تفسير سورة فصّلت

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾ هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال أفلم يسيروا إلخ فتضمن وعيداً وتهديداً وتقريعاً لقريش فاتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر فذكر أنه نزل كتاباً مفصلاً آياته بشيراً لمن اتبعه نذيراً لمن أعرض عنه وأن أكثر قريش أعرضوا عنه ثم ذكر قدرة الإِلٰه تعالى على إيجاد العالم العلوي والسفلي ثم قال: فإِن أعرضوا وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن تنزيل مبتدأ خبره كتاب فصلت أي بينت وفسرت معانيه فصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ونهيه ووعده ووعيده وانتصب بشيراً ونذيراً على النعت لقرآناً عربياً.﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ﴾ أي أكثر أولئك القوم أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا.﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ لإِعراضهم مما احتوى عليه من الحجج والبراهين روي" أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه وليقبح عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما جاء به فلما تكلم عتبة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حم ومرّ من صدرها حتى انتهى إلى قوله: فإِن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة فأرعد الشيخ ووقف شعره وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يمسك وقال حين فارقه والله لقد سمعت شيئاً ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي ".﴿ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ ﴾ تقدم الكلام عليه قال الزمخشري: فإِن قلت هلا قيل على قلوبنا أكنة كما قيل وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد قلت هو على نمط واحد لأنه لا فرق في المعنى بين قولك قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾[الكهف: ٥٧] ولو قيل انا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني " انتهى " تقول ان في أبلغ في هذا الموضع من على لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف فلا يمكن أن يصل إليها شىء كما تقول المال في الكيس بخلاف قولك على المال كيس فإِنه لا يدل على الحصر وعدم الحصول دلالة الوعاء واما في قوله: انا جعلنا فهو من اخبار الله تعالى لا يحتاج إلى مبالغة بخلاف قولهم وقول الزمخشري وترى المطابيع منهم يعني من العرب وشعرائهم ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه قالوا وأحسنه ما جاء من غير تكلف. والحجاب الستر المانع من الإِجابة وهو خلاف في الدين لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام وروي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.﴿ فَٱعْمَلْ ﴾ قال مقاتل: اعمل لإِلٰهك الذي أرسلك فإِننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها وضمن استقيموا معنى التوجه فلذلك تعدى بإِلى أي وجهوا استقامتكم ولما كان العقل ناطقاً بأن السعادة مربوطة بأمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه ذكر أن الويل والثبور والخزي للمشركين الذين لم يعظموا الله بتوحيده ونفي الشريك عنه ولم يشفقوا على خلقه بإِيصال الخير إليهم وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ قال السدي: نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون والممنون المنقوص قاله ابن عباس: قل أئنكم تقدم الكلام عليه. ومعنى في يومين أي في مقدار يومين وبارك فيها أكثر من خيرها، وقدّر فيها أقواتها أي أرزاق ساكنيها ومعائشهم في أربعة أيام أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقرىء: سواء بالجر صفة لأربعة وبالنصب على الحال وبالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره هي سواء.﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي قصد إليها والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً وفي أول الكتاب الذي تزعم اليهود أنه التوراة أن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله تعالى في ذلك سخونة فارتفع زبد ودخان أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا وخلق الله منه السماوات وفيه أيضاً أنه خلق السماوات من أجزاء مظلمة " انتهى ".﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ﴾ هذا القول مجاز وهو كناية عن انفعال هذه الأجرام العظيمة لما يريد الله تعالى منها ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني   قال الوتد سل من يدقنيقال ابن عطية: وقوله: قالتا أراد الفرقتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضاً وهذا نحو قول الشاعر: ألم يحزنك ان حبال قومي   وقومك قد تباينتا انقطاعاجعلها الفرقين وعبر عنها بتباينتا " انتهى ". وهذا ليس كما ذكر لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فحسن التعبير عنها بالتثنية والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلى قومي قومك فلذلك ثنى في قوله قد تباينتا وأنث على معنى الحبل لأنه لا يريد الحبل حقيقة إنما عني به الذمة والمودة التي كانت بين قوميهما.﴿ فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ ﴾ أي صنعهن وأوجدهن قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما   داود أو صنع السوابغ تبعوعلى هذا انتصب سبع على الحال وحفصاً أي حفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب. ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.﴿ فَإِنْ أَعْرَضُواْ ﴾ التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله: أئنكم لتكفرون إلى ضمير الغيبة إعراضاً من خطابهم إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة.﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ ﴾ أي أعلمتكم.﴿ صَاعِقَةً ﴾ أي حلول صاعقة قالوا أو ضمير غيبة انتقل منه إلى ضمير الخطاب في قوله: انا وما في قوله بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليه قوله به وبما متعلق بكافرون قال الزمخشري: ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء ربها إرسال الرسل لأنزل ملائكة " انتهى ". تتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب نحو قوله تعالى:﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾[الأنعام: ٣٥] أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه وكذلك لو نشاء لجعلناه حطاماً لو نشاء جعلناه أجاجا ولو شاء ربك ما فعلوه ولو شاء الله ما عبدنا من دونه شىءفلو شاء ربي كنت قيس بن خالد   ولو شاء ربي كنت عمرو ابن مرثدوقال الراجز واللذ لو شاء لكنت صخراً أو جبلاً أشم مشمخراً. فعلى هذا الذي تقرر لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري وإنما التقدير لو شاء ربنا إنزال الملائكة بالرسالة منه إلى الإِنس لأنزلهم بها إليهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإِنزال الملائكة وهو لم يشأ فكيف يشاء ذلك في البشر.﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ﴾ أي بينا لهم وأرشدناهم.﴿ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ ﴾ أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد والهون الهوان وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه ثم ذكر قريشاً بنجاة من آمن واتقى قيل وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب لهود وصالح مائة وعشرة أنفس.﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾ يوم منصوب باذكر منهم يوزعون تقدم الكلام عليه وحتى غاية ليحشر وأعداء الله هم الكفار من الأولين والآخرين وما بعد إذا زائدة للتأكيد والظاهر أن الجلود هي المعروفة وقيل كني به عن الفروج وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها ولما صدر منها ما صدر من العقلاء وهي الشهادة خاطبوها بقولهم لم شهدتم مخاطبة العقلاء والظاهر أن قوله: وما كنتم تستترون من كلام الله تعالى توبيخاً لهم.﴿ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ ﴾ الخفيات من أعمالكم.﴿ وَذَلِكُمْ ﴾ إشارة إلى ظنهم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من أعمالهم وهو مبتدأ خبره أرادكم وظنكم بدل من ذلكم وقال الزمخشري: وظنكم وأرادكم خبر أن وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر " انتهى ". ولا يصح أن يكون ظنكم الذي ظننتم بربكم خبراً لأن قوله: وذلكم إشارة إلى ظنهم فيصير التقدير وظنهم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وصار نظير ما منعه النحاة من قولك سيد الجارية مالكها.﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ ﴾ أي يتعذروا فما هم من المعذورين ولما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال:﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ ﴾ أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقرناء جمع قرين أي قرناء سوء من غواة الجن والإِنس.﴿ فَزَيَّنُواْ لَهُم ﴾ أي حسنوا وقرروا في أنفسهم.﴿ مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ قال ابن عباس من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر ولذات الدنيا.﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ أي كلمة العذاب وهو القضاء المحتم أنهم معذبون.