ﰡ
مكية عند الجميع، وآياتها خمس وأربعون آية، نزلت بعد الفرقان.
ويدور الكلام فيها حول العقيدة السليمة من وصف لله بما يستحق، ومن خطاب الرسول بما يثبت قلبه. ومن لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه من آيات تدل على قدرة الله على البعث، وفي خلال ذلك هدد المشركين وتوعدوهم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)المفردات:
فاطِرِ أصل الفطر: الشق، وقد شق العدم بإخراج السماء والأرض منه، والمراد خلقهما ابتداء أُولِي أَجْنِحَةٍ: أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ والمراد اثنين اثنين، فعدل عن هذا التركيب إلى قوله: مثنى، وكذا ثلاث ورباع، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية ما يَفْتَحِ المراد: ما يرسل من رحمة تُؤْفَكُونَ هذا اللفظ إن أخذ من الأفك بمعنى الصرف كان معناه: كيف تصرفون
المعنى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كما حمد به نفسه، تعظيما لها وتشريفا، وتعليما لعباده وتأديبا، فهو المستحق وحده الثناء الجميل، لأنه صاحب الفعل الجليل، تبارك اسمه وتعالى، سبحانه وتعالى، خالق السموات والأرض، ومبدعهما لا على مثال سابق، فهو صاحب الخلق الأول، ومن قدر على البدء فهو قادر بلا شك على الإعادة.
وهو الذي جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع، والمراد كثرة الأجنحة التي لا يعلمها إلا الله، ليتصور الخلق بإدراكهم قوة الملائكة على الحركة، وقدرة الله التي لا تحد، يزيد في الخلق ما يشاء، ويزيد زيادة غير محدودة ولا معروفة، وكيف نعرفها، ونحن أجهل الخلق بأنفسنا بل بأمس الأشياء بنا، فكيف نعرف زيادة الله في خلقه؟ وفي كل يوم يكشف لنا العلم والواقع زيادات وزيادات لم تكن معروفة، وما نعرفه جزء من أجزاء كثيرة لا نعرفها، وسبحان علام الغيوب.
ولا تعجبوا لأن الله على كل شيء قدير، وبخلقه بصير وخبير.
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، الله أكبر، ولله الحمد!! نعم ما يرسل الله من نعمة في السماء أو في الأرض فلا ممسك لها موجود، ولا مانع لها معروف، إذ لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وعلى هذا المبدأ يعيش المسلم في حياته سعيدا مطمئنا.
ولعلك تسأل: ما الحكمة في التعبير بالفتح «ما يفتح» بدل ما يرسل؟ إذا كان المراد هو الإرسال بدليل قوله تعالى: وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري وتبعه أبو السعود فقال: «عبر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون، وأعزها منالا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام، أى: أى شيء
وأى شيء من نعمة يمسكه فلا مرسل له من بعده، وما أدق ختام الآية بقوله:
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو العزيز لا يغلبه غالب، ولا يعجزه شيء، الحكيم في كل فعله فيرسل لحكمة، ويمسك لحكمة، وهو العزيز الحكيم.
يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم التي لا تعد ولا تحصى. اذكروها باللسان واذكروها بالقلب ذكرا مصحوبا بالشكر والثناء على صاحب النعم الرحمن الرحيم جل شأنه، هل هناك خالق يرزقكم غير الله؟! تعالى عما يشركون! هل في هذا الكون إله يرزقكم من السماء؟! معاذ الله، لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه.
فكيف تصرفون عن الإيمان والتوحيد الخالص إلى الشرك وعبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر؟! عجبا لكم وأى عجب؟! وإن يكذبوك يا محمد فتأس بمن تقدمك من الرسل أولى العزم فقد كذبوا ونالهم ما نالهم فصبروا على ما كذبوا به وأوذوا في سبيل الله، وإلى الله وحده ترجع الأمور فيجازى المكذبين والكفار، والمعتدين على الرسول بما كانوا يعملون، وهل يجازى إلا الكفور!! والله وحده هو الذي يتولى أموركم وأمور دينه، وإليه يرجع الأمر وحده، فسيجازيكم على صبركم وأعمالكم نعم الجزاء.
وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٥ الى ١٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
تَغُرَّنَّكُمُ: تلهينكم الْغَرُورُ: الشيطان حِزْبَهُ: صحابه المتحزبين له المجتمعين حوله سُوءُ عَمَلِهِ المراد: عمله السيئ حَسَناً: صوابا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ: فلا تتعاط أسباب ذهاب النفس، أى: هلاكها حَسَراتٍ: جمع حسرة وهي هم النفس على فوات أمر، بمعنى التلهف الشديد على الشيء الفائت فَتُثِيرُ سَحاباً فتزعجه وتحركه الْعِزَّةَ المراد: العز والجاه يَصْعَدُ صعود الكلم الطيب فيه تجوز والمراد قبول الله له، أو علمه به يَبُورُ: يهلك ويضيع.
وهذا كالدليل على ما سبق بيانه إجمالا من إثبات البعث والثواب.
المعنى:
يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأعراضها الزائلة، وزخارفها الفانية، فالآخرة خير وأبقى، ولا تشغلنكم الدنيا بنعيمها ولذاتها عن العمل للآخرة حتى لا تكونوا في موقف الذي يقول: يا ليتني قدمت لحياتي!!
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أخبرنا الله- عز وجل- بأن الشيطان يبدو لنا من قديم الأزل فهو الذي أخرج أبانا آدم من الجنة، وأوقعه في الزلة، وهو الذي أقسم على إغوائنا وإضلالنا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [سورة النساء آية ١١٩] لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [سورة الأعراف آية ١٦].
وإنه لعجيب أن نتولاه ونطيعه فيما يأمر به ويريده، مع أن فيه هلاكنا! ولذا يقول الله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في كل أعمالكم وأحوالكم الظاهرة والخفية، وناصبوه العداء في سركم وجهركم، واعلموا أن لوسوسة الشيطان علامة، ولإلهام الملك علامة،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «للشّيطان لمّة وللملك لمّة- خطرة- تقع في القلب، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعاد بالشّر وتكذيب بالحقّ وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ..
الحديث»، وهو مروى عن عبد الله بن مسعود.
احذروا الشيطان، ولا تتبعوا خطواته فإنه إنما يدعو حزبه وأتباعه ليوردهم موارد الهلكة، وليوقعهم في حبائله التي تقذف بهم في نار جهنم يتلظون بسعيرها وما لكم لا تسرعون في البعد عن حزب الشيطان والدخول في حزب الرحمن والقرآن؟!.
إن الذين كفروا واتبعوا الشيطان لهم عذاب شديد، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك حزب الله لهم مغفرة ورزق كريم، وأجر كبير، ولما ذكر الفريقين الكافر والمؤمن قال لنبيه: أفمن زين له عمله السّيئ فرآه عند نفسه حسنا وصوابا كمن لم يزين له السوء بل اهتدى واتبع الحق؟! وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا. فقال الله: فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء على معنى هذا الذي عمل السوء حتى أظلم قلبه وفرغ من خشية الله حتى أصبح عنده القبيح حسنا والحسن قبيحا، هذا الصنف لا يعبأ به الله يخذله ويتركه، ومن تاب فالله يهديه ويوفقه ويساعده على ذلك.
وهاك دليلا حسيا على إمكان البعث وأنه تحت قدرة الله: والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وتحركه فيتحرك إلى حيث شاء الله، أى: فساقه الله إلى بلد ميت لا نبات به ولا زرع فأحيا الله به تكل الأرض حتى أصبحت ذات زرع وشجر بعد أن كانت قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، أى: صحراء جرداء لا شيء فيها، مثل ذلك- أى: إحياء الأرض بالخضر بعد موتها- نشر الأموات وإحياؤها للبعث والثواب والعقاب.
