تفسير سورة فاطر

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
والآن وقد انتهينا بفضل الله وعونه من تفسير سورة سبأ المكية نشرع بحول الله وقوته في تفسير سورة فاطر المكية أيضا، وتسمى أيضا سورة ( الملائكة ) وإنما أطلق عليها سورة فاطر وسورة الملائكة معا، لقول الله تعالى في الآية الأولى منها :﴿ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا ﴾.

وقد افتتح كتاب الله هذه السورة الكريمة بتمجيد الله والثناء عليه، تلقينا لعباده المؤمنين، حتى يقدروا الله حق قدره، ويلتزموا طاعته والوقوف عند نهيه وأمره، مبينا أن أحق من يحمده العباد ويعبدونه هو المنعم عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الأمداد، خالق الأرض والسماء، وما فيهما من جمادات وأحياء، ومرسل الملائكة إلى الرسل والأنبياء، لهداية الإنسانية جمعاء، وذلك قوله تعالى :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم. الحمد لله فاطر السماوات والأرض ﴾، أي : خالقهما، ﴿ جاعل الملائكة رسلا ﴾، أي : بينه وبين الأنبياء، كما قال تعالى في آية أخرى ( ٥١ : ٤٢ )، ﴿ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، إنه علي حكيم ﴾، ﴿ أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ﴾، أي : رسلا لتبليغ الأوامر الإلهية، وتنفيذ مقتضياتها في العوالم العلوية والسفلية، ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾( ٣١ : ٧٤ )، ﴿ يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير( ١ ) ﴾، أي : إن الله تعالى يفعل ما يشاء ويختار، لا تحد قدرته حدود، ولا تقيد مشيئته قيود، فعملية الخلق لا تنقطع على مر الأيام، وخلقه قابل للزيادة والتطور على الدوام، ومن ذلك ما تتمايز به الأفراد والأقوام، رغم اشتراكها مع غيرها في التكوين العام، قال جار الله الزمخشري عند تفسير قوله تعالى هنا :﴿ يزيد في الخلق ما يشاء ﴾ :( والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال وصورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأن في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك، مما لا يحيط به الوصف ).
ثم بين كتاب الله إلى أي حد تبلغ سعة رحمة الله وسعة قدرته، منبها إلى أنه لا أحد في الكون يستطيع كف رحمته وإمساكها، في الوقت الذي تقتضي حكمته إرسالها، كما أنه لا أحد في الكون يستطيع إرسال رحمته، في الوقت الذي تقتضي حكمته إمساكها، وفي كلا الأمرين حكمة إلهية بالغة، ومصلحة محققة لنفس الإنسان، ﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾ ( ٢١ : ١٥ )، وذلك قوله تعالى :﴿ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم( ٢ ) ﴾، ومن رحمته إرسال الرسل وإنزال الكتب، وتصريف الرياح وإثارة السحب، ومن رحمته الهداية والتوفيق، إلى أقوم طريق، والتوبة من الذنوب، وتفريج الكروب. وقوله تعالى :﴿ من رحمة ﴾، بالتنكير يتناول جميع أنواع الرحمات في السر والعلن، ما ظهر منها وما بطن.
ووجه كتاب الله في هذا الربع خطابين اثنين إلى الناس أجمعين، لا فرق بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ففي الخطاب الأول دعاهم إلى الإفاقة من سكرتهم وغفلتهم، واستحضار نعمة الله عليهم، والقيام بالشكر الواجب في حقهم، وذكرهم بأن كل ما يتصرفون فيه من أرزاق ويتقلبون فيه من نعم، إنما هو من فضله العميم، وعطائه الكريم، ثم نعى عليهم انصرافهم عن شكره، وتحديهم لأمره، وذلك قوله تعالى :﴿ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ﴾، ومن رزق السماء المطر، ومن رزق الأرض النبات، وبدونهما لا يمكن للنوع الإنساني عيش ولا اقتيات، ﴿ لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون( ٣ ) ﴾ من ( الافك ) بالكسر، وهو ممارسة الكذب، أو من ( الأفك ) بالفتح وهو الصرف عن الأمر والانصراف عنه.
وعقب كتاب الله على ذلك بأن ما تتعرض له رسالة الرسول من شغب وتشويه لا ينال مقام الرسول بسوء، وأن القول الأخير والفصل في شأن خصوم الرسالات، سيتم يوم الفصل، وذلك قوله تعالى :﴿ وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك، وإلى الله ترجع الأمور( ٤ ) ﴾.
وفي الخطاب الثاني الموجه إلى الناس كافة مثل الأول، دعاهم كتاب الله إلى التخلي عن الظن والشك والوهم والتخمين، والإيمان باليوم الآخر بجميع سوابقه ولواحقه عن بينة ويقين، وحضهم على الاعتدال في الأخذ من حظوظ الدنيا، بغية التفرغ لحقوق الآخرة، لإقامة توازن وتكامل بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وذلك قوله تعالى :﴿ ياأيها الناس إن وعد الله حق ﴾، ووعده الحق هو التعرض للموت والبعث والثواب والعقاب﴿ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ﴾، والغرور هو استغراق العمر كله أو جله في التمتع بلذاتها، ونسيان الآخرة بعدم الاستعداد لعواقبها، والغفلة عن التفكير في تبعاتها، ﴿ ولا يغرنكم بالله الغرور( ٥ ) ﴾، هذا تحذير من وساوس الشيطان، الذي تعهد، منذ استخلاف آدم في الأٍرض، بخداع الإنسان، ﴿ يعدهم ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾ ( ١٢٠ : ٤ )، ﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا، إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير( ٦ ) ﴾.
وتعريفا بما يؤول إليه أمر الكافرين والمؤمنين في الآخرة، قال تعالى :﴿ الذين كفروا لهم عذاب شديد، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير( ٧ ) ﴾.
وحيث إن الرسول عليه السلام كان يغتم كثيرا، ويحزن حزنا كبيرا، لإصرار المشركين على شركهم، والكافرين على كفرهم، والمنافقين على نفاقهم، دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى الرفق بنفسه، إذ ليس عليه هداهم، وإنما عليه البلاغ، وذلك قوله تعالى :﴿ أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إن الله عليم بما يصنعون( ٨ ) ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة آل عمران ( ١٧٦ ) :﴿ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، إنهم لن يضروا الله شيئا ﴾.
واستعرض كتاب الله في هذا السياق، جملة من آيات الله في الأنفس والآفاق، ليذكر بها من يمرون عليها وهم عنها معرضون.
ومن آيات الله في الآفاق قوله تعالى :﴿ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا، فسقناه إلى بلد ميت، فأحيينا به الأرض بعد موتها، كذلك النشور( ٩ ) ﴾، أي : أن بعث الأموات يماثل إحياء الأرض الموات،
ولنعد الآن إلى الآية الكريمة التي تخللت آيات الله في الأنفس والآفاق، قال تعالى :﴿ من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ﴾، أي : من طلب العزة من الله بافتقار وخضوع، وخشية وخشوع، وجدها عنده غير ممنوعة ولا محجوبة، لأنها بالصدق والإخلاص مطلوبة، ومن طلبها من سواه، لم ينل مناه. قال تعالى :﴿ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾، أي : إن العمل الصالح إذا تعاضد مع القول الطيب زاد في قبوله ورفعه، وضاعف من حسن وقعه، كما أن القول الطيب إذا تعاضد مع العمل الصالح كان العمل به أتم وأكمل، وأشرف وأفضل. قال ابن عطية ( والحق أن العاصي إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له، متقبل منه، وله حسناته، وعليه سيئاته ). وقال تعالى :﴿ والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد، ومكر أولئك هو يبور( ١٠ ) ﴾، أي : أن من يمكر بالناس ويوهمهم أنه في طاعة الله، كذبا ورياء، سيعذبه الله في الآخرة، وسيكشف زيفه في الدنيا، فمن أسر سريرة ألبسه الله رداءها.
ومن آيات الله في الأنفس قوله تعالى :﴿ والله خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم جعلكم أزواجا، وما تحمل من أنثى، ولا تضع إلا بعلمه، وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، إن ذلك على الله يسير( ١١ ) ﴾، قال سعيد بن جبير :( ما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره، وبذلك تتفق هذه الآية مع قوله تعالى ( ٤٩ : ١٠ )، ﴿ إذا جاء أجلهم فلا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وما يستوي البحران ﴾، أي : ما تستوي البحار وكبريات الأنهار، ﴿ هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها، وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون( ١٢ ) ﴾، وقد كان المتعارف بين الناس أن الحلية إنما تستخرج من البحار، لكن أثبت البحث الآن أنها تستخرج حتى من بعض الأنهار، مصداقا لما ورد في القرآن، وفسرت الحلية في هذا المقام باللؤلؤ والمرجان.
