تفسير سورة النّور

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة النور من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة... ﴾ ( ١ ) [ النور : ٢ ] الآية.
إن قلتَ : لم قدّم المرأة في آية " حدّ الزنى " وأُخّرت في آية " حدّ السرقة " ؟
قلتُ : لأن الزنى إنما يتولد من شهوة الوقاع، وهي في المرأة أقوى وأكثر، والسّرقة إنما يتولد من الجسارة، والقوة، والجرأة، وهي من الرجل أقوى وأكثر.
فإن قلتَ : فلم قدّم الرجل في قوله تعالى :﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ﴾ [ النور : ٣ ].
قلتُ : لأن تلك الآية في الحدّ، والمرأة هي الأصل فيه لما مرّ، وهذه الآية في حكم النكاح، والرجل هو الأصل فيه، لأنه الراغب والمبادر في الطلب، بخلاف الزّنى فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.
١ - سورة النور آية (٢) وإنما بدأ في الزنى بالمرأة، وفي السرقة بالرجل، لأن الزنى من المرأة أقبح، وجُرمه أشنع، فبدأ بها ﴿الزانية والزاني﴾ وأما السرقة فالرجل عليها أجرأ، وهو عليها أقدر، ولذلك بدأ به ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾..
قوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله توّاب حكيم ﴾ [ النور : ١٠ ]، كرّره لاختلاف الأجوبة فيه( ١ ).
إذ جواب الأول محذوف تقديره : لفضحكم.
وجواب الثاني قوله :﴿ لمسّكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ﴾ [ النور : ١٤ ] الآية.
وجواب الثالث محذوف تقديره : لعجّل لكم العذاب.
وجواب الرابع ﴿ ما زكّى منكم من أحد أبدا ﴾ [ النور : ٢١ ].
١ - كرّر لفظ ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته﴾ أربع مرات في أربع آيات، في هذه السورة الكريمة:
الأولى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم﴾ آية (١٠).
الثانية: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم﴾ آية (١٤).
الثالثة: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم﴾ آية (٢٠).
الرابعة: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا﴾ آية (٢١)..

قوله تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم... ﴾ [ النور : ٣٠ ] الآية.
إن قلتَ : ما فائدة ذكر " مِنْ " في غضّ البصر، دون حفظ الفرج ؟
قلتُ : فائدته الدلالة على أن حكم النظر أخفّ من حكم الفرج، إذْ يحلّ النظر إلى بعض أعضاء المحارم، ولا يحلّ شيء من فروجهنّ.
قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن... ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية.
إن قلتَ : لم ترك ذكر الأعمام والأخوال، مع أنّ حكمهما حكم من استثني ؟
قلتُ : تركهما كما ترك محرّم الرضاع، أو لفهمهما من بني الإخوان، وبني الأخوات، بالأولى أو بالمساواة.
والجواب : أنه لم يُذكر من المستثنى، إلا من اشترك هو وابنه في المحرميّة، لأن من لم يشاركه ابنه فيها، كالعمّ والخال، قد يصف محرمه عند ابنه، وهو ليس بمحرم لها، فيُفضي إلى الفتنة، نُقض بأن إفضاء الفتنة، يأتي في " آباء بعولتهن " فقد يذكر أبو البعل، محرمه عند ابنه الآخر، وليس بمحرم لها( ١ ).
١ - هذا هو الخبر للمبتدأ وهو قوله "والجواب"، وإنما لم يذكر العمّ والخال، لأن العمّ بمنزلة الأب، والخال كذلك بمنزلة الأم، وكلّ من الاب والأم من المحارم، فكذلك العمّ والخال، والله أعلم..
قوله تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنا... ﴾ [ النور : ٣٣ ] الآية.
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن إكراههنّ على الزنى حرام، وإن لم يُردن التحصّن ؟
قلتُ : الشرط هنا لا مفهوم له، لخروجه مخرج الغالب من أنّ إكراههن إنما يكون مع إرادتهن التحصّن، ولوروده على سبب، وهو أن الجاهلية كانوا يُكرهون إماءهم على الزنى، مع إرادتهن التحص، أو أنّ " إنْ " بمعنى " إذ " كما في قوله تعالى :﴿ وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ] وقوله :﴿ وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ].
