تفسير سورة الزمر

فتح البيان
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الزمر ويقال لها سورة الغرف، وهي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون آية وهي مكية
في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد، وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس قال : نزلت بمكة. سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي. قاتل حمزة :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ﴾ الثلاث الآيات. وقال آخرون إلا سبع آيات : من قوله :﴿ قل يا عبادي الذين ﴾ إلى آخر السبع. وأخرج النسائي عن عائشة قالت : كان يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نقول ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر :". وأخرجه الترمذي عنها بلفظ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل.

تنزيل الكتاب) ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة أي هذا تنزيل، وقال أبو حيان إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله (إن هو إلا ذكر للعالمين) كأنه قيل وهذا الذكر ما هو؟ فقيل هو تنزيل الخ، وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور بعده، أي تنزيل كائن من الله العزيز، وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء، وأجاز الفراء والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدر، أي اتبعوا أو اقرأوا تنزيل الكتاب، وقال الفراء يجوز نصبه على الإغراء أي الزموا والكتاب هو القرآن.
(من الله العزيز الحكيم) صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر.
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) أي أنزلناه بسبب الحق، وإثباته وإظهاره، أو متلبسين بالحق، أو متلبساً أو بداعية الحق واقتضائه للإنزال، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف.
قال مقاتل يقول لم ننزله باطلاً لغير شيء، وهذا ليس بتكرار، لأن
77
الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب، أو المراد بالثاني هو الأول وإظهار لتعظيمه ومزيد الإعتناء بشأنه.
(فاعبد الله مخلصاً له الدين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد، وتصفية السر. والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله، وأنه لا شريك له.
وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب وقد جاء في السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية كما في حديث " إنما الأعمال بالنيات " (١) وحديث " لا قول ولا عمل إلا بالنية ".
_________
(١) سبق ذكره.
78
(ألا لله الدين الخالص) مستأنفة مقررة لما قبلها من الأمر بالإخلاص، أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص، الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله.
وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال " يا رسول الله إنا نعطي أموالنا إلتماس الذكر فهل لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال يا رسول الله إنما نعطي إلتماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله ﷺ إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له " (١) ثم تلا هذه الآية، وقال الحسن الدين الإسلام.
ولما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص، وأن الدين الخالص له لا لغيره، بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص فقال:
_________
(١) رواه النسائي (٢/ ٥٩) وإسناده حسن كما قال الحافظ الواقي في تخريج الإحياء ٤/ ٣٢٨.
78
(والذين اتخذوا من دونه أولياء) الموصول عبارة من المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله (إن الله يحكم بينهم) وجملة (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى والذين لم يخلصوا العبادة لله بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريباً، فالزلفى اسم أقيم مقام المصدر، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء، والمراد بالزلفى الشفاعة كما حكاه الواحدي عن المفسرين.
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم من ربكم وخالقكم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ ومن أنزل من السماء ماء؟ قالوا الله. فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا (ليقربونا إلى الله زلفى) ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة).
(إن الله يحكم بينهم) أي بين أهل الأديان يوم القيامة فيجازي كُلاًّ بما يستحقه، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا وحذف الأول لدلالة الحال عليه، وقيل: بين المتنازعين من الفريقين (فيما هم فيه يختلفون) أي في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة تدّعي أن الحق معها.
(إن الله لا يهدي) أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق (من هو كاذب) في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله (كفار) أي كفر باتخاذها آلهة، وجعلها شركاء لله لأنه فاقد للبصيرة غير قابل للاهتداء، لتغييره الفطرة بالتمرن في الضلال، والتمادي في الغي، والجملة تعليل لما ذكر من حكمه، والكفار صيغة المبالغة تدل على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية، وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه عن أنس.
79
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧)
80
(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى) هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة، ولم يتأت ذلك إلا بأن يصطفي (مما يخلق) أي يختار من جملة خلقه.
(ما يشاء) أن يصطفيه إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً، كما يفيده التعبير بالاصطفاء، مكان الاتخاذ، فمعنى الآية لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال: (سبحانه) أي تنزيهاً له عن ذلك وجملة (هو الله الواحد) مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات، أي هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له.
(القهار) لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال
80
وجود الولد في حقه، لأن الولد مماثل لوالده، ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا) والآية إشارة إلى قياس استثنائي حذفت صغراه، ونتيجته تقريرهما، لكنه لم يصطف أي لم يتخذ ولداً، وهذا النفي باعترافهم شامل لسائر الخلائق، فلم يرد اتخاذ الولد، تأمل.
ثم لما ذكر سبحانه كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته فقال:
81
(خلق السموات والأرض بالحق) أي لم يخلقهما باطلاً لغير شيء ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، ثم بين كيفية تصرفه في السموات والأرض فقال:
(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه على بعض، يقال كور المتاع، إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثاً) هكذا قال قتادة وغيره قال الضحاك: أي يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول.
وقيل معنى الآية أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ومنتهى النقصان تسع ساعات، ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة، وقيل: المعنى أن هذا يكر على هذا، وهذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، قال الراغب تكوير الشيء إدارته، وضم بعضه على بعض، ككور العمامة أهـ.
وقيل التكوير اللف واللي، وقال ابن عباس: يكور يحمل، والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها، وانتقاص الليل والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا.
81
ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل وهما الشمس والقمر فقال: (وسخر الشمس والقمر) أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ثم بين كيفية هذا التسخير فقال: (كل يجري لأجل مسمى) أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا وذلك يوم القيامة: وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة يس.
(ألا هو العزيز الغفار) ألا حرف تنبيه، وتصدير الجملة بها لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها. والمعنى تنبهوا أيها العباد فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته وبديع صنعته فقال:
82
(خلقكم من نفس واحدة) وهي نفس آدم (ثم جعل منها زوجها) جاء بثم للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف إما على مقدر وهو صفة لنفس قال الفراء والزجاج: التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة، ثم جعل منها زوجها، ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة. أي من نفس انفردت بالإيجاد ثم جعل الخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة، دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة (١) في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم يجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة وأفعاله الدالة على ما ذكر فقال: (وأنزل لكم من الأنعام) عبر بالإنزال لما يروي أنه خلقها في الجنة، ثم أنزلها فيكون الإنزال حقيقة كما قيل في قوله (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) فإن آدم لما أهبط إلى الأرض أنزل معه
_________
(١) إن خلق آدم لم يكن على عادة الله المستمرة في خلقه، لأنه خلق من تراب وعلى غير مثال سابق، فخلقه ربما يكون أدخل في كمال القدرة من خلق حواء.
أما بنوه فقد خلقوا على عادة الله المستمرة في خلقه، وهي التناسل. ولعل، هذا ما قصد إليه المؤلف من التعبير بكاف المخاطبين وميم الجمع في قوله تعالى: " خلقكم من نفس واحدة ".
82
الحديد، ويحتمل أن يكون مجازاً؛ لأنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء، والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة لأن سبب سببها منزل. وهذا يسمى التدريج، ومنه قوله تعالى (قد أنزلنا عليكم لباساً) وقيل: إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل: جعل الخلق إنزالاً لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء.
(ثمانية أزواج) هي ما في قوله (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ويعني بالاثنين في الأربع المواضع الذكر والأنثى، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ويحصل منهما النسل، فيطلق لفظ الزوج على المفرد إذا كان معه آخر من جنسه لا ينفك عنه، ويحصل منهما النسل، وكذا يطلق على الإثنين فهو مشترك، والمراد هنا الإطلاق الأول، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأنعام، ثم بين سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة فقال:
(يخلقكم في بطون أمهاتكم) قرأ حمزة بكسر الهمزة والميم وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم، وإنما قال (في بطون أمهاتكم) مع أن الإنسان والحيوان مشترك في هذا الخلق لتغليب من يعقل، ولشرف الإنسان على سائر الخلق (خلقاً) كائناً (من بعد خلق) الجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، ومن بعد خلق صفة له. قال قتادة والسدي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً. وقال ابن زيد خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم.
(في ظلمات ثلاث) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم؛ وظلمة المشيمة؛ قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال سعيد بن جبير ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم وظلمة الليل وقال أبو عبيدة ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة؛ وظلمة الرحم والرحم داخل البدن والمشيمة داخل الرحم قال ابن الأعرابي يقال لما يكون فيه الولد المشيمة والكيس والغلاف؛ والجمع مشيم بحذف الهاء، ومشايم، ويقال لها من غيره السلى، والإشارة بقوله (ذلكم
83
الله ربكم) إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة والاسم الشريف خبره وربكم خبر آخر.
(له الملك) الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شراكة لغيره فيه، وهو خبر ثالث وقوله: (لا إله إلا هو) خبر رابع (فأنى تصرفون) أي فكيف تنصرفون عن عبادته؟ وتتقلبون عنها إلى عبادة غيره؟ أو تصرفون عن طريق الحق بعد هذا البيان، ولما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده، وبين لهم من بديع صنعه، وعجيب فعله، ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله:
84
(إن تكفروا فإن الله غني عنكم) أي غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا عبادتكم له، فإنه الغني المطلق.
(و) مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضاًً (لا يرضى لعباده الكفر) أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به، ولا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه، ويثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهي عنه ويذم عليه، ويعاقب مرتكبه، وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها.
قال أبو السعود: عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم، رحمة عليهم لا لتضرره تعالى به انتهى. ومثل هذه الآية قوله (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاًً " (١).
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها؟ وأن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة، والمعنى لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما، ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر، فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه
_________
(١) وتمام الحديث في مسلم ٨/ ١٧.
84
وقال الآخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً.
وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز.
قال ابن عباس في قوله: (إن تكفروا) إلخ يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولوا لا إله إلا الله، ثم قال: (ولا يرضى لعباده الكفر) وهم عباده المخلصون، الذين قال فيهم (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله، وحببها إليهم أخرجه ابن جرير فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى، كقوله (عيناً يشرب بها عباد الله) يريد بعض العباد وقال عكرمة لا يرضى لعباده المسلمين الكفر، وعن قتادة قال، والله ما رضي الله لعبد صلاته، ولا أمره بها، ولا دعاه إليها، ولكن رضي لكم طاعته، وأمركم بها، ونهاكم عن معصيته، ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال:
(وإن تشكروا يرضه لكم) أي يرضى لكم الشكر، المدلول عليه بقوله: وإن تشكروا أي يثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة. كما قال سبحانه (لئن شكرتم لأزيدنكم) لا لانتفاعه به، قرىء بإسكان الهاء من يرضه، وبإشباع الضمة على الهاء. واختلف الباقون والقراءات كلها سبعية.
(ولا تزر وازرة وزر أخرى)، أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وهذا بيان لعدم سراية كفر الكافر لغيره أصلاً، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى (ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم تعملون) من خير وشر، وفيه تهديد شديد (إنه عليم بذات الصدور) أي بما تضمره القلوب وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه، وهذا تعليل بالتنبيه بالأعمال.
85
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩)
86
(وإذا مس الإنسان ضر) أي ضر كان في جسمه أو ماله أو أهله أو ولده من بلاء ومرض أو فقر أو خوف أو شدة لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده، والمس في الأعراض مجاز. وجواب إذا قوله (دعا ربه منيباً إليه) أي راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً لما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي، أو صنم أو غير ذلك في حال الرخاء لعلمه أنها بمعزل عن القدرة على كشف ضره.