وقوله تعالى :﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى ﴾، والأجل المسمى ( هو الذي يتوقف فيه جريان الشمس والقمر )، ﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار ﴾( ٤٨ : ١٤ ).
وقوله تعالى :﴿ ذلكم الله ربكم له الملك ﴾، أي : أن الله تعالى هو الذي بيده الملك والملكوت، وعنده خزائن السماوات والأرض، فهو الخالق والرازق والمدبر الذي يدبر الأمر، وما يتصرف فيه الإنسان - انطلاقا من نفسه التي بين جنبيه - إنما هو عارية مستردة على وجه الارتفاق والانتفاع، ولا يملك أحد- على وجه التحقيق - ملكية مطلقة، حتى القشرة الرقيقة البيضاء، التي تفصل بين التمرة والنواة، وهي ما يطلق عليه اسم ( القطمير )، ﴿ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير( ١٣ ) ﴾.
وختم هذا الربع بتسفيه معتقدات الشرك، وإقامة الحجة على المشركين الذين تتعلق آمالهم ( بشركاء ) عاجزين، لا ينفعونهم في الدنيا، ويتبرؤون منهم في الآخرة، وذلك قوله تعالى :﴿ إن تدعوهم لا يسمعون دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم ﴾، وحيث أن الحق سبحانه وتعالى هو وحده الذي يعلم السر في السماوات والأرض، ولا أحد أخبر منه بخلقه، قال تعالى :﴿ ولا ينبئك مثل خبير( ١٤ ) ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى ( ١٤ : ٦٧ ) :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.
الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعين من المصحف الكريم
بعدما دعا كتاب الله في الربع الماضي الناس كافة، البر منهم والفاجر، والمؤمن والكافر، إلى أن يتذكروا نعمة الله عليهم، ومدده الواصل دون انقطاع إليهم، إذ قال تعالى :﴿ يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ﴾، وبعدما أعلن للجميع أن الله تعالى هو وحده مالك الملك، لا يشاركه في ملكه أحد، إذ قال تعالى :﴿ ذلكم الله ربكم له الملك ﴾، عقب على ذلك في بداية هذا الربع بتقرير حقيقة كونية وبشرية لا مفر لكل إنسان من الاعتراف بها، ولو حاول أن يتجاهلها ويتغافل عنها، ألا وهي أن النوع الإنساني وإن بلغ ما بلغ من العتو والاستكبار، والادعاء العريض للسعة والغنى والتحكم في مجاري الأقدار، كان ولا يزال وسيظل يتعثر في أذيال الفقر والاحتياج باستمرار، وذلك قوله تعالى هنا يخاطب الناس جميعا، حتى يخففوا من غلوائهم، ويتراجعوا عن غرورهم وادعائهم :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ﴾، فقراء إلى توجيهه وهدايته، فقراء إلى توفيقه ورعايته، فقراء إلى رزقه ورحمته، فقراء إلى عفوه ومغفرته، وأنتم من بين جميع الخلائق أشد الخلائق افتقارا إليه، واضطرارا إلى الاعتماد عليه، لتنوع حاجاتكم، وكثرة رغباتكم، وما أنتم عليه من إغراق في الخيال، وتعلق شديد بالأماني والآمال، وعناد وإلحاح ودلال، ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾( ٢٨ : ٤ )، فالفقر هو صفة الإنسان الطبيعية، وغناه الطارئ إنما هو مجرد عارية، والغنى الحقيقي والمطلق والدائم هو صفة الذات العلية ﴿ والله هو الغني ﴾، وكل ما تتقلبون فيه من النعم الظاهرة والباطنة إنما هو من صنع الله، وهبة مهداة إليكم من الله، وقوله تعالى :﴿ الحميد( ١٥ ) ﴾ بعد وصفه ( بالغني ) إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى وإن انفرد بوصف الغنى الحقيقي دون عباده الفقراء، فإنه لا يبخل عليهم بالإمداد المتواصل والعطاء، وإذن فليس في وصف الله لهم بالفقر أي تحقير أو ازدراء، وإنما هو نوع من الإثارة والتنبيه والإغراء، والذين يقدرون نعم الله عليهم حق قدرها، لابد أن يحمدوا المنعم بها ويؤدوا واجب شكرها، فهو( غني ) يسد فقرهم، ( حميد ) يستحق شكرهم، ﴿ وإن تشكروا يرضه لكم ﴾( ٧ : ٣٩ ).
ويكفي أن يتذكر الإنسان ما يصيبه من حيرة وذهول، عندما يفاجأ بما لم يكن في الحسبان، فتختل موازين حياته العادية، ويشعر بأنه قد نزلت بساحته أكبر داهية، وبذلك يظهر الفقر الطبيعي للإنسان، ويتجلى عجزه البالغ للعيان، ولا تعود حياته سيرتها الأولى إلا إذا حفته الألطاف الخفية، فمن الله عليه، وأمده من جديد بما يحتاج إليه، وصدق الله العظيم إذ قال في فاتحة هذه السورة :﴿ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وهو العزيز الحكيم ﴾.
وتنبيها للغافلين السادرين في غفلتهم، وتحذيرا للعصاة المصرين على عصيانهم، المتمردين على طاعة الله، والمتعدين حدود الله، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، شعوبا أو دولا أو حكومات، خاطبهم الحق سبحانه وتعالى منذرا ومحذرا، فقال تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( ١٦ ) ﴾.
ذلك أن الله تعالى لم يستخلف الإنسان في الأرض ليفسد فيها ويسفك الدماء، ويمارس المنكر والفحشاء، وإنما استخلفه ليقيم فوق سطحها دولة الفضيلة والصلاح والعدل والإخاء، وهو سبحانه وتعالى قادر على أن يعاقب الإنسان بالسلب بعد العطاء، متى أخل برسالة الخلافة وأهملها، ولم يتعظ بعاقبة السوء التي أصابت كل من تنكر لها وعطلها، وصدق الله العظيم إذ قال ( ١٣٣ : ٦ ) :﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾، وإذ قال ( ١٣٣ : ٤ :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ﴾.
وليؤكد كتاب الله إمكان هذا التأديب الإلهي الصارم، قال تعالى :﴿ وما ذلك على الله بعزيز( ١٧ ) ﴾، أي : ليس ذلك على قدرة الله وحكمته بمتعذر ولا ممتنع، بل هو أمر واقع، ليس له من دافع، فكم من أجيال فاسدة لقيت مصرعها ودخلت في خبر كان، فحلت محلها أجيال صالحة، لأن كفتها أصبحت في كف القدر وميزان الحق راجحة.
على أن قوله تعالى هنا في سورة فاطر المكية :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز ﴾، إنما هو تأكيد جديد لنفي الإنذار الإلهي الذي سبق في سورة إبراهيم المكية أيضا، في مثل هذا السياق، وبنفس اللفظ والمعنى، حيث قال تعالى ( ٢٠ ) :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد، ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( ١٦ ) وما ذلك على الله بعزيز( ١٧ ) ﴾، وسيجدد كتاب الله التذكير بهذه الحقائق مرة أخرى في سورة ( محمد ) عند قوله تعالى ( ٣٨ ) :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:وتنبيها للغافلين السادرين في غفلتهم، وتحذيرا للعصاة المصرين على عصيانهم، المتمردين على طاعة الله، والمتعدين حدود الله، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، شعوبا أو دولا أو حكومات، خاطبهم الحق سبحانه وتعالى منذرا ومحذرا، فقال تعالى :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( ١٦ ) ﴾.
ذلك أن الله تعالى لم يستخلف الإنسان في الأرض ليفسد فيها ويسفك الدماء، ويمارس المنكر والفحشاء، وإنما استخلفه ليقيم فوق سطحها دولة الفضيلة والصلاح والعدل والإخاء، وهو سبحانه وتعالى قادر على أن يعاقب الإنسان بالسلب بعد العطاء، متى أخل برسالة الخلافة وأهملها، ولم يتعظ بعاقبة السوء التي أصابت كل من تنكر لها وعطلها، وصدق الله العظيم إذ قال ( ١٣٣ : ٦ ) :﴿ إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ﴾، وإذ قال ( ١٣٣ : ٤ :﴿ إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين ﴾.
وليؤكد كتاب الله إمكان هذا التأديب الإلهي الصارم، قال تعالى :﴿ وما ذلك على الله بعزيز( ١٧ ) ﴾، أي : ليس ذلك على قدرة الله وحكمته بمتعذر ولا ممتنع، بل هو أمر واقع، ليس له من دافع، فكم من أجيال فاسدة لقيت مصرعها ودخلت في خبر كان، فحلت محلها أجيال صالحة، لأن كفتها أصبحت في كف القدر وميزان الحق راجحة.
