تفسير سورة النساء

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة النساء نزلت بالمدينة آياتها مائة وست وسبعون آية

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)
﴿يَا أَيُّهَا الناس﴾ يا بني آدم ﴿اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ معطوف على محذوف كأنه قيل من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهى أنه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواءمن ضلع من أضلاعه ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ ونشر من آدم وحواء ﴿رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء﴾ كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها أو على خلقكم والخطاب في يا أيها الناس للذين بعث إليهم رسول الله ﷺ والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر فإن قلت الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يدعوا إليها فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها قلت لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ومن المقدورات عقاب
326
الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ولأن يدل
النساء (١ _ ٣)
على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها قال عليه السلام عند نزول الآية خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب ﴿واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ﴾ والأصل تتساءلون فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس تساءلون به بالتخفيف كوفي على حذف التاء الثانية استثقالا لاجتماع التاءين أى يسأل بعصكم بعضا بالله وبالرحم افعل كذا على سبيل الاستعطاف ﴿والأرحام﴾ بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها أو على موضع الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمر أو بالجر حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كسئ واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ حافظاً أو عالماً
327
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (٢)
﴿وآتوا اليتامى أموالهم﴾ يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم واليتم الانفراد ومنه الدرة اليتيمة وقيل اليتم في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم وقوله عليه السلام لا يتم بعد الحلم تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد
327
البلوغ وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار ﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم أو لاتستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم﴾ إلى متعلقة بمحذوف وهو في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم المعنى ولا تضموها إليها فى الإنفاق حتى لاتفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بمالا يحل لكم وتسوية بينه وبن الحلال ﴿إنّهُ﴾ إن أكلها ﴿كَانَ حُوباً كَبِيراً﴾ ذنبا عظيما
328
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (٣)
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ﴾ أي لا تعدلوا أقسط أي عدل ﴿فِى اليتامى﴾ يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم وأما أيتام فجمع يتيم لا غير ﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ما حل لكم ﴿من النساء﴾ لأن منهن ما حرم الله
النساء (٣ _ ٤)
كاللاتى فى آية التحريم وقيل ماذهابا إلى الصفة لأن ما يجئ في صفات من يعقل فكأنه قيل الطيبات من النساء ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى ﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾ قبل كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات اوكانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النسار مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك وقيل وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات يقال طابت الثمرة
328
أي أدركت ﴿مثنى وثلاث وَرُبَاعَ﴾ نكرات وإنما منعت الصرف للعدل والوصف وعليه دل كلام سيبويه ومجلهن النصب على الحال من النساء أو مما طاب تقديره فانكحوا الطيات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثا وأربعا أربعا فإن قالت الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع قلت الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ولو أفردت لم يكن له معنى وجئ بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق ولو جئ بأو مكانها لذهب معنى التجويز ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ بين هذه الأعداد ﴿فواحدة﴾ فالزموا أو فاختاروا واحدة ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ﴿ذلك﴾ إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري ﴿أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ﴾ أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا يقال علا الميزان عولاً إذا مال وعال الحاكم في حكمه إذا جار ويحكى عن الشافعى رحمه الله نه فسر أن لا تعولوا أن لا تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال أعال يعيل إذا كثر عياله وأجيب بأن يجعل من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولك مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال وكلام مثله من أعلام العلم حفيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات
329
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (٤)
﴿وآتوا النساء صدقاتهن﴾ مهورهن ﴿نِحْلَةً﴾ من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنلا الإعطاء فكأنه قال وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم أو على الحال من المخاطبين أي
329
آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبى النفوس والإعطاء أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس وقيل نحلة من الله تعالى عطية من
النساء (٤ _ ٦)
عنده وتفضلاً منه عليهن وقيل النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها والخطاب للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ﴾ للأزواج ﴿عَن شيء منه﴾ أى من الصداق اذهو في معنى الصدقات ﴿نَفْساً﴾ تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إليه الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ولم يقل فإن وهبن لكم إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة ﴿فَكُلُوهُ﴾ الهاء يعود على شيء ﴿هَنِيئَاً﴾ لا إثم فيه ﴿مَّرِيئاً﴾ لا داء فيه فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة مريئا فى العقبى لا تبعة وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو حال من الضمير أى كلوه وهو هنى مرئ وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة هنياً مرياً بغير همز يزيد وكذا حمزة في الوقف وهمزهما الباقون وعن علي رضى الله عنه إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها عسلاً فليشر به بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركا
330
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٥)
﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء﴾ المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها والخطاب للأولياء وأضاف إلى الأوليساء أموال السفهاء بقوله ﴿أموالكم﴾ لأنهم يلونها
330
ويمسكونها ﴿التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما﴾ أي قواماً لأبدائكم ومعاشا لأهلكم وأولادكم فيما بمعنى قياماً نافع وشامي كما جاء عوذا بمعنى عياذا وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها وكان السلف يقولون المال سلاح المؤمن ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس وعن سفيان وكان له بضاعة يقلبها لولاها لتمندل بى بنوا العباس ﴿وارزقوهم فِيهَا﴾ واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تنجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لامن صلب المال فيأكلها الإنفاق ﴿واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ قال ابن جريج عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم وكل ما سكنت إليه النفس الحسنة عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه فهو منكر
331
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٦)
﴿وابتلوا اليتامى﴾ واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى
النساء (٦ _ ٧)
تتبين حاله فيما يجئ منه وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة ﴿حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ﴾ أى الحلم لأنه يصلح للنكاح عند ولطلب ما هو مقصود به وهو التولد ﴿فَإنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ﴾ تبينتم ﴿رَشَدًا﴾ هداية في التصرفات وصلاحاً في المعاملات ﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم﴾ من غير تأخير عن حد البلوغ ونظم هذا الكلام أن ما بعد حتى إلى فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم جعل غاية للابتلاء وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله حتى ماء دجلة أشكل والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية لأن إذا متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط
331
بلغوا النكاح وقوله فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح فكأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم اليهم شرط إيناس الرشد منهم وتنكير الرشد يفيد أن المراد رشد مخصوص وهو الرشد في التصرف والتجارة أو يفيد التقليل أي طرفاً من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد وهو دليل لأبى حنيفة رحمه الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فاسرافا وبدارا مصدران فى موضع الحال وأن يكبروا فى موضع المصدر منصوب الموضع ببدارا ويجوز أن يكونا مفعولاً لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا ﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾ قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيرا فالغنى يستعفف من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم واستعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في أكله عن إبراهيم ما سد الجوعة ووارى العورة ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ بأنهم تسلموها وقبضوها دفعاً للتجاحد وتفادياً عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر ﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ محاسباً فعليكم بالتصادق وإياكم والكاذب أو هو راجع إلى قوله فليأكل بالمعروف أي ولا يسرف فإن الله يحاسبه عليه ويجازيه به وفاعل كفى لفظة الله والباء زائدة وكفى يتعدى إلى مفعولين دليله فسيكفيكهم الله
332
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧)
{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان
332
والأقربون} هم المتوارثون
النساء (٧ _ ١١)
من ذوي القرابات دون غيرهم ﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ بدل مما ترك بتكرير العامل والضمير في منه يعود إلى ما ترك ﴿نصيبا﴾ رنصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً ﴿مّفروضاً﴾ مقطوعاً لابد لهم من يحوزه روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون لا يرث الامن طاعن بالرماح وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة إلى رسول الله ﷺ فشكت فقال إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت يوصيكم الله فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم
333
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٨)
﴿وإذا حضر القسمة﴾ أي قسمة التركة ﴿أولوا القربى﴾ ممن لا يرث ﴿واليتامى والمساكين﴾ من الأجانب ﴿فارزقوهم﴾ فاعطوهم رمنه ﴿مما ترك الوالدان والأقربون﴾ وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ وقيل كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث ﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ عذراً جميلاً وعدة حسنة وقيل القول المعروف أن يقولوا لهم حذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩)
﴿وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سديدا﴾ المراد بهم الأوصاء أمروا بأن يشخوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوروه حتى لا يجسروا على خلاف
333
الشفقة والرحمة ولو مع ما فى حيزه صله للذين أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم الذهاب كافلهم وجواب لو خافوا والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بيا بني ويا ولدي
334
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)
﴿إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً﴾ ظالمين فهو مصدر في موضع الحال ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ ملء بطونهم ﴿نَارًا﴾ أي يأكلون ما يجر إلى النار فكأنه نار روي أنه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأذنيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم فى الدنيا ﴿وسيصلون﴾ شامى وأبو بكر أى سيدخلون ﴿سَعِيراً﴾ ناراً من النيران مبهمة الوصف
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١)
﴿يوصيكم الله﴾
النساء (١١)
يعهد إليكم ويأمركم ﴿فِى أولادكم﴾ في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين﴾ أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم السمن منوان بدرهم وبدأ يحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر لفصله كما ضوعف حظه لذلك ولأنهم كانوا يوريون الذكر دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلايتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به والمراد حال الإجتماع إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين وأما في حال الانفراد فالابن بأخذ المال كله والبنتان تأخذان الثلثين والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله {فَإِن كُنَّ
334
نِسَاءً} أي فإن كانت الأولاد نساء خلصاً يعني بناتاً ليس معهن ابن ﴿فَوْقَ اثنتين﴾ خبر ثانٍ لكان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين ﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي الميت لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت ﴿وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف﴾ أي وإن كانت المولودة منفردةٌ واحدة مدني على كان التامة والنصب أو فوق لقوله فإن كن نساء فإن فلت قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فماحكمهما قلت حكمهما مختلف فيه فابن عباس رضى الله عنهما نزلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة وغيره من الصحابة رضى الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين وذلك لأن من مات وخلف بنتاً وابناً فالثلث للبنت والثلثان للابن فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين ولأنه قال في آخر السورة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ والبنتان أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ولم ينقصوا حظهما عن حظ من هو أبعد منهما ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين وقد جعل للأنثى
النصف إذا كانت منفردة فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل والضمير في ﴿وَلأَبَوَيْهِ﴾ للميت والمراد الأب والأم إلا أنه غلب الذكر ﴿لِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس﴾ بدل من لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه ولو قيل ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها ولو قيل
335
ولكل واحد من أبويه السدس لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال والسدس مبتدأ خبر لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان وقرأ الحسن
النساء (١١)
السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف ﴿مِمَّا تَرَكَ إن كان له ولد﴾ وهو يقع على الذكر والأنثى ﴿فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث﴾ أي مما ترك والمعنى وورثه أبواه فحسب لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك لأن الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أن له ضعف حظها إذا خلصا فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حظ نصيبه عن نصيبها فإن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين فلأمه بكسر الهمزة حمزة وعلى لمجاروة كسر اللام ﴿فَإِن كَانَ لَهُ﴾ أي للميت ﴿إخوة فلأمه السدس﴾ إذا كانت للميت اثنان منالاخوة والأخوات فصاعدا فلأمه السد والأخ لا يحجب والأعيان والغلات والأخياف فى حجم الأم سواء ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وخدة كأنه قيل قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية ﴿يوصي بها﴾ وما بعده بفتح الصاد مكي وشامي وحماد ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية لمجاورة يورث وكسر الاولى لمجاوة ر يؤصيكم الله البقاون بكسر الصادين أي يوصى بها الميت ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ والإشكال أن الدّين مقدم على الوصية في الشرع وقدمت الوصية على الدين في التلاوة والجواب إن أو لا تدل على الترتيب ألا ترى أنك إذا قلت جاءني زيد أو عمرو كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله من بعد وصية يؤصى بها أو دين من بعد أحد هذين الشيئين الوصية أو الدين ولو قيل بهذا اللفظ لم
336
يدر فيه الترتيب بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا وإنما قدمنا الدين على الوصية بقوله عليه السلام ألا إن الدّين قبل الوصية ولأنها تشبه الميراث من حيث إنها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشق على الورثة وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فقدمت على الدين ليسارعوا إلى اخراجها مع الدين ﴿آباؤكم﴾ مبتدأ ﴿وَأَبناؤُكُمْ﴾ عطف عليه والخبر ﴿لاَ تَدْرُونَ﴾ وقوله ﴿أَيُّهُم﴾ مبتدأ خبره ﴿أَقْرَبُ لَكُمْ﴾ والجملة فى موضع نصب بتدرون ﴿نَفْعاً﴾ تمييز والمعنى فرض الله الفرائض على ماهو على حكمة ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلاً
منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الاعراب ﴿فريضة﴾ نصيب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضاً ﴿من الله إن الله كان عليما﴾
النساء (١٢)
بالأشياء قبل خلقها ﴿حكيما﴾ فى كل مافرض وقسم من الموابيث وغيرها
337
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم﴾ أي زوجاتكم ﴿إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ﴾ أي ابن أو بنت ﴿فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ منكم أو من غيركم {فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم
337
مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بها أو دين} والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله للذكر مثل حظ الأُنثيين ﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ﴾ يعني للميت وهو اسم كان ﴿يُورَثُ﴾ من ورث أى يورث منه وهو صفة لرجل ﴿كلالة﴾ خبر كان أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر كان وكلالة حال من الضمير في يورث والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء ﴿أَو امرأة﴾ عطف على رجل ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أي لأم فإن قلت قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره قلت أما إفراده فلأن أو لأحد الشيئين وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكره مبدوء به أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر ﴿فَلِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك﴾ من واحد ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلث﴾ لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يغضل الذكر منهم على الأنثى ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين فالأول الوالدان والأولاد والثاني الزوجة والثالث الزوج والرابع الكلالة ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ حال أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث ﴿وَصِيَّةً مّنَ الله﴾ مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية ﴿والله عليم﴾ ممن جار أو عدل في وصيته ﴿حَلِيمٌ﴾ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد فإن قلت فأين ذو الحال فيمن قرأ يوصي بها قلت يضمر يوصي فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل يوصي بها علم أن ثمّ موصياً كما كان رِجَالٌ فاعل ما يدل عليه يسبح لأنه لما قيل يُسَبّحُ لَهُ علم أن ثم مسبحاً فأضمر يسبح
338
واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم
النساء (١٣ _ ١٤)
الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف وللأكثر الثلثان وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام فيعصبها والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد ولدالابن كالبنات والأخوات لأب وهن كالأخوات لأب وأم عند عدمهن وبصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل والأب وبالجد عند أبى حنيفة رحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب والبعدى تحجب بالقربى والكل بالأم والأبويات بالأب والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه النصف والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم الابن ثم ابنه وإن سفل ثم الأب ثم أبوه وإن علائم الأخ لأب وأم ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ لأب وأم ثم ابن الأخ لأب ثم الأعمام ثم أعمام الأب ثم أعمام الجد ثم المعتق ثم عصبته على الترتيب واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائص وترتيبهم كترتيب العصبات
339
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث ﴿حُدُودُ الله﴾ سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود
339
المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم﴾
340
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)
﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارا خالدا فيها﴾ انتصب خالدين وخالدا على الحال وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى ن ولفظها ندخله فيهما مدني وشامي ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ لهوانه عند الله ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك وقال الكلبي ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمه المواريث
النساء (١٥ _ ١٧)
ويتعد حدوده استحلالاً
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥)
ثم خاطب الحكام فقال ﴿واللاتي﴾ هي جمع التي وموضعها رفع بالابتداء ﴿يَأْتِينَ الفاحشة﴾ أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى ﴿مِّن نِّسَائِكُمُ﴾ من للتبعيض والخبر ﴿فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ﴾ فاطلبوا الشهادة ﴿أَرْبَعةً مّنْكُمْ﴾ من المؤمنين ﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ بالزنا ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت﴾ فاحبسوهن ﴿حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت﴾ أي ملائكة الموت كقوله الذين تتوفاهم الملائكة أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ﴾ قيل أو بمعنى إلا أن ﴿سبيلا﴾ غيرهذه عن ابن عباس رضى الله عنهما السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام خذوا عنى خذو عني قد
340
جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة
341
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (١٦)
﴿واللذان﴾ يريد الزاني والزانية وبتشديد النون مكي ﴿يأتيانها منكم﴾ أى الفاحشة ﴿فآذوهما﴾ بالتوبيخ والتعبير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما ﴿فإن تابا﴾ عن الفاحشة واصلحا وغيرا الحال ﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا﴾ فاقطعوا التوبيخ والمذمة ﴿إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ يقبل توبة التائب ويرحمه قال الحسن أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة واحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير وإن كان أحد هما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد وقال ابن بحر الآية الأولى في السحّاقات والثانية في اللواطين والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لابى حنيفة رحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد وقال مجاهد آية الأذى في اللواطة
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧)
﴿إِنَّمَا التوبة﴾ هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها ﴿عَلَى الله﴾ وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء﴾ الذنب لسوء عقابه ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعوا إليه السفه وعن مجاهد من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته وقيل جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية وقيل لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه
341
عقوبته ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ من زمان قريب وهو ما
النساء (١٧ _ ١٩)
قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله حتى إذا حضر أحدهم الموت فبين أن وقت ااحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة وعن الضحاك كل توبة قبل الموت فهو قريب وعن ابن عباس رضى الله عنهما قبل أن ينظر إلى ملك الموت وعنه ﷺ إن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً ﴿فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ عدة بانه بفى ذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ بعزمهم على التوبة ﴿حَكِيماً﴾ حكم يكون الندم توبة
342
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨)
﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّي تُبْتُ الآن﴾ أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لانها حالة اضطرار لاحالة اختيار وقبول التوبة ثواب ولا وعديه إلا مختار ﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ﴾ في موضع جر بالعطف على الذين يعملون السيئات أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ قال سعيد بن جبير الآية الأولى في المؤمنين والوسطى في المنافقين والآخرى في الكافرين وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره ﴿أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩)
كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت ﴿يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها﴾ أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات كرهات بالفتح من الكراهة وبالضم حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه لأن تخصيص الشئ بالذكر لا بدل على نفي ما عداه كما في قوله ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل ﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وهو منصوب عطفا على أن ترثوا ولا لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على كرها والعضل الحبس والتضييق ﴿لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتيتموهن﴾ من المهر واللام متعلقة بتعضلوا ﴿إلا أن يأتين بفاحشة مبينة {
النساء (١٩ _ ٢١)
هى النشوز وإيداء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع وعن الحسن الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع {مُّبَيِّنَةٍ﴾
وبفتح الياء مكى وأبوبكر والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة أو ولا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول ﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ لقبحهن أو سوء خلقهن ﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فيه﴾ فى ذلك الشئ أو فى الكره ﴿خيرا كثيرا﴾ ثوبا جزيلاً أو ولداً صالحاً والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى
343
الدين وأدلى إلى الخير وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح وإنما صح قوله ﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ﴾ جزاء للشرط لأن المعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه
344
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠)
وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل ﴿وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ أي تطليق امرأة وتزوج أخرى ﴿وآتيتم إحداهن﴾ وأعطيتم إحدى الزوجات فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لحماعة الرجال ﴿قنطارا﴾ مالا عظيما كما مر فى آل عمران وقال عمر رضى الله عنه على المنبر لا تغالوا بصدقات النساء فقالت امرأة أنتبع قولك أم قول الله وآتيتم إحداهن قنطار فقال عمر كل أحد أعلم من عمر تزوجوا على ماشئتم ﴿فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ﴾ من القنطار ﴿شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي بيناً والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو برئ منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)
ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ وعلل بذلك ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً﴾ عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان﴾ والله تعالى أخذ هذا الميثاق على عباده لأجلهن فهو كأخذهن أو قول النبي عليه السلام
344
استوصوا بالنساء خيرا فانهم عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله
345
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢)
ولما نزل لا يحل لكم أن ترثوا
النساء (٢٢ _ ٢٣)
النساء كرها قالوا تركنا هذا لاترثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم مّنَ النساء﴾ وقيل المراد بالنكاح الوطء أي لا تطؤا ما وطئ آباؤكم وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين ولما قالوا كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا قال ﴿إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به والاستثناء منقطع عن سيبويه ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ بالغة في القبح ﴿وَمَقْتاً﴾ وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى ﴿وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ وبئس الطريق طريقاً ذلك
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣)
ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب وبدأ بالنسب فقال ﴿حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم﴾ والمراد تحريم نكاحهن عند البعض وقد ذكرنا المختار في شرح المنار والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن ﴿وبناتكم﴾ وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته
345
﴿وإخوانكم﴾ لأب وأم أو لأب أو لأم ﴿وعماتكم﴾ من الأوجه الثلاثة ﴿وخالاتكم﴾ كذلك ﴿وَبَنَاتُ الأخ﴾ كذلك ﴿وَبَنَاتُ الأخت﴾ كذلك ثم شرع في السبب فقال ﴿وأمهاتكم اللاتي أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة﴾ الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها وأخواته لأبيه وأمه ومن ولدلها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم وأصله قوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ﴿وأمهات نِسَائِكُمْ﴾ وهن محرمات بمجرد العقد ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾ سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر ثم اتسع فيه فسميابذلك وإن لم يربهما ﴿اللاتي في حجوركم﴾ قال داود إذا لم تكن في حجره لا تحرم قلنا ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم ﴿مّن نِّسَائِكُمُ اللاتي دخلتم بهن﴾
متعلق بربائبكم أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول وقد جعل بعض العلماء اللاى دخلتم بهن وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل وهذا لأن النساء
346
الأولى مجرورة بالإضافة والثانية بمن ولا يجوز أن تقول مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه ﴿فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ فلا حرج عليكم فى أن تتزوجزا بناتهن إذا فارقتموهن أومتن ﴿وحلائل أَبْنَائِكُمُ﴾ جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر أو يحل فراش الآخر من الحل أو من الحلول ﴿الذين مِنْ أصلابكم﴾ دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله ﷺ زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى ﴿لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِي أزواج أدعيائهم﴾ وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين﴾ أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين ﴿إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله ﴿إِنَّ الله كَانَ غفورا رحيما﴾ وعن محمد بن الحسن رحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما إلا ما قد سلف
347
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (٢٤)
﴿والمحصنات مِنَ النساء﴾ أي ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن ﴿إلا ما ملكت أيمانكم﴾ بالسى وزوجها في دار الحرب والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسببهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسى فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء {كتاب الله
347
عَلَيْكُمْ} مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ﴾ على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم ﴿مَّا وَرَاء ذلكم﴾ ما سوى المحرمات المذكورة وأحل كوفي غير أبي بكر عطف على حرمت ﴿أَن تَبْتَغُواْ﴾ مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا أو بدل مما وراء ذلكم ومفعول
النساء (٢٤ _ ٢٥)
تبتغوا مقدر وهو النساء والأجود ألا يقدر ﴿بأموالكم﴾ يعني المهور وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر وأنه يجب وإن لم يسم وأن غير المال لا يصلح مهراً وأن القليل لا يصلح مهار إذ الحبة لا تعد مالاً عادة ﴿مُّحْصِنِينَ﴾ في حال كونكم محصنين ﴿غَيْرَ مسافحين﴾ لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام والمسافح الزاني ن السفح وهو صب المني ﴿فَمَا استمتعتم بِهِ منهن﴾ فما نكحتموه منهن ﴿فآتوهن أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فما فى معنى النساء ومن للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به وعلى المعنى في فآتوهن ﴿فَرِيضَةً﴾ حال من الأجور أي مفروضة أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة﴾ فيما تحط عنه من المهر أوتهب له من كله أو يزيد لها على مقداره أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ بالأشياء قبل خلقها ﴿حَكِيماً﴾ فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب
348
وقيل إن قوله فما استمتعتم نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت
349
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً﴾ فضلاً يقال لفلان عليّ طول أي فضل وزيادة وهو مفعول يستطع ﴿أَن يَنكِحَ﴾ مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من طول ﴿المحصنات المؤمنات﴾ الحرائر المسلمات ﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم من فتياتكم المؤمنات﴾ أى فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات وقوله ﴿من فتياتكم المؤمنات﴾ أي فلينكح مملوكة من الإماء المسلمات وقوله من فتياتكم أى فتيات المسلمين والمعنى ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح الأمة ونكاح أمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به وقال ابن عباس ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً وفيه دليل لنا في مسألة الطول ﴿والله أَعْلَمُ بإيمانكم﴾ فيه تنبيه على قبول ظاهر إيمانهن ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف ﴿بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ﴾ أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم وهو تحذير عن التعبير بالأنساب والتفاخر بالأحساب ﴿فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ سادتهن وهو حجة لنا
النساء (٢٥ _ ٢٧)
في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالى لاعقدهم وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى ﴿وآتوهن أجورهن بالمعروف﴾ وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي أو التقدير وآتوا مواليهن فحذف المضاف ﴿محصنات﴾ عفائف حال من المفعول فى وآتوهن ﴿غَيْرَ مسافحات﴾ زوانٍ علانية ﴿وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ زوان سرا
349
والاخدان الاخلاء فى السر ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ بالتزويج أحصن كوفي غير حفص ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة﴾ زنا ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ أي الحرائر ﴿مّنَ العذاب﴾ من الحد يعني خمسين جلدة وقوله نصف ما على المحصنات يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن ﴿ذلك﴾ أي نكاح الإماء ﴿لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ﴾ لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم وعن ابن عباس رضى الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك ﴿وَأَن تَصْبِرُواْ﴾ في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لأن فيه إرقاق الولد ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين وفي الحديث الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت ﴿والله غَفُورٌ﴾ يستر المحظور ﴿رَّحِيمٌ﴾ يكشف المحظور
350
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ﴾ أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة النبيين كما زيدت في لا أبالك لتأكيد إضافة الأب والمعنى يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف ﴿والله عَلِيمٌ﴾
350
بمصالح عباده ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما شرع لهم
351
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧)
﴿والله يريد أن يتوب عليكم﴾ التكرار للتأكيد والتقرير والتقابل وَيُرِيدُ الفجرة ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً﴾ وهو الميل عن القصد والحق ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات وقيل هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت فلما
النساء (٢٨ _ ٣١)
حرمهن الله قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت يقول يريدون أن تكونوا زناة مثلهم
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)
﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ﴾ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص ﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩)
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا ﴿إِلا أَن تَكُونَ تجارة﴾ إلا أن تقع تجارة تجارة كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة ﴿عَن تَرَاضٍ منكم﴾ صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير
351
تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة على النص ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره كمهلك نفسه أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل ﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم وقيل معناه أنه أمر بني إسرائيل يقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيم حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة
352
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس ﴿عدوانا وَظُلْماً﴾ لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ ندخله نارا مخصوصة شديد العذاب ﴿وَكَانَ ذلك﴾ أي إصلاؤه النار ﴿عَلَى الله يَسِيراً﴾ سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحل للتخليد وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)
﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ عن ابن مسعود رضى الله عنهما الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وعنه أيضاً الكبائر ثلاث الإشراك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وقيل المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله كبير ما تنهون عنه وهو الكفر ﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً﴾ مدخلا مدنى وكلاهما بمعنى المكان والمصدر
النساء (٣١ _ ٣٣)
﴿كريما﴾ حسنا وعن ابن عباس رضى اله عنهما ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يريد الله ليبين لكم والله يريد أن يتوب عليكم يريد الله أن
352
يخفف عنكم إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم إن الله لا يغفر أن يشرك به إن الله لا يظلم مثقال ذرة ومن يعمل سوأ أو يظلم نفسه ما يفعل الله بعذابكم وتشبت المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفى عنهما لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى وقوله إِنَّ الحسنات يذهبن السيئات فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطلق عليهما
353
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢)
ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ﴾ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشئ له ويزول عن صاحبه والغبطة أن يتمنى مثل مالغيره وهو مرخص فيه والأول منهي عنه ولما قال الرجال نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث وقالت النساء يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل ﴿لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نصيب مما اكتسبن﴾ وليس ذلك على حسب الميراث ﴿واسألوا الله مِن فضله﴾ فإن خزائنه لا تنفذ ولا تتمنوا ما للناس من الفضل ﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق قال ابن عبينة لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي
353
وفي الحديث من لم يسأل الله من فضله غضب عليه وفيه إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول لا أعطي عبدي حتى يسألني وسلوا مكي وعلي
354
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣)
﴿وَلِكُلٍّ﴾ المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو لكل مال ﴿جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾ ورّاثاً يلونه ويحرزونه ﴿مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون﴾ هو صفة مال محذوف أى من مال تركه الوالدان أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره يرثون مما ترك ﴿والذين عَقَدَتْ أيمانكم﴾ عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو ﴿فآتوهم نصيبهم﴾ مع لفاء عقدت كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد
النساء (٣٣ _ ٣٤)
الموالاة وهي مشروعة والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضى الله عنهم وهو قولنا وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت ويقول الآخر قبلت انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤)
﴿الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء﴾ يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك ﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ الضمير في بعضهم للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير
354
التشريق عند أبي حنيفة رحمه الله والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاف وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم ﴿وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم﴾ وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم ثم قسمهن على نوعين النوع الأول ﴿فالصالحات قانتات﴾ مطيعات قائمات بما عليهن للازواج ﴿حافظات لّلْغَيْبِ﴾ لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذا كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال وقيل للغيب لأسرارهم ﴿بِمَا حَفِظَ الله﴾ بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله وعاشروهن بالمعروف أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب أو بحفظ الله إياهن حيث صبرهن كذلك والثاني ﴿واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج والنشر المكان المرتفع والنبوة عن ابن عباس رضى الله عنهما هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ خوفوهن عقوبة الله تعالى والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة ﴿واهجروهن فِي المضاجع﴾ في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع ﴿واضربوهن﴾ ضرباً غير مبرح أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع ثم بالضرب إن لم ينجح فيهن الوعظ والهجران ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ بترك النشوز ﴿فلا تبغوا عليهن سبيلا﴾ فازبلوا عنهن التعرض بالاذى وسبيلا مفعول تبغوا وهو من بغيث الأمر أي طلبته ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا
النساء (٣٥ _ ٣٦)
ظلمهن أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع
355
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)
ثم خاطب الولاة بقوله ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ أصله شقاقاً بينهما فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله بَلْ مَكْرُ الليل والنهار وأصله بل مكر في الليل والنهار والشقاق العداوة والخلاف لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء ﴿فابعثوا حَكَماً مّنْ أهله﴾ رجلا يصلح للحكومة والإصلاح بينهما ﴿وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا﴾ وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة والضمير في ﴿إِن يُرِيدَا إصلاحا﴾ للحكمين وفي ﴿يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا﴾ للزوجين أي أن قصدا إصلاح ذات اليمين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما وأوقع الله بحسن سعيهما بين الزوجين الألفة والوفاق وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق أو الضمير ان للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين يوفق الله بينهما فينفقات على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد أو الضمير أن للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة ﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ بإرادة الحكمين ﴿خَبِيراً﴾ بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافا لمالك رحمه الله
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦)
﴿واعبدوا الله﴾ قيل العبودية أربعة الوفاء بالعهود والرضا بالموجود والحفظ للحدود والصبر على المفقود ﴿وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ صنماً وغيره ويحتمل المصدر أي إشراكاً ﴿وبالوالدين إحسانا﴾ وأحسنوا
356
بهما إحساناً بالقول والفعل والإنفاق عليهما عند الاحتياج ﴿وَبِذِى القربى﴾ وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما ﴿واليتامى والمساكين والجار ذِي القربى﴾ الذي قرب جواره ﴿والجار الجنب﴾ أى الذى جواره بعيدا والجار القريب النسيب والجار الجنب الأجنبي ﴿والصاحب بالجنب﴾ أى الزوجة عن على رضى الله عنه أو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر أو شريكاً في تعلم علم أو غيره أو قاعد إلى جنبك في مجلس أو مسجد ﴿وابن السبيل﴾ الغريب أو الضيف ﴿وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ العبيد والإماء ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً﴾ متكبراً يأنف عن قرابته وجيرانه فلا يلتفت اليهم
النساء (٣٦ _ ٤٠)
﴿فَخُوراً﴾ يعدد مناقبه كبراً فإن عدها اعترافاً كان شكورا
357
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (٣٧)
﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾ نصب على البدل من مَنْ كان مختالا فخورا وجمع على معنى ن أو على الذم أو رفع على أنه خبر متبدا محذوف تقديره هم الذين يبخلون ﴿وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل﴾ بالبَخَل حمزة وعلي وهما لغتان كالرشد والرشد أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء قيل البخل أن يأكل بنفسه ولا يؤكل غيره والشح أن لا يأكل ولا يؤكل والسخاء أن يأكل ويؤكل والجودان يؤكل ولا يأكل ﴿ويكتمون ما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ﴾ ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال وفي الحديث إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى نعمته على عبده وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به فقال الرجل يا أمير المؤمنين
357
إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه قيل نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام ﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أي يهانون به في الآخرة
358
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨)
﴿والذين يُنْفِقُونَ أموالهم﴾ معطوف على الذين يبخلون أو على الكافرين ﴿رِئَاء الناس﴾ مفعول له أي للفخار وليقال ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهم المنافقون أو مشركوا مكة ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً﴾ حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم فى النار
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)
﴿وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا من ما رزقهم الله﴾ وأى تبعة وبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ وإلا فكل منفعة ومصلحة فى ذلك وهذا كما يقال للعاق وما فرك لو كنت باراً وقد علم أنه لا مضرة في البر ولكنه ذم وتوبيخ ﴿وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً﴾ وعيد
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)
﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ هي النملة الصغير وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ عليه فقال كل واحدة من هؤلاء ذرة وقيل كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً﴾ وإن يك مثقال الذرة حسنة وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث حسنةٌ حجازي على كان التامة وحذفت النون من تكن تخفيفاً لكثرة الاستعمال ﴿يضاعفها﴾ يضعفها ثوابها يعفها مكي وشامي ﴿وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾ ويعط صاحبها من عنده ثواباً عظيماً وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمى متاع الدنيا
358
قليلاً وفيه إبطال قول المعتزلة فى تخليد مرتكب
النساء (٤١ _ ٤٣)
الكبيرة مع أن له حسنات كثيرة
359
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)
﴿فكيف﴾ يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم ﴿إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم وَجِئْنَا بِكَ يا محمد ﴿على هؤلاء﴾ أي أمتك ﴿شَهِيداً﴾ حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قرأ سورة النساء على رسول الله ﷺ حتى بلغ قوله وجئنا بك على هؤلاء شهيدا فبكى رسول الله ﷺ وقال حسبنا
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ظرف لقوله ﴿يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ بالله ﴿وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض﴾ لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها تسوى بفتح التاء وتخفيف السين والإمالة وحذف إحدى التاءين من تتسوى حمزة وعلي تسوى بإدغام التاء في السين مدني وشامي ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ مستأنف أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)
ولما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً وشربا ودعا نفرا من الصحابة رضى الله عنهم حين كانت الخمر مباحة وأكلوا وشربوا فقدموا أحدهم ليصلي بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد نزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى﴾ أي لا تقربوها في هذه الحالة ﴿حتى تَعْلَمُواْ مَا تقولون﴾ أى تقرءون وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة لأن قراءة سورة الكافرين بطرح اللامات كفر
359
ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه بين امرأته ولا بتجديد الإيمان ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً لا يحكم بكفره ﴿وَلاَ جُنُباً﴾ عطف على وأنتم سكارى لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال كأنه قيل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً أي ولا تصلوا جنباً والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب ﴿إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ صفة لقوله جنباً أي لا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين غير مسافرين والمراد بالجنب الذين لم يغتسلوا كأنه قيل لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين ﴿حتى تَغْتَسِلُواْ﴾ إلا أن تكونوا مسافرين عادمين الماء متيممين عبر عن المتيمم المسافر لأن غالب حاله عدم الماء وهذا مذهب أبى حنيفه رحمه الله وهو مروى عن على رضى الله عنه وقال الشافعى رحمه الله لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة وهي المساجد ولا جنباً أي ولا تقربوا المسجد جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازين فيه فيجوز للجنب العبور في المسجد عند الحاجة ﴿وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جاء أحد منكم من الغائط أو﴾
أى المطمئن من الأرض وكانوايأتونه لقضاء الحاجة فكنى به عن الحديث ﴿أَوْ لامستم النساء﴾ جامعتموهن كذا عن علي رضى الله عنه وابن عباس ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً﴾ فلم تقدروا على استعماله لعدمه أو بعده أو فقد آلة الوصول إليه أو لمانع من حية أو سبع أو عدو ﴿فتيمّموا﴾ أدخل في حكم الشرط أربعة وهم المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة والجزاء الذي هو الأمر بالتيمم متعلق بهم جميعاً فالمرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه والمسافرون إذا عدموه لبعده والمحدثون وأهل الجنابة إذا لم يجدوه لبعض الأسباب
360
فلهم أن يتيمموا لمستم حمزة وعلي ﴿صَعِيداً﴾ قال الزجاج هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره وإن كان صخرا لا ترا عليه لو ضرب المتيمم يده ومسح لكان ذلك طهوره ومن في سورة المائدة لابتداء الغاية لا للتبعيض ﴿طَيّباً﴾ طاهراً ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ قيل الباء زائدة ﴿إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً﴾ بالترخيص والتيسير ﴿غَفُوراً﴾ عن الخطأ والتقصير
361
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤)
﴿ألم تر﴾ من روية القلب وعدي بإلى على معنى ألم ينته علمك إليهم أو بمعنى ألم تنظر إليهم ﴿إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب﴾ حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود ﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾ يستبدلونها بالهدى وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله ﷺ وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ﴾ أنتم أيها المؤمنون ﴿السبيل﴾ أي سبيل الحق كما ضلوه
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (٤٥)
﴿والله أَعْلَمُ﴾ منكم ﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ﴿وكفى بالله وَلِيّاً﴾ في النفع ﴿وكفى بالله نَصِيراً﴾ فى الدفع فثقوا بولايته ونصرته دونهم أولا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم وليا ونصيرا منصوبان على التمييز أو على الحال
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦)
﴿مّنَ الذين هَادُواْ﴾ بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب أو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض أو يتعلق بقوله ﴿نصيراً﴾ أي ينصركم من الذين هادوا كقوله ﴿ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا﴾ أو يتعلق بمحذوف تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم فقوم مبتدأ ويحرفون صفة له والخبر من الذين هادوا مقدم عليه وحذف الموصوف وهو قوم وأقم صفته وهو {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن
361
مواضعه} يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها وذلك نحو تحريفهم أسمر ربعة عن موضعه في التوراة بوضعهم آدم طوال مكانه ثم ذكر هنا عن مواضعه وفي المائدة مِن بعد مواضعه فمعنى عن مواضعه على ما بينا من
النساء (٤٦ _ ٤٧)
إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ومعنى مِن بَعْدِ مواضعه أنه كان له مواضع هو جدير بأن يكون فيها فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاران ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمرك قيل أسرّوا به ﴿واسمع﴾ قولنا ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ حال من المخاطب أى اسمع وأنت غير مسمع هو قول ذو وجهين يحتمل الذم أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت لأنه لو أجبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصم غير مسمع قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم لا سمعت دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعوا إليه ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك فكأنك لم تسمع شيئاً أو إسمع غير مسمع كلاماً ترضاه فسمعك عنه ناب ويحتمل المدح أي اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك أسمع فلان فلاناً إذا سبه وكذلك قوله ﴿وراعنا﴾ يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا ويحتمل سبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهى راعنا فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله ﷺ يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام ﴿ليا بألسنتهم﴾ فتلابها وتحريفاً أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا سمعت مكروهاً أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً ﴿وَطَعْناً فِي الدين﴾ هو قولهم لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ ولم يقولوا وعصينا ﴿واسمع﴾ ولم يلحقوا به {غير مسمع
362
وانظرنا} مكان راعنا ﴿لَكَانَ﴾ قولهم ذاك ﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ عند الله ﴿وَأَقْوَمَ﴾ وأعدل وأسد ﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ منهم قد آمنوا كعبد الله ابن سلام وأصحابه أو إلا إيماناً قليلاً ضعيفاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره
363
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧)
ولما لم يؤمنوا أنزل ﴿يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ يعني القرآن ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ﴾ يعني التوراة ﴿مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ أى نمحوا تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ﴿فَنَرُدَّهَا على أدبارها﴾ فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها والفاء للتسبيب وإن جعلتها للتعقيب على أنهم تُوُعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر ردها على أدباراها بعد طمسها فالمعنى أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام وقيل المراد
النساء (٤٧ _ ٥٠)
بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة وبالوجوه رءوسهم ووجهاؤهم أى من قبل أن تغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صفارهم وإدبارهم ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت﴾ أى تخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات والوعيد كان معلقا بألا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبى ﷺ مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين بطمس الوجوه أو بلعنهم فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان وقيل هو منتظر في اليهود ﴿وَكَانَ أَمْرُ الله﴾ أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به
363
﴿مَفْعُولاً﴾ كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا
364
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)
﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به﴾ إن مات عليه ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب قال النبي عليه السلام من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته وتقييده بقوله ﴿لِمَن يَشَاءُ﴾ لا يخرجه عن عمومه كقوله الله لطيف بعباده يرزق من يشاء قال على رضى الله عنه ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ ما قد سلف فما دونه أولى أن يغفر بالتوبة والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً﴾ كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا ن كان هودا أو نصارى
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩)
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ﴾ ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى ﴿بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ﴾ إعلام بأن تزكية الله هي التى يعتدبها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هو أعلم بمن اتقى ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم ﴿فَتِيلاً﴾ قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠)
﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ﴾
في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ ﴿وكفى بِهِ﴾ بزعمهم هذا ﴿إِثْماً مُّبِيناً﴾ من بين سائر آثامهم
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١)
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب﴾ يعني اليهود ﴿يُؤْمِنُونَ بالجبت﴾ أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله ﴿والطاغوت﴾ الشيطان ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمنوا سَبِيلاً﴾ وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله ﷺ فقالوا أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسحدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا فقال أبو سفيان أنحن أهدى سبيلاً أم محمد فقال كعب أنتم أهدى سبيلاً
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)
﴿أولئك الذين لعنهم الله﴾ وأبعدهم من رحمته ﴿وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾ يعتد بنصره
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)
ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال يمنعون مالهم ويتمنون ما لغيرهم فقال ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ من الملك﴾ فأم منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك ﴿فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ أي لو كان لهم نصيب من الملك أى ملك أهل الدنيا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم والقير النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤)
﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ﴾ بل أيحسدون رسول الله
365
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وإزدياد العز والتقدم كل يوم ﴿فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب﴾ أى التوراة ﴿والحكمة﴾ الموعظ والفقه ﴿وآتيناهم مُّلْكاً عَظِيماً﴾ يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام وهنا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه
366
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)
﴿فمنهم من آمن بِهِ﴾ فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم ﴿وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ﴾ وأنكره مع علمه بصحته أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم
النساء (٥٥ _ ٥٨)
ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه ﴿وكفى بجهنم سعيرا﴾ للصادين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦)
﴿إن الذين كفروا بآياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ ندخلهم ﴿نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أحرقت ﴿بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ أعدنا تلك الجلود غير محترقة فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية وعن فضيل يجعل النضيج غير نضيج ﴿لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز أعزك الله أي أدامك على عزك ﴿إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً﴾ غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين ﴿حَكِيماً﴾ فيما يفعل بالكافرين
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)
﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ﴾ من الأنجاس والحيض والنفاس ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال ليل أليل
366
وهو ما كان طويلا فينانا لا جوب فيه ودائما لا ننسخه الشمس وسجسجا لا حرفيه ولا برد وليس ذلك إلا ظل الجنة
367
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨)
ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا﴾ وقيل قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس﴾ قضيتم ﴿أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ بالسوية والإنصاف وقيل إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله ﷺ منه مفتاح الكعبة فلما نزلت الآية أمر عليا رضى الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله ﷺ لقد أنزل الله في شأنك قرآناً وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله ﷺ أن السدانة في أولاد عثمان أبداً ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ ما نكرة منصوبة موصوفة ببعظكم به كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أى نعم الشئ الذي يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم وبكسر النون وسكون العين مدني وأبو عمرو وبفتح النون وكسر العين شامي وحمزة وعلي ﴿إِنَّ الله كان سميعا﴾ لاقوالكم ﴿بصيرا﴾ بأعمالكم
النساء (٥٩ _ ٦١)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)
لما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله ﴿يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ﴾ أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمراء ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ﴾ فإن اختلفتم أنتم واولوا الأمر في شيء من أمور الدين ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول﴾ أي
367
ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون العصيان ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلاطاعة لهم لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق وحكى أن مسلمة ابن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله ﴿وأولي الأمر منكم﴾ فقال أبو حازم أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق بقوله ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾ إلى القرآن والرسول في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته ﴿ذلك﴾ إشارة إلى الرد أى الردإلى الكتاب والسنة ﴿خَيْرٌ﴾ عاجلاً ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ عاقبة
368
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠)
كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة فدعاه اليهودى إلى النبى ﷺ لعلمه أنه لا يرتشى ودعا المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه فاحتكما إلى النبى عليه السلام فقضى لليهود فلم يرض المنافق وقال تعالى نتحاكم إلى عمر فقال االيهودى لعمر رضى الله عنه قضى لى رسول الله ﷺ فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق أكذلك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله ﷺ أنت الفاروق ﴿يُرِيدُونَ﴾ حال من الضمير في يزعمون ﴿أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت﴾ أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام أو على التشبيه بالشيطان أو جعل اختيار
368
التحاكم إلى غير رسول الله ﷺ على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله ﴿وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ﴾ عن الحق ﴿ضلالا بَعِيداً﴾ مستمراً إلى الموت
369
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١)
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ للمنافقين ﴿تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾
للتحاكم ﴿رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)
﴿فَكَيْفَ﴾ تكون حالهم وكيف يصنعون ﴿إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ﴾ من قتل عمر بشرا ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك فى الحكم ﴿ثم جاؤوك﴾ أي أصحاب القتيل من المنافقين ﴿يَحْلِفُونَ بالله﴾ حال ﴿إِنْ أَرَدْنَا﴾ ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك ﴿إِلاَّ إِحْسَاناً﴾ لا إساءة ﴿وَتَوْفِيقاً﴾ بين الخصمين ولم ترد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار وقيل جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (٦٣)
﴿أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ﴾ من النفاق ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ فأعرض عن قبول الأعذار وعظ بالزجر والإنكار وبالغ في وعظهم بالتخويف والإنذار أو أعرض عن عقابهم وعظهم في عتابهم وبلغ كنه ما في ضميرك من الوعظ بارتكابهم والبلاغة أن يبلغ بلسانه كنه ما فى جنانه وفى أنفسهم يتعلق يقل لهم أي قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على
369
النفاق قولاً بليغاً يبلغ منهم ويؤثر فيهم
370
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤)
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ﴾ أي رسولاً قط ﴿لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾ بتوفيقه في طاعته وتيسيره أو بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله وَمَن يُطِعِ الرسول فقد أطاع الله ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بالتحاكم إلى الطاغوت ﴿جاؤوك﴾ تائبين من النفاق معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق ﴿فاستغفروا الله﴾ من النفاق والشقاق ﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ بالشفاعة لهم والعامل في إذ ظلموا خير أن وهو جاءوك والمعنى ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول ﴿لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً﴾ لعلموه تواباً أي لتاب عليهم ولم يقل واستغفرت لهم وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيما لشأنه ﷺ وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان ﴿رَّحِيماً﴾ بهم قيل جاء أعرابي بعد دفنه عليه السلام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال يا رسول الله قلت فسمعنا وكان فيما أنزل عليك ولو أنهم إذ ظلموا
النساء (٦٥ _ ٦٩)
أنفسهم الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك أستغفر الله من ذنبي فاستغفر لي من ربي فنودي من قبره قد غفر لك
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)
﴿فلا وربك﴾ أى فوربك كقوله فوربك لنسألهم ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم وجواب القسم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أو التقدير فلا أي ليس الأمر كما يقولون ثم قال وربك لا يؤمنون ﴿حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً﴾ ضيقاً ﴿مّمَّا قَضَيْتَ﴾ أي لا تضيق صدورهم من حكمك أو شكًّا لأن الشاك في ضيق من أمره
370
حتى يلوح له اليقين ﴿وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً﴾ وينقادوا لقضائك انقياداً وحقيقته سلم نفسه له وأسلمها أي جعلها سالمة له أي خالصة وتسليماً مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره كأنه قيل ويقادوا لحكمك انقايدا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم والمعنى لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك
371
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦)
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ﴾ على المنافقين أي ولو وقع كتبنا عليهم ﴿أَنِ اقتلوا﴾ أن هي المفسرة ﴿أَنفُسَكُمْ﴾ أي تعرضوا للقتل بالجهاد أو ولو أو جبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم ﴿أَوِ اخرجوا مِن دياركم﴾ بالهجرة ﴿مَّا فَعَلُوهُ﴾ لنفاقهم والهاء ضمير أحد مصدري الفعلين وهو القتل أو الخروج أو ضمير المكتوب لدلالة كتبنا عليه ﴿إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ﴾ قليلاً شامي على الاستثناء والرفع على البدل من واو فعلوه ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ من اتباع رسول الله عليه السلام والانقياد لحكمه ﴿لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ في الدارين ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ لإيمانهم وأبعد عن الاضطراب فيه
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧)
﴿وَإِذَاً﴾ جواب لسؤال مقدر كأنه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت فقيل وإذا ولو ثبتوا ﴿لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً﴾ أي ثوابا كثيرالا ينقطع
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨)
﴿ولهديناهم صراطا﴾ مفعول ثانٍ ﴿مُّسْتَقِيماً﴾ أي لثبتناهم على الدين الحق
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)
﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين﴾ كأفاضل صحابة الأنبياء والصديق المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة أو الذي يصدق قوله بفعله ﴿والشهداء﴾ والذين استشهدوا
371
في سبيل الله ﴿والصالحين﴾ ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم ﴿وَحَسُنَ أولئك رفيقا﴾
أي وما أحسن أولئك رفيقاً وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه
372
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)
﴿ذلك﴾ مبتدأ خبره ﴿الفضل مِنَ الله﴾ أو الفضل صفته ومن الله خبره والمعنى أن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومرتبتهم من الله ﴿وكفى بالله عَلِيماً﴾ بِعِبَادِهِ وَبِمَن هُوَ أَهْلُ الفضل ودلت الآية على أن ما يفعل الله بعباده فهو فضل منه بخلاف ما يقوله المعتزلة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١)
﴿يا أيها الذين آمنوا خُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ الحذر والحذر بمعنى وهو التحرز وهما كالإثر والأثر يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه والمعنى احذروا واحترزوا أنه من العدو ﴿فانفروا ثُبَاتٍ﴾ فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة سرية بعد سربة فالثبات الجماعات واحدها ثبات ﴿أَوِ انفروا جَمِيعاً﴾ أي مجتمعين أو مع النبي عليه السلام لأن الجمع بدون السمع لا يتم والعقد بدون الواسطة لا ينتظم أو انفروا ثباتٍ إذا لم يعم النفير أو انفروا جميعاً إذا عم النفير وثبات حال وكذا جميعاً
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢)
واللام في ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن﴾ للابتداء بمنزلتها فى إن الله لغفور ومن موصولة وفى ﴿ليبطئن﴾ اللام وجواب قسم محفوظ تقديره وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن والقسم وجوابه صلة من والضمير الراجع منها إليه ما استكنّ في لَّيُبَطّئَنَّ أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد وبطؤ بمعنى أبطأ أي تأخرو يقال ما بطؤبك فيتعدى بالباء والخطاب لعسكر رسول الله ﷺ وقوله منكم أي في الظاهر دون الباطن يعنى المنافقين يقولون لم تقتلون انفسكم تأتوا حتى يظهر الأمر ﴿فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ﴾ قتل أو هزيمة
372
قال المبطى ﴿قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ معهم شهيدا﴾ حاضرا فيصيبني مثل ما أصابهم
373
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧٣)
﴿وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله﴾ فتح أو غنيمة ﴿ليقولن﴾ هذا المبطئ مثلهفا على ما فاته من الغنيمة لا طلباً للمثوبة ﴿كَأنَ﴾ مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أى كأنه ﴿لم يكن﴾ وبالتاء مكي وحفص ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾ وهي اعتراض بين الفعل وهو ليقولن وبين مفعلوله وهو ﴿يا ليتني كُنتُ مَعَهُمْ﴾ والمعنى كأن لم يتقدم له معكم موادة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل فى الباطن ﴿فأفوز﴾ بالنصيب لأنه جواب التمني ﴿فَوْزاً عَظِيماً﴾ فآخذ من الغنيمة حظاً وافراً
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤)
﴿فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون﴾ يببعون ﴿الحياة الدنيا بالآخرة﴾ والمراد المؤمنون الذين
النساء (٧٤ _ ٧٥)
يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون المخلصون أو يشترون والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ﴿وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (٧٥)
﴿وَمَا لَكُمْ﴾ مبتدأ وخبر وهذا الاستفهام في النفي للتنبيه على الاستبطاء وفي الإثبات للإنكار ﴿لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله﴾ حال والعامل فيها الاستقرار كما تقول مالك قائماً والمعنى وأشىء لكم تاركين القتال وقد ظهرت دواعيه ﴿والمستضعفين﴾ مجرور بالعطف على سبيل الله أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين أو منصوب على الاخت منه أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعَفين من المستضعِفين لأن سبيل الله عام في كل خير وخلاص المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد ﴿مِنَ الرجال والنساء والولدان﴾ ذكر الولدان تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين ارغاما لا بائهم وأمهاتم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس عليه السلام عن ابن عباس رضى الله عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان ﴿الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية﴾ يعني مكة ﴿الظالم أَهْلُهَا﴾ الظالم وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول من هذه القرية التي ظلم أهلها ﴿واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً﴾ يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا ﴿واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً﴾ ينصرنا عليهم كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد عليه السلام فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى
374
النصر ولما خرج محمد ﷺ استعمل عتاب بن أسيد فرأوا منه الولاية والنصرة كما أرادوا قال ابن عباس رضى الله عنهما كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزبها من الظلمة رغب الله المؤمنين بأنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في
النساء (٧٦ _ ٧٨)
سبيل الشيطان فلاولى لهم إلا الشيطان بقوله
375
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦)
﴿الذين آمنوا يقاتلون فِى سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت﴾ أي الشيطان ﴿فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان﴾ أي الكفار ﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان﴾ أي وساوسه وقيل الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال ﴿كَانَ ضَعِيفاً﴾ لأنه غرور لا يؤول إلى محصول أو كيده في مقابلة نصر الله ضعيف
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧)
كان المسلمون مكفوفين عن القتال مع الكفار ما داموا بمكة وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزل ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ﴾ أي عن القتال ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ أي فرض بالمدينة ﴿إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله﴾ يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت قال الشيخ أبو منصور رحمه الله هذه خشية طبع لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقاداً فالمرء مجبول على كراهة ما فيه خوف هلاكه غالباً وخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ومحله النصب على الحال من الضمير في يخشون أى يشخون الناس مثل خشية الله أى مشيهين لأهل خشية الله ﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ هو معطوف على الحال أي أو أشد خشية من أهل خشية الله وأو للتخيير أي إن قلت خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب وإن قلت إنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل لهم مثلها وزيادة {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ
375
عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} هلا أمهلتنا إلى الموت فنموت على الفرش وهو سؤال على وجه الحكمة في فرض القتال عليهم لا اعتراض لحكمه بدليل أنهم لم يوبخوا على هذا السؤال بل أجيبوا بقوله ﴿قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ والأخرة خَيْرٌ لّمَنِ اتقى﴾ متاع الدنيا قليل زائل ومتاع الآخرة كثير دائم والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل فكيف القليل الزائل ﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل فلا ترغبوا عنه وبالياء مكي وحمزة وعلى
376
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)
ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت﴾ ما زائدة لتوكيد معنى الشرط في أين ﴿وَلَوْ كنتم في بروج﴾ حصون
النساء (٧٨ _ ٨١)
أو قصور ﴿مُّشَيَّدَةٍ﴾ مرفعة ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾ نعمة من خصب ورخاء ﴿يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله﴾ نسبوها إلى الله ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ﴾ بلية من قحط وشدة ﴿يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ أضافوها إليك وقالوا هذه من عندك وما كانت الابشؤمك وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله تعالى وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد ﷺ فكذبهم الله تعالى بقوله ﴿قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله﴾ والمضاف إليه محذوف أي كل ذلك فهو يبسط الأرزاق ويقبضها ﴿فما لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ﴾ يفهمون ﴿حَدِيثاً﴾ فيعلمون أن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمة ثم قال
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩)
﴿مَا أَصَابَكَ﴾ يا إنسان خطاباً عاماً وقال الزجاج المخاطب به النبي عليه السلام والمراد غيره ﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾ من نعمة وإحسان ﴿فَمِنَ الله﴾ تفضلاً منه وامتناناً ﴿وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ﴾ من بلية ومصيبة ﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ فمن عندك أى فيما كسبت يداك وماأصابكم من مصيبة فبما كسبت
376
أيديكم ﴿وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً﴾ لا مقدراً حتى نسبوا إليك الشدة أو أرسلناك للناس رسولاً فإليك تبليغ الرسالة وليس إليك الحسنة والسيئة ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ بأنك رسوله وقيل هذا متصل بالاول أى لا يكادون يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك وحمل المعتزلة الحسنة والسيئة في الآية الثانية على الطاعة والمعصية تعسف بيّن وقد نادى عليه ما أصابك إذ يقال في الأفعال ما أصبت ولأنهم لا يقولون الحسنات من الله خلقا وإيجاد فأنى يكون لهم حجة في ذلك وشهيداً تمييز
377
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠)
﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ لأنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله ﴿وَمَن تولى﴾ عن الطاعة فأعرض عنه ﴿فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٨١)
﴿ويقولون﴾ ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشئ ﴿طاعة﴾ خبر مبتدأ لمحذوف أي أمرنا وشأننا طاعة ﴿فَإِذَا بَرَزُواْ﴾ خرجوا ﴿مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ﴾ زور وسوّى فهو من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل أو من أبيات الشعر لأن الشاعر يديرها ويسويها وبالإدغام حمزة وأبو عمرو ﴿غَيْرَ الذى تَقُولُ﴾ خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة
النساء (٨١ _ ٨٣)
وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون ﴿والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ﴾ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ في شأنهم فإن الله يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم
377
إذا قوي أمر الإسلام ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ كافياً لمن توكل عليه
378
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)
﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ أفلا يتأملون معانيه ومبانيه والتدبر التأمل والنظر فى أدبار الأمور وما يؤل إليه في عاقبته ثم استعمل في كل تأمل والتفكر تصرف القلب بالنظر في الدلائل وهذا يرد قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول ﷺ والإمام المعصوم ويدل على صحة القياس وعلى بطلان التقليد ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله﴾ كما زعم الكفار ﴿لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ أي تناقضاً من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم أو تفاوتاً من حيث البلاغة فكان بعضه بالغاً حد الإعجاز وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته أو من حيث المعاني فكان بعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه وبعضه إخبار مخالفاً للمخبر عنه وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم وأما تعلق الملحدة بآيات يدعون فيها اختلافاً كثيراً من نحو قوله فإذا هى ثعبان مبين كانها جان فوربك لنسألنهم أجمعين فيؤمئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فقد تفضى عنها أهل الحق وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣)
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف﴾ هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله ﷺ من أمن وسلامة أو خوف وخلل ﴿أَذَاعُواْ بِهِ﴾ أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة يقال أذاع السر وأذاع به والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن أو تقتضي أحدهما ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي ذلك الخبر ﴿إِلَى الرسول﴾ أى رسول الله ﷺ ﴿وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ﴾ يعني كبراء الصحابة البصراء بالأنور أو الذين كانوا يؤمِّرون منهم ﴿لَعَلِمَهُ﴾
378
لعلم تدبير ما أخبروا به ﴿الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها وقيل كانوا يقفون من رسول الله ﷺ وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه والنبط الماء الذى
النساء (٨٣ _ ٨٦)
يخرج من البئر أول ما تجفر واستنباطه استخراجه فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ﴾ بإرسال الرسول ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ بإنزال الكتاب ﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان﴾ لبقيتم على الكفر ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ لم يتبعوه ولكن آمنوا بالعقل كزيد ابن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهما
379
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤)
لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها قال ﴿فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله﴾ إن أفردوك وتركوك وحدك ﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود وقيل دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله ﷺ اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت فخرج وما معه إلا سبعون ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ﴿وَحَرّضِ المؤمنين﴾ وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب لا التعنيف بهم ﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي بطشهم وشدتهم وهم قريش وقد كف بأسهم بالرعب فلم يخرجوا وعسى كلمة مطمعة غير أن أطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم ﴿والله أَشَدُّ بَأْساً﴾ من قريس ﴿وأشد تنكيلا﴾ تعذيبا وهو تمييز كبأسا
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (٨٥)
﴿من يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً﴾ هي الشفاعة في دفع شر أو جلب نفع مع جوازها شرعاً ﴿يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾ من ثواب الشفاعة ﴿وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً﴾ هي خلاف الشفاعة الحسنة قال ابن عباس رضى الله عنهما مالها مفسر غيرى معناه ن أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر وضده السيئة وقال الحسن هو المشي بالصلح وضده النميمة ﴿يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا﴾ نصيب ﴿وَكَانَ الله على كُلّ شَيْءٍ مُّقِيتاً﴾ مقتدراً من أقات على الشئ اقتدر عليه أو حفيظاً من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)
﴿وَإِذَا حُيّيتُم﴾ أي سلم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين فَسَلّمُواْ على أنفسكم تحية من عند الله تحيتهم يوم يلقونه سلام وكانت العرب تقول عند اللقاء حياك الله أي أطال الله حياتك فأبدل ذلك بعد الإسلام بالسلام ﴿بِتَحِيَّةٍ﴾ هي تفعله من حيّا يحيّي تحية ﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أي قولوا وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال السلام عليكم وزيدوا وبركاته إذا قال ورحمة الله ويقال لكل شيء منتهى ومنتهى السلام وبركاته ﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ أي أجيبوها بمثلها ورد السلام جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلّم وفيه حذف مضاف أى ردوا مثلها
النساء (٨٦ _ ٨٩)
والتسليم سنة والرد فريضة والأحسن فضل وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن جهراً ورواية الحديث وعند مذاكرة العلم والأذان والإقامة وعند أبى يوسف رحمه الله لا يسلم على لاعب الشطرنج والنرد والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري من غير عذر في حمام أو غيره ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته والماشي على القاعد والراكب على الماشى وراكب القرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والأقل على الأكثر
380
وإذا التقيا ابتدرا وقيل بأحسن منها لأهل الملة أو ردوها لأهل الذمة وعن النبى ﷺ إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون السام عليكم وقوله عليه السلام لا غرار في تسليم أي لا يقال عليك بل عليكم لأن كاتبيه معه ﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها
381
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧)
﴿الله﴾ مبتدأ ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ خبره أو اعتراض والخبر ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ ومعناه الله والله ليجمعكم ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي ليحشرنكم إليه والقيامة القيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هو حال من يوم القيامة والهاء يعود إلى اليوم أو صفة لمصدر محذوفة أي جمعاً لا ريب فيه والهاء يعود إلى الجمع ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ تمييز وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه في إخباره ووعده ووعيده لاستحالة الكذب عليه لقبحه لكونه إخباراً عن الشئ بخلاف ما هو عليه
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨)
﴿فما لكم﴾ مبتدأ وخبر ﴿فِي المنافقين فِئَتَيْنِ﴾ أى مالكم اختلفتم فى شأن قوم قدنا فقوا نفاقا ظاهرا وتفرقتم فيهم فرقتين القول بكفرهم وذلك أن قوماً من المنافقين استأذنوا رسول الله ﷺ في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم هم كفار وقال بعضهم هم مسلمون وفئتين حال كقولك مالك قائماً قال سيبويه إذا قلت مالك قائماً فمعناه لم قمت ونصبه على
381
تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال ﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ ردهم إلى حكم الكفار ﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين فردوهم أيضاً ولا تختلفوا في كفرهم ﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ﴾ أن تجعلوا من جملة المهتدين ﴿مَنْ أَضَلَّ الله﴾ من جعله الله ضالاً أو أتريدون أن تسموهم مهتدين وقد أظهر الله ضلالهم فيكون تعييراً لمن سماهم مهتدين والآية تدل على مذهبنا في إثبات الكسب للعبد والخلق للرب جلت قدرته ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ طريقاً إلى الهداية
382
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)
﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا﴾
النساء (٨٩ _ ٩١)
الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي ودوا لو تكفرون كفراً مثل كفرهم ﴿فَتَكُونُونَ﴾ عطف على تكفرون ﴿سَوَآء﴾ أي مستوين أنتم وهم في الكفر ﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ فلا توالوهم حتى يؤمنوا لأن الهجرة في سبيل الله بالإسلام (فَإِن تَوَلَّوْاْ) عن الإيمان ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ كما كان حكم سائر المشركين ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠)
﴿إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ﴾ أي ينتهون إليهم ويتصلون بهم والاستثناء من قوله ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم﴾ دون الموالاة ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق﴾ القوم هم إلا سلميون كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد وذلك أنه وادع قبل خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال والتجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق ﴿أو جاؤوكم﴾ عطف على صفة قوم أي إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم أو على صلة الذين أي إلا الذين يتصلون
382
بالمعاهدين أو الذين لا يقاتلونكم ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ حال بإضمار قدو الحصر الضيق والانقباض ﴿أن يقاتلوكم﴾ عن أن يقاتلوكم أي عن قتالكم ﴿أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ﴾ معكم ﴿وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ بتقوية قلوبهم وازاله الحصر عنها ﴿فلقاتلوكم﴾ عطف على نسلطهم ودخول اللام للتأكيد ﴿فَإِنِ اعتزلوكم﴾ فإن لم يتعرضوا لكم ﴿فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم﴾ أي الانقياد والاستسلام ﴿فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عليهم سبيلا﴾ طريقا إلى القتال
383
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١)
﴿ستجدون آخرين يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ﴾ بالنفاق ﴿وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ﴾ بالوفاق هم قوم من أسدو غطفان كانوا إذا أتو المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ﴿كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة﴾ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين ﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾ قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه كانوا شراً فيها من كل عدو ﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ فإن لم يعتزلوا قتالكم ﴿وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم﴾ عطف على لم يعتزلوكم أي ولم ينقادوا
النساء (٩١ _ ٩٢)
لكم بطلب الصلح ﴿وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ﴾ عطف عليه أيضاً أي ولم يمسكوا عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ﴾ حيث تمكنتم منهم وظفرتم بهم ﴿وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً﴾ حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بالمسلمين أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا لكم فى قتلهم
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢)
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله ﴿أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً﴾ ابتداء من غير قصاص أي ليس المؤمن كالكافر الذى تقدم إباحة دمه ﴿إلا خطأ﴾ إلا على وجه الخطأ وهو استثناء منقطع بمعنى
383
لكن أي لكن إن وقع خطأ ويحتمل أن يكون صفة لمصدر أي إلا قتلاً خطأ والمعنى من شأن المؤمن أن ينتفى عنه وجوده قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم ﴿وَمَن قَتَلَ مؤمنا خطأ﴾ صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه تحرير رقبة والتحرير الإعتاق والحر والعتيق الكريم لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ومنه عتاق الطير وعتاق الخيل لكرامها والرقبة النسمة ويعبر عنها بالرأس في قولهم فلان يملك كذا رأساً من الرقيق ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾ قيل ما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات إذ الرق أثر من آثار الكفر والكفر موت حكماً أو من كان ميتا فأحييناه ولذا منع من تصرف الأحرار وهذا مشكل إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً لكن يحتمل أن يقال إنما وجب عليه ذلك لأن الله تعالى أبقى للقاتل نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أهله﴾ مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء فيقضي منها الدين وتنفذ الوصية وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال وقد ورث رسول الله ﷺ امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم لكن الدية على العاقلة والكفارة على القاتل ﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ إلا أن يتصدقوا عليه بالدية أي يعفوا عنه والتقدير فعليه دية فى كل حال إلا فى حال لتصدق عليه بها ﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لكم﴾ فإن فإن كان المقتول خطأ من قوم أعداءلكم أى كفرة فالعدو يطلق على الجميع ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ أي المقتول مؤمن ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ يعني إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم خطأ تجب
384
الكفارة بقتله للعصمة المؤثمة وهي الإسلام ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار ولم توجد ﴿وإن كان﴾ أى
النساء (٩٢ _ ٩٤)
المقتول ﴿مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ﴾ بين المسلمين ﴿وَبَيْنَهُمْ ميثاق﴾ عهد ﴿فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً﴾ أي وإن كان المقتول ذمياً فحكمه حكم المسلم وفيه دليل على أن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ رقبة أي لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ فعليه صيام شهرين ﴿مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله﴾ قبولاً من الله ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه أو فليتب توبة فهي نصب على المصدر ﴿وكان الله عليما﴾ بما أم ﴿حَكِيماً﴾ فيما قدّر
385
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)
﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً﴾ حال من ضمير القاتل أي قاصداً قتله لإيمانه وهو كفر أو قتله مستحلاً لقتله وهو كفر أيضاً ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا﴾ أي إن جازاه قال عليه السلام هي جزاؤه إن جازاه والخلود قد يراد به طول المقام وقول المعتزلة بالخروج من الإيمان يخالف قوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ أي انتقم منه وطرده من رحمته ﴿وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ لارتكابه امرا عظيما وخطبا جسما في الحديث لزوال الدنيا أهون على الله من قتل المرىء مسلم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)
﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله﴾ سرتم في طريق الغزو
385
﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ فتثبتوا حمزة وعلي وهما من التفعل بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام﴾ السلم مدني وشامي وحمزة وهما الاستسلام وقيل الإسلام وقيل التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام ﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ في موضع النصب بالقول وروي أن مرداس بن نهيك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله ﷺ فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منعرج من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله ﷺ فوجد وجدا شديدا وقتل قتلتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ تطلبون الغنيمة التي هى حطام سريع النفاذ فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه والعرض المال سمى به لسرعة فنائه وتبتغون حال من ضمير الفاعل في تقولوا ﴿فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ يغنّمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله ﴿كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ﴾ أو ما دخلتم
النساء (٩٤ _ ٩٧)
في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم والكاف في كذلك حبر كان وقد تقدم عليها وعلى اسمها ﴿فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ﴾ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾ كرر الأمر بالتبين ليؤكد عليهم ﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك
386
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)
﴿لاَّ يَسْتَوِى القاعدون﴾ عن الجهاد ﴿مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر﴾ بالنصب مدني وشامي وعلي لأنه استثناء من القاعدين أو حال منهم وبالجر عن حمزة صفة للمؤمنين وبالرفع غيرهم صفة للقاعدين والضرر المرض أو العاهة ومن عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها ﴿والمجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ﴾ عطف على القاعدون ونفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوماً توبيخاً للقاعد عن الجهاد وتحريكاً له عليه ونحوه هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ فهو تحريك لطلب العلم وتوبيخ على الرضا بالجهل ﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين﴾ ذكر هذه الجملة بياناً للجملة الأولى مرضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل مالهم لا يستوون فأجيب بذلك ﴿دَرَجَةً﴾ نصب على المصدر لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل فضلهم تفضلة كقولك ضربه سوطاً ونصب ﴿وَكُلاًّ﴾ أي وكل فريق من القاعدين والمجاهدين لأنه مفعول أول لقوله ﴿وَعَدَ الله﴾ والثاني ﴿الحسنى﴾ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة ﴿وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين﴾ بغير عذر ﴿أَجْراً عظيما﴾
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦)
﴿درجات مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ قيل انتصب أجراً بفضل لأنه فى معنى أجرهم أجرا أو درجات ومغفرة ورحمة بدل من أجراً أو انتصب درجات نصب درجة كأنه قيل فضلهم تفطيلات كقولك ضربة أسواطا أى ضربات وأجرا عظيما على أنه حال من الكرة التى هى درجات مقدمة عليها مغفرة ورحمة باضمار فعلهما إى غفر لهم روحمهم مغفرة ورحمة حاصلة أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة وعلى القاعدين بغير عذر بأمر النبى عليه السلام اكتفار بغيرهم
387
درجات لأن الجهاد فرض كفاية ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ بتكفير العذر ﴿رَّحِيماً﴾ بتوفير الأجر ونزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتدا فقتل كافرا
388
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧)
﴿إن الذين توفاهم الملائكة﴾ يجوز أن يكون
النساء (٩٧ _ ١٠٠)
ماضيا لقراءة من قرأ توفتهم ومضارعا بمعنى نتوفاهم وحذفت الثانية لا جتماع التاءين والتوفي قبض الروح والملائكة ملك الموت وأعوانه ﴿ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ﴾ حال من ضمير المفعول في توفاهم أي في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة ﴿قَالُواْ﴾ أي الملائكة للمتوفّين ﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم ومعناه التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين ﴿قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ﴾ عاجزين عن الهجرة ﴿فِى الأرض﴾ أرض مكة فأخرجونا كارهين ﴿قَالُواْ﴾ أي الملائكة موبخين لهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا﴾ أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله ﷺ ونصب فنها جروا على جواب الاستفهام ﴿فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مصيرا﴾ خبران فأولئك ودخول الفاء لما في الذين من الإبهام المشابه بالشرط أو قالوا فيم كنتم والعائد محذوف أي قالوا لهم والآية تدل على أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت عليه المهاجرة وفي الحديث من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)
