآب) من آب إذا رجع أي ولهم حسن مرجع وهو الدار الآخرة وهي الجنة قال السدي حسن منقلب وعن الضحاك مثله.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٣/ ٧١.
(٢) مسلم ٢٨٢٦ - البخاري ١٥٣٩.
56
(كذلك) أي مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة (أرسلناك) يا محمد إرسالاً له شأن، وقيل شبه الإنعام على من أرسل إليه محمد ﷺ بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله، وقيل كما هدى الله من أناب كذلك أرسلناك.
وقال ابن عطية الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك أيضاً فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بالآيات المقترحة، وقال أبو البقاء: كذلك الأمر كذلك، وقال الحوفي: أي كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله
56
يضل من يشاء ويهدي من يشاء وكل ذلك فيه تكلف وبعد، والأول أظهر وأولى.
(في أمة) أي قرن (قد خلت) مضت (من قبلها) أي قبل الأمة (أمم) قرون أو في جماعة من الناس كثيرة قد مضت من قبلها جماعات (لتتلو) لتقرأ (عليهم الذي أوحينا إليك) أي القرآن (و) الحال أن (هم يكفرون) أو استئناف وهم عائد على أمة من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لقيل وهي تكفر، وقيل على أمة، وعلى أمم، وقيل على الذين قالوا لولا أنزل (بالرحمن) أي بالكثير الرحمة لعباده، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت قريش أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فقال أصحابه دعنا نقاتلهم، فقال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون " (١) وعن ابن جريج في هذه الآية نحوه وقيل حيث قالوا لما أمروا بالسجود له وما الرحمن كما ذكر في سورة الفرقان بقوله (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) فهذه الآية متقدمة على ما هنا في النزول وإن تأخرت عنها في المصحف والتلاوة، وقيل غير ذلك، (قل هو ربي) مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا وما الرحمن؟ فقال سبحانه: قل يا محمد هو ربي، أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته ربي وخالقي.
(لا إله إلا هو) أي لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه (عليه توكلت) في جميع أموري (وإليه) لا إلى غيره (متاب) أي توبتي قاله مجاهد، وفيه تعريض بالكفار وحث لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام.
_________
(١) انظر تمام القصة في سيرة ابن هشام ٢٤.
57
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣)
58
(ولو أن قرآنا سيرت به) أي بإنزاله وقراءته (الجبال) عن محل استقرارها وانتقلت عن أماكنها وأذهبت عن وجه الأرض، قيل هذا متصل بقوله (لولا أنزل عليه آية من ربه) وإن جماعة من الكفار سألوا رسول الله ﷺ أن يسير لهم جبال مكة حتى تتفسح فإنها أرض ضيقة فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد.
(أو قطعت به الأرض) أي صدعت وشققت حتى صارت قطعاً متفرقة من خشية الله عند قراءته وجعلت أنهاراً أو عيوناً (أو كلم به الموتى) أي صاروا أحياء بقراءته عليهم فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء وقد اختلف في جواب لو فقيل لكان هذا القرآن، وقيل لكفروا بالرحمن أي لو فعل بهم هذا وقيل لما آمنوا كما سبق في قوله (وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله).
وقيل التقدير وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا إلخ وكثيراً ما تحذف
58
العرب جواب لو إذا دل عليه سياق الكلام وتذكير كلَّم خاصة دون الفعلين قبله لأن الموتى تشتمل على المذكر الحقيقي والتغليب له فكان حذف التاء أحسن، والجبال والأرض ليستا كذلك قاله الكرخي.
قال ابن عباس: قالوا للنبي ﷺ إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم وافسح لنا هذه الجبال فنزلت هذه الآية، وعن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد ﷺ لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان عليه السلام يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية.
(بل لله الأمر جميعاً) أي لو إن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ويدل على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله.
(أفلم ييأس الذين آمنوا) قال الكلبي: بمعنى ألم يعلم وهي لغة النخع قال في الصحاح، وقيل هي لغة هوازن، وبهذا قال جماعة من السلف، قال أبو عبيدة: أفلم يعلموا ويتبينوا قال الزجاج: وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما.
وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين أفلم يتبين بطريق التفسير فمعنى الآية على هذا أفلم يعلموا (أن) أي أنه (لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) من غير أن يشاهدوا الآيات ولكن لم يفعل ذلك لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره؛ والمعنى أنه تعالى لم يهد جميع الناس الذين
59
آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم.
قال ابن عباس: لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن ليفعل وقال ييأس يعلم وعن ابن زيد نحوه وعن أبي العالية، قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء لهدى الناس جميعاً وفيه دلالة على أن الله لم يشأ هداية جميع الخلائق.
(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة) هذا وعيد للكفار على العموم ولكفار مكة على الخصوص أي لا يزال تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل والأعمال الخبيثة داهية تفجؤهم وتهلكهم وتستأصلهم يقال قرعه الأمر إذا أصابه والجمع قوارع والأصل في القرع الضرب والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية، والمعنى أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم نازلة وداهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو حرب أو نحو ذلك من العذاب وقد قيل أن القارعة النكبة، وقيل الطلائع والسرايا قاله ابن عباس ولا يخفى إن القارعة تطلق على ما هو أعم من ذلك.
(أو تحل) القارعة (قريباً من دارهم) فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم، وقيل أن الضمير في تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى أو تحل أنت يا محمد مكاناً قريباً من دارهم محاصراًً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الطائف والأول أبين وأظهر.
(حتى يأتي وعد الله) وهو موتهم أو قيام الساعة عليهم، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم وحل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة، وقيل المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار والنصر والفتح وظهور رسول الله ﷺ ودينه، وقال ابن عباس: فتح مكة وكان في الثامنة وحج في العاشرة ولم يحج غيرها والأول أولى (إن الله لا يخلف الميعاد) فما جرى به وعده فهو كائن
60
لا محالة
61
(ولقد استهزئ برسل) التنكير للتكثير أي برسل كثيرة (من قبلك) كما استهزئ بك وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
(فأمليت للذين كفروا) الإملاء الإمهال مدة طويلة من الزمان في دعةٍ وأمن، وقد مر تحقيقه في آل عمران (ثم أخذتهم) في الدنيا بالعذاب الذي أنزلته بهم من القحط والقتل والأسر وفي الآخرة بالنار.
(فكيف كان عقاب) الاستفهام للتقريع والتهديد، أي فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزؤوا بالرسل فأمليت لهم ثم أخذتهم هل كان ظلماً لهم أو كان عدلاً؟ أي هو واقع موقعه فكذلك أفعل بمن استهزأ بك.
ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجرى مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم فقال
(أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) القائم الحفيظ والمتولي للأمور، وأراد سبحانه نفسه فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت، والجواب محذوف، أي أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر.
قال الفراء: كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما، وقيل المراد بالقائم الملائكة الموكلون ببني آدم والأول أولى، وبه قال ابن عباس، وقال عطاء: الله قائم بالقسط والعدل على كل نفس.
(و) قد (جعلوا لله شركاء) استئناف وهو الظاهر جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم، وقيل الواو للحال وأقيم الظاهر مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، وقيل عطف على استهزئ أي ولقد استهزؤوا وجعلوا،
61
وقال أبو البقاء: معطوف على كسبت أي وجعلهم لله شركاء والأول أولى.
(قل سموهم) أي عينوا حقيقتهم من أي جنس ومن أي نوع أي وما أسماؤهم، وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه فيقال سمه إن شئت، يعني أنه أحقر من أن يسمى وقيل أن المعنى صفوهم وبينوا أوصافهم بما يستحقون ويستأهلون به، ثم انظروا هل هي أهل لأن تعبد، وقيل المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون فيكون ذلك تهديداً لهم.
(أم تنبئونه) أي بل أتنبئون الله (بما لا يعلم في الأرض) من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك في غير الأرض أيضاً لأنهم ادعوا له شريكاً فيها (أم) أي بل أتسمونهم شركاء (بظاهر من القول) من غير أن يكون له حقيقة كتسمية الزنجي كافوراً.