عن أبى رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟» قال: نعم يا رسول الله: قال: «فكذلك يحيى الله الموتى وتلك آيته في خلقه».
كان المشركون يعبدون الأصنام يطلبون بها العزة وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [سورة مريم آية ٨١].
فبين الله أن العزة لله ولأوليائه، ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعا، من كان يريد العزة والجاه فليطلبهما عند الله فإنهما لله وحده ولرسوله وللمؤمنين.
العزة- أيها الناس- لله ولرسوله وللمؤمنين، وليست لمصر أو الشام أو غير هما؟
العزة لله يعز بها من يشاء ويذل بها من يشاء، فمن أراد عز الدارين فليطع الله العزيز الحكيم.
ثم بين الله أن ما يطلب به العزة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح، إليه يصعد الكلم الطيب، وصعوده: قبوله وعلمه والمجازاة عليه: والكلم الطيب: كل كلام يتصف بأنه طيب كذكر الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتعليم الخير والحث عليه، وتعليم النافع في الدنيا والآخرة.
الآيات الدالة على قدرة الله وإمكان البعث [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أى: يزداد في عمره فُراتٌ: شديد العذوبة، يقال: فرت الماء فروتة: عذب أُجاجٌ: شديد الملوحة، يقال: أج الماء أجوجا:
إذا اشتدت ملوحته حِلْيَةً: ما يتحلى به من سوار أو خاتم مَواخِرَ: تمخر الماء، أى: تشقه شقاّ في إقبالها وإدبارها قِطْمِيرٍ: هو لفافة النواة، أى: القشرة الرقيقة التي تكون على النواة.
وهذا دليل آخر على قدرة الله وفضله ونعمه علينا، وهذا مما يجعل البعث أمرا ممكنا من صاحب هذه القدرة.
المعنى:
والله خلقكم يا بنى آدم من تراب خلق أباكم منه، ثم خلقكم أنتم من نطفة من ظهور آبائكم، ثم جعلكم أزواجا وأصنافا وأشكالا متباينة لا يكاد يتفق إنسان مع أخيه، أليس في هذا دليل قاطع على إمكان البعث؟ فإنهم كانوا يفهمون إحالته لبعد ما بين الحياة والموت، فبعد أن نكون ترابا كيف تعاد لنا الحياة؟ وبين التراب البارد المتفرق، والحياة وما فيها من حرارة وتجمع بون شاسع، ولذا يرد الله عليهم بأنه لا غرابة في ذلك، فقد خلق آدم- وهو إنسان حي- من تراب وبينهما بون شاسع: وخلقناه من نطفة، وهل بين الذرة من منى الرجل والمرأة، وبين الإنسان منا الذي يعقل ويسمع ويتحرك ويمشى بون شاسع أم لا؟! وإذا كان الأصل واحدا فما هذا الاختلاف في الشكل واللون والخلقة والطبيعة والعادة في كل شيء؟ أليس هذا دليلا على القدرة، وعلى إمكان إعادة الخلق يوم القيامة للحساب؟
ولا يدورن بخلدك أن جمع الأجزاء المتفرقة غير ممكن لاستحالة الإحاطة بالجزئيات التي تفرقت في التراب أو في جوف المياه أو بطون السمك والسباع، لا تظن هذا..
فالذي يجمعها هو الذي يعلم الغيب والشهادة، وهو الله الذي يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار، وما تحمل كل أنثى، ولا تضع
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية ٣٤].
إن كتابة الآجال وتثبيت الأعمار، وتدوين كل ما هو كائن على الله يسير، وبه جدير.