(ثم إذا خوله نعمة منه) أي أعطاه وملكه، ويقال خوله الشيء أي ملكه إياه ولا يستعمل في الجزاء، بل في ابتداء العطية (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله وهو معنى قوله: (وجعل لله أنداداً) أي شركاء من الأصنام أو غيرها، يستغيث بها ويعبدها؛ وقال السدي: يعنى أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره (ليضل عن سبيله) أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد قرأ الجمهور بضم الياء، وقرىء بفتحها، وهما سبعيتان، واللام للعاقبة، ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدد من كان متصفاً بتلك الصفة فقال:
(قل تمتع بكفرك قليلاً) أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فمتاع الدنيا قليل قال الزجاج لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد والوعيد وفيه إشعار بأن الكفر
86
نوع تشه لا سند له، وإقناط للكافرين من التمتع في الآخرة، ولذلك علله بقوله:
(إنك من أصحاب النار) على سبيل الاستئناف للمبالغة أي مصيرك إليها عن قريب، وإنك ملازمها ومعدود من أهلها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع، وفيه من التهديد أمر عظيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة، وقيل: في أبي حذيفة المخزومي، وقيل: هو عام في كل كافر، وهو الأوفق بقواعد الشريعة.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال:
87
(أمن هو قانت) هذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله ﷺ والمعنى أذلك الكافر أحسن حالاً ومآلاً أمن هو قائم بطاعات الله في السراء والضراء، في ساعات الليل، مستمر على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به؟ قرىء: أمن بالتشديد وبالتخفيف، فعلى القراءة الأولى (أ) داخلة على (من) الموصولة، وأدغمت الميم في الميم وأم هي المتصلة، ومعادلها محذوف، أي الكافر خير؟ أم الذي هو قانت؟ وقيل، هي المنقطعة مقدرة ببل والهمزة، أي بل أمن هو قانت كالكافر؟ وعلى الثانية الهمزة للإستفهام، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف، أي أمن هو قانت كمن كفر؟ وقال الفراء إن الهمزة في هذه القراءة للنداء، ومن منادى، وهي عبارة عن النبي ﷺ المأمور بقوله:
(قل تمتع بكفرك قليلاً) والتقدير: يا من هو قانت قل: كيت وكيت، وقيل: التقدير يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة، ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء، وضعف ذلك أبو حيان وقال هو أجنبي عما قبله وعما بعده، وقد سبقه إلا هذا التضعيف أبو علي الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك، فإنها إذا ثبتت
87
الرواية بطلت الدراية.
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع، وقيل: الخاشع أو القائم في صلاته، وقيل: الداعي لربه، قال النحاس: أصل القنوت الطاعة فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة.
(آناء الليل) جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعي وأمعاء، وقيل: واحدها أنو، يقال: مضى من الليل أنيان وأنوان والمراد بآناء الليل ساعاته وأوقاته، وقيل: جوفه، وقيل: ما بين المغرب والعشاء، وقيل: أوله وأوسطه وآخره.
(ساجداً وقائماً) منصوبان على الحال، أي جامعاً بين السجود والقيام في الصلاة، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، والآية دلت على ترجيح قيام الليل على النهار، وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل استر فيكون أبعد عن الرياء، ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي، وهو الخشوع في الصلاة، ومعرفة من يصلي له.
وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنة الراحة فيكون قيامه أشق على النفس، فيكون الثواب فيه أكثر قال ابن عباس: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل، ذكره القرطبي.
(يحذر الآخرة) أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل (ويرجو رحمة ربه) فيجمع بين الرجاء والخوف وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز قيل: وفي الكلام حذف تقديره كمن لا يفعل شيئاًً من ذلك، كما يدل عليه السياق، قيل: الرحمة هنا المغفرة، وقيل: الجنة، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل، وأولى أن ينسب إلى الله تعالى.
وعن ابن عمر أنه تلا هذه الآية وقال " ذاك عثمان بن عفان " (١). وفي
_________
(١) قاله السيوطي في الدر (٥/ ٣٢٣).
88
لفظ نزلت في عثمان بن عفان وعن ابن عباس قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال " دخل رسول الله ﷺ على رجل وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله ﷺ لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخاف " أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن النبي ﷺ مرسلاً.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم قولاً آخر، يتبين به الحق من الباطل فقال:
(قل هل يستوي الذين يعلمون) إن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق (والذين لا يعلمون) ذلك أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك أو المراد العلماء والجهال، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل.
قال الزجاج أي كما لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي.
وقيل المراد بالذين يعلمون هم العاملون بعلمهم، فإنهم المنتفعون به لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم، وقيل: افتتح الله الآية بالعمل وختمها بالعلم، لأن العمل من باب المجاهدات والعلم من باب المكاشفات، وهو النهاية فإذا حصل للإنسان دل ذلك على كماله وفضله.
(إنما يتذكر أولو الألباب) أي إنما يتعظ بوعظ الله ويتدبر ويتفكر فيه أصحاب العقول الصافية، والقلوب النيرة، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولاً فهي كالعدم، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به، بل من جهة الله سبحانه بعد الأمر بما ذكر من القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي، لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم.
89
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١)
90
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم من لا يعلم، وبين أنه (إنما يتذكر أولو الألباب) أمر رسوله ﷺ بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به، والمعنى يأيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه، وامتثال أوامره وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد: قل لهم قولي هذا بعينه، ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى، بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال:
(للذين أحسنوا) أي عملوا الأعمال الحسنة (في هذه الدنيا) على وجه الإخلاص (حسنة) عظيمة وهي الجنة، وقوله (في هذه الدنيا) متعلق بأحسنوا وقيل بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية، والظفر والغنمية، والأول أولى، ثم لا كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال:
(وأرض الله واسعة) وبلاده كثيرة، فليهاجر إلى حيث تمكنه طاعة الله والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، كما هو سنة الأنبياء والصالحين، فإنه لا عذر له في التفريط أصلاً؛ ومثل ذلك قوله سبحانه (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء.
90
وقيل المراد بالأرض الواسعة هنا أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله (جنة عرضها السموات والأرض) والجنة قد تسمى أرضاً. قال تعالى (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) والأول أولى.
وقيل ارتحلوا من مكة وتحولوا إلى بلاد أخر؛ واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم؛ وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منه ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا؛ وكان لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة؛ وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال:
(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله: بزيادة (أَجْرَهُمْ) في مقابلة صبرهم وما كابدوه من العسر (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي بما لا يقدر على حصره حاصر ولا يستطيع حسبانه حاسب وإن كان معلوماً محصياً عند الله.
قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب.
وقيل قوله إنما يوفى الصابرون ترغيب في التقوى الأمور بها. وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر، كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة.
والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو
91
غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة، تقتضي من كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروها قد وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصور، وتعقله حق تعقله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الخير الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى. ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب وما كان منه للضرورة أوجب
قال علي بن أبي طالب: كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثياً، وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، لما يذهب به أهل البلاء من الفضل، ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يخبرهم أولاً بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال:
92
(قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك، قال مقاتل: " إن كفار قريش قالوا للنبي ﷺ ما يحملك على الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك؟ وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها "، (١) فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة، ثم أمر الله رسوله ﷺ أن يخبرهم ثانياً بأنه مأمور بأن يكون أول من أطاع وانقاد وأسلم فقال:
_________
(١) ذكره الخازن في تفسيره دون مسنده.
92
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
93
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة وكذلك كان ﷺ فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد، ومعنى الأولية السبق بحسب الزمان، فالمراد بالسبق السبق بحسب الدعوة، فإن الأفضل أن من يدعو الغير إلى خلق كريم أن يدعو نفسه إليه أولاً، ويتخلق به حتى يؤثر في الغير كسنة الأنبياء والصالحين، لا الملوك والمتجبرين، واللام للتعليل، أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل: أنها مزيدة للتوكيد، والأول أولى، ثم أمره ثالثاً أن يخبرهم بخوفه من العذاب على تقدير العصيان فقال:
(قل إني أخاف إن عصيت ربي) بترك إخلاص العبادة له، وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك، وتضليل أهله (عذاب يوم عظيم) وهو يوم القيامة قال أكثر المفسرين: المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله.
قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب لأن قبله (وإنما أمرت أن أعبد الله)، فالمراد عصيان هذا الأمر، وفيه زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته، ومنصب نبوته إذا كان خائفاً حذراً من المعاصي فغيره أولى بذلك، ثم أمره رابعاً أن
93
يخبرهم بأنه امتثل الأمر وانقاد، وعبد الله وأخلص له الدين على أبلغ وجه، وآكده، إظهاراً لتصلبه في الدين، وحسماً لأطماعهم الفارغة، وتمهيداً لتهديدهم فقال:
94
(قل الله أعبد) التقديم مشعر بالاختصاص، أي لا أعبد غيره لا استقلالاً ولا على جهة الشركة، ومعنى (مخلصاً له ديني) أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، وقد تقدم تحقيقه في أول السورة، قال الرازي: فإن قيل ما معنى التكرير في قوله (إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)، وقوله (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) قلنا ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله.
(فاعبدوا ما شئتم) أن تعبدوه (من دونه) هذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ، كقوله (اعملوا ما شئتم) وفيه إيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى، وقيل إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأول أولى.
(قل إن الخاسرين) الكاملين في الخسران هم (الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) بتخليد الأنفس في النار وبعدم وصولهم إلى الحور المعدة لهم في الجنة لو آمنوا لأن من دخل النار فقد خسر نفسه وأهله، وأهلي جمع أهل وأصله أهلون أو أهلين والمراد بأهليهم أهل الآخرة، وقيل أزواجهم وخدمهم وقيل أهلهم في الدنيا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم، كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده.
قال الزجاج وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، قال ابن عباس في الآية هم الكفار الذين خلقهم للنار، زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، وعنه قال أهليهم من أهل الجنة، كانوا أعدوا
94
لهم لو أطاعوا الله فغيبوهم.
(ألا ذلك هو الخسران المبين) مستأنفة لتأكيد ما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الخسران ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل عليهم بعد تهويله بطريق الإبهام فقال:
95
(لهم من فوقهم ظلل من النار) الظلل عبارة عن أطباق النار أي لهم من فوقهم أطباق وسرادقات وقطع كبار من النار تلتهب عليهم وإطلاق الظلل عليها تهكم وإلا فهي محرقة والظلة تقي من الحر.
(ومن تحتهم ظلل) أي أطباق من النار وفراش ومهاد وسمي ما تحتهم ظلالاً لأنها من إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر، أو أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة أو لأنها تظل من تحتها من أهل النار لأن طبقات النار صارت في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، ومثل هذه الآية قوله (لهم في جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) وقوله: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم).
(ذلك) أي ما تقدم ذكره من وصف عذابهم في النار وهو مبتدأ وخبره قوله (يخوف الله به عباده) المؤمنين أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه فيتقوه وهو معنى (يا عباد فاتقون) أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم وقيل هو للكفار، وأهل المعاصي وقيل هو عام للمسلمين والكفار.
95
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
96
(والذين اجتنبوا الطاغوت) هو بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت وهو الأوثان والشيطان، وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان وقيل: إنه الكاهن، وقيل: هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت، وقيل: إنه اسم عربي مشتق من الطغيان إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين، وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان، وإن البناء بناء مبالغة وهو للاختصاص إذ لا تطلق على غير الشيطان قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، والمعنى أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل، وقوله:
(أن يعبدوها) في محل نصب على البدل من الطاغوت، بدل اشتمال كأنه قال اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة.