وقيل المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه، فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً، وقيل المعنى أم بزائل من القول باطل، قاله مجاهد، وقيل بكذب من القول، وقيل بظن باطل لا حقيقية له في الباطن، وقيل المعنى بحجة من القول ظاهرة على زعمهم قال الطيبي في هذه الآية احتجاج بليغ مبني على فنون من علم البيان.
أولها: أفمن هو قائم الخ احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لها.
ثانيها: وجعلوا لله شركاء وفيه وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه.
62
ثالثها: قل سموهم أي عينوا اسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني، كما تقول إن كان الذي تدعيه موجوداً فسمه، لأن المراد بالاسم العلم.
رابعها: أم تنبئونه بما لا يعلم، احتجاج من باب نفي الشيء، أعني المعلوم بنفي لازمه وهو العلم وهو كناية.
خامسها: أم بظاهر من القول احتجاج من باب الاستدراج والهمزة للتقرير لبعثهم على التفكير، المعنى أتقولون بأفواهكم من غير روية وأنتم ألبَّاء فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.
سادسها: التدريج في كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأسأليب البديعة مع اختصارها كان الاحتجاج المذكور منادياً على نفسه بالإعجاز وإنه ليس من كلام البشر. أهـ.
(بل) إضراب عن محاجتهم بالكلية، فكأنه قيل دع ذا فإنه لا فائدة فيه لأنه (زين للذين كفروا) قرأ ابن عباس زين على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو (مكرُهم) وقرأ غيره على البناء للمفعول، والمزين هو الله سبحانه أو الشيطان بإلقاء الوسوسة، ويجوز أن يسمى المكر كفراً لأن مكرهم برسول الله ﷺ كان كفراً، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد أو التمويه بالأباطيل، أي كيدهم للإسلام بشركهم.
(وصدوا عن السبيل) أي صدهم الله أو صدهم الشيطان، وقرئ بالبناء للفاعل، أي صدوا غيرهم عن الإيمان، قراءتان سبعيتان، وقد يستعمل صد لازماً بمعنى أعرض.
(ومن يضلل الله) أي يجعله ضالاً ويقتضي مشيئته إضلاله (فما له من هاد) يهديه إلى الخير، وقرأ الجمهور هاد من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة وهما سبعيتان.
63
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
ثم بين سبحانه ما يستحقونه فقال
64
(لهم عذاب في الحياة الدنيا) بما يصابون به من القتل والأسر وأنواع المحن (ولعذاب الآخرة أشق) عليهم من عذاب الحياة الدنيا وأشد وأغلظ، لأن المشقة غلظ الأمر على النفس وشدته، مما يكاد يصدع القلب من شدته فهو من الشق الذي هو الصدع (وما لهم من الله من واق) يقيهم عذابه ولا عاصم يعصمهم منه.
ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى ذكر ما أعده للمؤمنين فقال
(مثل الجنة) أي صفتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته، يقال مثلت لك كذا أي صورته ووصفته، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها وجريان الأنهار من تحتها كالتفسير للمثل.
قال سيبويه: وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة، وقال الفراء المثل مقحم للتأكيد والمعنى الجنة.
(التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار) والعرب تفعل ذلك كثيراً، وقال الخليل وغيره: أن مثل الجنة مبتدأ والخبر تجري، وقال الزجاج: أنه تمثيل للغائب بالشاهد ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار. وقال عكرمة: نعت الجنة ليس للجنة مثل، وقيل أن فائدة الخبر ترجع إلى قوله.
64
(أكلها) أي ما يؤكل فيها (دائم) أي لا ينقطع أبداً ولا يفنى، ومثله قوله تعالى (لا مقطوعة ولا ممنوعة) قال إبراهيم التيمي: لذاتها دائمة في أفواههم، وقيل دائم بحسب نوعه، فكل شيء أكل يتجدد غيره لا بحسب شخصه إذ عين المأكول لا ترجع (وظلها) كذلك دائم لا يتقلص ولا ينسخه الشمس لأنه ليس في الجنة شمس ولا قمر ولا ظلمة بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول.