وانظروا إلى المياه التي حولكم: هذا عذب شديد العذوبة سائغ شرابه سهل تناوله يزيل العطش أو يجلب الري ويمنع الظمأ، وبجواره مياه ملحة شديدة الملوحة لا يستساغ شربها، وإن كانت هي أصل المياه العذبة فهل تصدق أن جميع المياه العذبة أصلها ماء البحر الملح؟ وما ذلك على الله بعزيز، لا يستوي البحران أبدا، هذا ملح أجاج، وهذا عذب فرات، ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا، وتستخرجون من البحر الملح حلية تلبسونها يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١» وترى الفلك الموقرة بالأحمال الثقال في البحار تمخر العباب جيئة وذهابا، سخر ذلك لكم لتبتغوا من فضل الله عليكم بالتجارة والانتقال، ولتشكروا ربكم الذي سخر لكم البحر بقدرته.
أليس في العذوبة والملوحة مفارقات؟ وفي الحلي التي تخرج من البحار والسمك الذي يعيش في جوفه مفارقات. أليس في جرى السفينة على الماء، ولا ترسب في قاعه مفارقات؟ ولكنها القدرة فلا تنكروا البعث لأن فيه مفارقات.
هو الله الذي يولج الليل في زمن النهار: ويدخل النهار في زمن الليل إن هذا بلا شك لعجيب! وهو الذي سخر الشمس والقمر، كل يجرى لأجل مسمى عنده ذلكم الله صاحب القوى والقدر، والعالم بكل ما غاب وما حضر، والمتفضل بكل نعمة ما عظم منها وما صغر، ذلكم الله ربكم وحده له الملك، وإليه وحده الأمر، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، وآمنوا به وبرسله وباليوم الآخر.
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، وكيف يسمعون وهم أصنام وأحجار؟ ولو سمعوا فرضا، ما استجابوا لكم! ويوم القيامة يوم الفزع الأكبر يكفرون بشرككم، ويتخلصون منكم، انظروا إلى قول الحق مخبرا عن عيسى بن مريم: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سورة المائدة آية ١١٧] ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة آية ١١٦].
ولا ينبئك عن هذا كله مثل خبير، وهو الله- سبحانه- فهو العالم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ [سورة الملك آية ١٤] والمراد تحقيق وتأكيد ما أخبر به عن آلهتهم ونفى ما يدعون لها من الألوهية.
وعظ وإرشاد [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
الْفُقَراءُ: المحتاجون وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ المراد: لا تحمل نفس وازرة، أى:
آثمة وِزْرَ أُخْرى: حمل أخرى تَزَكَّى: تطهر أُمَّةٍ: الأمة الجماعة الكثيرة وَبِالزُّبُرِ: الكتب المكتوبة نَكِيرِ أى: عقابي على أعمالهم.
المعنى:
يا أيها الناس: أنتم الفقراء المحتاجون إلى الله في كل أموركم الظاهرة والخفية، وكل الخلائق محتاجة إليه، إلا أن حاجة الإنسان إلى الله أكثر، فكأنه قال: أنتم وحدكم الفقراء (مع عدم الاعتداد بحاجة غيرهم) والله وحده هو الغنى عن الكل فليس في حاجة إلى عبادة العباد. ولا تضره معصيتهم، وهو الغنى المحمود في الأرض والسماء، أى:
الغنى النافع بغناه الرحمن الرحيم بخلقه.
أيها الناس: اعلموا أن الله على كل شيء قدير، إن يشأ يذهبكم ويستبدل قوما غيركم أطوع منكم وأزكى، يذهبكم، ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز فإنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
واعلموا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا تحمل نفس وازرة حمل نفس أخرى: بل كل نفس بما كسبت مرهونة، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، فكل نفس لا تستطيع أبدا حمل أى ذنب عن أخرى مهما كانت.
روى أن الرجل يأتى إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عنى سيئة فيقول: إن الذي سألتنى يسير، ولكن أخاف مثل ما تخاف وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحو هذا الرد.