قوله تعالى :﴿ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيّنات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم... ﴾ [ النور : ٣٤ ].
قاله هنا بذكر الواو، و " إليكم " وقاله بعدُ بحذفهما( ١ )، لأن اتصال ما هنا بما قبله أشدّ ؛ إذ قوله بعدُ ﴿ وموعظة للمتقين ﴾ [ النور : ٣٤ ] مصروف إلى الجُمَل السابقة من قوله :﴿ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ﴾ [ النور : ٣٤ ] إلى آخره، وفيه معطوفان بالواو، فناسب ذكرُهما العطف، وذكر " إليكم " ليُفيد أن الآيات المبيّنات، نزلت في المخاطبين في الجُمل السّابقة، وما ذُكر بعدُ خال عن ذلك، فناسبه الاستئناف والحذف.
١ - في قوله تعالى: ﴿لقد أنزلنا آيات مبيّنات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾ النور آية (٤٦)..
قوله تعالى :﴿ الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح... ﴾ [ النور : ٣٥ ] الآية، أي مثل صفة نوره تعالى، كصفة نور مشكاة فيها مصباح، المصباح في " زُجاجة " هي القنديل، والمصباح : الفتيلة الموقودة، والمشكاة : الأنبوبة في القنديل( ١ )، فصار المعنى : كمثل نور مصباح، في مشكاة، في زجاجة.
فإن قلتَ : لم مثّل الله نوره –أي معرفته- في قلب المؤمن، بنور المصباح دون نور الشمس، مع أن نورها أتمّ ؟
قلتُ : لأن المقصود تمثيل النور في القلب، والقلب في الصّدر، والصّدر في البدن كالمصباح، والمصباح في الزجاجة، والزجاجة في القنديل.
وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذُكر، ولأن نور المعرفة له آلات، يتوقّف هو على اجتماعها، كالذّهن، والفهم، والعقل، واليقظة، وغيرها من الصفات الحميدة، كما أنّ نور القنديل، يتوقف على اجتماع القنديل، والزيت، والفتيلة وغيرها، أو لأن نور الشمس يُشرق متوجها إلى العالم السّفلي، ونور المعرفة يُشرق متوجها إلى العالم العُلويّ، كنور المصباح.
ولكثرة نفع الزيت، وخلوصه عمّا يخالطه غالبا، وقع التشبيه في نوره، دون نور الشمس، مع أنه أتمّ من نور المصباح.
١ - الصحيح أن المشكاة هي الفتحة في الحائط –أعني الطاقة- والآية الكريمة وردت على سبيل التشبيه والتمثيل، حيث مثّل تعالى لنور معرفته في قلب عبده المؤمن، بالمصباح الوضّاء، الموجود في طاقة الحائظ، هذا المصباح في قنديل من الزجاج الصافي، كأنه في صفاته وضيائه، شبيه بالكوكب الوقّاد في الحسن والبهاء، زيت هذا المصباح يخرج من شجرة زيتونة مباركة، يكاد هذا الزيت من صفاته وحسن ضيائه يضيء ولو لم تمسسه النار، والمقصود تمثيل لنور في قلب المؤمن بنور المصباح، ولما كان القلب في الصدر، ناسب التمثيل له بالمصباح في كوّة الحائط والجدار، قال شيخ المفسرين الإمام الطبري: ذلك مثل ضربه الله عز وجل، للقرآن في قلب أهل الإيمان، فقال: مثل نور الله الذي أنار لعباده سبيل الرشاد، مثل كوّة في الحائط، لا منفذ لها، فيها مصباح أي سراج، وهذا السراج مثل لما في قلب المؤمن، من القرآن والآيات البيّنات، فاستنار قلب المؤمن بنور القرآن، وخلُصَ من الشك والكفر. اﻫ تفسير الطبري، أقول: وهذا كله على سبيل التمثيل، ولهذا ختم تعالى الآية بقوله: ﴿ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾..