وفي الآية رد على جهم وأصحابه فإنهم يقولون إن نعيم الجنة يفنى وينقطع، وفيها دليل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل واستدل عبد الجبار المعتزلي بهذه الآية على أن الجنة لم تخلق بعد، ويرده قوله تعالى (أعدت للمتقين) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الصحيحة.
(تلك) الجنة الموصوفة بالصفات المتقدمة وهو مبتدأ خبره (عقبى) أي عاقبة (الذين اتقوا) المعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم (وعقبى الكافرين النار) ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلا ذلك.
65
(والذين آتيناهم الكتاب) أي التوراة والإنجيل (يفرحون بما أنزل إليك) يا محمد وهم أهل الكتابين مطلقاً أو من أسلم منهم لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدقاً له.
وعلى الأخير يكون المراد بقوله (ومن الأحزاب من ينكر بعضه) من لم يسلم من اليهود والنصارى، وعلى الأول يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يماثلهم أو يكون المراد به بعض أهل الكتابين أي من أحزابهما، فإنهم أنكروه لما اشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما.
وقيل المراد بالكتاب القرآن والمراد بمن يفرح به المسلمون والمراد
65
بالأحزاب المتحزبون على رسول الله ﷺ من المشركين واليهود والنصارى، والمراد بالبعض الذي أنكروه ما خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم.
واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره واجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار بما يتجدد من الأحكام والتوحيد والنبوة والحشر بعد الموت، وقال كثير من المفسرين إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فأنزل الله (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) ففرحوا بذلك.
قال قتادة: الذين يفرحون أولئك أصحاب محمد ﷺ فرحوا بكتاب الله وصدقوا به وبرسله، والأحزاب اليهود والنصارى والمجوس، وقال ابن زيد: هؤلاء من آمن برسول الله ﷺ من أهل الكتاب يفرحون بذلك ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به.
ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يقول لهم ذلك فقال (قل إنما أمرت أن أعبد الله) وحده (ولا أشرك به) بوجه من الوجوه أي قل لهم يا محمد ذلك إلزاماً للحجة ورداً للإنكار إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل.
(إليه) أي إلى الله لا إلى غيره (أدعو) أو إلى ما أجمرت به وهو عبادة الله وحده والأول أولى لقوله (وإليه مآب) فإن الضمير لله سبحانه أي إليه وحده لا إلى غيره مرجعي يوم القيامة للجزاء، قال قتادة: إليه مصير كل عبد.
66
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)
ثم ذكر بعض فضائل القرآن وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعريض لرد ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال:
67
(وكذلك) الإنزال البديع (أنزلناه) أي القرآن مشتملاً على أصول الشرائع وفروعها.
وقيل المعنى وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم ولسانهم كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب (حكماً عربياً) يريد بالحكم ما فيه من الأحكام والنقض والإبرام أو أنزلناه حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ولغتها ليسهل عليها فهمها وحفظها وتحكم بها بين الناس فيما يقع لهم من الحوادث الفرعية وإن خالفت ما في الكتب القديمة إذ لا يجب عليك توافق الشرائع.
(ولئن) اللام هي الموطئة للقسم (اتبعت أهواءهم) التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء مما يعتقدونه (بعدما جاءك من العلم) الذي علمك الله إياه (مالك) ساد مسد جواب القسم والشرط (من الله) أي من جنابه (من ولي) يلي أمرك وينصرك (ولا واق) يقيك من عذابه والخطاب لرسول الله ﷺ تعريض لأمته لأن من هو أرفع منزلة وأعظم قدراً وأعلى رتبة إذا حذر كان غيره ممن هو دونه بطريق الأولى.
(ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية) أي أن الرسل الذين أرسلناهم من جنس البشر لهم أزواج من النساء ولهم ذرية توالدوا منهم
67
ومن أزواجهم ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية.
