وتسمى سورة حم عسق وسورة شورى من غير ألف ولام وسورة حم عسق وهي ثلاثة وخمسون آية.
وهي مكية كلها. قاله ابن عباس وابن الزبير. وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ إلى آخرها، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم ابن حماد والخطيب عن ارطاة ابن المنذر حديثا طويلا في تفسير حم عسق وهو حديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والازدراء عليهم وكذا ما أخرجه أبو يعلى وابن عساكر عن أبي معاوية قال السيوطي بسند ضعيف وقلت بل بسند موضوع ومتن مكذوب.
وقد قال ابن كثير في الحديث الأول : إنه غريب عجيب منكر وفي الثاني إنه أغرب من الأول وعندي أنهما موضوعان مكذوبان.
ﰡ
وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في حم فقيل: معناها حم أي قضى ما هو كائن ففصلوا بين ما يقدر فيه فعل وبين ما لا يقدر، وقيل إن ح حلمه، وم مجده وع علمه، وس سناؤه وق قدرته، أقسم الله بها، وقيل: هما اسمان للسورة وقيل: اسم واحد لها، وقيل غير ذلك مما هو متكلف ومتعسف لم يدل عليه دليل، ولا جاءت به حجة ولا شبهة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روى في ذلك مما لا أصل له، والحق ما قدمناه لك في فاتحة سورة البقرة.
(وإلى الذين من قبلك) أي إلى الرسل (الله) كأنه قيل من يوحى فقال الله (العزيز) في ملكه الغالب بقهره (الحكيم) بصنعه المصيب في قوله وفعله.
وقيل: يتشققن لكثرة ما على السموات من الملائكة، وقيل: يكدن يتفطرن من علو شأن الله وعظمته، ويدل عليه مجيئه بعد قوله (العلي العظيم) ومن لابتداء الغاية يبتدىء التفطر من جهة الفوق، وقال الأخفش الصغير إن
(والملائكة يسبحون بحمد ربهم) كلام مستأنف أي ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده وقيل: إن التسبيح موضوع موضع التعجب، أي يتعجبون من جرأة المشركين على الله، وقيل؛ المعنى يصلون بأمر ربهم قاله السدي.
(ويستغفرون) أي يشفعون (لمن في الأرض) من عباد الله المؤمنين، كما في قوله: (ويستغفرون للذين آمنوا) ويطلبون هدايتهم، وقيل الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم وتأخير عقوبتهم طمعاً في إيمان الكافر، وتوبة الفاسق، فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين، وإن كانوا داخلين فيها دخولاً أولياً، وإليه ذهب البيضاوي بل ولو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع لعم الحيوان بل الجماد.
قال الضحاك لمن في الأرض من المؤمنين. وقال السدي: بيانه في سورة المؤمن (ويستغفرون للذين آمنوا) وعلى هذا يكون المراد بالملائكة هنا حملة العرش، وقيل جميع الملائكة وهو الظاهر من قول الكلبي وقيل هو منسوخ بقوله (ويستغفرون للذين آمنوا) وقال المهدوي والصحيح أنه ليس بمنسوخ لأنه خبر وهو خاص بالمؤمنين.
وقال أبو الحسن بن الحصار إن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الأرض قال الماوردي وفي استغفارهم لهم قولان أحدهما من الذنوب والخطايا، وهو ظاهر قول مقاتل، والثاني أنه طلب الرزق لهم والسعة عليهم، قاله الكلبي وهو الأظهر، لأن
(ألا إن الله هو الغفور الرحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه أو الجميع عباده، فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع مغفرته ورحمته
(الله حفيظ عليهم) أي يحفظ أعمالهم لا يغيب عنه منها شيء ليجازيهم بها (وما أنت عليهم بوكيل) أي لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
(وتنذر يوم الجمع) أي بيوم الجمع وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق، وقيل: المراد جمع الأرواح بالأجساد، وقيل: جمع الظالم والمظلوم، وقيل جمع العامل والعمل.
(لا ريب فيه) أي لا شك فيه والجملة معترضة مقررة لما قبلها، أو حال من يوم الجمع (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) قرأ الجمهور برفع فريق في الموضعين إما على أنه مبتدأ وخبره الجار المجرور، وساغ الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفضيل أو على أن الخبر مقدر قبله، أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير عائد إلى المجموعين، المدلول عليهم بذكر الجمع، أي هم فريق في الجنة وفريق في
وقد أخرج الترمذي وصححه، وأحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: " خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان أمر قد فرغ منه، فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل.
قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة وفريق في السعير ".
قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح غريب، وروى ابن جرير طرفاً منه عن ابن عمرو " موقوفاً عليه "، قال ابن جرير وهذا الموقوف أشبه بالصواب، قلت بل المرفوع أشبه بالصواب، فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح، ويقوي الرفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء قال. " خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتاب ينظر فيه قالوا انظروا إليه كيف هو أمي لا يقرأ؟ قال فعلمها رسول الله ﷺ فقال هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة، وأسماء قبائلهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، وقال (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فرغ ربكم من أعمال العباد ".
ومثل هذا قوله (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) وقوله (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) وهذا مقابل لقوله (يدخل من يشاء في رحمته)، فكان مقتضى الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في غضبه لكن عدل عنه إلى ما ذكر للمبالغة في الوعيد، فإن نفي من يتولاهم وينصرهم أدل على أن كونهم في العذاب أمر معلوم مفروغ منه، أفاده الكرخي.
