والبهائم والوحوش وغيرها، ثم يحصل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ليتخلص من العذاب المعدّ له، وما هو بنافعه، ويتمنى أن يعود للدنيا ليعمل صالحا ولا يجاب، ويتمنى أن يتوب ويعترف بما كذب بالدنيا ولا يرد عليه، فتلزمه الحسرة وخاصة عند ما يشاهد فوز المؤمنين وما صاروا إليه من النعيم، ثم يقع اللوم بينهم وبين رؤسائهم وأوثانهم ولا تنفعهم المحاججة والمخاصمة، فيزجون في جهنم أفواجا أفواجا وهم يتصايحون ولا محيص لهم عنها، ويستغيثون ولا مجيب ولا سميع إلا الإخساء والإذلال. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة النازعات عدد ٣١- ٧١- ٧٩
وتسمى سورة الطامة والساهرة. نزلت بمكة بعد سورة النبأ، وهي ست وأربعون آية، ومئة وسبع وتسعون كلمة، وسبعمئة وثلاثة وخمسون حرما، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالنَّازِعاتِ» الملائكة التي تنزع أرواح الكفرة نزعا شديدا بعنف وإهانة وقسوة كما تجر الشوكة من الصوف زيادة في تعذيبهم «غَرْقاً» ١ هو نزع من للنزع مبالغ فيه والإعراق في النزع التوغل فيه إلى بلوغ أقصى درجاته، وهو مفعول لاسم الفاعل قبله، أو مصدر من معناه كجلست قعودا، وقمت وقوفا، وشرط المفعول موجود هنا وهو اتفاق المصدر مع عامله لأنه بمعنى ما قبله، إلّا أنه ليس من لفظه، يقال أغرق النازع في القوس إذا اجتذبه وبلغ غاية المدّ فيه حتى انتهى إلى النصل، «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» ٢ الملائكة التي تشط أرواح المؤمنين فتسلتها سلّا كما تسحب الشعرة من الحليب والدلو من الماء بلين ولطف إكراما وتعظيما لشأنهم «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» ٣ الملائكة
التي تسبح في مضيّهم تنفيذ أوامر ربهم مسرعين متسابقين في الهواء والفضاء كما تسبح الحيتان بالماء
«فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» ٤ لقبض أرواح المؤمنين وإيصالها إلى الجنة بالاحترام والتكريم، واستخراج أرواح الكافرين وزجها في النار امتثالا لأمر ربهم وتعظيما لجلاله. هذا ويوجد لهذه الآية معان كثيرة غير ما ذكرنا لا حاجة لإثباتها اكتفاء بما نقلناه
«فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» ٥ من أمور العباد مما يعود لدينهم ودنياهم كما رسمه الله لهم، والوقف على كلمة أمرا لازم، لأن وصله بما بعده يصيّر كلمة
«يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» ٦ بسبب نفخ الملك بالصور النفخة الأولى إذ يضطرب لها كل شيء ويموت فيها جميع الخلق عدا من استثنى الله. ظرفا (للمدبرات) مع أنه قد انقضى التدبير، تدبر
«تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» ٧ النفخة الثانية فيحيا بها كل شيء مات من أول الدنيا لآخرها من قبل النفخة الأولى وفيها وما بعدها. وقد أقسم الله تعالى في هؤلاء الملائكة الكرام تبجيلا لشأنهم، وله أن يقسم بمن وما شاء من خلقه، أو لكثرة منافعهم بالنسبة لنا. وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن بعد الموت أيها الناس، وهو جواب لمنكري البعث من الكفار. وأعلم أن الخلائق تنقسم في ذلك اليوم المهول قسمين وقد بينهما بقوله جل قوله
«قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» ٨ خائفة قلقة وجلة
«أَبْصارُها خاشِعَةٌ» ٩ ذليلة حقيرة خاضعة
«يَقُولُونَ» أصحاب هذه القلوب والأبصار في الدنيا إذا قيل لهم أنكم مبعوثون بعد الموت
«أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» ١٠ أي الحالة الأولى كما كنا أول مرة أحياء إنكارا وتكذيبا وسخرية، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:
أحافرة على صلع وشيب | معاذ الله من سفه وعار |
ثم حكى الله أقوالهم في الدنيا بقوله عز قوله
«أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» ١١ زيادة في الإنكار والجحود والاستهزاء واستعظاما، أي كيف نردّ للحياة بعد أن آل أمرنا إلى ذلك
«قالُوا» مستكبرين أمر إعادتهم
«تِلْكَ إِذاً» إن صحت الرجعة فهي
«كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» ١٢ نغين فيها لتكذيبنا إياها. قال تعالى
«فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» ١٣ نفخة لا تكرار فيها للإماتة وواحدة للإحياء
«فَإِذا هُمْ» منكرو البعث مجموعون
«بِالسَّاهِرَةِ» ١٤ على وجه الأرض ظاهرين للعيان لا يسترهم شيء، وسميت ساهرة لأن نوم الحيوان وسهره عليها، قال أمية ابن الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر | وما فاهوا به أبدا مقيم |
وقال في الكشاف هي الأرض البيضاء المستوية الملساء لأن السراب يجري فيها أخذا من قولهم عين ساهرة أي جارية بالماء، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحى السراب مجللا | لإقطارها قد جبتها متلثما |
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين
«هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ١٥ مع قومه كيف كان يتحمل مشاقهم، أما يجدر بك يا سيد الرسل أن تكون مثله فتحمل أذى قومك وإهانتهم، ذكّره الله تعالى به تسلية له، ثم شرع يذكر بعض ما خوله إياه وما لقي من المرسل إليهم فقال اذكر لقومك شيئا عنه
«إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» ١٦ اسم لواد عند الطور وقال له
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» ١٧ على قومه وتجاوز حدودنا
«فَقُلْ» له
«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» ١٨ بحذف إحدى التاءين أي تتزكى من كفرك وسوء صنيعك إلى قومك
«وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ١٩ عقابه جعل الخشية غاية للهداية، لأنها ملاك الأمر، ولأن من خشي الله يؤمل فيه كل خير، ومن أمن منه اجترأ على كل شر، ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. أي استراح من وعثاء السفر في دنياه. فهنيئا لمن يبلغ منزله في الآخرة على رضى من ربه فيستريح الراحة الدائمة. وفي هذا الاستفهام ما لا يخفى من اللطف في الدعوة والاستنزال عن العتو، وإنما قدم التزكية على الهداية لأنها تخلية وهي مقدمة على التحلية، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الآية ٤٥ من سورة طه في ج ١. قال تعالى
«فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» ٢٠ وهي العصا يوم فضحت سحر السحرة وأجبرتهم على الإيمان بالله وبموسى
«فَكَذَّبَ» بها فرعون وملؤه لغاية فسقهم في العناد ولم يؤمنوا كما أرينا قومك آية انشقاق القمر فكذبوها ورموك بالسحر
«وَعَصى» ٢١
419
ربه وموسى كما عصى قومك ربهم وكذبوك، أي داوموا على عصيانهم ولم تؤثر بهم الآية العظيمة
«ثُمَّ أَدْبَرَ» عنه وعن الإيمان به وذهب
«يَسْعى» ٢٢ للإفساد في الأرض مثل قومك
«فَحَشَرَ» جمع جنوده وقومه
«فَنادى فَقالَ» ٢٣ فرعون في قومه بلا خجل ولا حياء
«أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ٢٤ والأصنام كلها أرباب لكم من دوني وكذلك الكواكب وأنا رب الجميع، قاتله الله، وهذا معنى العلو الذي أراده أمام قومه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، كما تقدم في القصة المارة في الآية ١٠٣ من سورة الأعراف ج ١ وغيرها
«فَأَخَذَهُ اللَّهُ» على الصورة المبينة في الآية ٦٣ من الشعراء في ج ١، وهذا الأخذ العظيم كان
«نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» ٢٥ أي عاقبتهما بأن أغرقه الله وقومه في الدنيا وأحرقهم في الآخرة، وفعلته الأولى هي تكذيبه موسى وإصراره على الكفر، والثانية قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فأذاقه الله عذاب الدنيا بالإغراق وسيذيقه عذاب الآخرة بالإحراق على الصورة المبينة في الآية ٩٨ من سورة هود المارة
«إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون وقومه
«لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» ٢٦ الله ويتقيه ومن لا، فلو أتيته بملء الدنا عظات وعبرا فلا تؤثر فيه لأن القلوب إذا قست كانت أشد من الحجارة، كما سيأتي في الآية ٧٥ من البقرة في ج ٣، وذلك لأن فرعون وقومه أرادوا بكل قواهم أن يدبروا أمرا ليتخلصوا من موسى فلم يقدروا فأهلكهم الله، وإن قومك يا محمد يريدون باجتماعاتهم ومذاكراتهم التخلص منك ولن يقدروا، وإذا أصروا فيكون مصيرهم مثل مصير قوم فرعون، وقل لهم يا سيد الرسل
«أَأَنْتُمْ» أيها الكفار المصرون على الإنكار
«أَشَدُّ خَلْقاً» إذا أردنا إحياءكم بعد الموت
«أَمِ السَّماءُ بَناها» ٢٧ على ما ترون وقد
«رَفَعَ سَمْكَها» سقفها إلى سمت العلو بغير عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية ١٠ من سورة لقمان
«فَسَوَّاها» ٢٨ جعلها مستوية لا شقوق فيها ولا فطور ولا تضلع فيها، راجع الآية ١٢ من سورة النبأ المارة
«وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلمه
«وَأَخْرَجَ ضُحاها» ٢٩ أبرز نهارها وعبر بالضحى عن النهار لأنه أكمل أجزائه في النور والضوء، وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان فيها، ولأن الليل
420
ظلمتها والنهار سراجها «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ» بعد خلق السماء وما فيها «دَحاها» ٣٠ بسطها ومدها، قال أمية بن الصلت:
دحوت البلاد فسويتها... وأنت على طيها قادر
وله من أمثال هذا كثير ومنه قوله:
وبث الخلق فيها إذ دحاها... فهم قطّانها حتى التنادي
ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: آمن شعر أمية وكفر قلبه. وقد ذكرنا في سورة السجدة المارة بأن لا تنافي بين هذه الآية الدالة على خلق الأرض قبل السماء لأنها تشير إلى أن الله تعالى خلق الأرض أولا بلا دحو، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض كما هو موضح هناك فراجعه.
