تفسير سورة يوسف

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة يوسف عليه السلام
مكية مائة وإحدى عشرة آية

﴿ آلر تلك ءايات الكتاب المبين١ ﴾ إشارة إلى آيات القرآن والإضافة بمعنى من وهو المراد بالكتاب، أي تلك آيات من القرآن الظاهر في الأعجاز، أو الواضح معانيه بين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه، قال قتادة مبين والله بركته وهداه ورشده وقال الزجاج مبين الحق من الباطل والحرام من الحلال وقيل إشارة إلى آيات السورة، وهي المراد بالكتاب، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها لمن تدبر أنها من عند الله، أو مبين لليهود، قال البيضاوي روي أن علمائهم قالوا للمشركين سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلي مصر، وعن قصة يوسف، فنزلت السورة، ولم يذكر هذا صاحب لباب النقول في أسباب النزول
﴿ إنا أنزلناه ﴾ أي الكتاب ﴿ قرآنا ﴾ القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل بالغلبة، فيمكن حمله على الكتاب وإن أريد به السورة، ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطية للحال التي هي ﴿ عربيا ﴾ أو هو حال لكونه مصدرا بمعنى المفعول وعربيا صفة له، أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال والغرض من إيراد قوله عربيا إنا أنزلناه بلغتكم﴿ لعلكم تعقلون ﴾ لكي تعلموا معانيه وتستعملوا فيه عقولكم فتدركوا لطائفه وإعجازه لفظا ومعنى.
روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل ﴿ الله نزل أحسن الحديث ﴾ الآية زاد ابن أبي حاتم فقالوا يا رسول الله لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى ﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ الآية وأخرج ابن جرير عن ابن عباس عليهما السلام وابن مردويه عن ابن مسعود مثله قال قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل ﴿ نحن نقص عليك ﴾ وذكر البغوي عن سعد بن أبي وقاص الفصول الثلاثة لكنه قدم الفصل الثالث على الثاني ( أحسن القصص ) منصوب على المصدر يعني أحسن الاقتصاص لأنه اقتص على أبدع الأساليب ومعناه نبين لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية وأحسن البيان أو على المفعولية يعني أحسن ما نقص والمراد قصة يوسف عليه السلام سماها أحسن القصص لاشتماله على العجائب والعبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح أمر الدين والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد التمكن من الانتقام وغير ذلك من الفوائد، والقصص على هذا أفعل بمعنى مفعول كالنقص والسلب مشتق من قص أثره إذا اتبعه والقاص يتبع الآثار ويأتي بالأخبار على وجهها، قال خالد بن معدان سورة يوسف وسورة مريم يتفكه يهما أهل الجنة في الجنة وقال ابن عطاء لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها ﴿ بما أوحينا ﴾ أي بإيحائنا ﴿ إليك هذا القرآن ﴾ يعني السورة ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن يكون أحسن منصوبا على المصدر﴿ وإن كنت ﴾ مخففة أي أنه كنت ﴿ من قبله ﴾ أي قبل إيحاءنا إليك ﴿ لمن الغافلين ﴾عن هذه القصة أو عن كلما أوحي إليك من القصص والشرائع والأحكام.
﴿ إذ قال يوسف ﴾ بدل اشتمال من أحسن القصص إن جعل مفعولا به وأريد قصة يوسف عليه السلام، لأن الوقت مشتمل عليها، أو منصوب بتقدير اذكر ويوسف اسم عبري ولذا لم ينصرف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام روى أحمد والبخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم )١ ﴿ لأبيه ﴾ يعقوب عليه السلام ﴿ يا أبت ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر بفتح التاء في جميع القرآن والباقون بكسر التاء، وابن كثير وابن عامر يقفان يا أبه بالهاء والباقون بالتاء ﴿ ( إني رأيت ﴾ في المنام من الرؤيا لا من الرؤية بدليل قوله تعالى﴿ لا تقصص رؤياك ﴾و﴿ هذا تأويل رؤياي ﴾ ﴿ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ﴾ روى سعيد بن منصور في سننه والبزار وأبو يعلى في مسنديهما وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه في تفاسيرهم، والعقيلي وابن حبان في الضعفاء، والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في دلائل النبوة عن جابر واسم اليهودي عند البيهقي بستان وقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي راهن يوسف، فسكت فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال عليه السلام إن أخبرك هل تسلم، قال نعم قال جرثان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له، فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها ﴿ رأيتهم ﴾ تأكيد ﴿ لي ساجدين ﴾ أو استئناف ببيان حالها التي رآها عليها، وأورد صفة جمع العقلاء وضميرهم لوصفها بصفاتهم، وكان النجوم في التأويل أخوته وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما استضاء بالنجوم، والشمس أبوه والقمر أمه، وقال السدي القمر خالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت، وقال ابن جريج القمر أبوه والشمس أمه لكونهما مؤنثة والقمر مذكر، قلت : تأنيث الشمس لفظي مختص بلغة العرب فلا وجه لجعلها كناية عن أمه مع كونها أضوء من القمر، قيل : رآها ليلة الجمعة ليلة القدر.
فلما قصها على أبيه ﴿ قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ﴾
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، ومن سورة يوسف (٣١١٦).
وأخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب:﴿أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت﴾ (٣٣٨٢)..

﴿ قال يا بني ﴾ تصغير ابن صغره للشفقة أو لصغر السن قال البغوي كان يوسف ابن اثني عشر سنة، قرأ حفص ههنا وفي الصافات بفتح الياء والباقون بكسرها ﴿ لا تقصص رؤياك ﴾ الرؤيا مختص بما يكون في النوم أو نحو دلك من الاستغراق فرق بينهما وبين الرؤية بحرفي التأنيث كالقرية والقرى، قال البيضاوي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فيتصور بما فيها مما لا يليق ب من المعاني الحاصلة هناك، ثم أن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية، استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه، قلت : الرؤيا هي مطالعة النفس في الصور المنطبعة في الحس المشترك من أفق المتخيلة عنده غفلتها وفراغها عن مطالعة المحسوسات في النوم أو الإغماء أو نحو دلك، وهي على ثلاثة أقسام قسمان منها باطلان والقسم الثالث منها صحيحة صالحة من حيث الأصل، لكنها قد تفسد بالعوارض ويقع فيها الخطأ بها وقد يقع الخطأ في تأويلها، أما القسمان الباطلان فالأول منهما ما تراه النفس من صور الأشياء التي رأتها في اليقظة، أو تفكر واخترعها المتخيلة من غير أصل لها في الواقع وتسمى تلك الرؤيا حديث النفس والثاني منهما ما ألقاه الشيطان في خياله وتمثل له تخويفا أو ملاعبة، فإن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وتسمى تلك الرؤيا الرؤيا السوء وتخويف الشيطان والحلم.
وأما التي هي صحيحة فهي إلهام وإعلام من الله تعالى لعبده على شيء مما في خزائن الغيب، أو على شيء من مكنونات صفاته وأحواله ودرجات القرب له من الله تعالى حتى تكون له بشارة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رؤيا المؤمن كلام يكلم العبد ربه في المنام ) رواه الطبراني بسند صحيح والضياء، وحقيقة تلك الرؤيا الصالحة عند الصوفية أن العالم الكبير شخص له نفس وروح وقوي على هيئة الإنسان ولذلك يسمى إنسانا كبيرا، ولمشابهته يسمى الإنسان عالما صغيرا، فكما أن في العالم الصغير أعني الإنسان قوة متخيلة فكذلك في العالم الكبير متخيلة، يتخيل بها المحسوسات والمعقولات والأعراض والجواهر والمجردات والمعاني، فصور الأشياء كلها حتى الواجب تعالى وصفاته، والممكنات بأسرها المجردات منها والماديات، وما لا صورة لها في الخارج كالموت والحياة والأيام والسنين والأمراض موجودة في تلك المتخيلة بإيجاد الله تعالى، ومن أجل دلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمى على صورة امرأة سوداء، و عبر يوسف عليه السلام البقرات والسنا بل بالسنين، ومن ههنا يظهر أنه لا يشترط في الصورة كونها من حبس المحكي عنه أو مشتملا على جميع خصائصه، بل يكفي في ذلك نوع من المناسبة فلأجل تلك المناسبة الظاهرة أو الخفية يتمثل في متخيلة العالم الكبير ذلك الشيء بتلك الصورة ولأجل ذلك المناسبة الخفية رأى يوسف عليه السلام أبويه وإخوته في صورة الشمس والقمر والكواكب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الرؤيا ستة المرأة خير والبعير حرب واللبن فطرة والخضرة جنة والسفينة نجاة والتمر رزق ) رواه أبو يعلي في معجمه عن رجل من الصحابة بسند ضعيف، وتلك المتخيلة من العالم الكبير تسمى في اصطلاح الصوفية بعالم المثال ثم تلك الصورة تنطبع لأجل المناسبة والمحاذاة من متخيلة العالم الكبير في متخيلة العالم الصغير أي الإنسان، وتراه النفس حين فراغها عن مطالعة المحسوسات، فالأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات ولأجل عصمتهم عن الشيطان وعن معارضته الأوهام، ولأجل كون مناماتهم مقتصرة على العيون تنام عيونهم وقلوبهم يقظان، فيميزون مخترعات الخيال عن حقائق الإلهام انحصرت رؤياهم في القسم الثالث.
ثم عدم العوارض المفسدة للمنامات الموجبة لوقوع الخطأ فيها متيقن فيهم عليه السلام فرؤيا الأنبياء يكون وحيا قطعيا حتى تصدى خليل الله عليه السلام لذبح ابنه وقال ﴿ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ﴾١ ورؤيا الصلحاء أعني الأولياء الذين زكوا أنفسهم بالرياضات، وأزالوا عنها الكدورات الجبلية، وتنزهوا عن ظلمات الذنوب والآثام، وتجلى بواطنهم باقتباس أنوار النبوة صالحة صادقة إلا نادرا، وذلك عند عروض كدورة بأكل شيء من المشتبهات، أو زائدا عن الحاجة بحيث تولدت منه كدورة ما أو لأجل لمم من المعصية فإنهم غير معصومين، أو لانعكاس من صحبة العوام، فرؤيا الأولياء شبيه بالوحي، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة )٢ متفق عليه من حديث أنس وأبي هريرة وعبادة بن الصامت، ورواه أحمد عنهم وأبو داود والترمذي عن عبادة، وروى البخاري عن أبي سعيد ومسلم عن ابن عمر وأبي هريرة وأحمد وابن ماجة عن أبي رزين والطبراني عن ابن مسعود بلفظ :( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) وروى ابن ماجة بسند صحيح عن أبي سعيد ( رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة ) وابن ماجة واحمد بسند صحيح عن ابن عمر وأحمد عن ابن عباس ( الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة ) وفي حديث أبي رزين عند الترمذي ( رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة ) وفي حديث العبا س بن عبد المطلب عند الطبراني ( رؤيا المؤمن الصالح بشرى من الله وهي جزء من خمسين جزءا من النبوة ) وفي حديث ابن عمر عند ابن النجار( جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ) فإن قيل : ما معنى كونها جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وما وجه التطبيق بين الأحاديث في عدد الأجزاء ؟ قلنا : كان مدة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرون سنة، وكان نصف سنة منها الوحي بالرؤيا الصالحة لا يرى شيئا في المنام إلا وجده مثل فلق الصبح، فلذلك قال جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وأما روايتا الأربعين والخمسين فمبنيتان على جبر الكسر أو طرح الكسر وأخذ العقد تقريبا، وأما رواية السبعين فالمراد منها الكثرة فإنه يطلق السبعين ويراد به الكثرة قال الله تعالى :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ﴾٣ فالمعنى أنها جزء من أجزاء كثيرة من الوحي وأما رواية خمسة وعشرين فشاذ.
وأما رؤيا العوام، فمناماتهم وإن كانت مستفادة من عالم المثال، لكنها تفسد وتكذب غالبا، لأجل انكدار خيالاتهم بالكدورات الجبلية النفسانية، والكدورات المكتسبة بالذنوب والآثام، ثم قد يقع الخطأ في تعبير الرؤيا إذا كانت بين الصورة والمحكي عنها من عالم المثال منا سبة خفية، وصحة التعبير أما بالإلهام من الله تعالى وهو المراد في الآية ﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾٤ أي يلهمك تعبير المنامات وذا لا يتصور غالبا إلا إذا كان المعبر رجلا صالحا أهلا للإلهام، وأما بالعقل السليم، روى الترمذي بسند صحيح عن أبي رزين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة، وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا حدث بها سقطت ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا )٥ وفي بعض الروايات ( إلا من تحب ) ورواه أبو داود وابن ماجه بسند صحيح عنه بلفظ ( الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر، ، فإذا عبرت وقعت ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي )٦ والمراد بالطائر عندي ما قضى الله وقدر له تطيره قوله تعالى :﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾٧ أي عمله وما قدر له، فمعنى هذا الحديث عندي والله تعالى أعلم، أن رؤيا المؤمن مبني على قضاء الله تعالى، وقدر قدّر له لا يعلم هو ما قدر له ما لم يحدث بها ويعبر عنها معبر فإذا حدث بها وعبر عنها معبر بإلهام من الله تعالى أو بقوة الرأي والاستنباط الموهوبة منه تعالى، وقعت أي ظهرت واتضح ما هو مقضي له، ولا تحدث بها إلا لبيبا ذا رأي أو حبيبا واد أي رجلا صالحا يحب الله و المؤمنين ويحبه الله والمؤمنين، وهو المعنى بقوله إلا من تحب فإن فالمؤمن لا يحب إلا مؤمنا صالحا، فاللبيب يعبر بالرأي السليم، والحبيب لله تعالى يعبر بالإلهام، فلا يقع الخطأ في تأويلهما.
وما ذكرت من أقسام الرؤيا مستفاد من الأحاديث، روى ابن ماجة بسند صحيح عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الرؤيا ثلاثة منها تهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهم به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة )٨ وروى الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الرؤيا ثلاث فبشرى من الله وحديث النفس وتخويف الشيطان، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها إن شاء، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصها على أحد وليقم يصلي، وأكره الغل وأحب القيد القيد ثبات في الدين )٩ وروى مسلم عن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعود بالله من الشيطان فإنها لا ضره ولا يخبر بها أحد، وإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب )١٠ وعنه في الصحيحين وعند أبي داود والترمذي بلفظ ( الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا فليتعوذ بالله منها فإنها لا تضره )١١ فإن قيل ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم :( من رأى رؤيا فكره فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله منها ) ؟ قلنا معناه والله أعلم أن الرؤيا إن كانت من تخويفات الشيطان وتسويلاته فيذهب وسوسته بالتعود، وإن كان من عالم المثال فقد يكون حكاية عن قضاء معلق فالتعود بالله منها أي من الرؤيا يرد القضاء المعلق إن شاء الله تعالى فلا تضره، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :( فلا يقصها على أحد وليقم يصلي " أنه إن قصها على أحد يحزنه تعبيرها، فالأولى أن يرجع إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء حتى يدفع القضاء المعلق المحكي عنه بالرؤيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يرد القضاء إلا الدعاء )١٢ الحديث، رواه الشيخان في الصحيحين عن سلمان وابن حبان والحاكم عن ثوبان، وليس النهي عن التحديث على التحريم أو التنزيه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد :( إني رأيت في المنام سيفي ذا الفقار انكسر وهي مصيبة، ورأيت بقرا تذبح وهي مصيبة. ) وقد مر الحديث في تفسير قوله تعالى :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾١٣ في سورة آل عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك، وقد حدث به وذكرنا الحديث في تفسير سورة القدر، ورأى ابن عباس قتل الحسين عليه السلام في رؤياه يوم قتل فحدث به، وفي الباب أحاديث كثيرة.
قلت : وجاز أن يكون النهي عن تحديث الرؤيا المكروهة كيلا يظهر الأعداء الشماتة والفرح، وعن تحديث المبشرات إلا عند اللبيب أو الحبيب كيلا يحسدوه ولذلك أمر يعقوب يوسف عليه السلام بكتمان رؤياه على إخوته فقال ﴿ لا قصص رؤياك ﴾ ﴿ على إخوتك فيكيدون لك كيدا ﴾ أي فيحتالو
١ سورة الصافات، الآية: ١٠٢..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: رؤيا الصالحين (٦٩٨٣).
وأخرجه مسلم في كتاب: الرؤيا (٢٢٦٣).
وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الرؤيا (٥٠١٠).
وأخرجه الترمذي في كتاب: الرؤيا، باب: ما جاء في تعبير الرؤيا (٢٢٧٩).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب: تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له (٣٨٩٣)..

٣ سورة التوبة، الآية: ٨٠..
٤ سورة يوسف، الآية: ٦..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الرؤيا، باب: ما جاء في تعبير الرؤيا (٢٢٧٨)..
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في الرؤيا (٥٠١٢) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا إذا عبرت وقعت فلا ينقصها إلا على واد (٣٩١٤)..
٧ سورة الإسراء، الآية: ١٣..
٨ أخرجه ابن ماجة في كتاب: تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا ثلاث (٣٩٠٧)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: الرؤيا، باب: في تأويل الرؤيا ما يستحب منها ومت يكره (٢٢٨٠) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: تعبير الرؤيا، باب: الرؤيا ثلاث (٣٩٠٦)..
١٠ وأخرجه مسلم في كتاب: الرؤيا (٢٢٦١)..
١١ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٦٩٨٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الرؤيا (٢٢٦١)..
١٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الرؤيا، باب: ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء (٢١٣٩)..
١٣ سورة آل عمران، الآية: ١٢١..
﴿ وكذلك ﴾ أي كما اجتباك لمثل هده الرؤيا الدالة على الفضل والكمال ﴿ يجتبيك ربك ﴾ للنبوة والملك والأمور العظام، والاجتباء من جببت الشيء إذا حصلته واخلصعه لنفسك، وجببت الماء في الحوض إذا جمعته ﴿ ويعلمك من تأويل الأحاديث ﴾ أي تعبير الرؤيا لأن الرؤيا حديث الملك أن كانت صادقة، وحديث الشيطان إن كانت كاذبة، عبر التعبير بالتأويل لأنه ما يؤول إليه عاقبة الأمر ويؤل أمره إلى ما يرى في منامه، أو من تأويل غوامض كتب الله وسنن الأنبياء، قيل هذا كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك، والظاهر أنه معطوف على ما سبق فإن تعليم التأويلات وإتمام النعمة من أنواع الاجتباء فهو من قبيل عطف الخاص على العام ﴿ ويتم نعمته عليك ﴾ بالنبوة ﴿ وعلى آل يعقوب ﴾ قيل : المراد بهم أبناؤه وكان أبناؤه كلهم أنبياء، علم ذلك استدلالا بضوء الكواكب وقيل : المراد بهم أنبياء بني إسرائيل ﴿ كما أتمها ﴾ أي النعمة على أبويك يعني الجد وأبا الجد ﴿ من قبل ﴾ إتمامها عليك ﴿ إبراهيم وإسحاق ﴾ عطف بيان لأبويك ﴿ إن ربك عليم ﴾ بمن يستحق الاجتباء ﴿ حكيم ﴾ يفعل الأشياء على ما ينبغي.
﴿ لقد كان في يوسف وإخوته ﴾ أي قصة يوسف وإخوته العلات، وكانوا عشرة ستة من بطن ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب عليه السلام روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولادي ويهودا وريا ن ويشحر، وكانت من بطنها بنتا اسمها دينة، وأربعة من بطن سريتين له عليه السلام، إحداهما زلفة وأخرى يلهمة دان وتفتالى وجاد وأشر كذا قال البغوي، وقال : لما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، فكان أبناء يعقوب عليه السلام اثنا عشر رجلا، قال البيضاوي قيل جمع يعقوب بين الأختين ولم يكن الجمع محرما حينئذ ﴿ آيا ت ﴾ قرأ ابن كثير آية على التوحيد والباقون على الجمع يعني عبر أو دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته أو علامات لنبوتك ﴿ للسائلين ﴾ عن خبرهم قال البغوي وذلك أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، وقيل : سألوا عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان إلى مصر، فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة، وقيل : آيات لمن سأل ولمن لم يسأل كقوله تعالى :﴿ سواء للسائلين ﴾١ وقيل : عبرا للمعتبرين فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف وما آل إليه أمرهم من الذل، وعلى رؤيا ه وما حقق الله منها، وعلى صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة، وعلى الرق وفي السجن وما آل إليه أمره من الملك ورضوان الله، وعلى حزن يعقوب وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد وغير ذلك من الآيات.
١ سورة فصلت، الآية: ١٠..