(وأنابوا إلى الله) معطوف على اجتنبوا، والمعنى رجعوا إليه بالكلية، وأقبلوا على عبادته، معرضين عما سواه (لهم البشرى) بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو على ألسنة الملائكة عند حضور الموت أو عند البعث أو من الله تعالى لقوله (تحيتهم يوم يلقونه سلام) ولا مانع أن يكون من الله ومن الملائكة، فإن فضل الله واسع.
وقيل: لهم البشرى في الدنيا بالثناء عليهم بصالح أعمالهم، وعند الوضع في القبر، وفي الآخرة عند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب، وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة، وفي الجنة، ففي كل موقف من هذه
96
المواقف تحصل لهم البشارة، بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
(فبشر عباد) المراد بالعباد هنا العموم فيدخل الموصوفون بالاجتناب والإنابة إليه دخولاً أولياً وقيل: المراد بهم هم الموصوفون باجتناب الأوثان والإِنابة إلى الله فالمقام للضمير، وإنما أتى به ظاهراً توصلاً لوصفهم بما ذكر.
97
(الذين يستمعون القول) الحق من كتاب الله وسنة رسوله (فيتبعون أحسنه) أي محكمه، ويعملون به قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن.
وقيل: يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة، وعن ابن عمر قال. كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الآية ثم أثنى الله سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال:
(أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) أي هم الذين أوصلهم إلى الحق، وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم، وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: " لما نزلت فبشر عبادي الذين الآية أرسل رسول الله ﷺ منادياً فنادى من مات لا يشرك بالله شيئاًً دخل الجنة فاستقبل عمر الرسول فرده، فقال يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس فلا يعملون، فقال رسول الله ﷺ لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم ". وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
97
وفي الآية إشارة إلى إيثار الاتباع، وترك التقليد، لأن الله قد أثنى على المتبعين بكونهم مهديين، وسماهم أولي الألباب، ولم يثن على التقليد ولا على أهله في موضع من القرآن الكريم، بل ذمه وذمهم في غير موضع كما تقدم مراراً ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال:
98
(أفمن حق عليه كلمة العذاب) من هذه موصولة في محل رفع على الابتداء، وخبرها محذوف، أي كمن يخاف، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه أو شرطية وجوابه قوله (أفأنت تنقذ من في النار) فالفاء فاء الجواب، دخلت على جملة الجزاء وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار، وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام، وقال الفراء المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب؟ والمراد بها قوله تعالى لإبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) وقوله (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي.
ومعنى الآية التسلية لرسول الله ﷺ لأنه كان حريصاً على إيمان قومه فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله ﷺ أن ينقذه من النار، بأن يجعله مؤمناً، قال عطاء يريد أبا لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي ﷺ عن الإيمان.
وفي الآية مجاز بإطلاق المسبب وإرادة السبب، وتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، وأن اجتهاده في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار، وأصل الكلام: أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال؟ فوضع النار موضع الضلال، وضعاً للمسبب موضع السبي لقوة أمره، ثم عقب المجاز بما يناسبه من قوله تنقذ بدل تهدي فهو ترشيح، ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم من النار ومن تحتهم ظللاً استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال:
98
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٢١)
99
(لكن الذين اتقوا ربهم) وهم الذين خوطبوا بقوله (يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) ووصفوا بما عدد من الصفات الفاضلة، وهم المخاطبون أيضاً فيما سبق بقوله: (يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الآية، وقيل لكن ليست للاستدراك لأنه لم يأت قبله نفي، بل هو إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى.
(لهم غرف من فوقها غرف) أي منازل في الجنة رفيعة، فوقها منازل هي أرفع منها، وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض وقوله لهم غرف في معنى وعدهم الله بذلك، وعداً لا يخلفه وأنها (مبنية) بناء المنازل في إحكام أساسها وقوة بنائها، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها.
(تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها وانتصاب (وعد الله) على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة لأن قوله لهم غرف في معنى وعدهم الله ذلك، وجملة:
(لا يخلف الله الميعاد) مقررة للوعد، أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال: " إن أهل الجنة يتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق، أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم،
99
قال بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " (١)، متفق عليه.
ولما ذكر سبحانه الجنة ووصفها بوصف يوجب الرغبة والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع فقال:
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٢٠٢٢ و٢٠٢٣.
100
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً) أي من السحاب مطراً (فسلكه) أي فأدخله وأسكنه (ينابيع) أي عيونا ومسالك ومجاري وركايا (في الأرض) كالعروق في الجسد، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة التي ينبع منها الماء من خلال الأرض أو نفس الماء الجاري والمعنى:
أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيوناً جارية أو جعله في ينابيع أي في أمكنة ينبع منها الماء فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض، قال مقاتل: فجعله ركايا وعيوناً في الأرض، وقال ابن عباس ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله (فسلكه ينابيع في الأرض) فمن سره أن يعوده الملح عذباً فليصعده.
(ثم يخرج به) أي بذلك الماء من الأرض، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة (زرعاً مختلفاً ألوانه) من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر؛ أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف، وشمل لفظ الزرع جميع ما يستنبت حتى المقات.
(ثم يهيج) أي يجف وييبس يقال: هاج النبت يهيج هيجاً إذا تم جفافه وحان له أن ينتشر عن منبته، قال الجوهري: يقال: هاج النبت هياجاً
100
إذا يبس، وأرض هايجة يبس بقلها، أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، قال المبرد قال الأصمعي يقال: هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى قال وكذلك هاج النبت (فتراه) بعد خضرته ونضارته، وحسن رونقه (مصفراً) قد ذهبت خضرته وزالت نضارته.
(ثم يجعله حطاماً) أي متفتتاً متكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس، ويقال للدابة إذا أسنت حطمة، ويتعدى بالحركة فيقال: حطمته حطماً من باب ضرب فانحطم، وحطمته بالتشديد مبالغة، قرأ الجمهور: ثم يجعله بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرىء بالنصب بإضمار أن ولا وجه لذلك.
(إن في ذلك) المذكور من الأفعال الخمسة التي أولها أنزل (لذكرى لأولي الألباب) أي لتذكيراً لأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها، فيتفكرون ويعتبرون، ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم، وقرب التقضي، وذهاب بهجتها، وزوال رونقها ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها، والميل إليها، وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة، واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك.
وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، والمعنى أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير، ثم لما ذكر سبحانه (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) ذكر شرح الصدر للإسلام لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال:
101
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣)
102
(أفمن شرح الله صدره للإسلام) أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير، قال السدي: وسع صدره للإسلام للفرح به، والطمأنينة إليه. وشرح الصدر للإِسلام عبارة عن تكميل الاستعداد له، فإنه محل للقلب الذي هو منبع الروح التي تتعلق بها النفس القابلة للإسلام، فانشراحه مستدع لانشراح القلب، والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في (أفمن حق) ومن الخ مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كمن قسا قلبه، وطبع الله عليه، وحرج صدره فلم يهتد.
ودل على هذا الخبر المحذوف قوله: (فويل للقاسية قلوبهم) والمعنى أفمن وسع الله صدره للإسلام فقبله واهتدى بهديه (فهو) بسبب ذلك الشرح (على نور) أي على بيان وبصيرة ويقين وهداية (من ربه) يفيض عليه كمن قسى قلبه لسوء اختياره؟ فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة.
قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهي. قال الزجاج تقدير الآية أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته؟ قال ابن عباس
102
من شرح الله صدره للإسلام أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: " تلا النبي ﷺ هذه الآية قلنا: يا نبي الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: فما علاقة ذلك يا رسول الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت ".
وأخرج ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر أن رجلاً قال: " يا نبي الله أي المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت "، وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور عن رسول الله ﷺ بنحوه، وزاد فيه ثم قرأ (أفمن شرح الله صدره للإسلام).
(فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) قال الفراء والزجاج أي عن ذكر الله كما تقول اتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته والمعنى أنه غلظ قلبه وجفا عن قبول ذكر الله والقسوة جمود وصلابة تحصل في القلب، يقال قسى القلب إذا صلب، وقلب قاسٍ أي صلب لا يرق ولا يلين، وقيل المعنى من أجل ذكره الذي من حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب، والمعنى أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله، أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة، كقوله: (فزادتهم رجساً إلى رجسهم).
وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول
103
الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح، فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عند سماعه، ولا يزيد الكافرين إلا قسوة.
قال مالك بن دينار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة، وأخرج الترمذي، وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " (١).
والإشارة بقوله (أولئك) إلى القاسية قلوبهم (في ضلال مبين) أي غواية ظاهرة واضحة ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز فقال:
_________
(١) روى ابن ماجه (٤١٩٣) لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب. وروى البوصيري في الزوائد (ق ٢٥٨/ ١) والترمذي (٢/ ٥٠).
104
(الله نزل أحسن الحديث) يعني القرآن الذي فيه مندوحة عن سائر الأحاديث، وسماه حديثاً لأن النبي ﷺ كان يحدث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه، وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو القرآن، وفي إيقاع الاسم الشريف مبتدأ؛ وبناء نزل عليه تفخيم لشأن أحسن الحديث والوصف بهذا لوجهين:
أحدهما من جهة اللفظ، لأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه، وليس هو من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب والرسائل، بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، والثاني من جهة المعنى لأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف، مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين، وعلى أخبار الغيوب الكثيرة، وعلى الوعد والوعيد، والجنة والنار وغير ذلك.
104
(كتاباً) بدل من أحسن الحديث أو حال منه (متشابهاً) صفة لكتاب أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإحكام، وصحة المعاني وقوة المباني، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، والدلالة على المنافع العامة، وقال قتادة يشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف، وقيل يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل (الله نزل أحسن الحديث) الآية.
(مثاني) صفة أخرى لكتاب وهو جمع مثنى أو مثنى وأنه من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص وتتكرر فيه المواعظ والأحكام وقيل يثني في التلاوة فلا يمل سماعه ولا يسأم قارئه قرأ الجمهور مثاني بفتح الياء وقرىء بسكونها تخفيفاً واستثقالاً لتحريكها أو على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هو مثاني.
قال ابن عباس القرآن كله مثاني وعنه قال القرآن يشبه بعضه بعضاً ويرد بعضه إلى بعض، وعنه قال كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً وصح وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول أحكام وأقاصيص ومواعظ مكررات، ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب.
أو منصوب على التمييز من (متشابهاً) كما تقول رأيت رجلاً حسناً شمائل، والمعنى متشابهة مثانية.
قال الرازي في تبيين معنى مثاني إن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين، مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض والجنة والنار، والنور والظلمة، واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد والوعيد والرجاء، والخوف، والمقصود في ذلك البيان أن كل شيء ما سوى الحق زوج، وأن الفرد الأحد الحق هو الله ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف والبعد عن
105
مقصود التنزيه.
(تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) أي تضطرب وتتحرك وتشمئز صفة الكتاب أو حال منه، لأنه وإن كان نكرة فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض. يقال اقشعر جلده إذا تقبض، وتجمع من الخوف، ووقف شعره ومنه القشعريرة، والمعنى أنها تأخذهم منه قشعريرة.
قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله، وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد، والوجل والخوف. وقيل المراد بالجلود القلوب والأول أولى لذكرها فيما بعد. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين.
وقيل: المعنى إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت الجلود منه إعظاماً له، وتعجباً من حسنه وبلاغته. عن عبد الله بن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأوا القرآن؟ قالت: " كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
(ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) عدى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدى بها، كأنه قيل: سكنت واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته وحذف للعلم به.