ومن جملة دحوها أن «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها» إذ فجرها بالعيون والأنهار.
مطلب المياه كلها من الأرض وذم الهوى وانقسام الخلق إلى قسمين والسؤال عن الساعة:
تدل هذه الآية المارة على أن جميع المياه من الأرض يؤيدها الآية ٤٤ من سورة هود المارة، وتفهم أن ما ينزل من المطر هو ما يتبخر من الأرض أي من مياهها ورطوبتها وما يلتقمه السحاب من الأنهار والأبحر. وكانت العرب تعرف هذا لما ورد عنهم:
شربن بماء البحر ثم ترفعت... منى لجج خضر لهن أجيج
«وَمَرْعاها» ٣١ نباتها مما يرعاه الحيوان ويأكله الإنسان، ومن جملة دحوها أيضا «وَالْجِبالَ أَرْساها» ٣٢ أثبتها في الأرض وثقلها فيها لئلا تتحرك فتخلّ بمنفعة البشر، قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها... بأيد وأرسى عليها الجبالا
فانظروا أيها الكفرة هل خلق هذه الأشياء الجسيمة أعظم وأصعب أم إعادتكم بعد الموت، وليس عند الله صعب وأصعب، ولا هين وأهون، كما سيأتي في الآية ٢٧ من سورة الروم الآتية، لأن إيجاد الأشياء كلها وإعدامها مستو عنده إذ تكون بين الكاف والنون. وإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن هذه الأشياء كلها مما عدده هنا
وما لم يعدد خلقها
«مَتاعاً لَكُمْ» أيها الناس تتمتعون بها في حياتكم
«وَلِأَنْعامِكُمْ» ٣٣ متاعا أيضا لأنها خلقت لمنافعكم. ولما ذكر الله تعالى لمعة من بدء الخلق المشعرة عن توحيده بعد ذكر النبوة، أعقبها بذكر المعاد، لأنه أحد الأصول الثلاثة التي لا ينفك ذكر بعضها عن الآخر، كما أشرنا إليه في الآية ٢٨ من سورة النبأ المارة، فقال جل قوله
«فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» ٣٤ والداهية العظمى وهي القيامة التي تطم كل شيء لشدة هولها وكل شيء دونها
«يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ» فيها
«ما سَعى» ٣٥ في دنياه وكسبه من خير أو شر لا ينسى منه شيئا
«وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» ٣٦ فلا تخفى على أحد وهناك ينقسم الخلق إلى قسمين
«فَأَمَّا مَنْ طَغى» ٣٧ على الناس في دنياه وبغى على حقوقهم
«وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا» ٣٨ على الآخرة، وهذا هو القسم الأول المشار إليه في الآية ٧ المارة
«فَإِنَّ الْجَحِيمَ» المذكورة، وأظهرت بدل اضمارها لسبق ذكرها تهويلا لشأنها وتخويفا لأهلها. واعلم أيها القارئ أنه لا يأتي الاسم الظاهر مقام المضمر إلا لأمر ذي بال كما هنا، ومثله في القرآن كثير
«هِيَ الْمَأْوى» ٣٩ لهم لا ملجأ لهم غيرها. ثم ذكر القسم الثاني بقوله عز قوله
«وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ» بين يديه في موقف تلك الطامة وعلم أنه محاسب على ما يأتي ويذر في دنياه
«وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» ٤٠ فزجرها وكفّها عن الشهوات المحرمة خوفا من الله تعالى
«فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» ٤١ لهم يمرحون فيها كيفما شاءوا وأرادوا، وهذه الآيات الثلاث بمقابل الآيات الثلاث قبلها.