وفي هذا رد على من كان ينكر على رسول الله ﷺ تزوجه بالنساء أي أن هذا شأن رسل الله المرسلين قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه فإنه قد كان لسليمان ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية فلم يقدح ذلك في نبوته وكان لأبيه داود مائة امرأة وكانوا ينكحون ويأكلون ويشربون فكيف يجعل هذا قادحاً في نبوتك.
وعن الحسن عن سمرة قال: " نهى رسول الله ﷺ عن التبتل " (١) أخرجه ابن ماجة والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وعن سعد بن هشام قال: دخلت على عائشة وقلت: إني أريد أن أتبتل. قالت: لا تفعل أما سمعت الله يقول (ولقد أرسلنا رسلاً) الآية أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف وقد كان لرسول الله ﷺ سبعة أولاد أربع اناث وثلاثة ذكور وكانوا في الترتيب في الولادة هكذا القاسم فزينب فرقية ففاطمة فأم كلثوم فعبد الله ويلقب بالطيب والطاهر فإبراهيم وكلهم من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية وماتوا جميعاً في حياته إلا فاطمة فعاشت بعده ستة أشهر.
(وما كان) أي لم يكن (لرسول) من الرسل (أن يأتي بآية) من الآيات (إلا بإذن الله) سبحانه فإن شاء أظهر وإن شاء لم يظهرها وليس ذلك إلى الرسول لأن الرسل مربوبون ومقهورون ومغلوبون محكوم عليهم متصرف فيهم بتدبير أمرهم.
(لكل أجل كتاب) أي لكل أمر مما قضاه الله أو لكل وقت من
_________
(١) أحمد بن حنبل ٣/ ١٥٨ - ٢٤٥ - ٥/ ١٧ - ٦/ ١٢٥ - ١٥٧ - ٢٥٣.
68
الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم، وقال الفراء: فيه تقديم وتأخير، والمعنى لكل كتاب أجل أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ووقت معلوم كقوله سبحانه (لكل نبأ مستقر) وليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم بل على حسب ما يشاؤه الله ويختاره، وفيه رد لاستعجالهم الآجال والأعمار وإتيان المعجزات والعذاب، فقد كان يخوفهم بذلك فاستعجلوه عناداً فرد الله عليهم ذلك.
والمراد بالأجل هنا أزمنة الموجودات فلكل موجود زمان يوجد فيه محدود لا يزاد عليه ولا ينقص، والمراد بالكتاب صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ أو اللوح نفسه.
69
(يمحو الله ما يشاء ويثبت) أي يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه يقال محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره، قرئ مخففاً ومشدداً وعن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل هذه الآية ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرغ الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً لهم أي إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم ما يعطيهم وما يقسم لهم.
وقال ابن عباس: ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت، وعنه قال: هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله، وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله وقال أيضاً: هما كتابان يمح الله ما يشاء من أحدهما ويثبت.
وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإلى هذا ذهب عمر بن
69
الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم، وقيل الآية خاصة بالسعادة والشقاوة.
وقيل يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه الثواب والعقاب.
وقيل يمحو ما يشاء من الرزق، وقيل من الأجل، وقيل من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقيل يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء وقيل يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة.
وقيل يمحو الآباء ويثبت الأبناء.
وقيل يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) وقيل يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيرده إلى صاحبه.
وقيل يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها.
وقيل يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره والأول أولى كما يفيده ما في قوله ما يشاء من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله لكل أجل كتاب ومع قوله (وعنده أم الكتاب) أي جملة الكتاب قاله ابن عباس.
والمعنى أصله وهو اللوح المحفوظ، والأم أصل الشيء والعرب تسمى
كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما يقتضيه مشئيته.
وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله " جف القلم بما هو كائن " (١) وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله
_________
(١) المعنى جزء من حديث طويل من حديث رسول الله: يا غلام احفظ الله يحفظك....
70
سبحانه، وقيل أن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق.