وقال الشوكاني رحمه الله: وههنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على
(وَهُوَ) أي ومن شأنه أنه (يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي يقدر على كل مقدور فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة.
وقال مقاتل إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن به بعضهم، فنزلت
(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقاً إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة، وقيل: تحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن حكمه حكم الله، ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته.
(ذلكم) مبتدأ أي الحاكم العظيم الشأن بهذا الحكم (الله) خبر أول (ربي) خبر ثان (عليه توكلت) خبر ثالث، أي اعتمدت عليه في جميع أموري لا على غيره، وفوضته في كل شؤوني (وإليه) لا إلى غيره (أنيب) أي أرجع في كل شيء يعرض لي، وهذا خبر رابع.
(جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) خبر سادس أي خلق لكم من جنسكم نساء، أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم، وقال مجاهد نسلاً بعد نسل (ومن الأنعام أزواجاً) أي خلق لها من جنسها إناثاً أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً من المذكور والإناث، وهي الثمانية التي ذكرها في الأنعام.
(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يبثكم من الذرء وهو البث أو يخلقكم وينشئكم
(ليس كمثله شيء) خبر سابع والمراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى، كقولهم: مثلك لا يبخل وغيرك لا يجود، وقيل: إن الكاف زائدة للتوكيد لأنه تعالى لا مثل له، وهو المشهور عند المعربين، وقيل: إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره، كما في قوله (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) أي بما آمنتم به، وهذا ليس بجيد، بل الأول أولى.
فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيج مألوف لهم قال ابن قتيبة العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا، أي أنا لا يقال لي، وقيل: المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة كقوله مثل الجنة، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو محمل سهل.
قال الراغب: المثل أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط، والمساوي يقال فيما يشاركه في الكمية فقط والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط، ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه خصه بالذكر قال تعالى.
(ليس كمثله شيء) وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف إنها لو لم
ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله (وهو السميع البصير) فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للمثل، قد اشتمل على برد اليقين، وشفاء الصدور، وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة، والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع، وتهشم بها رؤوساً من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من القاصرين المتكلفين، والمتكلمين المتأولين، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه (ولا يحيطون به علماً) فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين.
ودع عنك نهياً صيح في حجراته | ولكن حديث ما حديث الرواحل |
ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليدهما ذكر بعده البسط والقبض فقال (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) خبر عاشر أي يوسعه لمن يشاء كالروم والفرس ويضيقه على من يشاء كالعرب (إنه بكل شيء) من الأشياء (عليم) فلا تخفي عليه خافية، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي فهو يجازي كُلاًّ بما يستحقه من خير وشر.
" ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض " وهذا صحيح لا إشكال فيه كما أن آدم أول رسول نبىء بغير إشكال إلا أن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، وإنما كان شرعه تنبيهاً على بعض الأمور واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة والبقاء واستمر إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب والديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء عليهم السلام واحداً بعد واحد وشريعة
(والذي أوحينا إليك) من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك والتعبير عنه عند نسبته إلى النبي ﷺ بالذي هو أصل الموصلات لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وخص ما شرعه لنبينا محمد ﷺ بالإيحاء مع كون ما قبله وما بعده مذكوراً بالتوصية، للتصريح برسالته، القامع لإنكار الكفرة، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم بنون العظمة لكمال الاعتناء بالإيحاء إليه، وهو السر في تقدمه على ما بعده مع تقدمه عليه زماناً وتقديم توصية نوح للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً وتوجبه الخطاب إليه ﷺ بطريق التلوين للتشريف والتنبيه، على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام.
(وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) مما تطابقت عليه الشرائع وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع المعظمة والأتباع الكثيرة؛ وأولو العزم، ولميل قلوب الكفرة إليهم لاتفاق الكل على نبوة بعضهم، وتفرد اليهود في موسى، والنصارى في عيسى، وكل من هؤلاء المذكورين له شرع جديد، ومن عداهم من الرسل إنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله فشيث وإدريس بعثا بتبليغ شرع آدم، ومن بين نوح وإبراهيم وهما هود وصالح بعثا بتبليغ شرع نوح، ومن بين إبراهيم وموسى بعثوا بتبليغ شرع إبراهيم وكذا من بين موسى وعيسى بعثوا بتبليغ شرع موسى فليتأمل، ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال:
(أن أقيموا الدين) أي توحيد الله، والإيمان به وطاعة رسله، وقبول شرائعه والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو المواظبة عليه، والتشمير له، وقال السدي: أي اعملوا به وقيل: المراد سائر ما يكون المرء بإقامته مسلماً ولم ترد به الشرائع فإنها مختلفة، قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) قال مجاهد: لم يبعث الله نبياً إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة فذلك دينه الذي شرع لهم، وقال
قال القرطبي: الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع هي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنا والإذاية للخلق، كيفما تصورت، والإعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع ديناً واحداً، وملة واحدة لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعذارهم، وذلك قوله تعالى: أن أقيموا الدين الخ.
ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين نهاهم عن الإختلاف فيه فقال: (ولا تتفرقوا فيه) أي لا تختلفوا في التوحيد والإيمان بالله، وطاعة رسوله، وقبول شرائعه فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس هذا من فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها الأمارات، وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد، ومواطن الخلاف.
قال القرطبي في الآية أي اجعلوه دائماً قائماً مستمراً محفوظاً مستقراً، من غير خلاف فيه ولا اضطراب، فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث، (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه).