اذكر ﴿ إذ قالوا ﴾ يعني قال بعضهم لبعض ﴿ ليوسف ﴾ اللام فيه جواب للقسم تقديره والله ليوسف ﴿ وأخوه ﴾ من أبيه وأمه ولذا خصوه بالإضافة ﴿ أحب إلى أبينا منا ﴾ وحده لأنه أفعل من يستوي فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث، بخلاف أخويه فإن الفرق بين المحلى باللام واجب، وفي المضاف جائز ﴿ ونحن عصبة ﴾ أي والحال إنا جماعة عشرة، قال الفراء العصبة هي العشرة فما زاد، وقيل : العصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل : ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقال مجاهد ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين، كذا في القاموس حيث قال العصبة من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين كالعصابة بالكسر، وكذا قال : الجزري في النهاية إن العصابة الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين، والعصب جمع عصبة كالعصابة، ولا واحد لها من لفظه كالنفر والرهط، وقيل : العصبة جماعة متعصبة أي متعاضدة، ومعنى نحن عصبة أي جماعة مجتمعة الكلام متعاضدة ﴿ إن أبانا لفي ضلال مبين ﴾ ليس المراد من الضلال الضلال عن الدين ولو أرادوا ذلك لكفروا به، بل المراد منه الخطأ في التدبير يعنون به إنا أنفع له في أمر الدنيا وإصلاح معاشه ورعي مواشيه، فنحن أولى بالمحبة منهما فهو مخطئ خطاء بينا في إيثاره يوسف وأخاه علينا في صرف محبته إليهما.
﴿ اقتلوا يوسف ﴾ قال وهب قاله شمعون وقال كعب دان وقال مقاتل روبيل، هذه الجملة المحكي بعد قوله إذ قالوا، وإنما أسند هذا القول إلى جميعهم مع أن القائل به كان واحدا منهم، لأن الباقون رضوا به إلا من قال لا تقتلوا فأسند الفعل إلى مجازا الصحة إسناده إلى أكثرهم لأجل رضائهم به ﴿ أو اطرحوه أرضا ﴾ أي بأرض منكورة بعيدة من العمران، بحيث يبعد عن أبيه، وهو معنى تنكيرها وإبهامها، ولذلك نصب كالظروف المبهمة ﴿ يخل لكم ﴾ جواب الأمر والمعنى يصف لكم ﴿ وجه أبيكم ﴾ أي توجهه إليكم عن شغله بيوسف حتى لا يلتفت عنكم إلى غيركم، ولا ينازعكم في محبته أحد ﴿ وتكونوا ﴾ جزم بالعطف على يخل ﴿ من بعده ﴾ أي بعد يوسف أو بعد الفراغ من أمره بالقتل أو الطرح، أو قتله أو طرحه ﴿ قوما صالحين ﴾ تائبين إلى الله عما جنيتم فيعف الله عنكم، أو صالحين مع أبيكم يصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه كذا قال مقاتل، أو صالحين أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده لخلو وجه أبيكم.
﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو يهودا وقال قتادة روبيل، قال البغوي والأول أصح ﴿ لا تقتلوا يوسف ﴾ فإن القتل كبيرة عظيمة ﴿ وألقوه في غيابت الجب ﴾ أي في قعره والغيابة كل موضع ستر عنك الشيء وغيبه، سمى القعر بها لستره ما فيه عن عين الناظر، كذا قرأ الجمهور، وقرأ أبو جعفر ونافع في غيابات الجب على الجمع كأنه كان لذلك الجب غيابات، قال البغوي والجب البئر الغير المطوية لأنه جب أي قطع ولم يطو، وفي القاموس الجب بالضم البئر أو الكثيرة الماء البعيدة القعر أو الجيدة الموضع من الكلأ أو التي لم تطو أو مما وجد لا مما حفره الناس ﴿ يلتقطه ﴾ أي يأخذه والإلتقاط أخد الشيء من حيث لا يحس به ﴿ بعض السيارة ﴾ الذين يسيرون في الأرض ﴿ إن كنتم فاعلين ﴾ بمشورتي فافعلوا هذا، أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه فاكتفوا به، قال محمد بن إسحاق اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له والغدر بالأمانة وترك العهد والكذب مع أبيهم، وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييئس من رحمة الله أحد، قلت : لعل وجه مغفرة الله إياهم تلك الجرائم كلها لشدة حبهم بأبيهم يعقوب عليه السلام، فإنه إنما أوقعهم في تلك الجرائم ذلك الحب، حيث أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم ويندفع ما يخل بهم في محبتهم، وقال بعض أهل العلم إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة لهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعون، وكان ذلك قبل أن صاروا أنبياء كذا قال أبو عمرو بن العلاء، فمن قال بكونهم أنبياء جوز صدور المعصية من النبي قبل النبوة، وقال أكثرهم إنهم ما كانوا أنبياء والمراد بالأسباط الوارد في القرآن في عد الأنبياء أنبياء بني إسرائيل من نسلهم والله أعلم.
فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده عليه السلام بضرب من الحيل ﴿ قالوا ﴾ ليعقوب عليه السلام ﴿ يا أبانا مالك لا تأمنا ﴾ قرأ أبو جعفر بترك الإشمام والروم والباقون إما بالإشمام أعني بالإشارة بالشفتين إلى الضمة نحو قبلة المحبوب، أو بالروم أي بحركة النون الأول بعض الحركة، أي لا تسكن رأسا بل تضعف الصوت بها فيفصل فيه بين المدغم والمدغم فيه، يعنون لم تخافنا ﴿ على يوسف وإنا له لناصحون ﴾ أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس منهم الحسد، قال مقاتل في الكلام تقديم وتأخير وذلك أنهم قالوا ﴿ أرسله معنا ﴾ الآية، فقال أبوهم ﴿ إني ليحزنني ﴾ الآية فحينئذ قالوا ﴿ ما لك لا تأمنا ﴾ والنصح القيام بالمصلحة وإرادة الخير، وقيل البر والعطف يعني نحن قائمون بمصلحته نريد له الخير نحفظه حتى نرده إليك
﴿ أرسله معنا غدا ﴾ إلى الصحراء ﴿ يرتع ويلعب ﴾ قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون فيهما على التكلم وجزم العين في نرتع من رتع يرتع رتعا وهو الخصب يعنون نتسع في أكل الفواكه ونلعب بالسباق والصيد والرمي مما يباح إتيانه، وقرأ ابن كثير بالنون فيهما وكسر العين أصله نرتعي وهو نفتعل من الرعي، فروى أبو ربيعة وابن الصباح عن قنبل بإثبات الباء وصلا ووفقا، وروى غيرهما عن حذفها في الحالين، والبزي بحذفها في الحالتين، والمعنى نتحارس ونحفظ أنفسنا يعني يحفظ بعضنا بعضا، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر بالياء فيهما على الغيبة على إسناد الفعلين إلى يوسف، غير أن نافعا وأبا جعفر يكسران العين من يرتع ويحذفان الياء لام الكلمة من ارتعى يرتعي يعنون يرعى يوسف الماشية كما نرعى نحن، والباقون يجزمون العين من يرتع ومعناه يأكل ويلهو وقرأ يعقوب نرتع بالنون وجزم العين مثل أبي عمرو ويلعب با لياء مثل الكوفيين ﴿ وإنه له لحافظون ﴾ أن يناله مكروه
﴿ قال ﴾ لهم يعقوب ﴿ إني ليحزنني ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأسكنها الباقون ﴿ أن تذهبوا به ﴾ أي ذهابكم به، والحزن ههنا ألم القلب بفراق المحبوب وعدم الصبر عنه، واللام لام الابتداء ﴿ وأخاف أن يأكله الذئب ﴾ لأن الأرض كانت مذابة، وقال البغوي وذلك أن يعقوب رأى في المنام أن ذئبا شد على يوسف فكان يخاف من ذلك، وهذا عندي ليس بشيء فإن رؤيا الأنبياء وحي قطعي الوجود، ولو كان قد رأى ذاك لتحقق البتة ولا ينفعه الحذر لكنه لم يتحقق، قرأ ورش والكسائي وأبو عمرو الذيب بغير همز بالياء إذا وقف والباقون بالهمزة في الحالين وحمزة على أصله إذا وقف فإن الهمزة المتوسطة عنده تبدل حرفا خالصا في الوقف ﴿ وأنتم عنه غافلون ﴾ يعني لا أخاف كيدكم ولكن أخاف أن يناله مكروه عند غفلتكم لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
﴿ قالوا لئن أكله الذئب ﴾ المراد به الجنس ﴿ ونحن عصبة ﴾ أي عشرة متعاضدة لا يتصور الغفلة من جميعنا واللام موطئة للقسم وجوابه ﴿ أنا إذا ﴾ أي إذا أكله الذئب ونحن عصبة ﴿ لخاسرون ﴾ هو مجزي عن جزاء الشرط، يعنون إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وكنا ضعفاء مغبونون، أو مستحقون أن تدعي علينا بالخسارة، والواو في ونحن للحال، اعتذر يعقوب في عدم الإرسال بأمرين الحزن بفراقه والخوف عليه بأكل الذئب، وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول، لعدم قدرتهم على دفع الحزن ولأن دلك كان يغيظهم.
﴿ فلما ذهبوا به وأجمعوا ﴾ أي عزموا ﴿ أن يجعلوه في غيابت الجب ﴾ وجواب لما محذوف يعني فعلوا به ما أرادوا، وقال البغوي جوابه ﴿ وأوحينا إليه ﴾ الآية على أن الواو زائدة كما في قوله تعالى :﴿ فلما أسلما وتله للجبين١٠٣ وناديناه ﴾١ أي لما أسلما ناديناه، قال البغوي قال وهب وغيره أخذوا يوسف بغاية الإكرام، وجعلوا يحملونه فلما برزوا إلى البرية القوة، وجعلوا يضربونه فإذا ضربه أحد استغاث بآخر فضربه الآخر، فجعل لا يرى منهم أحدا رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء، فلما كادوا يقتلوه قال لهم يهودا أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه وكان ابن اثني عشرة سنة وقيل : ثمان عشر سنة، فجاءوا به على غير طريق إلى بئر واسع الأسفل ضيق الرأس، قال مقاتل على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب، وقال كعب بين مدين ومصر، وقال وهب بأرض الأردن، وقال قتادة هي بئر بيت المقدس، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال يا إخوتاه ردوا علي القميص أتوارى به في الجب، فقالوا : أدع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك فقال إني لم أرى شيئا فألقوه فيها، وقيل : جعلوه في دلو وأرسلوه فيها حتى إذا بلغ نصفها القوة إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها، وقيل : إنهم لما ألقوه فيها جعل يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوا بصخرة فيقتلوه فمنعهم يهودا، وأخرج ابن جرير وابن حاتم عن السدي مطولا أن آل يعقوب كانوا نازلين بالشام، وكان ليس له هم إلا يوسف وأخوه بنيامين، فحسده إخوته إلى أن قال فلما برزوا إلى البرية فذكر نحوه، قيل : جعلوه في دلو وأرسلوه فيها حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها يبكي، فجاءه جبريل بالوحي، كما قال ﴿ وأوحينا إليه ﴾ لاطمئنان قلبه والظاهر أن هذا الوحي ليس للاستنباء والإرسال والتبليغ بل هو كما أوحى :﴿ إلى أم موسى أن أرضعيه ﴾٢ الآية وما هو للتبليغ فهو بعد ذلك حيث قال الله تعالى :﴿ ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ﴾٣ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى :﴿ وأوحينا إليه ﴾ قال : أوحي إلى يوسف يعني وحي الاستنباء وهو في الجب ﴿ لتنبئنهم بأمرهم هذا ﴾ يعني لتخبرن أخوتك بما صنعوا بك وهم لا يشعرون بذلك الوحي والإيناس وإعلام الله إياه ذلك، وقيل : معناه ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ يوم تخبرهم أنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلي والهيئات، وذلك حين ﴿ فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون٥٨ ﴾٤ قال البغوي كان يهودا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال وأوحي إليه هذه الآية، وبعث إليه جبرائيل ليؤنسه ويبشره بالخروج، ويخبره أنه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن الحسن أن يوسف عليه السلام كان حينئذ ابن سبع عشرة سنة، وقيل : كان مراهقا أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام، وفي القصص أن إبراهيم حين ألقي في النار جرد عن ثيابه، فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلي إسحاق وإسحاق إلي يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبرائيل وألبسه إياه.
١ سورة الصافات، الآية: ١٠٣..
٢ سورة القصص، الآية: ٧..
٣ سورة القصص، الآية: ١٤..
٤ سورة يوسف، الآية: ٥٨..
﴿ وجاءوا أباهم عشاءا يبكون١٦ ﴾ قال البغوي قال ابن عباس رضي الله عنه ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف قال أهل المعاني جاءوا في ظلمة العشاء لتكون أجرأ على الاعتذار بالكذب، فروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم فخرج فقال : مالكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا قال : فما أصابكم وأين يوسف قالوا :﴿ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ﴾
﴿ قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق ﴾ أي نتسابق في العدو كذا قال السدي أو نترامى و ننتصل ويشترك الافتعال والتفاعل كالأنتصال ﴿ وتركنا يوسف عند متاعنا ﴾ ثيابنا فمضينا ﴿ فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ﴾ إي بصدق ﴿ لنا ﴾ لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف ﴿ ولو كنا صادقين ﴾ عندك لأتهمتنا في هذه القصة لمحبة يوسف فكيف وأنت سيء الظن بنا، وقيل : معناه لست بمصدق لسوء ظنك بنا، أو لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله
﴿ وجاءوا على قميصه بدم كذب ﴾ أي ذي كذب أو مكذوب فيه، ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة ﴿ على قميصه ﴾ في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه، أو على الحال من الدم أن جوز تقديمها على المجرور، أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن الحسن أنه لما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح وسال قميصه، فلما جيء بقميص يوسف جعل يقلبه فرأى أثر الدم ولا يرى فيها شقا ولا خرقا، فقال : يا بني والله ما أعهد الذئب حليما إذا أكل ابني وأبقى قميصه فلما علم كذبهم بذلك ﴿ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا ﴾ أي سهلت لكم وهونت في أعينكم أنفسكم أمرا عظيما، مأخوذ من السول وهو الاسترخاء، في القاموس الأسول من في أسفله استرخاء والسولة استرخاء البطن غيره، وقيل : معناه زينت كذا في القاموس وسول له الشيطان أغواه وقيل : السول الحاجة التي تحرص عليها النفس، والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن ﴿ فصبر جميل ﴾ أي فأمري فصبر جميل وقيل : فصبر جميل أختاره، قال البغوي الصبر الجميل لا شكوى فيه أي إلى الخلق ولا جزع، أخرج ابن جرير عن ابن حبان ابن حمية مرسلا الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ﴿ والله المستعان على ما تصفون ﴾ أي على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف والصبر على تلك المصيبة، قال البغوي وفي القصة أنهم جاءوا بذئب وقالوا : هذا الذي أكله، فقال له يعقوب يا ذئب أأنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي ؟ فأنطقه الله عز وجل فقال بالله ما رأيت وجه ابنك قط، قال : كيف وقعت بأرض كنعان ؟ قال : جئت لصلة قرابة فصادني هؤلاء، فمكث يوسف في البئر ثلاثة أيام.
﴿ وجاءت سيارة ﴾ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر أخطؤا الطريق فنزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي يوسف فيه ﴿ فأرسلوا ﴾ حين نزلوا هناك ﴿ واردهم ﴾ رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن وعر لطلب الماء، والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء ليستقي لهم ﴿ فأدلى دلوه ﴾ يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها فيه، ودلوتها أخرجتها، فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، قا ل النبي صلى الله عليه وسلم :( أعطي يوسف شطر الحسن ) رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو يعلى والحاكم عن أنس، قال البغوي يقال أنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن، قال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، فلما رآه مالك بن وعر ﴿ قال يا بشرى ﴾ قرأ الكوفيون بالألف المقصورة على وزن فعلى وأمال حمزة والكسائي، نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال يا بشرى تعالي فهذا أوانك، وقيل : هو اسم لصاحبه ناداه باسمه ليعينه على إخراجه، وقرأ الباقون يا بشرى بالألف بعد الراء وبعدها ياء المتكلم مفتوحة بالإضافة، قرأ ورش الراء بين بين والباقون بإخلاص فتحها ﴿ هذا غلام ﴾ روى مجاهد عن أبيه أن البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها ﴿ وأسروه ﴾ يعني أخفاه الوارد وأصحابه من سائر الرفقة مخافة أن يطلبوا منهم فيه المشاركة، وقيل : أخفوا أمره وقالوا دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل : الضمير لإخوة يوسف، وذلك أن يهودا كان يأتيه كل يوم بالطعام وأتاه يومئذ فلم يجده فيها، فأخبر إخوته فطلبوه فإذا هم بمالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف، فأسروا شأن يوسف وقالوا هو عبد لنا آبق ويقال : إنهم هددوا يوسف حتى لم يعرف حاله فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ﴿ بضاعة ﴾ نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة، اشتقاقه من البضع فإنه هو ما يضع من المال للتجارة ﴿ والله عليم بما يعملون ﴾ لم يخف عليه أسرارهم، أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
﴿ وشروه ﴾ يعني باع إخوة يوسف إياه بعدما قالوا إنه عبد لنا آبق، وقيل : شروه بمعنى اشتروه يعني اشترى الوارد وأصحابه يوسف من إخوته ﴿ بثمن بخس ﴾ قال الضحاك ومقاتل والسدي أي حرام، لأن ثمن الحر حرام، وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس من البركة أي منقوص، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنه أي زيوف وقال عكرمة والشعبي قليل ﴿ دراهم ﴾ بدل من الثمن ﴿ معدودة ﴾ قليلة فإنهم كانوا يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها، قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة رضي الله عنه كان عشرين درهما فاقتسموا درهمين درهمين، وقال مجاهد اثنين وعشرين درهما وقال عكرمة كان أربعين درهما ﴿ وكانوا ﴾ أي إخوة يوسف أو الذين اشتروه ﴿ فيه ﴾ أي في يوسف ﴿ من الزاهدين ﴾ الراغبين عنه لأنه لم يعلموا منزلته عند الله عز وجل، وقيل : كانوا في الثمن من الزاهدين لأنه لم يكن في قصدهم تحصيل الثمن إنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه، قال البيضاوي إن كان ضمير كانوا للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به خائف عن انتزاعه مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق. وفيه متعلق بالزاهدين إذا جعل اللام للتعريف، وإذا جعل بمعنى الدي فهو متعلق بمحذوف يبينه الزاهدين، لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول، ثم انطلق مالك بن وعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون : استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا به حتى قدموا مصر، وعرضه مالك على البيع، فاشتراه قطفير قاله ابن عباس، وقيل أطفير صاحب أمر الملك، وكان على خزائن مصر يسمى العزيز، وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها ديان بن الوليد بن ثروان من العمالقة، وقيل : أن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتسع يوسف على دينه ثم مات ويوسف حي، قال ابن عباس رضي الله عنه لما دخل مصر تلقى قطفير مالك بن وعر، فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا أو زوج نعل وثوبين أبيضين، وقال وهب بن منبه قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع، فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمن وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا، وكان وزنه أربعمائة رطل وهو ابن ثلاثة عشرة سنة فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن.
﴿ وقال الذي اشتراه من مصر ﴾ يعني قطفير ﴿ لامرأته ﴾ اسمها راعيل وقيل : زليخا ﴿ أكرمي مثواه ﴾ المثوى موضع الإقامة، والمراد به منزلته كذا قال ابن قتادة وابن جريج، وقيل : معناه أكرميه في المطعم والملبس والمقام ﴿ عسى أن ينفعنا ﴾ أي نبيعه بالربح إن أردنا البيع أو يكفينا في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا ﴿ أو نتخذه ولدا ﴾ إن تبنيناه لما تفرس به من الرشد وكان عقيما ﴿ وكذلك ﴾ أي كما أنجيناه من القتل وأخرجناه من الجب وعطفنا عليه العزيز﴿ مكنا ليوسف في الأرض ﴾ أي في أرض مصر فجعلناه على خزائنها ﴿ ولنعلمه من تأويل الأحاديث ﴾ عطف على مضمر تقديره ليحكم بالعدل ولنعلمه، أي كان القصد من أنحائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس، ويعلم معاني كتب الله وأحكامه فينفذها، أو تعبير المنامات المنبهة عن الحوادث الكائنة ليستعد لها، ويشتغل بتدبيرها قبل أن يحل، وقيل : الواو زائدة ﴿ والله غالب على أمره ﴾الضمير راجع إلى الله تعالى أي يفعل ما يشاء لا يرد أمره شيء، ولا ينازعه فيما يشاء أحد، وقيل الضمير راجع إلى يوسف أي أراد به إخوة يوسف شيئا، وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراد الله ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ لطائف صنعه وخفايا لطفه، أولا يعلمون ما الله يريد ويصنع
﴿ ولما بلغ ﴾ يوسف ﴿ أشده ﴾ أي منتهى شبابه وقوته قال مجاهد ثلاثا وثلاثين سنة، وقال السدي ثلاثين سنة وهو سن الوقوف، وقال الضحاك عشرين سنة، وقال الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين سنة، وسئل مالك عن الأشد قال : هو الحلم ﴿ آتيناه حكما ﴾ أي نبوة وقيل : إصابة القول ﴿ وعلما ﴾ أي فقها في الدين أو علما بتأويل الرؤيا قيل : الفرق بين الحكيم والعالم أن العالم هو الذي يعلم الأشياء والحكيم هو الذي يعمل بما يوجب العلم ﴿ وكذلك نجزي المحسنين ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنه أي المؤمنين وعنه أيضا المهتدين، وقال الضحاك الصابرين على النوائب، قال البيضاوي فيه تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره.
