ﰡ
[الآيات]
وَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلْمُطَفِّفِينَ
الَّذِينَ ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس سماهم سبحانه مطففين لأنهم يسرقون من الحقوق طفيفا اى قليلا حقيرا على وجه الدنائة والخساسة وهو من اخس الأفعال الذميمة وأدناها واخبثها. وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله خمس بخمس ما نقض العهد قوم الا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما انزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل الا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة الا حبس عنهم القطر والمطففون هم الذين إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اى أخذوا منهم لأنفسهم يَسْتَوْفُونَ الكيل ويزيدون على المكيال قليلا قليلا ترجيحا لأنفسهم عليهم
وَإِذا كالُوهُمْ اى للناس أَوْ وَزَنُوهُمْ لأجلهم يُخْسِرُونَ ينقصون منه قليلا قليلا ترجيحا لغبطتهم عليهم مع ان وضع الكيل والوزن انما هو للتسوية والتعديل. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والتشنيع
أَلا يَظُنُّ ولا يزعم ولا يشك أُولئِكَ المسرفون المفرطون بارتكاب هذه الخصلة الذميمة مع ان المناسب لهم ان يجزموا ويستيقنوا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم ما فيه من الشدائد والأهوال وانواع الافزاع والأحزان سيما على اهل العصيان والفساد إذ هم يومئذ يفتضحون على رؤس الاشهاد
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ بأجمعهم لأجل العرض لِرَبِّ الْعالَمِينَ ليحكم عليهم سبحانه بمقتضى السؤال والحساب اما بالجنة او بالنار. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا للمطففين بفجورهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة فيما بينهم بالقسط والعدالة يعنى كيف يخرجون عن مقتضاها إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ اى ما ثبت فيه من تفاصيل أعمالهم وأفعالهم وأخلاقهم وأطوارهم المذمومة كلها مضبوطة فيه محكوم عليهم من قبل الحق حينئذ بمقتضى ما ثبت في كتبهم وصحائف أعمالهم انهم لَفِي سِجِّينٍ اى مقرهم في الدرك الأسفل من النار ثم أبهمه سبحانه تهويلا وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها المسرف المفرط ما سِجِّينٌ ما لم تقع فيه ولم تذق من عذابه ونكاله وبالجملة كتاب الفجار
كِتابٌ وأى كتاب كتاب مَرْقُومٌ محرر مسطور بين الرقوم والرسوم يعرفه من نظر اليه ان لا خير فيه ولا نفع في ضمنه بل انما هو في بادى الرأى مشعر بأنواع العذاب والعقاب وبالجملة
وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ اى يوم اعطى ذلك الكتاب لِلْمُكَذِّبِينَ له في النشأة الاولى وبواسطة تكذيبهم وانكارهم به يرتكبون من الجرائم والمعاصي ما لا يعد ولا يحصى وبالجملة هؤلاء المسرفون المفرطون
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ والجزاء وبجميع الأمور الاخروية من السؤال والحساب وإعطاء الكتب وسائر المعتقدات الاخروية
وَبالجملة ما يُكَذِّبُ بِهِ سيما بعد نزول الآيات القاطعة والبراهين الساطعة الدالة على وقوع يوم القيامة والطامة الكبرى الموعودة من قبل الحق بالحق على اهل الحق إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن الحد في الإفراط والغلو منكر لكمال قدرة الله واحاطة علمه حتى أنكر القدرة على الإعادة مع ان الإبداء الابداعى
إِذا تُتْلى وتقرأ عَلَيْهِ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا واستقلالنا في عموم المرادات والتصرفات الواقعة في ملكنا وملكوتنا قالَ من فرط جهله ونهاية غفلته واعراضه عن الحق واهله ما هي الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أكاذيبهم المسطورة في دواوينهم المختلقة المختلفة. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا من هذا الافتراء والمراء على سبيل الإنكار والاستهزاء يعنى ما هذه الآيات البينات من المفتريات الباطلة كما زعمها أولئك البغاة الطغاة الهالكون في تيه البغي والطغيان وبيداء الغي والعدوان بَلْ رانَ يعنى بل قد ظهر وحدث في نفوسهم رين الغفلة وصدأ الجهل والضلال وازداد وغلب حتى علا واحاطه عَلى قُلُوبِهِمْ فكثفها وكدرها الى حيث اظلمها وسوّدها ولم يبق فيها لمعة من بياض نور الايمان وما ذلك الا بسبب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي والشهوات المذهبة لجودة الفطرة الاصلية والفطنة الجبلية التي فطروا عليها في اصل الخلقة. ثم قال سبحانه
كَلَّا ردعا لهم عن ارتكاب اقتراف الرين المصدئ بقلوبهم كيف يكسبونه مع انهم قد جبلوا على فطرة الايمان والتوحيد إِنَّهُمْ أولئك المفسدين المسرفين عَنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم لمصلحة المعرفة والايمان يَوْمَئِذٍ اى يوم اقتراف المعاصي الرائنة لَمَحْجُوبُونَ عن الله وعن ظهور نوره اللامع في صفائح الأنفس والآفاق مع انه لا سترة له سبحانه ولا حجاب في حال من الأحوال الا ان خفافيش بقعة الإمكان لا يرون شمس ذاته اللامعة بواسطة غيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة
ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ما حجبوا من الله وحرموا عن مطالعة وجهه الكريم لَصالُوا الْجَحِيمِ اى داخلوها وخالدون فيها ابدا