على أن قوله تعالى هنا في سورة فاطر المكية :﴿ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز ﴾، إنما هو تأكيد جديد لنفي الإنذار الإلهي الذي سبق في سورة إبراهيم المكية أيضا، في مثل هذا السياق، وبنفس اللفظ والمعنى، حيث قال تعالى ( ٢٠ ) :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد، ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد( ١٦ ) وما ذلك على الله بعزيز( ١٧ ) ﴾، وسيجدد كتاب الله التذكير بهذه الحقائق مرة أخرى في سورة ( محمد ) عند قوله تعالى ( ٣٨ ) :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾.

ونظرا لأن الدنيا دار ازدواج وامتزاج يوجد فيها الصالح والطالح، والعاصي والمطيع، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فإن كتاب الله اعتبر كل شخص مسؤولا عن عمله الخاص من صلاح أو فساد، وطاعة أو معصية، ولم يعتبره مسؤولا شخصيا عن عمل غيره من الناس، وإن كانت عاقبة فساد المفسدين قد تعم الجميع في الحياة الدنيا، فتهلك الحرث والنسل، وتحرق الأخضر واليابس، على حد قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل :( أنهلك وفينا الصالحون ؟ ) قال :( نعم، إذا كثر الخبث ).
وهذا المبدأ، مبدأ المسؤولية الفردية، المتعلقة بكل شخص بمفرده، يوم الجزاء، وأمام القضاء، قرره كتاب الله وأكده في غير ما سورة وغير ما آية. وورد بنفس اللفظ والمعنى في سورة الأنعام :( ١٦٤ )، وسورة الإسراء :( ١٥ )، وسورة الزمر( ٧ )، وسورة النجم :( ٣٨ )، وهنا في سورة فاطر، حيث قال تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾، وهذه السورة كلها مكية، مما يدل على أن مبدأ مسؤولية كل فرد عن عمله الخاص، وعدم مؤاخذته بعمل غيره، ولا مؤاخذة الغير بعمله، يكون جزءا لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، وأصلا أساسيا من أصول التشريع الإسلامي، ومن بين الآيات التي قررت وأكدت هذا المبدأ العادل قوله تعالى ( ٢١ : ٥٢ ) :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾، وقوله تعالى ( ٣٩ : ٥٣ ) :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزياه الجزاء الأوفى ﴾، وذلك على خلاف المعمول به في عرف الطغاة المستبدين، قديما وحديثا، من مؤاخذة الفرد بعمل غيره، وإن كان لا دخل له فيه من قريب ولا من بعيد.
وليوضح كتاب الله ثقل المسؤولية الشخصية، الملقاة على عاتق كل فرد، صور لنا الشخص وهو يمشي مثقلا بأوزاره، يلتمس من رفاقه في القافلة إعانته والتخفيف عنه، فلا يستجيب له أحد، ولو كان من أقرب الأقربين، لأن كل واحد منهم ينوء بحمله الخاص، ولسان حاله يقول :﴿ نفسي نفسي ﴾، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في إيجاز وإعجاز :﴿ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء، ولو كان ذا قربى ﴾، على غرار قوله تعالى في آية أخرى( ٣٧ : ٨٠ ) ﴿ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾.
وقوله تعالى خطابا لنبيه :﴿ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب، وأقاموا الصلاة ﴾، إشارة إلى أن الموعظة الحسنة إنما تحدث أثرها، وتؤتي أكلها على الوجه الأكمل، عندما يكون المستمع إليها والمنتفع بها ممن يؤمن بالله، ويؤدي حقوق الله، ومن فعل ذلك وأقبل على ممارسة العمل الصالح عادت بركته عليه، وانجر نفعه إليه، فعاش عيشة طيبة طاهر القلب، طاهر العرض، زكي النفس :﴿ ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ﴾، أما الله تعالى فهو غني عن عباده غنى مطلقا، بحيث لا تنفعه طاعتهم، ولا تضره معصيتهم، ﴿ وإلى الله المصير( ١٨ ) ﴾، أي : إليه سبحانه مرجع الخلق أجمعين، العصاة منهم والطائعين، ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾( ٤٩ : ١٨ ).
وتصويرا للبون الشاسع بين المؤمن وغير المؤمن، حتى إن الفرق بينهما يماثل الفرق بين الأعمى والبصير، قال تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير( ١٩ ) ﴾، ومثل كتاب الله أوهام الشرك وضلالات الكفر ( بالظلمات )، وحقيقة الإيمان والتوحيد ( بالنور )، فقال تعالى :﴿ ولا الظلمات ولا النور( ٢٠ ) ﴾، أي : لا تستوي الظلمات والنور أبدا، وحيث أن مغالطات الشرك ووجوه الكفر متعددة لا تحصى جاءت كلمة ( الظلمات ) المعبرة عنها بصيغة الجمع، على خلاف حقيقة الإيمان والتوحيد، التي هي حقيقة واحدة لا تقبل التعدد، فجاء لفظ ( النور ) المعبر عنها بصيغة المفرد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩:وتصويرا للبون الشاسع بين المؤمن وغير المؤمن، حتى إن الفرق بينهما يماثل الفرق بين الأعمى والبصير، قال تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير( ١٩ ) ﴾، ومثل كتاب الله أوهام الشرك وضلالات الكفر ( بالظلمات )، وحقيقة الإيمان والتوحيد ( بالنور )، فقال تعالى :﴿ ولا الظلمات ولا النور( ٢٠ ) ﴾، أي : لا تستوي الظلمات والنور أبدا، وحيث أن مغالطات الشرك ووجوه الكفر متعددة لا تحصى جاءت كلمة ( الظلمات ) المعبرة عنها بصيغة الجمع، على خلاف حقيقة الإيمان والتوحيد، التي هي حقيقة واحدة لا تقبل التعدد، فجاء لفظ ( النور ) المعبر عنها بصيغة المفرد.
ثم قال تعالى :﴿ ولا ظل ولا الحرور( ٢١ ) ﴾، إشارة الى ما يكرم الله به المؤمنين من عباده في الجنة من الظل الظليل والنعيم المقيم، وما يسلطه على المشركين والكفرة في حر جهنم من العذاب الأليم، وذلك علاوة على ما تنعم به قلوب المؤمنين في الحياة الدنيا من سكينة وطمأنينة، وما تكون عليه قلوب غيرهم من قلق وبلبلة واضطراب، وتعرض لانهيار الأعصاب، لأتفه الأسباب.
وقوله تعالى :﴿ وما يستوي الأحياء ولا الأموات ﴾، إشارة إلى أن التفاوت بين المؤمن وغير المؤمن قد تتسع شقته، فيتجاوز درجة الفرق بين الأعمى والبصير، ليصل إلى درجة الفرق بين الحي والميت، نظرا لرسوخ الكفر في قلب الكافر، وتبلد حسه الباطن والظاهر، وسبق في سورة الأنعام قوله تعالى ( ١٢٢ ) :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾.
ثم قال تعالى مكتفيا من رسوله الأمين بما قام به من تبليغ وإنذار، في حق من أصر على كفره بالغ الإصرار :﴿ إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور( ٢٢ ) إن أنت إلا نذير( ٢٣ ) ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:وقوله تعالى :﴿ وما يستوي الأحياء ولا الأموات ﴾، إشارة إلى أن التفاوت بين المؤمن وغير المؤمن قد تتسع شقته، فيتجاوز درجة الفرق بين الأعمى والبصير، ليصل إلى درجة الفرق بين الحي والميت، نظرا لرسوخ الكفر في قلب الكافر، وتبلد حسه الباطن والظاهر، وسبق في سورة الأنعام قوله تعالى ( ١٢٢ ) :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾.
ثم قال تعالى مكتفيا من رسوله الأمين بما قام به من تبليغ وإنذار، في حق من أصر على كفره بالغ الإصرار :﴿ إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور( ٢٢ ) إن أنت إلا نذير( ٢٣ ) ﴾.

وتذكيرا لرسوله الأمين، بما أصاب الرسل السالفين، وما تعرضت له رسالاتهم من طرف المكذبين، رغما عما رافقها وأيدها من المعجزات التي تثبت أنهم كانوا صادقين، وتعريفا للناس أجمعين، بما لحق أعداء الرسالات السابقة من العذاب المهين، قال تعالى :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ٢٤ ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات، وبالزبر، وبالكتاب المنير( ٢٥ ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير( ٢٦ ) ﴾، أي : أن عقاب الله لهم كان فوق الوصف، فليحذر اللاحقون أن يعاقبوا بمثل ما عوقب به السابقون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:وتذكيرا لرسوله الأمين، بما أصاب الرسل السالفين، وما تعرضت له رسالاتهم من طرف المكذبين، رغما عما رافقها وأيدها من المعجزات التي تثبت أنهم كانوا صادقين، وتعريفا للناس أجمعين، بما لحق أعداء الرسالات السابقة من العذاب المهين، قال تعالى :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ٢٤ ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات، وبالزبر، وبالكتاب المنير( ٢٥ ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير( ٢٦ ) ﴾، أي : أن عقاب الله لهم كان فوق الوصف، فليحذر اللاحقون أن يعاقبوا بمثل ما عوقب به السابقون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤:وتذكيرا لرسوله الأمين، بما أصاب الرسل السالفين، وما تعرضت له رسالاتهم من طرف المكذبين، رغما عما رافقها وأيدها من المعجزات التي تثبت أنهم كانوا صادقين، وتعريفا للناس أجمعين، بما لحق أعداء الرسالات السابقة من العذاب المهين، قال تعالى :﴿ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( ٢٤ ) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات، وبالزبر، وبالكتاب المنير( ٢٥ ) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير( ٢٦ ) ﴾، أي : أن عقاب الله لهم كان فوق الوصف، فليحذر اللاحقون أن يعاقبوا بمثل ما عوقب به السابقون.