واعلم أن الخوف مقدم على العلم، قال الله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٣٨ من سورة فاطر في ج ١، ولما كان الخوف من الله سببا لدفع الهوى وهو علّة فيه، قدّمه عليه، فمن أعرض عن هوى نفسه وخالقها في مقامه هذا وعرف أنه يعاقب على الإقدام عليها ويثاب عن الإعراض عنها باعتقاد جازم كان مصيره الجنة عند ربه الذي خافه وترك شهوته من أجله، و (من) في الآيتين عامة في كل من يتصف بهما. والهوى مطلق الميل إلى الشهوات فهو يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الأخرى إلى الهاوية، فالسعيد من ضبط نفسه بالصبر
422
ووطنها على مخالفته، ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها الفانية، ولم يغتر بزخارفها وزينتها البالية، علما بوخامة عاقبتها، قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى. قال أبو عمران اليرتلي:
فخالف هواها واعصها إن من يطع | هوى نفسه تنزع به شر منزع |
ومن يطع النفس اللجوجة ترده | وترم به في مصرع أي مصرع |
وقال الأبوصيري:فاصرف هواها وحاذر أن توليه | إن الهوى ما تولى يصم أو يصم |
وراعها وهي في الأعمال سائمة | وإن هي استحلت المرعى فلا تسم |
كم حسنت لذة للمرء قاتلة | من حيث لم يدر أن السم في الدمم |
وخالف النفس والشيطان واعصهما | وإنّ هما محضاك النصح فاتهم |
هذا والسالم من موافقة هواه قليل، اللهم اجعلنا من القليل. قال: سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين، فطوبى لمن سلم منه. وقال عليه الصلاة والسلام ثلاث مهلكات: هوى مطاع، وشحّ متبع، وإعجاب المرء في نفسه. واعلم أن من اتبع هواه في واحدة جرته إلى وحدات، ومن المعلوم عدم إدراك كل ما يتمناه الإنسان مهما بلغ في الحياة، وعليه فالترك بالكلية أولى وأحسن قال:
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه | تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
وقال الآخر:وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا | لعينك يوما أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادر | عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
وقال غيره:جمع الهواء مع الهوى في مهجتي | فتكاملت في أضلعي ناران |
فقصرت بالممدود عن نيل المنى | ومددت في المقصور في أكفاني |
فالعاقل من يتباعد عن قليله فإنه يجره لكثيره، وهو لا يهدي إلا إلى الشر، وليس لمن تبعه عاقبة غير الهلاك، ويكفي في ذمه أنه ينشأ من شهوة النفس الخبيثة وطاعة الشيطان اللعين، قال ابن عباس: إن هذه الآيات نزلت في أبي عزير بن عمير
423
وأخيه مصعب، كان الأول طاغيا مؤثرا الدنيا على الآخرة، والثاني خائفا مقام ربه ناهيا نفسه عن هواها. وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق عنه الناس حتى نفدت المشاقص أي السهام في جوفه رضي الله عنه، فلما رآه صلّى الله عليه وسلم متشطحا في دمه قال عند الله احتسبك، وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب. ولما أسر أخوه أبو عزيز لم يشدد وثاقه إكراما له، وأخبر بذلك قال ما هو لي بأخ شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.
وعنه أيضا أنها نزلت في مصعب المذكور المعفور له المرضي عنه وفي أبي جهل المغضوب عليه المنفور منه، وقيل في النضر وابنه. والآيات عامات كما ذكرنا فيدخل فيها هؤلاء وغيرهم، إذ لا يوجد ما يقيدها بأحد، وذكرنا غير مرة أن نزول الآية لا يقصر معناها فيمن نزلت عليه أو فيه بل تعمه وغيره إذا لم يوجد مخصص. قال تعالى
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها»
٤٢ متى قيامها وإتيانها يا سيد الرسل لأنهم لا يعلمون
«فِيمَ أَنْتَ» في أي شيء أنت تنطلع إليها أتريد أن تعلم وقتها، كلا، فإنك وجميع الخلق بعيد
«مِنْ ذِكْراها» ٤٣ وبيان وقتها لأنك لست بالمبين زمنها لهم ولا بالعارف وقت قيامها، فقل لهم أنا لا أعلم عنها شيئا أبدا وقل
«إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» ٤٤ منتهى علمها عند الله فما هذا السؤال عنها وأنت من علاماتها لأنك خاتم الرسل، فوجودك دلالة على قربها، فليستعدوا لها
«إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» ٤٥ ولهذا بعثت لا لبيان وقتها. واعلم أن هؤلاء الكفرة الملحّين بالسؤال عنها
«كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم وقبورهم
«إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» ٤٦ أي بقدر زمن ضحى من يومها، لأن العشي لا ضحى له، وإنما الضحى لليوم، أي كان ما مرّ عليهم في حياتهم وبرزخهم بقدر هذا الجزء بالنسبة لأهوال ذلك اليوم وطوله. أخرج البزاز وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم- وصححه- عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه (فيم أنت من ذكراها) فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها. وأخرج النسائي عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فيم أنت من ذكراها)
424