﴿ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ أي في جملة أمم.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ ﴾ أي لا تصغوا لهذا القرآن وألغوا فيه قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر فخشي الكفار استمالته القلوب بذلك فقالوا حتى قرأ محمد فلنغلط نحن بالمكاء والصفير والصياح وشاد الشعر والارجاز حتى يخفى صوته وهذا الفعل هو اللغو.﴿ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ بتشويشكم عليه على قراءته فلا يصغى إليها.﴿ ذَلِكَ ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأحرف ذلك وجزاء مبتدأ والنار خبره.﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾ أي موضع البقاء الدائم الذي لا ينقطع والنار هي دار الخلد فكيف قيل فيها ثم محذوف تقديره في عذابها.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ الآية قال ابن عباس: نزلت في الصديق قال المشركون: ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عنده واليهود قالوا: ربنا الله وعزير ابنه ومحمد ليس نبي فلم يستقيما والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم فاستقام ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين وليس المراد التلفظ بالقول فقط بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني وبدأ أولاً بالذي هو أمكن في الإِسلام وهو العالم بربوبية الله تعالى ثم اتبعه بالعمل الصالح وهو الاستقامة وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال:" قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به قال: قل ربي الله ثم استقم قال: قلت ما أخوف ما تخاف علي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال؛ هذا "وقال ابن عطية: نزلا نصب على المصدر والمحفوظ أنّ مصدر نزل نزولاً لا نزلا ولما تقدم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ﴾ ذكر من دعا إلى ذلك فقال:﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ ﴾ أي لا أحد أحسن قولاً ممن يدعوا إلى توحيد الله ويعمل العمل الصالح ويصرح أنه من المسلمين المنقادين له ذكر أنه يجوز أن يكون ثم محذوف تقديره قولاً وعملاً حتى يكون مقابله العمل والقول: ويجوز أن لا يكون ثم محذوف ويكون قوله وعمل صالحاً جملة حالية أي لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وقد عمل صالحاً ولما تفاوتت الحسنة والسيئة أمر أن يدفعوا السيئة بالأحسن وذلك مبالغة ولم يقل ادفع الحسنة بالسيئة لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالأحسن أي فإِذا فعلت ذلك إذا الذي بينك وبينه عداوة صار لك كالولي الصديق الخالص الصداقة ولا في قوله ولا السيئة زائدة للتوكيد كهي في قوله﴿ وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ ﴾[فاطر: ٢١] لأن استوى لا يكتفي بمفرد واحد فإِن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم تك زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا إذ يصير المعنى ولا تستوي الحسنات إذ هي متفاوتة في أنفسها ولا السيئات لتفاوتها أيضاً.﴿ وَمَا يُلَقَّاهَآ ﴾ الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن وكرر وما يلقاها تأكيد لهذه الفعلة الجميلة الجليلة وذو حظ عظيم هو ثواب الآخرة.﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ فيه انتقال من خطاب في قوله لا تسجدوا واسجدوا إلى ضمير الغائب في قوله: فإِن استكبروا ومعنى عند ربك يعني الملائكة وعند ظرف مكان وهو مجاز.﴿ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ ﴾ أي لا يملكون ذلك ولمّا ذكر شيئاً من الدلائل العلوية ذكر شيئاً من الدلائل السفلية فقال:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾ أي غير دراسة.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ ﴾ تقدم الكلام عليه وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه وفي ذلك تهديد لهم.﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾ وعيد وتهديد بصيغة الأمر ولذا جاء أنه بما تعملون بصير فيجازيكم بأعمالكم.﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم والذكر القرآن هنا بإِجماع وخبر أن اختلفوا فيه أمذكور هو أم محذوف؟ فقيل مذكور وهو قوله: أولئك ينادون وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجدو لها نفاذاً فقال له أبو عمرو انه منك لقريب أولئك ينادون وقاله الحوفي ويرد على ذلك القول كثرة الفصل وإنه ذكر هناك من تكون الإِشارة إليهم وهو قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ ﴾.
