ﰡ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١)﴾.
[١] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بدأ سبحانهَ بحمدِ نفسِه تنبيهًا على أنَّ الحمدَ كلَّه لهُ، لا شريكَ له فيه، وتقدَّمَ تفسيرهُ في الفاتحة.
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ أي: اخترعَ وأوجدَ.
﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ خَصَّهما بالذِّكْرِ؛ لأنهما أعظمُ الموجودات، وجمعَ السمواتِ لأنها سبعُ طباق، ووَحَّدَ الأرضَ لاتِّصالِ بعضِها ببعضٍ طولًا وعرضًا.
﴿وَجَعَلَ﴾ أي: وخلقَ.
﴿الظُّلُمَاتِ﴾ الكفرَ.
﴿وَالنُّورَ﴾ الإيمانَ، وجمعَ الظلمةَ ووَحَّدَ النورَ؛ لأن التوحيدَ متحدٌ، والكفرَ مِلَلٌ، وهما كنايتان عنهما، وقالَ الجمهورُ من المفسرين: المرادُ بهما سوادُ الليلِ وضياء النهارِ، قال ابنُ عطيةَ: والنورُ هنا للجنسِ فإفرادُهُ بمثابةِ جمعِهِ (١).
﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بعدَ هذا البيان.
﴿بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ يُساوونَ بينهَ وبينَ أصنامهم، وأصلُ العدلِ: المساواةُ، وعن كعبٍ قالَ: "فاتحةُ التوراةِ فاتحةُ الأنعامِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلى
...
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)﴾.
[٢] ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ يعني: آدم عليه السلام، والخلقُ نسلُه، والفرعُ يضافُ إلى أصلِه، فلذلكَ خاطبَهم بالجمعِ إذ كانوا ولدَه، رُوي: "أن الله عز وجل بعثَ جبريلَ إلى الأرضِ ليأتيَهُ بطائفة منها، فقالتِ الأرضُ: إني أعوذُ باللهِ منكَ أن تنقصَ مني، فرجعَ ولم يأخذْ، قالَ: يا ربِّ! إنها عاذَتْ بك، فبعثَ ميكائيلَ فاستعاذَتْ، فرجعَ، فبعثَ اللهُ مَلَكَ الموتِ، فعاذَتْ منه بالله، فقال: وأنا أعوذُ باللهِ أن أخالفَ أمرَهُ، فأخذَ من وجهِ الأرضِ، فخلطَ الحمراءَ والسوداءَ والبيضاءَ، فلذلكَ اختلفَت ألوانُ بني آدمَ، ثم عجنَها بالماءِ العذبِ والملحِ والمرِّ، فلذا اختلفتْ أخلاقُهم، فقال اللهُ لملكِ الموت: رحمَ جبريلُ وميكائيلُ الأرضَ ولم ترحَمْها، لا جرمَ أجعل أرواحَ من أخلُقُ من هذا الطين بيدِكَ" (٢).
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: "خلقَ اللهُ آدمَ من ترابٍ، وجعلَه طينًا، ثم تركَهُ حتى كانَ حمأً مسنونًا، ثم خلقَهُ وصَوَّرَهُ وتركَهُ حتى كانَ
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٦).
﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلًا﴾ أي: قدَّرَ مدةً إلى الموتِ.
﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ من الموتِ إلى البعثِ، وهو البرزَخُ.
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ تشُكُّونَ في البعثِ لاستبعادِ الإيمانِ بعدَ نصبِ الدلائلِ.
...
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَهُوَ اللَّهُ﴾ المعبودُ.
﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾ المستحقُّ للعبادةِ، والمدُعوُّ بالألوهِيَّةِ.
﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ فلا يخفى عليه شيءٌ.
﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ تعملونَ من خيرٍ وشرٍّ، فيُثيبُ عليه، ويعاقِبُ.
...
﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (٤)﴾.
[٤] ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ﴾ يعني: أهلَ مكةَ.
﴿مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ كانشقاقِ القمرِ وآيِ القرآنِ.
﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ تارِكينَ لها غيرَ ملتفتينَ إليها.
...
[٥] ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ﴾ أخبارُ، جمعُ نبأ.
﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: سيعلمونَ عاقبةَ استهزائِهم إذا عُذِّبوا.
...
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٦)﴾.
[٦] ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أهلِ كلِّ عصرٍ، وهم الجماعةُ المقترنون في زمانٍ واحدٍ.
﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ أعطيناهم ما لم نُعْطِكُم.
﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: المطرَ.
﴿مِدْرَارًا﴾ أي: دارًا.
﴿وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ﴾ أي: تحثَ بساتينهم، فكفروا.
﴿فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا﴾ خَلَقْنا.
﴿مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ بَدَلًا منهم.
***
[٧] ولما قيلَ للنبيِّ - ﷺ -: لن نؤمنَ لكَ حتى تأتِيَنا بكتابٍ من عندِ اللهِ، ومعه أربعةٌ من الملائكةِ يشهدونَ عليه أنَّه من عندِ اللهِ، وأنَّك رسولُه، أنزلَ اللهُ تعالى:
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ﴾ (١) أي: مكتوبًا في صحيفةٍ.
﴿فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ ولم يقتصروا على الرؤية؛ لأن اللمسَ أنفى للشكِّ.
﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ تَعَنُّتًا وعِنادًا.
...
﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي: هلا أُنزل على محمدٍ.
﴿مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ لوجبَ العذابُ؛ فإنَّ سنةَ اللهِ جَرَتْ في الكفارِ بإهلاكهم عندَ وجودِ ما يقترحونَ.
﴿ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ﴾ لا يُمْهَلون طرفةَ عينٍ.
...
﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)﴾.
﴿مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ أي: على صورةِ رجلٍ؛ ليتمكَّنوا من رؤيتِه؛ لأن البشرَ يضعُفونَ عن مشاهدةِ الملائكِة.
﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أي: خَلَطْنا عليهم ما يخلِطون، وشَبَّهْنا عليهم، فلا يدرون أملكٌ هو أم آدميُّ؟!
...
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١٠)﴾.
[١٠] ثم قال مسليًّا نبيَّهُ - ﷺ -:
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما استُهْزئ بكَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَقَدُ اسْتُهْزِىَ) بضم الدال حيثُ وقع، وأبو جعفرٍ: بنصب الياءِ بغيرِ همزٍ (١).
﴿فَحَاقَ﴾ أحاطَ.
﴿بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: جزاءُ استهزائهم من العذابِ.
...
[١١] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ لهؤلاءِ المستهزئينَ:
﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ معتبرينَ.
﴿ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ الهالِكين قبلَكُم.
...
﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ توبيخًا للكفارِ:
﴿لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فإن سكتوا، كانت تقريرًا لهم.
﴿قُلْ لِلَّهِ﴾ ثم قالَ استعطافًا لهم ليؤمنوا:
﴿كَتَبَ﴾ أي: أوجبَ.
﴿عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ فلا يعاجلُهم بالعقوبةِ، في الحديثِ: "إنَّ رَحْمَتِي سَبقَتْ غَضَبِي" (١).
﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ اللامُ لامُ القسم، والنونُ نونُ التوكيدِ، مجازهُ: واللهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ.
﴿يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ فيجازيكُم على شِرْكِكُم.
﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ لا شكَّ فيه.
﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ غَبَنُوها؛ لاختيارِهم الكفرَ.
﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم محكومٌ عليهم بالعذابِ.
...
﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ﴾ أي: ما استقرَّ.
﴿فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ والمراد: ما سَكَنَ وما تحرَّكَ.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لكلِّ مسموعٍ.
﴿الْعَلِيمُ﴾ لكلِّ معلومٍ.
...
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤)﴾.
[١٤] ولما دُعِيَ النبيُّ - ﷺ - إلى الشركِ، قالَ تعالى:
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ.
﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ رَبًّا ومعبودًا.
﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مبدعِهِما بلا مثالٍ.
﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ﴾ أي: يرزقُ ولا يُرْزَقُ.
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
...
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ بعبادةِ غيرِه.
﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يعني: يومَ القيامة. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي) بإسكانِ الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)﴾.
[١٦] ﴿مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ﴾ يعني: العذابَ. قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يُصْرَفْ) بضمِّ الياءِ وفتحِ الراء، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (مَنْ يَصْرِفْ) بفتح الياء وكسر الراء (٣)؛ أي: من يصرفِ اللهُ عنهُ العذابَ.
(٢) انظر: المصادر السابقة.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠١)، =
﴿فَقَدْ رَحِمَهُ﴾ نَجَّاهُ وأنعمَ عليهِ.
﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾ النجاةُ الظاهرةُ.
...
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ أي: يُنْزِلْ بكَ يا محمدُ شدةً وبليةً.
﴿فَلَا كَاشِفَ﴾ لا دافعَ.
﴿لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ﴾ عافيةٍ ونعمةٍ.
﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من الخير والضرِّ.
...
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ القادرُ الغالبُ، والمرادُ بفَوْقَ: علوُّ القدرةِ والشأنِ؛ كقوله: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٧].
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ في أمرِه.
﴿الْخَبِيرُ﴾ بالعبادِ.
...
[١٩] ولما أتى أهلُ مكةَ رسولَ الله - ﷺ -، وقالوا: أَرِنا مَنْ يشهدُ بصدقِكَ، فإنا لا نَرى أحدًا يصدِّقُكَ.
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً﴾ أي: أيُّ شهيدٍ أعظمُ شهادةً؟ فإن أجابوك، وإلا.
﴿قُلِ اللَّهُ﴾ هو.
﴿شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ يشهدُ لي بالحقِّ، وعليكم بالباطلِ؛ لأنه سبحانه إذا كانَ الشهيدَ، كانَ أكبرَ شيءٍ شهادةً.
﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ﴾ لأخوِّفَكُم.
﴿بِهِ﴾ يا أهلَ مكةَ.
﴿وَمَنْ بَلَغَ﴾ أي: ومن بلَغَهُ القرآنُ إلى يومِ القيامةِ، وهو دليلٌ على أنَّ أحكامَ القرآنِ تعمُّ الموجودينَ وقتَ نزولِه ومَنْ بعدَهم، وأنه لا يُؤاخَذُ بها من لم يبلغْهُ، ثم استفهمَ مُوَبِّخًا فقالَ:
﴿أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى﴾ فإن شهدوا، فأنت.
﴿قُلْ لَا أَشْهَدُ﴾ مثلَ شهادتِكم.
﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: بل أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هوَ.
﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ يعني: الأصنامَ. واختلفَ القراءُ في (أَئِنَّكُمْ) فقرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ، ورُوَيْسٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الهمزةِ الأولى، وتسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ؛ أي: بينَ الهمزةِ والياء،
...
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراةَ والإنجيلَ.
﴿يَعْرِفُونَهُ﴾ أي: النبيَّ - ﷺ -.
﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ﴾ من الصبيانِ.
﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ غَبَنوها.
﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لتضييعِهم ما يُكتسَبُ به الإيمانُ.
...
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾ الافتراءَ العظيمَ من الكذِب.
﴿عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فأشركَ به غيرَه.
﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ يعني: القرآن.
...
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ مَنْ عَبَدَ ومَنْ عُبِدَ.
﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ﴾ آلهتُكم.
﴿الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنهم شركاءُ الله، فيشفعوا لكم؟ والزعمُ قولٌ بالظنِّ شبهِ الكذبِ، والمرادُ من الاستفهامِ: التوبيخُ. قرأ يعقوبُ: (يَحْشُرُهُمْ) (ثُمَّ يَقُولَ) بالياء فيهما، والباقون: بالنون فيهما (١).
...
﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ﴾ أي: قولَهم وجوابَهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير؛ لأنَّ الفتنةَ بمعنى الافتتانِ، وقرأ الباقون: بالتاء، لتأنيثِ الفتنة (٢)، وقرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع، وجعلوهُ اسمَ
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (١/ ٥٤٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٥٩).
و (فِتْنَتَهُمْ) الخبرَ (١).
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (رَبَّنَا) بالنصبِ على النداءِ المضافِ، وقرأ الباقونَ: بالخفضِ على نعتِ (واللهِ) (٢)، وجوابُ القسم.
﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ فَثَمَّ يُختم على أفواهِهم، وتشهدُ عليهم جوارحُهم.
...
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم عجبَ تعالى منهم فقالَ:
﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ باعتذارِهم بالباطلِ.
﴿وَضَلَّ﴾ ذهبَ.
﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يختلقونَ من الشركاءِ.
...
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)﴾.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٢)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٦١).
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ (١) حينَ تتلو القرآنَ.
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أغطيةً، جمعُ كِنان.
﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾ لئلَّا يفهموا القرآنَ.
﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ صمَمًا وثِقَلًا.
﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾ أي: دلالةٍ على صدقِكَ.
﴿لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا﴾ أي: ما القرآنُ.
﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ﴾ أباطيلُ.
﴿الْأَوَّلِينَ﴾ جمعُ أسطورة، وأُسطارة، وهو ما سُطرَ، وقيل: هي التُّرَّهاتُ.
...
﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ أي: عن القرآنِ والرسولِ واتِّباعِه.
﴿وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ بأنفسِهم؛ أي: يبعدونَ، فَيضِلُّون ويُضلون، نزلت في كفار مكة، وقال ابن عباس: نزلتْ في أبي طالبٍ، كان ينهى الناسَ عن أذى
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهم | حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا |
فَاصدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ | وَابْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا |
وَدَعَوْتنَي وَعَرَفْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي | وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا |
وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَلِمْتُ بِأَنُّه | مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا |
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارَ مَسَبَّةٍ | لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا (١) |
﴿إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي: لا يرجعُ وبالُ فعلِهم إلا عليهم.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنَّ ضررَهُ لا يتعدَّاهم إلى غيرِهم.
**
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ حُبسوا على الصراطِ، معناه: لو تراهُمْ في تلكَ الحالةِ، لرأيتَ عجبًا.
﴿فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ﴾ تمنيًّا للرجوعِ إلى الدُّنيا.
﴿وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قرأ العامةُ: (وَلاَ نُكَذِّبُ)
...
﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿بَلْ﴾ ردٌّ لقولهم؛ أي: ليسَ على ما قالوا: أنهم لو رُدُّوا لآمنوا، بل.
﴿بَدَا لَهُمْ﴾ أي: ظهرَ لهم.
﴿مَا كَانُوا يُخْفُونَ﴾ يُسِرُّونَ.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ من نفاقِهم وقبائحِ فعالِهم بشهادةِ جوارحِهم عليهم، فتمنَّوا ذلكَ ضَجَرًا، لا عَزْمًا على أنهم لو رُدُّوا لآمنوا.
﴿لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ من الكفر والمعاصي.
﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ في قولهم.
...
﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَقَالُوا﴾ عطفٌ على (لعادوا):
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ الضميرُ للحياةِ.
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ كما كانوا يقولونَ قبلَ معاينةِ القيامةِ.
...
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ أي: حُبِسوا للتوبيخِ والسؤال.
﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا﴾ أي: البعثُ والعذابُ.
﴿بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ إقرارٌ مؤكَّدٌ باليمينٍ.
﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بسببِ كفركم.
...
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (٣١)﴾.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ﴾ القيامةُ، وسميت ساعةً؛ لسرعةِ الحساب.
﴿بَغْتَةً﴾ فجأة.
﴿قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا﴾ ندامَتَنا.
﴿عَلَى مَا فَرَّطْنَا﴾ قَصَّرْنا.
﴿فِيهَا﴾ في الحياةِ الدنيا.
﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ﴾ آثامَهم.
﴿عَلَى ظُهُورِهِمْ﴾ قَيَّدَهُ بالظهرِ؛ لأن الحملَ غالبًا يكونُ عليه.
﴿أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أي: بئسَ الحملُ حملوا.
...
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ باطلٌ وغرورٌ.
﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الشركَ.
﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أنَّ الآخرةَ أفضلُ من الدنيا. قرأ ابنُ عامرٍ: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ) بلام واحدةٍ وجرِّ (الآخِرَةِ) إضافةً؛ أي: دارُ الساعةِ الآخرةِ، وكذلكَ هي في مصاحفِ أهلِ الشام، وقرأ الباقون: بلامينِ وتشديدِ الدالِ للإدغام، وبالرفعِ على النعتِ، وكذا هو في مصاحِفهم (١)، وسميتْ آخرةً؛
...
﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ولما قالَ أبو جهلٍ: إنَّا لا نكذِّبُكَ يا محمدُ، بل نكذِّبُ ما جئتَ به، نزلَ تسليةً له، ووعدًا ووعيدًا لهم:
﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ فيكَ، وفيما جئتَ به؛ من التكذيبِ؛ لأنَّهم إذا كذَّبوا ما جاءَ به، فقد كذبوه. قرأ نافع: (لَيُحْزِنُكَ) بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي، والباقونَ: بفتح الياء وضمِّ الزاي (٢)، وكلُّ ما جاءَ في القرآنِ بعدَ العلمِ لفظةُ (إِنَّ)، فهي بفتحِ الهمزةِ إلَّا في موضعين:
أحدُهما: هنا: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ والثاني:
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ في سورةِ المنافقين، وإنما كانَ كذلكَ في هذينِ
(١) انظر: المصادر السابقة.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٤، ٢٥٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٦٥).
﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ﴾ أي: في الحقيقةِ؛ إذْ جحدُهم عنادٌ؛ أي: إنما يكذِّبونَ اللهَ بجحدِهم. قرأ نافعٌ، والكسائيُّ: (يُكْذِبُونَكَ) بسكونِ الكافِ وتخفيفِ الذالِ؛ من الإكذابِ، وهو أن يجدَه كاذبًا، وقرأ الباقونَ: بالتشديدِ؛ من التكذيبِ، وهو أن ينسبَه إلى الكذب، ويقولَ له: كذبت (١).
﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ الدالةِ على صدقِك ﴿يَجْحَدُونَ﴾.
...
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ثم آنسَهُ بقوله:
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كَذَّبَهم قومُهم كما كَذَّبَكَ قومُكَ قريشٌ.
﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ الذي كُنَّا وعدْناهم به في قولنا: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر: ٥١]، وهذا تسليةٌ له.
﴿وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ المتضمنةِ للنصرِ.
﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ أي: من أخبارهم ما تسكنُ بهِ نفسُك.
...
[٣٥] وكان - ﷺ - يكرهُ كفرَهم، ويحبُّ مجيءَ الآياتِ لِيُسلموا، فنزل:
﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ﴾ عَظُمَ وشقَّ عليكَ.
﴿إِعْرَاضُهُمْ﴾ عن الإسلامِ.
﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ﴾ تطلبَ.
﴿نَفَقًا﴾ سَرَبًا تستترُ فيه.
﴿فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا﴾ مصعدًا.
﴿فِي السَّمَاءِ﴾ فتصعدَ فيه.
﴿فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ فافعلْ، ثم عَرَّفَهُ تعالى أنه ليسَ بيدِه شيءٌ من أمرِهم فقالَ:
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ مشيئةَ قدرةٍ وقهرٍ.
﴿لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ فآمَنوا كلُّهم، وهذا ردٌّ على القدريَّةِ المفوضةِ الذين يقولون: إن القدرةَ لا تقتضي أن يؤمنَ الكافرون، وإنَّ ما يأتيه الإنسانُ من جميعِ أفعالِه لا خلقَ لله فيه، تعالى اللهُ عن قولهم.
﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ ليسَ المرادُ لا تكونَنَّ ممن يجهلُ أنَّ اللهَ لو شاءَ لجمعَهم على الهدى؛ إذ فيه إثباتُ الجهلِ لصفةٍ من صفاتِ الله، وذلك لا يجوزُ على الأنبياء، وإنما المقصودُ وعظُه ألَّا يتشبَّهَ في أمرِه بسماتِ الجاهلين.
[٣٦] ثم أخبرَ أن حرصَه على هدايتِهم لا ينفعُ؛ لعدم سمعهم كالموتى بقولِه:
﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ يعني: المؤمنينَ الذين يقبلونَ ما يسمعونَ فينتفعونَ به.
﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يعني: الكفارَ.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ فيَجزيهم بأعمالِهم.
...
﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: رؤساءَ قريشٍ.
﴿لَوْلَا﴾ هلَّا.
﴿نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي: مما اقترحوه.
﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ تضطُّرهم إلى الإيمان؛ كنتق الجبل لبني إسرائيل. قرأ ابنُ كثير: (يُنْزِلَ) بالتخفيف، والباقون: بالتشديد (١).
...
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ تدبُّ على وجهها.
﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ في الهواء، وقيدَ بالجناح؛ لنفيِ المجاز؛ لأنه يقالُ لغير الطائر: طارَ: إذا أسرعَ.
﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ في كونها مرزوقةً مقدرًا (١) آجالُها.
﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: ما غفلْنا في اللوحِ المحفوظِ؛ لأن جميع الأشياء مكتوبةٌ فيه.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ قال ابن عباس: "حَشْرُهَا مَوْتُها" (٢)، وقال أبو هريرةَ: "يحشرُ اللهُ تعالى الخلقَ كلَّهم يومَ القيامةِ البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكلَّ شيءٍ، فيؤخذُ للجَمَّاءِ من القَرْناءِ، ثمَّ يُقال: كوني تُرابًا، فحينئذ يتمنَّى الكافرُ أنْ لو كانَ تُرابًا" (٣).
...
(٢) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١٢٨٦)، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٣/ ٢٦٧).
(٣) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٤/ ١٢٨٦)، والحاكم في "المستدرك" (٣٢٣١).
[٣٩] ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ مبتدأ، خبرُه:
﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ لا يسمعون خيرًا، ولا يقولونه.
﴿فِي الظُّلُمَاتِ﴾ في الضلالاتِ.
﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ﴾ مبتدأٌ، خبرُه:
﴿يُضْلِلْهُ﴾ بخذلانِه.
﴿وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بأنْ يرشدَه إلى الهدى.
...
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَرَأيْتكمْ) وَ (أَرَأَيْتُمْ) و (أَرَأَيْتَ) (أَفَرَأَيْتَ) بتسهيلِ الهمزةِ التي بعدَ الراء، وجعلِها بينَ الهمزةِ والألفِ تخفيفًا؛ لئلَّا يجتمعَ همزتان في فعلٍ مع اتصالِ الضميرِ به، وعن ورشٍ إبدالُها ألفًا، والكسائيُّ يُسقطها أصلًا حيثُ وقعَ، والباقونَ بتحقيقِها على الأصل، والتاءُ مفتوحةٌ مع الكافِ والهاءِ في الواحدِ والاثنينِ، وجمعِ المذكرِ والمؤنث، نحو: (أرأيتَكَ) (أرأيتكما) (١) (أرأيتكنَّ) (٢)، ولا محلَّ
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٢)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٨)، =
﴿إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ عندَ الموتِ.
﴿أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ أي: القيامةُ.
﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾ في صرفِ العذابِ عنكم.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنَّ الأصنامَ تنفعُكم؟ وجوابُه محذوفٌ؛ أي: فادعوهُ.
...
﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)﴾.
[٤١] ثم أخبر أنهم لا يدعونَ سواهُ في الشدائدِ فقالَ:
﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ بلْ تَخُصُّونَهُ بالدعاءِ.
﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي: ما تدعونَ إلى كشفِه.
﴿إِنْ شَاءَ﴾ أن يتفضَّلَ عليهم، ولا يشاءُ في الآخرةِ.
﴿وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ وتتركونَ آلهتكُمْ في ذلكَ الوقتِ.
...
[٤٢] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فلم يؤمنوا.
﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ بالشدَّةِ والجوعِ.
﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ المرضِ والزَّمانةِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي: يتوبون، والتضرُّعُ: السؤالُ بالتذلُّلِ.
...
﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿فَلَوْلَا﴾ فهلَّا.
﴿إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا﴾ عذابُنا.
﴿تَضَرَّعُوا﴾ فآمَنوا، معناه: نفيُ التضرعِ؛ أي: لم يتضرَّعوا إذْ جاءهم بأسُنا.
﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ فلم يؤمنوا.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي.
...
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ تركوا ما ذُكِّروا به من المواعِظِ والإنذارِ.
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا﴾ أُعْجِبوا.
﴿بِمَا أُوتُوا﴾ من النعمِ، وبَطِروا فلم يتوبوا.
﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ فجأةً.
﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ آيِسون، والإبلاسُ: الحزنُ المعترضُ من شدةِ اليأسِ، وأصلُه الإطراقُ ومن الحزنِ والندمِ.
...
﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ المتخلفُ في أدبارِهم؛ أي: استُؤْصِلوا فلم يبقَ لهم (٢) باقيةٌ.
﴿وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على إهلاكِهم.
...
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦)﴾.
(٢) "لهم" ساقطة من "ش".
﴿إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ﴾ أي: أَصَمَّكُم.
﴿وَأَبْصَارَكُمْ﴾ أَعماكُم.
﴿وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ فلا تفقهونَ شيئًا.
﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ بما أخذَ منكم.
﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ الدَّالة (١) على صدقِكَ.
﴿ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ﴾ يُعرضون عنها. قرأ ورشٌ (بِهُ انْظُرْ) بضم الهاء (٢)، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ورويسٌ بخلافٍ عنه: (يَصْدِفُوَن) بإشمامِ الصادِ الزايَ (٣).
...
﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً﴾ فجأةً.
﴿أَوْ جَهْرَةً﴾ معاينةً ترونَه، ثم استفهمَ مقرِّرًا فقال:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٨)، و"تفسير القرطبي" (٦/ ٤٢٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٦٩).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٠٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥١، ٢٥٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٧٠).
...
﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ﴾ المؤمنين بالجنةِ.
﴿وَمُنْذِرِينَ﴾ الكافرينَ بالنار.
﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ﴾ ما يجبُ إصلاحُه.
﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من العذابِ.
﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بفوتِ الثوابِ.
...
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَالَّذِينَ﴾ كفروا و:
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ﴾ يُصيبهم.
﴿الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ يكفرونَ.
...
﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)﴾.
[٥٠] ونزل حين اقترحوا الآيات:
﴿لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ مقدوراتُه، فأُنزِلُ ما اقترحتُموه.
﴿وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ فأخبرُكم به.
﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ فأقدرُ على ما لا يقدرُ عليه البشرُ.
﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ من الله، وذلك غيرُ مستحيلٍ في العقلِ مع قيامِ الدليلِ والحججِ البالغةِ.
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾ الكافرُ.
﴿وَالْبَصِيرُ﴾ المؤمنُ.
﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾ أنهما لا يستويانِ؟!
...
﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَأَنْذِرْ﴾ خَوِّفْ.
﴿بِهِ﴾ أي: بالقرآنِ.
﴿الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا﴾ يُبْعَثوا.
﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ واللفظُ يعمُّ كلَّ مؤمنٍ بالبعثِ من مسلمٍ ويهوديٍّ ونصرانيٍّ.
﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ أي: من دون الله.
﴿وَلِيٌّ﴾ قريبٌ ينفعُهم.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ فينزجروا.
﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)﴾.
[٥٢] ولما أُمِرَ - ﷺ - بإنذارِ غيرِ المتقين ليتقوا، أُمِرَ بعدَ ذلكَ بتقريبِ
المتقينَ، ونُهي عن طردِهم؛ تكريمًا لهم، وذلك أنه - ﷺ - كانَ قد عزمَ على إزالةِ بلالٍ وأصحابِه الفقراءِ من مجلسِه، ومجالسةِ الأقرعِ بنِ حابسٍ وأصحابِه رجاءَ حسنِ إسلامِهم، قالوا: وكتبَ لابنِ حابسٍ بذلكَ كتابًا، فنزل:
﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ (١) يعبدونَ.
﴿رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ والمرادُ: الدوامُ على ذلك. قرأ ابنُ عامرٍ (بِالغُدْوَةِ) بضمِّ الغينِ وسكون الدال، وواوٍ بعدها، وقرأ الباقون: بفتح الغين والدال، وألفٍ بعدها (٢).
﴿يُرِيدُونَ﴾ بعملِهم.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٢)، و"المحتسب" لابن جني (٢/ ٣٠٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٧١).
﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ إنْ حسابُهم إلَّا على الله.
﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: لا تُؤْخَذُ بحسابهم، ولا هم بحسابِكَ حتى يهمَّكَ إيمانُهم بحيثُ تطردُ المؤمنين طمعًا فيه.
﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ فتبعدَهم، جوابٌ للنفي، وهو قوله: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾.
﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ إنْ فعلتَ ذلكَ، جوالب النهي، وهو قوله: ﴿وَلَا تَطْرُدِ﴾ فدعاهم - ﷺ - وهو يقول: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾.
...
﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي: مثلَ ذلكَ الاختبار اختبرنا بعضَ الناسِ ببعضٍ، فابتلَيْنا الغنيَّ بالفقيرِ، والشريفَ بالوضيعِ، فإذا رأى الشرفاءُ والأغنياءُ الوضعاءَ والفقراءَ سبقوهم إلى الإيمانِ، تكَبَّروا، فكانَ ذلكَ فتنةً لهم، فذلك قولُه:
﴿لِيَقُولُوا﴾ يعني: المشركين.
﴿أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أي: أهؤلاءِ الذين أُنْعِمَ عليهم
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ استفهامٌ بمعنى التقرِير؛ أي: اللهُ أعلمُ بمَنْ يشكرُ الإسلامَ إذا هداه. قرأ السوسيُّ عن أبي عمرٍو: (بِأَعْلَمْ) بإسكانِ الميم عند الباء، وتقدم الكلامُ عليه في سورة البقرة.
...
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)﴾.
[٥٤] ثم أُمر - ﷺ - بالسلام عليهم إكرامًا لهم فقيل:
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ ثم قل لهم:
﴿كَتَبَ﴾ أي: أوجبَ.
﴿رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ فكان - ﷺ - إذا رآهم، بدأَهم بالسلامِ وقال: "الْحَمْدُ لله الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أَمَرَنِي أَنْ أَبْدَأَهُمْ بِالسَّلاَمِ" (١).
﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ﴾ أي: جاهِلًا بتحريمِهِ.
﴿ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ بعدَ عملِه المعصيةَ.
﴿وَأَصْلَحَ﴾ أخلصَ توبتَهُ.
﴿فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ،
...
﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ﴾ آياتِ القرآنِ في صفةِ المطيعين والمجرمين.
﴿وَلِتَسْتَبِينَ﴾ أي: ليظهرَ.
﴿سَبِيلُ﴾ طريقُ.
﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ العاصِين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء، و (سَبِيلَ) نصبٌ على خطابِ النبيِّ - ﷺ -؛ أي: لتعرفَ يا محمدُ طريقَ المجرمين، يقال: استنبتُ الشيءَ وَتَبيَّنْتُه: إذا عرفتُهُ، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ (وَلِيَسْتَبِينَ) بالياءِ (سَبيلُ) رفعٌ، وقرأ الباقون: (ولتستبينَ) بالتاء (سبيلُ) رفعٌ؛ أي: ليظهرَ ويتَّضح،
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٦/ ٤٣٦).