قال بعض العارفين: إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإذا لاح لهم
106
عالم الجمال عاشوا. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنهم تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان.
وروي أن ابن عمر مر برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا. قالوا: إنه إذا قرىء عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط، فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط، وعنه قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرىء عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره. فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب، وقيل: إن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، لأن الخير مطلوب بالذات، والخوف ليس بمطلوب، وإذا حصل الخوف اقشعر منه الجلد، وإذا حصل الرجاء اطمأن إليه القلب، ولان الجلد.
(ذلك) الكتاب الموصوف بتلك الصفات (هدى الله يهدي به من يشاء) أن يهديه من عباده، وقيل الإشارة إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ورجاء ثوابه (ومن يضلل الله) أي يجعل قلبه مظلماً قاسياً غير قابل للحق (فما له من هاد) يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال، قرأ الجمهور من هاد بغير ياء وقرىء بالياء، ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب فقال:
107
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)
108
(أفمن يتقي بوجهه) الاستفهام للإنكار وقد تقدم الكلام فيه، وهذه الفاء الداخلة على من في قوله: أفمن حق عليه عاطفه ومن مبتدأ والخبر محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه (سوء العذاب يوم القيامة) لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى الاتقاء؟ قال الزجاج المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة؟.
قال عطاء وابن زيد يرمي به مكتوفاً في النار، فأول شيء تمس النار منه وجهه. وقال ابن عباس: ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمي به فيها، فأول ما يمس وجهه النار. وقال مجاهد يجر على وجهه في النار. قال الأخفش المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل؟ أم من سعد؟ مثل قوله تعالى (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة) ثم أخبر سبحانه عما يقوله الخزنة للكفار فقال:
(وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) وهو معطوف على يتقي أي ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله. ذوقوا قال عطاء أي جزاء ما كنتم تعلمون، ومثل هذه الآية قوله (هذا ما كنزتم
108
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) وقد تقدم الكلام على معنى الذوق في غير موضع ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار فقال:
109
(كذب الذين من قبلهم) أي من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى أنهم كذبوا رسلهم (فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) أي من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم
(فأذاقهم الله الخزي) أي الذل والهوان (في الحياة الدنيا) بالمسخ والخسف، والقتل والأسر والجلاء، وغير ذلك.
(ولعذاب الآخرة أكبر) لكونه في غاية الشدة مع دوامه (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا ممن يعلم الأشياء ويتفكر فيها ويعمل بمقتضى علمه لآمنوا وما كذبوا، قال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما، قال: والخزي المكروه.
(ولقد) اللام موطئة للقسم (ضربنا للناس في هذا القرآن) أي جعلنا وأوجدنا وبينا (من كل مثل) قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى من كل مثل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم، وليس المراد ما هو أعم من ذلك، فهو هنا كما في قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم، وقيل: المعنى ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء (لعلهم يتذكرون) يتعظون فيعتبرون.
(قرآناً عربياً) حال مؤكدة من هذا، وتسمى هذه حالاً موطئة لأن الحال في الحقيقة هو عربياً وقرآناً توطئة له، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً، كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح، قال الزجاج. عربياً منتصب على الحال، وقرآناً توكيد.
(غير ذي عوج) أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، قال الضحاك:
109
أي غير مختلف، قال النحاس: أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك، وقيل: غير متضاد، وقيل: غير ذي لبس، وقيل غير ذي لحن، وقيل: غير ذي شك؛ كما قال الشاعر:
وقد أتاك يمين غير ذي عوج من الإِله وقول غير مكذوب
وقال ابن عباس: غير مخلوق، وقيل: معناه صحيح مستقيم يفهم ولا يلتبس بخلافه من الباطل (لعلهم يتقون) علة أخرى بعد العلة الأولى وهي لعلهم يتذكرون، أي لكي يتاقوا الكفر والكذب، وقيل: علة لقوله: لعلهم يتذكرون فالأول سبب في الثاني، ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ فقال:
110
(ضرب الله مثلاً) أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها، ثم بين المثل فقال: (رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) قال الكسائي: نصب رجلاً لأنه تفسير للمثل، وقيل منصوب ينزع الخافض، أي ضرب الله مثلاً برجل، وقيل إن رجلاً هو المفعول الأول، ومثلاً هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس، وجملة. فيه شركاء في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف، وأصله سوء الخلق وعسره، وهو سبب التخالف والتشاجر، ويقال التشاخس بالخاء المعجمة، قال الفراء؛ أي مختلفون، وقيل: متنازعون، وقال المبرد متعاسرون من شكس يشكس شكساً فهو شكس، مثل عسر يعسر عسراً فهو عسر، وشكس بكسر الكاف هو القياس قال الجوهري التشاكس الاختلاف، قال: ويقال رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلهة كثيرة، ثم قال:
(وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ) أي خالصاً له. وهذا مثل من يعبد الله وحده، قرأ الجمهور. سلماً بفتح السين واللام، وقرىء بكسر السين وسكون اللام، وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن كثير ويعقوب سالماً اسم فاعل من سلم له فهو
110
سالم، واختارها أبو عبيد، قال لأن السالم الخالص ضد المشترك والسلم ضد الحرب، ولا موضع للحرب ههنا، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولالهما، فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم من سلم له كذا إذا خلص له، وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى، والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة أو على حذف مضاف، أي ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير ومن معه، قال ابن عباس، رجلاً سلماً أي ليس لأحد فيه شيء، ثم جاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال:
(هل يستويان مثلاً) وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والمعنى هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء؟ أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة، يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب، مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه؟ فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوه باستوائهما لأن أحدهما في أعلى المنازل، والآخر في أدناها، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما؟ أي حالهما وصفتهما؟ وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبنياً للجنس، وقال السمين وأفرد التمييز لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله ضرب الله مثلاً، وقرىء مثلين فطابق حالي الرجلين.
وجملة (الحمد لله) مقررة لما قبلها من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به، أي الحمد لله على عدم استواء هذين الرجلين، وقيل: الجملة اعتراضية فإن قوله (بل أكثرهم لا يعلمون) إضراب انتقالي من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس، وهم المشركون، فإنهم لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ووضوحه،
111
فيقعون في ورطة الشرك والضلال.
قال الواحدي والبغوي والمراد بالأكثر الكل، والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه، وعلو مكانه، وأن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختص به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة، فقال:
112
(إنك ميت وإنهم ميتون) وذلك إنهم كانوا يتربصون برسول الله ﷺ الموت، فأخبر أن الموت يعمهم جميعاً، فلا معنى للتربص، وشماتة الفاني بالفاني وهذا تمهيد لما يعقبه من الخصام يوم القيامة، قرأ الجمهور ميت وميتون بالتشديد، وقرىء مائت ومائتون، وبها قرأ عبد الله بن الزبير، وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلاً، ولا وجه للاستحسان فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى، قال الفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات وفارقته الروح قال الخليل: أنشد أبو عمرو:
وتسألني تفسير ميت وميت فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
وقال السمين: ولا خلاف بين القراء في تثقيل مثل هذا؟ قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نفسه ونعيت إليهم أنفسهم، ووجه هذا الإخبار الإِعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيداً لما بعده أخرج النسائي وغيره عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.
112
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
113
(ثم إنكم) أيها الناس جميعاً مؤمنكم وكافركم (يوم القيامة عند ربكم تختصمون) فيما بينكم من المظالم، قيل: يعني المحق والمبطل، وقيل: تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم، وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر، والظالم المظلوم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه ". رواه البخاري.
وعنه قال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم ولا متاع له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " (١)، أخرجه
_________
(١) مسلم ٨/ ١٨ والترمذي ٣/ ٢٩١ وأحمد ٢/ ٣٠٣ والبخاري ٨/ ٣٥ (معلق).
113
مسلم.
وعن ابن عمر قال: نزلت علينا هذه الآية وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه، أخرجه ابن جرير وأخرج النسائي وغيره عنه فال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا، وفي أهل الكتابين من قبلنا، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.
وعن الزبير بن العوام قال: لما نزلت: إنك ميت إلى قوله: تختصمون قلت: " يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه، قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد "، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا وعن إبراهيم لما نزلت هذه الآية قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال:
114
(فمن) أي لا أحد (أظلم ممن كذب على الله) فزعم أن له ولداً أو شريكاً أو صاحبة (وكذب بالصدق إذ جاءه) وهو ما جاء به رسول الله ﷺ من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرماته، وإخبارهم بالبعث والنشور، وما أعد الله للمطيع والعاصي، وقوله: (إذ جاءه) ظرف لكذب بالصدق أي كذب بالقرآن في وقت مجيئه. أي فاجأه بالتكذيب لما سمعه من غير وقفة، ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النُّصْفَة فيما يسمعون، ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً فقال:
114
(أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق؟ والمثوى المقام وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به، يثوى ثواء وثوياً، مثل مضى مضاء ومضياً، وحكى أبو عبيدة أنه يقال: أثوى، وأنكر ذلك الأصمعي وقال: لا نعرف أثوى ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال:
115
(والذي جاء بالصدق وصدق به) الموصول في موضع رفع بالابتداء وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تابعه. وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر، قاله علي بن أبي طالب، وعن أبي هريرة مثله، وقال مجاهد الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به علي بن أبي طالب.
وقال السدي الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة ومقاتل وابن زيد الذي جاء بالصدق النبي ﷺ والذي صدق به المؤمنون. وقال النخعي الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة.
وقيل إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود، والذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به، وقرىء صدق به بالتخفيف، أي صدق به الناس، قال ابن عباس الذي جاء بالصدق يعني بلا إله إلا الله وصدق به يعني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الذي جاء بالصدق هو جبريل جاء بالقرآن وصدق به محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع والكل صحيح.
قالوا والوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد، لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وذا غير جائز وإضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد. ولفظ الذي كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً فمعناه الجمع
115
لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله (أولئك هم المتقون) أي المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة، قال ابن عباس: يعني اتقوا الشرك: ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة فقال:
116
(لهم ما يشاؤون عند ربهم) أي لهم كل ما يشاؤونه من رفع الدرجات، ودفع المضرات، وتكفير السيئات، وجلب المنافع، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ (ذلك) أي ما تقدم ذكره من جزائهم، وهو مبتدأ وخبره (جزاء المحسنين) أي الذين أحسنوا في أعمالهم، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، " إن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (١)، ثم بين سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال:
_________
(١) سبق ذكره.
(ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا) فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم، لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاؤون أو بالمحسنين أو بمحذوف قرأ الجمهور أسوأ على أنه أفعل تفضيل وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى سيىء الذي عملوا أو بهذا الاعتبار عم الأسوأ جميع معاصيهم وقرىء أسواء بألف بين الهمزة والواو بزنة أحمال جمع سوء.
ولما ذكر الله سبحانه ما يدل على دفع المضار عنهم، ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم فقال:
(ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) إضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل، قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوىء، وعم الأحسن جميع حسناتهم، ولولا هذا التأويل لاقتضى النظم أنه يكفر عنهم أقبح السيئات فقط ويجزيهم على أفضل الحسنات فقط.
116
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (٣٧)
117
(أليس الله بكاف عبده) قرأ الجمهور بالإفراد، وقرىء بالجمع فعلى الأولى المراد النبي صلى الله عليه وسلم، أو الجنس ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخولاً أولياً وعلى الثانية المراد الأنبياء، أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيدة الأولى لقوله عقبه: (ويخوفونك) والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه، كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره، وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب. وقرىء بكافي عباده بالإضافة ويكافي بصيغة المضارع.