ثُمَّ يُقالُ لهم تعييرا عليهم وتشديدا لعذابهم من قبل الحق حينئذ هذَا العذاب هو العذاب الَّذِي قد كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في سالف الزمان مصرين على تكذيبه وإنكاره بل مستهزئين به متهكمين. ثم كرر سبحانه لفظة
كَلَّا ردعا لهم بعد ردع تقريعا وتأكيدا وليكون توطئة وتمهيدا لتعقيب وعيدهم بوعد المؤمنين مع ان في هذا التعقيب زيادة زجر وتقريع عليهم لما اقترفوا من الآثام والعصيان المؤدية لهم الى دار الندامة والحرمان فقال إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ اى ما كتب فيه عموم آثارهم الصالحة الصادرة عنهم ايمانا واحتسابا ثقة بالله وخوفا من غضبه محفوظ فيه جميع ما ذكر محكوم عليهم بمقتضى ما فيه انهم لَفِي عِلِّيِّينَ اى هم متمكنون في أعلى درجات الجنان وارفع غرفها ثم أبهمه سبحانه تعظيما وتفخيما فقال
وَما أَدْراكَ ايها البار المبرور ما عِلِّيُّونَ وما شأنه الرفيع ومكانة البديع وما فيه من اللذات الروحانية التي من لم يذقها لم يعرفها. رزقنا الله الوصول إليها والحصول دونها وبالجملة
كِتابٌ للأبرار كتاب مَرْقُومٌ بين الرقوم والرسوم بحيث
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ اى ارباب العناية والتوفيق فيعلمون من عنوانه ان ما فيه خير كله بمجرد رؤيتهم وشهودهم في بادى النظر وبالجملة
إِنَّ الْأَبْرارَ البارين على الله المبرورين بين الناس لَفِي
مقيم متكئين
عَلَى الْأَرائِكِ المصورة من صالحات أعمالهم وصفاء عقائدهم وأخلاقهم يَنْظُرُونَ الى ما يسرهم ويفرحهم من الصور الحسنة والمتنزهات البهية البديعة بحيث
تَعْرِفُ أنت ايها الرائي فِي وُجُوهِهِمْ في بادى الرأى نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وبريق الرضاء والتسليم ومع ذلك
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر من خمور المحبة والولاء مَخْتُومٍ مطبوع عليه حفظا له عن غيرهم بحيث لا يشمون روائحه أصلا
خِتامُهُ مِسْكٌ اى روائحه الواصلة إليهم منه قبل كشفهم عنه كالمسك بلا كراهة وبشاعة كخمور الدنيا وَفِي ذلِكَ اى في رحيق التحقيق وكأس المحبة والتصديق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ اى فليرغب الرغبون لنفاسته وسرعة سوغانه وانحداره وكمال لذته وذوقه
وَمِزاجُهُ اى ما يمزج به ويخلط من ماء المعارف منتشأ مِنْ تَسْنِيمٍ اى من مقام عال هو ينبوع بحر الوجود الذي هو عين الوحدة الذاتية الإلهية فكان
عَيْناً وأى عين عينا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ اى يشرب عنه بمائها وفراتها من تقرب نحو الحق باليقين الحقي فإنهم يشربون من عين الوحدة بلا مزج وخلط. أذقنا حلاوة نعيمك وبرد يقينك وشربة تسنيمك يا خير الرازقين
إِنَّ المشركين المسرفين الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالجرائم العظام الموجبة لانواع الانتقام من جملتها انهم قد كانُوا مِنَ المخلصين الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ويستهزؤن بفقراء المؤمنين
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
متهكمين يَتَغامَزُونَ
اى يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم كبرا عليهم وخيلاء
وَإِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمُ وأماكنهم دخلوا مع إخوانهم انْقَلَبُوا وصاروا فَكِهِينَ متلذذين متهكمين بما رأوا من شيم المؤمنين من صلواتهم وخشوعهم فيها وضراعتهم واستكانتهم وتواضعهم مع إخوانهم
وَهم من شدة شكيمتهم وغيظهم إِذا رَأَوْهُمْ اى المؤمنين قالُوا مستهزئين إِنَّ هؤُلاءِ السفلة المستحسنين أفعالهم لَضالُّونَ منحرفون عن مقتضى الرشد والهداية بمتابعة هذا المجنون يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم
وَهم يقولون هكذا من كمال ضلالهم في أنفسهم بل من شدة حسدهم عليهم مع انهم ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون بهدايتهم او ضلالهم بل الأمر بالعكس
فَالْيَوْمَ اى اليوم الموعود المعهود الذي هو يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بالآخرة وبجميع الأمور الموعودة فيها مِنَ الْكُفَّارِ المصرين على العناد والإنكار يَضْحَكُونَ اى يضحك المؤمنون يومئذ من حال الكافرين على عكس ما كانوا عليه في النشأة الاولى إذ يرونهم أذلاء صاغرين مغلولين معذبين في نار القطيعة بأنواع الحسرة وهم اى المؤمنون حينئذ متكؤن
عَلَى الْأَرائِكِ المعدة لهم جزاء ما يتكلون على الله ويتكؤن الى فضله وإحسانه مواظبين على أداء المأمورات وترك المنكرات صابرين على متاعب الطاعات ومشاق التكاليف القالعة لعرق مطلق المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية يَنْظُرُونَ حينئذ بنور الايمان وصفاء اليقين والعرفان الى وخامة عاقبة اصحاب الكفر والكفران ويشكرون لنعمة الايمان والإحسان
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وأثيبوا بما عملوا ثوابا والحال انهم قد جوزوا يومئذ بأسوء الجزاء بسبب ما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاستهانة والاستهزاء بالمؤمنين ومن ضحكهم بأعمالهم وتغامزهم فيما بينهم بعيونهم تهكما عليهم. جعلنا الله من زمرة من بصرهم سبحانه بعيوب أنفسهم وأعماهم من عيوب غيرهم بمنه وجوده