وبعد ما وصف كتاب الله جملة من أحوال المكذبين الضالين، وما يتعرضون له من شقاء في الدنيا وعذاب يوم الدين، استأنف كتاب الله دعوته المثلى، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فوجه الخطاب إلى كل إنسان عنده بصر وبصيرة، ليتفكر ويتدبر في ظواهر الكون الفسيح المحيط به، حتى يتكون عنده شيء من العلم بتلك الظواهر، فيسخرها وينتفع بها، وينطلق منها إلى الإيمان بوجود خالقها ووحدانيته، والاعتراف بقدرة مبدعها وحكمته، والاقرار بوجوب طاعته وعبادته، وذلك قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود( ٢٧ ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور( ٢٨ ) ﴾، ففي هذه الآيات الكريمة دعوة من الله للإنسان، أيا كان، إلى أن يستعمل حواسه وعقله، في تتبع واستقراء كل ما يراه حوله، عسى أن يستخلص النتائج والعبر من ذلك الاستقراء، للارتفاع إلى مصاف العلماء.
وقد أبرز كتاب الله في هذه الآيات بالخصوص ظاهرة اختلاف الألوان، في الحيوان والإنسان، والجماد والنبات :
فبالنسبة لألوان النبات نجد قوله تعالى :﴿ فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ﴾.
وبالنسبة لألوان الجماد نجد قوله تعالى :﴿ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ﴾.
وبالنسبة لألوان الإنسان والحيوان نجد قوله تعالى :﴿ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ﴾.
وسبق في سورة ( الروم ) قوله تعالى( ٢١ ) :﴿ ومن -آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين ﴾.
وواضح أن من استعرض في صعيد واحد نماذج من جميع أصناف الإنسان والحيوان، المنتشرة في أطراف العالم، أو استعرض نماذج من جميع أنواع النبات وأصناف الثمرات، التي تزخر بها الطبيعة، ولاحظ ما بينها من تفاوت في الألوان والسمات، وتفاوت في نفس اللون الواحد الذي تختلف فيه الدرجات، لرأى العجب العجاب، مما تحار فيه الألباب، وكذلك الأمر عندما يستعرض الإنسان أنواع الأحجار والصخور والجبال، وما هي عليه من ألوان تبهر الخيال، وتمثل الجمال والجلال، فيرى إلى أي حد تتصرف قدرة الله الكبير المتعال.
ولفظ ( الجدد ) في قوله تعالى هنا :﴿ ومن الجبال جدد ﴾، جمع ( جدة )، وتطلق على الجزء من الشيء الواحد، إذا كان لونه يخالف لون الباقي، وواضح أن شعاب الجبال وثناياها يختلف لون بعضها عن بعض، فتزداد تنوعا وتألقا، يقال :( طريق مجدود ) أي طريق مسلوك، و( الجادة ) وسط الطريق.
ولفظ ( الغرابيب ) في قوله تعالى هنا :﴿ غرابيب سود ﴾، جمع ( غربيب )، أي شديد السواد، تشبيها بلون الغراب الأسود.
ولفظ ﴿ العلماء ﴾، في قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾، لا يقتصر على أهل الفقه والأثر، الذين ورثوا ( العلم النبوي الشريف ) فكانوا أمناء على تبليغه ونشره، بل يشملهم ويشمل كل من نال حظا من العلم- ولاسيما العلم بأسرار الكون وحقائق الطبيعة - فسخره لخير الإنسان، وجعله معراجا للدخول في حظيرة الإيمان، والتحق بركب الصالحين من ( عباد الرحمان )، والمراد( بالخشية )هنا تلك الحالة النفسية والروحية التي تهز كيان المؤمن، فتجعله يقبل على الله من كل قلبه، ويتهيب الإقدام على معصية ربه، ولا ينبغي أن يفهم من قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾، أن الخشية لا تكون إلا من عالم منتصب لنشر العلم، إذ كثير من المؤمنين، غير العلماء المنتصبين، يخشون الله، لأن عندهم حظا من العلم بالله، وإنما المراد أن الخشية على وجهها الصحيح الكامل لا يتصف بها إلا العالم الكامل، قال ابن كثير :( كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر ) وقال القشيري :( من فقد العلم بالله فلا خشية له من الله )، وقال الربيع بن أنس :( من لم يخش الله تعالى فليس بعالم ).
وقوله تعالى تعقيبا على ذلك :﴿ إن الله عزيز غفور( ٢٨ ) ﴾، إشارة إلى أنه بوصفه ( عزيزا )، سيعامل المسيء بمقتضى ( العزة )، وبوصفه( غفورا ) سيعامل المحسن بمقتضى( المغفرة ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:وبعد ما وصف كتاب الله جملة من أحوال المكذبين الضالين، وما يتعرضون له من شقاء في الدنيا وعذاب يوم الدين، استأنف كتاب الله دعوته المثلى، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فوجه الخطاب إلى كل إنسان عنده بصر وبصيرة، ليتفكر ويتدبر في ظواهر الكون الفسيح المحيط به، حتى يتكون عنده شيء من العلم بتلك الظواهر، فيسخرها وينتفع بها، وينطلق منها إلى الإيمان بوجود خالقها ووحدانيته، والاعتراف بقدرة مبدعها وحكمته، والاقرار بوجوب طاعته وعبادته، وذلك قوله تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سود( ٢٧ ) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيز غفور( ٢٨ ) ﴾، ففي هذه الآيات الكريمة دعوة من الله للإنسان، أيا كان، إلى أن يستعمل حواسه وعقله، في تتبع واستقراء كل ما يراه حوله، عسى أن يستخلص النتائج والعبر من ذلك الاستقراء، للارتفاع إلى مصاف العلماء.
وقد أبرز كتاب الله في هذه الآيات بالخصوص ظاهرة اختلاف الألوان، في الحيوان والإنسان، والجماد والنبات :
فبالنسبة لألوان النبات نجد قوله تعالى :﴿ فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ﴾.
وبالنسبة لألوان الجماد نجد قوله تعالى :﴿ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ﴾.
وبالنسبة لألوان الإنسان والحيوان نجد قوله تعالى :﴿ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ﴾.
وسبق في سورة ( الروم ) قوله تعالى( ٢١ ) :﴿ ومن -آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين ﴾.
وواضح أن من استعرض في صعيد واحد نماذج من جميع أصناف الإنسان والحيوان، المنتشرة في أطراف العالم، أو استعرض نماذج من جميع أنواع النبات وأصناف الثمرات، التي تزخر بها الطبيعة، ولاحظ ما بينها من تفاوت في الألوان والسمات، وتفاوت في نفس اللون الواحد الذي تختلف فيه الدرجات، لرأى العجب العجاب، مما تحار فيه الألباب، وكذلك الأمر عندما يستعرض الإنسان أنواع الأحجار والصخور والجبال، وما هي عليه من ألوان تبهر الخيال، وتمثل الجمال والجلال، فيرى إلى أي حد تتصرف قدرة الله الكبير المتعال.
ولفظ ( الجدد ) في قوله تعالى هنا :﴿ ومن الجبال جدد ﴾، جمع ( جدة )، وتطلق على الجزء من الشيء الواحد، إذا كان لونه يخالف لون الباقي، وواضح أن شعاب الجبال وثناياها يختلف لون بعضها عن بعض، فتزداد تنوعا وتألقا، يقال :( طريق مجدود ) أي طريق مسلوك، و( الجادة ) وسط الطريق.
ولفظ ( الغرابيب ) في قوله تعالى هنا :﴿ غرابيب سود ﴾، جمع ( غربيب )، أي شديد السواد، تشبيها بلون الغراب الأسود.