...
﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿قُلْ إِنِّي نُهِيتُ﴾ بما أُنزلَ عليَّ من الآياتِ في أمرِ التوحيدِ.
﴿أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ أي: تعبدون.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ﴾ في طردِ الفقراءِ وعبادةِ الأوثان.
﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا﴾ إنِ اتبعتُ أهواءكم.
﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ إن فعلتُ ذلك.
...
﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ ويقينٍ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٢٠٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٧٣).
﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذابِ.
﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ لا لي.
﴿يَقُصُّ الْحَقَّ﴾ من القضاءِ: الحكمِ؛ أي: يقضي القضاءَ الحقَّ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وعاصمٌ: (يَقُصُّ الْحَقَّ) بضمِّ القاف والصادِ المهملة مشدَّدًا؛ أي: يقولُ الحقَّ؛ لأنه في جميعِ المصاحفِ بغير ياء، ولأنه قالَ: (الحقَّ) ولم يقلْ: بالحق، وقرأ الباقون (يَقْضِ) بسكون القافِ وكسر الضادِ المعجمةِ (١)؛ من قضيتُ؛ أي: يحكمُ بالحقِّ؛ بدليل أنه قالَ:
﴿وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ أي: الحاكمين، وحذفتِ الياءُ لاستثقالِ الألف واللامِ؛ كقوله: ﴿صَالِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ١٦٣]، ونحوها، وأثبتَ يعقوبُ الياءَ وقفًا. والقضاءُ شرعًا: هو الإلزامُ وفصلُ الحكوماتِ، ومنصبُ القضاءِ فرضُ كفايةٍ بالاتفاق، ويجبُ على من يصلُحُ له إذا طلبَ ولم يوجد غيرُه ممَّنْ يوثَقُ به الدخولُ فيهِ بغيرِ خلافٍ، قال الإمامُ أحمدُ: إلا أن يشغلَهُ عمَّا هو أهمَّ منه. ويُشترطُ في القاضي: العدالةُ والاجتهادُ عندَ الثلاثةِ، وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ قضاءُ الفاسقِ، ولا ينبغي أن يُوَلَّى، ويجوزُ تقليدُ الجاهلِ؛ لأنه يقدرُ على القضاءِ بالاستفتاءِ، والأَوْلى أن يكونَ عالمًا.
ويجوز القضاء على الغائبِ عندَ الثلاثةِ خلافًا لأبي حنيفةَ.
ويصحُّ التحكيمُ لمن يصلحُ للقضاء بالاتفاق، واختلفوا في حكمِه، فقال أحمد: ينفُذُ حتى في حدٍّ وقَوَدٍ، فهو كحاكم الإمامِ مطلقًا، وقال مالكٌ: حكمهُ ماضٍ في الأموالِ، فلو حكمَ بقتلٍ، أو اقتصَّ أو حدَّ أو لاعَنَ أُدِّبَ ومضى ما لم يكنْ جَوْرًا بَيِّنًا، قالَ الشافعيُّ: يصحُّ مطلقًا في غيرِ حَدٍّ للهِ تعالى، وقال أبو حنيفة مثلَهُ، لكنْ إذا رُفعَ إلى حاكمٍ آخرَ أمضاهُ إن وافقَ مذهبَهُ، وإن لم يُوافقْه أبطلَه، والحكمُ شرعًا: أمرٌ ونهيٌ يتضمَّن إلزامًا.
...
﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ﴾ من العذابِ.
﴿لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي: لو كان عندي ما استعجَلْتُم به من العذابِ عندي، لأنزلتهُ وتخلَّصْتُ منكم.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ﴾ أي: بالمشركينَ، وبوقتِ عقوبتِهم.
...
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٥٩)﴾.
﴿لَا يَعْلَمُهَا﴾ أي: الطرقَ الموصلةَ إلى الغيبِ.
﴿إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ﴾ من المفاوِزِ والقِفارِ.
﴿وَالْبَحْرِ﴾ من القرى والأمصارِ خَصَّهما بالذكر لأنهما أعظمُ المخلوقاتِ المجاورةِ للبشرِ.
﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ﴾ يريدُ: ساقطةٍ وثابتةٍ.
﴿إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ مبالغةً في إحاطةِ علمِه بالجزئيات.
﴿وَلَا حَبَّةٍ﴾ من الحباتِ المعروفةِ.
﴿فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ﴾ بطونِها.
﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ﴾ قال ابنُ عباسٍ: "الرَّطْبُ الماءُ، واليابسُ الباديةُ" (١).
﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ أي: في اللوحِ المحفوظِ ليعتبرَ الملائكةُ بذلكَ، لا أنه سبحانه كتبَ ذلكَ لنسيانٍ يلحقُه، تعالى عن ذلكَ المعنى، ما من شيءٍ من الأشياءِ إلا وهو يعلمُه حيثُما كان.
...
[٦٠] ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ بأن يقبضَ أرواحَكم إذا نِمْتُم.
﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ﴾ كَسَبْتُم من الآثامِ وغيرِها.
﴿بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ أي: يوقظُكم بالنهار.
﴿لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ أي: يتمَّ، وهو مدةُ الحياةِ.
﴿ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ بعدَ المماتِ.
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ﴾ يخبرُكم.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بالمجازاةِ عليه.
...
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ تقدَّمَ تفسيرُه في أول السورة.
﴿وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾ ملائكةً، لكلِّ إنسانٍ مَلَكَينِ بالليلِ، ومَلَكَينِ بالنهارِ يحفظونَ أعمالَ بني آدم.
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ تقدَّم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتين من كلمتين في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ [النساء: ٥]، وكذلك (١) اختلافُهم ﴿جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾.
﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ أي: يُضَيِّقون وَيُقَصِّرون، ومعنى فَرَّطَ: قدم العَجْزَ.
...
﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿ثُمَّ رُدُّوا﴾ أي: جميعُ العباد.
﴿إِلَى اللَّهِ﴾ للحسابِ والجزاءِ.
﴿مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ أي: مالِكِهم ومتولِّي أمورِهم حقيقةً، والحق: اسمٌ من أسماءِ الله تعالى، والشيءُ الحقُّ: هو الثابتُ حقيقةً، ويُستعملُ في الصدقِ والصوابِ أيضًا، يقالُ: قَوْلٌ حَقٌّ؛ أي: صدق وصوابٌ.
﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ﴾ يومئذٍ لا حكمَ لغيرِه فيه (٢).
﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ يحاسبُ الخلائقَ في مقدارِ حلبِ شاة، لا يحتاجُ إلى فكرةٍ ولا عَدٍّ.
...
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣)﴾.
(٢) "فيه" ساقطة من "ت".
﴿مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ شدائِدهما، وكانوا إذا سافروا في البرِّ والبحرِ، وضلوا الطريقَ، وخافوا الهلاكَ، دعوا اللهَ مخلصينَ، فينجيهم، فذلك قولُه:
﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا﴾ علانيةً.
﴿وَخُفْيَةً﴾ سرًّا. قرأ أبو بكر عن عاصم: (خِفْيَةً) بكسر الخاء، والباقون: بضمها، وهما لغتان (٢).
﴿لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ﴾ خَلَّصنا (٣). قرأ عاصمٌ، وحمزة، والكسائيُّ، وخلفٌ: (أَنْجَانَا) بألفٍ بينَ النونِ والجيمِ من غير تاءٍ؛ أي: لئن أنجانا اللهُ من هذهِ الظلمةِ، وقرأ الباقون: بالياء، والتاءِ المفتوحة بينَ الجيم والنون، وكذلك هو في مصاحِفهم (٤).
﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لله تعالى، والشكرُ: هو معرفةُ النعمةِ معَ القيامِ بحقِّها.
...
(٢) المصادر السابقة.
(٣) "ت" و"ظ" و"ن": "خلصتنا".
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٩ - ٢٦٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٧٩).
[٦٤] ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا﴾ قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ. (يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد، والباقون: بالتخفيف (١).
﴿وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ﴾ أي: غَمٍّ.
﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ الأصنامَ به، وهي لا تضرُّ ولا تنفعُ.
...
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ الصيحةُ، والريحُ، والحجارةُ، والطوفانُ؛ كعادٍ وثمودَ وقومِ لوطٍ وقومِ نوحٍ وأصحابِ الفيل.
﴿أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الخسفُ والرجفةُ؛ كقارونَ وقومِ شُعيبٍ.
﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ يَخْلِطَكم فِرَقًا مختلفينَ.
﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ بالحربِ والقتلِ في الفتنةِ.
﴿انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ نبيِّنُ لهم بالحجَجِ والدَّلالاتِ.
﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ يفهمونَ ما هم عليه من الشركِ والمعاصي.
...
[٦٦] ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ﴾ أي: القرآنِ.
﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ الصدقُ لا محالةَ.
﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ بمسلِّطٍ أُلْجِئكم إلى الإيمانِ، إنما أنا منذرٌ.
...
﴿لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿لِكُلِّ نَبَإٍ﴾ خبر.
﴿مُسْتَقَرٌّ﴾ منتهى، فيتبين الصدقُ من الكذبِ، والحقُّ من الباطلِ.
﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تهديدٌ.
...
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ﴾ بالاستهزاءِ.
﴿فِي آيَاتِنَا﴾ يعني: القرآنَ.
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ لا تجالِسْهم.
﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ غيرِ الاستهزاءِ.
﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ﴾ المعنى: إن شغلَكَ.
﴿الشَّيْطَانُ﴾ بوسوستهِ حتى تنسى النهيَ. قرأ ابنُ عامرٍ (يُنَسِّيَنَّكَ) بفتح
﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ أي: التذكرِ للنهيِ.
﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ بالتكذيبِ والاستهزاءِ.
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ولما تحرَّج المسلمونَ من مجالسةِ المشركينَ بعدَ النهي، نزل:
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الخوضَ.
﴿مِنْ حِسَابِهِمْ﴾ آثامِهم.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ أي: ما يلزمُهم بمجالسَتِهم إثمٌ يُحاسَبون عليه.
﴿وَلَكِنْ ذِكْرَى﴾ أي: عليهم أن يُذَكِّروهم بإظهارِ الكراهةِ لهم.
﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ الخوضَ.
...
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٦٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٣)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٨٠).
[٧٠] ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ﴾ أي: الذي كان يجبُ عليهم أن يَتَّخِذوه، وهو دينُ الإسلامِ والقرآنِ.
﴿لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ لأنهم كانوا إذا سمعوا القرآنَ، تلاعبوا استهزاءً ولهوًا عنهُ.
﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ حتى أنكروا البعثَ، المعنى: أعرضْ عن المشركينَ، ولا تلتفتْ إليهم.
﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ أي: بالقرآنِ.
﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ أي: مخافةَ أن تُسْلَم للهلاكِ.
﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ وأصلُ الإبسالِ: المنعُ، ومنهُ: أسدٌ باسلٌ، لأن فريستَه لا تُفْلِتُ منه.
﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ﴾ يدفعُ عنها العذابَ.
﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾ أي: تَفْتَدِ كلَّ فداءٍ.
﴿لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ﴾ إشارةً إلى الذين اتخذوا دينَهم لعبًا ولهوًا.
﴿الَّذِينَ أُبْسِلُوا﴾ ارتهنوا.
﴿بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ شديد الحرارةِ.
﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ بسببِ كفرِهم.
***
[٧١] قيل: ونزلَ لما دعا أبا بكر ابنُه عبدُ الرحمنِ إلى عبادةِ الأصنامِ:
﴿قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا﴾ إن عبدْناه.
﴿وَلَا يَضُرُّنَا﴾ إن تركْناه.
﴿وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا﴾ إلى الشركِ مرتدِّينَ.
﴿بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ بإنقاذِنا منه.
﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ﴾ هَوَتْ به؛ أي: طلبتْ هُوِيَّهُ وضلالَته. قرأ حمزةُ: (اسْتَهْوَاهُ) بألف ممالة (١).
﴿فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ﴾ متردِّدٌ، لا يدري أين يذهبُ.
﴿لَهُ أَصْحَابٌ﴾ على الطريقِ.
﴿يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾ يقولون له:
﴿ائْتِنَا﴾ ارجعْ إلينا، فلا يلتفتُ إليهم، وهذا مثلٌ ضربَهُ الله لمن يدعو إلى الآلِهة، ولمن يدعو إلى الله.
﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ يزجرُ عن عبادةِ الأصنامِ.
...
﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ﴾ أي: وأُمِرْنا بإقامةِ الصلاةِ وتقوى الله.
﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تُجمَعون يومَ القيامة.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي: حقًّا.
﴿وَيَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم.
﴿يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ والمعنى: فيكونُ جميعُ ما أرادَ من موتِ الناسِ وحياتِهم.
﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ﴾ أي: الواقعُ لا محالَة.
﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ يعني: ملكُ الملوك يومئذٍ زائلٌ، كقوله: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩]، والأمرُ للهِ في كلِّ وقتٍ، والصورُ: القَرْنُ الذي يُنْفَخُ فيه، وهو كهيئةِ البوق.
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي: ما غابَ عن العبادِ وما يشاهدونَه.
...
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ﴾ أي: واذكرْ إذْ قالَ.
﴿لِأَبِيهِ آزَرَ﴾ واسمُه تارحُ، وآزرُ لقبٌ، ومعناهُ: المعوجُّ، واشتقاقُه من الوِزْرِ: الإثم. قرأ يعقوبُ: بضمِّ الراء؛ يعني: يا آزَرُ، وقرأ الباقون: بالنصبِ في محل الخفضِ؛ لأنه أعجميُّ لا ينصرفُ (١).
﴿أَتَتَّخِذُ﴾ أي: تعبدُ.
﴿أَصْنَامًا آلِهَةً﴾ دونَ الله.
﴿إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ﴾ عن الحقِّ.
﴿مُبِينٍ﴾ ظاهرِ الدلالةِ. قرأ عاصمٌ، وخلفٌ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إنِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٤٨).
[٧٥] ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ﴾ أي: كما أريناهُ البصيرةَ في دينه، والحقَّ في خلافِ قومِه، نُريهِ.
﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: خلقَهما وخلقَ ما فيهما الدَّالِّ على الربوبيةِ والوحدانيةِ، رُوي أنه رأى جميعَ السمواتِ والأرضِ وما فيهما حتى العرش، وأسفل السفل، فرأى عاصيًا، فدعا عليه فهلك، ثم آخرَ فدعا عليه فهلك، ثم آخرَ فدعا عليه فهلكَ، ثم آخر فأراد أن يدعوَ عليه، فقال تعالى: أنت مُستجابُ الدعوةِ، فلم تدعُوَنَّ على عبادي، فإنما أنا من أعبدي علي ثلاثِ خلالٍ (١): إما أن يتوبَ إليِّ فأتوبَ عليه، وإما أن أُخرجَ منه نسمةً تعبدني، وإما أن يُبعثَ إليَّ، فإن شئتُ عفوتُ عته، وإن شئتُ عاقبته (٢).
﴿وَلِيَكُونَ﴾ عطفٌ على المعنى، معناه: نريهِ ملكوتَ السماواتَ والأرضِ؛ ليستدلَّ به.
﴿مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ من الموقنين، الموقنُ: العالمُ بالشيء عِلْمًا لا يمكنُ أن يطرأَ له فيه شكٌ.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٥٦ - ٢٥٧، ٢٦١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٣ - ١٠٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٨٤ - ٢٨٦).