روى أن امرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه! فتقول: يا بنى قد أثقلتنى ذنوبي فاحمل عنى ذنبا واحدا فيقول: إليك عنى يا أماه فإنى بذنبي عنك مشغول.
وأما أنت يا محمد فإنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب.. نعم إنك لا تنذر إلا هؤلاء أما غيرهم فقلوبهم في أكنة مما تدعو إليه فلا تلق بالا لهم. إنما يهتدى بك ويسمع لك الذين يخشون ربهم بالغيب، وهم الذين يؤمنون بالغيب، فالناس نوعان: نوع يؤمن بأن هناك إلها له قدرة، هذه القدرة هي اليد المحركة لهذا الكون وهذا الصنف قلبه مفتوح لقبول رسالات الرسل، وهناك صنف مادى لا يؤمن إلا بالمادة فلا يؤمن بالقوة الغيبية، القوة الإلهية، وهذا لا يمكن أن ينتفع بإنذارك.
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الزكاة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ففائدة زكاته عائدة عليه، وإلى الله المصير.
وهل يستوي المؤمن والكافر؟! أظن لا يستويان أبدا، وكيف يستويان؟ وما يستوي الأعمى والبصير، ولا تستوي الظلمات ولا النور، ولا يستوي الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالمؤمن حي حياة سعيدة، والكافر ميت القلب والضمير يعيش كالحيوان، فحياته غير معترف بها.
إن الله يسمع من يشاء فهو الذي علم ما فيهم من خير فوفقهم له، وعلم ما في غيرهم من شر فخذلهم عن الحق، وأما أنت فخفى عليك حالهم، ولذا تطمع فيهم وما أنت بمسمع الأموات الذين عطلوا حواس قلوبهم حتى كأنهم أموات في القبور بل أشد، ولا عليك شيء بسببهم، إن أنت إلا نذير، وما أرسلك ربك إلا بالحق حالة كونك مبشرا بالجنة ومنذرا بالنار، وما من أمة إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها.
الناس مختلفون في خشية الله وأخشاهم لله أعلمهم به [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)
المفردات:
جُدَدٌ: جمع جدة. وهي الطرائق المختلفة الألوان وَغَرابِيبُ سُودٌ أصل اللفظ: وسود غرابيب، والعرب تقول للشديد السواد: لونه كلون الغراب. أسود غريب لَنْ تَبُورَ: لن تفنى ولن تضيع.
وهذا كلام مسوق لتقرير ما مضى من اختلاف أحوال الناس ببيان أن الاختلاف أمر عام، وحقيقة مطردة في كل زمان ومكان.
أنزل الله من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، وانتفع بالماء من أراد الله له الخير.
وكل على قدر طاقته، وهكذا كانت الشرائع أشبه شيء بالماء فالماء يحيى موات الأرض، ويزيل الضمأ والصدى، والدين يحيى موات القلوب ويزيل ظمأها وصداها، والناس معه مختلفون اختلافا بينا، وما أدق التعبير القرآنى حين يتكلم على الدين واختلاف الناس فيه فيقدم له بالكلام على نظيره وشبيهه وهو الماء.
ألم تر وتعلم أن الله- سبحانه- أنزل من السماء ماء، فأخرجنا من الأرض ثمرات مختلفا ألوانها فهذا رمان وذاك تفاح، والصنف الواحد مختلف ألوانه فهذا أصفر فاقع، وذاك أبيض ناصع، وهذا أحمر قان. ألم تر إلى البرتقال واختلاف شكله ولونه وطعمه وحجمه، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، انظر إلى السر في قوله:
فأخرجنا: وكان الظاهر أن يقال: فأخرج كما قال: أنزل من السماء ماء. ولعل هذا الالتفات والانتقال من أسلوب الغيبة إلى أسلوب التكلم في قوله: فأخرجنا لأن المنة بإخراج الثمرات مختلفة أبلغ من إنزال الماء وأظهر وأدل على كمال القدرة، وشبيه بهذا تماما قوله تعالى فيما مضى في آية ٩: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ومن الجبال ما هو ذو طرائق مختلفة في الألوان مع أن الجبل كله من تراب أو صخر فمن الذي غير الألوان؟ منها ما هو أبيض ناصع وأحمر قان، وأصفر فاقع، وأسود قاتم، وسود غرابيب، فهذه ألوان مختلفة.
