تفسير سورة الصافات

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قال ابن مسعود رضي الله عنه ﴿ والصافات صَفَّا ﴾، ﴿ فالزاجرات زَجْراً ﴾، ﴿ فالتاليات ذِكْراً ﴾ : هي الملائكة؛ وقال قتادة : الملائكة صفوف في السماء، روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« » ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ « قالنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال ﷺ :» يتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصّون في الصف « » وقال السدي معنى قوله تعالى :﴿ فالزاجرات زَجْراً ﴾ : أنها تزجر السحاب، وقال الربيع بن أنَس ﴿ فالزاجرات زَجْراً ﴾ : ما زجر الله تعالى عنه في القرآن، ﴿ فالتاليات ذِكْراً ﴾ قال السدي : الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس، كقوله تعالى :﴿ فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً ﴾ [ المرسلات : ٥-٦ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السماوات والأرض ﴾، هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السماوات والأرض ﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ أي من المخلوقات، ﴿ وَرَبُّ المشارق ﴾ أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب تبدو من المشرق وتغرب من المغرب، واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه، قد صرح بذلك في قوله عزّ وجلّ :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ ﴾ [ المعارج : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين ﴾ [ الرحمن : ١٧ ] يعني في الشتاء والصيف، للشمس والقمر.
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب، فالكواكب السيارة والثوابت تضيء لأهل الأرض، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ [ الملك : ٥ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٦-١٧ ]، فقوله جلّ وعلا هاهنا :﴿ وَحِفْظاً ﴾ تقديره : وحفظناها حفظاً :﴿ مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ يعني المتمرد العاتي، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال جلّ جلاله :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى ﴾ أي لئلا يصلوا إلى الملأ ﴿ الملإ الأعلى ﴾ وهي السماوات ومن فيها من الملائكة، كما تقدم بيان ذلك، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُقْذَفُونَ ﴾ أي يرمون ﴿ مِن كُلِّ جَانِبٍ ﴾ أي من كل كهة يقصدون السماء منها، ﴿ دُحُوراً ﴾ أي رجماً يدحرون به ويزجرون، ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون، ﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ﴾ أي في الدار الآخرة، لهم عذاب دائم موجع مستمر، كما قال جلّت عظمته :﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير ﴾ [ الملك : ٥ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة ﴾ أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، ولهذا قال :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ أي مستنير، قال ابن عباس : كان للشياطين مقاعد في السماء، فكانوا يستمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري، وكانت الشياطين لا ترمي، فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض، فزادوا في الكلمة تسعاً، فلما بعث رسول الله ﷺ، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه، فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله، فقال : ما هو إلا من أمرٍ حدَث، فبعث جنوده فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي بين جبلي نخلة، قال وكيع : يعني بطن نخلة، فرجعوا إلى إبليس، فأخبروه، فقال : هذا الذي حدث.
يقول تعالى : فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السماوات والأرض، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال عزّ وجلّ :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] ثم بيَّن أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ ﴾ قال مجاهد والضحّاك : هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس وعكرمة : هو اللزج الجيد، وقال قتادة : هو الذي يلزق باليد، وقوله عزّ وجلّ :﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ﴾ أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك، قال قتادة : عجيب محمد ﷺ وسخر ضلاّل بني آدم، ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً ﴾ أي دلالة واضحة على ذلك ﴿ يَسْتَسْخِرُونَ ﴾، قال مجاهد : يستهزئون، ﴿ وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين، ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون ﴾ ؟ يستبعدون ذلك ويكذبون به ﴿ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾، أي قل لهم يا محمد : نعم تبعثون يوم القيامة، بعدما تصيرون تراباً وعظاماً، ﴿ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ ﴾ أي حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى :﴿ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ﴾ [ النمل : ٨٧ ]، وقال تعالى :﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [ غافر : ٦٠ ]، ثم قال جلت عظمته :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ أي فإنما هو أمر واحد من الله عزّ وجلّ، يدعوهم أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.
يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة، أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسم، فإذا عاينوا أهوال القيامة، ندموا كل الندامة حيث لا ينفعهم الندم، ﴿ وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين ﴾، فقول لهم الملائكة والمؤمنون :﴿ هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ على وجه التقريع والتوبيخ، ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين، في الموقف في محشرهم ومنشرهم، ولهذا قال تعالى :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾، قال النعمان بن بشير : يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم؛ وعن عمر بن الخطاب :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال : إخوانهم، وقال النعمان : سمعت عمر يقول :﴿ احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قال : أشباههم، قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، وقال ابن عباس :﴿ وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ قرناءهم، ﴿ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله ﴾ أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم، وقوله تعالى :﴿ فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم ﴾ أي أرشدوهم إلى طريق جهنم، وهذا كقوله تعالى :﴿ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم، التي صدرت عنهم في الدار الدنيا، قال ابن عباس : يعني احبسوهم إنهم محاسبون، وقد قال رسول الله ﷺ :« أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه، وإن دعا رجل رجلاً »، ثم قرأ :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾، وقال ابن المبارك :« إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه » ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ ؟ أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر؟ ﴿ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ ﴾ أي منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه، والله أعلم.
يذكر تعالى : أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة، كما يتخاصمون في دركات النار، ﴿ فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار ﴾ [ غافر : ٤٧ ] ؟ كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٣١ ] وهكذا قالوا لهم ههنا :﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين ﴾، قال ابن عباس، يقولون : كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء، وقال مجاهد : يعني عن الحق، تقوله الكفار للشياطين، وقال قتادة : قالت الإنس والجن :﴿ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين ﴾، قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه، وقال السدي : تأتوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل، وتصدونا عن الحق، قال الحسن : أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه، وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به.
وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ تقول القادة من الجن والإنس للأتباع : ما الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان، قابلة للكفر والعصيان، ﴿ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ اي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه، ﴿ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ﴾، أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق، فلهذا استجبتم لنا وتركتم ا لحق الذي جاءتكم به الأنبياء، ﴿ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، يقول الكبراء للمستضعفين : حقت علينا كلمة الله إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة، ﴿ فَأَغْوَيْنَاكُمْ ﴾ أي دعوناكم إلى الضلالة ﴿ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ﴾، أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا، قال تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ ﴾ أي الجميع في النار كل بحسبه، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * إِنَّهُمْ كانوا ﴾ أي في الدار الدنيا ﴿ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون.
وفي الحديث :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله قد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجلّ » وروى ابن أبي حاتم عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله وعزيراً، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال؛ ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله والمسيح، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم : لا إله إلا الله فيستكبرون، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله، فيستكبرون، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله، فيستكبرون، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال، قال أبو نضرة : فينطلقون أسرع من الطير، قال أبو العلاء : ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد الله تعالى، فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : نعم، فيقال لهم : فكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له، قال : فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين.
2143
﴿ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون؟ يعنون رسول الله ﷺ، قال الله تعالى تكذيباً لهم ورداً عليهم :﴿ بَلْ جَآءَ بالحق ﴾ يعني رسول الله ﷺ جاء بالحق، ﴿ وَصَدَّقَ المرسلين ﴾ أي صدّقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة، والمناهج السديدة، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره، كما أخبروا ﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ] الآية.
2144