ولفظ ﴿ العلماء ﴾، في قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾، لا يقتصر على أهل الفقه والأثر، الذين ورثوا ( العلم النبوي الشريف ) فكانوا أمناء على تبليغه ونشره، بل يشملهم ويشمل كل من نال حظا من العلم- ولاسيما العلم بأسرار الكون وحقائق الطبيعة - فسخره لخير الإنسان، وجعله معراجا للدخول في حظيرة الإيمان، والتحق بركب الصالحين من ( عباد الرحمان )، والمراد( بالخشية )هنا تلك الحالة النفسية والروحية التي تهز كيان المؤمن، فتجعله يقبل على الله من كل قلبه، ويتهيب الإقدام على معصية ربه، ولا ينبغي أن يفهم من قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾، أن الخشية لا تكون إلا من عالم منتصب لنشر العلم، إذ كثير من المؤمنين، غير العلماء المنتصبين، يخشون الله، لأن عندهم حظا من العلم بالله، وإنما المراد أن الخشية على وجهها الصحيح الكامل لا يتصف بها إلا العالم الكامل، قال ابن كثير :( كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر ) وقال القشيري :( من فقد العلم بالله فلا خشية له من الله )، وقال الربيع بن أنس :( من لم يخش الله تعالى فليس بعالم ).
وقوله تعالى تعقيبا على ذلك :﴿ إن الله عزيز غفور( ٢٨ ) ﴾، إشارة إلى أنه بوصفه ( عزيزا )، سيعامل المسيء بمقتضى ( العزة )، وبوصفه( غفورا ) سيعامل المحسن بمقتضى( المغفرة ).

وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة المؤمن المثالي، التي ينبغي أن يطمح إليها كل مؤمن. ويستخلص من الآيات الواردة في هذا الوصف أن المؤمن ( المثالي ) هو الذي يتخذ من كتاب الله دليله ورفيقه في حياته اليومية، وهو الذي يؤدي حقوق الله وحقوق العباد عن رغبة وطواعية، وهو الذي لا يختلف حاله في السر عن حاله في العلانية، وأضاف كتاب الله إلى هذا الوصف ما يكون عليه المؤمن ( المثالي ) من تفاؤل ورجاء، في حسن العاقبة وحسن الجزاء، فقال تعالى في وصف هذا الصنف من المؤمنين :﴿ إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور( ٢٩ ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾، ثم قال تعالى :﴿ إنه غفور شكور( ٣٠ ) ﴾، إشارة إلى أنه تعالى يتولاهم بعفوه ومغفرته، ويثيبهم أجزل ثواب بمحض كرمه وإرادته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:وانتقل كتاب الله إلى وصف حالة المؤمن المثالي، التي ينبغي أن يطمح إليها كل مؤمن. ويستخلص من الآيات الواردة في هذا الوصف أن المؤمن ( المثالي ) هو الذي يتخذ من كتاب الله دليله ورفيقه في حياته اليومية، وهو الذي يؤدي حقوق الله وحقوق العباد عن رغبة وطواعية، وهو الذي لا يختلف حاله في السر عن حاله في العلانية، وأضاف كتاب الله إلى هذا الوصف ما يكون عليه المؤمن ( المثالي ) من تفاؤل ورجاء، في حسن العاقبة وحسن الجزاء، فقال تعالى في وصف هذا الصنف من المؤمنين :﴿ إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور( ٢٩ ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ﴾، ثم قال تعالى :﴿ إنه غفور شكور( ٣٠ ) ﴾، إشارة إلى أنه تعالى يتولاهم بعفوه ومغفرته، ويثيبهم أجزل ثواب بمحض كرمه وإرادته.
الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الرابع والأربعين من المصحف الكريم
لا يخفى على كل مؤمن أن الذكر الحكيم هو حجر الزاوية في بناء صرح الإسلام، والحصن الحصين الذي يحمي الأمة الإسلامية من
كوارث الدهر وتقلبات الأيام، ولذلك يتجه أعداء الإسلام في كل حين إلى الطعن في مبانيه، والتشكيك في معانيه، وهم يرددون في كل عصر ما قاله الكافرون الأولون ( ٢٦ : ٤١ ) :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ﴾، من أجل ذلك نجد كتاب الله يرفع في كل مناسبة علم الحق والحقيقة، مؤكدا أن الذكر الحكيم كتاب وحي إلهي كريم، يحق الحق ويبطل الباطل، ويكشف ما هو زيف وزور عند الأواخر والأوائل، فما وافقه في القديم والحديث فهو حق وصدق، وما خالفه فهو باطل وزور، وذلك قوله تعالى في بداية هذا الثمن :﴿ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ﴾، وبمثل هذا المعنى سبق قوله تعالى في سورة البقرة( ٩٧ ) :﴿ فإنه نزله على قلبك، بإذن الله، مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ﴾، وقوله تعالى في سورة آل عمران ( ٣ ) :﴿ نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ﴾ الآية، وقوله في سورة المائدة( ٤٨ ) :﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ﴾. الآية.
وقوله تعالى :﴿ إن الله بعباده لخبير بصير( ٣١ ) ﴾، إشارة إلى أن الله تعالى ( الخبير ) ببواطن عباده و( البصير ) بظواهرهم، لا يمكن أن ينزل لهدايتهم إلا كتابا كله حق وصدق، ﴿ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴾( ٤٢ : ٤١ )، متى اتبعوه كانوا من الفائزين، وصدق الله العظيم إذ قال :( ١٤ : ٦٧ )، ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.
وانتقل كتاب الله إلى التحدث عن المنة الكبرى التي من الله بها على الإنسانية، وأبقاها نعمة مسترسلة متوارثة في الأمة الإسلامية، ألا وهي نعمة القرآن الكريم، والذكر الحكيم، الذي جعله الله خاتم الكتب المنزلة، ودستور ( الأمة الوسط )التي اصطفى دينها وفضله، فقال تعالى :﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾، و( توريث الكتاب ) يقتضي الحرص التام على القيام بحفظ نصوصه ومبانيه، والعمل المتواصل على تطبيق أحكامه وتفسير معانيه، بما فيه من عقائد وشرائع، ومحاسن وبدائع، والعناية البالغة بكل ما يعين على حفظه وفهمه وتطبيقه، من فروع المعرفة القديمة والحديثة، إذ هو منبع التراث الإسلامي الأصيل، الذي يجب أن يتلقاه غضا طريا جيل عن جيل، دون تحريف ولا تبديل، والمراد ( بالاصطفاء ) الاختيار والاجتباء، مشتق من ( الصفو ) وهو الخلوص من شوائب الكدر، وهذا المعنى يتضمنه أيضا قوله تعالى في سورة البقرة( ١٢٢ ) :﴿ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ﴾، وقوله تعالى في سورة آل عمران ( ٨٥ ) :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾، وقوله تعالى في سورة المائدة ( ٣ ) :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾.
ثم تولى كتاب الله تصنيف المؤمنين من عباده، حسب سلوكهم الخاص والعام، وحسب الدرجة التي يحتلونها في سلم الاستقامة والانحراف، فقال تعالى :﴿ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ﴾، فالظالم لنفسه من لم يشكر نعمة الله عليه ووضعها في غير موضعها، فغلبته زلاته، وتتابعت سقطاته، والمقتصد من مال إلى القصد والاعتدال، وحاول أن يعطي للدنيا حقها وللآخرة حقها، والسابق بالخيرات من حاز قصب السبق في الحسنات والمبرات، ونال رفيع الدرجات، وبذلك يكون ( المقتصد ) واسطة بين طرفين : طرف ( الظالم لنفسه ) من جهة، وطرف ( السابق بالخيرات ) من جهة أخرى، وسبق في سورة آل عمران قوله تعالى ( ٦٦ ) :﴿ منهم أمة مقتصدة، وكثير منهم فاسقون ﴾. وسبق في سورة لقمان قوله تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه( ١٩ ) :﴿ واقصد في مشيك ﴾، من ( القصد ) بمعنى التوسط، على أن الشأن في المؤمن، إذا تورط في ظلم نفسه بارتكاب السيئات وتناول الموبقات، أن لا يصر عليها، وأن يتوب إلى الله منها، اعتمادا على الوعد الحق الذي وعد الله به المذنبين التائبين، إذ قال تعالى ( ٢٥ : ٤٢ ) :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ﴾.
وقوله تعالى :﴿ بإذن الله ﴾، بعد قوله :﴿ سابق بالخيرات ﴾ تنبيه إلى أنه لا يرتفع إلى درجة السابقين المتقين، إلا من أعانه الله وشمله برعايته، فكان من الموفقين، وهذا المعنى هو الذي عبرت عنه بكل صراحة الآية الكريمة التي سبقت في سورة النور( ٢١ ) :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك هو الفضل الكبير( ٣٢ ) ﴾، إشارة إلى نعمة ( توريث القرآن العظيم لهذه الأمة، واصطفائها لأداء أسمى مهمة، وإما إلى نعمة السبق بالخيرات، ورفع الدرجات، وإما إلى نعمة التوفيق الحاصل بإذن الله، لمن وفقه الله، ولا مانع من أن تكون إشارة شاملة لهذه المعاني مجتمعة، إذ لا تناقض بينها، فكلها فضل كبير من الله، وعلى رأسها جميعا كتاب الله.