وقيل محذوف وخبر أن يحذف لفهم المعنى وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وانه لكتاب فقال له عيسى: أجدت يا أبا عثمان وقال قوم تقديره معاندون أو هالكون وقال الكسائي قد سد مسده ما تقدم من الكلام قيل ان وهو قوله أفمن يلقى في النار " انتهى ". كأنه يريد دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر مخلدون في النار ويجوز أن يكون خبر أن قوله لا يأتيه الباطل تكون الألف واللام نابت عن الضمير أي لا يأتيه باطلهم ولمّا ذكر تعالى الملحدين في آياته وأنهم لا يخفون عليه والكافرين بالقرآن ذكر ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذبهم وقولهم هلا نزل بلغة العجم فقال:﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً ﴾ أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب لم يتركوا الاعتراض والتعنت ولقالوا لولا فصلت آياته أي بينت لنا وأوضحت حتى نفهمها وقرىء: أعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي وقرىء: أعجمي على الخبر وهما بدل من قوله: آياته.﴿ قُلْ هُوَ ﴾ أي القرآن.﴿ هُدًى ﴾ أي إرشاد إلى الحق وشفاء لما في الصدور من الظن والشك وظاهر أن والذين لا يؤمنون مبتدأ وفي آذانهم وقر في موضع الخبر وهو عليهم عمى خبر ثان والظاهر * أن الضمير في وهو عائد على القرآن وقيل يعود على الوقر:﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إشارة للذين لا يؤمنون.﴿ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ لما ذكر تعالى من عمل صالحاً ما كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة فكأن سائلاً قال: متى ذلك فقيل لا يعلمها إلا الله تعالى وما تخرج ما نافية ومن ثمرات من زائدة وثمرات فاعل من أكمامها في موضع الصفة إلاّ بعلمه استثناء بعد النفي وبعلمه في موضع الحال أي لا تخرج ولا تحمل ولا تضع إلا ملتبساً ذلك بعلمه فالباء في بعلمه للحال.
﴿ وَظَنُّواْ ﴾ أي أيقنوا.﴿ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾ أي من حيدة ورواغ عن العذاب.﴿ لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ ﴾ هذه الآيات نزلت في كفار قريش قيل في الوليد بن المغيرة وقيل في عتبة بن ربيعة.﴿ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ ﴾ أي الفقر والضيقة.﴿ فَيَئُوسٌ ﴾ أي فهو يؤس.﴿ قَنُوطٌ ﴾ وأتى بهما صيغتي مبالغة واليأس من صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير والقنوت أن تظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإِنكسار.﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾ سمى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله تعالى.﴿ مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ ﴾ أي ضر.﴿ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي ﴾ أي بسعي واجتهادي.﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ ﴾ أي ولئن كان كما أخبرت الرسل.﴿ إِنَّ لِي عِندَهُ ﴾ أي عند الله تعالى.﴿ لَلْحُسْنَىٰ ﴾ أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة كما أنعم الله علي في الدنيا وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي وعنده على اسم أن وبدخول لام التأكيد عليه أيضاً وبصيغة الحسنى ومؤنث الأحسن الذي هو فعل التفضيل ولم يقولوا للحسنة أي للحالة الحسنة.﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا ﴾ تقدم الكلام عليه في سبحان إلاّ أن في آخر تلك كان يؤساً وآخر هذه فذو دعاء عريض أي فهو ذو دعاء بإِزالة الشر عنه وكشف ضره والعرب تكني بالطول والعرض عن الكثرة يقال أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر أي مد وتضرع واستغاث وذكر تعالى في هذه الآية نوعاً من طغيان الإِنسان إذا أصابه الله بنعمته أبطرته النعمة وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله تعالى وتضرع.﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ ﴾ أي القرآن.﴿ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أبرزه في خبره والمعنى لا أحد أضل وهو من موضع المفعول النافي لأرأيتم ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال.﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ ﴾ فقيل هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر.﴿ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ ﴾ أراد به فتح مكة وتضمن ذلك الاخبار بالغيب ووقع كما أخبر وبربك الباء زائدة التقدير أو لم يكفك أو يكفهم ربك. و ﴿ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ بدل من ربك أما حالة كونه مجروراً بالباء فيكون بدلاً على اللفظ وأمّا حالة مراعاة الموضع فيكون بدلاً على الموضع.﴿ فِي مِرْيَةٍ ﴾ أي في شك وقرىء بضم الميم وكسرها وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلاً فهو يجازيهم على كفرهم.
Icon