وقوله (ويخوفونك) يجوز أن يكون في محل نصب على الحال إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم إياك (بالذين من دونه) هي المعبودات التي يعبدونها، قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون كأن المعنى أنه كافيك في كل حال حتى في هذه الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة (ومن يضلل الله) أي من حق عليه القضاء بضلاله حتى غفل عن كفاية الله لعبده محمد، وخوفه بما لا ينفع ولا يضر (فما له من هاد) يهديه إلى الرشد ويخلصه من الضلالة.
(ومن يهد الله فما له من مضل) يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة (أليس الله بعزيز) أي غالب لكل شيء قاهر له (ذي انتقام) ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة.
117
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
118
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأنه الله سبحانه لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية، مع عبادتهم للأصنام والأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال:
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر؟ والضر هو الشدة والبلاء (أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) عنّي بحيث لا تصل إليّ والرحمة النعمة والرخاء قرأ الجمهور: كاشفات وممسكات في الموضعين بالإضافة، وقرأهما أبو عمرو بالتنوين،
118
واختار أبو عبيدة وأبو حاتم قراءة أبي عمرو لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود وبها قرأ الحسن وعاصم، قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكتوا وقال غيره قالوا لا تدفع شيئاًً من قدر الله، ولكنها تشفع فنزل:
(قل حسبي الله) في جميع أموري في جلب النفع ودفع الضر (عليه يتوكل المتوكلون) أي عليه لا على غيره يعتمد المعتمدون، ثم أمره الله سبحانه أن يهددهم ويتوعدهم فقال
119
(قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) أي على حالتكم التي أنتم عليها وتمكنتم منها، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا، وحيث للزمان وهما للمكان (إني عامل) على حالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله.
(فسوف تعلمون
من يأتيه عذاب يخزيه) أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة، ثم ذكر عذاب الآخرة فقال:
(ويحل عليه عذاب مقيم) أي دائم مستمر في الدار الآخرة، وهو عذاب النار، وهو مجاز في الطرف أو في الإسناد، وأصله مقيم فيه صاحبه، ثم لما كان يعظم على رسول الله ﷺ إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضل فقال:
119
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (٤٣)
120
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس) أي لأجلهم، ولبيان ما كلفوا به فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم، فهو للناس كافة، لأن رسالتك كذلك (بالحق) حال من الفاعل أو المفعول، أي محقين أو متلبساً بالحق (فمن اهتدى) طريق الحق وسلكها (فلنفسه ومن ضل) عنها (فإنما يضل عليها) أي على نفسه فضرر ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره.
(وما أنت عليهم بوكيل) أي مكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ وقد فعلت، وهذه الآيات منسوخة بآية السيف فقد أمر الله سبحانه رسوله بعد هذه أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا بأحكام الإسلام، ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال:
(الله يتوفى الأنفس حين موتها) أي يقبض الأرواح عند حضور آجالها ويخرجها من الأبدان (و) يتوفى الأنفس (التي لم تمت في منامها) أي لم يحضر أجلها في منامها، وقد اختلف في هذا فقيل: يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد، وقال الفراء: المعنى ويقبض التي لم تمت، عند انقضاء أجلها قال وقد يكون توفيها نومها فيكون التقدير على هذا، والتي لم تمت وفاتها نومها، قال الزجاج لكل إنسان نفسان إحداهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة إذا زالت زال معها
120
النفس، والنائم يتنفس قال القشيري في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد ولهذا قال: (فيمسك التي قضى عليها الموت) فلا يردها إلى البدن.
قرأ الجمهور قضى مبنياً للفاعل أي قضى الله عليها الموت، وقرىء على البناء للمفعول، واختار أبو عبيدة وأبو حاتم الأولى لموافقتها لقوله (الله يتوفى الأنفس).
(ويرسل الأخرى) أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة (إلى أجل مسمى) وهو الوقت المضروب لموته، وهو غاية جنس الإرسال، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري، وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف، فيمسك التي قضي عليها الموت، ويرسل الأخرى فيعيدها، والأولى أن يقال: أن توفى الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس، وحصول الآفة به في محل الحس، فيمسك التي قضى عليها الموت، ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها.
قيل: ومعنى يتوفى الأنفس عند موتها هو على حذف مضاف، أي عند موت أجسادها، وعن ابن عباس قال: نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه يتقلب ويعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وعنه قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام، فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى أجل مسمى، لا يغلط بشيء منها أخرجه عبد بن حميد وغيره، وعنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليه الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك.
121
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " (١).
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شيء واحد؟ أو شيئان والكلام في ذلك يطول جداً، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن (٢) والأظهر أنهما شيء واحد، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح.
(إن في ذلك) أي فيما تقدم من التوفي والإمساك والارسال للنفوس (لآيات) عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل (لقوم يتفكرون) في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله، وكمال قدرته، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة للمتعظين وتذكرة للمتذكرين.
_________
(١) صحيح الجامع/٤٠٠.
(٢) أهم هذه الكتب وأجمعها كتاب الروح لابن القيم طبعة مطبعة الإمام بتحقيق وتعليق المطيعي.
122
(أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل أ (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ) آلهة (شفعاء) تشفع لهم عند الله؟ (قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا) الهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على محذوف مقدر، أي أيشفعون؟ ولو كانوا الخ جواب لو محذوف، أي وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم والمعنى أنهم غير مالكين لشيء من الأشياء، وتدخل الشفاعة في ذلك دخولاً أولياً (ولا يعقلون) شيئاًً من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون، ثم أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال:
122
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤٨)
123
(قل لله الشفاعة جميعاً) فليس لأحد منها شيء إلا أن تكون بإذنه لمن ارتضى، كما في قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقوله (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وانتصاب (جميعاً) على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعداً لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، ثم وصف نفسه بسعة الملك فقال (له ملك السموات والأرض) أي يملكهما ويملك ما فيهما، ويتصرف في ذلك كيف يشاء، ويفعل ما يريد، فهو مالك الملك كله، لا يملك أحد أن يتكلم دون إذنه ورضاه (ثم إليه) لا إلى غيره (ترجعون) بعد البعث.
(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) انتصاب وحده على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والاشمئزاز في اللغة النفور، قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت، وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد، والمعنى متقارب، وقال
123
المؤرج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع. والمناسب للمقام تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل الازورار، وكان المشركون إذا قيل لهم: لا إله إلا الله انقبضوا، كما حكاه الله عنهم في قوله:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) قال ابن عباس في الآية: اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل ابن هشام، والوليد بن عقبة، وصفوان، وأبي بن خلف.
(وإذا ذكر الذين من دونه) اللات والعزى وغيرهما من الأصنام (إذا هم يستبشرون) أي يفرحون بذلك، ويبتهجون به، والعامل في (إذا) في قوله (وإذا ذكر الله) الفعل الذي بعدها وهو اشمأزت، والعامل في إذا في قوله (وإذا ذكر الذين) الخ الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير فاجأوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه، وذلك لفرط افتتانهم بها، ونسيانهم حق الله.
ولقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه، والاشمئزاز أن يمتلىء غضباً وغماً حتى ينقبض أديم وجهه، ولما لم يقبل المتمردون من الكفار ما جاءهم به رسول الله ﷺ من الدعاء إلى الخير، وصمموا على كفرهم أمره الله سبحانه، أن يرد الأمر إلى الله سبحانه، ويلتجىء إليه تعالى بالدعاء لما تحير في أمرهم، وعجز في عنادهم وشدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء، العالم بالأحوال كلها فقال:
124
(قل اللهم) أصله يا الله عوض عنها الميم لقربها من حروف العلة، وشددت لتكون على حرفين كالمعوض عنه، ولذا لم يجمع بينهما،
124
فلا يقال: يا اللهم في فصيح الكلام، وما سمع من قوله:
إني إذا ما حدثٌ ألمَّا... أقول: يا اللهم يا اللهما
فضرورة قاله الرخى (فاطر السموات والأرض) أي مبدعهما (عالم الغيب والشهادة) أي ما غاب وشوهد، وهما منصوبان على النداء:
(أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) من الهدى والضلالة، والمعنى تجازي المحسن بإحسانه، وتعاقب المسيء بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحق، ومن هو المبطل، ويرتفع عنده خلاف المختلفين، وتخاصم المتخاصمين.
وقيل: هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله تعالى.
وعن ابن المسيب لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها، وعن الربيع ابن خيثم -وكان قليل الكلام- أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه، وقالوا الآن يتكلم فما زاد أن قال آه أو قد فعلوا، وقرأ هذه الآية، وروي أنه قال على إثره. قتل من كان صلى الله عليه وآله وسلم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل افتتح صلاته:
" اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " (١). ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز عند ذكر
_________
(١) الجزء الأول منه أخرجه النسائي ٢/ ٣٢٠ والحاكم ٣/ ٦٢٢.
125
الله، والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظم عقوبتهم فقال:
126
(ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً) أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر (ومثله معه) أي منضماً إليه (لافتدوا به) أي بالمذكور من الأمرين أي لجعلوه فدية لأنفسهم (من سوء العذاب يوم القيامة) أي من سوء عذاب ذلك اليوم، وقد مضى تفسير هذا في آل عمران.
(وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) أي ظهر لهم من فنون عقوبات الله وسخطه، وشدة عذابه، ما لم يكن في حسابهم ولا يحدثون به في نفوسهم وفي هذا وعيد لهم عظيم، وتهديد بالغ غاية لا غاية وراءها وقال مجاهد عملوا أعمالاً توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات وكذا قال السدي.
وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء، وهذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار، جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعاً شديداً فقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله، (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب.
(وبدا لهم سيئات ما كسبوا) أي مساوىء أعمالهم من الشرك، وظلم أولياء الله، و (ما) تحتمل أن تكون مصدرية أي سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة أي سيئات الذي كسبوه، حين تعرض صحائف أعمالهم، وكانت خافية عليهم، أو عقاب ذلك (وحاق بهم) أي أحاط بهم ونزل بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) من الإنذار الذي كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
126
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
127
(فإذا مس الإنسان) المراد هنا بالإنسان الجنس باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل: المراد به الكفار فقط، والأول أولى، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه، لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاء بحق النظم القرآني، ووفاء بمدلوله، والمعنى أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه (ضر) من مرض أو فقر أو غيرهما (دعانا) وتضرع إلينا في رفعه ودفعه.
(ثم إذا خولناه نعمة منا) أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا (قال إنما أوتيته على علم) مني بوجوه المكاسب، أو على خير عندي، أو على علم من الله بفضلي، وقيل إن كان ذلك سعادة في المال أو عافية في النفس يقول: إنما حصل ذلك بجدي واجتهادي، وإن كان صحة قال: إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني، وإن حصل مالاً، يقول: حصل بكسبي، وهذا تناقض أيضاًً لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله تعالى، وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله تعالى وأسنده إلى كسب نفسه. وهذا تناقض قبيح.
وقال الحسن: على علم علمني الله إياه. وقيل: قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة، وجاء في أوتيته بالضمير مذكراً مع كونه
127
راجعاً إلى النعمة لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: إن الضمير عائد إلى (ما) وهي موصولة والأول أولى.