واختلفت الشرائع وراء هذه في أحكامه حسبما أراد الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم والله أعلم.
قال قتادة في الآية: ألا تعلمون أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة وقال على الجماعة رحمة والفرقة عذاب. ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شق على المشركين فقال:
(كبر) أي عظم وشق (على المشركين ما تدعوهم إليه) من التوحيد ورفض الأوثان، قال قتادة اشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها، ويظفرها كل من ناوأها، والأولى التعميم لدلالة السياق ولا يمنعه تخصيص
(الله يجتبي إليه) استئناف وارد لتحقيق الحق وفيه إشعار بأن منهم من يجيب إلى الدعوة، والاجتباء الاختيار، والمعنى يختار لتوحيده والدخول في دينه، افتعال من الجباية وهي الجمع على طريق الاصطفاء، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه (من يشاء) من عباده، قال قتادة: يخلص لنفسه من يشاء.
(ويهدي إليه من ينيب) أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته، ويقبل إلى عبادته ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرق والاختلاف فقال:
وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير) الآية، وبقوله (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين، وأنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى، فآمن قوم وكفر قوم. وقيل: اليهود والنصارى خاصة كما في قوله (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة).
(بغياً بينهم) أي بغياً من بعضهم على بعض، طلباً للرياسة فليس تفرقهم لقصور في البيان والحجج، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا والجاه والحمية (ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي تأخير العقوبة (إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة كما في قوله (بل الساعة موعدهم) وقيل: إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر (لقضي
(وإن الذين أورثوا الكتاب) أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى الذي كانوا في عهده ﷺ (من بعدهم) أي من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى المختلفين في الحق.
وقال مجاهد: معنى من بعدهم من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى وقيل، المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ووصفهم بأنهم (لفي شك منه) أي من القرآن أو من محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كلا الوجهين فالشك هنا ليس على معناه المشهور من اعتدال النقيضين وتساويهما في الذهن، بل المراد به ما هو أعم أي مطلق التردد.
وقال القرطبي: لفي شك من الذي أوصى به الأنبياء (مريب) موقع في الريبة وهي قلق النفس واضطرابها ولذلك لم يؤمنوا.
(واستقم) على ما دعوت إليه فسر الراغب الإستقامة بلزوم المنهج المستقيم، فلا حاجة إلى تأويلها بالدوام على الإستقامة، قال قتادة: استقم على أمر الله، وقال سفيان: استقم على القرآن، وقال الضحاك: استقم على تبليغ الرسالة (كما أمرت) بذلك من جهة الله تعالى.
(وأمرت لأعدل بينكم) في أحكام الله إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله، أو بنقصان منه، وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو واللام لام كي، أي أمرت بذلك الذي أمرت به لكي أعدل بينكم، وقيل: هي زائدة، والمعنى أمرت أن أعدل وقيل: بمعنى الباء وأن المصدرية مقدرة أي بأن أعدل والأول أولى.
قال أبو العالية: أمرت لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول، والظاهر أن الآية عامة في كل شيء، والمعنى أمرت لأعدل بينكم في كل شيء.
(الله ربنا وربكم) أي إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم (لنا أعمالنا) أي ثوابها وعقابها خاص بنا (ولكم أعمالكم) أي ثوابها وعقابها خاص بكم، فكل يجازى بعمله (لا حجة) أي لا خصومة (بيننا وبينكم) لأن الحق قد ظهر ووضح، ولم يبق للمحاجة مجال، وليس في الآية إلا ما يدل على المتاركة في المقاولة، والمحاجة لا مطلقاً حتى تكون منسوخة، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة مجاراة لهم على زعمهم الباطل، قال ابن عباس ومجاهد: الخطاب لليهود وقيل للكفار على العموم.
(الله يجمع بيننا) في المحشر لفصل القضاء (وإليه المصير) أي المرجع يوم القيامة، فيجازي كُلاًّ بعمله، وهذا منسوخ بآية السيف وقيل ليست بمنسوخة لأن البراهين قد ظهرت والحجج قد قامت فلم يبق إلا العناد وبعد العناد لا حجة ولا جدال.
قال مجاهد؛ من بعد ما أسلم الناس، قال: وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود، وقال قتادة هم اليهود والنصارى، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد الأنبياء، وكان المشركون يقولون (أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً) فنزلت هذه الآية.
وفال ابن عباس: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ويصدونهم عن الهدى، من بعد ما استجابوا لله، وقال: هم قوم من أهل الضلالة وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية، وعن عكرمة قال لما نزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فأخرجوا من بين أظهرنا فنزلت هذه الآية.
(وعليهم غضب) عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل (ولهم عذاب شديد) في الآخرة.
وقال قتادة: الميزان العدل فيما أمر به ونهى عنه وإنزال العدل هو الأمر والتكليف به، وقيل: إنه الميزان على نفسه أنزله الله من السماء في زمن نوح عليه السلام، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس، كما في قوله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، وقيل: هو محمد ﷺ يقضي بينكم بكتاب الله وقال مجاهد: هو الذي يوزن به.
(وما يدريك لعل الساعة قريب) أي أَيُّ شيء يجعلك دارياً بها، عالماً بوقتها، لعلها شيء قريب، أو قريب مجيئها، أو ذات قرب أو إتيانها قريب وقال (قريب) ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي.