قوله تعالى :﴿ رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة... ﴾ [ النور : ٣٧ ].
إن قلتَ : لم عطف البيع على التجارة مع شمولها له ؟
قلتُ : لأن التجارة هي التصرّف في المال لقصد الريح، والبيع أعمّ من ذلك، فعطفه عليها، لئلا يُتوهّم القصور على بيع التجارة.
أو أُريد بالتجارة : الشراء لقصد الربح، وبالبيع : البيع مطلقا.
قوله تعالى :﴿ والله خلق كلّ دابة من ماء... ﴾ [ النور : ٤٥ ].
إن قلتَ : لم خصّ الدابة بالذّكر، مع أن غيرها مثلها، كما شمله قوله في الأنبياء :﴿ وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ].
قلتُ : لأن القدرة فيها أظهر وأعجب منها في غيرها.
قوله تعالى :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع... ﴾ [ النور : ٤٥ ].
فيه مجاز التغليب، حيث استعمل " مَنْ " وهي لمن يعقل في غيره، لوقوعه تفصيلا لما يعمّهما، وهو " كلّ دابة ".
وفيه أيضا : مجاز التشبيه، إذ إسناد ما ذُكر إلى الحيّة، زحف لا مشي، لكنه يشبهه في السّير.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم... ﴾ [ النور : ٥٨ ].
إن قلتَ : كيف أمر الله تعالى بالاستئذان لهم، مع أنهم غير مكلّفين ؟
قلتُ : الأمر في الحقيقة لأوليائهم ليؤدّبوهم.
قوله تعالى :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا... ﴾ [ النور : ٥٩ ] الآية.
ختمها بقوله :﴿ كذلك يبيّن الله لكم آياته ﴾ [ النور : ٥٩ ] بالإضافة إليه.
وختم ما قبلها وما بعدها بقوله :﴿ كذلك يبيّن الله لكم الآيات ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] بالتعريف ب " أل " لأنهما يشتملان على علامات، يمكننا الوقوف عليها، وهي في الأول ﴿ من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ﴾ [ النور : ٥٨ ].
وفي الأخيرة ﴿ من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ﴾ [ النور : ٦١ ] الآية.
فختم الآيتين بقوله :﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات ﴾ وأما بلوغ الأطفال، فلم يُذكر له علامات، يمكننا الوقوف عليها، بل تفرّد تعالى بعلمه بذلك، فخصّها بقوله ﴿ كذلك يبيّن الله لكم آياته ﴾ بالإضافة إليه.
قوله تعالى :﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا... ﴾ [ النور : ٦٠ ] الآية.
إن قلتَ : كيف أباح تعالى بذلك للقواعد من النساء –وهنّ العجائز- التجرّد من الثياب بحضرة الرجال ؟   !
قلتُ : المراد بالثياب الزائدة على ما يسترهنّ، وسُمّيت العجوز قاعدا، لكثرة قعودها( ١ ) قاله ابن قتيبة.
١ - الصحيح أنها سُمّيت قاعدا لأنها قعدت عن طلب الزواج لكبر سنّها، وقيل: قاعد بغير تاء لأنه خاصّ بالنساء كطامث، وحائض، ومرضع..
قوله تعالى :﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ [ النور : ٦١ ] الآية، أي من بيوت أولادكم وعيالكم، وإلا فانتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم.
قوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله... ﴾ [ النور : ٦١ ] الآية، أي قولوا : السلام –أي من الله- علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن الملائكة تردّ عليكم، هذا إن لم يكن بها أحد، وإلا فقولوا : السلام عليكم.
قوله تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره... ﴾ [ النور : ٦٣ ] الآية.
إن قلتَ : كيف عدّى خالف ب " عن " مع أنه يتعدّى بنفسه ؟   !
قلتُ : ضَمّن ب " خالف " معنى " يُعرض " أو " يعدل " فعدّاه تعديته ؛ أو عن متعلّق بمحذوف تقديره : أو يعدلون عن أمره، أو هي زائدة على قول الأخفش.
Icon