﴿ وراودته ﴾ المراودة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد، وقيل طلب الشيء برفق ومنه رويد بمعنى أمهل لمعنى الرفق والمهلة فيه، والمراد ههنا طلبته منه بالحيل ﴿ التي هي ﴾ يعني يوسف ﴿ في بيتها ﴾ يعني زليخا امرأة العزيز ﴿ عن نفسه ﴾ أي احتالت ليواقعها ﴿ وغلقت الأبواب ﴾ أي أطبقتها وكانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الاستئناف ﴿ وقالت هيت لك ﴾ قرأ نافع وابن ذكوان بكسر الهاء من غير همز وفتح التاء، وهشام كذلك إلا أنه يهمز، وقد روى عنه ضم التاء، وابن كثير بفتح الهاء وضم التاء والباقون بفتحهما، وقرأ وقتادة والسلمي بكسر الهاء وضم التاء كما روى عن هشام، ومعناه تهيأت لك نفسي واللام حينئذ للصلة، وأنكره أبو عمرو والكسائي قالا لم يحك هذا عن العرب والأول هو المعروف عند العرب، قال ابن مسعود أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم هيت لك بفتح الهاء والتاء، قال أبو عبيدة كان الكسائي يقول هل لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز ومعناه تعال، وقال عكرمة أيضا هي بالحورانية هلم، قال مجاهد وغيره هي لغة عربية وهي كلمة حث وإقبال على الشيء، فهو اسم فعل مبني على الفتح كأين، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك، ومن قرأه بضم التاء قرأه تشبيها له بحيث، وهي لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث كدا قال أبو عبيدة، قال في القاموس هيت مثلثة الآخر وقد يكسر أوله بمعنى هلم ﴿ قال ﴾ لها يوسف عند دلك ﴿ معاذ الله ﴾ أي أعوذ بالله معاذا وأعتصم به مما دعوتني إليه ﴿ إنه ربي ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها ﴿ أحسن مثواي ﴾ الضمير للشأن يعني إن الشأن أن سيدي قطفير أحسن منزلي وتعهدي، حيث قال لك أكرمي مثواه فما جزاؤه أن أخونه في أهله، وجاز أن يكون الضمير راجعا إلى قطفير يعني أن زوجك قطفير سيدي أحسن مثواي، وقيل الضمير لله تعالى يعني أنه تعالى خالقي وأحسن منزلتي حيث عطف علي قلب قطفير فلا أعصيه ﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ المجازون الحسن بالسيئ، وقيل : يعني الزناة فإن الزنى ظلم على نفسه وعلى المزني بأهله.
قال السدي وابن إسحاق لما أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وشوقته إلى نفسها، فقالت : يا يوسف ما أحسن شعرك قال : هي أول ما ينتثر من جسدي، قا لت : ما أحسن عينك قال : هما أول ما يسيل على وجهي، قالت : ما أحسن وجهك قال : هو للتراب تأكله، وقيل : إنها قالت إن فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي، قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة، فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة وهو شاب يجد شبق الشباب ما يجد الرجل عند مراودة امرأة حسناء جميلة فذلك قوله تعالى :﴿ ولقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ﴾
﴿ ولقد همت ﴾ زليخا ﴿ به ﴾ أي بيوسف يعني قصدت أن يواقعها ﴿ وهم ﴾ يوسف ﴿ بها ﴾ أي ما ل طبعه إليها واشتهاها مع كفه نفسه عنها كما يدل عليه قوله ﴿ معاذ الله ﴾ الخ وليس المراد القصد الاختياري وذلك الميلان الطبعي وشهوة النفس مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل فإن السبب لأفضلية البشر على الملائكة كف النفس عن الفعل عند قيام الهم، قال الشيخ أبو منصور الماتريدي : هم يوسف بها هم خطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه، ولو كان همه كهمنا لما مدحه الله تعالى بأنه من عبادنا المخلصين وقال بعض أهل الحقائق الهم همان هم ثا بت وهو ما إذا كان معه عزم وعقد ورضى مثله هم امرأة العزيز فالعبد مأخوذ به، وهم عارض مثل الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى ( إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها ) رواه البغوي من حديث أبي هريرة وفي الصحيحين وجامع الترمذي عنه بلفظ ( إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، و إذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة )١ وجاز أن يكون معنى هم بها شارف على الهم، وما قيل في تفسير قوله تعالى ﴿ وهم بها ﴾ أنه حل الهميان وجلس منها مقعد الرجل من المرأة وما قيل إنه حل سراويله وجعل يعالج ثيابه، وأسند هذا القول إلى سعيد ابن جبير وغيره من المتقدمين يأبى عن سياق كلام الله تعالى فإنه تعالى قال :﴿ لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ لأن السوء هو الصغيرة وما ذكر فهو من الصغائر البتة، ولو كان كذلك لذكرت توبته واستغفاره ( كما ذكر لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم السلام مع كون كل ما صدر منهم عليهم السلام من غير قصد منهم بالمعصية، كما ذكر كل ذلك في موضعه ) ولم يذكر بل ذكر تبرئة نفسه حيث قال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾٢ وقال :﴿ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾٣ وقال :﴿ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾٤ وقال الله تعالى :﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾٥.
﴿ لولا أن رأى برهان ربه ﴾ جواب لولا محذوف تقديره لجامعها، وقيل : جواب لولا مقدم عليه تقديره لولا أن رأى برهان ربه لهم بها لكنه رأى البرهان فلم يهم وأنكره النحاة لأن لولا في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها، وجاز أن يكون هم بها المذكور قبلها دليلا على جوابها يعني لهم بها، ومعنى الهم المذكور على هذا شارف الهم، فهو كقوله قتلته لو لم أخف الله، تقديره شارفت على قتله لو لم أخف الله لقتلته، واختلفوا في ذلك البرهان ؟ فقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما البرهان النبوة التي أودع الله في صدره حالت بينه وبين ما يسخط الله عز وجل، وهذا أصوب الأقوال عندي، وقال قتادة وأكثر المفسرين إنه رأى صورة يعقوب وهو يقول له يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء، وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عليه السلام عاضا على أصبعه، وقال وسعيد بن جبير عن ابن عباس مثل يعقوب فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن سيرين قال : مثل له يعقوب عاضا على أصبعه يقول يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن اسمك في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء، وقال السدي نودي يا يوسف تواقعها إنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه شيئا، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يطاق، ومثلك إدا واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل في أصل قريبه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، وأخرج ابن جرير عن القاسم بن أبي نزة قال نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى فغدا ليس له ريش فلم يعرض للنداء، فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على أصبعه، فقام مرعوبا استحياء من أبيه، وفي رواية عن مجاهد عن ابن عباس أنه انحط جبرئيل عاضا على أصبعه يقول يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء، وروى أنه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله، وقال محمد بن كعب القرظي رفع يوسف عليه السلام رأسه إلى سقف البيت حين هم فرأى كتابا في حائط البيت ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ﴾٦ وروى عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما في البرهان أنه رأى مثال الملك، وعن علي بن الحسين عليه السلام قال : كان في البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب فقال لها يوسف لم فعلت هذا ؟ قالت : استحييت منه أن يراني على المعصية فقال : أتستحيين ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه فأنا أحق أن أستحيي من ربي وهرب ﴿ كذلك ﴾ أي الأمر مثل ذلك أو فعلنا كذلك ﴿ لنصرف عنه ﴾ أي عن يوسف ﴿ السوء ﴾ أي المعصية الصغيرة ﴿ والفحشاء ﴾ أي الكبيرة يعني الزنى ﴿ إنه من عبادنا المخلصين ﴾ قرأ نافع والكوفيون بفتح اللام حيث وقع معرفا باللام يعني مختارين للنبوة أخلصهم الله تعالى لنفسه والباقون بكسر اللام أي مخلصين لله الطاعة والعبادة.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة (٦٤٩١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب (١٢٨)..
٢ سورة يوسف، الآية: ٢٦..
٣ سورة يوسف، الآية: ٥٢..
٤ سورة يوسف، الآية: ٩٠..
٥ سورة يوسف، الآية: ٢٤..
٦ سورة الإسراء، الآية: ٣٢..
﴿ واستبقا الباب ﴾ أي إلى الباب على حذف الجار وإيصال الفعل، أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا يعني تسابق يوسف وزليخا إلى الباب، لما فر يوسف منها ليخرج من عندها أسرعت وراءه لتمنعه عن الخروج، فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها حتى لا يخرج، ووحد الباب وإن كان جمعه في قوله :﴿ وغلقت الأبواب ﴾١ لأنه أراد الباب الذي هو المخرج من الدار، ولما هرب يوسف جعل فراش القفل تتناثر وتسقط ﴿ وقدت قميصه من دبر ﴾ أي شقته من ورائه، والقد الشق طولا والقط الشنق عرضا ولما خرجا ﴿ وألفيا ﴾ صادفا ﴿ سيدها ﴾ أي زوجها قطفير
﴿ لدى الباب ﴾ قال الغوي وجداه جالسا مع ابن عم لزليخا، وقيل صادفاه مقبلا يريد الدخول فلما رأته هأبته ﴿ قالت ﴾ سابقة بالقول لزوجها تبرئة لنفسها عند زوجها، وتعييرا على يوسف وإغراء به انتقاما منه ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ﴾ يعني الزنى وما نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاؤه ليس جزاؤه ﴿ ألا أن يسجن ﴾ أي يحبس ﴿ أو عذاب أليم ﴾ أي ضرب بالسياط. فلما سمع يوسف مقالتها﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾
١ سورة يوسف، الآية: ٢٣..
﴿ قال هي راودتني عن نفسي ﴾ أي طلبت مني الفاحشة إنما ذلك دفعا لما عرض له من السجن والعذاب ولو لم تكذب عليه لما قاله ﴿ وشهد شاهد من أهلها ﴾ قيل : ابن عم قيل : ابن خال لها، فقال سعيد بن جبير والضحاك كان صبيا في المهد أنطقه الله، قال البغوي وهو رواية العوفي عن ابن عبا س عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( تكلم أربعة وهم صغار، ابن ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم ) قال محمد بن محمد السعاف في تخريج البيضاوي أخرج ذلك الحديث أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة وقال : صحيح على شرط الشيخين، ولم يطلع عليه الطيبي فقا ل يرده ما في حديث الصحيحين عن أبي هريرة حيث قال :( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج، وصبي كان ترضعه أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت أمه اللهم اجعل إبني مثل فلان فقال الصبي اللهم لا تجعلني مثله ) فصاروا بإضافة الصبي المذكور إليهم خمسة، قال السيوطي وهم أكثر من ذلك ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود، قال : وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر تضمينا فقلت قطعة : تكلم في المهد النبي محمد، ويحيى وعيسى والخليل ومريم، ومبري جريج ثم شاهد يوسف، وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم، وطفل عليه مبريا لأمه، التي يقال لها تزنى لا تتكلم، وماشطة في عهد فرعون طفلها، وفي زمن الهادي المبارك يختم، فقال الشاهد ﴿ إن كان قميصه قد من قبل ﴾ من قدام ﴿ فصدقت وهو من الكاذبين ﴾ لأنه يدل على أنها قدت من قدامه لما أرادها بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع عن خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
﴿ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين٢٧ ﴾ لأنه يدل على أنها تبعته فاجتدبت بثوبه فقدته من خلفه، والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول وتسميتها شهادة لأنها أدت موداها، وإنما جمع بين إن الذي هو للاستقبال وبين كان لأن المعنى أن تعلم أنه كان قميصه كذا، نظيره قولك إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك من فبل فإن معناه إن تمن علي بإحسانك أمن عليك بإحساني السابق.
﴿ فلما رأى ﴾ قطفير﴿ قميصه قد من دبر ﴾ عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه السلام ﴿ قال ﴾ له ﴿ إنه ﴾ أي أن السوء أو إن هذا الأمر أو إن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءا﴿ من كيدكن ﴾ من حيلتكن والخطاب لها ولا مثالها أو لسائر النساء ﴿ إن كيدكن ﴾ أي النساء﴿ عظيم ﴾ فإن ظاهرهن ضعيف يشهد لهن بالصدق وباطنهن خبيث أعوج، فإنها خلقت من ضلع آدم وعقولهن قاصرة وديانتهن ناقصة لا تمنعهن عما يمنع العقول السليمة والدين القويم، ومعهن شيطان يواجهن الرجال بالكيد والشيطان يوسوس به مسارقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( النساء حبالة الشيطان )١ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن )٢ رواه ( ) ) )عن بعض العلماء أنه قال : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان لأن الله تعالى قال :﴿ إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾٣ وقال لهن ﴿ إن كيدكن عظيم ﴾٤
١ رواه أبو نعيم والديلمي والتيمي مرفوعا، وقال ابن الغرس: الحديث حسن.
انظر كشف الخفاء (٦٤٩١)..

٢ أخرجه البخاري في كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم (٣٠٤) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (٧٩)..
٣ سورة النساء، الآية: ٧٦..
٤ سورة يوسف، الآية: ٢٨..
﴿ يوسف ﴾ أي يا يوسف ﴿ أعرض عن هذا ﴾ الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع ﴿ واستغفري ﴾ يا زليخا ﴿ لذنبك إنك كنت من الخاطئين ﴾ أي من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا لم يقل من الخاطئات لأنه لم يقصد به الخبر عن النساء، بل قصد الخبر عن من فعل ذلك رجلا كان أم امرأة، فذكر بصيغة المذكرين تغليبا ونظيره قوله تعالى :﴿ وكانت من القانتين ﴾١ و﴿ إنها كانت من قوم كافرين ﴾٢ وكان العزيز رجلا حليما قليل الغيرة فاقتصر على هذا القول.
١ سورة التحريم، الآية: ١٢..
٢ سورة النمل، الآية: ٤٣..
﴿ وقال نسوة ﴾ اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله ﴿ في المدينة ﴾ ظرف لقال أو صفة لنسوة، أي لما شاع حديث يوسف ومراودة زليخا عن نفسه في المصر قلن، وقال مقاتل كنا خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب ﴿ امرأت العزيز تراود فتاها ﴾ أي عبدها الكنعاني ﴿ عن نفسه ﴾ أي تطلب من الفاحشة ﴿ قد شغفها حبا ﴾ يعني شق يوسف شغاف قلبها فدخل فيه حبا، وهو تميز عن النسبة أي دخل حبه قلبها قال السدي الشغاف جلدة رقيقة على القلب، وقال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه﴿ إنا لنراها في ضلال ﴾ عن الرشد وبعد من الصواب ﴿ مبين ﴾ ظاهر الضلال حيث تركت ما يكون على أمثالها من العفاف والستر.
﴿ فلما سمعت ﴾ زليخا﴿ بمكرهن ﴾ أي باغتيابهن وإنما سمى مكرا لأنهن أخفين هذا القول كما يخفي الماكر مكره، وقال ابن إسحاق إنما قلن لها ذلك مكرا بها لتريهن يوسف وكانت توصف لهن حسنه وجماله وقيل : إنها أفشت إليهن سرها واستكتمهن فأفشين ذلك فلذلك سماه مكرا﴿ أرسلت ﴾ رسولا ﴿ إليهن ﴾ تدعوهن قال وهب اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها ﴿ وأعتدت ﴾ أي أعدت ﴿ لهن متكئا ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهدمتكأ أي طعاما، سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكؤون على الوسائد فسمى الطعام معا على الإستعارة يقال : اتكأنا عند فلان أي طعمنا، ولما كان ذلك عادة المترفين ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكأ ) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن جابر، وقيل : المتكأ الطعام الذي يجز جزا كأن القاطع يتكي عليه بالسكين، قال ابن عباس هو الأترج وقدري عن مجاهد مثله، وقيل هو الأترج بالحبشية، وقال عكرمة وأبو زيد الأنصاري كل ما يجز بالسكين فهو عند العرب متك، والمتك والبتك القطع بالميم والباء، قال البغوي زينت امرأة العزيز بيتا بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة﴿ وآتت ﴾ أي أعطت ﴿ كل واحد منهن سكينا ﴾ وهن يأكلن اللحم جزا بالسكين ﴿ وقالت ﴾ قرأ أبو عمرو عاصم وحمزة بكسر التاء وصلا وغيرهم بضمها وصلا ﴿ أخرج ﴾ يا يوسف ﴿ عليهن ﴾ وكانت أجلست يوسف في مجلس آخر فخرج عليهن يوسف، قال عكرمة وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب، وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر ) وأخرج أبو الشيخ في تفسيره عن إسحاق بن عبد الله أبي فروة قال : كان إذا سار في أزقة المصر يرى تلألأ وجهه على الجدران كما يرى تلألأ الماء والشمس على الجدران﴿ فلما رأيناه ﴾ نسوة مصر﴿ أكبرنه ﴾ عظمنه قال أبو العالية هالهن أمره وبهتن، وقيل : أكبرنه أي حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل في الكبر بالحيض والهاء ضمير المصدر أو ليوسف على حذف المضاف أي حضن لأجله من شدة الشبق﴿ وقطعن أيديهن ﴾ بالسكاكين التي كانت معهن وهن يحسبن أنهن تقطعن الأترج ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف، قال مجاهد فما أحسسن إلا بالدم، قال قتادة أبن يدبهن حتى ألقينها، والأصح أنه كان قطعا بلا إبانة وقال وهب ماتت جماعة منهن﴿ وقلن حاش لله ﴾ تنزيها تعالى من صفات العجز تعجبا على كمال قدرته على الخلق، أصله حاشا الله كذا قرأ أبو عمرو في الموضعين وصلا، وإذا وقف حدف الألف إتباعا للخط، روى ذلك عن اليزيدي منصوصا والباقون يحذفون الألف في الحالين تخفيفا وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك﴿ ما هذا بشرا ﴾ وهو على لغة أهل الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتهما في نفي الحال، وقال البغوي منصوب بنزع حرف الصفة أي ليس هذا ببشر ﴿ إن هذا ﴾ أي ما هذا ﴿ إلا ملك ﴾ من الملائكة ﴿ كريم ﴾ على الله تعالى لأن هذا الجمال لم يعهد في البشر وليس فوق البشر إلا الملك، أو لأن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
﴿ قالت ﴾ زليخا ﴿ فذلكن الذي لمتنني فيه ﴾ تعني هو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، تعني أنكن لم تتصورنه حق تصوره وإلا لعذرتنني في الافتتان به، أو فهذا أهو الذي لمتنني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه ﴿ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ﴾ فامتنع طالبا للعصمة، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على الآنة عريكته فقلن له أطع مولاتك ﴿ و ﴾ قالت زليخا ﴿ ولئن لم يفعل ما آمره ﴾ به أو أمري إياه تعني موجب أمري والضمير ليوسف أو المعنى ما أمر به فحذف الجار والضمير للموصول ﴿ ليسجنن وليكونا ﴾ بنون التأكيد الخفيفة تنقلب ألفا وقفا لشبهها بالتنوين نظيره لنسفعا ﴿ من الصاغرين ﴾ أي من الأذلاء صغر يصغر من باب سمع يسمع صغر أو صغاراٌ.
﴿ قال ﴾ يوسف ﴿ رب ﴾ أي يا رب ﴿ السجن ﴾ قرأ يعقوب بفتح السين والباقون بكسرها ﴿ أحب إلي مما يدعونني إليه ﴾ من الزنى اختار السجن على المعصية حين توعدته المرأة، أسند الدعاء إليهن وكان الدعاء من زليخا خاصة إلى نفسها خروجا من التصريح إلى التعريض، أو لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل : إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن، قيل لو لم يسئل يوسف السجن ولم يقل السجن أحب إلي لم يبتل بالسجن، والأولى أن يسأ ل المرء العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسئل الصبر، روى الترمذي عن معاذ قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يقول : اللهم إني أسئلك الصبر قال :( سألت البلاء فاسأله العافية ) وروى الطبراني عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله علمني شيئا أدع الله به فقال عليه السلام سل ربك العافية )١ فمكثت أياما ثم جئت فقلت : يا رسول الله علمني شيئا أسأله ربي عز وجل فقال ( يا عم سل الله العافية في الدنيا والآخرة ) ﴿ وإلا تصرف عني كيدهن ﴾ في تحسين الفاحشة إلي بالتثبيت على العصمة ﴿ أصب إليهن ﴾ أمل إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ﴿ وأكن من الجاهلين ﴾ من السفهاء بارتكاب الفاحشة فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم من الجهال حكما قال البغوي فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب نبا يرتكب عن جهالة.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٥٢٧)..