ومن الناس والدواب والأنعام صنف مختلف ألوانه اختلافا كثيرا في أصل الصفة ومقدارها، مثل ذلك الاختلاف الذي رأيناه، وكذا فيما يخرج من الأرض مع أن الماء واحد، واختلاف الناس في خشية الله مع أن الله أنزل الدين عاما للجميع وطالب به الكل على السواء.
إنما يخشى الله من عباده العلماء، فهم أحق الناس بخشية الله لأنهم أعرف الناس به وبقدرته وعظمته، وهم أعرف الناس بيوم القيامة وما فيه، ولذا كان من أوائل الناس عذابا يوم القيامة العلماء الذين لم يعملوا بما علموا.
الحديث: «أعلمكم بالله أشدكم خشية له»
وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم.
فقال: العالم من خشي الله.. ثم ختم الآية بقوله: إن الله عزيز غفور، وهذا مما يدعو إلى الخشية، إذ العزة تقتضي عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب والمثاب حقه أن يخشى الله.
ولم يتركنا القرآن نبحث عن العلماء فقد قال: هم الذين يتلون كتاب الله، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية راجين من الله حسن المثوبة وكمال الأجر، وزيادة الفضل.
فالعلماء هم الذين يتلون كتاب الله ويتدارسونه، ويعلمونه، ويعملون بما فيه خاصة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويقيمون صلاتهم بالخشوع والخضوع ويؤدون زكاتهم وصدقتهم سرا ما استطاعوا وجهرا إذا دعت الظروف إلى ذلك، وهم المخلصون في أعمالهم وأقوالهم لا يرجون من غير الله ثوابا. ولا يفعلون ذلك رياء، وإنما يرجون من الله تجارة لن تضيع، وثوابا لن يذهب، طالبين من الله زيادة الثواب والفضل، وهو الغفور للسيئات الشكور على قليل الأفعال، الذي يثيب على العمل القليل جزيل الثواب.
فكل من توافرت فيهم هذه الأوصاف فهم العلماء العاملون، نسأل الله أن نكون منهم.
القرآن والمؤمنون به والكافرون [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣١ الى ٣٨]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
أَوْرَثْنَا الْكِتابَ: أعطيناه بلا تعب ولا مشقة كما يعطى الميراث اصْطَفَيْنا: اخترنا، واشتقاقه من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الظلم تجاوز الحد مُقْتَصِدٌ: متوسط سابِقٌ بِالْخَيْراتِ: سبق غيره وبزه بعمل الخير أَساوِرَ: وهي حلية تلبس في اليد كَفُورٍ: كثير الكفر يَصْطَرِخُونَ: يستغيثون في النار بصوت عال، والصراخ الصوت العالي، والصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث نُعَمِّرْكُمْ: نجعلكم تعمرون وقتا.
الذي أوحينا إليك من القرآن هو الحق لا شك فيه ولا مرية، حالة كونه مصدقا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنا عليه، والله هو الذي وضعه هذا الوضع، وأنزله على خاتم رسله محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الحكمة والعدل يقتضيان ذلك والله بعباده خبير بصير.