(بل هي فتنة) هذا رد لما قاله، أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت بل هو محنة لك واختبار لحالك، أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء: أنث الضمير في قوله: (هي) لتأنيث الفتنة، ولو قال: بل هو فتنة لجاز، وقيل: تأنيث الضمير باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأول في قوله: أوتيته باعتبار معناها وقال النحاس: بل عطية فتنة (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك استدراج لهم من الله، وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر.
128
(قد قالها الذين من قبلهم) أي قال هذه الكلمة التي قالوها، وهي قوله (إنما أوتيته على علم) الذين من قبلهم كقارون وقومه، فإن قارون قال (إنما أوتيته على علم عندي) وإنما نسب إليهم قوله باعتبار رضاهم به (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) ما نافية أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئاًً أو استفهامية أي أيُّ شيء أغنى عنهم ذلك.
(فأصابهم سيئات ما كسبوا) أي جزاء سيئات كسبهم أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمي الجزاء سيئات لوقوعه في مقابلة سيئاتهم، فيكون ذلك من باب الازدواج والمشاكلة. كقوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وفيه رمز إلى أن جميع أعمالهم كذلك، ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال:
(والذين ظلموا من هؤلاء) الموجودين من الكفار (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) كما أصاب من قبلهم، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل والأسر والقهر، والسين للتأكيد (وما هم بمعجزين) أي بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة.
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا) الضمير للقائلين (إنما أوتيته على علم) فالمعنى أقالوها ولم يعلموا؟ أو أغفلوا ولم يعلموا؟ (إن الله يبسط) أي يوسع
128
(الرزق لمن يشاء) أن يوسعه له، وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً (ويقدر) أي يقبضه على من يشاء أن يقبضه، ويضيقه عليه، وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاه، وقيل: يجعله على قدر قوت، قال مقاتل: وعظهم الله ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء؟ ويقتر على من يشاء؟ فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه، فلا بد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله، فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، والجاهل الضعيف في أعظم السعة.
(إن في ذلك) المذكور من التوسيع والتضييق (لآيات) أي لدلالات عظيمة وعلامات جليلة (لقوم يؤمنون) بالله، وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بالآيات، المتفكرون فيها، ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من الوعيد عقبة بذكر سعة رحمته، وعظيم معرفته، وأمر رسوله ﷺ أن يبشرهم بذلك فقال:
129
(قل يا عبادي) قرىء بإثبات الياء وصلاً ووقفاً. وبغير الياء. وهما سبعيتان (الذين أسرفوا) أي أفرطوا (على أنفسهم) في الكفر أو المعاصي واستكثروا منها (لا تقنطوا) بفتح النون وبكسرها أي لا تيأسوا (من رحمة الله) أي من مغفرته، وفي هذه الآية من أنواع المعاني والبيان أشياء حسنة: منها إقباله تعالى عليهم، ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: (من رحمة الله) ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله الآتي: (إن الله)، قاله السمين.
وقال عبد الله وغيره: هذه الآية أرجى آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة فإنه أولاً أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من
129
الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى، وبفحوى الخطاب قيل: وهذه عامة في كل كافر يتوب، ومؤمن عاص يتوب، فتمحو توبته ذنبه، والمراد منها التنبيه على أنه لا ينبغي للعاصي أن يظن أنه لا مخلص له من العذاب، فإن من أعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله تعالى إذ لا أحد من العصاة إلا وإنه متى تاب زال عقابه، وصار من أهل المغفرة والرحمة والحق أن الآية غير مقيدة بالتوبة بل هي على إطلاقها.
ولما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه، ويجعل الرجاء مكان القنوط، وجاء بما لا يبقى بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال:
(إن الله يغفر الذنوب) فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس، الذي يستلزم استغراق أفراده فهو في قوة إن الله يغفر كل ذنب كائناً ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني، وهو الشرك، ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله (جميعاً) فيالها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم، الصادقين في رجائه الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم، وما أحسن ما علل به سبحانه هذا الكلام قائلاً:
(إنه هو الغفور الرحيم) أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما فأبرز الجملة مؤكدة بإن والفصل، وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة، فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم من رحمته أولى بهم مما بشرهم الله به فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط هو الذي جاءت به مواعيد الله في كتابه العزيز والمسلك الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه
130
وسلم كما صح عنه من قوله: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (١).
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هو أن كل ذنب كائناً ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعاً يدل على أنه يشاء غفرانهما جميعاً، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية.
وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين، وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات فهو جمع بين الضب والنون وبين الملاح والحادي، وعلى نفسها براقش تجني.
ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، ولذا قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فلو كانت التوبة قيداً في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقد قال سبحانه (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) قال الواقدي المفسرون كلهم قالوا إن هذه الآية في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: هب أنها في هؤلاء القوم فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم، لا بخصوص السبب، كما هو متفق عليه بين أهل العلم، ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة، إن لم ترتفع كلها واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما لو عرفه المطلع عليه حق معرفته وقدره حق قدره علم صحة
_________
(١) البخاري ٤/ ٢٦ - ٥/ ١٠٨ - ٧/ ١٠١ - ٨/ ١١٤ مسلم ٥/ ١٤١ - أحمد ٤/ ٤١٢ - ٤/ ٤١٧.
131
ما ذكرناه، وعرف حقيقة ما حررناه، قاله الشوكاني.
وعن ابن عمر قال: " كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئاًً عرفوا الله وآمنوا به وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أنزل الله فيهم (قل يا عبادي الذين أسرفوا) الآيات، قال ابن عمر فكتبتها بيدي ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي ".
وعن أبي سعيد قال: " لما أسلم وحشي أنزل الله (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق)، قال وحشي وأصحابه قد ارتكبنا هذا كله، فأنزل الله (قل يا عبادي الذين أسرفوا) " الآية.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: " خرج النبي ﷺ على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون، فقال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي ﷺ فقال أبشروا وسددوا وقاربوا " (١).
وعن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن افتتن وعن ابن عباس أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك، وقتل النفس وغير ذلك وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ثوبان قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية، فقال رجل: ومن أشرك؟ فسكت النبي ﷺ ثم قال: ألا ومن أشرك، ثلاث مرات ".
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنة وابن المنذر والحاكم وغيرهم
_________
(١) حديث قاربوا وسددوا وأبشروا صحيح الجامع الصغير ٤١٧٣.
132
عن أسماء بنت يزيد: " سمعت رسول الله ﷺ يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جمعاً -ولا يبالي- إنه هو الغفور الرحيم " وعن ابن مسعود أنه مر على قاص يذكر الناس فقال: يا مذكر الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ يا عبادي الآية.
وعن ابن سيرين قال: قال علي: أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن: (من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية ونحوها، فقال علي: ما في القرآن أوسع من (يا عبادي) الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزير ابن الله ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم؟ ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء، من قال (أنا ربكم الأعلى) وقال: (ما علمت لكم من إله غيري) قال ابن عباس: ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه.
وحديث أبي سعيد الخدري " في رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً " في الصحيحين بطوله، وكذا حديث رجل قال " وذروُّني في الريح؟ " فيهما بطوله، عن أبي هريرة، وعنه في سنن أبي داود حديث رجلين متحابين.
وعن أنس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاًً لأتيتك بقرابها مغفرة " (١) أخرجه الترمذي والعنان السحاب، والقراب بضم القاف هو ما يقارب ملؤها.
_________
(١) رواه الترمذي ٢/ ٢٧٠ والدارمي ٢/ ٣٢٢ وأحمد ٥/ ١٧٢ و٥/ ١٥٤.
133
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٥٩)
134
(وأنيبوا إلى ربكم) أي ارجعوا إليه بالطاعة لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعاً أمرهم بالرجوع إليه، بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي وليس في هذا ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى. ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال إن هذه الجملة مستأنفة خطاباً للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله:
(وأسلموا له) جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى، وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيداً ولكنه يمكن أن يقال به، والمعنى على ما هو الظاهر أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإِنابة إليه، والإخلاص له، والاستسلام لأمره، والخضوع لحكمه.
وقوله (من قبل أن يأتيكم العذاب) أي عذاب الدنيا كما يفيده النظم، فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون، وتمسك به القانطون المقنطون والحمد لله رب العالمين (ثم لا تنصرون). أي لا تمنعون من العذاب إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب.
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) يعني القرآن، يقول: أحلوا
134
حلاله، وحرموا حرامه والقرآن كله حسن. قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معاصيه. وقال السدي الأحسن ما أمر الله به في كتابه.
وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه.
وقيل: الناسخ دون المنسوخ. وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام. وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية، ومثله قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) وقيل القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه أو العزائم دون الرخص، ولعله ما هو أنجى وأسلم، كالإنابة والمواظبة على الطاعة.
(من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به، وقيل: أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب، والأول أولى، لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، والخوف والقهر، والجدب لا عذاب الآخرة ولا الموت لأنه لم يسند الإتيان إليه.
135
(أن تقول نفس) قال البصريون: أي حذر أن تقول: وقال الكوفيون أي لئلا تقول، قال المبرد: بادروا خوف أن تقول أو حذراً من أن تقول، وقدره الزمخشري كراهة أن تقول، وابن عطية: وأنيبوا من أجل أن تقول وأبو البقاء والحوفي: أنذرناكم مخافة أن تقول قال الحلبي: عقب نقل بعض هذه التقادير: ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود أنيبوا ونكر (نفس) لأن المراد بها بعض الأنفس وهي النفس الكافرة المتميزة باللجاج الشديد في الكفر، أو بالعذاب الأليم.
وقيل: المراد به التكثير كما في قوله (علمت نفس ما أحضرت) أي نفوس كثيرة، وهم الكفار والعصاة المؤمنون. وقال الزجاج خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: (يا حسرتي) قرأ الجمهور يا حسرتا بالألف بدلاً من الياء المضاف إليها، وقرأ ابن كثير يا حسرتاه بهاء السكت. وقفاً، وقرأ أبو
135
جعفر: يا حسرتي بالياء على الأصل، والحسرة الندامة، والاغتمام والحزن على ما فات (على ما فرطت) أي على تفريطي وتقصيري فما مصدرية (في جنب الله) أي طاعته قاله الحسن.
والجنب والجانب كلاهما بمعنى جهة الشيء المحسوسة، وإطلاق الجنب على الطاعة مجاز بالاستعارة حيث شبهت بالجهة بجامع تعلق كل بصاحبه، فالطاعة لها تعلق بالله، كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها، وقال الضحاك: في ذكر الله ويعنى به القرآن والعمل به وقال أبو عبيدة، في ثواب الله، وقيل: في حق الله أو في أمر الله أو في ذات الله.
وقال الفراء: الجنب القرب والجوار أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله (والصاحب بالجنب) والمعنى على هذا القول على ما فرطت في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي.
وقال الزجاج: أي في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب، أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، يقال أنا في جنب فلان وفلان لين الجانب والجنب ثم قالوا: فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، وهذا من باب الكناية قال ابن عباس في الآية أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا وعلمهم قبل أن يعلموا.
(وإن كنت لمن الساخرين) أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قال قتادة: " لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، والجملة حالية، أي فرطت وأنا ساخر.
136
(أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) فهي كلمة حق
136
يريدون بها باطلاً.