﴿ فاستجاب له ربه ﴾ فأجابه الله دعائه الذي تضمنه قوله ﴿ وإلا تصرف عني ﴾ الآية ﴿ فصرف عنه كيدهن ﴾ فثبته بالعصمة حتى آثر مشقة السجن على اللذة المتضمنة للمعصية ﴿ إنه هو السميع ﴾ لدعاء الملتجئين إليه ﴿ العليم ﴾ بأحوالهم وما يصلحهم.
﴿ ثم بدا لهم ﴾ أي ظهر للعزيز وأصحابه في الرأي ﴿ من بعد ما رأوا الآيات ﴾ الدالة على براءة يوسف من كلام الطفل وفد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن، وفاعل بدأ ضمير مبهم يفسره قوله :﴿ ليسجننه حتى حين٣٥ ﴾ أي مدة يرون فيها رأيهم وذلك باستهزال المرأة لزوجها وكان زوجها مطواعا لهذا ذلولا ذمامه في يدها، وقرطمعت أن يذلل السجن يوسف ويسخر لها، أو خافت عليه العيون وظنت منه الظنون فألجأ لها لخجل من الناس والوجل من اليأس إلى أن رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب، لتشتفي بخبره إذا منعت من نظره وقضاء حاجتها منه، وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم أني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي في الخروج فأخرج فاعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه إلى أن تنقطع مقالة الناس ويحسب الناس أنه المجرم، قال البغوي قال ابن عباس رضي الله عنهما عثر يوسف ثلاث عثرات حين هم بها فسجن، وحين قال :﴿ اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين ﴾ وحين قال للإخوة ﴿ إنكم لسارقون ﴾ فقالوا :﴿ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴾١.
١ سورة يوسف، الآية: ٧٧..
﴿ ودخل معه السجن فتيان ﴾ وهما غلامان كانا للوليد بن ثروان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه، غضب الملك عليهما فحبسهما، واتفق دخولهما في السجن وقت دخول يوسف عليه السلام فيه كما يدل عليه كلمة مع، قال البغوي وكان السبب في حبس الفتيين أن جماعة أرادوا المكر بالملك واغتياله، فضمنوا لهذين مالا ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجابهم ثم إن الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام، فلما حضروا الطعام قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم، وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقي اشرب فشربه فلم يضره، وقال للخباز كل من طعامك فأبى، فجرب ذلك الطعام على دابة فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما، وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نتراياله، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال ابن مسعود ما رأيا شيئا أنما تحالما ليجربا يوسف، وقال قوم بل كان رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما صاحبا الملك وقد رأيا رؤيا غمهما ذلك، فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه.
﴿ قال أحدهما ﴾ وهو صاحب الشراب ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أراني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أعصر خمرا ﴾ يعني أرى نفسي في المنام أعصر خمرا أي عنبا سماه خمرا باعتبار ما يؤل إليه، يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن للآجر، وقيل : الخمر العنب بلغة عمان، وهي حكاية حال ماضية وذلك أنه قال إني رأيت كأنه في بستان فإذا أنا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجئتها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقت الملك فشربه ﴿ وقال الآخر ﴾ الخباز ﴿ إني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها﴿ أراني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ﴾ وذلك إنه قال إني رأيت كان فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه ﴿ نبئنا بتأويله ﴾ أي أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤل إليه أمر هذا الرؤيا ﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين والإحسان بمعنى العلم، وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه، روي أن الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله ﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن عاده وقام عليه، وإذا ضاق عليه المجلس وسع له، وإذا احتاج جمع له شيئا، وكان مع هذا يجتهد في العبادة ويقوم الليل كله للصلاة، وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يسليهم ويقول أبشروا تؤجروا، فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك تمكن في أي بيوت السجن شئت. وروي أن الفتيين لما رأيا يوسف قالا له لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف : أنشدكما بالله أن لا تحباني، فو الله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء، فقد أحبتني عمتي فدخل علي بلاء، ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست.
فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد.
﴿ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه ﴾ قيل : أراد به ترزقانه في النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما ﴿ إلا نبأتكما بتأويله ﴾ في اليقظة ﴿ قبل أن يأتيكما ﴾ تأويله، وقيل : أراد أنه لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه في اليقظة أي تطعمانه وتأكلانه، إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل إليكما، وأي طعام أكلتم ومتى أكلتم، وهذا معجزة مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال :﴿ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾١ فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة فمن أين لك هذا العلم فقال ما أنا بكاهن وإنما ﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها، يعني علمني ربي بالوحي القطعي المنزل من السماء، وقيل : معنى الآية لا يأتيكما طعام يعني من منازلكما إلا نبأتكما بتأويل ما قصصتما علي من الرؤيا ذلكما أي التأويل مما علمني ربي بالإلهام والوحي، وليس من قبيل التكهن والتنجم قال البيضاوي أراد يوسف عليه السلام أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما الطريق القويم قبل أن يجيب ما سألا عنه، كما هو طريقه الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير ﴿ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم في بالآخرة هم كافرون ﴾ تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة المبطلين وتكرار كلمة هم للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة.
١ سورة آل عمران، الآية: ٤٩..
﴿ واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ وجاز أن يكون قوله ﴿ إني تركت ﴾ إلى آخره كلاما مبتدأ، لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة ليقوي رغبتهما في الإستماع إليه والوثوق عليه، ومن ههنا يظهر أن العالم إدا جهلت منزلته في العلم فأراد أن ينشر علمه جاز له أن يصف نفسه حتى يعرف الناس قدره فيقتبسون منه، وليس هذا من باب تزكية النفس إنما الأعمال بالنيات والأنبياء كانوا مأمورين بذلك، قال الله تعالى :﴿ وأما بنعمة ربك فحدث١١ ﴾١ فويل للذين يطعنون على أولياء الله تعالى مثل المجدد للألف الثاني حيث ذكروا ترقياتهم ومدارج قربهم من الله تعالى وما أفضل الله تعالى عليهم حسدا وجهلا ﴿ ما كان لنا ﴾ معشر الأنبياء أي ما صح و لا أمكن لنا ﴿ أن نشرك بالله من شيء ﴾ أي شيء كان فإن الله تعالى قد خلقنا على جبلة التوحيد وعصمنا من الشرك ﴿ ذلك ﴾ التوحيد والعلم ﴿ من فضل الله علينا ﴾ بالوحي ﴿ وعلى ﴾ سائر ﴿ الناس ﴾ بعثتنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ المبعوث إليهم ﴿ لا يشكرون ﴾ على هذه النعمة ويعرضون عنه ولا ينتبهون، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كما يكفر النعمة ولا يشكرها.
١ سورة الضحى، الآية: ١١..
ثم دعاهم إلى الإسلام فقال :
﴿ يا صاحبي السجن ﴾ أي ساكني السجن أو صاحبي فيه فإضافتهما إليه مجاز مثل يا سارق الليلة ﴿ ءأرباب متفرقون ﴾ شتى متعددة متساوية الإقدام في الإمكان والعجز سواء كانت أصناما من ذهب أو فضة أو حديد أو حجر، أو غيرها من الملائكة والبشر ﴿ خير ﴾ من الله ﴿ أم الله الواحد ﴾ المتوحد في جلال ذاته وكمال صفاته لا يماثله شيء في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال ﴿ القهار ﴾ الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره خير من غيره ثم بين بطلان الأصنام وغيرها فقال :﴿ ما تعبدون من دونه ﴾
﴿ ما تعبدون من دونه ﴾ أي من دون الله خاطب الإثنين بلفظ الجمع لأنه أراد كل من كان مثلهما في الشرك ﴿ إلا أسماء ﴾ أي مسميات خالية عن معنى الألوهية ﴿ سميتموها أنتم وآبائكم ﴾ آلهة وأربابا، أو المعنى ما تعبدون شيئا إلا أسماء سميتموها لا تحقق لها في الواقع تزعمونها حالة في الأصنام أو مجردة ﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾ أي لم يجعل الله سبحانه دليلا على وجودها، أو حجة وبرهانا على استحقاقها للعبادة، كما نصب الله تعالى دلائل على وجود نفسه وبراهين على استحقاقه للعبادة وآيات أنزل على رسله وأنبيائه ﴿ إن الحكم ﴾ في العبادة ﴿ إلا لله ﴾ لأنه المستحق لها بالذات من حيث أنه الواجب لذاته الموجد لغيره المنعم على الإطلاق المالك القاهر الضار النافع فلو جاز عبادة غيره لجاز بأمره وقد ﴿ مآ ﴾ على لسان أنبيائه ﴿ ألا تعبدوا ﴾ شيئا ﴿ إلا إياه ﴾ حيث دلت عليه الحجج والبينات ﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي الثابت التي د لت عليه البراهين ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ لا يميزون الحق من الباطل فيخبطون في جهالتهم، قال البيضاوي هدا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولا رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطاب، ثم برهن على أن ما يسمونه آلهة ويعبدونها لا تستحق العبادة أما بالذات وأما بالغير وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه، ثم فسر رؤياهما بقوله :﴿ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾.
﴿ يا صاحبي السجن أما أحدكما ﴾ وهو صاحب الشراب ﴿ فيسقى ربه ﴾ يعني الملك ﴿ خمرا ﴾ والعناقيد الثلاثة ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد ثلاثة أيام ويرده إلى منزلته التي كان عليها ﴿ وأما الآخر ﴾ يعني الخباز ﴿ فيصلب ﴾ بعد ثلاثة أيام والسلال الثلاث ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يخرجه فيصلبه ﴿ فتأكل الطير من رأسه ﴾ قلت ولعل ذلك لأجل ما رأى وجرب أن الخباز جعل الطعام مسموما دون الساقي كما مر في القصة، قال ابن مسعود لما سمع قول يوسف ج قالا ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب، فقال يوسف ج﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ يعني جرى قضاء الله سبحانه في الأمر الذي تستفتيان فيه، يعني في ما يؤل إليه أمركما كما قلت وأخبرتكما به رأيتما أو لم تريا، وحد الضمير لأنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا ظهور عاقبة ما ينزل بهما.
﴿ وقال ﴾ يوسف عند ذلك ﴿ للذي ظن أنه ناج منهما ﴾ المراد بالظن اليقين إن كان الضمير راجعا إلى يوسف عليه السلام، لكونه على اليقين يدل عليه قوله :﴿ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ﴾ وجاز أن يكون الضمير راجعا إلى الموصول وهو الساقي﴿ اذكرني عند ربك ﴾ يعني عند الملك وقل له إن في السجن غلاما محبوسا ظلما وصفه كذا كي يخلصني﴿ فأنساه الشيطان ذكر ربه ﴾ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر حال يوسف لربه أي للملك، أضاف إليه المصدر للملابسة له، أو على تقدير ذكر إخبار ربه، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين معنى الآية أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل أذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث ) رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ﴿ فلبث ﴾ مكث يوسف ﴿ في السجن بضع سنين. ﴾ قال قتادة هو ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع، وقال مجاهد ما بين الثلاث إلى السبع، وأكثر المفسرين على أنه لبث في السجن سبع سنين، قال وهب أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين، قال الكلبي لبث خمس سنين قبل ذلك وسبعا بعد قوله :﴿ اذكرني عند ربك ﴾١ فكل ذلك اثني عشر سنة، قلت : قوله تعالى :﴿ آلر تلك آيات الكتاب ﴾٢ تدل على معية دخولهما دخوله لما ذكرنا، وإذا كان لبث ) الفتيين في السجن ثلاثة أيام فلا يتصور لبث يوسف خمس سنة قبل ذلك القول والله أعلم.
قال مالك ابن دينار لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك، قيل له يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك، فبكى يوسف وقال : يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة ولا أعود. وقال الحسن دخل جبرئيل على يوسف في السجن فلما رآه يوسف عرفه فقال له يا أخا المنذرين مالي أراك بين الخاطئين ؟ فقال له جبرئيل يا طاهر بن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك أما استحييت مني أن استشفعت بالآدميين فوعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين، قال يوسف وهو في ذلك عني راض قال : نعم قال إذا لا أبالي. وقال كعب قال جبرئيل ليوسف إن الله يقول من خلقك ؟ قال : الله، قال : فمن حببك إلى أبيك ؟ قال : الله، قال : فمن أنجاك من كرب البئر ؟ قال : الله، قال : فمن علمك تأويل الرؤيا ؟ قال : الله، قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء ؟ قال : الله، قال : فكيف استشفعت بآدمي مثلك ؟ انتهى، وسيأتي في حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم :( ولولا كلمة يعني من يوسف لما لبث في السجن حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل ).
فلما انقضت سبع سنين ودنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر وهو ريان بن وليد عجيبة هالته وذلك أنه رأى سبع بقرات خرجن من البحر ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلعت العجاف السمان، فدخلن في بطونهن ولم ير منهن شيئا ولم يتبين على العجاف منهن شيء، ثم رأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا آخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ولم يبق من خضرتها شيء، فجمع السحرة والكهنة والحازة والمعبرين وقص عليهم رؤياه كما قال الله تعالى :﴿ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون٤٣ قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين٤٤ وقال الذي نجا منهما وإدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون٤٥ يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون٤٦ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون٤٧ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون٤٨ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون٤٩ ﴾
١ سورة يوسف، الآية: ٤٢..
٢ سورة يوسف، الآية: ٣٦..
﴿ وقال الملك إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ﴾ استغنى عن بيان حالها بما ذكر من حال البقرات وأجرى السمان على التميز دون المميز لأن التميز بها، ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التميز بها مجردا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على سمان لأنه نقيض ﴿ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ﴾ أي إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور المثالية إلى المعاني النفسانية التي هي صورها في عالم المثال، من العبور وهو المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا، واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف عمله، فقوي باللام كاس الفاعل أو لتضمين تعبرون معنى فعل تعدى باللام كأنه قيل إن كنتم تبذلون لعبارة الرؤيا، أو يكون للرؤيا خبر كنتم كقولك فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبر آخر أو حال، ومفعول تعبرون محذوف لدلالة ما قبله عليه.
﴿ قالوا أضغاث أحلام ﴾ أي هذه أضغاث أحلام، وهي تخاليطها جمع ضغث وهو في الأصل الحزمة من أنواع حشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم فلان يركب الخيل، أو لتضمنه أشياء مختلفة، والحلم الرؤيا والفعل منه بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر من باب نصر ﴿ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ﴾ أراد بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.
﴿ وقال الذي نجا ﴾ من السجن والقتل ﴿ منهما ﴾ من صاحبي السجن وهو الساقي ﴿ واذكر ﴾ أصله أتذكر أبدلت التاء دالا ثم أدغمت، بعني تذكر الساقي يوسف وقوله أذكرني عند ربك ﴿ بعد أمة ﴾ أي بعد جماعة من الزمان أي مدة طويلة وهي سبع سنين والجملة معترضة ومفعول القول ﴿ أنا أنبئكم بتأويله ﴾ قال البغوي إن الساقي جثى بين يدي الملك وقال : إن في السجن رجلا يعبر الرؤيا ﴿ فأرسلون ﴾ إليه في السجن فأرسله الملك إلى يوسف فأتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن في المدينة فلما أتى الساقي عند يوسف قال :﴿ يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ﴾
﴿ يوسف ﴾ أي يا يوسف ﴿ أيها الصديق ﴾ أي المبالغ في الصدق وصفه به لما جرب وعرف صدقه في تأويله رؤياه ورؤيا صاحبه ﴿ أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ﴾ أي في ذلك الرؤيا فإن الملك رأى هذه الرؤيا وأرسلني إليك ﴿ لعلي أرجع إلى الناس ﴾ أي أعود إلى الملك ومن عنده بتأويل رؤيا الملك، وإنما أورد كلمة لعل ولم يبت الكلام فيها لأن الناس لما عجزوا عن تأويل الرؤيا ( وكان الملك هائلا من تلك الرؤيا ) استعظم شأن تأويله عنده ولم يقطع بحصول مقصوده ﴿ لعلهم يعلمون ﴾ فضلك ومنزلتك في العلم، أورد كلمة لعل لأن الناس قد لا يتنبهون بفضل أهل الفضل لكمال غفلتهم، كما لم يتنبه العزيز بفضل يوسف بعد ما رأى من الآيات.
﴿ قال ﴾ له يوسف أما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخا صيب والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات فالسنون المجدبة ﴿ تزرعون سبع سنين دأبا ﴾ والدأب العادة ونصبه على الحال بمعنى دائبين أي على عادتكم، أو على المصدرية بإضمار فعله أي تدأبون دأبا، وتكون الجملة حالا وقيل : معناه بجد واجتهاد، قرأ حفص دأبا بفتح الهمزة والباقون بإسكانها وهما لغتان : ، وقيل : تزرعون أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة في النصح لقوله تعالى :﴿ فما حصدتم فذروه في سنبله ﴾ لئلا تأكله السوس وهذه الجملة على الأول نصيحة خارجة عن العبارة ﴿ إلا قليلا مما تأكلون ﴾ في تلك السنين.
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ﴾ سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس ﴿ يأكلن ﴾ أي يأكل أهلهن أسند الأكل إليهن على المجاز تطبيقا للتعبير بالرؤيا ﴿ ما قدمتم لهن ﴾ أي ما إدخرتم لأجلهن ﴿ إلا قليلا مما تحصنون ﴾ أي تحرزون لبذور الزراعة.
﴿ ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس ﴾ أي يمطرون من الغيث وهو المطر، أو يغاثون من القحط من الغوث ﴿ وفيه يعصرون. ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على الخطاب لأن الكلام كله على الخطاب والباقون بالياء التحتا نية على أن الضمير راجع إلى الناس، ومعناه يعصرون العنب والزيتون والسمسم ونحو ذلك أراد به خصب السنة وكثرة نعيمها، قال أبو عبيدة ﴿ يعصرون ﴾ تجنون من الكرب والجدب، والعصر المنجا والملجا، وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة وإنما علم ذلك بعدد السبع العجاف، فإنه لولا يأتي بعد ذلك سنة مخصبة لزاد عدد السنين المجدبة على السبع، وقال البيضاوي لعله علم ذلك الوحي، أو بأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده بعدما يضيق عليهم والله أعلم.
﴿ وقال الملك ﴾ لما رجع إليه الساقي بتأويل رؤياه وأخبره بما أفتاه يوسف، وعلم الملك فضل يوسف وأن الذي قاله كائن ﴿ آئتوني به فلما جاءه ﴾ يعني يوسف ﴿ الرسول ﴾ للملك وقال له أجب الملك أبي يوسف أن يخرج معه حتى يظهر براءته من تهمة الفسق و ﴿ قال ﴾ للرسول ﴿ ارجع إلى ربك ﴾ يعني إلى الملك ﴿ فسأله ﴾ أن يسأل ﴿ ما بال ﴾ يعني أي حال ﴿ النسوة التي قطعن أيديهن ﴾ فيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد الرجل في نفي التهمة عن نفسه، لاسيما من كان ممن يقتدي به، ولم يصرح مذكر امرأة العزيز أدبا واحتراما لها، أخرج إسحاق ابن راهويه في مسنده والطبراني في معجمه وابن مردويه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا، ولو كنت أنا لم أفعل حتى أخرج وعجبت لصبره وكرمه والله يغفر هل أتى أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولولا الكلمة لما لبث في السجن حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل ) ورواه عبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما من حديث عكرمة مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره الله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال :﴿ ارجع إلى ربك ﴾ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب، ولما ابتغيت العذر، وإن كان لحليما ذا إنارة ) وأصل الحديث في الصحيحين مختصرا ١. فائدة : تعجبه صلى الله عليه وسلم من حال يوسف وقوله : صلى الله عليه وسلم لأسرعت الإجابة، مبني على كمال نزول صلى الله عليه وسلم الذي هو مدار شيوع دينه وقوة تأثيره في الناس وتكميله، وقد حقق ذلك المجدد للألف الثاني في مكاتيبه، وهذا أمر لا يدركه فهم أكثر أهل الكمال فضلا عن غيرهم ﴿ إن ربي بكيدهن عليم ﴾ حين قلن لي أطع مولاتك أو أردن مراودتي عن نفسي لأنفسهن، فيه تعظيم لكيدهن واستشهاد بعلم الله تعالى عليه، وعلى أنه برئ مما اتهمنه ووعيد لهن في كيدهن، فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة وامرأة العزيز.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: رؤيا أهل السجون والفساد والشرك (٦٩٩٢).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة (١٠١)..