أوحينا إليك الكتاب ثم أورثناه الذين اصطفينا دينهم واخترناهم من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
إلا أن هذه الآية فيها مشكل لم يخف على الصحابة والتابعين، ولا على المفسرين وذلك أن قوله: ظالم لنفسه مع قوله: اصطفينا، وقوله بعده: جنات عدن يدخلونها مشكل، إذ كيف يكون ظالما لنفسه مع أنه من المصطفين؟! وكيف يدخل في قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها؟ ولقد تعرض لهذا الإشكال العلامة القرطبي في تفسيره، وذكر عددا من الأقوال فروى عن عمر، وعثمان، وأبى الدرداء وابن مسعود، وعقبة بن عامر، وعائشة وخلاصته: أن الظالم لنفسه مؤمن عمل الصغار والمقتصد مؤمن أعطى الدنيا حقها والآخرة حقها، ويكون قوله: جنات عدن يدخلونها تشمل الأصناف الثلاثة.
ومما يؤيد هذا قول كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة- وتفاضلوا بأعمالهم، وما
روى أسامة بن زيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال: «كلّهم في الجنّة»
، وما
روى عن عمر بن الخطاب أنه قرأها ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له».
وعلى هذا القول يقدر مفعول اصطفينا- كما قلنا أولا- اصطفينا دينهم، فالاصطفاء موجه إلى دينهم لا إلى أشخاصهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ وخلاصة الآراء الأخرى: أن الظالم كافر أو فاسق أو مرتكب للكبيرة، وهو لا يدخل الجنة، والرأى الأول على ما أظن أحسن لأن الكافر والمنافق والفاسق لم يصطفوا، وكفاه فخرا أنه رأى ستة من كبار الصحابة. ذلك أن إيتاء الكتاب لهم هو الفضل الكبير، وأى فضل أكبر من هذا؟ جنات عدن يدخلونها مقيمين فيها إلى ما شاء الله يحلون فيها بعض أساور من ذهب ويحلون فيها لؤلؤا، ولباسهم فيها حرير، ولا شك أن نعيم الجنة فوق هذا بكثير،
إن ربنا لغفور للسيئات شكور على فعل الطاعات، الذي أحلنا دار الإقامة من عطائه وأفضاله، لا يمسنا فيها نصب، أى: تعب، ولا يمسنا فيها لغوب، أى: إعياء واسترخاء.
هؤلاء هم المؤمنون بالقرآن، وهم حزب الرحمن، أما حزب الشيطان الكافرون بالقرآن فها هم أولاء: والذين كفروا لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ليستريحوا، بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ولا يخفف عنهم من عذابها أبدا، مثل ذلك الجزاء نجزى كل كفور بالله ورسوله، وهم يصرخون فيها، ويستغيثون منها بأصوات عالية قائلين: ربنا أخرجنا منها وأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، فيقال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون أو لم نعمركم وقتا كافيا يتذكر فيه من يريد التذكر؟ وجاءتكم النذر: من الكتاب والرسول ونذر الشيب والموت فلم تتعظوا أبدا بشيء وغرتكم الدنيا وغركم بالله الغرور.
فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا، وذوقوا فما للظالمين من نصير، وهل يجابون إلى طلبهم بالرجوع إلى الدنيا؟! لا فلو رجعوا لعادوا لأفظع مما عملوا، وربك يعلم غيب السماء والأرض، وهو عليم بذات الصدور.
نقاش المشركين [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
خَلائِفَ: جمع خليفة مَقْتاً: غضبا شديدا شِرْكٌ: شركة غُرُوراً: باطلا تَزُولا: من الزوال، أى: يمنعهما منه.
المعنى:
وهذا نقاش لهم بتعداد نعم الله عليهم وعلى الناس جميعا، وبيان كمال قدرته، مع تسليط الأضواء الكاشفة على آلهتهم وأصنامهم لنعرف أثرها وحقيقتها.
هو الذي جعلكم خلائف في الأرض يخلف بعضكم بعضا، أنتم خلائف لله في أرضه إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «١» وهذا الوضع يقتضى منكم أن تتذكروا أنكم مفارقون لهذه الدنيا، فلا تغتروا بها، ولتنظروا إلى أنفسكم، وأنتم خلفاء لله فلا تتخذوا معه شركاء لا يمتون لكم بصلة شريفة.