[٧٦] ﴿فَلَمَّا جَنَّ﴾ أي: أظلمَ.
﴿عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ، وخلفٌ، وورشٌ، وابنُ ذكوانَ: (رأى كَوْكَبًا) و (رَأَى أَيْدِيَهُمْ) وشبهَه بإمالةِ الراءِ والهمزةِ حيثُ وقع، وافقَهم أبو عمروٍ في إمالةِ الهمزةِ فقط، ورُوي عن السوسيِّ أربعةُ أوجه: فتحُ الراءِ والهمزة وكسرُهما، وفتحُ الراء وكسرُ الهمزة، وعكسُه، ورُوي عن أبي بكر وجهان: كسرُ الراءِ وفتحُ الهمزة، وكسرهما، وروُي عن حمزةَ: كسرُ الراءِ وفتحُ الهمزة، والباقون: بفتحهما وكذلك (رَأَى الشَّمْسَ)، و (رَأَى الَّذِينَ) في النحل، و (رَأَى المُجْرِمُونَ) في الكهف، و (رَأَى الْمُؤْمِنُونَ) في الأحزاب (١).
رُوي أن إبراهيمَ عليه السلامُ ولد في زمنِ نمرودَ بنِ كنعانَ بن سنحاريب بن كوش بن سام بنِ نوح، وهو أولُ من وضعَ التاجَ على رأسِه، ودعا الناسَ إلى عبادته، حُكي أنه رأى له منجِّموه أن مولودًا يولد له في سنةِ كذا في عملِه يكونُ خرابُ الملكِ على يديه، فجعل يتتبع الحبالى، ويُوكِّلُ بهنَّ حُرّاسًا، فمن وضعتْ أنثى تُركت، ومن وضعت ذكرًا حُمل إلى الملكِ فذبحه، وإنَّ أمَّ إبراهيم حملتْ به، واسمها يُوَنَّا، وقيلَ غيرُ ذلك، وكانت شابةً قويةً، فسترتْ حملَها، فلما قربَتْ ولادتُها بعثت تارح أبا إبراهيم إلى سفر، فمضى إليه، ثم خرجت هي إلى غار، فولدت فيه إبراهيمَ وتركَتْه في الغار، وكان مولدُه عليه السلام بكوثى، من إقليم بابل، من أرضِ العراقِ
﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي: غاب سَئِمَه.
﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ أي: لا أحبُّ ربًّا لا يدوم، وهذا يدلُّ على إعمالِ عقلِه وعلمِه؛ إذِ الآفلُ لا يجوز أن يكون إلهًا.
...
﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا﴾ طالِعًا أولَ طلوعِه.
﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ فأَتبعَهُ بصرَهُ.
﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ سئمَه ورجعَ بفكره متوجِّهًا إلى ربه، و ﴿قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي﴾ أي: يثبتْني على الهدى.
﴿لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ استعجز نفسَه، واستعاذ بربه في دركِ الحقِّ؛ لأن الهدايةَ والتوفيقَ بيده سبحانه.
...
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا﴾ أي: الطالعُ.
﴿رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ من الكواكبِ والقمر.
﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾ سَئِمَها وتوجَّه إلى ربِّه بقلبٍ سليم، ووَجَّهَ وجهَه للحقِّ
...
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ (وَجْهِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ مائِلًا إلى الحقِّ.
﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ فنقلَه اللهُ من علمِ اليقين إلى عينِ اليقين.
...
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ثم إن أباه ضمَّه إليه، فشبَّ شبابًا حسنًا، وروي أن القصةَ التي وقعتْ له في حال مراهقته، وأن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والقمرَ والكواكبَ، فأراد أن يُنبههم على الخطأ في دينهم، ويرشدَهم إلى الحقِّ من طريقِ النظرِ والاستدلال، فقاله على وجه الاستفهام والتوبيخِ لهم، وإقامةِ الحجةِ عليهم في عبادةِ الأصنامِ والكواكبِ؛ كأنه قالَ لهم: أهذا ربي بزعمكم؟! أو مثلُ هذا يكون ربًّا؟! ثم عرضَ إبراهيمُ عليه السلام
﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾ خاصَمُوه في دينه.
﴿قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ﴾ أتجادِلُونني في توحيدِ اللهِ.
﴿وَقَدْ هَدَانِ﴾ للتوحيدِ والحقِّ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (أَتُحَاجُّونِي) بتخفيف النون، بخلافٍ عن هشامٍ، والباقون: بتشديدِها إدغامًا لإحدى النونين في الأخرى، ومن خَفَّفَ حذفَ إحدى النونين تخفيفًا (٢)، وأثبت أبو عمروٍ، وأبو جعفرٍ الياءَ في: (هَدَانِي) وصلًا،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٦١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٤)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٨٦).
﴿وَلَا أَخَافُ مَا﴾ أي: الذي.
﴿تُشْرِكُونَ بِهِ﴾ أي: لا أخافُ معبوداتِكم؛ لأنها لا تضرُّ ولا تنفعُ، وذلك أنهم قالوا له: احذرِ الأصنامَ؛ فإنا نخافُ أن تمسَّكَ بسوءٍ من خَبَلٍ أو جنونٍ؛ لعيبِكَ إياها، فأجابهم بذلكَ.
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا﴾ أي: إلا أن يشاء أن يُلْحِقَني بشيء من المكروهِ بذنبٍ عملتُه، فتتمُّ مشيئتُه.
﴿وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ أي: أحاطَ علمُه بكلِّ شيء.
﴿أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ فتعرفونَ الحقَّ من الباطلِ.
...
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ﴾ ولا يتعلقُ به ضررٌ.
﴿وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا﴾ حجةً.
المعنى: لمَ تنُكرون عليَّ الأَمْنَ في محلِّه، ولا تنكرونَ على أنفسِكم الأمنَ في محلِّ العَطَبِ لأنكم تشركون باللهِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ صدقَ القول.
...
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] فقال الله تعالى قاضِيًا بينَهم:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا﴾ يَخْلِطوا.
﴿إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ بشركٍ.
﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فلما نزلتِ الآيةُ، شقَّ ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسولَ الله! فأيُّنا لم يظلمْ نفسَهُ؟ فقال: "ذَلِكَ إِنَّما هُوَ (١) الشِّرْكُ، ألمْ تسمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهْ: ﴿يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (٢) [لقمان: ١٣].
...
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)﴾.
[٨٣] ﴿وَتِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى ما احتجَّ به إبراهيمُ على قومِه من قوله:
(٢) رواه البخاري (٦٥٣٨)، كتاب: استتابة المرتدين، باب: ما جاء في المتأولين، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
﴿حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ﴾ حجةً.
﴿عَلَى قَوْمِهِ﴾ حتى خصَمَهم.
﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ بالعلمِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ يضعُ كلَّ شيء في موضعِهِ. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، ويعقوبُ: (دَرَجَاتٍ) بالتنوين، والباقون: بغير تنوين (١)، وتقدم اختلافُ القراءِ في حكمِ الهمزتينِ من كلمتينِ في سورةِ البقرةِ من تفسيرِ قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وكذلك اختلافُهم في (نشاءُ إِنَّ رَبَّكَ).
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ تقدَّم ذكرُهما في سورة البقرة.
﴿كُلًّا﴾ منهما.
﴿هَدَيْنَا﴾ ووفَّقْنا وأرشدْنا.
﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا﴾ أي: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ إبراهيمَ، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ آل عمرانَ.
﴿وَيُوسُفَ﴾ هو ابنُ يعقوبَ بنِ إسحقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهم السلام، ولد لما كان لأبيه من العمر إحدى وتسعون سنةً، ووقعَ له مع إخوته وفي ملكِ مصرَ ما سنذكرُه في سورةِ يوسفَ إن شاء الله تعالى، وعاش مئةً وعشرينَ سنةً، وبينَه وبينَ موسى أربعُ مئةِ سنةٍ، وتوفِّيَ بمصرَ، ودُفِنَ بها في وسطِ بحرِ النيلِ في صندوقٍ من الرخامِ، وذلك أنه لما ماتَ، تشاحنَ عليه الناسٌ حتى هموا أن يقتتلوا، كلٌّ يحبُّ أن يُدفنَ في محلَّتِهِ رجاءَ بركتِه، ثم رأوا أن يُدفنَ في النيل، فيمرَّ عليه الماءُ، ثم يصلُ إلى جميع مصرَ، فتعمُّهم بركتُه، ففعلوا ذلكَ، ولم يزلْ مدفونًا ثَمَّ حتى كانَ زمنُ موسى وفرعونَ، فلما سارَ موسى ببني إسرائيلَ، نبشَهُ كما تقدَّمَ ذكرُه ملخَّصًا في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [الآية: ٥٠]، وحَمَلَهُ على عجلٍ من حديدٍ، ودفنَه بحبرونَ (١) في البقيعِ خلفَ المغارةِ التي بُني عليها الحيزُ السليمانيُّ حذاءَ قبرِ يعقوبَ وجوارَ جَدَّيه إبراهيمَ وإسحاقَ عليهم السلام، وقيل: دُفن بقرب نابلسَ، والأولُ هو المشهورُ عندَ الناس، وقد استفاض فلم ينكرْ.
﴿وَمُوسَى﴾ تقدَّمَ ذكرُه في سورةِ البقرةِ.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: ونجزي المحسنين جزاءً مثلَ جزاءِ إبراهيمَ برفعِ درجاتِه وكثرةِ أولادِهِ والنبوةِ فيهم.
...
﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى﴾ تقدَّم ذكرُهم في آلِ عمرانَ، والمائدةِ، وفي ذكرِ عيسى دليل على أنَّ أولادَ البناتِ من الذريَّةِ، فإذا وقفَ على ذريتِهِ، دخلَ أولادُ البناتِ، وهو مذهبُ مالكٍ، وبه قالَ أبو يوسفَ، وعن أبي حنيفةَ روايتان، والراجحُ المقدَّم من مذهبِ أحمدَ المنصوصُ عنه أنهم لا يدخلونَ إلا بقرينة؛ كقوله: من ماتَ فنصيبُه لولده ونحوه، وعنه روايةٌ ثانيةٌ أنهم يدخلون، اختاره جماعةٌ من أصحابِه، وعليه العملُ.
﴿وَإِلْيَاسَ﴾ هو ابنُ بشرِ بنِ فنحاضِ بنِ العيزارِ بنِ هارونَ بنِ عمرانَ، أُرسل إلى أهلِ بعلبكَّ، وسيأتي ذكرُه في سورةِ الصافات إن شاء الله تعالى.
﴿كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الكاملينَ في الصلاحِ.
...
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ هو ابنُ إبراهيمَ، تقدَّمَ ذكرُه في سورة البقرة.
﴿وَالْيَسَعَ﴾ هو ابن أخطوبَ بن العجوزِ، استحفظَه إلياسُ على بني
﴿وَيُونُسَ﴾ هو ابنُ مَتَّى، وتقدَّمَ ذكرُه في سورةِ النساءِ.
﴿وَلُوطًا﴾ هو ابنُ هارانَ بنِ آزرَ، سمي لوطًا؛ لأنَّ حبَّه ليطَ بقلبِ عمِّه إبراهيمَ؛ أي: تعلَّق ولَصِقَ، وكانَ إبراهيمُ يحبُّه حبًّا شديدًا، وكان ممن آمنَ به، وهاجرَ معه إلى مصرَ، وعادَ إلى الشام، وأرسلهَ اللهُ إلى أهل سَدُوم، وكانوا أهلَ كفرٍ وفاحشةٍ، وسنذكر ملخَّصَ أخبارِهم في محلِّه إن شاء الله تعالى، وقبرُه في قريةِ كَفْرِ بَرِيك، [تبعدُ] (٢) عن حبرونَ نحوًا من فرسخٍ من جهةِ الشرق.
﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بالنبوَّةِ.
...
﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ﴾ عطفٌ على (كلًّا)؛ أي: وفضَّلْنا
(٢) لم ترد في جميع النسخ والسياق يقتضيها.
﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ واخْتَرْناهم.
﴿وَهَدَيْنَاهُمْ﴾ أرشَدْناهم.
﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ تكريرٌ لبيانِ ما هُدوا إليه.
...
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)﴾.
[٨٨] ﴿ذَلِكَ﴾ إشارةٌ إلى ما دانو به.
﴿هُدَى اللَّهِ﴾ دينُ الله.
﴿يَهْدِي﴾ يرشدُ.
﴿بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ لأنه المتفضلُ بالهداية.
﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا﴾ أي: المذكورونَ مع جلالةِ قدرِهم.
﴿لَحَبِطَ﴾ لبطلَ.
﴿عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وكانوا كغيرِهم في سقوطِ ثوابِ أعمالهم.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: الكتبَ المنزلةَ عليهم.
﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ الرسالةَ.
﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ أي: بهذهِ الثلاثةِ.
﴿هَؤُلَاءِ﴾ يعني: كفارَ مكةَ.
﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا﴾ أي: بمراعاتها.
﴿قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ يعني: الأنصارَ، وأهلَ المدينة، وقيلَ: الأنبياءُ الثمانيةَ عشرَ الذين ذكرَهم هاهنا، والباء في ﴿بكافرين﴾ زائدةٌ لتأكيدِ النفي، والمعنى: جميعُ مَنْ ذُكر وَفَّقْنا للإيمانِ بهذهِ الأشياءِ، وليسوا كافرينَ بها، بل يحفظونها.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ يعني: الأنبياءَ المتقدِّمَ ذكرُهم.
﴿فَبِهُدَاهُمُ﴾ فَبِسُنَّتِهم.
﴿اقْتَدِهْ﴾ اتبعْ طريقَتَهم في التوحيدِ والصبرِ على الميثاقِ دونَ الشرائعِ؛ لأنها مختلفةٌ، والهاءُ فيه هاء الوقف. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (اقْتَدِ قُلْ) بحذفِ الهاءِ في الوصل استغناءً به عنها، وقرأ ابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: بإشباعِ كسرةِ الهاءِ وصلتِها بياءٍ في الوصلِ، وهشامٌ: باختلاسِ كسرتها في الوصلِ بغيرِ صلةٍ تشبيهًا لها بما هو أصلٌ،
﴿قُلْ﴾ يا محمدُ لهؤلاءِ الكفرةِ المعاندينَ:
﴿لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ أي: القرآنِ.
﴿أَجْرًا﴾ جُعْلًا من جهتِكم كما لم يسألْ مَنْ قبلي من النبيينَ.
﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: القرآنُ.
﴿إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ أي: تذكيرٌ وعِظَةٌ لهم.
...
﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي: ما عظَّموه حقَّ عَظَمته فيما وجبَ لهُ، واستحالَ عليه.
﴿إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ رُوي أن مالكَ بنَ الصيفِ من أحبارِ اليهود ورؤسائهم جاء يخاصمُ النبيَّ - ﷺ - بزعمِه، فقالَ رسولُ الله - ﷺ -: "أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى! هَلْ تَجِدُ فِيهَا أَنَّ اللهَ يُبْغِضُ الحَبْرَ
﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾ يعني: التوراة.
﴿نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ﴾ نَيِّرًا وهادِيًا.
﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ﴾ دفاترَ مبدَّدة.
﴿تُبْدُونَهَا﴾ تُظهرون ما تحبون.
﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ من نعتِ محمدٍ - ﷺ -، وآيةِ الرجم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمروٍ: (يَجْعَلُونَهُ) (يُبْدُونَهَا) (وَيُخْفُونَ) بالغيبِ في الثلاثة؛ لقوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾، وقرأ الباقون: بالخطاب فيهن (٢)؛ لقوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾، وقولُه:
﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ بالخطابِ لليهودِ؛ أي: علمتم على لسانِ محمدٍ - ﷺ - ما لم تعلموا.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٦٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٩٢ - ٣٩٣).
﴿قُلِ اللَّهُ﴾ هذا راجع إلى قوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى﴾، فإنْ أجابوكَ، وإلا أنتَ: فـ ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أنزلَهُ.
﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ﴾ باطِلِهم وجهلِهم.
﴿يَلْعَبُونَ﴾ أي: لاعبينَ، ومعنىَ الكلامِ التهديدُ.
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩٢)﴾.
[٩٢] س ﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾ يعني: القرآنَ.
﴿أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ كثيرُ الفائدةِ والنفعِ.
﴿مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتبِ المنزلةِ قبلَه.
﴿وَلِتُنْذِرَ﴾ يا محمدُ. قراءة الجمهورِ: بالخطابِ للنبيِّ - ﷺ -، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بالغيبِ إخبارًا عنه - ﷺ - (١).
﴿أُمَّ الْقُرَى﴾ أصلَ البلادِ مكةَ.
﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ هم أهلُ شرقِ الأرضِ وغربِها.
﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أي: بالكتابِ.
﴿يُحَافِظُونَ﴾ يداوِمون.
...
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ونزل في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة حين زعم أنه نبيٌّ يوحى إليه:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى﴾ اختلق.
﴿عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فزعم أن الله بعثه نبيًّا.
﴿أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ وهو عبد الله بن سعد بن سرح، كان يكتب لرسول الله - ﷺ -، فلما نزلت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ فلما بلغ قوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قال عبد الله: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٢ - ١٤] تعجبًا من تفصيل خلق الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: "اكتبها، فكذلك أنزلت"، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقًا، لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبًا، لقد قلت كما قال، ولحق بالمشركين مرتدًا، ثم أسلم قبل الفتح والنبي - ﷺ - بمرِّ الظهران (١).
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد.
﴿إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ شدائده، وأصلُه من: غمرَ الشيءُ.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ لقبضِ أرواحِهم، ويقولون إزعاجًا لهم:
﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ أرواحَكم؛ لنقبضَها، والجوابُ محذوفٌ، أي: ولو تراهم في هذه الحالة لرأيت عجبًا.
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ أي: الهوانِ.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ من ادِّعاء الولدِ والشريكِ له، ودعوى النبوة والوحي.
﴿وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ تتعَظَّمونَ فلا تؤمنون.
...
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى﴾ وُحدانًا بلا مالٍ ولا شافعٍ، جَمعَ وحدان كسَكران، هذا خبرٌ من الله أنه يقولُ للكفارِ يومَ القيامة.
﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ على الهيئة التي ولِدتم عليها.
﴿وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾ في الدنيا بغيرِ اختياركم.
﴿وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ﴾ أي: الأصنامَ.
﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ﴾ للهِ.
﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، والكسائيُّ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (بَيْنَكُمْ) بنصبِ النونِ؛ أي: تقطَّعَ ما بينَكم من الوصلِ، وقرأ نافع والباقون: بضم النون؛ أي: تقطع (١).
﴿وَضَلَّ عَنْكُمْ﴾ ضاعَ وبطلَ.
﴿مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنها شفعاؤكم.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ أي: شاقُّهما بالنباتِ بينَ الزرعِ والنخلِ.
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ أي: البشرَ الحيَّ منَ النطفةِ الميتةِ.
﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ﴾ أي: النطفةَ الميتةَ من البشرِ الحيِّ، وكذلكَ الطيرُ منَ البيضِ، والحوتُ، وسائرُ الحيوان. قرأ نافع، وأبو جعفرٍ،
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ أي: المحيي المميتُ.
﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيفَ تُصرَفون عن الحقِّ إلى ضِدِّه؟
...
﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ أي: شاقُّه حينَ يتبيَّنُ الصبحُ.
﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾ يسكنُ فيه خلقُه. قرأ الكوفيون: (وَجَعَلَ) على الماضي (اللَّيْلَ) نصبًا اتِّباعًا للمُصحفِ، وقرأ الباقون: بالألف وكسر العين ورفع اللام وخفض (اللَّيْلِ) إضافةً (٢).
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ أي: عَلَمي حُسبانٍ يُعْلَم بدورِهما حسابُ الأوقات.
﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ﴾ الذي سَيَّرَهما.
﴿الْعَلِيمِ﴾ بتدبيرِهما.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٦٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٢٩٨).
[٩٧] ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ﴾ أي: خلقَها لكم.
﴿لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ﴾ الليلِ في.
﴿الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ لأن راكبَ البحرِ والسائرَ في القفارِ يهتدي بها في الليلِ إلى مقاصدِه.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ﴾ بيناها فَصْلًا فَصلًا.
﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فإنَّهم المنتفعونَ به.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ﴾ خلقَكُم، والإنشاءُ: إثباتُ شيءٍ لم يكنْ قبلَه.
﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني: آدمَ عليه السلام.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وروحٌ عن يعقوبَ: (فَمُسْتَقِرٌّ) بكسر القاف؛ أي: فمنكم مستقرٌ، ومنكم مستودعٌ، وقرأ الباقون: بفتحهما؛ أي: فمنكم مستقَرٌّ ومستودَع، والمستقَرُّ: أرحامُ الأمهاتِ، والمستودعُ: أصلابُ الآباء، وقيلَ غيرُ ذلك، واتفقوا على فتح الدال من مستودَع (١)؛ لأن المعنى أن الله استودَعه، فهو مفعولٌ.
﴿الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ والفقهُ لغةً: الفهمُ.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
[٩٩] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: من السحابِ.
﴿مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾ أي: بالماءِ.
﴿نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ﴾ من النباتِ.
﴿خَضِرًا﴾ أي: زرعا رَطْبًا.
﴿نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا﴾ بعضُه فوقَ بعضٍ مثلَ سنابلِ البُرِّ والشعيرِ وسائرِ الحبوب.
﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا﴾ والطَّلْعُ: أولُ ما يخرجُ من ثمر النخلِ.
﴿قِنْوَانٌ﴾ جمعُ قِنْوٍ، وهو العِذْقُ.
﴿دَانِيَةٌ﴾ قريبةُ المتناوَلِ.
﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾ قرأ العامةُ: (جَنَّاتٍ) نصبًا عطفًا على (نَبَات)، وقرأ الأعشى عن عاصمٍ: (وَجَنَّاتٌ) بالرفعِ نَسَقًا على قوله: (قِنْوَانٌ) (١).
﴿مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ المعنى: مشتبهًا ورقُهما، مختلفًا ثمرُهما؛ لأنَّ ورقَ الزيتونِ يشبهُ ورقَ الرمان.
﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميم على جمع الثمار، والباقون: بفتحهما على جمع الثمرة (١).
﴿إِذَا أَثْمَرَ﴾ إذا خرجَ ثمرُه لا يكادُ ينتفعُ به.
﴿وَيَنْعِهِ﴾ نضجِه كيفَ يعودُ فخمًا ذا نفعٍ ولذةٍ.
وأما الحكمُ في بيعِ الثمرةِ منفردةً عن الشجرِ، فإذا بدا صلاحُها، جازَ بيعُها مطلَقًا، وبشرطِ التبقيةِ، وبشرطِ القطعِ عندَ الثلاثةِ، وعندَ أبي حنيفةَ يجبُ القطعُ في الحالِ، فإذا شرطَ التبقيةَ، بطلَ البيعُ، وإذا لم يبدُ صلاحُها، يجوزُ بيعُها إذا كانت منتفعًا بها بشرطِ القطعِ في الحال، فإن باعَ بشرطِ التبقية بطلَ البيعُ بالاتفاق، وإِن لم يشترط القطعَ، بطلَ عندَ الثلاثة، وقال أبو حنيفةَ: البيعُ صحيحٌ، ويؤمرُ بالقطعِ.
وأما الزرعُ إذا اشتدَّ حَبُّهُ، صحَّ بيعُه عند الثلاثةِ، وعندَ الشافعيِّ لا يصحُّ بيعُه دونَ سنبُلِهِ، ولامعَهُ في الجديدِ.
إذا أصابتِ الثمارَ جائحةٌ بأمرٍ سماويِّ، وهي التي لا صنعَ لآدميّ فيها، فهي من ضمانِ المشتري عندَ أبي حنيفةَ، والشافعيُّ لا يجبُ له وضعَ شيءٍ
﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ تنبيهٌ وتذكيرٌ، ونزلَ توبيخًا لمن أشركَ باللهِ، وردًّا عليه.
...
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ يعني: الكافرينَ صَيَّروا الجنَّ شركاءَ لله.
﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ يعني: وهو خلقَ الجنَّ.
﴿وَخَرَقُوا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفرٍ: (وَخَرَّقُوا) بتشديدِ الراءِ على التكثير، وقرأ الباقون: بالتخفيف، أي: اختلفوا (١).
﴿لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بل تخرُّصًا؛ كقولِ اليهود: عُزيرٌ ابنُ اللهِ، وقولِ النصارى: المسيحُ ابنُ اللهِ، وقولِ كفارِ العربِ: الملائكةُ بناتُ الله، ثم نَزَّهَ نفسَهُ.
...
﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: مبدِعُهما لا على مثالٍ سبقَ.
﴿أَنَّى﴾ أي: كيف.
﴿يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ زوجةٌ.
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ من المخلوقاتِ مع عدمِ حاجتِه إليها. قرأ أبو عمرو: (وَخَلَقَ كلَ شَيْءٍ) (وَخَلَقَ كلَّ دَابة) وشبهَه بإدغامِ القافِ في الكاف حيثُ تحرَّكَ ما قبلَها، فإن سكن ما قبلَها، لم يدغمها، نحو قوله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] وشبهِه.
﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه خافية.
...
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿ذَلِكُمُ﴾ إشارة إلى الموصوفِ بما سبقَ من الصفاتِ، وهو مبتدأ.
﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ فأطيعوهُ.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ رقيب على أعمالِكم، فيجازيكم عليها.
...
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ لا تحيطُ به.
﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ لا يفوتُه منها شيء، فيبصرُ ما لا يبصرُ خلقُه، وخلقُهُ لا يُبصرون ما يُبصرُ، والمعتزلةُ يتمسَّكون بظاهرِ هذهِ الآية في نفي رؤيةِ الله عَزَّ وَجَلَّ، ومذهبُ أهلِ السُّنةِ إثباتُ رؤيتِه سبحانه في الآخرةِ، جاء به القرآنُ والسنةُ، وعليه اتفاقُ الأئمة، قال الله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] وقال في الكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، وقال - ﷺ -: "إِنَكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيانًا" (١)، وقالَ مالكٌ: لو لم يرَ المؤمنونَ ربَّهم يومَ القيامةِ، لَمْ يُعَيِّروا الكفارَ بالحِجابِ، وقال أبو حنيفةَ: واللهُ تعالى يُرَى في الآخرةِ، يراهُ المؤمنونَ في الجنة بأعينِ رؤوسِهم بلا شُبهةٍ ولا كيفيةٍ، ولا يكونُ بينَه وبينَ خلقه مسافةٌ، وقال الشافعيُّ: لما حُجِبَ قومٌ بالسخطِ، دلَّ على أن قومًا يرونه بالرِّضا، وقال أحمدُ: إنَّ الله تعالى يتجلَّى
﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ الرفيقُ بعبادهِ.
﴿الْخَبِيرُ﴾ بهم.
...
﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ﴾ حُجَج.
﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ تبُصرون بها الهدى من الضلالة.
﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ أي: عرفَها، وآمنَ بها.
﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ عملَ.
﴿وَمَنْ عَمِيَ﴾ عنها، فلم يصدِّقْها.
﴿فَعَلَيْهَا﴾ فعلى نفسِه، ولها خسرَ.
﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أحفظُ عليكم أعمالَكم، إنْ عليَّ إلا البلاغ.
...
﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ نُبيِّنُها.
﴿وَلِيَقُولُوا﴾ أي: لئلا يقولوا.
﴿دَرَسْتَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو: بألفٍ بعدَ الدالِ وإسكانِ السينِ
﴿وَلِنُبَيِّنَهُ﴾ أي: القرآنَ.
﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الحقَّ من الباطلِ، فيسعدُ قوم، ويشقى آخرون.
...
﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ بالتديُّن به.
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ أي: منفردًا.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ لا تجادِلْهُمْ.
...
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ توحيدَهُمْ.
﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ مُراعِيًا أعمالَهم.
﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ مسلَّطٍ على إكراهِهم على الإِسلامِ.
...
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] قال قتادة: كانَ المسلمون يَسُبُّونَ أوثانَ الكفار، فنهاهم الله عن ذلك؛ لئلا يسبوا الله؛ لأنهم قومٌ جَهَلَةٌ، فقال تعالى:
﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي: المدعُوِّينَ آلهةً.
﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا﴾ اعتداءً وظلمًا.
﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بجهلٍ. قرأ يعقوبُ: (عُدُوًّا) بضمِّ العين والدال وتشديد الواو (١)، فلما نزلتْ قالَ - ﷺ -: "لا تَسُبُّوا رَبَّكُمْ"، ونهُوا عن سبِّ الآلِهة (٢)، وإن كانَ طاعة؛ لإفضائِه إلى مفسدةٍ أعظمَ منه، قال القرطبيُّ في "تفسيره": إنَّ الحكمَ بالنهيِ باقٍ في هذهِ الأمةِ، فمتى خِيفَ أنَّ الكافرَ يسبُّ الإِسلامَ والنبيَّ - ﷺ - واللهَ جَلَّ جلالُه، فلا يحلُّ لمسلم أن يسبَّ دينَهم،
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٢٣).
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كما.
﴿زَيَّنَّا﴾ لهؤلاء المشركين عبادةَ الأوثانِ وطاعةَ الشيطانِ.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ منَ الكفارِ.
﴿عَمَلَهُمْ﴾ وفيه ردٌّ على القدرية.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بالمحاسبةِ والمجازاةِ عليه.
...
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ولما طلبتْ قريشٌ منه - ﷺ - نزولَ الملائكةِ، وإحياءَ الموتى، وجَعْلَ الصَّفا ذهبًا، وحلفوا أنهم يؤمنونَ عند ذلك، وكان المؤمنون يحبون ذلك ليؤمنَ المشركون، نزل:
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ مجتهدينَ في الحلفِ.
﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ يا محمدُ.
﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ لا عندي، وهو القادرُ على المجيء بها، لا أنا.
﴿وَمَا﴾ استفهامٌ مبتدأ، خبرُه:
﴿أَنَّهَا﴾ أي: الآيةَ المقترحةَ.
﴿إِذَا جَاءَتْ﴾ الكفارَ (٢).
﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بها؛ لسبق علمِه بعدمِ إيمانهم. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، ويعقوبُ، وخلفٌ، وعاصمٌ بخلافٍ عن راويه أبي بكرٍ (إِنَّهَا) بكسرِ الألف على الابتداء، وقالوا: تمَّ الكلامُ عندَ قوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ)، وقرأ الباقونَ: بفتح الألف بمعنى لعلَّ، وقرأ ابنُ عامرٍ: (لا تُؤْمِنُونَ) بالتاءِ على خطاب الكفار، والباقون: بالياء على الخبر (٣).
...