﴿ قال ﴾ لهن ﴿ ما خطبكن ﴾ ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب به صاحبه، إما خاطبهن جميعا لأنهن راودنه جميعا عن نفسه لهن، أو لأنهن قلن أطع مولاتك، وإما خاطبهن والمراد امرأة العزيز فحسب ﴿ إذ راودتن يوسف عن نفسه ﴾ هل وجدتن منه ميلا إلى إحداكن ﴿ قلن حاشا لله ﴾ واختلاف القراء فيه فيما سبق، أي تنزيه له تعالى وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ﴿ ما علمنا عليه ﴾ أي على يوسف ﴿ من سوء ﴾ من ذنب وخيانة، قيل : إن النسوة أقبلن على امرأة العزيز فعزرنها، وقيل : خافت امرأة العزيز أن يشهد ن عليها فأقرت على نفسها ﴿ قالت امرأة العزيز ألئن حصحص الحق ﴾ أي ظهر وتبين من حصحص شعره إذا استأصله بحيث يظهر بشرة رأسه، أو ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ ﴿ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ﴾ في قوله :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾١ فلما سمع يوسف ذلك قال :﴿ ذلك ﴾ الذي فعلت من رد الرسول إلى الملك كان ﴿ ليعلم ﴾ العزيز ﴿ أني لم أخنه ﴾ في زوجته ﴿ بالغيب ﴾.
١ سورة يوسف، الآية: ٢٦..
﴿ ذلك ﴾ الذي فعلت من رد الرسول إلى الملك كان ﴿ ليعلم ﴾ العزيز ﴿ أني لم أخنه ﴾ في زوجته ﴿ بالغيب ﴾ أي بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول، أي لم أخنه وأنا غائب عنه أو غائب عني، أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة ﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ أي لا ينفذه ولا يسدده بل يظهر الحق ولو بعد حين، أو لا يهدي الخائنين بكيدهن، فأوقع الفعل على الكيد مبالغة، وفي هذا القول تعريض بزليخا في خيانتها زوجها وتأكيد لأمانته، ولذلك عقبه بقوله ﴿ وما أبرئ نفسي ﴾.
﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون، تنبيها على أنه لم يرد بذلك تزكية النفس والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق وترغيب الناس إلى الإقتداء به والاقتفاء بآثاره، أخرج ابن مردويه من حديث أنس مرفوعا ( أنه لما قال يوسف ﴿ ليعلم أني لم أخنه بالغيب ﴾ قال له جبريل ولا حين هممت، فقال ذلك ) وذكره البيضاوي عن ابن عباس موقوفا ﴿ إن النفس ﴾ يعني أن النفس الحيواني المنبعث من العناصر الأربعة، التي هي مركب للقلب والروح وغيرهما من لطائف عالم الأمر، التي مقرها فوق العرش ﴿ لأمارة بالسوء ﴾ من حيث أنها بالطبع مائلة إلى الشهوات والرذائل التي هي من خصائص العناصر الأربعة، كالغضب والكبر اللذين هما مقتضى عنصر النار، والدناءة والخسة مقتضى الأرض، والتلون وقلة الصبر مقتضى الماء، والهزل واللهو مقتضى الهواء.
﴿ إلا ما رحم ربي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون، يعني إلا من رحم ربي فما بمعنى من كما في قوله تعالى :﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾١ فعصمه فلا يطيع نفسه ويجاهدها ولأجل ذلك المجاهدة يدرك أفضلية على الملائكة، أو المعنى إلا وقت رحمة ربي، وما مصدرية يعني إذا أدرك الإنسان رحمة الرحمان بالاجتباء أو بالإنابة إلى الأنبياء، فحينئذ يتزكى نفسه بتزكية من الله تعالى قال الله تعالى : لا تزكوا أنفسكم بل الله يزكي من يشاء٢ وتطمئن بمرضاة الله ويخاطب بقوله تعالى :﴿ ارجعي إلى ربك راضية مرضية٢٨ فادخلي في عبادي٢٩ ﴾٣ الصالحين، وحينئذ يبدل الله سيئاتها حسنات ويجعلها إماما لسائر اللطائف في الخيرات وتستعد لتجليات الصفات ما لا يستعد لها لطائف عالم الأمر، وقيل : الاستثناء منقطع أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ويبدلها بالإصابة، وقيل : الآيتان حكاية عن قول زليخا والمستثنى نفس يوسف وأمثاله، والمعنى أن ذلك الذي قلت من براءة يوسف ليعلم يوسف أني لم أخنه أي لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصدق فيما سئلت عنه ﴿ وما أبرئ نفسي ﴾ من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن ﴾٤ وأودعته السجن، تريد الاعتذار مما كان منها بأ ن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي كنفس يوسف وأمثاله بالعصمة، قرأ قالون والبزي بالسو على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام في حال الوصل وتحقيق همزة إلا، وورش وقنبل على أصلهما في الهمزتين المكسورتين وأبو عمرو أيضا على أصله، والباقون على أصولهم ﴿ إن ربي غفور رحيم ﴾ يغفر هم النفس وخطراتها ويرحم من يشاء بالعصمة، أو يغفر المستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه.
١ سورة النساء، الآية: ٣..
٢ الآية هي ﴿ألوم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء﴾ سورة النساء، الآية: ٤٩..
٣ سورة الفجر، الآية: ٢٨ ــ ٢٩..
٤ سورة يوسف، الآية: ٢٥..
﴿ وقال الملك ﴾ لما تبين له عذر يوسف وعرف منزلته من الأمانة والعلم ﴿ آتوني به أستخلصه لنفسي ﴾ أي أجعله خالصا لنفسي، فجاء الرسول يوسف فقال له : أجب الملك الآن، أخرج عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فأتاه الرسول فقال له ألق عنك ثياب السجن والبس ثيابا جددا وقم إلى الملك، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن فريد العمى قال لما رأى يوسف عزيز مصر قال اللهم أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك من شره، قال البغوي روي أنه قام ودعا لأهل السجن وقال اعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما أخرج من السجن كتب على باب السجن : هذا قبور الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء، وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك، قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره، ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال اللهم أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره، فلما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال الملك ما هذا اللسان ؟ قال لسان عمي إسماعيل عليه السلام، ثم دعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي ولم يعرف الملك هذين اللسانين قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، فكلما كلم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان وزاد لسان العبرانية والعربية، فأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه وكان يوسف حينئذ ابن ثلاثين سنة فأجلسه ﴿ فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين ﴾ أي ذو مكانة في الجاه والمنزلة ( أمين ) مؤتمن على كل شيء، قال البغوي روي أن الملك قال له إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال يوسف نعم أيها الملك، رأيت سبع بقرات شهب غر حسان كشف لك عنهن النيل، فطلعن عليك من شاطئته تشخب أخلافهن لبنا، فخرج من حمأته سبع بقرات عجاف شعت غير مقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف، ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فافترسن السمان افتراس السباع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن، فبينا أنت تنظر وتتعجب إذا سبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد وعروقهن في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك أنى هذا هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات، فاشتعلت فيهن النار فأحرقتهن فصرن سودا، فهذا ما رأيت فانتبهت من نومك مذعورا، فقال الملك والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا بأعجب مما سمعت منك، فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟ فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وتجعل الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله، ليكون القصب والسنبل علفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس، فيكفيك من الطعام الذي جعلته لأهل مصر ومن حولها، ويأتيك الخلق من النواحي للميرة، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفيني الشغل فيه ؟
﴿ قال ﴾ يوسف ﴿ اجعلني على خزائن الأرض ﴾ أي خزائن طعام أرض مصر وأموالها ﴿ إني حفيظ ﴾ للخزائن بما يستحقها ﴿ عليم ﴾ بوجوه مصالحها.
وصف يوسف عليه السلام نفسه بالأمانة والكفاية وطلب الولاية، ليتوصل بها إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل مما يبعث لأجله الأنبياء إلى العباد، لعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فما كان طلبه الولاية إلا لابتغاء وجه الله لا لحب الجاه والدنيا، ومن هذا القبيل اشتغال الخلفاء الراشدين بأمر الخلافة، ومعارضة علي معاوية في هذا الأمر، لكونه أحق وأقوى وأقدر على نفسه وأقوم على إنفاذ الشرائع، وقال البيضاوي لعل يوسف، لما رأى أن يستعمله الملك في أمر لا محالة، آثر ما يعم فوائده ويجل عوائده، وفيه دليل على جواز طلب الولاية والقضاء، وإظهار أنه مستعد لها إن كان آمنا على نفسه، وعلى جواز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر أو كافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسية الخلق إلا بتمكين ذلك الكافر أو الجائر، وقد كان السلف من هذه الأمة يتولون القضاء من جهة الظلمة، وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له، روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك السنة فأقام في بيته سنة مع الملك ) وبإسناده عن ابن عباس قال : لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة، دعاه الملك فتوجه ورداه بسيفه، ووضع له السرير من ذهب مكللا بالدر والياقوت، وضرب عليه كله من إستبرق، وطول السرير ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وستون مقرمة، ثم أمره أن يخرج فخرج متوهجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته وفوض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه، قاله ابن إسحاق. وقال ابن زيد : وكان لملك مصر ريان خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق قال : ذكروا أن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف زليخا امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ فقالت : أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسنا وجمالا، ناعمة كما ترى في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي على ما رأيت، فزعموا أنه وجدها يوسف عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم وميثا.
واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم وأحبه الرجال والنساء فذلك قوله عز وجل ﴿ وكذلك ﴾ أي مثل ذلك التمكين في مجلس الملك ﴿ مكنا ليوسف في الأرض ﴾ أرض مصر ﴿ يتبوأ منها ﴾ أي ينزل من بلادها ﴿ حيث يشاء ﴾ قرأ ابن كثير بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة ردا إلى يوسف ﴿ نصيب برحمتنا ﴾ أي بنعمتنا ﴿ من نشاء ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا، قال ابن عباس رضي الله عليهما ووهب : يعني الصابرين، قال مجاهد وغيره : فلم يزل يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا ﴿ ولأجر الآخرة ﴾ أي ثوابها ﴿ خير ﴾ من نعماء الدنيا ﴿ للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾.
ولما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام وأحسن التدبير، وبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة، وأنفق بالمعروف حتى خلت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد مثله، وروي أنه كان قد دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار، فلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذه الجوع هو الملك في نصف الليل، فنادى يا يوسف الجوع الجوع، قال يوسف هذا أوان القحط، ففي السنة الأولى من سني الجدب هلك كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام، فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيد الناس منها شيء، وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بيد أحد عبد ولا أمة، وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له، قلت : إن صح هذه الرواية لدلت على أن بيع الرجل نفسه وأولاده كان جائزا في شريعة يوسف عليه السلام، كما كان استرقاق السارق جائزا وقد أفتى بعض العلماء في القحط ببيع الحر نفسه وولده، ولا أصل لهذا القول في شريعتنا والله أعلم. فقال الناس ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من هذا، ثم قال يوسف للملك كيف رأيت صنع ربي فيما خولني فما ترى ؟ قال الملك الرأي رأيك ونحن لك تبع، قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم وروي أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام، فقيل له تجوع و بيدك خزائن الأرض ؟ قال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداه نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع ولا ينسى الجائعين، فمن ثم جعل الملوك غداهم نصف النهار. قال وقصد الناس مصر من كل أوب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم وإن كان عظيما أكثر من حمل بعير، تقسيطا بين الناس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم وأحبه الرجال والنساء فذلك قوله عز وجل ﴿ وكذلك ﴾ أي مثل ذلك التمكين في مجلس الملك ﴿ مكنا ليوسف في الأرض ﴾ أرض مصر ﴿ يتبوأ منها ﴾ أي ينزل من بلادها ﴿ حيث يشاء ﴾ قرأ ابن كثير بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة ردا إلى يوسف ﴿ نصيب برحمتنا ﴾ أي بنعمتنا ﴿ من نشاء ﴾ في الدنيا والآخرة ﴿ ولا نضيع أجر المحسنين ﴾ بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا، قال ابن عباس رضي الله عليهما ووهب : يعني الصابرين، قال مجاهد وغيره : فلم يزل يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا ﴿ ولأجر الآخرة ﴾ أي ثوابها ﴿ خير ﴾ من نعماء الدنيا ﴿ للذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾.
ولما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام وأحسن التدبير، وبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة، وأنفق بالمعروف حتى خلت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد مثله، وروي أنه كان قد دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار، فلما دخلت سنة القحط كان أول من أخذه الجوع هو الملك في نصف الليل، فنادى يا يوسف الجوع الجوع، قال يوسف هذا أوان القحط، ففي السنة الأولى من سني الجدب هلك كل شيء أعدوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام، فباعهم أول سنة بالنقود حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق في أيد الناس منها شيء، وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بيد أحد عبد ولا أمة، وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم في السنة السادسة بأولادهم حتى استرقهم، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له، قلت : إن صح هذه الرواية لدلت على أن بيع الرجل نفسه وأولاده كان جائزا في شريعة يوسف عليه السلام، كما كان استرقاق السارق جائزا وقد أفتى بعض العلماء في القحط ببيع الحر نفسه وولده، ولا أصل لهذا القول في شريعتنا والله أعلم. فقال الناس ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من هذا، ثم قال يوسف للملك كيف رأيت صنع ربي فيما خولني فما ترى ؟ قال الملك الرأي رأيك ونحن لك تبع، قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم وروي أن يوسف عليه السلام كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام، فقيل له تجوع و بيدك خزائن الأرض ؟ قال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداه نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع ولا ينسى الجائعين، فمن ثم جعل الملوك غداهم نصف النهار. قال وقصد الناس مصر من كل أوب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكن أحدا منهم وإن كان عظيما أكثر من حمل بعير، تقسيطا بين الناس.

وتزاحم الناس عليه، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب سائر البلاد من القحط والشدة، ونزل بيعقوب عليه السلام ما نزل بالناس، وكان منزله بالعربات من أرض فلسطين ثغور الشام وكانوا أهل بادية وإبل وشياه فأرسل بنيه إلى مصر للميرة وقال بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا واذهبوا لتشتروا منه الطعام وأمسك عنده بنيامين أخا يوسف شقيقه، ﴿ وجاء إخوة يوسف ﴾ العشرة ﴿ فدخلوا عليه ﴾ أي على يوسف عليه السلام ﴿ فعرفهم ﴾ يوسف قال ابن عباس ومجاهد عرفهم بأول ما نظر إليهم، وقال الحسن لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه ﴿ وهم له منكرون ﴾ أي لم يعرفوه، قال ابن عباس وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا علية أربعون سنة فلذلك أنكروه، وقال عطاء إنما لم يعرفوه لأنه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك، وقيل : لأنه كان بزي الملوك عليه ثياب حرير وفي عنقه طوق ذهب، قلت : وهذا إنما يتصور لو كان لبس الحرير والذهب جائزا في دين يوسف عليه السلام فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية قال أخبروني من أنتم وما أمركم ؟ فإني أنكرت شأنكم، قالوا : قوم من أرض الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار الطعام، فقال : لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي، قالوا : لا والله ما نحن بجواسيس، إنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق يقال له نبي من أنبياء الله عز وجل، قال : وكم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر فذهب أخ لنا، هو أصغرنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا، قال : فكم انتم ههنا ؟ قالوا : عشرة، قال : فأين الآخر ؟ قالوا عند أبينا لأنه أخ الذي هلك من أمه فأبونا يتسلى به، قال : فمن يعلم أن الذي يقولون حق وصدق ؟ قالوا : أيها الملك إننا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد، فحمل يوسف لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم وجهز بجهازهم.
وجهز بجهازهم. أي أصلحهم بعدتهم والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة. ﴿ ولما جهزهم بجهازهم قال آئتوني بأخ لكم من أبيكم ﴾ إن كنتم صادقين فأنا أرضى بذلك وأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم وأكرم منزلتكم ﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل ﴾ أي أتمه ولا أبخس الناس شيئا ﴿ وأنا خير المنزلين ﴾ قال مجاهد أي خير المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم.
﴿ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ﴾ أي ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ﴿ ولا تقربون ﴾ أي لا تقربوني ولا تدخلوا دياري، وهو إما نهى وإما نفى معطوف على الجزاء
﴿ قالوا ﴾ إن أبانا يحزن على فراقه ﴿ سنراود عنه أباه ﴾ أي سنجهد في طلبه من أبيه ونخادعه عنه ﴿ وإنا لفاعلون ﴾ ما أمرتنا به قال فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلوه عنده.
﴿ وقال ﴾ يوسف ﴿ لفتيانه ﴾ كذا قرأ حفص والكسائي بالألف والنون على جمع الكثرة والباقون فتيته بالتاء من غير ألف على وزن جمع القلة وهما لغتان مثل الصبيان والصبية، أي قال لغلمانه الكيالين ﴿ اجعلوا بضاعتهم ﴾ يعني ثمن طعامهم وكانت دراهم، وقال الضحاك عن ابن عباس كانت النعال والأدم وقيل : كانت ثمانية جرب من سويق المقل، قال البغوي والأول أصح ﴿ في رحالهم ﴾ أي في أوعيتهم ﴿ لعلهم يعرفونها ﴾ أي يعرفون حق ردها وحق التكرم برد البدلين ﴿ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ﴾ إلى مصر قيل : رد بضاعتهم كرامة وتقدما في البر والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود أي لعلهم يعرفونها أي كرامتهم علينا، وقيل : لما رأى من اللوم في أخذ الثمن من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه رد عليهم من حيث لا يعلمون تكرما، وقال الكلبي بخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى، وقيل : جعل ذلك لأنه علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها.
﴿ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ﴾ قدمنا خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته، فقال لهم يعقوب عليه السلام إذا أتيتم ملك مصر فاقرؤوا مني السلام، وقولوا : إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثم قال : أين شمعون ؟ قالوا : ارتهنه ملك مصر وأخبروه بالقصة، فقال لهم ولم أخبرتموه ؟ قالوا : إنه أخذنا وقال أنتم جواسيس حيث كلمنا بلسان العبرانية، وقصوا عليه القصة وقالوا ﴿ يا أبانا منع منا الكيل ﴾ أي حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين كذا قال الحسن، وقيل : معناه أعطى باسم كل واحد ﴿ حملا ﴾ ومنع منا الكيل لبنيامين، والمراد بالكيل الطعام ﴿ فأرسل معنا أخانا ﴾ بنيامين ﴿ نكتل ﴾قرأ حمزة والكسائي بالياء على الغيبة أي يكتل بنيامين معنا، وقرأ الآخرون بالنون على التكلم أي نكتل نحن وهو الطعام ويذهب المانع، وقيل : معناه نكتل له ﴿ وإنا له لحافظون ﴾ على أن يناله مكروه.
﴿ قال ﴾ أبوهم ﴿ هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ﴾ يوسف ﴿ من قبل ﴾ هذا أي كيف آمنكم عليه وقد قلتم في يوسف ﴿ وإنا له لحافظون ﴾١ وفعلتم به ما فعلتم ﴿ فالله خير ﴾ منكم ومن كل أحد ﴿ حافظا ﴾ فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه ﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين، وانتصاب حفظا على التميز كذا قرأ الأكثرون بلفظ المصدر وقرأ حفص وحمزة والكسائي حافظا على وزن الفاعل وهو يحتمل الحال والتمييز كقولهم الله دره فارسا.
١ سورة يوسف، الآية: ١٢..
﴿ ولما فتحوا ﴾ أي إخوة يوسف ﴿ متاعهم ﴾ الذي حملوه من مصر ﴿ وجدوا بضاعتهم ﴾ أي ثمن طعامهم ﴿ ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي ﴾ أي هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا، أو لا نطلب وراء ذلك إحسانا، أو أي شيء نطلب بالكلام في إحسانه أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا له فان من الدليل على صدقنا ما ترى في العيان أو ما نطلب منك بضاعة ﴿ هذه بضاعتنا ردت إلينا ﴾ استيناف موضح لقوله ما نبغي ﴿ ونمير أهلنا ﴾ معطوف على محذوف إن كانت ما استفهامية، أي ردت إلينا فنستظهر بها ونرجع إلى الملك ﴿ ونمير أهلنا ﴾ أي نشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال مار أهله يمير ميرا إذا حمل إليهم الطعام من بلد آخر ومثله امتار يمتار امتيارا، ويحتمل أن يكون هذه الجملة مع ما عطف عليه معطوفة على ما نبغي، إن كانت ما نافية أي لا نطلب فيما نقول ونمير أهلنا ﴿ ونحفظ أخانا ﴾ عن المخاوف في الذهاب والمجيء ﴿ ونزداد كيل بعير ﴾ أي نزيد حمل بعير على أحمالنا يكال لنا من أجله فإنه كان يعطي بعدة كل رجل حمل بعير ﴿ ذلك ﴾ أي ما حملناه ﴿ كيل يسير ﴾ قليل لا يكفينا وأهلنا أو سهل على الملك لسخائه.