قال الزجاج: المعنى لعل البعث أو لعل مجىء الساعة قريب وقال
(ويعلمون أنها الحق) أي أنها آتية لا ريب فيها، وكائنة لا محالة ومثل هذا قوله (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) ثم بين ضلال الممارين فيها فقال:
(ألا إن الذين يمارون في الساعة) أي يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة من المماراة، وهي المخاصمة والمجادلة أو من المرية وهي الشك والريبة (لفي ضلال بعيد) عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم، منصوبة لأعينهم، مفهومة لعقولهم ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم ابتداء قادر على الإعادة، وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها، والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء والبعث أشبه الغائبات بالمحسوسات فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.
وقال الجنيد: لطف بأوليائه فعرفوه ولولا لطفه بأعدائه ما جحدوه وقال جعفر الصادق: يلطف بهم في الرزق من وجهين، أحدهما أنه جعل رزقك من الطيبات، الثاني أنه لم يدفع إليك مرة واحدة فتبذره.
وقال الحسين بن الفضل: لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره. وقيل: اللطيف الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله (١)، وقيل هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل هو الذي أوقد للعلماء من الكتاب والسنة سراجاً، وجعل لهم الصراط المستقيم والدين القيم منهاجاً، وأنزل لهم من سحائب بره ومَنهِ ولطفه وكرمه وإحسانه ماء ثجاجاً وقيل غير ذلك.
وحاصل المعنى أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا وهو معنى قوله (يرزق من يشاء) منهم كيف يشاء فيوسع على هذا ويضيق على هذا، وفي تفضيل قوم بالمال حكمة ليحتاج البعض إلى البعض، كما قال ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، وكان هذا لطفاً بالعباد ليمتحن الغني بالفقير، والفقير بالغني. وقيل ما يشاء من أنواع الرزق فهو -وإن كان يرزق كل ذي روح- لكنه فاوت بين المرزوقين في الرزق، قلة وكثرة وجنساً ونوعاً لحكمة يعلمها هو.
(وهو القوي) العظيم القوة الباهر القدرة (العزيز) الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء.
_________
(١) سقط من الأصل: وقيل: هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة، وقيل: هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الذي لا يرد سائله ولا يؤيس آمله.
(ومن كان يريد حرث الدنيا) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها، وما يرزق الله به عباده منها، مؤثراً لها على الآخرة (نؤته منها) ما قضت به مشيئتنا، وقسم له في قضائنا، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه.
(وما له في الآخرة من نصيب) لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء وقال وابن عباس في الآية حرث الآخرة عيش الآخرة، وقال من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيباً في الآخرة إلا النار، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئاًً إلا رزقاً فرغ منه وقسم له وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبيّ بن كعب أن رسول الله ﷺ " قال بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب "، وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: " تلا رسول الله ﷺ من كان يريد حرث الآخرة الآية ثم قال: يقول الله: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك ". وعن علي قال: الحرث حرثان: فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.
ولما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا والآخرة، أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار فقال:
(ما لم يأذن به الله) من الشرك والعاصي والشرائع المضلة، وإنكار البعث، والعمل للدنيا، والآية بعمومها تشمل كل شيء لم يأمر به الله سبحانه أو رسوله، فيدخل فيه التقليد لأنه مما لم يأذن به الله بل ذمه في كتابه في غير موضع، ولم يأذن به رسوله، ولا إمام من أئمة الدين، ولا أحد من سلف الأمة وسادتها وقادتها، بل نهى عنه المجتهدون الأربعة، ومن كان بعدهم من أهل الحق، رَكْب الإيمان وأتباع السنة المطهرة، وإنما أحلله من أحدث من الجهال والعوام، بعد القرون المشهود لها بالخير فرحم الله امرءاً سمع الحق فاتبعه وسمع الباطل فتركه وأدمغه وبالله التوفيق.
(ولولا كلمة الفصل) وهي تأخير عذابهم حيث قال: (بل الساعة موعدهم) (لقضى بينهم) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين أو إلى المشركين وشركائهم (وإن الظالمين) أي المشركين الكافرين والمكذبين (لهم عذاب اليم) مؤلم في الدنيا والآخرة قرأ الجمهور بكسر إن على الإستئناف وقرىء بفتحها عطفاً على كلمة الفصل.
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) مبتدأ وخبره (في روضات الجنات) جمع روضة قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين الواو، ولغة هذيل فتحها والروضة الموضع النزه الكثير الخضرة، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم وروضة الجنة أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا أحسن أمكنتها، وفيه تنبيه على أن عصاة المسلمين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي البقاع الشريفة من الجنة، والبقاع
(لهم ما يشاؤون) (١) أو للاستقرار العامل في لهم، والعندية مجاز أو حقيقة (ذلك) أي ما ذكر للمؤمنين (هو الفضل الكبير) الذي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته، ومعرفة حقيقته، لأن الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدر قدره.
_________
(١) سقط من الأصل (لهم ما يشاؤون عند ربهم) من صنوف النعيم وأنواع المستلذات، وعند، ظرف ليشاؤون.
(قل لا أسألكم عليه أجراً) أي قل يا محمد: لا أطلب منكم الآن ولا في مستقبل الزمان على تبليغ الرسالة بشارة أو نذارة جعلاً ولا نفعاً وإن قَلَّ والخطاب إما لقريش وللأنصار لأنهم أخواله، أو لجميع العرب لأنهم أقاربه في الجملة (إلا المودة) العظيمة الواسعة (في القربى) أي مظروفة فيها، بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها، لا يخرج شيء من محبتكم عنها والاستثناء متصل، أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعاً.