﴿إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان﴾ استثنى من أهل الوعيد
388
المستضعفين الذين ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ في الخروج منها لفقرهم وعجزهم ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ ولا معرفة لهم بالمسالك ولا يستطيعون صفة للمستضعفين أو للرجال والنسا والولدان وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشئ بعينه كقوله ولقد أمر على اللئيم يسبني
389
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩)
﴿فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم﴾ وعسى وإن كان للإطماع فهو من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع أنجز ﴿وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً﴾ لعباده قبل أن يخلقهم
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠)
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مراغما﴾ مهاجرا وطريقا براغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك ﴿كَثِيراً وَسَعَةً﴾ في الرزق أو في إظهار الدين أو فى الصدر لتبدل الخوف بالأمن
النساء (١٠٠ _ ١٠٢)
﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا﴾ حال من الضمير في يخرج ﴿إِلَى الله وَرَسُولِهِ﴾ إلى حيث أمر الله ورسوله ﴿ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت﴾ قبل بلوغه مهاجره وهو عطف على يخرج ﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ أي حصل له الأجر بوعد الله وهو تأكيد للوعد فلا شيء يجب على الله لأحد من خلقه ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ قالوا كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهداً أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ورسوله وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (١٠١)
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض﴾ سافرتم فيها فالضرب في الأرض هو السفر ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ حرج ﴿أَن تَقْصُرُواْ﴾ في أن تقصروا ﴿مِنَ الصلاة﴾ من أعداد ركعات الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين وظاهر الآية يقتضي أن القصر رخصة في السفر والإكمال عزيمة كما قال الشافعي رحمه الله لأنه جناح يستعمل في موضع التخفيف والرخصة لا في موضع العزيمة وقلنا القصر عزيمة غير رخصة ولا يجوز الاكمال لقول عمر رضى الله عنه صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ﷺ وأما الآية فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطليب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يفتنكم الذين كفروا﴾ إن خشيتم أى يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج ظاهر النص وعند الجمهور ليس بشرط لما روي عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر ما بالنا نقصر وقد أمنّا فقال عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وفيه دليل على أنه لا يجوز الإكمال في السفر لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق ممن لا تلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فمن تلزم طاعته أولى ولأن حالهم حين نزول الآية كذلك فنزلت على وفق الحال وهو كقوله ﴿إن أردن تحصنا﴾ دليله قراءة عبد الله من الصلاة أن يفتنكم أي لئلا يفتنكم على أن المراد بالآية قصر الاحوال وهو أن يومى على الدابة عند الخوف أو يخفف القراءة والركوع والسجود والتسبيح كما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما ﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ فتحرزوا عنهم
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢)
﴿وَإِذَا كُنتَ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمْ﴾ في أصحابك ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة﴾ فأردت أن تقيم الصلاة بهم وبظاهره تعلق أبو يوسف رحمه الله فلا يرى صلاة الخوف بعده عليه السلام وقالا الأئمة نواب عن رسول الله
النساء (١٠٢ _ ١٠٣)
صلى الله عليه وسلم في كل عصر فكان الخطاب له متناولاً لكل إمام كقوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطهرهم﴾ دليله فعل الصحابة رضى الله عنهم بعده عليه السلام ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ﴾ فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وتقوم طائفة تجاه العدو ﴿وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي الذين تجاه العدو عن ابن عباس رضى الله عنهما وإن كان المراد به المصلين فقالوا يأخذون من السلاح مالا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما ﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ أي قيدوا ركعتهم بسجدتين فالسجود على ظاهره عندنا وعند مالك بمعنى الصلاة ﴿فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ﴾ أي إذا صلت هذه الطائفة التي معك ركعة فليرجعوا ليقفوا بإزاء العدو ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ﴾ في موضع رفع صفة لطائفة ﴿فليصلوا معك﴾ أى ولتحضر الطائفة الواقعة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية ﴿وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ﴾ ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوه ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ جمع سلاح وهو ما يقاتل به وأخذ السلاح شرط عند الشافعى رحمه الله وعندنا مستحب وكيفية صلاة الخوف معروفة ﴿وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾ أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة﴾ فيشدون عليكم شدة واحدة ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ﴾ في أن تضعوا ﴿أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل
391
عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو ﴿إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً﴾ أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله تعالى
392
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣)
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة﴾ فرغتم منها ﴿فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ﴾ أي دوموا على ذكر الله في جميع الأحوال أو فإذا أردتم أداء الصلاة فصلوا قياماً إن قدرتم عليه وقعوداً إن عجزتم عن القيام ومضطجعين إن عجزتم عن القعود ﴿فَإِذَا اطمأننتم﴾ سكنتم بزوال الخوف ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة﴾
فأتموها بطائفة واحدة أو إذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا أو إذا اطمأننتم بالصحة فأتموا القيام والركوع والسجود ﴿إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كتابا مَّوْقُوتاً﴾ مكتوباً محدوداً بأوقات معلومة
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤)
﴿وَلاَ تَهِنُواْ﴾ ولا تضعفوا ولا تتوانوا ﴿فِى ابتغاء القوم﴾ في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم ثم ألزمهم الحجة بقوله ﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ أي ليس ما يجدون من الألم بالجرح ولقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أجدر منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله مالا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب العظيم في الآخرة ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ بما يجد المؤمنون من الألم ﴿حَكِيماً﴾ في تدبير أمورهم
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)
روى أن طعمه بن أبيرق أحد بني ظفر سرق درعاً من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه
392
وخبأها عند زيد بن السمين رجل من اليهود فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله ﷺ فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودى فهم رسول الله ﷺ أن يفعل فنزل ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي محقاً ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أراك الله﴾ ما عرفك وأوحى به إليك وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله بما ألهمك بالنظر في أصوله المنزلة وفيه دلالة جواز الاجتهاد في حقه ﴿وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ﴾ لأجل الخائنين ﴿خَصِيماً﴾ مخاصماً أي ولا تخاصم اليهود لأجل بني ظفر
393
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)
﴿واستغفر الله﴾ مما هممت به ﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧)
﴿وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ﴾ يخونونها بالمعصية جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم لأن الضرر راجع إليهم والمراد به طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق أو ذكر بلفظ الجمع لتناول طعمه وكل من خان خيانته ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾
وإنما قيل بلفظ المبالغة لأنه تعالى عالم من طعمة أنه مُفْرط في الخيانة وركوب المآثم ورُوي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرف أهله فسقط الحائط عليه فقتله وقيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات وعن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)
﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ يستترون ﴿مِنَ الناس﴾ حياء منهم وخوفاً من ضررهم ﴿وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ ولا يستحيون منه ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خافٍ من سرهم وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾ يدبرون وأصله أن يكون ليلاً ﴿مَا لاَ يرضى مِنَ القول﴾ وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف أنه لم يسرقها وهو دليل على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس حيث سمى التدبير قولاً ﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ محيطا﴾ عالما علم إحاطة
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩)
﴿ها أنتم هؤلاء﴾ ها للتنبيه فى أنتم واولاء وهما مبتدأ وخبر ﴿جادلتم﴾ خاصمتم وهي جملة مبينة لوقوع أولاء خبراً كقولك لبعض الاسخياء أنت حاتم تجود بمالك أو أولاء اسم موصول بمعنى الذين وجادلتم صلته والمعنى هبوا أنكم خاصمتم ﴿عَنْهُمْ﴾ عن طعمة وقومه ﴿فِي الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ فمن يخاصم عنهم فى الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه وقرئ عنه أي عن طعمة ﴿أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ حافظاً ومحامياً من بأس الله وعذابه
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠)
﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً﴾ ذنباً دون الشرك ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بالشرك أو سوءاً قبيحاً يتعدى ضرره إلى الغير كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أو يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ يسأل مغفرته ﴿يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ له وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١)
﴿وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ﴾ لأن وباله عليها {وَكَانَ
394
الله عَلِيماً حَكِيماً} فلا يعاقب الذنب غير فاعله
395
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢)
﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾ صغيرة ﴿أَوْ إِثْماً﴾ أو كبيرة أو الأول ذنب بينه وبين ربه والثاني ذنب في مظالم العباد ﴿ثُمَّ يَرْمِ به بريئا﴾ كما رمى
النساء (١١٢ _ ١١٥)
طعمة زيداً ﴿فَقَدِ احتمل بهتانا﴾ كذباً عظيماً ﴿وإثما مبينا﴾ ذنبا ظاهرا وهذا لأنه يكسب الإثم آثم ويرمى البرئ باهت فهو جامع بين الأمرين والبهتان كذب ببهت من قيل عليه مالا علم له به
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)
﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي عصمته ولطفه من الإطلاع على سرهم ﴿لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ﴾ من بني ظفر أو المراد بالطائفة بنو ظفر والضمير في منهم يعود إلى الناس ﴿أَن يُضِلُّوكَ﴾ عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل مع علمهم بأن الجاني صاحبهم ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ لأن وباله عليهم ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ﴾ لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك ﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿والحكمة﴾ والسنة ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ من أمور الدين والشرائع أو من خفيات الأمور وضمائر القلوب ﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ فيما علمك وأنعم عليك
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤)
﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ﴾ من تناجي الناس ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ إلا نجوى من أمر وهو مجرور وبدل من كثير أو من نجواهم أو منصوب على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة خفي نجواه الخير ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ أي قرض أو إغاثة ملهوف أو كل جميل أو المراد بالصدقة الزكاة وبالمعروف التطوع ﴿أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس﴾ أي
395
إصلاح ذات البين ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ المذكور ﴿ابتغاء مرضات الله﴾ طلب رضا الله وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترؤساً وهو مفعول له والإشكال أنه قال إلا من أمر ثم قال ومن يفعل ذلك والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم ادخل ثم قال ومن يفعل ذلك فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم أو المراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ يؤتيه أبو عمرو وحمزة
396
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)
﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى﴾ ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل وظهور الرشد ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين﴾ أى السبيل الذى عليه من الدين الحنيفي وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة لأن الله تعالى جمع بين اتباع غير سبيل المؤمينن وبين مشاقة
النساء (١١٥ _ ١٢١)
الرسول في الشرط وجعل جزاءه الوعيد الشديد فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول ﴿نُوَلِّهِ مَا تولى﴾ نجعله والياً لما تولى من الضلال وندعه وما اختاره في الدنيا ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ في العقبي ﴿وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ قيل هي في طعمة وارتداده
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١١٦)
﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ مر تفسيره في هذه السورة ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً﴾ عن الصواب
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧)
﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ ما يعبدون من دون الله ﴿إِلاَّ إناثا﴾ جمع أنثى وهي اللات والعزى ومناة ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان وقيل كانوا يقولون في
396
أصنامهم هن بنات الله ﴿وَإِن يَدْعُونَ﴾ يعبدون ﴿إِلاَّ شيطانا﴾ لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة ﴿مَّرِيداً﴾ خارجاً عن الطاعة عارياً عن الخير ومنه الأمرد
397
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨)
﴿لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ﴾ صفتان يعني شيطاناً مريدا جامعا بين لعنة الله وهذ القول الشنيع ﴿مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ مقطوعاً واجبا لى من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحدا لله
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩)
﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾ بالدعاء إلى الضلالة والتزيين والوسوسة ولو كان إنفاذ الضلالة إليه لأضل الكل ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ ولألقين في قلوبهم الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال ﴿ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام﴾ البتك القطع والتبتيك للتكثير والتكرير أي لأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام وكانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خسمة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ﴿وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله﴾ بفقء عين الحامي وإعفائه عن الركوب أو بالخصاء وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم أو بالوشم أو بنفي الأنساب واستلحاقها أو بتغيير الشيب بالسواد أو بالتحريم والتحليل أو بالتخنث أو بتبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام لقوله لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله﴾ وأجاب إلى ما دعاه إليه ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً﴾ في الدارين
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠)
﴿يَعِدُهُمْ﴾ يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب ﴿ويمنيهم﴾ مالا ينالون ﴿وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)
﴿أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾
معدلا ومفرا
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢)
﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ ولم يتبعوا الشيطان في الأمر بالكفر ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَدًا﴾ وقرأ النخعي سيدخلهم ﴿وَعْدَ الله حَقّا﴾ مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ قولاً وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه وهو تأكيد ثالث وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣)
﴿لَّيْسَ بأمانيكم﴾ ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام ﴿وَلا أَمَانِيّ أَهْلِ الكتاب﴾ ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾ أي من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله ﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤)
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ فقوله وهو مؤمن حال ومن الأولى للتبعيض والثاينة لبيان الإبهام في من يعمل وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان ﴿فأولئك يدخلون الجنة﴾ يدخلون فكي وأبو عمرو وأبو بكر ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة والراجع في وَلاَ يُظْلَمُونَ لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره
398
عند الآخر وقوله ومن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وقوله ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات﴾ بعد ذكر تمني أهل الكتاب كقوله ﴿بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته﴾ وقوله ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ عقيب قوله ﴿وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة﴾
399
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)
﴿ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله﴾ أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها ربا ولا معبودا سواه ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ عامل للحسنات ﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً﴾ مائلاً عن الأديان الباطلة وهو حال من المتبع أو من إبراهيم ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾ هو الأصل المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك أو يداخلك خلال منزلك أو يسد خللك كما يسد خلله فالخلة صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلل الأسرار والمحبة أصفى لأنها من حبة
النساء (١٢٦ _ ١٢٨)
القلب وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب كقوله والحوادت جملة وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته ولوجعلتها معطوفة على الجمل قبلها لم يكن لها معنى وفي الحديث اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام وقيل أوحي إليه إنما اتخذتك خليلاً لأنك تحب أن تعطي ولا تعطى وفي رواية لأنك تعطي الناس ولا تسألهم