وأنتم خلفاء في أرضى ولقد حكمت أن من يكفر فعليه وزر كفره، فمن كفر من الناس فعليه وبال كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند الله إلا مقتا وغضبا شديدا ولا يزيدهم إلا خسارا في الآخرة وعذابا أليما.
يا عجبا لكم! قل يا محمد تبكيتا وتأنيبا: أخبرونى عن شركائكم الذين تدعون من دون الله، ماذا خلقوا من الأرض؟ بل ألهم شركة في خلق السماء؟ بل أآتيناهم كتابا يشهد لهم بذلك؟ فهو حجة في أيديهم بأنهم شركاء في خلق أى شيء.. لا شيء من هذا
لا بعث ولا حساب، وإن كان فالآلهة تشفع لنا وسترد عنكم العذاب، ونحن سادة في الدنيا فسنكون كذلك في الآخرة، أليس هذا كله غرورا في غرور؟
وكيف يكون شيء من هذا؟ ولله الأمر وحده من قبل ومن بعد، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض، ويمنعها من السقوط والزوال إلى الأبد، ولئن حكم عليها بالزوال فما أحد من الموجودين بقادر على إمساكهما ومنعهما من الزوال، إنه كان حليما بخلقه غفورا لسيئاتهم.
فانظروا أيها المشركون أين أنتم؟
حقيقة هؤلاء المشركين [سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: طاقتها وغايتها نُفُوراً: إعراضا وتباعدا عن الهدى يَحِيقُ: يحيط يَنْظُرُونَ: ينتظرون لِيُعْجِزَهُ: ليسبقه ويفوته.
بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذبوه.
المعنى:
وأقسموا بالله جاهدين بالغين طاقة جهدهم، وغاية أيمانهم، وذلك لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق حلفوا وأقسموا بالله جهد أيمانهم وطاقتها، لئن جاءهم نذير من أنفسهم، ونبي من العرب- وكانوا يتمنون ذلك لأن الأنبياء كانت من بنى إسرائيل- ليكونن أهدى من كل الأمم، وليؤمننّ به مسرعين.
فلما جاءهم نذير من العرب، ورسول من أشرف قبائلهم ما زادهم النذير إلا نفورا وإعراضا عن الحق الذي جاء، حالة كونهم مستكبرين في الأرض وحاسدين وباغين، وماكرين مكر السوء على الضعاف والأتباع وحرصا على دنيا كاذبة، وعرض زائل ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله، وقد وقعوا في شر أعمالهم، وباءوا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
أقعدوا ولم يسيروا في الأرض فينظروا حين ينتقلون إلى الشام والعراق واليمن كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ممن كذب رسله واتبع نفسه وهواه؟ وقد كانوا أشد منهم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، فما أغنت عنهم في شيء، وما كان الله ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، وكيف يعجزه أحد، وهو الخالق البارئ العالم المحيط بكل شيء. وانظر إلى تذييل الآية وختامها بقوله: إنه عليم قدير.
وبعد هذا يبين الله أنه الرحمن الرحيم بخلقه وهو الغفور الستار بعباده، ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا من المعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة انتقاما وجزاء لما يصنعون، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية أن يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده هو أعلم به، إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتشريفا له ولأمته، ولعلهم يتوبون، ويثوبون إلى رشدهم، فإذا جاء أجلهم لا ستأخرون ساعة ولا يستقدمون بل سيفارقون الدنيا، ويحاسبون على أعمالهم إن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فجزاؤهم شر، ولا غرابة فإن الله كان بعباده خبيرا بصيرا. فبادروا أيها الناس بالتوبة والرجوع إلى الله وأسرعوا فأنتم لا تدرون انتهاء الأجل، فربّ ليلة نبيتها لا نصبح معها، بل ربّ نفس خرج لا يعود، ولا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وهو بالعباد خبير بصير.