قال ابن عباس: أن لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوتة والدفتان لوحان لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينزل في ثلاث ساعات تبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت " الحديث أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما.
ْوأخرج الطبراني بإسناد قال السيوطي ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة والحياة والممات " وعن ابن عباس قال " لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر " (١).
وقال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء. وعن عمر بن الخطاب أنه قال وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، واجعله سعادة ومغفرة. وعن ابن مسعود نحوه.
وقيل أم الكتاب الذكر قاله ابن عباس، وقد استدلت الرافضة على مذهبهم في البدء بهذه الآية، وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وقالوا إنه جائز على الله، وهو ظاهر الفساد لأن علمه سبحانه صفة قديمة أزلية لا يتطرق إليه التغيير والتبديل والمحو والإثبات من معلوماته الأزلية وليسا من البدء في شيء وقد علم ما هو خالق وما خلقه وما هم يعملون.
_________
(١) أحمد بن حنبل ٥/ ٢٣٤.
71
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (٤٣)
72
(وإما نرينك) ما زائدة وأصله وأن نرك (بعض الذي نعدهم) به من العذاب في حياتك كما وعدناهم بذلك بقولنا (لهم عذاب في الحياة الدنيا) وبقولنا (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة)، والمراد أريناك ما نعدهم قبل موتك، وجواب الشرط محذوف، أي فذاك شافيك من أعدائك ودليل على صدقك.
(أو نتوفينك) أي أو توفيناك قبل إراءتك لذلك، وجوابه أيضا محذوف أي فلا تقصير منك ولا لوم عليك، وقوله (فإنما عليك البلاغ) تعليل لهذا المحذوف، والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ، أي ليس عليك إلا تبليغ أحكام الرسالة ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم.
(وعلينا الحساب) أي محاسبتهم إذا صاروا إلينا يوم القيامة بأعمالهم ومجازاتهم عليها وليس ذلك عليك؛ وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله ﷺ وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به وليس عليه غيره، وأن من لم يجب دعوته ويصدق نبوته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترى عليه من ذلك.
(أولم يروا) يعني أهل مكة والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا، وفي ذلك
72
لم يروا (أنا نأتي الأرض) أي أرض الكفر كمكة (ننقصها من أطرافها) بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين.
قال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر، يقول أو لم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم فكيف لا يعتبرون وهذا قول قتادة وجماعة من المفسرين، وقيل أن معنى الآية ننقصها بموت العلماء والصلحاء. وقال ابن عباس: موت علمائها وفقائها وذهاب خيار أهلها. وعن مجاهد نحوه.
قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف، وقد قال ابن الأعرابي: الطرف الرجل الكريم، قال القرطبي: وهذا القول بعيد لأن مقصود الآية أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلا أن يحمل على فوت أحبار اليهود والنصارى.
قال الواحدي؛ التفسير الأول أولى لأن هذا القول وإن صح فلا يليق بهذا الموضع وبه قال الرازي، وقيل المراد خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها. قاله ابن عباس وبه قال مجاهد وعكرمة والشعبي وعطاء وجماعة من المفسرين أي نخربها ونهلك أهلها أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك.
وقيل المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم، وقيل المراد جور ولاتها حتى تنقص. وقال ابن عباس: نقصان أهلها وبركتها. وعنه إنما تنقص الأنفس والثمرات، وأما الأرض فلا تنقص.
(والله يحكم) ما يشاء في خلقه فيرفع هذا ويضع هذا، ويحصي هذا ويميت هذا ويغني هذا ويفقر هذا، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الشريف والعلم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى على ذي بصيرة.
73
(لا معقب لحكمه) أي لا راد لقضائه، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يقفيه بالرد والإبطال. قال الفراء: معناه لا راد لحكمه.
قال: والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه ولا يستدرك أحد عليه، ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يتعقب غريمه بالطلب، يعني أنه حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره، ومحل (لا) مع المنفي النصب على الحال، أي يحكم نافذاً حكمه خالياً من الدافع والمعارض والمنازع لا يتعقب أحد حكمه سبحانه بنقض ولا تغيير. قال ابن زيد: ليس أحد يتعقب حكمه فيرده كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده.