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦)
وفى قوله ﴿وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ دليل على أن اتخاذه خليلا لا يحتاج الخليل إليه لالاحتياجه تعالى لأنه منزه عن ذلك ﴿وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْءً مُّحِيطاً﴾ عالماً
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧)
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النساء﴾ ويسألونك الإفتاء في النساء والافتاء تبين المبهم ﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النساء أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب أي القرآن في معنى اليتامى يعني قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أن لا تقسطوا فى اليتامى وهو من قولك أعجبنى زيد وكرمه وما يتلى في محل الرفع بالعطف على الضمير فى يفتيكم أو على لفظ الله وفى يتامى النساء صلة يتلى أي يتلى عليكم في معناهن ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاً من فيهن والإضافة بمعنى من ﴿اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه وما لها فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها ﴿وترغبون أن تنكحوهن﴾ في أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن ﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ أي اليتامى وهو مجرور معطوف على يتامى النساء وكانوا فى الجاهلية إنما يؤرثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء ﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى﴾ مجرور كالمستضعفين بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا أو منصوب بمعنى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم ﴿بالقسط﴾ بالعدل في ميراثهم ومالهم ﴿وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ﴾ شرط وجوابه ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ أي فيجازيكم عليه
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨)
﴿وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً﴾ توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأمارته والنشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته وأن يؤذيها بسبب أو ضرب ﴿أَوْ إِعْرَاضاً﴾ عنها بأن يقل محاذثتها ومؤانستها بسب كبر سن أو دمامة أو سوء في خلق أو خلق أو ملال أو طموح
النساء (١٢٨ _ ١٣٠)
عين إلى أخرى أو غير ذلك ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا﴾ كوفي يصّالحا غيرهم أي يتصالحا وهو أصله فأبدلت التاء صاداء وأدغمت ﴿صُلحاً﴾ في معنى مصدر كل واحد من الفعلين ومعنى الصلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة ﴿والصلح خَيْرٌ﴾ من الفرقة أو من الشوز أو من الخصومة في كل شيء أو والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور وهذه الجملة اعتراض كقوله ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ أي جعل الشح حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها والرجل لا يكاد يسمع بأن يقسم لها إذا رغب عنها فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته وأحضرت يتعدى إلى مفعلوين والأول الأنفس ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرع بقوله ﴿وَإِن تُحْسِنُواْ﴾ بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الإحسان والتقوى ﴿خَبِيراً﴾ فيثيبكم عليه وكان عمر الخارجي من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه وقالت الحمد لله على أني وإياك من أهل الجنة قال كيف فقالت لأنك
401
رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت والجنة موعودة للشاكرين والصابرين
402
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٢٩)
﴿وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء﴾ ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة فتمام العدل أن يسوى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمح المة والمفاكهة وغيرها وقيل معناه أن تعدلوا في المحبة وكان عليه السلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك يعني المحبة لأن عائشة رضى الله عنها كانت أحب إليه ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ بالغتم في تحرى ذلك ﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمها من غير رضا منها يعني أن اجتناب كل الميل في حد اليسر فلا تُفْرطوا فيه وإن وقع منكم التفريط في العدل كله وفيه ضرب مع التوبيخ وكل نصب على المصدر لأن له حكم ما يضاف إليه ﴿فَتَذَرُوهَا كالمعلقة﴾ وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلقة ﴿وَإِن تُصْلِحُواْ﴾ بينهن ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ الجور ﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ يغفر لكم ميل قلوبكم ويرحمكم فلا يعاقبكم
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠)
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا﴾ أي إن لم يصطلح الزوجان على شيء وتفرقا بالخلع أو بتطليقه إياها وإيفائه مهرها ونفقة عدتها ﴿يُغْنِ الله كُلاًّ﴾
كل واحد منهما ﴿مِّن سَعَتِهِ﴾ من غناه أي يرزقه زوجاً خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه ﴿وَكَانَ الله واسعا﴾ بتحليل النكاح ﴿حَكِيماً﴾ بالإذن في السراح فالسعة الغنى والقدرة والواسع الغني المقتدر
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (١٣١)
ثم بين غناه وقدرته بقوله ﴿وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ خلقا والمتملكوت عبيده رقا ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ هو اسم للجنس فيتناول الكتب السمواية ﴿مِن قَبْلِكُم﴾ مّن الأمم السالفة وهو متعلق بوصينا أو بأوتوا ﴿وإياكم﴾ عطف على الذين أوتوا ﴿أَنِ اتقوا الله﴾ بأن اتقوا أو تكون أن المفسرة لأن التوصية في معنى القول والمعنى أن هذه وصية قديمة ما زال يوصى اله عنها عباده ولستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ﴾ عطف على اتقوا لأن المعنى أمر ناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا ﴿فإن لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً﴾ عن خلقه وعن عبادتهم ﴿حَمِيداً﴾ مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحَمده أحد وتكرير قوله ﴿لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ تقرير لما هو موجب تقواه لأن الخلق لما كان كله له وهو خالقهم ومالكهم فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصي وفيه دليل على أن التقوى أصل الخير كله وقوله وإن تكفروا عقيب التقوى دليل على أن المراد الاتقاء عن الشرك
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢)
﴿وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وكفى بالله وَكِيلاً﴾ فاتخذوه وكيلاً ولا تتكلوا على غيره
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (١٣٣)
ثم خوفهم وبين قدرته بقوله ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ يعدمكم ﴿أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ﴾ ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس ﴿وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً﴾ بليغ القدرة
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)
﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا﴾ كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة ﴿فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة﴾ فماله يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه
403
أخسهما ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً﴾ للأقوال ﴿بَصِيراً﴾ بالأفعال وهو وعد ووعيد
404
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥)
﴿يا أيها الذين آمنوا كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط﴾ مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا ﴿شُهَدَاءَ﴾ خبر بعد خبر ﴿لله﴾ أى تقيمون شهاداتكم لوجه
النساء (١٣٥ _ ١٣٧)
الله ﴿وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ ولو كانت الشهادة على أنفسكم والشهادة على نفسه هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق وهذا لأن الدعوى والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد غير أن الدعوى إخبار عن حق لنفسه على الغير والإقرار للغير على نفسه والشهادة للغير على الغير ﴿أَوِ الوالدين والأقربين﴾ أي ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم ﴿إِن يَكُنْ﴾ المشهود عليه ﴿غَنِيّاً﴾ فلا يمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه ﴿أَوْ فَقَيراً﴾ فلا يمنعها ترحماً عليه ﴿فالله أولى بِهِمَا﴾ بالغني والفقير أي بالنظر لهما والرحمة وإنما ثنى الضمير في بهما وكان حقه أن يوحد لأن المعنى إن يكن أحد هذين لأنه يرجع إلى ما دل عليه قوله غنياً أو فقيراً وهو جنس الغني والفقير كأنه قيل فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي بالأغنياء والفقراء ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى﴾ إرادة ﴿أن تعدلوا﴾ عن الحق من العدول أو كراهة أن تعدلوا بين الناس من العدل ﴿وإن تلووا﴾ بواو واحدة وضم اللام شامي وحمزة من الولاية ﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها غيرهما تلووا بواوين وسكون اللام من اللي أي وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها ﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فيجازيكم عليه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ خطاب للمسلمين ﴿آمنوا﴾ اثبتوا على
404
الإيمان ودوموا عليه أو لأهل الكتاب لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض أو المنافقين أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصا ﴿بالله ورسوله﴾ أى محمد ﷺ ﴿والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ﴾ أي الفرقان ﴿والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ﴾ أي جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب ويدل عليه قوله وكتبه نزل وأنزل بالبناء للمفعول مكي وشامي وأبو عمرو وعلى البناء للفاعل فيهما غيرهم وإنما قيل نزل على رسوله وأنزل من قبل لأن الفرقان نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر﴾ أى ومن يكفر بشئ من ذلك ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً﴾ لأن الكفر ببعضه كفر بكله
405
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧)
﴿إن الذين آمنوا﴾ بموسى عليه السلام ﴿ثم كفروا﴾ حين
النساء (١٣٧ _ ١٤١)
عبدوا العجل ﴿ثم آمنوا﴾ بموسى من بعد عوده ﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ بعيسى عليه السلام ﴿ثم ازدادوا كفرا﴾ بكفرهم بمحمد ﷺ ﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ إلى النجاة أو إلى الجنة أو هم المنافقون آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى وازدياد الكفر منهم ثباتهم عليه إلى الموت يؤيده قوله
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨)
﴿بَشِّرِ المنافقين﴾ أي أخبرهم ووضع بشر مكانه تهكماً بهم ﴿بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ مؤلماً
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩)
﴿الذين﴾ نصب على الذم أو رفع بمعنى اريد الذين أوهم الذين ﴿يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ كان المنافقون يوالون الكفرة يطلبون منهم المنعة والنصرة ويقولون لا يتم أمر محمد عليه السلام ﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ ولمن أعزه كالنبي عليه السلام والمؤمنين كما قال ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ بفتح النون عاصم وبضمها غيره ﴿في الكتاب﴾ القرآن ﴿أن إذا سمعتم آيات الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ معهم حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن والخوض الشروع وأن مخففة من الثقيلة أي أنه إذا سمعتم أي نزل عليكم أن الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها وأن مع ما في حيزها في موضع الرفع بنزل أو فى موضع النصب بنزل والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة من قوله وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يخوضون فى آياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فى مجالسهم فيستهزءون به فنهى المسلمون عن القعود معهم ماداموا خائضين فيه وكان المنافقون بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين بمكة فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة ﴿إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ﴾ أي في الوزر إذا مكثتم معهم ولم يرد به التمثيل من كل وجه فإن خوض المنافقين فيه كفر ومكث هؤلاء معهم معصية ﴿إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١)
﴿الذين﴾ بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم ﴿يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق ﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله﴾ نصرة وغنيمة ﴿قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ معكم﴾ مظاهرين
النساء (١٤١ _ ١٤٤)
فأشركونا في الغنيمة ﴿وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ﴾ سمى ظفر المسلمين فتحا لشأنهم لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء وظفر
406
الكافرين نصيباً تخسيساً لحظهم لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها ﴿قَالُواْ﴾ للكافرين ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم والاستحواذ الاستيلاء والغلبة ﴿وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين﴾ بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم وتوانينا ف مظاهرتهم عليكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم ﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون والمنافقون ﴿يَوْمَ القيامة﴾ فيدخل المنافقين النار والمؤمنين الجنة ﴿وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ أي في القيامة بدليل أول الآية كذا عن على رضى الله عنه أو حجة كذا عن ابن عباس رضى الله عنهما
407
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢)
﴿إِنَّ المنافقين يخادعون الله﴾ أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وابطال الكفر والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر أو أولياء الله وهم المؤمنون فأضاف خداعهم إلى نفسه تشريفاً لهم ﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه وقيل يجزيهم جزاء خداعهم ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى﴾ متثاقلين كراهة أما الغفلة فقد يبتلى بها المؤمن وهو جمع كسلان كسكارى في سكران ﴿يراؤون الناس﴾ حال أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة والمارءاة مفاعلة من الرؤية لأن المرائى يريهعم عمله وهم يرونه استحساناً ﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم لا يصلون قط غائبين
407
عن عيون الناس أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً نادراً قال الحسن لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثير
408
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣)
﴿مذبذبين﴾ نصب على الذم اى مررددين يعني ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ﴿بَيْنَ ذلك﴾ بين الكفر والإيمان ﴿لا إلى هؤلاء﴾ لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا مؤمنين ﴿وَلآَ إلى هؤلاء﴾ ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسموا مشركين ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ طريقاً إلى الهدى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (١٤٤)
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾
حجة بينه في تعذيبكم
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)
﴿إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار﴾ أى فى الطبق الذى فى قعر جهنم والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض وإنما كان المناقق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في العقبى تعديلاً ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله والدرك بسكون الراء كوفي غير الأعشى وبفتح الراء غيرهم وهما لغتان وذكر الزجاج أن الاختيار فتح الراء ﴿وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ يمنعهم من العذاب
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦)
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ من النفاق وهو استثناء من الضمير المجرور في ولن تجد لهم نصيرا ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق ﴿واعتصموا بالله﴾ ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخالص في الدارين ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾ فيشاركونهم فيه وحذفت الياء في الخط هنا إتباعاً للفظ
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)
ثم استفهم مقرراً أنه لا يعذب المؤمن الشاكر فقال ﴿مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شكرتم﴾ لله ﴿وآمنتم﴾ به فما منصوبة بيفعل أي شيء يفعل بعذابكم فالإيمان معرفة المنعم والشكر الاعتراف بالنعمة والكفر بالمنعم والنعمة عناد فلذا استحق الكافر العذاب وقدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما ليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان الشكر متقدماً على الإيمان ﴿وَكَانَ الله شاكرا﴾ يجزيكم على شكركم أو يقبل اليسير من العلم ويعطي الجزيل من الثواب ﴿عَلِيماً﴾ عالماً بما تصنعون
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨)
﴿لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول﴾ ولا غير الجهرولكن الجهر أفحش ﴿إَلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم وهو أن يدعوا على الظالم ويذكره بما فيه من السوء وقيل الجهر بالسوء من القول هو الشتم إلا من ظلم فإنه إن رد عليه مثله فلا حرج عليه وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظلمه ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً﴾ لشكوى المظلوم ﴿عَلِيماً﴾ بظلم الظالم
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩)
ثم حث على العفو وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار بعد ما أطلق الجهر به حثاً على الأفضل وذكر ابداء الخير وإخفاءه تسبيبا للعفو فقال ﴿إن تبدوا خيرا﴾
النساء ١٣٣ _ ١٣٧
مكان جهر السوء ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ فتعملوه سراً ثم عطف العفو عليهما فقال ﴿أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء﴾ أي تمحوه عن قلوبكم والدليل على أن العفو هو المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله ﴿فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾ أي إنه لم يزل عفواً عن الآثام مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنته
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠)
﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ كاليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام والانجيل والقرآن وكالنصارى كفروا بمحمد ﷺ والقرآن ﴿وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً﴾ أي ديناً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١)
﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون﴾ هم الكاملون في الكفر لأن الكفر بواحد كفر بالكل ﴿حَقّاً﴾ تأكيد لمضمون الجملة كقولك هذا عبد الله حقاً أي حق ذلك حقاً وهو كونهم كاملين في الكفر أو هو صفة لمصدر الكافرين أى هم الذين كفروا كفرا حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه ﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين عذابا مهينا﴾ فى الآخرة
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢)
﴿والذين آمنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ﴾ وإنما جاز دخول بين على أحد لأنه عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما
410
وجمعهما ﴿أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ﴾ وبالياء حفص ﴿أُجُورَهُمْ﴾ أي الثواب الموعود لهم ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ يستر السيئات ﴿رحيما﴾ يقبل الحسنات الآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد المرتكب الكبيرة لأنه أخبر أن من آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد منهم يؤتيه أجره ومرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد فيدخل تحت الوعد وعلى بطلان قول من لا يقول بقدم صفات الفعل من المغفرة والرحمة لأنه قال وكان الله غفوراً رحيماً وهم يقولون ما كان الله غفوراً رحيماً في الأزل ثم صار غفوراً رحيماً
411
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣)