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ أي: نحولُ بينهم وبينَ الإيمان، فلا يؤمنونَ عندَ نزول الآيات.
﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ﴾ أي: بما جاءهم.
(٢) "الكفار" ساقطة من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٦٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٠٨ - ٣٠٩).
﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ نَدَعُهم.
﴿في طُغْيَانِهِمْ﴾ ضَلالَتِهم.
﴿يَعْمَهُونَ﴾ يتمادَوْنَ عَمَهَةً لا يبصرون.
...
﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ﴾ فرأَوهم عيانًا.
﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ كما طَلَبوا.
﴿وَحَشَرْنَا﴾ جميعًا.
﴿عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ طلبوهُ.
﴿قُبُلًا﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء؛ أي: معاينةً، وقرأ الباقونَ: بضمهما؛ أي: أولًا (١).
﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ذلكَ.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ أنهم لو أوتوا بكلِّ آيةٍ، لم يؤمنوا، فيحلفون أنهم يؤمنونَ عندَ نزولِ الآياتِ، أو المؤمنون يجهلونَ أن الكافرينَ لا يؤمنون، فيطلبون نزولَ الآياتِ طمعًا في إيمانهم.
...
[١١٢] ثم سُلِّيَ رسول الله (١) - ﷺ - فقيلَ له:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾ [أي: كما جَعْلنا لك أعداءً، فكذلكَ جعلْنا لمن تقدَّمَكَ من الأنبياء، ثم فَسَّرَهُمْ فقال:] (٢)
﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ وللإنس شياطينُ كما أن للجنِّ شياطينَ، وكلُّ عاتٍ شيطانٌ، قال - ﷺ - لأبي ذَرٍّ: "هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللهِ مِنْ شَيْطَانِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ؟ "، قال: وهل للإنسِ من شياطين؟! قال: "نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِنْ شَياطينِ الْجِنِّ" (٣).
﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي: يوسوس ويلقي شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ، وبالعكسِ.
﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ﴾ مموَّه لا معنى تحتَه.
﴿غُرُورًا﴾ خدعا.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ أي: الإيحاءَ من الزخرفةِ والغرورِ وعداوةِ الأنبياءِ.
(٢) ما بين معكوفتين ساقط من "ت".
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٥/ ١٨٧)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٤٧٢١)، (٤٧٢١)، عن أبي ذر -رضي الله عنه-.
...
﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)﴾.
[١١٣] ﴿وَلِتَصْغَى﴾ لتميل.
﴿إِلَيْهِ﴾ أي: إلى زخرفِ القولِ.
﴿أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ﴾ لأنفسِهم.
﴿وَلِيَقْتَرِفُوا﴾ يكتسِبوا.
﴿مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ من الذنبِ.
...
﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)﴾.
[١١٤] ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ فيه إضمارٌ؛ أي: قل لهم يا محمَّد: أفغيرَ الله.
﴿أَبْتَغِي﴾ أطلبُ.
﴿حَكَمًا﴾ قاضيًا بيني وبينكم؛ لأنهم قد طلبوا منه قاضيًا يقضي بينهم وبينَه، فأجابهم به.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: القرآنَ.
﴿مُفَصَّلًا﴾ أي: مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ.
﴿يَعْلَمُونَ أَنَّهُ﴾ يعني: القرآن.
﴿مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: (مُنَزَّلٌ) بالتشديد مبالغة؛ لأنه نزلَ نجومًا متفرقةً، وقرأ الباقون: بالتخفيف، من الإنزال؛ لأنه نزلَ مرة واحدة إلى بيتِ العزة (١)، والمعنى: العالمون يعلمون أن القرآن منزلٌ من ربِّكَ.
﴿بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكِّينَ في أنهم يعلمون ذلك.
...
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)﴾.
[١١٥] ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ بالوعدِ والوعيدِ. قرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (كَلِمَةُ) على التوحيد، والباقون: (كَلِمَاتُ) بالجمع (٢).
﴿صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ فيما وعدَ، وعدلًا فيما حكمَ.
﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ لا رادَّ لقضائِه، ولا مُغَيِّرَ لحكمِه.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لما يقولون.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بما يُضمرون.
(٢) المصادر السابقة عدا "السبعة" لابن مجاهد.
[١١٦] ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: الكفارَ.
﴿يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَصرِفوكَ عن دينهِ.
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ وهو ظنُّهم أن آباءهم كانوا على الحقِّ.
﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ يَحْزِرون.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧)﴾.
[١١٧] ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ و (من) في محل نصب بنزع حرف الصفة؛ أي: بـ (مَنْ يَضِلُّ)، أو في محلٍّ رفعٍ بالابتداء، ولفظُه لفظُ الاستفهام، والمعنى: إن ربك هو أعلمُ أَيّ الناسِ يَضِلُّ عن سبيلِهِ.
﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أي: أعلمُ بالفريقين، فيجازي كلًّا بما يستحقُّه.
﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨)﴾.
[١١٨] ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ أي: كلوا مما ذُبح على اسمِ الله.
﴿إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ وذلك أنهم كانوا يُحَرِّمون أصنافًا من النَّعَمِ، ويُحِلُّون الأموات.
***
[١١٩] ثم وَبَّخَهم على تركِ الأكلِ منه فقالَ:
﴿وَمَا لَكُمْ﴾ وأيُّ مانعٍ لكم من.
﴿أَلَّا تَأْكُلُوا﴾ شيئًا.
﴿مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ من الذبائحِ.
﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرو: بضم الفاءِ والحاءِ وكسرِ الصادِ والراءِ على غير تسمية الفاعل؛ لقوله: (ذُكِرَ)، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وحفصٌ عن عاصم: (فَصَّلَ) و (حَرَّمَ) بالفتح فيهما؛ أي: فَصَّلَ اللهُ ما حرَّمَه عليكم؛ لقوله (اسمُ الله)، وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ: (فَصَّلَ) بالفتح، و (حُرَّمَ) بالضم (١)، وأرادَ بتفصيل المحرمات ما ذُكر في قولهِ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة: ٣].
﴿إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ من هذه الأشياءِ؛ فإنه حلال لكم عندَ الاضطرار.
قرأ أبو جعفرٍ بخلافٍ عنهُ: (اضْطِرِرْتُمْ) بكسرِ الطاء (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٢٦، ٢٦٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣١٥).
﴿بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ قوله بِتَشَهِّيهم من غيرِ تعلُّقٍ بدليلٍ يفيدُ العلمَ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ الذين يجاوزونَ الحلالَ إلى الحرام.
...
﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠)﴾.
[١٢٠] ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ سِرَّهُ وعلانيتهُ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ﴾ في الآخرةِ.
﴿بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ﴾ يكتسبون (٢) في الدنيا.
...
﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)﴾.
[١٢١] ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ من الميتاتَ وما في معناها من المنخنقةِ وغيرِها، وما ذُبح على اسمِ غيرِ الله.
﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: الأكلُ منه.
﴿لَفِسْقٌ﴾ لمعصيةٌ.
(٢) في "ن": "يكسبون".
﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ﴾ لَيوسْوِسونَ.
﴿إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾ المشركين.
﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ بقولهم: تأكلونَ ما قتلتُم أنتم وجوارُحُكم، وتدعونَ ما قتلَه الله؟! يعنونَ الميتة.
﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ في أكلِ الميتةِ.
﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ فيه دليلٌ على أن من أحلَّ شيئًا مما حرَّمَ الله، وحرَّم شيئًا مما أحلَّ الله، فهو مشركٌ.
...
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)﴾.
[١٢٢] ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا﴾ بالكفرِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مَيِّتًا) بالتشديدِ، والباقون: بالتخفيف (١).
﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا﴾ أي: الإيمانَ.
﴿يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ بينَهم متبصِّرًا به (١)، فيعرف الحقَّ من الباطلِ.
﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ أي: كمن هو في الظلماتِ.
﴿لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ يعني: في ظلمةِ الكفرِ.
﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الكفرِ والمعصيةِ.
قال ابنُ عباسٍ: " ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا﴾ يريدُ: حمزةَ بنَ عبدِ المطلبِ رضي الله عنه، ﴿كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ يريدُ: أبا جهلِ بنَ هشامٍ، وذلك أن أبا جهلٍ رَمَى رسولَ اللهِ - ﷺ - بِفَرْثٍ، فأُخبرَ حمزةُ بما فعل أبو جهلٍ وهو راجعٌ من قَنْصِهِ، وبيدِه قوسٌ، وحمزةُ لم يؤمنْ بعدُ، فأقبلَ غضبانَ حتى علا أبا جهلٍ بالقوسِ وهو يتضرَّعُ إليه ويقولُ: يا أبا يَعْلَى! أَما تَرى ما جاءَ به؟ سَفَّهَ عقولَنا، وسبَّ آلهتَنا، وخالفَ آباءنا! فقال حمزةُ: ومَنْ أسفهُ منكم؟! تعبدونَ الحجارةَ من دونِ اللهِ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، فأنزلَ الله هذه الآيةَ" (٢).
...
(١) "به" ساقطة من "ت".
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٢٤).
[١٢٣] ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ أي: كما أن فُسَّاقَ مكةَ أكابرُها، كذلك جعلْنا فساقَ كلِّ قريةٍ أكابرَها؛ أي: عظماءها، جمع أكبر، وخَصَّ الأكابرَ بالذِّكر؛ لأنهم الصادُّونَ عن الدين، ثم قالَ معللًا:
﴿لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ بالصدِّ عن الإيمان، ورميِ النبيِّ - ﷺ - بالكذبِ والسحرِ.
﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ لأن وبالَ كفرِهم راجعٌ عليهم.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ بذلك.
...
﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)﴾.
[١٢٤] ولما قالَ الوليدُ بنُ المغيرةِ: لو كانتِ النبوةُ حقًّا، لكنتُ أَولى بها منك؛ لأني أكبرُ منكَ سنًّا، وأكثرُ منكَ مالًا، فقال أبو جهل: واللهِ لن نرضى به، ولن نَتَّبِعه أبدًا إلَّا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل:
﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ (١) حجةٌ على صدقِ محمدٍ - ﷺ -.
﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ: (رِسَالَتَهُ) بحذفِ الألفِ بعد اللام ونصبِ التاءِ على التوحيد، وقرأ الباقون: بالألف وكسر التاء على الجمع (١)؛ يعني: اللهُ أعلمُ بمن هو أحقُّ بالرسالةِ، ثم قال متهدِّدًا:
﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ من الكفار.
﴿صَغَارٌ﴾ أشدُّ الذلِّ.
﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ في الآخرة.
﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ الأسرُ والقتلُ ثم النار.
﴿بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ في الدنيا.
...
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)﴾.
[١٢٥] ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ﴾ ينوِّرْ قلبَهُ ويفتحْهُ.
﴿لِلْإِسْلَامِ﴾ فيتَّسعُ به، ويفسح فيه مجاله.
﴿حَرَجًا﴾ وهما لغتان؛ مثل: هَيْن، وهَيِّن، حَرَجًا: أشدَّ الضيقِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو بكرٍ: بكسرِ الراء، والباقون: بفتحِها، وهما لغتانِ أيضًا؛ مثل: الدَّنَف، والدَّنِف؛ يعني: لا ينورُ قلبَه، ولا يفتحُه لقبولِ الإِسلام.
﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ (يَصْعَدُ) بإسكانِ الصادِ وتخفيفِ العينِ من غيرِ ألفٍ، من الصعودِ، وقرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (يَصَّاعَدُ) بفتحِ الياءِ والصادِ مشدَّدةً وألفٍ بعدَها وتخفيفِ العين؛ أي: يتصاعَدُ، وقرأ الباقون: بتشديدِ الصادِ والعينِ من غيرِ ألفٍ؛ أي: يَتَصَعَّدُ (١)؛ يعني: يَشُقُّ عليه الإيمانُ كما يشقُّ عليه صعودُ السماء، وأصلُ الصُّعودِ: المشقةُ.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كهذا الجعلِ.
﴿يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ﴾ أي: العذابَ.
﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وأصلُ الرِّجْسِ في اللغة: النتنُ.
...
﴿وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)﴾.
[١٢٦] ﴿وَهَذَا﴾ أي: الذي أنتَ عليهِ يا محمدُ.
﴿مُسْتَقِيمًا﴾ لا اعوجاجَ فيه.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ فيعلمونَ أن القادرَ هو اللهُ.
...
﴿لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)﴾.
[١٢٧] ﴿لَهُمْ﴾ أي: المتذكِّرينَ.
﴿دَارُ السَّلَامِ﴾ الجنةُ؛ لأن كلَّ من دخلَها سَلِمَ من البلاء والرزايا.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي: مضمونة لهم عندَه أن يوصِلَهم إليها بفضله.
﴿وَهُوَ وَلِيُّهُمْ﴾ ناصرُهم.
﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يتولَّاهم في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرةِ بالجزاء.
...
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)﴾.
[١٢٨] ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ أي: واذكرْ يومَ نحشرُهم جميعًا. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ، وروح عن يعقوبَ: (يَحْشُرُهُمْ) بالياء، والباقون: بالنون (١).
﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ﴾ أي: ثم يقالُ: يا معشرَ الجنِّ، أي: الشياطينِ.
﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ﴾ أي: أولياءُ الشياطين.
﴿مِنَ الْإِنْسِ﴾ الذين أطاعوهُم:
﴿رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ بأن وافقَ بعضُنا ببعض (١).
﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا﴾ يعني: القيامةَ.
﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ﴾ مقامكم.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ أي: مدةَ العرضِ والحسابِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ﴾ في أفعالِه.
﴿عَلِيمٌ﴾ بأعمالِ الثقلينِ وأحوالِهم.
...
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)﴾.
[١٢٩] ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا﴾ نسلِّطُ بعضَهم على بعض.
﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ من الكفرِ والمعاصي.
...
﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (١٣٠)﴾.
[١٣٠] ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ أي: يومَ نحشرُهم نقولُ:
﴿يَقُصُّونَ﴾ يقرؤون.
﴿عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ كتبي.
﴿وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ يعني: يومَ القيامةِ.
﴿قَالُوا﴾ جوابًا.
﴿شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا﴾ أنهم قد بلغوا.
﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾ خَدَعَتهم.
﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ وظَنُّوا أنها تدومُ، فلم يؤمنوا.
﴿وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ ذَمَّهم على سوءِ نظرِهم وخطأ رأيِهم.
...
﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (١٣١)﴾.
[١٣١] ﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ من بعثِ الرسلِ والتعذيبِ.
﴿أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ أي: لم يهلكْ قريةً بشِرْكٍ.
﴿وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ لم يُنذرُوا ببعثِ رسلٍ تنذِرُهم.
***
[١٣٢] ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من العاملين.
﴿دَرَجَاتٌ﴾ جزاء.
﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾ من الثوابِ والعقابِ.
﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ فيخفى عليه عمل. قرأ ابنُ عامرٍ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (١).
...
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣)﴾.
[١٣٣] ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ﴾ عن خَلْقِه.
﴿ذُو الرَّحْمَةِ﴾ بأوليائِه.
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ يُهْلِككم، وعيدٌ لأهلِ مكةَ.
﴿وَيَسْتَخْلِفْ﴾ ينشئ.
﴿مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ﴾ خَلْقًا غيرَكم أمثلَ وأطوعَ.
﴿كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ يعني: أباءهم الماضين.
...
[١٣٤] ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ﴾ من مجيءِ الساعةِ.
﴿لَآتٍ﴾ كائنٌ، رُوي عن قنبل، ويعقوب: بالوقف بالياء على (لآتِي).
﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بغائبينَ.
...
﴿قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)﴾.
[١٣٥] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ:
﴿يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ تمكُّنكم. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: (مَكَانَاتِكُمْ) بالجمع؛ أي: حالاتكم، وقرأ الباقون: بالأول (١)، وهذا أمرُ وعيدٍ على المبالغةِ.
﴿إِنِّي عَامِلٌ﴾ ما أمرَني به ربي.
﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ أي: الجنة. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: بالياءِ على التذكير؛ لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي، والباقون: بالتاء لتأنيث العاقبة (٢).
(٢) المصادر السابقة.
...
﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (١٣٦)﴾.
[١٣٦] ﴿وَجَعَلُوا﴾ أي: مشركو العرب.
﴿لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ﴾ خلقَ.
﴿مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ وذلك أنهم كانوا يجعلونَ نصيبًا من زُروعهم وأنعامِهم لله، ونصيب منها لأصنامِهم، فنصيبُ اللهِ للضيفانِ والمساكينِ، ونصيبُ آلهتهم لخدمِها، فما سقطَ بهبوبِ الريحِ ونحوِه من نصيبِ الله في نصيبِ آلهتهم تُرِكَ، وقالوا: إنَّ الله غنيٌّ عن هذا، وما سقطَ من نصيبِ آلهتِهم في نصيبِ الله رُدَّ، ويقولون: هي محتاجة. قرأ الكسائئ: (بِزُعْمِهِمْ) بضم الزاي، والباقون: بفتحها، وهما لغتان (١)، وقولُه: (بزعمهم) تنبيه على أنَّ ذلك مما اخترعوه، لم يأمرهم به اللهُ.
﴿فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي: إلى الجهاتِ
﴿وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ﴾ إلى ما كانوا يصرفون نصيبَهم إليهم.
﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ بئس ما يقضونَ.
...
﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧)﴾.
[١٣٧] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ ومثلَ ذلكَ التزيينِ في قسمةِ القُرُبات.
﴿زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ﴾. قراءة العامَّة: (زَيَّنَ) بفتحِ الزاء والياء ونصبِ (قَتْلَ) مفعولًا صريحًا، وجرِّ (أَوْلادِهِمْ) إضافة، ورفعِ (شُرَكَاؤُهُمْ) فاعل (زَيَّنَ)؛ أي: شياطينُهم حَسَّنوا لهم وَأْدَ البناتِ، وهو دَفْنُهُنَّ في حياتهن خيفةَ العيلةِ، وقرأ ابنُ عامرٍ: بضمِّ الزايِ وكسرِ الياء مجهولًا، ورفعِ (قَتْلُ) ونصبِ دالِ (أَوْلادَهُمْ)، وخفضِ همزةِ (شُرَكَائِهِمْ) بإضافةِ (قتل) إليه (١)، كأنه قال: زُيِّنَ لكثيرٍ من المشركين قَتْلُ شركائِهم أولادهم، فُصِلَ بمنَ الفعلِ وفاعلِه بالمفعول به، وهم الأولادُ، وأُضيفت الفعلُ وهو القتلُ إلى الشركاء، وإن لم
﴿لِيُرْدُوهُمْ﴾ لِيُهلكوهم.
﴿وَلِيَلْبِسُوا﴾ لِيَخْلِطوا.
﴿عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ ويُدْخِلوا عليهم الشكَّ فيه.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ﴾ بَيَّنَ أن كفرَهم بمشيئة الله تعالى، وهو ردٌّ على القدريةِ.
﴿فَذَرْهُمْ﴾ يا محمدُ.
﴿وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ من الكذبِ؛ فإن الله لهم بالمرصادِ.
...
﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨)﴾.
[١٣٨] ﴿وَقَالُوا﴾ يعني: المشركين.
﴿هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ﴾ أي: حَرامٌ، المعنى: إنهم كانوا يُعَيِّنون أشياءَ لآلِهتهم، ويُحَرِّمونها، ويقولونَ:
(٢) في "ن": "شنع".
﴿بِزَعْمِهِمْ﴾ قرأ الكسائيُّ: بضمِّ الزايِ كما تقدم.
﴿وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا﴾ وهي البحائِرُ والسوائبُ والحوامي، وتقدَّمَ تفسيرُها في سورة المائدة.
﴿وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ وهي قربانُ آلِهتهم.
﴿افْتِرَاءً عَلَيْهِ﴾ لأن ما قالوه تَقَوُّلٌ عليه.
﴿سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي: بسببه.
...
﴿وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩)﴾.
[١٣٩] ﴿وَقَالُوا مَا﴾ أي: الذي.
﴿فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا﴾ كانوا يقولون في أَجِنَّةِ البحائرِ والسوائبِ: ما وُلد حيًّا، هو خالصٌ للذكور، وأَنَّثَ (خَالِصَةٌ) للتأكيد كالخاصَّةِ والعامَّةِ.
﴿وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا﴾ أي: نسائِنا.
﴿وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً﴾ أي: مما وُلد مَيْتًا، اشتركَ فيه الرجال والنساء (١) الإناثُ والذكور. قرأ ابنُ كثيرٍ: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير (مَيْتَةٌ) بالرفع؛
﴿فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ﴾ ولم يقل: فيها، وأرادَ: أن الرجالَ والنساءَ فيهِ شركاءُ.
﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ أي: جزاءَ وصفِهم للكذبِ على الله.
﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ﴾ في عذابِهم.
﴿عَلِيمٌ﴾ بأقوالهم.
...
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠)﴾.
[١٤٠] ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ:
﴿سَفَهًا﴾ جَهْلًا.
﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ نزلتْ فيمن كان يئدُ (٢) البناتِ أحياءً مخافةَ السبي والفقرِ.
﴿وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني: البحيرةَ والسائبةَ والوصيلةَ والحام.
﴿افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ﴾ حيثُ قالوا: الله أمرنا بذلك.
﴿قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى الحقِّ.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)﴾.
[١٤١] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ﴾ بساتينَ (٣).
﴿مَعْرُوشَاتٍ﴾ كالكرمِ ونحوِه.
﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ﴾ كالنخلِ ونحوِه.
﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ أي: ثمرُه وطعمُه. قرأ نافعٌ، وابنُ
(٢) في "ت" و"ظ": "يبيد".
(٣) "بساتين" ساقطة من "ن".
﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا﴾ في المنظرِ (٢).
﴿وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ في الطعمِ؛ مثل الرمانينِ، ولونهما واحدٌ، وطعمُهما مختلفٌ.
﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾ أمرُ إباحة. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميم، والباقون: بفتحهما (٣)، وتقدَّمَ تفسيرُ القراءتين في السورة.
﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ هي الزكاةُ المفروضةُ إن جعلت (٤) الآيةَ مدنيةً، وإن جعلتها مكية، فالمرادُ بحقِّه ما يُتَصَدَّقُ به على المساكين وقتَ الحصاد، والقولانِ منقولان، وكان ذلك واجبًا، فنسخ بالزكاة. قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ: (حَصادِهِ) بفتح الحاء، والباقون: بكسرها، ومعناهما واحد (٥).
﴿وَلَا تُسْرِفُوا﴾ في التصدُّقِ بإخراج جميعِ المال؛ كقوله: ﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩].
(٢) في "ن": "النظر".
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣، ١٠٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٠، ٢٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٢٦).
(٤) في "ن": "جعلنا".
(٥) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٧)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢١٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٢٧).
واتفقَ الأئمةُ على وجوبِ الزكاةِ في الحبوب كلِّها مما يُقتات به من القمحِ والشعيرِ والأرزِ ونحوِه، وعند مالكٍ والشافعيِّ تجبُ من الثمارِ في التمرِ والزبيبِ، وعندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ تجبُ فيهما وفي كلِّ مَكيلٍ يُدَّخَرُ؛ كاللوزِ والفستقِ والبندقِ ونحوِها.
واتفقَ مالك والشافعيُّ وأحمدُ على عدمِ وجوبِها في الفواكهِ والبقولِ والخضراواتِ، وقال أبو حنيفةَ بوجوبها فيها، وافقه (١) صاحباه في الثمار، وخالفاه في الخضراوات.
واختلفوا في وجوبها في الزيتونِ، فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ: تجبُ فيه، وقال الشافعيُّ في الجديدِ وأحمدُ: لا تجب.
واختلفوا في قدرِ النصابِ فيها، فقال أبو حنيفةَ: لا يُعتبر النصاب، وقال (٢): بل يجبُ العشرُ فيما قَلَّ أو كثرَ مما سَقَتْه السماءُ، أو سُقي بها، وما سُقِي بكُلْفةٍ؛ كالدواليبِ والدِّلاءِ وغيرِهما نصفُ العشر، وما سُقِيَ منهما يعتبرُ فيه أكثرُ السنة، فإن استويا، يجبُ نصف العشر، وقالَ الثلاثةُ وأبو يوسفَ ومحمدٌ: يعتبر النصابُ وقدرُه بعدَ التصفية في الحبوبِ، والجفافِ في الثمارِ خمسةُ أَوْسُق، والوسقُ ستون صاعًا، والصاعُ: خمسةُ أرطالٍ وثلث بالعراقيِّ، فيكونُ ذلك ألفًا وستَّ مئةِ رطلٍ عراقيٍّ، وألفًا وأربعَ مئةٍ وثمانيةً وعشرين رطلًا وأربعةَ أسباعِ رطلٍ مصريٍّ، وثلاثَ مئةٍ واثنينِ وأربعينَ رِطْلًا وستةَ أسباعِ رطلٍ دمشقيٍّ، ومئتين وخمسةً وثمانينَ
(٢) "وقال" زيادة من "ن".
واتفق القائلونَ باعتبارِ النصاب على أن الواجبَ فيما (١) سُقي بغير مؤنةٍ العشرُ، وفيما سُقي بكلفةٍ نصف العُشْرِ؛ يقول أبي حنيفةَ في القليلِ والكثيرِ، وفيما سُقي بهما، بحسابه، فإن سُقِيَ بأحدِهما أكثرَ من الآخر، اعتبر أكثرُهما نفعًا ونموًا للزرع (٢).
واختلفوا في وقتِ وجوبِ الزكاةِ، فقال أبو حنيفةَ: عندَ ظهورِ الثمرةِ، وقال أبو يوسفَ: عندَ الإدراكِ، وقال الثلاثةُ: عندَ اشتدادِ الحبّ وبُدُوِّ الصَّلاحِ في الثمر، ويستقر الوجوبُ بجعلِها في الجرينِ والبيدَرِ والمِسْطاحِ ونحوِها.
واختلفوا في وجوبِ الزكاةِ في العسل، فقال أبو حنيفة: فيه العشرُ، قَلَّ أو كثرَ إذا أُخِذَ من أرض العشرِ، وقال مالكٌ والشافعيُّ: لا زكاة فيه، وقال أحمدُ: فيه العشرُ إذا بلغ نصابًا، ونصابُه عندَهُ عشرة أفراقٍ، كل فرق ستة عشرَ رطلًا عَراقيةً، سواءٌ أخذه من أرضِ العشرِ أو غيرِها. والعشريةُ: ما أسلمَ أهلُها عليها؛ كالمدينةِ ونحوهِا، وما اختطَّه المسلمون كالبصرة ونحوِها، وما صولح أهلُه على أنه لهم بخراج يُضْرَبُ عليهم؛ كأرضِ
(٢) في "ن": "نمو الزرع".
واختلفوا هل تُضَمُّ الحنطةُ إلى الشعيرِ، والقطنياتُ بعضُها إلى بعضٍ في تكميل النصابِ؟ فأبو حنيفة على أصلِه في عدمِ اعتبارِ النصابِ، فيوجبُ الزكاةَ في قليلِه وكثيرِه، وقال مالكٌ: تُضَمُّ الحنطةُ إلى الشعير، والقطاني نوعٌ واحد يضمُّ بعضها إلى بعض، ويُخرج من كلِّ واحدٍ منها بحسابه، [وقال الشافعيُّ وأحمدٌ: لا يُضَمُّ جنس إلى آخرَ في تكميلِ النصاب] (١).
واختلفوا في الأرضِ الخراجيّة، وهي التي فُتحت عَنْوَةً، ولم تُقسمْ، وما جلا عنها أهلُها خوفًا منا، وما صُولِحوا على أنها لنا، ونقرُّها معهم بالخرَاج، هل يجتمعُ فيها العشرُ والخراجُ؟ فقال أبو حنيفةَ: لا يجتمعُ، وقالَ الثلاثةُ: يجتمع؛ لأنَّ الخراجَ في رقبتِها، والعشرَ في غَلَّتِها.
...
﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢)﴾.
[١٤٢] ﴿وَمِنَ الْأَنْعَامِ﴾ أي: وأَنْشَأَ من الأنعام.
﴿حَمُولَةً﴾ وهي ما يُحمَلُ عليه من الإبلِ الكبارِ.
﴿وَفَرْشًا﴾ وهي الصغارُ من الإبلِ التي لا تحملُ، سميت بذلك للطافةِ أجسامِها، وقربِها من الفرشِ، وهي الأرضُ المستويةُ التي يطؤها الناس.
﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أي: مما أحلَّ لكم منه.
﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوةِ.
...
﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣)﴾.
[١٤٣] ثم بَيَّنَ الحَمولةَ والفرشَ فقال:
﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أي: وأنشأَ من الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ، أي: أعدادٍ، يريدُ: الذكرَ والأنثى، والعربُ تسمي الواحدَ: زوجًا، إذا كانَ لا ينفكُّ عن الآخرِ، أجملَها أولًا، ثم فَصلَها ثانيًا، فقال:
﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ﴾ الكبشَ والنعجةَ، وهي ذواتُ الصوفِ من الغنم.
﴿وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ التيسُ والعنزُ، وهي ذواتُ الشعرِ من الغنم. قرأ أبو عمرو، ويعقوبُ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ (الْمَعَز) بفتح العين، والباقون: بإسكانها (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، =
﴿آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ﴾ عليكم، يعني: ذكرَ الضأنِ والمعزِ.
﴿أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ أي: أنثى الضأن والمعز.
﴿أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ وما حملَتْ إناثُ الجنسين، ذكرًا كان أو أنثى.
﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ﴾ فَسِّروا لي ما حَرَّمتم بتحقيق.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَنَّ الله حَرَّمَ ذلك.
...
﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤)﴾.
[١٤٤] ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ والكلامُ في الإبلِ والبقرِ كما سبقَ في الضأنِ والمعز. وأجمعَ القراءُ على مدِّ (آلذَّكَرَيْنِ)؛ لأنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على همزةِ الوصلِ؛ لتفرقَ بينَ الاستفهامِ والخبرِ، وأجمعوا على عدمِ تحقيقِها؛ لكونها همزةَ وصل، وهمزةُ الوصلِ لا تثبت إلا ابتداءً، وأجمعوا على تليينها، واختلفوا في كيفيته، فقال كثيرٌ منهم: تُبدلُ ألفًا خالصة، وقال آخرون: تسُهَّلُ بينَ بينَ. معنى الآية: إنكارُ أن الله حَرَّمَ شيئًا
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ﴾ الهمزةُ للإنكار، و (أم) بمعنى (بل)، المعنى: بل أكنتم حُضورًا.
﴿إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا﴾ التحريمِ، وهذا تجهيلٌ لهم، وتقدَّم اختلاف القراءِ في الهمزتين من (شُهَدَاءَ إِذْ) في سورة البقرة.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرِّمْ.