﴿ قال ﴾ لهم يعقوب ﴿ لن أرسله معكم ﴾ إذ رأيت منكم ما رأيت ﴿ حتى تؤتون ﴾ قرأ ابن كثير تؤتوني بإثبات الياء وصلا ووفقا، وأبو عمرو أثبتها وصلا فقط والباقون يحذفونها في الحالين، أي تعطوني ﴿ موثقا من الله ﴾ أي عهدا مؤكدا باليمين بالله أو بإشهاد الله على نفسه أتوثق به ﴿ لتأتنني به ﴾ جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به ﴿ إلا أن يحاط بكم ﴾ قال مجاهد يعني إلا أن تهلكوا جميعا، وقال قتادة إلا أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم، أو من أعم العلل على قوله :﴿ لتأتنني به ﴾ في تأويل النفي أي لا تمنعون من الإتيان به لشيء إلا للإحاطة بكم، كقوله أقسمت بالله إلا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك ﴿ فلما آتوه موثقهم ﴾ أي عهدهم قيل : حلفوا بالله رب محمد وجهدوا أشد الجهد حتى لم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم ﴿ قال ﴾ يعقوب ﴿ الله على ما نقول ﴾ من طلب المواثيق وإتيانه ﴿ وكيل ﴾ شاهد وقيل حافظ، قال كعب لما قال يعقوب ﴿ فالله خير حافظ ﴾ قال الله عز وجل وعزتي لأردن عليك كليهما بعدما توكلت علي.
﴿ وقال ﴾ يعقوب لما أراد بنوه الخروج من عنده ﴿ يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ﴾ لأنهم كانوا ذوي جمال وأبهة وقوة وامتداد قامة مشتهرين في المصر بالقرية والكرامة عند الملك، فخاف عليهم العين وقد ورد في الحديث العين حق وقد ذكرنا ما ورد في ذلك في سورة نون في تفسير قوله تعالى :﴿ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ﴾١ للآية، ولعله لم يوصهم بذلك في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين حينئذ وكان الداعي إليه خوفه على بنيامين، وعن إبراهيم النخعي أنه قال ذلك لأنه كان يرجو أن يروا يوسف في التفرق والأول أصح ﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ مما قضى عليكم فإ ن المقدر كائن، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يغني حذره عن قدر )٢ رواه الحاكم ورواه أحمد من حديث معاذ بن جبل ورواه البزار من حديث أبي هريرة ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا ولا ينفعكم شيء فوض يعقوب أمره إلى الله تعالى وقال :﴿ عليه توكلت ﴾ اعتمدت ﴿ وعليه فليتوكل المتوكلون ﴾ جمع بين حرفي العطف في عطف الجملة على الجملة، لتقدم الصلة للاختصاص، كأن الواو للعطف والفاء لإفادة السببية فإن فعل الأنبياء سبب لأن يقتدي بهم غيرهم.
١ سورة القلم، الآية: ٥١..
٢ قال الحاكم: صحيح، وتعقبه الذهبي بأن زكريا بن منصور أحد رجاله مجمع على ضعفه، وفي الميزان ضعفه ابن معين ووهاه أبو زرعة، وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح.
انظر فيض القدير (٩٩٧٧)..

﴿ ولما دخلوا ﴾ مصر ﴿ من حيث أمرهم أبوهم ﴾ أي من أبواب متفرقة قيل : كانت أبواب المدينة أربعة فدخلوا من أبوابها ﴿ ما كان يغنى ﴾ أي يدفع ﴿ عنهم ﴾ رأى يعقوب واتباعهم له ﴿ من الله ﴾ أي من قضائه ﴿ من شيء ﴾ أي شيئا مما قضى الله عليهم أو شيئا من الإغناء حتى أخذ بنيامين وتضاعفت المصيبة على يعقوب صدق الله يعقوب فيما قال :﴿ إلا حاجة في نفس يعقوب ﴾ استثناء منقطع أي ولكن حاجة في نفسه يعني شفقته عليهم من أن يعاينوا ﴿ قضاها ﴾ أي أظهرها فوصى بها ﴿ وإنه لذو علم لما علمناه ﴾ بالوحي أو نصب الحجج ولذلك قال :﴿ وما أغني عنكم من الله من شيء ﴾ أو لتعليمنا إياه، وقيل : معناه أنه عامل بما علم، قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما، قيل : إنه لذو حفظ لما علمناه ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ ما يعلم يعقوب أو لا يعلمون القدر وأنه لا يغني عن الحذر أو لا يعلمون إلهام الله لأوليائه.
﴿ ولما دخلوا على يوسف ﴾ قالوا : أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال : أحسنتم وأصبتم وستجدون جزاء ذلك عندي، ثم أنزلهم فأكرم منزلهم، ثم أضافهم فأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا، فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف لقد بقي أخوكم هذا وحيدا فأجلسه مع نفسه على مائدته فجعل يواكله، فلما كان الليل أمر لهم بمثل وقال : لينم كل أخوين منكم على مثال فبقي بنيامين وحده فقال يوسف عليه السلام هذا ينام معي على فراشي، فبات معه فجعل يوسف يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح، وجعل روبيل يقول : ما رأينا مثل هذا فلما أصبح قال لهم إني أرى هذا الرجل ليس معه ثان فسأضمه إلي فيكون منزله معي، ثم أنزلهم منزلا وأجري عليهم الطعام و﴿ آوى إليه ﴾أي ضم إلى نفسه ﴿ أخاه ﴾ لأمه بنيامين وأنزله معه، فلما خلا به قال : ما اسمك ؟ قال : بنيامين قال : ما بنيامين ؟ قال : ابن المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمه قال : وما اسم أمك ؟ قال : راحيل بنت لاوي، قال : فهل لك من ولد ؟ قال : نعم عشرة، قال : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك، قال بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، قال : فبكى يوسف وقام إليه وعانقه ﴿ وقال ﴾ له ﴿ إنيَ ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وأسكنها الباقون، ﴿ أنا أخوك ﴾ يوسف ﴿ فلا تبتئس ﴾ أي لا تحزن ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ أي بشيء فعلوه بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم شيئا مما أعلمتك.
ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيرا بعيرا، ولبنيامين بعيرا باسمه ﴿ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية ﴾ أي المشربة التي كان الملك يشرب منها، يعني أمر غلمانه بجعلها، قال ابن عباس كانت من زبرجد، قال ابن إسحاق كانت من فضة، وقيل : من ذهب، وقال عكرمة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لعزة الطعام لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب فيها. والسقاية والصواع واحد، جعلت في وعاء طعام بنيامين قال السدي جعل السقاية ﴿ في رحل أخيه ﴾ والأخ لا يشعر، وقال كعب لما قال له يوسف ﴿ إني أنا أخوك ﴾ قال أنا لا أفارقك، فقال يوسف علمت اغتمام والدي بي، وإذا حبستك إزداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع وأنسبك إلي ما لا يحمد، قال لا أبالي فأفعل ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال : فافعل ففعل ما ذكر ﴿ ثم أذن مؤذن ﴾ أي نادى مناد، وكلمة ثم تدل على التراخي وذلك أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا، وقيل حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم فأدركهم ثم قال :﴿ أيتها العير ﴾ وهي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تردد تذهب وتجيء، فقيل لأصحاب العير مجازا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا خيل الله اركبي ) كذا روى أبو داود من حديث سمرة بن جندب، وقيل : هي جمع عير وأصلها فعل بضم الفاء كسقف ثم فعل به ما فعل ببيض، ثم تجوز به لقافلة الحمير، ثم استعير لكل قافلة قال مجاهد كانت العير حميرا، وقال الفرآء كانوا أصحاب إبل﴿ إنكم لسارقون ﴾ قيل : قالوه من غير أمر يوسف، وقيل : قالوه بأمره هفوة منه، وقيل : قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، والصحيح عندي أنه قال ذلك بأمر الله تعالى والله تعالى :﴿ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾١ والحكمة في ذلك ابتلاء يعقوب عليه السلام كما سنذكر فيما بعد.
١ سورة الأنبياء، الآية: ٢٣..
﴿ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون٧١ ﴾ أي أي شيء ضاع عنكم والفقد غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.
﴿ قالوا ﴾أي قال رسول الملك ومن معه ﴿ نفقد صواع الملك ﴾ ولم نتهم عليها غيركم ﴿ ولمن جاء به حمل بعير ﴾ من الطعام جعلا له ﴿ وأنا به زعيم ﴾ كفيل أؤميه إلى من رده وفيه دليل على جواز الجعالة وجواز الكفالة، وكفالة الجعل قبل تمام العمل.
﴿ قالوا تالله ﴾ قسم فيه معنى التعجب ﴿ لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ﴾ أي لنسرق في أرض مصر ﴿ وماكنا سارقين ﴾ استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا في كرتي مجيئهم ما يدل على فرط أمانتهم، كرد البضاعة التي جعلت في رحالهم، وكعم أفواه دوابهم لئلا يتناول حروث الناس.
﴿ قالوا ﴾ أي المنادي ومن معه ﴿ فما جزاؤه ﴾ أي السارق أو السرق أو الصواع على حذف المضاف ﴿ إن كنتم كاذبين ﴾ في ادعاء البراءة
﴿ قالوا ﴾ أي إخوة يوسف ﴿ جزاؤه ﴾ أي جزاء سرقته ﴿ من وجد في رحله ﴾ أي أخذه واسترقاقه هكذا كان في شريعة يعقوب ﴿ فهو جزاؤه ﴾ تقرير للحكم السابق أو خبر ( من ) والفاء لتضمنها معنى الشرط، أو جواب لها على شرطية، والجملة خبر ( جزاؤه ) على إقامة الظاهر مقام الضمير كأنه قيل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو
﴿ كذلك نجزي الظالمين ﴾ بالسرقة في تلك الشريعة، كان في شرع يعقوب أن يسلم السارق لسرقته المسروق منه فيسترقه فقال الرسول عند ذلك لا بد من تفتيش أمتعتكم فأخذ في تفتيشها، وروي أنه ردهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.
﴿ فبدأ ﴾ المنادي أو يوسف ﴿ بأوعيتهم ﴾ لإزالة التهمة واحدا واحدا ﴿ قبل وعاء أخيه ﴾ بنيامين، قال قتادة وذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما في ما قذفهم، حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين قال : ما أظن أن هذا أخذه فقالت إخوته والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا ﴿ ثم ﴾ لما فتح رحل بنيامين ﴿ استخرجها ﴾ أي الساقية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث ﴿ من وعاء أخيه ﴾ بنيامين، فلما استخرج الصواع من رحله نكس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين، وقالوا إيش الذي صنعت فضحتنا وسودت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصواع، قال بنيامين بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، قال : وأخذ بنيامين رقيقا وقيل : إن ذلك الرجل أخذه برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق ﴿ كذلك ﴾ محله النصب أي مثل ذلك الكيد ﴿ كدنا ليوسف ﴾ بأن علمناه إياه وأوحينا به إليه، ومن ههنا يعلم أن قول المنادي ﴿ إنكم لسارقون ﴾ وما تبعه كان بأمر يوسف، وكان بإيحاء الله إليه، فلا معصية في ذلك، قال البغوي الكيد ههنا جزاء الكيد، يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم، وقد قال يعقوب ليوسف عليه السلام ﴿ فيكيدوا لك كيدا ﴾١ فكدنا ليوسف من أمرهم، وقال : الكيد من الخلق الحيلة ومن الله التدبير بالحق، يعني صنعنا ذلك ليوسف حتى أخذ أخاه وضم إلى نفسه وحال بينه وبين إخوته ﴿ ما كان ليأخذ أخاه ﴾ ويضمه إلى نفسه ﴿ في دين الملك ﴾ قال ابن عباس في سلطانه وقال قتادة في حكمه حيث كان حكم الملك ودينه أن يضرب السارق ويغرم ضعفي ما قيمة المسروق ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال، ويجوز أن يكون منقطعا أي لكن بأخذ مشية الله وإذنه ولطفه حيث وجد السبيل إلى ذلك بان رد يوسف الحكم إلى إخوته وأجرى الله على ألسنتهم أن جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشية الله تعالى :﴿ نرفع من درجات ﴾ قرأ الكوفيون بالتنوين على التميز من النسبة والباقون بالإضافة ﴿ من نشاء ﴾ بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته، قرأ يعقوب ويشاء بالياء فيهما على الغيبة ﴿ وفوق كال ذي علم ﴾ من الخلق ﴿ عليم ﴾ وهو الله تعالى إذ معنى العليم لغة الذي له العلم البالغ، أو المعنى وفوق كال ذي علم من الخلق عليهم منهم وان كان التفوق من وجه إلى وجه ( كما قال خضر لموسى عليه السلام ( يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه )٢ رواه البخاري وغيره في حديث طويل في قصة موسى وخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) ٣ولا يجوز كون معنى الآية وفوق كال ذي علم عليم منهم تفوقا من كل وجه ما لا يلزم التسلسل، وقال ابن عباس فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله فوق كل عالم.
١ سورة يوسف، الآية: ٥..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ما يستحب للعالم إذ سئل أي الناس أعلم فيطل العلم إلى الله (١٢٢)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (٢٣٦٣)..
﴿ قالوا ﴾ أي إخوة يوسف ﴿ إن يسرق ﴾ بنيامين ﴿ فقد سرق أخ له ﴾ من أمه يعنون يوسف عليه السلام، ﴿ من قبل ﴾ هذا، قال سعيد بن جبير وقتادة كان لجده أبي أمه صنم يعبده، فأخذه سرا وكسره وألقاه في الطريق لئلا يعبده، كذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج أيضا ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد ابن جبير نحوه. وقال البغوي قال مجاهد إن يوسف جاءه سائل يوما فأخذ بيضة من البيت فناولها السائل. وقال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها السائل، وقال وهب كان يخبئ الطعام من المائدة للفقراء. قلت ولما كان يوسف من أهل بيت الكرم وكان يعقوب عليه السلام راضيا بإعطاء السائلين فلا بأس في هذا الأخذ والإعطاء وإنما سماه الإخوة سرقة حسدا عليه وأخرج محمد ابن إسحاق عن مجاهد أن يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت أمه راحيل، فحضنته عمته وأحبته حبا شديدا، فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه السلام، فأتاها وقال : يا أختاه سلمي إلي يوسف فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة واحدة، قالت : لا قال : فوالله ما أنا بتاركه، فقالت دعه عندي أياما أنظر إليه لعل يسليني عنه، ففعل ذلك فعمدت إلى منطقة إسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر فكانت عندها لأنها كانت أكبر ولد إسحاق، فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق اكتشفوا أهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف، فقالت والله إنه لسلم لي فقال يعقوب إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، فأمسكته حتى ماتت فذلك الذي قال إخوة يوسف إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ﴿ فأسرها ﴾ أي مقالتهم أنه سرق كأنه لم يسمعها أو نسبتهم السرقة إليه﴿ يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ﴾ أي لم يظهرها أنه سمع ذلك.
وقيل إنها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله﴿ قال أنتم شر مكانا ﴾فإنه بدل من ﴿ فأسرها يوسف في نفسه ﴾ والمعنى قال في نفسه أنتم شر مكانا أي منزلة من يوسف لسرقتكم أخاكم، أو في سوء الصنيع مما نسبتم إليه وتأنيثها باعتبار الكلمة أو الجملة. قال البيضاوي وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن ﴿ والله أعلم بما تصفون ﴾ يعني هو أعلم أن الأمر ليس كما تصفون.
فلما أخذ يوسف أخاه غضبوا غضبا شديدا، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وإذا صاح ألقت كل امرأة حامل سمعت صوته ولدا، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه، وقيل : كان هذه صفة شمعون من ولد يعقوب، وروي أنه قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر، قالوا عشرة فقال : اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، فدخلوا على يوسف فقال روبيل لتردن علينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسد روبيل فخرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فأتني به، فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال روبيل إن ههنا لبذرا من بذر يعقوب فقال يوسف من يعقوب، وروي أنه غضب ثا نيا فقام إليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال : أنتم معشر العبرانيين تظنون أن لا أشد منكم ولما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
﴿ قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ﴾ في السن أو القدر يحبه كثيرا، وهو ثكلان على أخيه الهالك يستأ نس به، ذكروا له حال أبيه استعطافا له عليه ﴿ فخذ أحدنا مكانه ﴾ بدله ﴿ إنا نراك من المحسنين ﴾ في أفعالك فلا تغير في عادتك، أو من المحسنين إلينا في توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة فأتمم إحسانك.
﴿ قال ﴾ يوسف ﴿ معاذ الله ﴾ أي أعوذ بالله معاذا ﴿ أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ﴾ فإن أخذ غيره ظلم على فتواكم، ولم يقل إلا من سرق تحرزا من الكذب ﴿ إنا إذا لظالمون ﴾ يعني لو أخذتكم مكانه إذا كنا من الظالمين في مذهبكم، ومراده أن الله أذن في أخذ من وجد الصواع في رحله لمصلحة ولرضائه عليه فلو أخذت غيره لكنت ظالما.
﴿ فلما استيئسوا منه ﴾ قرأ البزي فلما استايسوا منه ﴿ ولا تيأسوا من روح الله ﴾ ﴿ إنه لا ييئس ﴾ وحتى إذا استايس الرسل وفي الرعد أفلم يايس الذين آمنوا بالآلف موضع الفاء وفتح الياء موضع العين من غيرهم في الخمسة، والباقون بالهمزة وإسكان الياء من غير ألف في اللفظ، وإذا وقف حمزة ألقى حركة الهمزة على الياء على أصله. يعني لما يئسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا، وزيادة السين والتاء للمبالغة، وقال أبو عبيدة استيئسوا استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم ﴿ خلصوا ﴾ أي انفردوا أو اعتزلوا ﴿ نجيا ﴾ أي متناجين، وإنما وحده لأنه مصدر أو برتبته كما يقال هم صديق وجمعه أنجية كندي وأندية ﴿ قال كبيرهم ﴾ في الفضل والعلم لا في السن وهو يهودا كذا قال ابن عباس والكلبي، وقيل : كبيرهم في السن وهو روبيل وهو الذي نهى الإخوة عن قتل يوسف، كذا قال قتادة والسدي والضحاك، وقال مجاهد وهو شمعون وكانت له رياسة على الأخوة ﴿ ألم تعملوا أن أباكم قد أخد عليكم موثقا ﴾ عهدا وثيقا ﴿ من الله ﴾ جعلوا حلفهم بالله موثقا منه لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته ﴿ ومن قبل ﴾ هذا ﴿ ما فرطتم في يوسف ﴾ أي قصرتم في شأنه، وما مزيدة ويجوز أن تكون مصدرية في محل النصب بالعطف على مفعول تعلموا، ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف، أو على اسم أن وخبره في يوسف أو من قبل، أو الرفع بالابتداء والخبر من قبل، قال البيضاوي فيه نظر لأن قبل إذا كان خبرا أو صلة لا تقطع عن الإضافة حتى لا ينقص وأن تكون موصولة أي ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه في حقه من الخيانة، ومحله الرفع أو النصب كما تقدم في المصدرية ﴿ فلن أبرح ﴾أي لن أفارق ﴿ الأرض ﴾ أي أرض مصر ﴿ حتى يأذن لي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون ﴿ أبي ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وأسكنها الباقون، يعني يأذن لي أبي في الرجوع ﴿ أو يحكم الله لي ﴾ على لسان يعقوب عليه السلام بالخروج منها وترك أخي أو بالموت أو بخلاص أخي منهم أو بالمقاتلة معهم لتخليصه ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ لا يكون حكمه إلا بالحق.
﴿ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق ﴾ على ما شهدنا من ظاهر الأمر، وقرأ ابن عبا س والضحاك سرق على البناء للمفعول من التفعيل يعني نسب إلى السرقة كما يقال خونته أي نسبته إلى الخيانة ﴿ وما شهدنا ﴾ عليه السرقة ﴿ إلا بما علمنا ﴾ –أي- بسبب ما تيقنا ورأينا أن الصواع استخرج من وعائه، وقيل : معناه ما شهدنا قط على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقيل قال لهم يعقوب ما يدري أن هذا الرجل هو السارق يسترق بسرقته إلا بقولكم فقالوا : ما شهدنا عند يوسف أن السارق يسترق إلا بما علمنا وكان الحكم ذلك عند الأنبياء يعقوب وبنيه ﴿ وما كنا للغيب ﴾ أي لبا طن الحال ﴿ حافظين ﴾ عن ابن عباس يعني ما كنا لليلة ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين فلعلها دست بالليل في رحله، وقال مجاهد وقتادة ما كنا نعلم حين أعطيناك الموثق أن ابنك سيسرق، ويصير أمرنا إلى هذا أو إنك تصاب كما أصبت بيوسف وإنما قلنا ﴿ ونحفظ أخانا ﴾ مما لنا إلى حفظه من سبيل.