قال الزجاج: إلا المودة استثناء ليس من الأول أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش وهذا قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي فيكون المعنى على الانقطاع: لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألكم المودة في القربى التي بيني وبينكم ارقبوني فيها ولا تعجلوا إليّ، ودعوني والناس وبه قال
وقال الحسن وغيره: معنى الآية إلا التودد إلى الله عز وجل والتقرب بطاعته، وقال الحسين بن الفضل، ورواه ابن جرير عن الضحاك أن هذه الآية منسوخة، قال البغوي: وهذا قول غير مرضي، لأن مودة النبي ﷺ وكف الأذى عنه، ومودة أقاربه والتقرب إلى الله بالطاعة والعمل الصالح، من فرائض الدين.
أقول: في الآية ثلاثة أقوال، الأول أن القربى بمعنى القرابة أي الرحم، والثاني بمعنى الأقارب، والثالث بمعنى القرب والتقرب والزلفى، وسيأتي ما يتضح به الصواب، ويظهر به معنى الآية. قال سعيد بن جبير قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم. عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (إلا المودة في القربى) قال ابن عباس: " عجلت أن النبي ﷺ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة "، وعنه قال: قال لهم رسول الله ﷺ لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم " (١)، وعن الشعبي قال: أكْثَرَ الناس علينا في هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: " إن رسول الله ﷺ كان واسط النسب في قريش، ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة، فقال الله: قل الخ أن تودوني لقرابتي منكم، وتحفظوني بها ".
وعن ابن عباس قال كان لرسول الله ﷺ قرابه من جمع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: " يا قوم إذا أبيتم أن
_________
(١) السيوطي في الدر ٦/ ٦.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ في هذه الآية " تحفظوني في أهل بيتي وتودوهم بي " أخرجه الديلمي وأبو نعيم، وعنه قال لما نزلت هذه الآية قالوا: " يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولداهما " أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف.
وعنه قال نزلت هذه الآية بمكة وكان المشركون يؤذون رسول الله ﷺ فأنزل الله قل لهم يا محمد لا أسألكم عليه -أي على ما أدعوكم إليه- أجراً عرضاً من الدنيا إلى المودة في القربى، إلا الحفظ في قرابتي فيكم، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يلحقه بإخوته من الأنبياء فقال (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله) يعني ثوابه وكرامته في الآخرة، كما قال نوح (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين) وكما قال هود وصالح وشعيب لم يستثنوا أجراً كما استثنى النبي ﷺ فرده عليهم، وهي منسوخة، وعنه عن النبي ﷺ في الآية " قل لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجراً إلا أن تودوا الله وأن تتقربوا إليه بطاعته هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية والمعنى الأول هو الذي صح
_________
(١) السيوطي في الدر ٦/ ٧.
ولا يقوي ما روي من حملها على آل محمد ﷺ على معارضته ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة، وقد بينا ذلك عند تفسيرنا لقوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وكما لا يقوى هذا على المعارضة فكذلك لا يقوي ما روي عنه أن المراد بالمودة أن يودوا الله، وأن يتقربوا إليه بطاعته، ولكنه يشد من عضد هذا أنه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ومن يقترف) أي يكتسب وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف لعياله من باب ضرب أي يكسب والاقتراف الاكتساب مأخوذ من قولهم رجل قرفة إذا كان محتالا (حسنة) أي طاعة (نزد له فيها) أي في هذه الحسنة أو في الجنة (حسناً) بمضاعفة ثوابها، قال مقاتل المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسناً نضاعفها بالواحدة عشراً فصاعداً. وقيل المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى، والحمل على العموم أولى، ويدخل تحته المودة في القربى دخولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى وقال ابن عباس إنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال السدي إنها نزلت في أبي بكر ومودته فيهم والظاهر العموم.
(إن الله غفور شكور) أي كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين قال قتادة: غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد ﷺ شكور للقليل فيضاعفه.
وقال مجاهد ومقاتل: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذيتهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم وقيل: الخطاب له والمراد الكفار، أي إن يشأ يختم على قلوب الكفار ويعاجلهم بالعقوبة، ذكره القشيري وقيل: المعنى لو حدثتك نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع على قلبك: فإنه لا يجترىء على الكذب إلا من كان مطبوعاً على قلبه، والأول أولى، والمقصود، من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد.
(ويمحو الله الباطل) استئناف مقرر لما قبله من نفي الافتراء غير داخل في جزاء الشرط، قال ابن الأنباري: يختم على قلبك تام وما بعده مستأنف،
(ويحق الحق) أي الإسلام فيبينه (بكلماته) أي بما أنزله من القرآن وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم. وأعلى كلمة الإسلام (إنه عليم بذات الصدور) أي عالم بما في قلوب العباد.
(ويعفو عن السيئات) على العموم لمن تاب عن سيئة، ويعفو لمن يشاء بلا توبة أيضاًً إذا كان ما دون الشرك (ويعلم ما تفعلون) من خير وشر فيجازي كُلاً بما يستحقه قرأ حمزة وغيره تفعلون بالفوقية على الخطاب وقرىء بالتحتية على الخبر، وهما سبعيتان، واختار الثانية أبو عبيد وأبو حاتم لأن هذا الفعل وقع بين خبرين.