يقول تعالى مخاطباً للناس :﴿ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين، كما قال تعالى :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً ﴾ [ مريم : ٧١-٧٢ ]، وقال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين ﴾ [ المدثر : ٣٨-٣٩ ]، ولهذا قال جلّ وعلا هاهنا ﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم، ولا يناقشون في الحساب، بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وقوله جلّ وعلا ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ ﴾ قال السدي : يعني الجنة، ثم فسره بقوله تعالى :﴿ فَوَاكِهُ ﴾ أي متنوعة ﴿ وَهُم مُّكْرَمُونَ ﴾ أي يخدمون ويرفهون وينعّمون ﴿ فِي جَنَّاتِ النعيم * على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾، قال مجاهد : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقوله تعالى :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٩ ] نزّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا، من صدع الرأس، ووجع البطن، وهو ( الغول ) وذهابها بالعقل جملة، فقال تعالى :﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ أي بخمر من أنهار جارية، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها، قال زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء، أي لونها مشرق حسن بهي، لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء، من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة، إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم، وقوله عزّ وجلّ :﴿ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ أي طعمها طيب كلونها، وطيب الطعم دليل على طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك، وقوله تعالى :﴿ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ﴾ يعني وجع البطن، كما تفعله خمر الدنيا، وقيل : المراد بالغول ههنا صداع الرأس، وروي عن ابن عباس، وقال قتادة : هو صداع الرأس ووجع البطن؛ وقال السدي : لا تغتال عقولهم، كما قال الشاعر :
فما زالت الكأس تغتالنا... وتذهب بالأول الأول
وقال سعيد بن جبير : لا مكروه فيها ولا أذى، والصحيح قول مجاهد : أنه وجع البطن، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ قال مجاهد : لا تذهب عقولهم، وقال ابن عباس : في الخمر أربع خصال :( السكر، والصداع، والقيء، والبول )، فذكر الله تعالى خمر الجنة، فنزّهها عن هذه الخصال، وقوله تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف ﴾ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن، كذا قال ابن عباس ومجاهد، وقوله تبارك وتعالى :﴿ عِينٌ ﴾ أي حسان الأعين، وقيل : ضخام الأعين، وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة، كقول زليخا في يوسف عليه السلام ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم ﴾
2145
[ يوسف : ٣٢ ] أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي، وهكذا الحور العين ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ [ الرحمن : ٧٠ ]، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ ﴾. وقوله جلّ جلاله :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان، قال ابن عباس :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ يقول : اللؤلؤ المكنون، وأنشد قول الشاعر :
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ص ميزت من جوهر مكنون
وقال الحسن :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ يعني مصون لم تسمه الأيدي، وقال سعيد بن جبير :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ يعني بطن البيض، وقال السدي :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾ يقول : بياض البيض حين ينزع قشره، واختاره ابن جرير لقوله ﴿ مَّكْنُونٌ ﴾ قال : والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها، وفي الحديث عن أنَس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا حزنوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا، لواء الحمد يومئذٍ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزّ وجلّ ولا فخر، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون أو اللؤلؤ المكنون ».
2146
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا، وماذا كانوا يعانون فيها، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم، ومعاشرتهم في مجالسهم، وهم جلوس على السرر، والخدم بين أيديهم، يسعون ويبحثون بكل خير عظيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال مجاهد : يعني شيطاناً، وقال ابن عباس : هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما، فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس، ويكون من الإنس، فيقول كلاماً تسمعه الأذنان، وكلاهما يتعاونان، قال الله تعالى :﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] وكل منهما يوسوس، كما قال الله عزّ وجلّ :﴿ مِن شَرِّ الوسواس الخناس * الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس ﴾ [ الناس : ٤٦ ] ولهذا :﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين ﴾ أي أأنت تصدّق بالبعث والنشور، والحساب والجزاء؟ يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد، والكفر والعناد ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ ؟ قال مجاهد والسدي : لمحاسبون، وقال ابن عباس : لمجزيون بأعمالنا، قال تعالى :﴿ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ ﴾ أي مشرفون، يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة ﴿ فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم ﴾ قال ابن عباس والسدي : يعني في وسط الجحيم، وقال الحسن البصري : في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقدم، وقال قتادة : ذكر أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي، وقال كعب الأحبار : في الجنة كوى، إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار، اطلع فيها فازداد شكراً لله، ﴿ قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ﴾ يقول المؤمن مخاطباً للكافر : والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك، ﴿ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين ﴾ أي ولولا فضل الله عليّ لكنت مثلك في سواء الجحيم، محضر معك في العذاب، ولكنه رحمني فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده ﴿ وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ]. وقوله تعالى :﴿ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ ؟ هذا من كلام المؤمن، مغتبطاً نفسه بما أعطاه الله تعالى، من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم ﴾. قال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه، فقالوا :﴿ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ﴾ ؟ قيل : لا، من كلام أهل الجنة، وقال ابن جرير : هو من كلام الله تعالى، ومعناه : لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة.