قال أبو المنصور: هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم (لو هدانا الله لهديناكم) ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا، والمعتزلة يقولون: بل هداهم وأعطاهم التوفيق، لكنهم لم يهتدوا ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوه فقال:
137
(أو تقول حين ترى العذاب) والتعبير بأو للدلالة على أن النفس لا تخلو عن هذه الأقوال تحسراً وتحيراً وتعللاً بما لا طائل تحته، فأو للتنويع لما تقوله النفس في ذلك اليوم، ويصح أن تكون مانعة خلو فتجوز الجمع (لو أن لي كرة) أي رجعة إلى الدنيا (فأكون من المحسنين) المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية المتعللة بغير علة فقال:
(بلى) أي فيقال له من قبل الله: بلى الخ كأنه قال: ما هداني الله فيقال بلى (قد جاءتك آياتي) مرشدة لك، والمراد بالآيات هي الآيات التنزيلية وهو القرآن (فكذبت بها) وهو قوله: إنها ليست من عند الله (واستكبرت) أي تكبرت عن الإيمان بها (وكنت) مع ذلك التكذيب والاستكبار (من الكافرين) بالله.
وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله جاءتك وكذبت، واستكبرت، وكنت لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد أي إنسان واحد، أو التذكير باعتبار كونها شخصاً كافراً قرأ الجمهور بفتح التاء في هذه المواضع، وقرىء بكسرها في جميعها وهي قراءة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبنته عائشة، وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير.
137
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥)
138
(ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله) بأن له شريكاً، وصاحبة، وولداً (وجوههم مسودة) لما أحاط بهم من العذاب، ولما شاهدوه من غضب الله ونقمته، والجملة في محل النصب على الحال، قال الأخفش (ترى) غير عامل في (وجوههم مسودة) إنما هو مبتدأ وخبره، والأولى أن (ترى) إن كانت من الرؤية البصرية فجملة (وجوههم مسودة) حالية وإن كانت قلبية فهي مفعول ثان لترى.
(أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) الاستفهام لتقرير اسوداد وجههم، وتعليل له، كأنه قال: لأن لهم في جهنم مقراً ومقاماً، والكبر هو " بطر الحق وغمط الناس " (١)، كما ثبت في الحديث الصحيح.
_________
(١) جزء من حديث طويل رواه البخاري ٥٤٨ وأحمد ٢/ ١٦٩ والبيهقي في الاسماء بقوله: " إن نبي الله نوحاً لما حضرته الوفاة.... " وبطر الحق: إنكاره، وغمط الناس: ظلمهم.
(وينجي الله الذين اتقوا) الشرك ومعاصي الله من جهنم متلبسين (بمفازتهم) أي بمكان فوزهم من الجنة بأن يجعلوا فيه، قرأ الجمهور بالإفراد على أنه مصدر ميمي والفوز الظفر بالخير، والنجاة من الشر، قال المبرد المفازة مفعلة من الفوز وهي السعادة، وإن جمع فحسن كقولك:
138
السعادة والسعادات.
والمعنى ينجيهم الله بفوزهم، أي بنجاتهم من النار، وفوزهم بالجنة، وقرىء بمفازاتهم جمع مفازة وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع وقيل ثَمِّ مضاف محذوف، والتقدير بدواعي مفازتهم أو أسبابها، والمفازة المنجاة، وقيل لا حاجة لذلك إذ المراد بالمفازة الفلاح.
وجملة (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) مفسرة لمفازتهم كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل لا يمسهم الخ أو منصوبة رد علي الحال من الذين اتقوا، وقيل الباء للسببية أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم، وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم، لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه.
139
(الله خالق كل شيء) من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة، كائناً ما كان، من غير فرق بين شيء وشيء وفيه رد على المعتزلة والثنوية (وهو على كل شيء وكيل) أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها، من غير مشارك له.
(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) جملة مستأنفة والمقاليد واحدها مقليد ومقلاد، أو لا واحد له من لفظه كأساطير، ويقال أيضاً أقليد وأقاليد أو الكلمة أصلها فارسية على ما قيل إنه جمع إقليد معرب إكليد والكلام من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبرها هو الذي يملك مفاتيحها، فهو كناية عن شدة التمكن والتصرف في كل شيء مخزون في السموات أو في الأرض، والحمل على الظاهر أولى، وهي هنا مفاتيح الرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما، قال ابن عباس أي مفاتيحها، وقال الليث المقلاد الخزانة.
ومعنى الآية له خزائن السموات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي، وقيل: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات وقيل: هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظة لها، والأول أولى: قال الجوهري: الإقليد المفتاح ثم قال: والجمع المقاليد، وقيل هي لا إله إلا الله والله آكبر، وسبحان الله
139
وبحمده، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان ابن عفان قال:
سألت رسول الله ﷺ عن قول الله (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فقال لي: يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السموات والأرض لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير "، ثم ذكر فضل هذه الكلمات وله طرق عن عثمان. وقيل غير ذلك، والمعنى على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها أصابه.
(والذين كفروا بآيات الله) أي بالقرآن وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه وتوحيده (أولئك هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار متصل بقوله: (وينجي الله) الخ أي معطوف عليه وما بينهما اعتراض، وإن كان المعطوف جملة اسمية، والمعطوف عليه جملة فعلية فهذا لا يمنع صحة العطف، غايته أنه خال عن حسنه.
140
(قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) الاستفهام للإِنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والأصل أفتأمروني؟ أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده وتوحيده أن أعبد غير الله، قاله الكسائي وغيره، وقيل: أفتلزموني عبادة غير الله؟ أو أعبد غير الله؟ أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لمَّا دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا: هو دين آبائك.
وعن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله ﷺ أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطأون
140
عقبه فقالوا له: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء بالوحي: (قل يا أيها الكافرون) إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي) إلى قوله: (مِنَ الْخَاسِرِينَ) (١).
_________
(١) سيأتي الكلام عنه عند تفسيرنا لسورة الكافرون.
141
(ولقد) هذه اللام دالة على قسم مقدر أي والله لقد (أوحي إليك وإلى الذين من قبلك) من الرسل (لئن) جواب القسم وهذه اللام أيضاًً دالة على قسم مقدر أي والله لئن (أشركت) يا محمد فرضاً (ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وكل من هاتين اللامين واقعة في جواب القسم الثاني، والثاني وجوابه جواب الأول، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من الشرك، لأنه إذا كان موجباً لإِحباط عمل الأنبياء على الفرض والتقدير، فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى.
قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير ولقد أوحي إليك لئن أشركت الخ وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك، قال مقاتل أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد، والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي ﷺ خاصة.
وقيل إفراد الخطاب في لئن أشركت، باعتبار كل واحد من الأنبياء كأنه قيل أوحي إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام، لئن أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى.
(ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وقيل هذا خاص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم والأول أولى، ثم أمر الله سبحانه رسوله ﷺ بتوحيده فقال:
141
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
142
(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) وفي هذا رد على المشركين حيث أمروه بعبادة الأصنام ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر، قال الزجاج، لفظ اسم الله منصوب بأعبد قال ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين، وقال الفراء هو منصوب بإضمار فعل، وعن الكسائي مثله، والأول أولى.
قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة، وقال الأخفش زائدة قال عطاء ومقاتل. معنى فاعبد وَحِّد لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده (وكن من الشاكرين) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه، واختصك به من الرسالة.
(وما قدروا الله حق قدره) أي ما عرفوه حق معرفته، وقال المبرد أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، من قولك فلان عظيم القدر. وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك، وقرىء قدروا بالتشديد.
(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره، كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه، وإن لم يقبض عليه.
142
والمراد بالأرض الأرضون السبع، يشهد لذلك قوله (جميعاً) وقوله الآتي (وَالسَّمَاوَاتُ) لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، ولأن الموضع موضع تعظيم، فهو مقتض للمبالغة، والمعنى الأرضون جميعاً ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم بها ومعرفتهم بحقيقتها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " وإنما خص يوم القيامة بالذكر -وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضاً- لأن الدعاوي تنقطع في ذلك اليوم، كما قال. (والأمر يومئذ لله) وقال (مالك يوم الدين) ولذلك قال في الحديث " ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".
(والسموات مطويات بيمينه) ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، والطي ضد النشر واليمين في كلام العرب قد يكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته نحو قوله (أو ما ملكت أيمانكم) أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه (لأخذنا منه باليمين) أي بالقوة والقدرة، وليس يريد به طياً بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب، يقال قد انطوى عنا ما كنا فيه، وجاءنا غيره،
143
وانطوى عنا، وهو بمعنى المضي والذهاب قال الخازن اليمين ليس عندنا بمعنى الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب؛ والأخبار المأثورة الصحيحة؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه اهـ.
ومعنى الآية ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة، والمقصود الإشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإِيجاد والإعدام، وأنه غني على الإطلاق فإنه إذا حاول تخريب الأرض يقبضها ويزيلها وتخريب السموات يجمعها كالسجل المطوي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض " (١)؟
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون أين ملوك الأرض "، أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل، ولا تعسف بقال وقيل، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سبحانه وتعالى عما يشركون) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة - والحكمة الباهرة.
_________
(١) صحيح الجامع/٧٩٨١.
144
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
145
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) هذه هي النفخة الأولى، والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل وقد تقدم غير مرة، وقد قيل: إنه يكون معه جبريل لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبي الصور بأيديهما أو في أيديهما قرنان يلاحظان النظر حتى يؤمران " أخرجه ابن ماجة، وفي أبي داود عنه قال: " ذكر رسول الله ﷺ صاحب الصور وقال: عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل، ذكره القرطبي.
ومعنى صعق زالت عقولهم، فخروا مغشياً عليهم، وقيل: ماتوا: قال الواحدي: قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت أهل السموات والأرض، قرأ الجمهور الصور بسكون الواو وقرىء بفتحها جمع صورة:
(إلا من شاء الله) والاستثناء متصل والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل: رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والحور العين والنار، وقياد: الباري تعالى وحده قاله الحسن وفيه نظر من حيث قوله من في السموات ومن في الأرض. فإنه لا يتحيزه فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً وقيل الزبانية وقيل عقارب أهل النار وحياتها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: " قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من
145
الأنصار يده فلطمه وقال أتقول هذا وفينا رسول الله ﷺ فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال: " قال الله ونفخ في الصور إلى قوله: ينظرون فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي! أو كان ممن استثنى الله ".
وعنه عن النبي ﷺ في قوله: " إلا من شاء الله " قال: " هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة " الحديث أخرجه أبو يعلى والدارقطني في الأفراد وابن المنذر والحاكم وصححه ابن مردويه والبيهقي في البعث وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من قول أبي هريرة.
وعن أنس أنه سأل رسول الله ﷺ عن قوله (إلا من شاء الله) " فقال جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش " أخرجه الفريابي وابن جرير وأبو نصر السجزي في الابانة، وابن مردويه.
وأخرج ابن المنذر عن جابر قال هو موسى لأنه كان صعق قبل، وههنا إشكال أورده بعض السلف وهو أن نص القرآن يدل على أن هذا الاستثناء بعد نفخة الصعق وهي النفخة الأولى التي مات فيها من بقي على وجه الأرض والحديث المتقدم يدل على أنها نفخة البعث. وما قيل إنه يحتمل أن موسى ممن لم يمت من الأنبياء باطل لصحة موته، وقال القاضي عياض يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق الأرض والسموات فتتوافق الآيات والأحاديث.
قال القرطبي: ويرده ما مر في الحديث من أخذ موسى بقائمة العرش، فإنه إنما هو عند نفخة البعث، وأيضاً تكون النفخات أربعاً ولم ينقله الثقات قال الشهاب: فمن حمل الصعق على غشى يكون من نفخة بعد نفخة البعث للإرهاب والإرعاب فكلامه مردود بما عرفت، ومن الغريب أن بعضهم جعلها
146
بحديث أبي هريرة خمساً، وقد سمعنا بمن زاد في الطنبور نغمة، ولم نسمع بمن زاد في الصور نفخة.