ولما قال فنحاص وأصحابه للنبى ﷺ إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام نزل ﴿يسألك أَهْلِ الكتاب أن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ وبالتخفيف مكي وأبو عمرو ﴿كتابا مّنَ السماء﴾ أي جملة كما نزلت التوراة جملة وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت وقال الحسن ولو سألوه مسترشدين لأعطاهم لأن إنزال القرآن جملة ممكن ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك﴾ هذا جواب شرط مقدر معناه أن
النساء (١٣٥ _ ١٥٦)
استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وإنما أسند السؤال إليهم وقد وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ عياناً أي أرنا نره جهرة ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ العذاب الهائل أو النار المحرقة ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ على أنفسهم بسؤال شيء في غير موضعه أو بالتحكم على نبيهم في الآيات وتعنتهم فى سؤل الرؤية لا بسؤال الرؤية لأنها ممكنة كما نزل القرآن جملة
411
ولو كان ذلك بسبب سؤال الرؤية لكان موسى بذلك أحق فإنه قال رب أرنى انظر اليك وما أخدته الصاعقة بل أطمعه وقيده بالممكن ولا يعلق بالممكن إلا ما هو ممكن الثبوت ثم أحياهم ﴿ثُمَّ اتخذوا العجل﴾ إلهاً ﴿مِن بَعْدِ ما جاءتهم البينات﴾ التوارة والمعجزات التسع ﴿فَعَفَوْنَا عَن ذلك﴾ تفضلاً ولم نستأصلهم ﴿وآتينا مُوسَى سلطانا مُّبِيناً﴾ حجة ظاهرة على من خالفه
412
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤)
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم﴾ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه ﴿وقلنا لهم﴾ والطور مظل عليهم ﴿ادخلوا الباب سُجَّداً﴾ أي ادخلوا باب ايلياء مطأطئين عند الدخول رؤسكم ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ﴾ لا تجاوزوا الحد تعدوا ورش تعدزت بإسكان العين وتشديد الدال مدني غير ورش وهما مدغماً تعتدوا وهي قراءة أبي إلا أنه أدغم التاء في الدال وأبقى العين ساكنة في رواية وفي رواية نقل فتح التاء إلى العين ﴿فِى السبت﴾ بأخذ السمك ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً﴾ عهداً مؤكداً
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)
﴿فبما نقضهم﴾ أى فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد والباء يتعلق بقوله حرمنا عليهم طيبات تقديره حرمنا عليهم طيبات بنقضهم ميثاقهم وقوله فبظلم من الذين هادوا بدل من قوله فبما نقضهم ﴿ميثاقهم﴾ ومعنى التوكيد تحقيق أن تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك ﴿وكفرهم بآيات الله﴾ أي معجزات موسى عليه السلام ﴿وَقَتْلِهِمُ الأنبياء﴾ كزكريا ويحيى وغيرهما ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بغير سبب يستحقون به القتل ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ جمع أغلف أي محجوبة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والوعظ {بَلْ طَبَعَ الله
412
عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} هو رد وإنكار لقولهم قلوبنا غلف ﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ كعبد الله بن سلام وأصحابه
413
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦)
﴿وبكفرهم﴾ معطوف على فيما نقضهم أو على ما يليه من قوله بكفرهم ولما تكرر منهم الكفر لأنهم
النساء (١٥٦ _ ١٥٩)
كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد ﷺ عطف بعض كفرهم على بعض ﴿وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً﴾ هو النسبة إلى الزنا
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧)
﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح﴾ سمي مسيحاً لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة فهو ممسوح أو لأنه كان يمسح المريض والأكمة والأبرص فيبرأ فسمي مسيحاً بمعنى الماسح ﴿عِيسَى ابن مريم رسول الله﴾ هم لم يعتقدة هـ رسول الله لكنهم قالوا استهزاء كقول الكفار لرسولنا يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لمجنون ويحتمل أن الله وصفه بالرسول وإن لم يقولوا ذلك ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبّهَ لَهُمْ﴾ روي أن رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني اللهم العن من سبني وسب والدتي فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود فقال لأصحابه أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم أنا فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب وقيل كان رجل ينافق عيسى فلما أرادوا قتله قال أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى ورفع عيسى وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى وجاز هذا على قوم متعنتين حكم الله بأنهم لا يؤمنون وشبه مسند إلى الجار والمجرور وهو لهم كقولك خيل إليه كأنه قيل ولكن وقع
413
لهم التشبيه أو مسند إلى ضمير المقتول لدلالة غنا قتلنا عليه كأنه قيل ولكن شبه لهم من قتلوه ﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ﴾ في عيسى يعني اليهود قالوا إن الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا أو اختلف النصارى قالوا إله وابن إله وثالث ثلاثة ﴿لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن﴾ استثناء منقطع لأن اتباع الظن لس من جنس العلم يعني ولكنهم يتبعون الظن وإنما وصفوا بالشك وهو أن لا يترجح أحد الجانبين ثم وصفوا بالظن وهو أن يترجح أحدهما لأن المراد أنهم شاكون ما لهم به من علم ولكن أن لا حت لهم أمارة فظنوا فذاك وقيل وإن الذين اختلفوا فيه أي في قتله لفي شك منه أي من قتله لأنهم كانوا يقولون إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي قتلاً يقيناً أو ما قتلوه متيقنين أو ما قتلوه حقاً فيجعل يقيناً تأكيداً لقوله وما قتلوه أي حق انتفاء قتله حقا
414
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)
﴿بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ﴾ إلى حيث لا حكم فيه لغير الله أو إلى السماء ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً﴾ في انتقامه من اليهود ﴿حَكِيماً﴾ فيما دبر من رفعه إليه
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩)
﴿وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه وما منا إلا له مقام معلوم والمعنى وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه
النساء (١٥٩ _ ١٣٦)
السلام وبأنه عبد الله ورسوله يعني إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف أو الضميران لعيسى يعني وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله رُوي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة
414
الإسلام أو الضمير في به يرجع إلى الله أو إلى محمد ﷺ والثاني إلى الكتابي ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله
415
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠)
﴿فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وهي ما ذكر في سورة الأنعام وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظفر الآية والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات الظلم عظيم ارتكبوه وهو ما عدد قبل هذا ﴿وبصدهم عن سبيل الله﴾ ويمنعهم عن الإيمان ﴿كَثِيراً﴾ أي خلقاً كثيراً أو صدا كثيرا
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١)
﴿وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ﴾ كان الربا محرماً عليهم كما حرم علينا وكانوا يتعاطونه ﴿وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل﴾ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة ﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ﴾ دون من آمن ﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ في الآخرة
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢)
﴿لكن الراسخون فِى العلم﴾ أي الثابتون فيه المتقون كابن سلام وأضرابه ﴿مِنْهُمْ﴾ من أهل الكتاب ﴿والمؤمنون﴾ أي المؤمنون منهم والمؤمنون من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ خبره ﴿بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ﴾ أي القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ أي سائر الكتب ﴿والمقيمين الصلاة﴾ منصوب على المدح لبيان فضل الصلاة وفي مصحف عبد الله والمقيمون وهي قراءة مالك بن دينار وغيره ﴿والمؤتون الزكاة﴾ مبتدأ ﴿والمؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ عطف عيله والخبر ﴿أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ وبالياء حمزة
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (١٦٣)
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله ﷺ أن ينزل عليهم كتاباً من السماء واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ﴾ كهود وصالح وشعيب وغيرهم ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط﴾
أي أولاد يعقوب ﴿وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا﴾ زبروا حمزة مصدر بمعنى مفعول سمي به الكتاب المنزل على داود عليه السلام
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤)
﴿وَرُسُلاً﴾ نصب بمضمر في معنى أوحينا إليك وهو أرسلنا ونبأنا ﴿قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ من قبل هذه السورة ﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ سأل أبو ذر رسول الله ﷺ عن الأنبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قال كم الرسل منهم قال ثلثمائة وثلاثة عشر أول الرسل آدم وآخرهم نبيكم محمد عليه السلام وأربعة مِن العرب هود وصالح وشعيب ومحمد عليه السلام والآية تدل على أن معرفة الرسل بأعيانهم ليست بشرط لصحة الإيمان بل من شرطه أن يؤمن بهم جميعاً إذ لو كان معرفة كل واحد منهم شرطاً لقص علينا كل ذلك ﴿وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً﴾ أي بلا واسطة
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)
﴿رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ الأوجه أن ينتصب على المدح أي أعني رسلاً ويجوز أن يكون بدلاً من الأول وأن يكون مفعولاً أي وأرسلنا رسلاً واللام في ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل﴾ يتعلق
416
بمبشرين ومنذرين والمعنى أن إرسالهم إزاحة للعلة وتتميم لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا بما وجب الانتباه له ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع كالعبادات والشرائع أعني في حق مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها دون أصولها فإنها مما يعرف بالفعل ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً﴾ في العقاب على الإنكار ﴿حَكِيماً﴾ في بعث الرسل للإنذار
417
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦)
ولما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهدلك بهذا فنزل ﴿لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه اثباته لصحته باظهار المعجزات كما يثبت الدعاوى بالبينات إذا لحيكم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة ﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي أنزله وهو عالم بأنك أهل لانزاله إليه وأنك مبلغه أو أنزله بما علم من مصالح العباد وفيه نفي قول المعتزلة في انكار الصفات فانه أثبت لنفسه العلم ﴿والملائكة يَشْهَدُونَ﴾ لك بالنبوة ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ شاهداً وإن لم يشهد غيره
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧)
﴿إن الذين كفروا﴾ بتكذيب محمد ﷺ وهم اليهود ﴿وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ ومنعوا الناس عن سبيل الحق بقولهم للعرب إنا
النساء (١٦٧ _ ١٧٠)
لا نجده في كتابنا ﴿قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً﴾ عن الرشد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨)
﴿إن الذين كفروا﴾ بالله ﴿وظلموا﴾ محمد عليه السلام بتغيير نعته وإنكار نبوته ﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ ما داموا على الكفر ﴿وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً﴾
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩)
﴿إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً﴾ وكان تخليدهم في جهنم سهلا عليه والتقدير يعاقبهم خالدين
417
فهو حال مقدرة والآيتان في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ويموتون على الكفر
418
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠)
﴿يا أيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ﴾ أي بالإسلام أو هو حال أي محقاً ﴿فآمنوا خيرا لكم﴾ وكذلك انتهوا خير لَّكُمْ انتصابه بمضمر وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان به والتوحيد ﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض﴾ فلا يضره كفركم ﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ بمن يؤمن وبمن يكفر ﴿حَكِيماً﴾ لايسوى بينها فى الجزاء
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١)
﴿يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ﴾ لا تجاوزوا الحد فغلت اليهود في حط المسيح عن منزلته حتى قالوا إنه ابن الزنا وغلت النصارى فى رفعه عن مقدراه حيث جعلوه ابن الله ﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ وهو تنزيهه عن الشريك والولد ﴿إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ لا ابن الله ﴿رَسُولُ الله﴾ خبر المبتدأ وهو المسيح وعيسى عطف بيان أو بدل ﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ عطف على رسول الله وقيل له كلمة لأنه يهتدي به كما يهتدي بالكلام ﴿ألقاها إلى مَرْيَمَ﴾ حال وقد معه مرادة أي أوصلها إليها وحصلها فيها ﴿وَرُوحٌ﴾ معطوف على الخبر أيضاً وقيل له روح لأنه كان يحيي الموتى كما سمى القرآن روحا بقوله وكذلك أوحنيا اليك روحا من أمرنا لما أنه يحيي القلوب ﴿مِّنْهُ﴾ أي بتخليقه وتكوينه كقوله تعالى ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض جميعا﴾ منه وبه أجاب عليّ بن الحسين بن واقد غلاماً نصرانياً كان للرشيد في مجلسه حيث زعم أن
418
في كتابكم حجة على أن عيسى من الله ﴿فآمنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة﴾ خبر مبتدأ محذوف أي ولا تقولوا الآلهة ثلاثة ﴿انتهوا﴾ عن التثلث ﴿خيرا لكم﴾ والذى يدل عليه القرآن والتصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم
النساء (١٧١ _ ١٧٢)
ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم ألا ترى إلى قوله أأنت قُلتَ للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ﴿إِنَّمَا الله﴾ مبتدأ ﴿إِلَهٌ﴾ خبرة ﴿واحد﴾ توكيد ﴿سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد ﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِى الأرض﴾ بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل مافيهما خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه إذ النبوة والملك لا يجتمعان على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو يتعالى عن أن يكون جسماً ﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ حافظاً ومدبراً لهما ولما فيهما ومن عجز عن كفاية أمر يحتاج إلى ولد يعينه
419
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢)
ولما قال وفد نجران لرسول الله ﷺ لم تعيب صاحبنا عيسى قال وأي شيء أقول قالوا اتقول إنه عبد الله ورسوله قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله قالوا بلى نزل قوله تعالى ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح﴾ أي لن يأنف ﴿أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ﴾ هو رد عل النصارى ﴿ولا الملائكة﴾ رد على من يعبدهم من العرب وهو عطف على المسيح ﴿المقربون﴾ أي الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم والمعنى ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عباداً لله فحذف ذلك لدلالة عبد الله عليه إيجازاً وتشبثت المعتزلة والقائلون بتفضيل الملك على البشر بهذه الآية وقالوا الارتقاء إنما يكون
419
إلى الأعلى يقال فلان لا يستنكف عن خدمتي ولا أبوه ولو قال ولا عبده لم يسحن وكان معنى قوله ولا الملائكة المقربون ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً ويدل عليه تخصيص المقربين والجواب أنا نسلم تفضبل الثانى على الأول لكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين أفضل من رسول واحد من البشر إلى هذا ذهب بعض أهل السنة ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدر البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأساً لا يستنكفون عن عبادته فكيف بمن يتولد من آخر ولا يقدر على ما يقدرون ولا يعلم ما يعلمون وهذا لأن شدة البطش وسعة العلوم وغرابة التنكون هى التى تورث الحمقاء أمثال النصارى وهم الترفع عن العبودية حيث رأوا المسيح ولد من غير أب وهو يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى وينبئ بما يأكلون ويدخرون فى بيوتهم فبرؤه من العبودية فقيل لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها فى السيح ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية فكيف المسيح والحاصل أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم كجبريل ومكائيل وعزرائيل ونحوهم وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء أنهم قهروا نوازع الهوى فى ذات
النساء (١٧٢ _ ١٧٦)
الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة وتفضلوا علهيم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدانية فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها فكانت أزيد ثواباً بالحديث ﴿ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر﴾ بترفع ويطلب الكبرياء ﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم
420
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧٣)
ثم فصل فقال
420
﴿فأما الذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ فإن قلت التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فلت هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به وصحة ذلك لوجهين أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه ولان ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به والثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله
421
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤)
﴿يا أيها الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ﴾ أي رسوله يبهر المنكر بالإعجاز ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ قرآناً يستضاء به في ظلمات الحيرة
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)
﴿فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا بِهِ﴾ بالله أو بالقرآن ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ﴾ أي جنة ﴿وَفَضَّلَ﴾ زيادة النعمة ﴿وَيَهْدِيهِمْ﴾ ويرشدهم ﴿إِلَيْهِ﴾ إلى الله أو إلى الفضل أو إلى صراطه ﴿صراطا مُّسْتَقِيماً﴾ فصراطا حال من المضاف المحذوف
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة﴾ كان جابر بن عبد الله مريضاً فعاده رسول الله ﷺ فقال إني كلالة فكيف أصنع في مالي
421
فنزلت ﴿إن امرؤ هَلَكَ﴾ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر ومحل ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد والمراد بالولد الابن وهو مشترك
النساء (١٧٦)
يقع على الذكر والأنثى لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت ﴿وَلَهُ أُخْتٌ﴾ أي لأب وأم أو لأب ﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ أي الميت ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا﴾ أي الأخ يرث الأخت جميع مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها ﴿إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ﴾ أي ابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت فإن قلت الابن لا يسسقط الأخ وحده فالأب نظيره في الإسقاط فلم اقتصر على نفي الولد قلت بين حكم انتفاء الولد وكل حكم انتفاء الولد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر والأب أولى من الأخ ﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ أي فإن كانت الأختان اثنتين دل على ذلك وله أخت ﴿فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً﴾ أي وإن كان من يرث بالإخوة ٢ والمراد بالإخوة الإخوة والأخوات تغليبا لحكم الذكورة ﴿رجالا ونساء﴾ ذكروا وإناثاً ﴿فَلِلذَّكَرِ﴾ منهم ﴿مِثْلُ حَظّ الأنثيين يُبَيّنُ الله لَكُمْ﴾ الحق فهو مفعول يبين ﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ كراهة أن تضلوا ﴿والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ﴾ يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده
422
سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(١)
423
Icon