2147
قال السدي : كان شريكان في بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، فافترقا على ستة آلاف دينار، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالكظ أضربت به شيئاً، اتجرت به شيء؟ قال له المؤمن : لا، فما صنعت أنت؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بالف دينا قال فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه، ثم قال : اللهم إن فلاناً يعني شريكه الكافر اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها. اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة، قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين، قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك أضربت به في شيء؟ أتجرت به في شيء؟ قال : لا، قال : فما صنعت أنت؟ قال : كانت ضيعتي قد اشتد عليَّ مؤنتها، فاشتريت رقيقاً بألف دينار، يقومون لي فيها ويعملون لي فيها، فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم أن فلاناً يعني شريكه الكافر اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار رقيقاً في الجنة، قال : ثم أصبح، فقسمها في المساكين قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا، ثم التقيا، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك أضربت به في شيء، أتجرت به في شيء؟ قال : لا، فما صنعت أنت؟ قال : كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً، فلانه قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار، فجاءتني بها ومثلها معها، فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية فوضعها بين يديه، وقال : اللهم إن فلاناً يعني شريكه الكافر تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دنيار، فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف دينار حوراء عيناء في الجنة، قال ثم أصبح فقسهما بين المساكين قال فبقي المؤمن ليس عنده شيء، فخرج شريكه الكافر وهو راكب، فلما رآه عرفه، فوقف عليه وسلم عليه وصافحه، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما آخذت؟ قال : بلى، قال : وهذه حالي وهذه حالك؟ قال : أخبرني ما صنعت في مالك؟ قال : أقرضته، قال : من؟ قال : المليء الوفي، قال : الله ربي، قال، فانتزع يده من يده، ثم قال :﴿ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ ؟ قال السدي : محاسبون، قال فانطلق الكافر وتركه، فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه وجعل يعيش المؤمن في شدة من الزمان، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان، قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هذا لك، فيقول : يا سبحان الله، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال، ثم يمر، فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم، فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هؤلاء لك، فيقول : يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال : ثم يمر، فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء، فيقول : لمن هذه؟ فيقال : هذه لك، فيقول : يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر، فيقول :﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾، قال : فالجنة عالية، والنار هاوية، قال : فيريه الله تعالى شريكه وسط الجحيم من بين أهل النار، فإذا رآه المؤمن عرفه، فيقول :﴿ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم * لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون ﴾ بمثل ما قد مُنَّ عليه، قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من شدة، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدائد أشد عليه من الموت.
2148
يقول الله تعالى : أهذا الذي ذكر من نعيم الجنة، وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح، وغير ذلك من الملاذ خير ضيافةً وعطاءً ﴿ أَمْ شَجَرَةُ الزقوم ﴾ أي التي في جهنم؟ وقوله عزّ وجلّ :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾، قال قتادة : ذكر شجرة الزقوم، فافتتن بها أهل الضلالة، وقالوا : صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار وتأكل الشجر، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم ﴾ غذيت من النار ومنها خلقت، وقال مجاهد :﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ قال أبو جهل لعنه الله : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه؟ قلت : ومعنى الآية : إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم، اختباراً تختبر به الناس، من يصدق منهم ممن يكذب، كقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشجرة الملعونة فِي القرآن وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم ﴾ أي أصل منبتها في قرار النار :﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين ﴾ تبشيع لها وتكريه لذكرها، وإنما شبّهها برؤوس الشياطين، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر، وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون ﴾، ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي أبشع منها ولا أقبح من منظرها، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها، لأ، هم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها، كما قال تعالى :﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ [ الغاشية : ٦-٧ ]، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية وقال :« اتقوا الله حق تقاته، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟ ».
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾، قال ابن عباس : يعني شرب الحميم على الزقوم، وعنه :﴿ شَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ﴾ مزجاً من حميم، وقال غيره : يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق، مما يسيل من فروجهم وعيونهم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول :« يقرب يعني إلى أهل النار ماء فيتكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى تخرج من دبره » وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال :« إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها، ثم يصب عليهم العطش، فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم، التي سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم، فيمشون تسيل أمعاؤهم، وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور »، وقوله عزّ وجلّ :﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم ﴾ أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج، وجحيم تتوقد، وسعير تتوهج، كما قال تعالى :
2149
﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ] هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية، وهو تفسير حسن قوي، وكان عبد الله رضي الله عنه يقول : والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. ثم قرأ :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ ﴾ أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة، فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان، ولهذا قال :﴿ فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ قال مجاهد : شبَّهه بالهرولة، وقال سعيد بن جبير : يسفهون.
2150
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أُخرى. وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرونهم بأس الله، ويحذرونهم سطوته ونقمته، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم، فأهلك الله المكذبين ودمرهم، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم، ولهذا قال تعالى :﴿ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين * إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾.