(ولكن ينزل) بالتشديد وضده سبعيتان (بقدر ما يشاء) أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته، وما تقتضيه حكمته البالغة (إنه بعباده) أي بأحوالهم (خبير بصير) بما يصلحهم من توسيع الرزق وتضييقه فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ويكفيه عن الفساد بالبغي في الأرض ويقدر لهم ما تقتضيه حكمته، فيفقر ويغني، ويمنع ويعطي، ويبسط ويقبض، ولو أغناهم جميعاً لبغوا، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على من يبغي، ومن البغي بدون البسط فهو قليل، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب، عن أبي هانىء الخولاني قال: سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون: " إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة وذلك أنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا " قال السيوطي سنده صحيح وعن علي " مثله ".
(وينشر رحمته) أي بركات الغيث ومنافعه في كل شيء من السهل والجبل، والنبات والحيوان، وما يحصل به من الخصب أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاماً أولياً، والمراد بالرحمة المطر، فذكر المطر بإسمين الغيث لأنه يغيث من الشدائد، والرحمة لأنه رأفة وإحسان.
(وهو الولي) للصالحين من عباده بالإحسان وجلب المنافع لهم ودفع الشرور عنهم (الحميد) المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصاً وعموماً، ثم ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده وصدق ما وعد به من البعث فقال:
(وما بث فيهما من دابة) يجوز عطفه على خلق بتقدير مضاف، ويجوز عطفه على السموات، وقدمه القاضي على الأول والدابة اسم لكل ما دبّ، قال الفراء أراد ما بث في الأرض دون السماء كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب وقال أبو علي الفارسي: تقديره وما بث في أحدهما فحذف المضاف، قال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى (ويخلق ما لا تعلمون) قال الكرخي وما جَوّزه الزمخشري من أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفون بالدبيب كما وصف به الأناسي أو يخلق الله تعالى في السموات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض بعيد من الأفهام لكونه على خلاف العرف العام ولأن الشيء إنما يكون آية إذا كان معلوماً ظاهراً مكشوفاً ومن ثم أهمل القاضي ذكره.
(وهو على جمعهم) أي حشرهم يوم القيامة، في الضمير تغليب العاقل على غيره، لأنه راجع إلى الدابة، ولولاه لكان يقال: على جمعها (إذا) أي في وقت (يشاء قدير) والظرف متعلق بجمعهم لا بقدير، فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته؛ قال أبو البقاء. لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى: وهو على جمعهم قدير إذا يشاء فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال، قال شهاب الدين والسمين ولا أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة فإن كان يقول بقول المعتزلة وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله تمشي كلامه ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده.
قال الزجاج: إثبات الفاء أجود لأن الفاء مجازات جواب الشرط ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم، وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها وتعالج وتحصل.
قال الحسن: المصيبة هنا الحدود على المعاصي، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها قال الضحاك: ما تعلم الرجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ هذه الآية وقال أي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. قلت ويلحق بالقرآن نسيان السنة المطهرة. وترك العمل بها وإيثار الرأي عليها أيضاًً، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " وما أصابكم من مصيبة الآية وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه ".
أخرجه أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم، قيل: المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة، نحو الأوجاع والأسقام والقحط والبلاء والغرق والصواعق وغير ذلك، من الذنوب والمعاصي وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ، وقال: لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، والحق أن الآية مخصوصة بالمكلفين بالسياق والسباق.
(و) هو (يعفو عن كثير) أي من المعاصي التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة فمعنى الآية أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب وقد أثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من
وقال الواحدي وهذه أرجى آية في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فإنه لا يعجل له في الدنيا عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، وعن أبي موسى أن رسول الله ﷺ قال " لا تصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ وما أصابكم الآية " أخرجه الترمذي وعبد بن حميد وعن عمران ابن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه وكان قد ابتلى في جسده فقال إنا لنبتئس لك لما نرى فيك، قال فلا تبتئس لما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية إلى آخرها وعن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله ﷺ يقول " ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله به عنه من سيئاته "، أخرجه أحمد وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود، إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر " أخرجه ابن مردويه.
(رواكد) أي سواكن ثوابت وقوفاً يقال ركد الماء ركوداً سكن وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت في مكان فهو راكد وركد الميزان استوى، وركد القوم هدأوا والمراكد المواضع التي يركد فيها الإنسان وغيره (على ظهره) أي ظهر البحر لا تجري، قال ابن عباس: يتحركن ولا
وقرأ نافع وابن عامر برفع يعلم على الاستئناف، أي على أنه جملة إسمية أو فعلية، فعلى كونها فعلية يكون الموصول. فاعلاً، وعلى كونها إسمية بكون مفعولاً والفاعل ضمير مستتر يعود على مبتدأ مقدر، أي وهو يعلم الذين، وهي قراءة ظاهرة واضحة اللفظ، وقرىء بالجزم عطفاً على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين الإهلاك والنجاة والتحذير.
ومعنى قوله: (ما لهم من محيص) ما لهم من فرار ولا مهرب من العذاب قاله قطرب وقال السدي: ما لهم من ملجأ وهو مأخوذ من قولهم: حاص به البعير حيصة إذا رمى به، ومنه قولهم، فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه ثم لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا فقال:
إنما الدنيا فناء... ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت... نسجته العنكبوت
ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال: (وما عند الله) من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات هو (خير) من متاع الدنيا (وأبقى) لأنه دائم لا ينقطع ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة، ثم بين سبحانه لمن هذا فقال:
(للذين آمنوا) أي صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان (وعلى ربهم) لا على غيره (يتوكلون) أي يفوضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم، قيل: " نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين تصدق بجميع ماله، ولامه الناس ".