وتعريفا بحسن العاقبة التي يؤول إليها أمر المصطفين الأخيار، وما ينتظرهم من فضله الكبير عند الانتقال من هذه الدار إلى تلك الدار، قال تعالى :﴿ جنات عدن يدخلونها، يحلون فيها من أساور، من ذهب ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير( ٣٣ ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور( ٣٤ ) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب( ٣٥ ) ﴾، والبدء بقوله تعالى :﴿ جنات عدن ﴾، قبل قوله، ﴿ يدخلونها ﴾، يؤدي معنى لطيفا : والمسارعة والمبادرة إلى تبشيرهم بحسن مصيرهم، فيفاجئون بما هو سار، من الأخبار، إذ ما أعظم الفرق بين دخول الجنة ودخول النار.
وقوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور ﴾، الآية، يشعر بأن الجنة ليست دار تكليف وابتلاء، وإنما هي دار نعيم مقيم وسعادة وهناء، ولذلك تكون أيدي المنعم عليهم محلاة بالأساور، المرصعة باللآلئ والجواهر، ويزيد هذا المعنى توضيحا قوله تعالى على لسانهم في نفس السياق :﴿ لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ﴾، أي : لا يصيبهم فيها تعب، ولا يلحقهم فيها إعياء، لأنهم معفون في الآخرة من جميع التكاليف والأعباء.
وكما ورد هنا قوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ﴾ سبق في الآية الثالثة والعشرين من سورة الحج نفس النص ونفس النظير، وسيأتي في سورة الإنسان قوله تعالى ( ٢١ ) :﴿ وحلوا أساور من فضة ﴾، إشارة إلى أن حلية المنعم عليهم كما تكون من ذهب تكون من فضة، حسب مقاماتهم ودرجاتهم في الجنة، ولله الفضل والمنة.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾، تعبير عما أخذوا يحسون به من سكينة وطمأنينة، ورضا واستبشار، عند حلولهم بجنات عدن، فقد فارقتهم الأحزان كلها، ولا سيما الحزن الأكبر الناشئ عن خوف العاقبة، ومن أجل ذلك هاهم يحمدون الله ويسبحون بحمده، ولفظ ( الحزن )، الوارد في هذه الآية بفتح الحاء والزاي هو لغة في ( الحزن ) بضم الحاء وسكون الزاي.
وقوله تعالى حكاية عنهم :﴿ إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، تعبير عما هم عليه من أدب مع الله، وإعلان ( للاعتراف بفضله سبحانه، إذ هو الغفور الذي يغفر السيئات ولو كثرت، وهو الشكور الذي يثيب على الحسنات ولو قلت، وفيه كذلك تنبيه إلى أن الدنيا إنما هي دار مرور وعبور، وأن الآخرة هي دار القرار، لأنها دار الإقامة الدائمة والاستقرار. قال فخر الدين الرازي تعليقا على هذه الآيات الكريمة :( كما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى، حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة، فقالوا :﴿ الحمد لله ﴾، وقالوا :﴿ إن ربنا لغفور ﴾، اعترافا بتقصيرهم، وقالوا﴿ شكور ﴾، إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم، وقالوا :﴿ أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، أي : لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:وتعريفا بحسن العاقبة التي يؤول إليها أمر المصطفين الأخيار، وما ينتظرهم من فضله الكبير عند الانتقال من هذه الدار إلى تلك الدار، قال تعالى :﴿ جنات عدن يدخلونها، يحلون فيها من أساور، من ذهب ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير( ٣٣ ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور( ٣٤ ) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب( ٣٥ ) ﴾، والبدء بقوله تعالى :﴿ جنات عدن ﴾، قبل قوله، ﴿ يدخلونها ﴾، يؤدي معنى لطيفا : والمسارعة والمبادرة إلى تبشيرهم بحسن مصيرهم، فيفاجئون بما هو سار، من الأخبار، إذ ما أعظم الفرق بين دخول الجنة ودخول النار.
وقوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور ﴾، الآية، يشعر بأن الجنة ليست دار تكليف وابتلاء، وإنما هي دار نعيم مقيم وسعادة وهناء، ولذلك تكون أيدي المنعم عليهم محلاة بالأساور، المرصعة باللآلئ والجواهر، ويزيد هذا المعنى توضيحا قوله تعالى على لسانهم في نفس السياق :﴿ لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ﴾، أي : لا يصيبهم فيها تعب، ولا يلحقهم فيها إعياء، لأنهم معفون في الآخرة من جميع التكاليف والأعباء.
وكما ورد هنا قوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ﴾ سبق في الآية الثالثة والعشرين من سورة الحج نفس النص ونفس النظير، وسيأتي في سورة الإنسان قوله تعالى ( ٢١ ) :﴿ وحلوا أساور من فضة ﴾، إشارة إلى أن حلية المنعم عليهم كما تكون من ذهب تكون من فضة، حسب مقاماتهم ودرجاتهم في الجنة، ولله الفضل والمنة.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾، تعبير عما أخذوا يحسون به من سكينة وطمأنينة، ورضا واستبشار، عند حلولهم بجنات عدن، فقد فارقتهم الأحزان كلها، ولا سيما الحزن الأكبر الناشئ عن خوف العاقبة، ومن أجل ذلك هاهم يحمدون الله ويسبحون بحمده، ولفظ ( الحزن )، الوارد في هذه الآية بفتح الحاء والزاي هو لغة في ( الحزن ) بضم الحاء وسكون الزاي.
وقوله تعالى حكاية عنهم :﴿ إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، تعبير عما هم عليه من أدب مع الله، وإعلان ( للاعتراف بفضله سبحانه، إذ هو الغفور الذي يغفر السيئات ولو كثرت، وهو الشكور الذي يثيب على الحسنات ولو قلت، وفيه كذلك تنبيه إلى أن الدنيا إنما هي دار مرور وعبور، وأن الآخرة هي دار القرار، لأنها دار الإقامة الدائمة والاستقرار. قال فخر الدين الرازي تعليقا على هذه الآيات الكريمة :( كما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى، حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة، فقالوا :﴿ الحمد لله ﴾، وقالوا :﴿ إن ربنا لغفور ﴾، اعترافا بتقصيرهم، وقالوا﴿ شكور ﴾، إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم، وقالوا :﴿ أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، أي : لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله ).

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:وتعريفا بحسن العاقبة التي يؤول إليها أمر المصطفين الأخيار، وما ينتظرهم من فضله الكبير عند الانتقال من هذه الدار إلى تلك الدار، قال تعالى :﴿ جنات عدن يدخلونها، يحلون فيها من أساور، من ذهب ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير( ٣٣ ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور( ٣٤ ) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب( ٣٥ ) ﴾، والبدء بقوله تعالى :﴿ جنات عدن ﴾، قبل قوله، ﴿ يدخلونها ﴾، يؤدي معنى لطيفا : والمسارعة والمبادرة إلى تبشيرهم بحسن مصيرهم، فيفاجئون بما هو سار، من الأخبار، إذ ما أعظم الفرق بين دخول الجنة ودخول النار.
وقوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور ﴾، الآية، يشعر بأن الجنة ليست دار تكليف وابتلاء، وإنما هي دار نعيم مقيم وسعادة وهناء، ولذلك تكون أيدي المنعم عليهم محلاة بالأساور، المرصعة باللآلئ والجواهر، ويزيد هذا المعنى توضيحا قوله تعالى على لسانهم في نفس السياق :﴿ لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ﴾، أي : لا يصيبهم فيها تعب، ولا يلحقهم فيها إعياء، لأنهم معفون في الآخرة من جميع التكاليف والأعباء.
وكما ورد هنا قوله تعالى :﴿ يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ﴾ سبق في الآية الثالثة والعشرين من سورة الحج نفس النص ونفس النظير، وسيأتي في سورة الإنسان قوله تعالى ( ٢١ ) :﴿ وحلوا أساور من فضة ﴾، إشارة إلى أن حلية المنعم عليهم كما تكون من ذهب تكون من فضة، حسب مقاماتهم ودرجاتهم في الجنة، ولله الفضل والمنة.
وقوله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾، تعبير عما أخذوا يحسون به من سكينة وطمأنينة، ورضا واستبشار، عند حلولهم بجنات عدن، فقد فارقتهم الأحزان كلها، ولا سيما الحزن الأكبر الناشئ عن خوف العاقبة، ومن أجل ذلك هاهم يحمدون الله ويسبحون بحمده، ولفظ ( الحزن )، الوارد في هذه الآية بفتح الحاء والزاي هو لغة في ( الحزن ) بضم الحاء وسكون الزاي.