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً، فذكر نوحاً ﷺ وما لقي من قومه من التكذيب، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم، وكلما دعاهم ازدادوا نُفْرة ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ]، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون ﴾ له، ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم ﴾ وهو التكذيب والأذى، ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ﴾ قال ابن عباس : لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام، وقال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام، وقد روى الترمذي عن سمرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين ﴾ قال : سام وحام ويافث، وروى الإمام أحمد، عن سمرة رضي الله عنه « أن نبي الله ﷺ قال : سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافت أبو الروم »، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾ قال ابن عباس : يذكر بخير، وقال مجاهد : يعني لسان صدق للأنبياء كلهم، وقال قتادة والسدي : أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين، قال الضحّاك : السلام والثناء الحسن، وقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين ﴾ مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن، أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم، ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى، نجعل له لسان صدق يذكر به بعده، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ﴾ أي المصدقين الموحدين الموقنين، ﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين ﴾ أي أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف، ولا ذكر ولا عين ولا أثر، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
قال ابن عباس :﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ ﴾ يقول : من أهل دينه، وقال مجاهد : على منهاجه وسنته ﴿ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾، قال ابن عباس : يعني شهادة أن لا إله الله، روى ابن أبي حاتم، عن عوف قال : قلت لمحمد بن سيرين :« ما القلب السليم؟ قال : يعلم أن الله حق، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور »، وقال الحسن؛ سليم من الشرك، ثمَّ قال تعالى :﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴾ ؟ أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين ﴾ ؟ قال قتادة : يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟
إنما قال إبراهيم ﷺ لقومه ذلك، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيدهم، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها، فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر، فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه، ﴿ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾. قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر : نظر في النجوم، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به، فقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ أي ضعيف، فأما قوله عليه السلام :« لم يكذب إبراهيم ﷺ غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله تعالى، قوله :[ ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾، وقوله :﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ﴾، وقوله في سارة :( هي أختي ) ] » فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن، ولكن ليس من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا؛ وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث :« إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ». قال ابن المسيب : رأى نجماً طلع فقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ كابد نبي الله عن دينه ﴿ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ وقيل : أراد ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى، وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج، فاضطجع على ظهره وقال :﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ وجعل ينظر في السماء، فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها، ولهذا قال تعالى :﴿ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ ﴾ أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء، ﴿ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ ؟ وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبرّك لهم فيه، قال السدي : دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بهو عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا : إذا كان حين نرجع وقد برّكت الآلهة في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم ﷺ إلى ما بين أيديهم من الطعام قال :﴿ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين ﴾ قال الفراء : معناه مال عليهم ضرباً باليمين، وقال قتادة والجوهري : فأقبل عليهم ضرباً باليمين؛ وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى، ولهذا تركهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى هاهنا :﴿ فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴾ قال مجاهد : أي يسرعون، فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال :﴿ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ ؟ أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم. ﴿ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل أن تكون ( ما ) مصدرية، فيكون الكلام : خلقكم وعملكم، ويحتمل أن تكون بمعنى ( الذي ) يقديره والله خلقكم والذي تعملونه، وكلا القولين متلازم، والأول أظهر، لما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال :« إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته » فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا :﴿ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم ﴾، وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء، ونّجاه الله من النار، وأظهره عليهم، وأعلى حجته ونصرها، ولهذا قال تعالى :﴿ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم ﷺ، أنه بعدما نصره الله تعالى على قومه، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة، هاجر من بين أظهرهم وقال :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين ﴾ يعني أولاداً مطيعين يكونون عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم، قال الله تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ﴾ هذا الغلام هو ( إسماعيل ) عليه السلام، فإنه أو ولد بشر به إبراهيم عليه السلام، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل لكتاب، بلى في نص كتابهم، أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمر إبراهيم ﷺ تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة أخرى : بكره، فأقحموا هاهنا كذباً وبهتاناً ( إسحاق ) ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو ( إسحاق ) وحكي ذلك عن طائفة من السلف، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً، وليس ذلك في كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مُسَلَّماً من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم، وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا :﴿ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٥٣ ]، وقال تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] أي يولد في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقبل ونسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً؟ وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام، وقوله تعالى ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي ﴾ أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، قال ابن عباس ومجاهد :﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي ﴾ بمعنى شب وارتحل، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ﴿ قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى ﴾ قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية :﴿ قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى ﴾ ؟، وإنما أعلم أبنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى و طاعة أبيه ﴿ قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ﴾ أي امض لما أمرك الله من ذبحي، ﴿ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين ﴾ أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزّ وجلّ، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد، ولهذا قال الله تعالى :
2155
﴿ واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٤ ]، قال تعالى :﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى ( إبراهيم ) على الذبح و ( الولد ) شهادة الموت، وقيل :﴿ أَسْلَمَا ﴾ يعني استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله وأبيه، ومعنى ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ : أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه، قال ابن عباس ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ أكبه على وجهه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما أمر لما أمر إبراهيم عليه السلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه، فسبقه إبراهيم ﷺ، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات، حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات، وثم تلَّه للجبين، وعلى إسماعيل ﷺ قميص أبيض : فقال له : يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفني فيه، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه :﴿ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ فالتفت إبراهيم، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين.
وقوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾ أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، وذكر السيد وغيره أنه أمرَّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس، ونودي إبراهيم ﷺ عند ذلك ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين ﴾ أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ﴾ [ الطلاق : ٢-٣ ]، قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين ﴾ أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك، مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى ﴾ [ النجم : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ عن علي رضي الله عنه قال : بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة، حتى شقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر، قال مجاهد : ذبحه بمنى عند النحر، وقال الثوري، عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ قال : وعل، وقال الحسن : ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى، أهبط عليه من ثبير.
( ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل ﷺ وهو الصحيح المقطوع به )
تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق ﷺ، وروى مجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ( إسماعيل ) ﷺ، وروى ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، أنه قال : المفدى إسماعيل عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وروى مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الذبيح إسماعيل، وقال مجاهد : هو إسماعيل ﷺ، وقد رأيت قرني الكبس في الكعبة، وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم ( إسماعيل ) عليه السلام، قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه ( إسماعيل ) وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، ويقول الله تعالى :
2156
﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ﴾ [ هود : ٧١ ] يقول : بابن، وابن ابن، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعد، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل، قال ابن إسحاق، سمعته يقول ذلك كثيراً، وقال ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي : أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك، قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر : أيُّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه ليصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم، والله أعلم أيهما كان، وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عزّ وجلّ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال : إسماعيل.
وقال أبن أبي حاتم، وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل ﷺ، قال : وروي عن علي، وابن عمر، وأي هريرة، وأبي الطفيل، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل، وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ﴾ فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى :﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ]، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم، بل هو بعيد جداً، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه ( إسماعيل ) أثبت وأصح وأقوى، والله أعلم.
2157
وقوله تعالى :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾ لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر، وقوله تعالى :﴿ نَبِيّاً ﴾ أي سيصير منه نبي صالح، قال ابن عباس : بشر بنبوته، حين ولد، وحين نبىء، وقال قتادة في قوله ﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾ قال : بعدما كان من أمره لما جاد الله تعالى بنفسه، وقوله تعالى :﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ﴾ كقوله تعالى :﴿ قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ هود : ٤٨ ].
2158
يذكر تعالى ما أنعم به على ( موسى ) و ( هارون ) من النبوة، والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه، وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة، من قتل الأبناء واستحياء النساء، واستعمالهم في أخس الأشياء، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم، وما كانوا جمعوه طول حياتهم، ثم أنزل الله عزّ وجلّ على موسى الكتاب العظيم، الواضح الجلي المستبين وهو ( التوراة ) كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً ﴾ [ الأنبياء : ٤٨ ]. وقال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين * وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم ﴾ أي في الأقوال والأفعال، ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين ﴾ أي أبقينا لهما من بعدهما ذكراً جميلاً، وثناء حسناًن ثم فسره بقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ﴾.
قال قتادة : يقال إلياس هو إدريس، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إلياس هو إدريس، وكذا قال الضحّاك، وقال وهب بن منبه : هو إلياس بن نسي بن فنحاص، بعثه الله تعالى ففي بني إسرائيل بعد ( حزقيل ) عليهما السلام، وكانوا قد عبدوا صنماً يقال له بعل، فدعاهم إلى الله تعالى، ونهاهم عن عبادة ما سواه، وكان قد آمن به ملكهم، ثم ارتد، واستمروا على ضلالتهم، ولم يؤمن به منهم أحد، فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه بالإيمان به إن هم أصابهم المطر، فدعا الله تعالى لهم، فجاءهم الغيث، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر، فسأل الله أن يقبضه إليه، وكان قد نشأ على يديه ( اليسع بن أخطوب ) عليهما السلام.
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أي ألا تخافون الله عزّ وجلّ في عبادتكم غيره، ﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين ﴾ ؟ قال ابن عباس ومجاهد :﴿ بَعْلاً ﴾ يعني رباً، قال عكرمة وقتادة : وهي لغة أهل اليمن، وقال ابن إسحاق : أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق، وقال الضحّاك : هو صنم كانوا يعبدونه، وقوله تعالى :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً ﴾ ؟ أي أتعبدون صنماً، ﴿ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين * الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين ﴾ أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، قال الله تعالى :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ أي للعذاب يوم الحساب، ﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ أي الموحدين منهم، وهذا استثناء منقطع، وقوله تعالى :﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين ﴾ أي ثناء جميلاً ﴿ سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ ﴾، كما يقال في إسماعيل إسماعين، وهي لغة بني أسد، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين ﴾ قد تقدم تفسيره، والله أعلم.