﴿لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ والمرادُ: عَمْرُو بنُ لُحَيٍّ ومَنْ تبعَه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.
...
﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)﴾.
[١٤٥] ثم بَيَّنَ أنَّ التحريم إنما يثبتُ بوحيِ اللهِ وشرعِه، فقال:
﴿قُلْ﴾ يا محمد:
﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ﴾ شيئًا.
﴿مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ﴾ آكلٍ.
﴿يَطْعَمُهُ﴾ يأكلُه.
﴿إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ الحرامُ والمحرَّمُ: هو الممنوعُ عنهُ، وحكمُه
﴿أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ مصبوبًا.
﴿أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ حرامٌ.
﴿أَوْ فِسْقًا﴾ عطف على ﴿لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾، وما بينهما اعتراض للتعليل.
﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ ذُبح على غيرُ اسمِ الله، وسُمي ما ذُبح على غير اسم الله فسقًا؛ لتوغُّله في الفسقِ.
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى أكلِ شيءٍ من هذه المحرماتِ، فأكلَ.
﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾ على مضطرٍ مثلِه.
﴿وَلَا عَادٍ﴾ قدرَ الضرورةِ.
﴿فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لا يُؤاخذه. وتقدَّم اختلاف القراء في قوله: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ﴾ ومذاهبُ الأئمةِ في حكمِ أكلِ الميتةِ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ [البقرة: ١٧٣].
[١٤٦] ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهودَ.
﴿حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وهو ما ليسَ بمفرقِ الأصابعِ؛ كالبطِّ، والإبلِ، والنعامِ، وقيلَ: كلُّ ذي مخلبٍ من الطيرِ، وحافرٍ من الدواب، لما ذكرَ الله عَزَّ وَجَلَّ ما حرَّمَ على أمةِ محمدٍ - ﷺ -، عَقَّبَهُ بذكرِ ما حَرَّمَ على اليهودِ تكذيبًا لهم في قولهم: إنَّ الله لم يحرمْ علينا شيئًا، وإنما نحنُ حَرَّمنا على أنفسِنا ما حرَّمه إسرائيلُ على نفسِه، وهذا التحريمُ تكليفُ بلوى وعقوبةٍ، فأولُ ما ذكرَ من المحرماتِ عليهم: كلُّ ذي ظفرٍ.
﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ وهي الثروبُ، وشحمُ الكليتين.
﴿إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ أي: ما علقَ بالظهرِ والجنبِ من داخلِ بطونهما. قرأ أبو عمرو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وورشٌ، وابنُ عامرٍ، وخلفٌ: (حَمَلَت ظُّهُورُهُمَا) وشبهَه بإدغامِ التاء في الظاء، والباقون: بالإظهار (١).
﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾ وهي المصارينُ.
﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ هو شحمُ الألية؛ لما فيها من العظم، هذا كله
﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ﴾ أي: تحريمُ الطيباتِ عقوبةٌ لهم.
﴿بِبَغْيِهِمْ﴾ بسببِ ظلِمهم؛ لأنها كانت حلالًا لهم، فلما عَصَوا بقتلِهم الأنبياءَ، وأخذِهم (١) الربا، واستحلالِ أموالِ الناسِ، حُرِّمَتْ عليهم.
﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فيما أخبرنا.
...
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧)﴾.
[١٤٧] ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾ فيما جئتَ به.
﴿فَقُلْ﴾ استعطافًا لهم.
﴿رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ﴾ حيثُ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ.
﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ﴾ عقابُه.
﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ حينَ ينزلُ.
...
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨)﴾.
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ من قبلُ.
﴿وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ من البَحائرِ والسوائبِ وغيرِها، فكأنهم جعلوا إقامتَهم على الشركِ وتحريمَهم ذلك بمشيئةِ الله، ولم يقولوا هذا القولَ تعظيمًا، بلْ سخريةً واستهزاءً وهم مكذِّبون.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: كهذا التكذيبِ الذي كذبوكَ.
﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأممِ الخاليةِ أنبياءَهم.
﴿حتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا﴾ عذابَنا المنزلَ عليهم.
﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ﴾ حجَّةٍ أو دليلٍ على صحةِ دعواكم.
﴿فَتُخْرِجُوهُ﴾ فتُظْهِروه.
﴿لَنَا﴾ ليثبتَ ما تدَّعونَ من الشركِ والتحريمِ.
﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾ من غيرِ علمٍ.
﴿وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ تكذِبون.
...
﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)﴾
[١٤٩] ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ التامَّةُ على خلقِه بالكتابِ والرسول.
﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ولكنْ شاءَ هدايةَ قومٍ وضلالَ آخرين، فيه دليلٌ على أنه لم يشأْ إيمانَ الكافرِ، ولو شاءَ، لهداه.
***
[١٥٠] ﴿قُلْ هَلُمَّ﴾ كلمة دعوةٍ إلى شيءٍ؛ أي: أَحْضِروا.
﴿شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ﴾ لكم.
﴿أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا﴾ الذي حَرَّمتموه.
﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ كاذِبينَ.
﴿فَلَا تَشْهَدْ﴾ يا محمدُ.
﴿مَعَهُمْ﴾ لا تصدِّقْهم، فهذا أمرٌ له - ﷺ -، والمرادُ غيرُه.
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ يشركون.
﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)﴾.
[١٥١] ولما سألوه وقالوا: ما الذي حرم الله تعالى؟ فقال تعالى:
﴿قُلْ تَعَالَوْا﴾ من العُلُوِّ، وأصلُها أن يقولَها مَنْ هو بمكانٍ عالٍ لمن هو بمكانٍ أخفضَ منه، فاتُّسِعَ فيه بالتعميم، المعنى: جيئوا.
﴿مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ عليكم يقينًا لا ظنًّا كما تزعمون.
﴿أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ أي: الزموا تركَ الإشراك، وداوموا على الإِسلام.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ أي: وأحسنوا بهم إحسانًا.
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ﴾ فقرٍ.
﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ أي: لا تئِدُوا بناتِكم خشيةَ العَيْلَة، وكان منهم مَنْ يفعلُ ذلكَ بالإناثِ والذكورِ خشيةَ الفقرِ.
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ يعني: العلانية.
﴿وَمَا بَطَنَ﴾ يعني: السرَّ، وكان أهلُ الجاهليةِ يستقبحون الزنا في العلانية، ولا يَرَون به بأسًا في السر، فحَرَّمه اللهُ سرًّا وعلانية.
﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ كقتلِ رِدَّةٍ وقصاصٍ أو رجمٍ.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي ذكرتُ.
﴿وَصَّاكُمْ﴾ أَمَرَكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ترشدُون.
...
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
[١٥٢] ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: بما فيه صلاحُه.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ الحلمَ، والأشدُّ جمعُ شَدٍّ، وهو استحكامُ قوةِ شبابهِ، وفي الكلامِ حذفٌ؛ أي: فإذا بلغَ أشدَّه، وأُويسَ رشدُه، فادفعوا إليه مالَه، وتقدَّمَ اختلاف الأئمةِ في حكمِ (١) البلوغِ والرشدِ في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولي تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٦].
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدلِ.
﴿لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أي: طاقتَها، المعنى: لِمَ نكلِّف المعطيَ أكثرَ مما وجبَ عليه، ولا نكلِّفُ صاحبَ الحقِّ الرِّضا بأقلَّ من حقَّهِ.
﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ فاصدُقوا في الحكمِ والشهادةِ.
﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ ولو كانَ المقولُ لهُ أو عليه من ذَوي قرابتِكم.
﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ عامٌّ في جميعِ ما عهدَه اللهُ إلى عباده.
﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ تتعظون. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ، وخلفٌ: (تَذْكُرُونَ) بالتخفيف على حذف إحدى التاءين، والباقون: بالتشديدِ حيثُ وقع (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٢).
[١٥٣] ﴿وَأَنَّ هَذَا﴾ الذي وُصِّيتُم به.
﴿صِرَاطِي﴾ طريقي.
﴿مُسْتَقِيمًا﴾ مستويًا، ﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَإِنَّ هَذَا) بكسرِ الألفِ على الاستئناف، وقرأ الباقونَ بفتحِ الألفِ، تقديرُه: ولأن هذا صراطي مستقيمًا، وقرأ ابنُ عامرٍ بسكونِ النونِ، وفتحِ الياءِ من (صِرَاطِيَ) وافقه يعقوبُ في إسكانِ النونِ (١)، واختلف راوياه، فقرأ رويسٌ (سِرَاطِي) بالسين (٢)، وروح: بالصاد.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ الطرقَ المختلفةَ في الأديانِ.
﴿فَتَفَرَّقَ﴾ تشتتَ.
﴿بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ دينه الذي ارتضى. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (فَتَّفَرَقَ) بتشديدِ التاء، والباقون: بالتخفيف (٣).
﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الضلالَ.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٤).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٥).
[١٥٤] ﴿ثُمَّ﴾ أي: ثم أخبرُكم أنا.
﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ يعني: التوراةَ.
﴿تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ﴾ أي: إتمامًا للنعمةِ عليه؛ لإحسانه في الطاعة.
﴿وَتَفْصِيلًا﴾ بيانًا.
﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاجُ إليه من شرائعِ الدينِ.
﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ هذا في صفةِ التوراة.
﴿لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ كي يؤمنوا بالبعث.
...
﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)﴾.
[١٥٥] ﴿وَهَذَا﴾ يعني: القرآن.
﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ كثيرُ النفعِ.
﴿فَاتَّبِعُوهُ﴾ واعملوا بما فيه.
﴿وَاتَّقُوا﴾ وأطيعوا.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ باتِّباعِه والعملِ به.
...
﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦)﴾.
﴿إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾ يعني: اليهود والنصارى.
﴿وَإِنْ﴾ أي: وقدْ.
﴿كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ﴾ قراءتهم.
﴿لَغَافِلِينَ﴾ لا نعلمُ ما هي.
...
﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)﴾.
[١٥٧] ﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾ وقد كان جماعةٌ من الكفارِ قالوا: لو أُنزل علينا ما أُنزل على اليهودِ والنصارى، لَكُنَّا خيرًا منهم، قال الله تعالى:
﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ حُجَّةٌ واضحةٌ بالغةٌ تعرفونها.
﴿وَهُدًى﴾ بيانٌ.
﴿وَرَحْمَةٌ﴾ نعمةٌ لمن اتبعه، وهو محمد - ﷺ -.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ﴾ أعرضَ.
﴿عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ﴾ بشدَّتِهِ.
﴿بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ﴾ يُعْرِضون.
***
[١٥٨] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون بعدَ تكذيبِهم الرسلَ، وإنكارِهم القرآنَ.
﴿إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ لقبضِ أرواحِهم. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَأْتِيَهُمُ) بالياء على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (١).
﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ هذا من المتشابِه الذي لا يعلمُ تأويلَه إلا اللهُ.
﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ طلوعُ الشمسِ من مَغْرِبِها.
﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: لا ينفُعُهم الإيمانُ عندَ ظهورِ الآيةِ التي تَضْطَرُّهم إلى الإيمانِ.
﴿أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا﴾ السابقِ لظهورِ الآياتِ.
﴿خَيْرًا﴾ توبةً.
﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ يا أهلَ مكةَ.
﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ وعيدٌ لهم، قال - ﷺ -: "ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ: الدَّجَّالُ، والدَّابّةُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ" (٢).
(٢) رواه مسلم (١٥٨)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه =
[١٥٩] ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ أي: جعلوا دينَ إبراهيمَ أديانًا مختلفة، فتهوَّدَ قومٌ، وتنَصَّرَ قومٌ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، (فَارَقُوا) بالألف؛ أي: خرجوا من دينهم وتركوه، وقرأ الباقون: بغير ألف مشدَّدًا على المعنى الأول (١).
﴿وَكَانُوا شِيَعًا﴾ صاروا فِرَقًا مختلفةً.
﴿لَسْتَ مِنْهُمْ﴾ أي: لستَ منَ السؤالِ عنهم.
﴿فِي شَيْءٍ﴾ والآيةُ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ.
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ﴾ يتولَّى جزاءهم.
﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ إذا وَرَدوا القيامةَ.
...
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)﴾.
[١٦٠] ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ أي: عشرُ حسناتٍ فَضْلًا من الله. قرأ يعقوبُ: (عَشْر) منونٌ (أَمْثَالُهَا) رفع على الوصفِ؛ أي: فله
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٨٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٨).
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ الثوابِ، وزيادةِ العقابِ.
...
﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١)﴾.
[١٦١] ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ بالوحْيِ والإرشادِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (هَدَانِي) بالإمالة (٢)، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٣).
﴿دِينًا قِيَمًا﴾ منصوبًا بِمُضْمَرٍ؛ أي: عَرَّفَني دينًا. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: بكسر القافِ وفتحِ الياء خفيفة، والباقون: بفتح القافِ وكسر الياءِ مشددةً، ومعناهما: المستقيم (٤).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٩).
(٣) كما تقدم. وانظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٣٩).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، =
﴿حَنِيفًا﴾ حال من إبراهيمَ.
﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ نفيٌ للنقيصةِ عنه - ﷺ -.
...
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢)﴾.
[١٦٢] ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي﴾ يعني: الذبيحةَ في الحجَ والعمرةِ.
﴿وَمَحْيَايَ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وورش بخلافٍ عن الثاني: (مَحْيَايْ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢)، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ: (مَحْيَايَ) بالإمالةِ (٣).
﴿وَمَمَاتِي﴾ قرأ نافع، وأبو جعفرٍ: بفتح الياء، والباقون بإسكانها (٤).
﴿لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: هو يُحييني ويُميتني.
...
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤٠).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤٠).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤١).
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٢٧٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٣٤١).
[١٦٣] ﴿لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ هو خالصةً له، لا أشركُ فيها غيرَه.
﴿وَبِذَلِكَ﴾ بالإخلاصِ.
﴿أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ من هذه الأمة؛ لأن كلَّ نبيٍّ إِسلامُه يتقدَّمُ على إسلامِ أمته. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (وَأَنا أَوَّلُ) بالمدِّ (١).
...
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤)﴾.
[١٦٤] ولما قالَ المشركونَ للنبيِّ - ﷺ -: ارجعْ إلى ديننا، فنزل:
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وما سواهُ مربوبٌ مثلي لا يصلُحُ للربوبية. ولما قالَ الوليدُ بنُ المغيرةِ: اتّبعوني أحملْ أوزارَكُم، نزلَ:
﴿وَلَا تَكْسِبُ﴾ لا تجني.
﴿كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا﴾ إلا كانَ الإثمُ على الجاني.
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لا تحملُ حاملةٌ حملَ غيرِها، وأصلُ الوزرِ: الثِّقلُ.
﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ﴾ يومَ القيامةِ.
﴿بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بتمييزِ المحقِّ من المبطلِ.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)﴾.
[١٦٥] ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ﴾ جمعُ خليفةٍ، وهي النيابةُ عن الغيرِ؛ لأنَّ النبيَّ - ﷺ - خاتمُ الأنبياء، فخلفتْ أمتهُ سائرَ الأممِ بأنْ سكنوا الأرضَ بعدهم.
﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ في الخلقِ والرزقِ والعلمِ والدينِ.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ ليختبرَكُم.
﴿فِي مَا آتَاكُمْ﴾ من المالِ وغيرِه؛ ليظهر لكم منكم المطيعُ من العاصي.
﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه، ووصفَ العقابَ بالسرعةِ؛ لأن ما هو آتٍ قريبٌ.
﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تابَ وأطاعَهُ، والله أعلمُ.
***