وقوله تعالى حكاية عنهم :﴿ إن ربنا لغفور شكور، الذي أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، تعبير عما هم عليه من أدب مع الله، وإعلان ( للاعتراف بفضله سبحانه، إذ هو الغفور الذي يغفر السيئات ولو كثرت، وهو الشكور الذي يثيب على الحسنات ولو قلت، وفيه كذلك تنبيه إلى أن الدنيا إنما هي دار مرور وعبور، وأن الآخرة هي دار القرار، لأنها دار الإقامة الدائمة والاستقرار. قال فخر الدين الرازي تعليقا على هذه الآيات الكريمة :( كما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى، حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة، فقالوا :﴿ الحمد لله ﴾، وقالوا :﴿ إن ربنا لغفور ﴾، اعترافا بتقصيرهم، وقالوا﴿ شكور ﴾، إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم، وقالوا :﴿ أحلنا دار المقامة من فضله ﴾، أي : لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله ).

وعلى العكس من ذلك ما حكاه كتاب الله عن الكفرة الفجار، إذ قال تعالى :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، كذلك نجزي كل كفور( ٣٦ ) وهم يصطرخون فيها، ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾، فهم في عذاب دائم لا تخفيف فيه، حتى لا يتعودوا عليه، وهم يتمنون الموت السريع، لكن لا يجابون إليه، ﴿ ونادوا يا مالك، ليقض علينا ربك، قال إنكم ماكثون ﴾ ( ٧٧ : ٤٣ )، وهم يملأون جهنم بصراخهم، طالبين العودة إلى ديارهم، زاعمين أنهم إذا رجعوا إليها سيعملون عملا صالحا، غير العمل الفاسد الذي درجوا عليه طيلة حياتهم، ﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾( ٢٨ : ٦ ).
وقوله تعالى في وصفهم :﴿ يصطرخون فيها ﴾، مأخوذ من ( الصراخ ) الذي هو الصياح بجهد وشدة، ويلاحظ فيما حكاه كتاب الله عنهم في هذا السياق :﴿ أخرجنا نعمل ﴾، ما هم مطبوعون عليه من الأسلوب الجاف، والكلام النازل إلى حد الأسفاف، لكونه خاليا من كل أدب مع الله، والغريب في الأمر هو إصرارهم على ذلك حتى في الوقت الذي هم فيه أحوج ما يكون إلى فضل الله ورحمته، وهم بين يديه لا يستطيعون الإفلات من قبضته، فكان الرد عليهم أنسب ما يكون لطلبهم، إذ قال تعالى تأنيبا لهم :﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾، إشارة إلى أن الله تعالى قد أمهلهم ولم يعجل موتهم، عسى أن يتداركوا ما فاتهم، لكنهم استمروا على ما اعتادوه من التمرد والعصيان، ولم يفكروا لحظة واحدة في الانتقال من الكفر إلى الإيمان، لا عن طريق التأمل والتذكر والاعتبار، ولا عن طريق ما جاءتهم به الرسل من التبشير والإنذار، وحيث أنهم وضعوا نعمة الله في غير موضعها، وأتوا بالمعذرة في غير وقتها، قيل لهم، جزاء كفرهم وكبرهم :﴿ فذوقوا فما للظالمين من نصير( ٣٧ ) ﴾.
وتعليقا على قوله تعالى هنا :﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾، قال جار الله الزمخشري :﴿ إنه يتناول كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في العمر المتطاول أعظم ﴾ ونقل ابن كثير عن ابن عباس : أن العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في هذه الآية هو ستون سنة، وهذا موافق للحديث الذي رواه البخاري في ( كتاب الرقاق ) من صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة ) ومعنى ( أعذر إليه ) أي بلغ به أقصى العذر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:وعلى العكس من ذلك ما حكاه كتاب الله عن الكفرة الفجار، إذ قال تعالى :﴿ والذين كفروا لهم نار جهنم، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، كذلك نجزي كل كفور( ٣٦ ) وهم يصطرخون فيها، ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾، فهم في عذاب دائم لا تخفيف فيه، حتى لا يتعودوا عليه، وهم يتمنون الموت السريع، لكن لا يجابون إليه، ﴿ ونادوا يا مالك، ليقض علينا ربك، قال إنكم ماكثون ﴾ ( ٧٧ : ٤٣ )، وهم يملأون جهنم بصراخهم، طالبين العودة إلى ديارهم، زاعمين أنهم إذا رجعوا إليها سيعملون عملا صالحا، غير العمل الفاسد الذي درجوا عليه طيلة حياتهم، ﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾( ٢٨ : ٦ ).
وقوله تعالى في وصفهم :﴿ يصطرخون فيها ﴾، مأخوذ من ( الصراخ ) الذي هو الصياح بجهد وشدة، ويلاحظ فيما حكاه كتاب الله عنهم في هذا السياق :﴿ أخرجنا نعمل ﴾، ما هم مطبوعون عليه من الأسلوب الجاف، والكلام النازل إلى حد الأسفاف، لكونه خاليا من كل أدب مع الله، والغريب في الأمر هو إصرارهم على ذلك حتى في الوقت الذي هم فيه أحوج ما يكون إلى فضل الله ورحمته، وهم بين يديه لا يستطيعون الإفلات من قبضته، فكان الرد عليهم أنسب ما يكون لطلبهم، إذ قال تعالى تأنيبا لهم :﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾، إشارة إلى أن الله تعالى قد أمهلهم ولم يعجل موتهم، عسى أن يتداركوا ما فاتهم، لكنهم استمروا على ما اعتادوه من التمرد والعصيان، ولم يفكروا لحظة واحدة في الانتقال من الكفر إلى الإيمان، لا عن طريق التأمل والتذكر والاعتبار، ولا عن طريق ما جاءتهم به الرسل من التبشير والإنذار، وحيث أنهم وضعوا نعمة الله في غير موضعها، وأتوا بالمعذرة في غير وقتها، قيل لهم، جزاء كفرهم وكبرهم :﴿ فذوقوا فما للظالمين من نصير( ٣٧ ) ﴾.
وتعليقا على قوله تعالى هنا :﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ﴾، قال جار الله الزمخشري :﴿ إنه يتناول كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في العمر المتطاول أعظم ﴾ ونقل ابن كثير عن ابن عباس : أن العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في هذه الآية هو ستون سنة، وهذا موافق للحديث الذي رواه البخاري في ( كتاب الرقاق ) من صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة ) ومعنى ( أعذر إليه ) أي بلغ به أقصى العذر.

ثم قال تعالى :﴿ إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور( ٣٨ ) ﴾، إشارة إلى أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء، ولعلمه بخبث سرائر المصرين على الكفر المستحقين للعذاب، لم يفتح في وجوههم للرحمة أي باب.
ووجه كتاب الله الخطاب من جديد إلى كافة البشر، ولا سيما الجاحدين والمعاندين، مذكرا إياهم بأنه هو الذي خلقهم واستخلفهم في هذا الكوكب الأرضي السابح في الفضاء، وأنه هو الذي خصصه لهم وكيفه بشكل يتناسب مع حياتهم، ويستجيب لمطالبهم، ملقيا على عواتقهم مسؤولياتهم عن أنفسهم إيمانا أو كفرا، وعن الخلافة الموكولة إليهم فسادا أو إصلاحا، فقال تعالى :﴿ هو الذي جعلكم خلائف في الأرض، فمن كفر فعليه كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا، ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا( ٣٩ ) ﴾.
ثم قال تعالى متحديا لمن أشركوا به غيره، مبرزا سفاهة رأيهم، وسقوط زعمهم :﴿ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله، أروني ماذا خلقوا من الأرض، أم لهم شرك في السماوات، أم -أتيناهم كتابا فهم على بينات منه، بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا( ٤٠ ) ﴾.
الربع الأخير من الحزب الرابع والأربعين في المصحف الكريم
في بداية هذا الربع خص كتاب الله بالذكر ظاهرة كونية كبرى تحار فيها العقول والأفهام، ألا وهي ظاهرة تماسك الكائنات وتجاذبها بعضها مع بعض في السماء والأرض، دون أن تكون مرتكزة على أي شيء، أو معلقة بأي شيء، وذلك بالنسبة لجميع الكواكب والشموس والأجرام، السابحة في أفلاكها في الفضاء، بنظام وانتظام، على مر الليالي والأيام، والقرون والأعوام، مما لا يحيط به علما وعدا، ولا يقوم به صيانة وحفظا، إلا خالقه بديع السماوات والأرض، وذلك ما ينطق به قوله تعالى في إيجاز وإعجاز :
﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ﴾، قال الفراء :( أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد ) فبالقوة الماسكة التي أودعها الله في السماوات والأرض حماهما من التصدع والانهيار، وأنعم على الإنسان بنعمة الطمأنينة والاستقرار، وذلك بالرغم مما يقترفه من الذنوب والأوزار :﴿ إنه كان حليما غفورا( ٤١ ) ﴾.