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( لوط ) عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه، فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته، فإنها هلكت مع من هلك من قومها، فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات، وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟ أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها.. ؟
قد تقدمت قصة يونس ﷺ في سورة الأنبياء، وفي « الصحيحين » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »، ونسبه إلى أمه، وفي رواية إلى أبيه، وقوله تعالى :﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون ﴾ قال ابن عباس : هو الموقر أي المملوء بالأمتعة، ﴿ فَسَاهَمَ ﴾ أي قارع ﴿ فَكَانَ مِنَ المدحضين ﴾ أي المغلوبين، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على أنّ من تقع عليه القرعة يلقى في البحر، لتخف بهم السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله ( يونس ) ﷺ ثلاث مرات، وهم يضنّون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليقلي نفسه، وهم يأبون عليه ذلك، وأمر الله تعالى حوتاً أن يلتقم يونس عليه السلام، فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها، ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات، ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه، فإذا هو حي، فقال فصلى في بطن الحوت، وكان من جملة دعائه :« يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس »، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت، فقيل ثلاثة أيام، وقيل : سبعة، وقيل أربعين يوماً، وقال مجاهد : التقمه ضحى ولفظه عشية، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك. وقوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ قيل : لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء، وقال الضحّاك واختاره ابن جرير. وفي الحديث :« تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ». وقال ابن عباس والحسن وقتادة ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين ﴾ يعني المصلين، وقال بعضهم كان المسبحين في جوف أبويه، وقيل : المراد ﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين ﴾ هو قوله عزّ وجلّ :﴿ فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ]. روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه :« إن يونس النبي ﷺ حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إن كنت من الظالمين، فأقبلت الدعوة تحن بالعرش، قالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة، فقال الله تعالى : أما تعرفون ذلك؟ قالوا : يا رب ومن هو؟ قال عزّ وجلّ : عبدي يونس، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة، قالوا : يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء؟ قال : بلى، فأمر الحوت فطرحه بالعراء ».
2162
ولهذا قال تعالى :﴿ فَنَبَذْنَاهُ ﴾ أي ألقيناه ﴿ بالعرآء ﴾، قال ابن عباس : وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء، قيل : على جانب دجلة، وقيل : بأرض اليمن، فالله أعلم، ﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ أي ضعيف البدن، قال ابن مسعوود رضي الله عنه : كهيئة الفرخ ليس عليه ريش، وقال السدي : كهيئة الصبي حين يولد، وهو المنفوس، ﴿ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ﴾ قال ابن مسعود وابن عباس :( اليقطين ) هو القرع، وقال سعيد بن جبير : كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين، وفي رواية عنه : كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين، وذكر بعضهم في القرع فوائد : منها سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة تغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً، وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يحب الدباء، ويتبعه من حواشي الصحفة، وقوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾، روي عن ابن عباس أنه قال : إنما كانت رسالة يونس ﷺ بعدما نبذه الحوت، وقال مجاهد : أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت، قلت : ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من الحوت، فصدقوه كلهم وآمنوا به، وحكى البغوي : أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون، وقوله تعالى :﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ قال ابن عباس : بل يزيدون، وكانوا مائة وثلاثين ألفاً، وقال سعيد بن جبير : يزيدون سبعين ألفاً؛ وقال مكحول : كانوا مائة ألف وعشرة آلاف، وقال ابن جرير، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ عن قوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ قال : يزيدون عشرين ألفاً. وقد سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ]، المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد، وقوله تعالى :﴿ فَآمَنُواْ ﴾ أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم، ﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ أي إلى وقت آجالهم، كقوله جلت عظمته ﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ ﴾ [ يونس : ٩٨ ].