(وهو سريع الحساب) أي الانتقام فيحاسبهم بعد زمن قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل وأخرجهم من ديارهم في الدنيا فلا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، وقد تقدم الكلام في معناه قبل هذا، والمعنى فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته على السرعة.
74
(وقد مكر الذين من قبلهم) أي قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل فكادوهم وكفروا بهم، والمكر إيصال المكروه إلى الإنسان الممكور به من حيث لا يشعر، مثل مكر نمرود بإبراهيم وفرعون بموسى ويهود بعيسى؛ وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله ﷺ حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم ولا تأثير له وأن المكر كله لله لا اعتداد بمكر غيره فقال (فَلِلَّه المكر جميعاً) يعني عند الله جزاء مكرهم وفيه تسلية للنبي ﷺ وأمان له من مكرهم. وقال الواحدي: يعني جميع مكر الماكرين له ومنه أي هو من خلقه وإرادته، فالمكر جميعاً مخلوق له بيده الخير والشر وإليه النفع والضر، والمعنى أن المكر لا يضر إلا بإذنه وإرادته فإثباته لهم باعتبار الكسب ونفيه عنهم باعتبار الخلق.
74
ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره فقال (يعلم ما تكسب كل نفس) من خير وشر، فيجازيها على ذلك ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون (وسيعلم الكفار) جميعهم وقرئ الكافر على التوحيد أي جنس الكافر وقيل المراد بالكافر أبو جهل (لمن عقبى الدار) أي العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا أو في دار الآخرة أو فيهما.
75
(ويقول الذين كفروا) أي المشركون أو جميع الكفار خطاباً وشفاهاً لك (لست) يا محمد (مرسلاً) إلى الناس من عند الله فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صحة رسالتي وصدق دعواي ويعلم كذبكم (و) كذا يعلم ذلك (من عنده علم الكتاب) أي علم جنس الكتاب السماوي كالتوراة والإنجيل فإن أهلهما العالمين بهما كانوا يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وكعب الأحبار وتميم الداري ونحوهم وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك.
وقيل المراد بالكتاب القرآن ومن عنده علم منه هم المسلمون فأنهم يشهدون أيضاً على نبوته أو المراد من عنده علم اللوح المحفوظ وهو الله سبحانه قاله مجاهد وبه قال الحسن ومثله عن ابن عمر بسند ضعيف واختار هذا الزجاج، وقال لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون إني الذي أنزلت فيه ومن عنده علم الكتاب قالوا اللهم نعم، وعن ابن عباس هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى يشهدون بالحق ويعرفونه منهم ابن سلام والجارود، وعن الشعبي ما نزل في
75
ابن سلام شيء من القرآن، وعن سعيد بن جبير أنه سئل عن الآية أهو ابن سلام فقال: كيف وهذه السورة مكيّة وعبد الله أسلم بالمدينة، وعنه قال هو جبريل.
وهذه السورة مدارها كما في الكشف على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وأن السعيد من تمسك بحبله والشقي من أعرض عنه إلى آخر ما فصله.
وهنا أقول ما قاله الخفاجي اللهم اجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى، واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ثم أقول يا بركة النبي تعالي وانزلي ثم لا ترتحلي (١).
_________
(١) هذا الدعاء غير معهود من المؤلف، وفي النفس منه شيء.
76

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة إبراهيم عليه السلام
هي مكيّة قاله ابن عباس والزبير والحسن وعكرمة وجابر بن زيد وقتادة إلا آيتين منها، وقيل إلا ثلاث آيات نزلت في الذين حاربوا رسول الله - ﷺ - وهي قوله (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) - إلى قوله - (فإن مصيركم إلى النار)، وعن ابن عباس قال: هي مكيّة سوى آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين وهي اثنتان وخمسون آية.
77

بسم الله الرحمن الرحيم

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
79
Icon