وسبق في التنبيه إلى هذه الظاهرة الكبرى قوله تعالى في سورة الرعد( ٢ ) :﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ﴾، وقوله تعالى في سورة لقمان( ١٠ ) :﴿ خلق السماوات بغير عمد ترونها ﴾، قال القشيري :( أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، ورتبهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإفنائهما يساهمه، ولا شريك في وجودهما ونظامهما يقاسمه )، وسبق في سورة الحج قوله تعالى ( ٦٣ ) :﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ﴾.
وانتقل كتاب الله مرة أخرى إلى الحديث عن أعداء الرسالات ومواقفهم الملتوية، وتقلباتهم المزرية، ومن بينهم أئمة الكفر وقادة الجاهلية، حيث أنهم اعتادوا أن يقسموا الأيمان الغليظة على استعدادهم لقبول الرسالة إذا جاءتهم، ويعلنوا رغبتهم في أن يكونوا أهدى من بقية الأمم التي سبقتهم، حتى إذا جاءهم الرسول المنتظر نفروا، واستكبروا ومكروا، ولم ينفع فيهم أي إنذار، وأصروا على الكفر أيما إصرار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا( ٤٢ ) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ﴾، ثم قال تعالى تأكيدا لغلبة الحق على الباطل، وتذكيرا بعذاب الله الذي حل بأئمة الكفر الأوائل :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنة الأولين ﴾، أي : سنة الله التي أجراها في الأولين.
وأعاد كتاب الله تقرير حقيقة كونية اجتماعية ثابتة، ألا وهي أن لله في خلقه سننا منتظمة ومحكمة، ترتبط فيها الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، ارتباطا وثيقا، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ فلن تجد لسنة الله تبديلا ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة الأحزاب ( ٦٢ ) :﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾، وقوله تعالى هنا :﴿ ولن تجد لسنة الله تحويلا( ٤٣ ) ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة الإسراء( ٧٧ ) :﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾.
و( التبديل ) المرفوض هنا بالنسبة لأئمة الكفر هو تبديل العذاب بغيره، فالعذاب قائم بهم، وثابت لهم، و( التحويل ) المرفوض بالنسبة لهم هو تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم، فالعذاب واقع على من استحقه، لا يتجاوزه إلى غيره أبدا، ونبه القرطبي إلى أن كلمة ( سنة ) في هذا السياق تضاف أحيانا إلى الله، وأحيانا إلى غيره، لتعلق الأمر بالجانبين، مثلها في ذلك مثل كلمة ( الأجل )، تضاف إلى الله كما في قوله تعالى ( ٥ : ٢٩ ) ﴿ فإن أجل الله لآت ﴾، وتضاف إلى غيره كما في قوله تعالى ( ٣٤ : ٧ ) :﴿ فإذا جاء أجلهم ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:وانتقل كتاب الله مرة أخرى إلى الحديث عن أعداء الرسالات ومواقفهم الملتوية، وتقلباتهم المزرية، ومن بينهم أئمة الكفر وقادة الجاهلية، حيث أنهم اعتادوا أن يقسموا الأيمان الغليظة على استعدادهم لقبول الرسالة إذا جاءتهم، ويعلنوا رغبتهم في أن يكونوا أهدى من بقية الأمم التي سبقتهم، حتى إذا جاءهم الرسول المنتظر نفروا، واستكبروا ومكروا، ولم ينفع فيهم أي إنذار، وأصروا على الكفر أيما إصرار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا( ٤٢ ) استكبارا في الأرض ومكر السيئ ﴾، ثم قال تعالى تأكيدا لغلبة الحق على الباطل، وتذكيرا بعذاب الله الذي حل بأئمة الكفر الأوائل :﴿ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنة الأولين ﴾، أي : سنة الله التي أجراها في الأولين.
وأعاد كتاب الله تقرير حقيقة كونية اجتماعية ثابتة، ألا وهي أن لله في خلقه سننا منتظمة ومحكمة، ترتبط فيها الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات، ارتباطا وثيقا، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ فلن تجد لسنة الله تبديلا ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة الأحزاب ( ٦٢ ) :﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾، وقوله تعالى هنا :﴿ ولن تجد لسنة الله تحويلا( ٤٣ ) ﴾، على غرار قوله تعالى في سورة الإسراء( ٧٧ ) :﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾.
و( التبديل ) المرفوض هنا بالنسبة لأئمة الكفر هو تبديل العذاب بغيره، فالعذاب قائم بهم، وثابت لهم، و( التحويل ) المرفوض بالنسبة لهم هو تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم، فالعذاب واقع على من استحقه، لا يتجاوزه إلى غيره أبدا، ونبه القرطبي إلى أن كلمة ( سنة ) في هذا السياق تضاف أحيانا إلى الله، وأحيانا إلى غيره، لتعلق الأمر بالجانبين، مثلها في ذلك مثل كلمة ( الأجل )، تضاف إلى الله كما في قوله تعالى ( ٥ : ٢٩ ) ﴿ فإن أجل الله لآت ﴾، وتضاف إلى غيره كما في قوله تعالى ( ٣٤ : ٧ ) :﴿ فإذا جاء أجلهم ﴾.

ونبه كتاب الله إلى أن الجاحدين والمعاندين الذين أصروا على عتوهم واستكبارهم وتمردهم على الله لو فتحوا أعينهم، والتفتوا إلى ما حولهم، وساروا في الأرض سير الناظر المتفحص، لأخذوا العبرة من مصارع الشعوب والحضارات التي سبقتهم، بالرغم مما كانت عليه من توسع في العمران، وقوة متنوعة الأشكال والألوان، فالبقاء والفناء، والقوة والضعف، سنن لا تتخلف قديما وحديثا، وذلك ما يقرره قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز، ﴿ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة ﴾، على غرار قوله تعالى فيما سبق من سورة الروم ( ٩ ) :﴿ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ﴾، ونفس المعنى سبق في سورة التوبة عند قوله تعالى ( ٦٩ ) :﴿ كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ﴾، كما نص عليه كتاب الله أيضا في سورة غافر مرتين، وذلك قوله تعالى في الآية الواحد والعشرين :﴿ كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض ﴾، وفي الآية الثانية والثمانين :﴿ كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض ﴾، وذلك حتى لا يغتر الأقوياء بقوتهم، مادامت لا تساندها قوة الله، إذ قوة الله القاهرة، لا يعجزها أي شيء من قوة البشر الظاهرة، كيفما كانت وتنوعت، وطغت وتجبرت.
وللتخفيف من غلواء البشر المتبجحين بقوتهم، ومواجهة تحديهم، قال تعالى :﴿ وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض، إنه كان عليما قديرا( ٤٤ ) ﴾، ﴿ عليما ﴾، بمبلغ قوتهم المحدودة، ﴿ قديرا ﴾، على أخذهم وتأديبهم في ثوان معدودة، وصدق الله العظيم إذ قال في كتابه في سورة فصلت ( ١٥ ) :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ﴾، وفي سورة البقرة ( ١٦٥ ) :﴿ ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ﴾، قال الرازي :( لو أن قائلا قال : هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعمارا، لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم، ونستعين بأمور أرضية لها خواص، أو كواكب سماوية لها آثار، لقال تعالى أي جوابا على هذا الإشكال :﴿ وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض، إنه كان عليما قديرا( ٤٤ ) ﴾.
ثم أبرز كتاب الله مبلغ حلم الحق سبحانه وتعالى ورحمته الواسعة بالخلق، حيث يمهل العصاة من عباده، فلا يستعجلهم بالمؤاخذة والعقاب، ويتخولهم من حين لآخر بالموعظة الحسنة واللوم والعتاب، عسى أن يعودوا إلى جادة الصواب، وذلك قوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم، إلى أجل مسمى ﴾، فيؤخر كل فرد إلى حلول أجله، وكل أمة إلى حلول ساعتها، والجنس البشري كله إلى حلول الساعة الكبرى، والضمير في :﴿ على ظهرها ﴾، يعود على الأرض التي فيها مستقر الناس ومعاشهم، وقد سبق ذكر ( الأرض )، عطفا على السماوات قبل هذه الآية، والمراد ( بالدابة ) هنا كل ما دب فوق الأرض ودرج، بما في ذلك الإنسان والحيوان :﴿ فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا( ٤٥ ) ﴾، بصيرا بأحوالهم، بصيرا بأعمالهم، بصيرا بما يستحقه كل فرد من ثواب أو عقاب، قال القشيري في ( لطائف الإشارات ) تعليقا على هذه الآية الكريمة ( لو عجل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تف أعمارهم القليلة به، ولم تتسع أيامهم القصيرة له، فأخر ذلك ليوم الحشر، فإنه طويل، والله على كل شيء قدير، وبأمور عباده خبير بصير ).
Icon