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحلمون على من ظلمهم وخص الغضب بالغفران، لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة فلا يغفره عند سورة الغضب إلا من شرح الله صدره، وخصه بمزيد الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) قال ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين صنفاً يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم: وصنفاً ينتصرون من ظالمهم وهم الذين سيأتي ذكرهم.
(وأمرهم شورى بينهم) أي يتشاورون فيما بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي، والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والقربى، قال الضحاك: هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به، والنصرة له، وقيل: المراد تشاورهم في كل أمر يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي، قال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، وسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا، فمدح الله تعالى المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك وما أحسن ما قاله بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن | برأي نصيح أو نصيحة حازم |
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة | فريش الخوافي قوة للقادم |
قال ابن العربي ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر، في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعاً للآخر، أو يكون ذلك راجعاً إلى حالتين إحداهما أن يكون الباغي معلناً بالفجور مؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل، الثانية أن يقع ذلك ممن لم يعرف بالزلة ويسأل المغفرة فالعفو ههنا أفضل، وهكذا ذكر الكيا الطبري في أحكامه.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء والفساق، لكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله:
أخرج النسائي وابن ماجة وابن مردويه عن عائشة قالت: " دخلت عليّ
(فمن عفا) الفاء للتفريع أي إذا كان الواجب في الجزاء رعاية المماثلة من غير زيادة، وهي عسرة جداً، فالأولى العفو والإصلاح إذا كان قابلاً للإصلاح، فلا يرد أنه يخالف قولهم الحلم على العاجز محمود، وعلى المتغلب مذموم، والمعنى من عفا عمن ظلمه.
(وأصلح) بالعفو بينه وبين ظالمه (فأجره على الله) أي يأجره على ذلك لا محالة، وأبهم الأجر تعظيماً لشأنه، وتنبيهاً على جلالته، قال مقاتل فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد بينا هذا في سورة آل عمران، والمقصود من الآية التحريض على العفو، وقد عرفت التوفيق بينه وبين الانتصار.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، وذلك قوله فمن عفا الآية.
وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي ﷺ قال: ينادي مناد من كان له أجر على الله فليدخل الجنة مرتين فيقوم من عفا عن أخيه قال الله تعالى: فمن عفى الآية ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال (إنه لا يحب الظالمين) يعني من يبدأ بالظلم قاله مقاتل وبه قال سعيد بن جبير وقيل: لا يحب من يتعدى في الاقتصاص. ويجاوز الحد فيه لأن المجاوزة ظلم.
(أولئك) أي الذين يظلمون الناس (لهم) بهذا السبب (عذاب أليم) شديد الألم ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال:
ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية، فقال الحسن عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون، وبالجملة العفو مندوب إليه ثم قد ينعكس في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدم، وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي، وقطع مادة الأذى.
(إن ذلك) الصبر والمغفرة منه وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم (لمن عزم الأمور) قال مقاتل: أي من الأمور التي أمر الله بها، وندب إليها، أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه قال أبو سعيد القرشي الصبر على المكاره من علامات الانتباه فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضاء، وهو أجل الأحوال ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه.
وقال الزجاج الصابر يؤتى بصبره ثواباً فالرغبة في الثواب أتم عزماً قال ابن زيد إن هذا كله منسوخ بالجهاد، وأنه خاص بالمشركين، وقال قتادة إنه عام، وهو ظاهر النظم القرآني، وقال هنا بلام التوكيد، وفي لقمان بدونها لأن الصبر على مكروه حدث بظلم كقتل ولد أشد من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم كموت ولد، كما أن العزم على الأول آكد منه على الثاني، وما هنا من القبيل الأول فكان أنسب بالتوكيد، وما في لقمان القبيل الثاني فكان أنسب بعدمه، أفاده الكرخي.
(وترى) الخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية والرؤية فيهما بصرية، والجملة الواقعة بعد كل منهما حالية (الظالمين) أي المشركين المكذبين بالبعث (لما رأوا العذاب) أي حين نظروا النار، وقيل نظروا ما أعده الله لهم عند الموت، واختير لفظ الماضي للتحقيق (يقولون هل إلى مرد من سبيل) أي هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق؟
(وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم) أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين بتخليدهم في النار (يوم القيامة) إما ظرف لخسروا فالقول في الدنيا أو لقال فالقول في القيامة، ويكون التعبير عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه قاله أبو السعود وأما خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها، وأما خسرانهم لأهليهم فلأنهم إن كانوا معهم في النار فلا ينتفعون بهم وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم، وقيل خسران الأهل أنهم لو آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين.
(ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) هذا من تمام كلام المؤمنين، أو من كلام الله سبحانه أي هم في عذاب دائم لا ينقطع
_________
(١) سقط من الأصل: أن حكم به على عباده ووعدهم به، والمراد به يوم القيامة، أي يوم الموت (ما لكم من ملجأ يومئذ) تلجأون إليه (وما لكم من نكير) أي إنكار، يعني بل تعترفون بذنوبكم لأنها مدونة في صحائفكم وتشهد بها عليكم جوارحكم، وقال مجاهد: ما لكم من ناصر ينصركم، وقيل: النكير بمعنى المنكر.