قال القرطبي: والذي يزيح الإشكال ما قاله بعض مشايخنا أن الموت ليس بعدم محض بالنسبة إلى الأنبياء والشهداء فإنهم موجودون أحياء، وإن لم نرهم، فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السموات والأرض وصعق غير الأنبياء موت وصعقهم غشي، فإذا كانت نفخة البعث حيى من مات، وأفاق من غشي عليه، ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق، والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة، وقد ذكر سليمان الجمل في هذا المقام عن ابن الوردي وغيره ما جاء في صورة الصور وهيئته وتعداد نفخاته، ولا تعلق له بالتفسير.
(ثم نفخ فيه) نفخة (أخرى فإذا هم) يعني الخلق كلهم (قيام) على أرجلهم (ينظرون) ما يقال لهم، أو ينتظرون ذلك، والاستثناء ملاحظ في هذا أيضاًً لأن من لم يمت كالحور فلا يقال له ذلك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون: قالوا أربعون يوماً؟ قال أبو هريرة أبيت، قالوا أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا أربعون سنة؟ قال: أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " (١) أخرجه الشيخان.
ودلت الآية على أن النفخة اثنتان الأولى للموت، والثانية للبعث، والجمهور على أنها ثلاث، الأولى للفزع كما قال: ونفخ في الصور ففزع، والثانية للموت، والثالثة للإِعادة.
_________
(١) سبق ذكره.
147
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
148
(وأشرقت الأرض) الإشراق الإِضاءة، يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت، وشرقت إذا طلعت، وأراد بالأرض عرصات القيامة، أي الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت، ليحشر الناس عليها، وليس المراد بها أرض الدنيا.
(بنور ربها) أي بعدل ربها قاله الحسن وغيره، وقال الضحاك: بحكم ربها. والمعنى أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور، والظلم ظلمات. وقيل: ذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه، فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في يوم الصحو.
وقيل: إن الله سبحانه يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو (نور السموات والأرض) قرأ الجمهور: أشرقت مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول.
148
(ووضع الكتاب) قيل: هو اللوح المحفوظ، وقال قتادة يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، وكذا قال مقاتل: وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أي وضع الكتاب للحساب (وجىء بالنبيين) إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم.
(والشهداء) الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما في قوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) وقيل المراد بالشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. قاله السدي وقيل هم الحفظة كما قال تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) قاله ابن زيد قال ابن عباس النبيون الرسل والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان يشهدون بتبليغ الرسالة وتكذيب الأمم إياهم.
ولما بين سبحانه أنه يوصل لكل ذي حق حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولاها قوله (وقضى بينهم بالحق) أي قضى بين العباد بالعدل والصدق، والثانية (وهم لا يظلمون) أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل، والثالثة
149
(ووفيت كل نفس ما عملت)، من خير وشر أي جزاءه والرابعة (وهو أعلم بما يفعلون) في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، لأنه عالم بمقادير أفعالهم وبكيفياتها. فامتنع دخول الخطأ عليه، قاله الكرخي، وقال القرطبي ومع ذلك فتشهد الكتب والشهود وإلزاماً للحجة انتهى. يعني إنما وضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة.
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت فقال:
(وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) أي سيق الكافرون سوقاً عنيفاً إلى النار
149
حال كونهم جماعات متفرقة بعضها يتلو بعضاً، قال أبو عبيدة والأخفش زمراً جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، واحدتها زمرة واشتقاقه من الزمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه غالباً (حتى) هي التي تحكي الجمل بعدها (إذا جاؤوها فتحت أبوابها) أي أبواب النار ليدخلوها، وهي سبعة أبواب. وكانت قبل ذلك مغلقة. وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر.
(وقال لهم خزنتها) جمع خازن نحو سدنة وسادن: (ألم يأتكم رسل منكم) أي من أنفسكم ومن جنسكم (يتلون عليكم آيات ربكم) التي أنزلها عليكم (وينذرونكم لقاء يومكم هذا)؟ أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، والمراد به وقت الشدة لا يوم القيامة جميعه، قال الزمخشري: وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، قالوا لهم هذا القول تقريعاً وتوبيخاً، فأجابوا بالاعتراف، ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا، لانكشاف الأمر وظهوره ولهذا (قالوا بلى) أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه.
(ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) وهي (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) جيء بالظاهر مقام المضمر لبيان سبب استحقاقهم العذاب وهو كفرهم، فلما اعترفوا هذا الاعتراف
150
(قيل) لهم من قبل الملائكة الموكلين لعذابهم.
(ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) التي قد فتحت لكم لتدخلوها (خَالِدِينَ) أي مقدرين الخلود (فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جهنم، واللام فيه للجنس، وجيء بالظاهر لبيان سبب كفرهم الذي استحقوا به العذاب، وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع، ولما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم زمراً ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة فقال:
150
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (٧٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٧٥)
151
(وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك والمراد بالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب بالهوان كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، فشتان ما بين السوقين.
وهذا من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه وتعالى بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم وعقابهم، ويأتى بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني قيل الكلام على حذف مضاف، أي: سيقت مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين وقد سبق معنى الزمر أي جماعات أهل الصلاة على حدة، وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك.
(حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) جواب إذا محذوف، قال المبرد: تقديره سعدوا وفتحت، وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير حتى إذا جاؤها كانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلاً عليه. وقال الأخفش والكوفيون: الجواب فتحت والواو زائدة وهو خطأ عند البصريين لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد.
151
وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله والتقدير حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) وحذفت الواو في قصة أهل النار لأنهم وقفوا على النار، وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً وترويعاً. ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد، وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد، أي: جاؤوها وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل: إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد خمسة ستة سبعة وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى، وفي سورة الكهف أيضاًً.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة " (١) وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان، لا يدخله إلا الصائمون "، وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أحاديث في الصحيحين وغيرهما، وكتابنا (مثير ساكن الغرام، إلى روضات دار السلام) هو أحسن ما جمع في أحوال الجنة فليرجع إليه وليعول عليه، ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال:
(وقال لهم خزنتها سلام عليكم) أي سلامة لكم من كل آفة، لا يعتريكم بعده مكروه (طبتم) وطهرتم في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي. قال مجاهد طبتم بطاعة الله، وقيل بالعمل الصالح، والمعنى واحد وقيل طاب لكم المقام وقيل طابت حالكم وحسنت وجعل دخول الجنة مسبباً عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين، ومثوى الطاهرين، وقد طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها، موصوف
_________
(١) صحيح الجامع الصغير/٢٥٦٢.
152
بصفتها.
قال مقاتل إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فتقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم، حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم الآية، وقد أخرج البخاري حديث القنطرة هذا في جامعه من حديث أبي سعيد الخدري وهو طويل جداً (فادخلوها) أي الجنة (خالدين) أي مقدرين الخلود.
153
(وقالوا) أي فعند ذلك قال أهل الجنة (الحمد لله الذي صدقنا وعده) بالبعث والثواب بالجنة في قوله: (تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً) (وأورثنا الأرض) أي أرض الجنة قاله قتادة وأبو العالية، كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها وتصرفوا فيها تصرف الوارث فيما يرثه، ففي الكلام تجوز. وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين، قاله أكثر المفسرين، وقيل: إنها أرض الدنيا وفي الكلام تقديم وتأخير.
(نتبوأ من الجنة حيث نشاء) أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء فلا يختار أحد مكان غيره، وقيل: يتخير كل واحد من أمة محمد ﷺ وأين ينزل تكرمة له، وإن كان لا يختار إلا ما قسم له، وأما بقية الأمم فيدخلون بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فينزلون فيما فضل عنهم، وفي الكرخي الجنة نوعان: الجنات الجسمانية، وهي لا تحتمل المشاركة، والجنات الروحانية، وحصولها لواحد لا يمنع من حصولها لآخرين (فنعم أجر العاملين) في الدنيا أي الجنة وهذا من تمام قول أهل الجنة، وقيل هو من قول الله سبحانه.
(وترى) يا محمد (الملائكة حافين) أي محيطين ومحدقين قائمين بجميع ما عليهم من الحقوق (من حول العرش) أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتمجيد والتقديس، وإدخال
153
(من) يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله لا يملأون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي: إن (من) مزيدة، وبه قال الأخفش: أو للابتداء أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله.
والمعنى أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم، والحافين جمع حاف قاله الأخفش، وهو المحدق بالشيء من حففت بالشيء إذا أحطت به، وهو مأخوذ من الحفاف وهو الجانب، وقال الفراء وتبعه الزمخشري لا واحد له من لفظه إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين.
(يسبحون بحمد ربهم) أي حال كونهم مسبحين لله متلبسين بحمده أي يقولون سبحان الله وبحمده وقيل معنى يسبحون يصلون حول العرش شكراً لربهم، وهذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وذلك يشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التسبيح، وأفهم أن منتهى درجات العليين ولذاتهم الاستغراق في صفاته تعالى، اللهم أرزقنا.
(وقضي بينهم) أي بين جميع العباد والخلائق (بالحق) أي بالعدل بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقيل بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء، وبين أممهم، وقيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم والأول أولى.
(وقيل الحمد لله رب العالمين) القائلون هم المؤمنون، حمدوا الله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق كما قال: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)، وقيل القائلون هم الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق، وبدأ سبحانه هذه الآية بالحمد، وختمها بالحمد، للتنبيه على تحميده في بداية كل أمر ونهايته، والحمد الأول على صدق الوعد وإيراث الجنة، وهذا على القضاء بالحق، فلا تكرار فيه، وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قرأ على المنبر آخر الزمر فتحرك المنبر مرتين.
154

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة غافر
وهي سورة المؤمن وتسمى سورة الطول وهي خمس وثمانون آية
وقيل اثنتان وثمانون آية قاله القرطبي، وهي مكيّة في قول عطاء وجابر وعكرمة، قال الحسن إلا قوله: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لأن الصلوات نزلت بالمدينة وقال ابن عباس وقتادة إلا آيتين نزلتا بالمدينة وهما (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ) والتي بعدها، وكذا نص عليه السيوطي في الإتقان، وفي لب الأصول في أسباب النزول، قال ابن عباس أنزلت حم المؤمن بمكة، وعن سمرة بن جندب قال نزلت الحواميم جميعاً بمكة.
وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله - ﷺ - يقول " إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي، وقال ابن عباس إن لكل شيء لباباً، وإن لباب القرآن حم، قال ابن مسعود الحواميم ديباج القرآن، وعنه قال: " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن " (١).
وعن سعد بن إبراهيم الحواميم تسمى العرائس، رواه الدارمي في مسنده، وقال الجوهري آل حم سور في القرآن، فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب، وبه قال الحريري في درة الغواص قال أبو عبيدة الحواميم على غير قياس، والأولى أن تجمع بذوات حم انتهى، فتلخص من مجموع هذه الأخبار أن هذه السور السبع تسمى الحواميم، وتسمى ال حم، وتسمى ذوات حم فلها جموع ثلاثة خلافاً لمن أنكر الأول منها.
وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله - ﷺ - قال " الحواميم سبع وأبواب النار سبع يجيء كل حم منا يقف على باب من هذه الأبواب، يقول اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني ".
_________
(١) السيوطي في الدر ٥/ ٣٤٤.
155

بسم الله الرحمن الرحيم

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
(بسم الله الرحمن الرحيم
157
Icon