﴿ وسئل القرية التي كنا فيها ﴾ يعنون مصر وقال ابن عبا س هي قرية من قرى مصر لحقهم المنادي فيها وارتحلوا منها إلى مصر ﴿ والعير التي أقبلنا فيها ﴾ أي القافلة التي كنا فيها، وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، قال ابن إسحاق عرف الأخ المحتبس بمصر أن إخوته كانوا متهمين عند أبيهم لما صنعوا في أمر يوسف فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم ﴿ وإنا لصادقون ﴾ فإن قيل : قال البغوي كيف استجاز يوسف أن يعمل مثل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه، ففيه معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة ؟ قلنا : أكثر الناس فيه والصحيح أنه عمل ذلك بأمر الله تعالى أمره ليزيد في بلاء يعقوب فيضاعف له الأجر، ويلحقه في درجة آبائه الكرام، وقيل : إنه لم يظهر نفسه له لأنه لم يأمن من أن يتدبروا في أمره تدبيرا فيكتموه عن أبيه والأول أصح قلت : بل هو الصحيح لا غير.
فرجع إخوة يوسف غير كبيرهم إلى أبيهم وذكروا لأبيهم ما قال كبيرهم﴿ قال ﴾ يعقوب ليس الأمر كما قلتم ﴿ بل سولت ﴾ أي زينت وسهلت ﴿ لكم أنفسكم أمرا ﴾ أردتموه فقدرتموه فما أدرى الملك أن السارق يؤخد بسرقته أنما أردتم في حمل أخيكم إلى مصر طلب نفع عاجل ﴿ فصبر جميل ﴾ فأمري صبر جميل أو فصبري صبر جميل لا شكوى فيه إلى الناس ﴿ عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ﴾ يعني يوسف وبنيامين وأخاهم المقيم بمصر ﴿ إنه هو العليم ﴾ بحالي وحالهم ﴿ الحكيم ﴾ في تدبير خلقه الذي لم يبتليني إلا لحكمته، ولما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف أعرض. ﴿ وتولى عنهم ﴾.
﴿ وتولى عنهم ﴾ كراهة لما صادف منهم ذلك ﴿ وقال يا أسفى على يوسف ﴾ أي يا أسفي تعال فهذا أوانك، والأسف أشد الحزن والحسرة، والألف بدل ياء المتكلم، روى عبد الرزاق وابن جرير موقوفا عن سعيد ابن جبير أنه قال :( لم يعط أمة من الأمم ﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصاب لم يسترجع وقال يا أسفا ) وكذا روى البيهقي في شعب الإيمان وقال وقد رفع الضعفاء هذا الحديث إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الثعلبي من طريق سعيد بن جبير مرفوعا إلا قوله ألا ترى إلى يعقوب ﴿ وابيضت عيناه ﴾ لكثرة بكائه ﴿ من الحزن ﴾ محق سوادهما بكثرة البكاء فعمى بصره، قال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين وقيل : ضعف بصره ﴿ فهو كظيم ﴾ الكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه والكظوم احتباس النفس ويعبر به عن السكوت، فالكظيم محتبس النفس يعني الساكت، وهو بمعنى الفاعل، والمعنى : كاظم غيظه وحزنه فمسك عليه لا يبث حزنه في الناس. ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وحبس ما أكل في بطنه وكظم السقاء شده بعد مله، وقد يطلق الكظيم على المملوء نظرا إلى أن المملوء يشد فمه ويحبس ما فيه، فهو على هذا جاز أن يكون بمعنى المفعول أي المكظوم المملوء من الغيظ، قال قتادة يعني تردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا، قال الحسن كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التلقي معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه.
وههنا إشكال قوي على قاعدة التصوف، حيث قالوا إن الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل قلبه بغير الله سبحانه ولا يسع فيه محبة أحد من الخلائق، فما بال يعقوب عليه السلام وهو من الأنبياء الكبار والمصطفين الأخيار أولي الأيدي والأبصار، قد شغفه حب يوسف عليه السلام الكريم حتى ابيضت عيناه من البكاء عليه وهو كظيم، وما قيل إن العالم بأسرها مجال ومرايا لله سبحانه وتعالى، فاشتغال قلبه بيوسف اشتغال به تعالى على الحقيقة، فذلك قول في غلبة التوحيد لأهل الابتداء أو التوسط ويستنكف عنه أهل الانتهاء فكيف الأنبياء عليهم السلام، ولو كان كذلك فلا وجه حينئذ لتخصيص تعلق الحب بيوسف عليه السلام دون غيره.
والجواب عن الإشكال : إن هذا مختص بالنشأة الدنيوية يعني لا يمكن اشتغال قلب الصوفي بعد الفناء بشيء من الأشياء الدنيوية وأما الأشياء الأخروية فليس هذا شأنها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما )١ رواه ابن ماجه عن أبي هريرة والطبراني عن ابن مسعود بسند صحيح والبزار عن ابن مسعود نحوه والطبراني بسند صحيح عن أبي الدرداء، بخلاف الآخرة فإنها مرضية لله تعالى وتعلق القلب بها مرضي لله تعالى قال الله تعالى :﴿ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار٤٥ ﴾٢ يعني أولي القوة في طاعة الله والبصارة في معرفة الله تعالى وأحكامه، ﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار٤٦ ﴾٣ أي جعلناهم خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها هي ذكر الدار الآخرة، قال مالك بن دينار نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وجعلنا الآخرة مطمح نطرهم فيما يأتون ويذرون، وإطلاق الدار على الآخرة للإشعار بأنها الدار على الحقيقة والدنيا معبر، هذه الآية صريح في أن الآخرة مرضية لله تعالى وحبها وما فيها موجب للمدح، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قيل لي يعني في المنام سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي د خل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عنه السيد، قال : فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة ) رواه الدارمي عن ربيعة الجرشي، وهذا غاية معرفة الأكملين لم يطلع عليها المتوسطون فضلا عن أهل الابتداء والعوام، ولو كانت رابعة البصرية مطلعة على ذلك لما قالت أريد أن أحرق الجنة كيلا يعبد الناس الله تعالى لأجلها، ألم تسمع قوله تعالى :﴿ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ﴾٤ يعني وقت لقائه الآخرة ومحل لقائه الجنة، وقوله صلى الله عليه وسلم :( الجنة طيبة التربة عذبة الماء وإنها قيعان وإن غراسها هذه يعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر )٥ رواه الترمذي عن ابن مسعود، وروى الشيخان في الصحيحين والحاكم والطبراني بلفظ ( يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة )٦ قال سيدي وإمامي المجدد للألف الثاني المعنى التنزيهي لبس في دار الدنيا كسوة الحروف والكلمات، وسيلبس في الجنة كسوة الأشجار والثمرات، فتعلق الحب بها كأنه تعلق بالتنزيهات وقس على هذا، وقال عندي أن جنة كل واحد عبارة عن ظهور اسم من أسماء الله تعالى الذي هو مبدأ لتعينه، وأن ذلك الإسم سيظهر لذلك الشخص بصورة الأشجار والأنهار والحور والقصور والولدان، فتفاوت الجنات للأشخاص على حسب تفاوت الأسماء والصفات من حيث الجامعية وعدمها، وباعتبار قربه من الذات وغير ذلك، وتلك الأشجار ونحوها قد تكون على هيئة الأجرام الزجاجية فتصير وسيلة لرؤية الذات الغير المتكيفة، ثم تعود كما كانت وهكذا إلى أبد الآبدين.
فإن قيل إن الممكن في نفسه ليس وعدم ومقتض للشر والنقص، وما فيه من الحسن والجمال والخير والكمال مستعار من الواجب، والمحبة واشتغال القلب إنما يتعلق بالحسن والجمال وذلك مستعار في كل ممكن من الواجب تعالى، فما وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية والأخروية وجواز تعلق الحب بإحداهما دون الأخرى ؟ قلنا : العالم بأسرها مجال ومظاهر لأسمائه وصفاته، وصفاته تعالى ممكنة في حد ذواتها واجبة بغيرها أي بذات الله تعالى لإحتياجها إلى الذات، لكن لا يطلق لفظ إلا مكان والوجوب بالغير لئلا يوهم حدوثها وانفكاكها عن الذات، ولما كانت الصفات ممكنة في حد ذاتها وإن كان انعدامها مستحيلا بغيرها، ففيها رائحة الإمكان والعدم، ولأجل ذلك تنكشف الصفات عند الصوفي من وجهتين : وجهة جانب الوجود المستفاد من مرتبة الذات ووجهة جانب احتمال العدم نظرا إلى إمكانها في ذاتها، فوجهة وجودها حسن وجميل لا محالة، ووجهة عدمها أيضا لا يخلو عن حسن وجمال بمجاورة وجهة الوجود وإن كان ذلك الحسن في مرتبة الوهم فليعلم أنه يظهر في نظر الكشفي أن صفاته تعالى تجلت في الأشياء الدنيوية بوجهتها التي إلى الإعدام، فهي من هذه الحيثية مربيات للأشياء الدنيوية، وتجلت في الأشياء الأخروية بوجهتها التي إلى الوجود، وبهذه الحيثية مربيات للأشياء الأخروية، ولذلك صارت الأخرى مرضية لله تعالى مقبولة، وصار تعلق القلب بتلك الأشياء كتعلقه بصاحبها، فالكاملون في محبة الله تعالى هم الكاملون في محبة الدار الآخرة، وهذا وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية والأخروية وجواز تعلق الحب بإحداهما دون الأخرى.
إذا تمهد هذا فنقول : ظهر بالنظر الصريح والكشف الصحيح للمجدد للألف الثاني أن وجود يوسف عليه السلام وجماله وإن كان مخلوقا في الدار الدنيا لكنه كان على خلاف سائر الأشياء الموجودة فيها، من جنس الموجودات الأخروية وربتها صفات الله تعالى بوجهتها التي إلى الوجود كما ربت الجنة وما فيها من الحور والغلمان، فلا جرم جاز تعلق قلب أهل الكمال وحبهم به عليه السلام كما جاز تعلقها بالجنة وما فيها، كذا ذكر المجدد في المكتوب المائة من المجلد الثالث.
بقي ههنا إشكالان :
﴿ أحدهما ﴾ أن المجدد قال في مقام آخر : إن الممكنات سوى الأنبياء والملائكة مجال ومظاهر لظلال الأسماء والصفات التي مباد لتعيناتها، دون الأسماء والصفات أنفسها، وأما الملائكة والأنبياء فأصول الأسماء والصفات مباد لتعيناتهم، وهم مجال ومظاهر لها، فكيف قال ههنا إن الممكنات بأسرها مجال لأسمائه وصفاته تعالى، وكيف يتصور حينئذ أن تتجلى الصفات بأنفسها في الأشياء الدنيوية بوجهتها التي إلى الإعدام، وفي الأشياء الأخروية بوجهتها التي إلى الوجود.
وحله أن كونها مجال لظلال الأسماء لا ينافي كونها ظلالا لأصولها فإن ظل الشيء ظل له، فالأسماء والصفات تتجلى في الأنبياء بلا توسط الظلال وفي غيرهم بتوسطها، ثم هي تتجلى في الأشياء الدنيوية بتوسط الظلال بوجهتها إلى العدم وفي الأشياء الأخروية بوجهتها التي إلى الذات والوجود الصرف فلا منافاة.
﴿ ثانيهما ﴾ أنه يلزم حينئذ فضل يوسف عليه السلام على سائر الأنبياء بل على أفضلهم عليه وعليهم الصلوات والتسليمات، فإن الكلام السابق يشعر أن غير يوسف عليه السلام من الأنبياء في الدنيا مجال للصفات بوجهتها التي إلى العدم.
وحله أن هذا الإشعار إنما هو بمفهوم اللقب ولا عبرة لمفهوم اللقب، بل الحق أن الأنبياء كلهم عليهم الصلوات والتسليمات مجا ل للصفات باعتبار وجهتها إلى الوجود الصرف وليس عدم ظهور حسن الآخرة منهم عليهم الصلوات والتسليمات في الدنيا لكونهم مجال الصفات بوجهتها التي إلى العدم بل لأمر خفي لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقد ذكر المجدد في حسن خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام أنه قال رب محمد صلى الله عليه وسلم ومبدأ تعينه صفة العلم الإجمالي وهو أقرب الصفات إلى الذات ألا ترى أن العلم الحضوري يتحد مع العالم والمعلوم، وأما غيره من الصفات من القدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر ليست بهذه المثابة، والإجمال أعلى درجة وأقرب من الذات من تفا صيلها، فللعلم حسن ذاتي ما ليس لغيرها من الصفات، فالعلم أحب إلى الله تعالى من غيره، وللعلم حسن وجمال لا كيفية له فلأجل كمال لطافته وعلو درجته تجلى في محمد صلى الله عليه وسلم من الحسن والجمال ما لا تدركه الأبصار في هذه النشأة لضعف قوة المبصرة الدنيوية كما لا تدرك الأبصار للذات في هذه النشأة، وسيظهر حسنه وجماله في الآخرة فيوسف عليه السلام وإن سلم له في الدنيا ثلثي الحسن، لكن في الآخرة الحسن حسن محمد صلى الله عليه وسلم والجمال جماله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أخي يوسف أصبح وأنا أملح ) والفرق بين الصباحة والملاحة عند المحققين كالفرق بين الشمس والقمر وبين الذهب والفضة شتان ما بينهما، كان حسن يوسف عليه السلام بحيث أحبه يعقوب والخلائق، وكان حسن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث أحبه رب يعقوب والخلائق جل جلاله ما للتراب ورب الأرباب وإذا ثبت هذا علم أن الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل قلبه بغير الله سبحانه، ولا يسع في قلبه محبة أحد من الخلائق، لكن لا ينافي ذلك اشتغال قلبه بمحبة الأنبياء فإن محبتهم عين محبة الله، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )٧ متفق عليه، وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما )٨ متفق عليه. فما قالت رابعة البصرية إن قلبي ممتلئة من حب الله لا يسع فيه محبة محمد صلى الله عليه وسلم خطأ ناشئ من غلبة السكر، وأما ما قال المجدد في بدو حاله أحب الله سبحانه لأنه خلق محمدا صلى الله عليه وس
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في هوان الدنيا على الله تعالى (٢٣٢٢) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، مثل الدنيا (٤١٨٢)..
٢ سورة ص، الآية: ٤٥..
٣ سورة ص، الآية: ٤٦..
٤ سورة العنكبوت، الآية: ٥..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٤٦٢)..
٦ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الأدب، باب: فضل التسبيح (٣٨٠٧)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان (١٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد (٤٤)..
٨ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: حلاوة الإيمان (١٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (٤٣)..
﴿ قالوا ﴾ يعني إخوة يوسف ﴿ تالله تفتئوا ﴾ أي لا تفتأ ولا تزال حذف لا لعدم الالتباس إذ لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون ﴿ تذكر يوسف حتى تكون حرضا ﴾ أي مشرفا على الهلاك بسبب المرض أو الهرم، والحرض في الأصل محركة الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، والرجل الفاسد المريض والمشرف على الهلاك كذا في القاموس، فهو مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع، وضع ههنا موضع الصفة ﴿ أو تكون من الهالكين ﴾ أي الميتين
﴿ قال ﴾ يعقوب ﴿ إنما أشكو بثي وحزني ﴾ البث أشد الحزن سمى بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه غالبا حتى يبثه أي ينشره وقال الحسن بثي يعني حالي ﴿ إلى الله ﴾ لا إلى أحد منكم ومن غيركم فخلوني وشكايتي، قال البغوي روي أنه دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب مالي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف، فأوحى الله إليه يا يعقوب تشكوني إلى خلقي، فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فقال : قد غفرتها لك، وكان بعد ذلك إذا سئل قال :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾ وروي أنه قيل : له يا يعقوب ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك ؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف وقوس ظهري حزني على أخيه، فأوحى الله إليه أتشكوني وعزتي لأكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال :﴿ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ﴾، فأوحى الله تعالى إليه وعزتي لو كانا ميتين لأخرجتهما لك، وإنما وجدت عليك أنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئا، وإن أحب خلقي إلي الأنبياء ثم المساكين، فاصنع طعاما فادع عليه المساكين، فصنع طعاما ثم قال : من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب، وروي أنه بعد ذلك إذا تغذى أمر ينادي من أراد الغداء فليأت يعقوب، وإذا أفطر أمر من ينادي من أراد أن يفطر فليأت يعقوب، فكان يتغذى ويتعشى مع المساكين، وعن وهب بن منبه قال : أوحي الله تعالى إلى يعقوب تدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة ؟ قال : لا يا إلهي قال : لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه، وروي أن سبب ابتلاء يعقوب أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور.
وقال وهب والسدي وغيرهما أتى جبرئيل يوسف عليه السلام في السجن فقال : هل تعرفني أيها الصديق ؟ قال : أرى صورة طاهرة ورائحة طيبة، قال : إني رسول رب العالمين وأنا الروح الأمين قال : ما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أن الله يطهر البيوت بطهر النبيين وأن الأرض التي يدخلونها أطهر الأرضين، وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين، قال : كيف لي باسم الصديقين وتعدني من المخلصين الطاهرين وقد أدخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين ؟ قال جبرئيل لأنه لم تفتتن قبلك ولم تطع سيدتك في معصية ربك، لدلك سماك الله في الصديقين وعدك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، فقال : هل لك علم بيعقوب أيها الروح الأمين ؟ قال نعم وهب الله له من الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى، قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل ؟ قال : أجر مائة شهيد، قال : أفتراني ملاقيه ؟ قال :
نعم، فطابت نفسه، وقال : ما أبالي ما لقيت إن رأيته ﴿ وأعلم من الله ﴾ من صنعه ومن رحمته فإنه لا يخيب داعيه ولا يدع الملتجيء إليه أو من الله بنوع من إلهام ﴿ ما لا تعلمون ﴾ من حياة يوسف، روى أن ملك الموت زار يعقوب فقال له أيها الملك الطيب ريحه الحسن صورته هل قبضت روح ولدي في الأرواح، قال : لا فسكن يعقوب وطمع في رؤيته، قيل : يعني أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإني وأنتم سنسجد له، وقال السدي لما أخبره ولده بسير الملك أحست نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف، وأخرج ابن أبي حاتم عن النصر بن عربي قال : بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاما لا يدري أحي يوسف أم ميت، حتى تمثل له ملك الموت فقال له من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت، قال : فأنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا وعند ذلك قال :﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ﴾
﴿ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ﴾ التحسس تطلب الإحساس يعني تفحصوا فتعرفوا، وقال ابن عباس معناه التمسوا ﴿ ولا تيأسوا ﴾ أي لا تقنطوا ﴿ من روح الله ﴾ أي من رحمة الله وقيل من فرح الله وتنفيسه ﴿ إنه ﴾ أي الشأن ﴿ إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرين ﴾ بالله وصفاته فإن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال.
فخرجوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف ﴿ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ﴾ شدة الجوع، ﴿ وجئنا ببضاعة مجزاة ﴾ قال ابن عباس كانت دراهم زيوفا ردية لا ينفق، روى عن أبو عبيد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، وأخرج عن عكرمة سعيد ابن منصور وابن المنذر وأبو الشيخ أي دراهم قليلة، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عبد الله بن الحارث قال كان متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل : من الصوف والأقط، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي صالح قال : كان حبة الخضراء والصنوبر، وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال : كان سويق المقل، وقيل : كانت الأدم والنعال، وأصل الإزجاء الدفع والسوق منه قوله تعالى :﴿ أن الله يزجي سحابا ﴾١ أي يسوق، فيقال للدراهم الردية مزجاة لأنها تدفع ولا تؤخذ، وكذا للدراهم القليلة لأنها تدفع ولا تؤخذ في مقابلة المتاع العزيز، وكذا الغير الدراهم من الأشياء الردية لدفعها وعدم قبولها في الثمن إلا بتجوز من البائع ﴿ فأوفي لنا الكيل ﴾ أي أعطنا كيلا كاملا كما كنت تعطينا قبل هذا بالثمن الجياد الوافي.
﴿ وتصدق علينا ﴾ بما بين الثمنين الجيد والردي ولا تنقصنا، كذا قال أكثر المفسرين، وقال ابن جريج والضحاك تصدق علينا برد أخينا.
﴿ إن الله يجزي المتصدقين ﴾ أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، والأجزاء والتصدق والتفضل مطلقا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة في السفر :( هذه صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته )٢ رواه البخاري، لكنه اختص عرفا بما يبتغي به وجه الله والثواب، ومبني على هذا العرف ما روي أن الحسن سمع رجلا يقول : اللهم تصدق علي، فقال إن الله لا يتصدق إنما يتصدق من يبتغي الثواب قل اللهم أعطني وتفضل علي، قال الضحاك لم يقولوا إن الله يجزيك لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن، قلت بل لأنهم لم يعلموا أنه يتصدق أم لا. فائدة : سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال سفيان ألم تسمع قوله تعالى :﴿ وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ﴾، كذا أخرج ابن جرير قلت : استدل سفيان بهذه الآية على حل الصدقة على الأنبياء، ولا يتم الاستدلال إذا ثبت نبوة إخوة يوسف عليه السلام.