(إن) أي ما (عليك إلا البلاغ) لما أمرت بإبلاغه وليس عليك غير ذلك، وهذا منسوخ بآية السيف، لأنه قبل الأمر بالجهاد (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة) أي إذا أعطيناه رخاء وصحة وغنى (فرح بها) بطراً ونعم الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، فلهذا سمى الإنعام إذاقة، والمراد بالإنسان الجنس ولهذا قال:
(وإن تصبهم سيئة) أي بلاء وشدة ومرض وفقر (بما قدمت أيديهم) من الذنوب وعبر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تزاول بها (فإن الإنسان كفور) أي كثير الكفر بما أنعم به عليه من نعمه غير شكور له عليها، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان، ولم يقل: فإنه كفور، بل وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم، كما قال (إن
الإنسان لظلوم كفار) والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغطيها، ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ تصرفه فقال:
(يخلق ما يشاء) من الخلق (يهب لمن يشاء إناثاً) بدل مفصل من مجمل أي لا ذكور معهن، قاله مجاهد والحسن والضحاك وأبو مالك وأبو عبيدة وقال ابن عباس يريد لوطاً وشعيباً لأنهما لم يكن لهما إلا البنات.
(ويهب لمن يشاء الذكور) أي لا إناث معهم، يريد إبراهيم لأنه لم يكن له إلا الذكور، قاله ابن عباس، قيل: وتعريف الذكور بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث، ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك فلا دلالة في الآية على المفاضلة، بل هي مسوقة لمعنى آخر، وقد دل على شرف الذكور قوله سبحانه:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله) وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرف الذكور على الإناث، وقيل: تقديم الإناث لكثرتهن بالنسبة إلى الذكور. وقيل: لتطيب قلوب آبائهن، وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى
(ويجعل من يشاء عقيماً) لا يولد له ذكر ولا أنثى، والعقيم الذي لا يولد له يريد يحيى وعيسى، قاله ابن عباس، وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل، وإنما الحكم عام في كل الناس، لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأشياء كيف يشاء، فلا معنى للتخصيص، يقال رجل عقيم، وامرأة عقيم، وعقمت المرأة تعقم عقماً، وأصله القطع، ويقال: نساء عقّم وعقماء (إنه عليم قدير) أي بليغ العلم عظيم القدرة.
(أو من وراء حجاب) كما كلم موسى يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب قال ابن عباس في الآية إلا أن يبعث ملكاً يوحي إليه من عنده، أو يلهمه فيقذف في قلبه. أو يكلمه من وراء حجاب، وقيل: المراد به أن السامع محجوب عن الرؤية في الدنيا.
(أو يرسل رسولاً) أي ملكاً (فيوحي) ذلك الملك إلى الرسول من البشر (بإذنه) أي بأمر الله وتيسيره (ما يشاء) أن يوحي إليه، قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام يلهمهم أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم، وتقدير الكلام ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحياً أو يكلمه من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً، ومن قرأ يرسل رفعاً أراد وهو يرسل فهو ابتداء واستئناف لها.
وقرأ الجمهور بنصب يرسل وبنصب فيوحي على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين على (وحياً) وحياً في محل الحال، والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً ولا يصح عطف أو (يرسل) على أن (يكلمه) لأنه يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً، وهو فاسد لفظاً ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف، وقرىء بالرفع وكذلك فيوحي بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير أو هو يرسل، كما قال الزجاج وغيره.
وجملة (إنه عليّ حكيم) تعليل لما قبلها أي متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أحكامه، قال المفسرون سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى فنزلت.
(وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني الصلاة، فسماها إيماناً، وذهب جماعة إلى أن الله لم يبعث نبياً إلا وقد كان مؤمناً به، وقالوا معنى الآية ما كنت تدري قيل الوحي كيف تقرأ القرآن؟ ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان؟ وقيل كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً وفي المهد.
وقال الحسين بن الفضل إنه على حذف المضاف، أي ولا أهل الإيمان، وقيل المراد بالإيمان، دين الإسلام، وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل
وعن علي قال: " قيل لمحمد ﷺ هل عبدت وثناً قط؟ قال: لا قالوا فهل شربت خمراً قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ وبذلك نزل القرآن ". (وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) (١).
(ولكن جعلناه نوراً) أي جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلاً على التوحيد والإيمان (نهدي به) المراد به الهداية الموصلة بدليل قوله (من نشاء) هدايته (من عبادنا) ونرشده إلى الدين الحق (وإنك لتهدي) أي كل مكلف فالهداية فيه أعم من التي قبلها قرأ الجمهور لتهدي على البناء للفاعل وقرىء على البناء للمفعول، وقرىء بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وفي قراءة أبيّ وإنك لتدعو (إلى صراط مستقيم) قال قتادة والسدي ومقاتل: وإنك لتدعو إلى الإسلام فهو الصراط المستقيم.
ثم بين الصراط المستقيم بقوله:
_________
(١) زاد المسير ٢٩٩.
(ألا إلى الله تصير) أي ترجع (الأمور) يوم القيامة لا إلى غيره، أي جميع أمور الخلائق بارتفاع الوسائط والتعلقات وعلى هذا المضارع على
قال سهيل بن أبي الجعد: أحترق مصحف ولم يبق منه إلا قوله (ألا إلى الله تصير الأمور) وغرق مصحف فانمحى كله إلا قوله ذلك والله أعلم القرطبي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة الزخرف(وهي تسع وثمانون آية)
قال القرطبي: هي مكيّة بالإجماع وبه قال ابن عباس، قال مقاتل إلا قوله (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) يعني فإنها نزلت بالمدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)