2163
يقول تعالى منكراً على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات ﴿ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [ النحل : ٥٧ ] أي من الذكور، أي يودون لأنفسهم الجيد، ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [ النحل : ٥٨ ] أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين، يقول عزّ وجلّ فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم، ولهذا قال تعالى :﴿ فاستفتهم ﴾ أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم ﴿ أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون ﴾ ؟ كقوله عزّ وجلّ :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ]، وقوله تبارك وتعالى :﴿ أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ﴾ أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جلّ وعلا :﴿ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٩ ] أي يسألون عن ذلك يوم القيامة، وقوله جلت عظمته :﴿ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ﴾ أي من كذبهم ﴿ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله ﴾ أي صدر منه الولد ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾، فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب : فأولاً جعلوهم ( بنات الله ) فجعلوا لله ولداً تعالى وتقدس، ثُمَّ حجعلوا ذلك الولد ( أنثى ) ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم، ثم قال تعالى منكراً عليهم :﴿ أَصْطَفَى البنات على البنين ﴾ أي : أي شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين؟ كوله عزّ وجلّ :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ]، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ ؟ أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ ﴾ أي حجة على ما تقولونه، ﴿ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى كتاب منزل من السماء، عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً ﴾ قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات الله تعالى، فقال أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهاتهن؟ قالوا : بنات سروات الجن، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة ﴾ أي الذين نسبوا إليهم ذلك ﴿ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ﴾ أي إن الذين قالوا ذلك ﴿ لَمُحْضَرُونَ ﴾ في العذاب يوم الحساب، لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم، قال ابن عباس : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقوله جلت عظمته :﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علواً كبيراً، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل، وجعل ابن جرير هذا الاستنثاء من قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ.. إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين ﴾ وفي هذا الذي قاله نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
يقول تعالى مخاطباً المشركين :﴿ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم ﴾ أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة، من هو أضل منكم ممن ذرىء للنار، ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة، كما قال تبارك وتعالى :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [ الذاريات : ٨-٩ ] أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل، ثم قال تبارك وتعالى منزهاً للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ أي له موضع مخصوص في السماوات ومقام العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه، قال الضحّاك. كان مسروق يروي « عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله ﷺ :» ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم « فذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ » وقال الاعمش، عن ابن عباس رضي الله عنه قال :« إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾، قال ابن جريج : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون ﴾ فصفوا، وقال أبو نضرة : كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال : أقيموا صفوفكم، استووا قياماً، يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة، ثم يقول :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون ﴾، تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبره ».
وفي « صحيح مسلم » عن حذيفة رضي الله عنه قال :« قال رسول الله ﷺ :» فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً، وتربتها طهوراً « » الحديث، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص، فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه، وقال ابن عباس ومجاهد :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ الملائكة، ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون ﴾ الملائكة ﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ الملائكة تسبح الله تعالى وقال قتادة :﴿ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون ﴾ يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة. وقوله جل وعلا :﴿ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين ﴾، أي قد كانوا يتمنون أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جلّ جلاله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤٢ ]، وقال تعالى :﴿ أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٦ ] ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ وعيد أكيد وتهديد شديد، على كفرهم بربهم عزّ وجلّ وتكذيبهم رسوله ﷺ.
يقول تبارك وتعالى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين ﴾ أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقال : عزّ وجلّ :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ]، ولهذا قال جل جلاله :﴿ إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ﴾ أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم، ممن كذبهم وخالفهم، كيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين، ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ﴾ أي تكون لهم العاقبة، وقوله جل وعلا :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ ﴾ أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر، وقوله جلت عظمته :﴿ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي انظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك، ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد :﴿ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ﴾ أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك، ومع هذا يستعجلون العذاب والعقوبة، قال الله تعالى :﴿ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين ﴾ أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم، بإهلاكهم ودمارهم، وقال السدي :﴿ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ﴾ يعني بدارهم ﴿ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين ﴾ أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم، ولهذا ثبت في « الصحيحين » عن أنَس رضي الله عنه قال :« صبح رسول الله ﷺ خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا، وهم يقولون : محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي ﷺ :» الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين « »، وقوله تعالى :﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ينزه تبارك وتعالى نفسه الكريمة ويقدسها، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون، تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علواً كبيراً، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة ﴾ أي ذي العزة التي لا ترام ﴿ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين، ﴿ وَسَلاَمٌ على المرسلين ﴾ أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة، ﴿ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال، عن قتادة قال : قال رسول الله ﷺ :« إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين » وعن أبي سعيد رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ :« أنه كان إذا أراد أن يسلم قال :» سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين « » ثم يسلم، وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال :« قال رسول الله ﷺ :» من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القايمة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين ﴾ « » وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، قال ابن كثير : وقد أفردت لها جزءاً على حدة، ولله الحمد والمنة.
Icon