فلما كلم إخوة يوسف بهذا الكلام أدركته الرقة فأرفض دمعه وأظهر ما الذي كان كتم و﴿ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف ﴾.
١ سورة النور، الآية: ٤٣..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها (٦٨٦)..
﴿ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف ﴾
من الظلم ﴿ وأخيه ﴾ من إفراده من يوسف وإذلاله حتى كان لا يستطيع أن يتكلم بعجز وذلة، أي هل علمتم قبح ما فعلتم فتتوبوا عنه ﴿ إذ أنتم جاهلون ﴾ بقبحه فلذلك أقدمتم عليه، أو هل علمتم عاقبة ما فعلتم، وإنما قال ذلك تحريضا على التوبة وشفقة عليهم لا معاتبة ولا تثريبا، يدل عليه قوله :﴿ لا تثريب عليكم اليوم ﴾ كذا قال ابن إسحاق في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، وقال الكلبي إنما قال ذلك حين حكى لإخوته أن مالك بن عمر قال إني وجدت غلاما في بئر من حاله كيت وكيت فابتعته بكذا درهما، فقالوا أيها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يهود أو هو يقول كان يعقوب يحزن ويبكي لفقد واحد منا حتى كف بصره فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم، ثم قالوا له إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا فإنه بمكان كذا أو كذا، فذلك حين رحمهم وبكى وقال ذلك القول، وروى عن عبد الله بن يزيد ابن أبي فروة أن يعقوب لما سمع حبس بنيامين كتب كتابا إلى يوسف على يد إخوته حين أرسلهم ثالثا، من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى ملك مصر، أما بعد فأنا أهل بيت وكل بنا البلاء، أما جدي إبراهيم فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية، ثم آتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا : قد أكله الذئب فذ هبت عيناي من البكاء عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به، وإنك حبسته وزعمت أنه سرق، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء، فأظهر نفسه وقال :﴿ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ﴾ بما يؤول إليه أمر يوسف، وقيل مذنبون عاصمون وقال الحسن إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشباب.
﴿ قالوا ﴾ أي إخوة يوسف ﴿ أئنك ﴾ كذا قرأ الجمهور على الإستفهام استفهام تقرير ولذلك حقق بأن واللام وهم على أصولهم في الهمزتين المفتوحة والمكسورة وقرأ ابن كثير على الخبر أنك ﴿ لأنت يوسف ﴾ قال ابن إسحاق كان يوسف يتكلم من وراء الحجاب، فلما ﴿ قال هل علمتم ما فعلتم ﴾ كشف عنه الغطاء ثم رفع الحجاب فعرفوه، قلت وهذا مستبعد يأبى عنه القصة المذكورة، وقال الضحاك عن ابن عباس لما قال هذا القول تبسم فرأوا ثناياه كالدر المنظوم فشبهوه بيوسف، وقال عطاء عن ابن عباس إن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه وكان له في قرنه علامة، وكان ليعقوب عليه السلام مثلها، ولإسحاق عليه السلام مثلها، ولسارة مثلها شبه الشامة، فعرفوه وقالوا إنك لأنت يوسف، وقيل : قالوه على التوهم حتى ﴿ قال أنا يوسف وهذا أخي ﴾ من أبي وأمي بنيامين، إنما ذكر أخاه وهم قد سألوه عن نفسه تعريفا لنفسه به وتفخيما لشأنه وإدخالا له في قوله :﴿ قد من الله علينا ﴾ بأن جمعنا بالسلامة والكرامة ﴿ إنه من يتق ﴾ قرأ قنبل يتقي بإثبات الياء وصلا ووقفا، والباقون بحذفها في الحالين، يعني من يتق الله بأداء الفرائض واجتناب المعاصي ﴿ ويصبر ﴾ على البليات والطاعات وعن المعاصي ﴿ فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ في الدنيا ولا في الآخرة، وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر.
﴿ قالوا ﴾ معتذرين ﴿ تالله لقد آثرك الله ﴾ اختارك الله ﴿ علينا ﴾ بحسن الصورة وكمال السيرة وسائر الفضائل الدنيوية والأخروية ﴿ وإن كنا لخاطئين ﴾ والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا بك، يقال خطأ إذا تعمد بالذنب وأخطأ إذا كان غير متعمد.
﴿ قال ﴾ يوسف بغاية الحلم ﴿ لا تثريب ﴾ تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش بمعنى إزالة الثرب فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه ﴿ عليكم اليوم ﴾ متعلق بالتثريب أو بالمقدر للجار الواقع خبرا للتثريب، والمعنى لا أثرب اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام بعد ذلك، أو المعنى غفرت لكم بعدما اعترفتم ﴿ يغفر الله لكم ﴾ ذنوبكم ﴿ وهو أرحم الراحمين ﴾ يعني إذا غفرتكم وأنا الفقير القتور، فما ظنكم بالغني الغفور، فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب، قال البيضاوي ومن كرم يوسف أنهم لما عرفوه، أرسلوا إليه وقالوا إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك، فقال : إن أهل مصر كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم وعظمت في عيونهم، حيث علموا أنكم إخوتي من حفدة إبراهيم عليه السلام.
قال البغوي فلما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه فقال ما فعل أبي بعدي قالوا ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه ودعا أباه وقال :
﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ﴾ أي يرجع إلي بصيرا، أو المعنى يصير بصيرا، قال الحسن لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بعد أن أعلمه الله، قال الضحاك كان ذلك القميص من نسيج الجنة وعن مجاهد أمره جبرائيل أن يرسل إليه قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه جرد ثيابه وألقي في النار عريانا، فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فكان ذلك عند إبراهيم عليه السلام، فلما مات ورثه إسحاق فلما مات ورثه يعقوب فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في قصبة وشد رأسها وعلقها في عنقه، لما كان يخاف عليه من العين وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عريانا جاءه جبرئيل عليه السلام وعلى يوسف عليه السلام ذلك التعويذ، فأخرج القميص منه وألبسه إياه، ففي هذا الوقت جاء جبرئيل عليه السلام وقال أرسل ذلك القميص، فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته وقال :﴿ ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ﴾ قلت : وإذا ثبت بكشف المجدد رضي الله عنه أن حسن يوسف ووجوده كان من جنس الأشياء الموجودة في الجنة، فحينئذ لا حاجة إلى ثبوت كون قميصه من نسيج الجنة ولأجل ذلك كان يعافى به المبتلي بل يكفي في ذلك كون القميص ملبوسا ليوسف فإن وجود يوسف كان من جنس أشياء الجنة، الله أعلم، ﴿ وأتوني ﴾ أنتم وأبي ( بأهلكم ) بنسائكم وذراريكم ومواليكم ﴿ أجمعين ﴾.
﴿ ولما فصلت العير ﴾ التي فيها قميص يوسف من مصر وخرجت من عمرانها إلى كنعان ﴿ قال أبوهم ﴾ يعقوب عليه السلام لمن حضره ﴿ إني أجد ريح يوسف ﴾ فيه دليل على أن ريح الجنة كان من يوسف نفسه لا من قميصه، وإلا لقال ريح قميص يوسف، قال البغوي روي أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن يأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، قال مجاهد أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيام، وحكي عن ابن عباس من مسيرة ثمان ليال، وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا، وقيل : هبت ريح فاحتملت ريح القميص إلى يعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص، فلذلك قال :﴿ إني لأجد ريح يوسف ﴾ ﴿ لولا أن تفندون ﴾ أي لولا تنسبوني إلى الفسد وهو نقصان عقل يحدث من هرم، ولذلك لا يقال عجوز مفندة لأن نقصان عقلها ذاتي، وجواب لولا محذوف تقديره لصدقتموني أو لقلت أنه قريب.
﴿ قالوا ﴾ يعني من حضره ﴿ تالله إنك لفي ضلالك القديم ﴾ أي في ذهابك عن الصواب قديما بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره وتوقع لقائه.
﴿ فلما أن ﴾ زائدة ﴿ جاء البشير ﴾ من عند يوسف قال ابن مسعود جاء البشير بين يدي العير، وقال ابن عباس هو يهودا، قال السدي قال يهودا أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره أنه حي، فأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس حمله يهودا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا، وقيل : البشير مالك بن وعر ﴿ ألقاه ﴾ ألقي البشير قميص يوسف ﴿ على وجهه ﴾ أي وجه يعقوب ﴿ فأرتد بصيرا ﴾ فعاد بصيرا بعدما كان أعمى وعادت قوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم ﴿ قال ألم أقل لكم إني ﴾ فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وأسكنها الباقون ﴿ أعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ من حياة يوسف وإن الله يجمع بيننا، وقيل :﴿ إني أعلم ﴾ كلام مبتدأ والقول ﴿ لا ييأس من روح الله ﴾ و ﴿ إني لأجد ريح يوسف ﴾ قال البغوي أي أنه قال للبشير كيف يوسف ؟ قال : قال إنه ملك مصر فقال يعقوب ما أصنع بالملك ؟ على أي دين تركته ؟ قال : على الإسلام قال : الآن تمت النعمة.
﴿ قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين٩٧ ﴾ أي سل الله مغفرة ما ارتكبنا في حقك وحق ابنك إنا تبنا واعترفنا بأخطائنا
﴿ قال ﴾ يعقوب ﴿ سوف أستغفر لكم ربي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون، قال أكثر المفسرين أخر الدعاء إلى السحر، فإنه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له متفق عليه من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل ثم قال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين، وعن عكرمة عن ابن عبا س ﴿ سوف أستغفر لكم ﴾ يعني ليلة الجمعة، وقال وهب كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاءوس آخر الدعاء إلى السحر من ليلة الجمعة في فوافق ليلة عاشوراء، وقال الشعبي قال سوف أستغفر لكم ربي يعني أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفرت لكم ربي، فإن عفو المظلوم شرط لمغفرة الله تعالى، و قيل آخر الدعاء إلى أن يتعرف حالهم في صدق التوبة ﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾.
قال النووي روي أن يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ للخروج إلى مصر فخرجوا وهم إثنان وسبعون بين رجل وامرأة، وقال مسروق كانوا ثلاثة وتسعون، فلما دنا من مصر كلم من يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند وركب أهل مصر معهما يلقون يعقوب وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس وقال : يا يهودا هذا فرعون مصر قال : لا هذا ابنك.
﴿ فلما دخلوا ﴾ أي يعقوب وأهله ﴿ على يوسف ﴾ قلت لعل يوسف حين خرج من مصر لاستقبال يعقوب عليه السلام نزل في مضرب أو قصر كان له ثمه فدخلوا عليه هناك، وقال البغوي فلما دنا كل واحد منهما صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام فقال جبرئيل لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام، قلت : لعل هذا الأجل محبوبية الله التي ظهرت في يوسف، فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك يا مذهب الأحزان ﴿ آوى إليه ﴾ ضم إليه ﴿ أبويه ﴾ قال أكثر المفسرين هو أبوه وخالته ليا، نزلها منزلة الأم تنزيل العم منزلة الأب في قوله تعالى :﴿ آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾١ أو لأن يعقوب تزوجها بعد أمه والرابة تدعى أما، وكانت أم يوسف قد ماتت في نفاس بنيامين، وقال الحسن هو أبوه وأمه وكانت حية، وفي بعض التفاسير أن الله أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر، قال البغوي روي أن يوسف ويعقوب نزلا وتعانقا وقال الثوري عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف يا أبتي بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة يجمعنا، قال : بلى يا بني ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك ﴿ وقال ﴾ يوسف بعدما لقيهم خارج مصر ﴿ أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين٩٩ ﴾ من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم، زمن القحط وأصناف المكاره، والمشيئة متعلقة بالدخول المكيف بالأمن كما في قوله تعالى :﴿ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾٢ وقيل : إن ههنا بمعنى إذ أي إذ شاء الله كما في قوله تعالى :﴿ وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾٣ أي إذ كنتم، وقيل : في الآية تقديم وتأخير والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله.
١ سورة البقرة، الآية: ١١٣..
٢ سورة الفتح، الآية: ٢٨..
٣ سورة آل عمران، الآية: ١٣٩..
﴿ ورفع أبويه على العرش ﴾ أي أجلسهما على السرير، والرفع هو النقل من السفل إلى العلو ﴿ وخروا ﴾ يعني أبوي يوسف وإخوته ﴿ له سجدا ﴾ لم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض إنما الإنحناء والتواضع يعني تواضعوا ليوسف، وقيل : وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم لا على طريق العبادة، وكانت تحية الناس يومئذ السجود، وكان ذلك جائزا في الأمم السابقة فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عبا س أنه قال : معناه خروا لله سجدا وشكرا بين يدي يوسف والضمير في له يرجع إلى الله، قلت : كان يوسف جعل قبلة بإذن الله تعالى كالكعبة لنا، وكما جعل آدم قبلة للملائكة حين أمروا بالسجود لآدم، وقيل معناه ﴿ وخروا له ﴾ أي لأجل يوسف ولقائه، سجدوا لله تعالى شكرا والأول أصح، والرفع مؤخر عن الخرور وإن قدم لفظا للاهتمام بتعظيمه لهما ﴿ وقال ﴾ يوسف عند ذلك ﴿ يا أبتي هذا تأويل رؤياي من قبل ﴾ التي رأيتها أيام الصبا ﴿ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ﴾١ ﴿ قد جعلها ربي حقا ﴾ صدقا ﴿ وقد أحسن بي ﴾ فتح الياء نافع وأبو عمرو وأسكنها الباقون يعني قد أنعم علي ﴿ إذ أخرجني من السجن ﴾ ولم يذكر الجب مع كونه أشد من السجن استعمالا للكرام كيلا يخجل إخوته بعد ما قال :﴿ لا تثريب عليكم ﴾٢ ولأن نعمة الله في إخراجه من السجن أعظم لأن بعد خروجه من الجب صار إلى العبودية والرق وابتلى بمكر النساء، وبعد خروجه من السجن صار ملكا﴿ وجاء بكم من البدو ﴾ البدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم وكانوا أهل بادية والمواشي ﴿ من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي ﴾ فتح الياء ورش وأسكنها الباقون، أي أفسد بيننا بالحسد وجرش من نزع الرابض الدابة إذا نحنها وحملها على الجري ﴿ إن ربي لطيف ﴾ تدبيره ﴿ لما يشاء ﴾ إذ ما من صعب إلا وينفذ مشيئته به ويتسهل دونها، وقال البغوي ذو لطف، وحقيقة اللطيف الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق ﴿ إنه هو العليم ﴾ بوجوه المصالح والتدابير﴿ الحكيم ﴾ الذي يفعل كل شيء في وقت وعلى وجه يقتضيهما الحكمة.
قال البيضاوي روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزانه، فلما دخل خزينة القرطاس، قال : يا بني ما أغفلك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي علي ثمان مراحل قال : أمرني جبرئيل عليه السلام قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أبسط مني إليه فسأله، فقال جبرئيل عليه السلام الله أمرني بذلك لقولك ﴿ وأخاف أن يأكله الذئب ﴾٣ قال الله : فهلا خفتني. قال البغوي قال أهل التاريخ أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ومضى به حتى دفنه بالشام ثم انصرف إلى مصر، أخرج أحمد في الزهد عن مالك أن يعقوب لما ثقل قال لابنه يوسف أدخل يدك تحت صلبي واحلف لي برب يعقوب لتدفنني مع آبائي قد اشتركتهم في العمل فأشركني معهم في قبورهم، فلما توفي يعقوب فعل ذلك يوسف حتى أتى به أرض كنعان فدفنه معهم، قال سعيد بن جبير نقل يعقوب في تابوت من ساج إلى البيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيص فدفنا في قبر واحد وكانا ولدا في بطن واحد وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة.
١ سورة يوسف، الآية: ٤..
٢ سورة يوسف، الآية: ٩٢..
٣ سورة يوسف، الآية: ١٣..
فلما جمع الله ليوسف شمله علم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله حسن العاقبة فقال :
﴿ رب قد آتيتني من الملك ﴾ أي بعض الملك وهو ملك مصر والملك اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير ﴿ وعلمتني من تأويل الأحاديث ﴾ أي والرؤيا ومن هذا أيضا للتبعيض لأنه لم يؤت كل التأويل ﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾١ ﴿ فاطر السموات والأرض ﴾ أي خالقهما ومبدعهما وانتصابه على أنه صفة المنادى أو منادى برأسه ﴿ أنت ولي في الدنيا والآخرة ﴾ يعني ناصري ومتولي أموري فيهما، أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي ﴿ توفني ﴾ أي إقبضني إليك ﴿ مسلما وألحقني بالصالحين ﴾ أي بالنبيين فإن كمال الصلاح بالعصمة وهي مختصة بالأنبياء، قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف، وفيه نظر فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال :( اللهم الرفيق الأعلى ) وعن عائشة قالت :( كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخير بين الدنيا والآخرة، قالت : أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحة شديدة في مرضه فسمعته يقول :﴿ مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أؤلئك رفيقا ﴾ فظننت أنه خير )٢ رواه الشيخان في الصحيحين وابن سعد، وفي القصة أنه لما جمع الله تعالى ليوسف شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه فقال هذه المقالة، قال الحسن عاش بعد هذا سنين كثيرة، وقال غيره لما قال هذا لم يمض عليه أسبوع حتى توفي قال البغوي اختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه قال الكلبي : اثنان وعشرون سنة، وقيل : أربعون سنة، وقال الحسن ألقى يوسف في الجب وهو ابن سبع عشر، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة، وفي التوراة مائة وعشر سنين، وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد أفرائيتم وميشار وكان من أولاد أفرائيتم يوشع بن نون صاحب موسى عليه السلام ورحمت بنت يوسف امرأة أيوب المبتلى عليه السلام، وقيل : عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة وقيل أكثر، واختلفت الأقاويل فيه وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته، حتى هموا بالقتال فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه ويصل بركته إلى جميعهم، وقال عكرمة دفن في الجانب الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر، فنقل إلى الجانب الأيمن فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر فدفنوه في وسطه، وقدروا ذلك سلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى فدفنوه بقرب آبائه بالشام، أخرج ابن إسحاق وابن حاتم عن عروة بن الزبير قال : إن الله حين أمر موسى بالسير ببني إسرائيل أمره أن يحتمل معه عظام يوسف، وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها معه حتى يضعها بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمن يعرف قبره فما وجد إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت : يا نبي الله إني أعرف مكانه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه، قال : افعل وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر فاحتمله وقد توارت الفراعنة من العماليق بعد يوسف مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف حتى بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يده فرعون.
١ سورة يوسف، الآية: ٧٦..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبئين﴾ (٤٥٨٦).
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة رضي الله عنها (٢٤٤٤).
.

﴿ ذلك ﴾ الذي ذكرت من قصة يوسف ﴿ من أنباء الغيب نوحيه إليك ﴾ يا محمد ﴿ وما كنت ﴾ يا محمد ﴿ لديهم ﴾ عند بني يعقوب ﴿ إذ أجمعوا أمرهم ﴾ أي عزموا أن يلقوا يوسف في غيابت الجب ﴿ وهم يمكرون ﴾ بيوسف، هذا كالدليل على كونه يوحي إليه يعني لا يخفي على مكذبيك إنك ما كنت عند أولاد يعقوب وما لقيت أحدا يعلم ذلك حتى سمعت القصة منه، إنما حذف هذا الشق استغناء بذكره في غير هذه القصة، كقوله تعالى :﴿ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾١
١ سورة هود، الآية: ٤٩..
قال البغوي روي أن يهودا وقريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فأنزل الله تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾ يا محمد في إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات عليهم ﴿ بمؤمنين ﴾ لما قضي الله تعالى عليهم بالكفر والنار.
﴿ وما تسألهم عليه ﴾ أي على الإنباء أو القرآن ﴿ من أجر ﴾ جعل﴿ إن هو ﴾ أي القرآن ﴿ إلا ذكر ﴾ عظة من الله ﴿ للعالمين ﴾ عامة حجة على من لم يؤمن وبصيرة ورحمة لمن آمن به.
﴿ وكأين من آية ﴾ وكثير من آية أصله كأي عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده ﴿ في السماوات والأرض يمرون ﴾ أي الكفار ﴿ عليها ﴾ أي على تلك الآيات ويشاهدونها ﴿ وهم عنها معرضون ﴾ أي والحال أنهم يعرضون عنها، يعني أنهم يرون آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر ولا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله ﴾ أي يقرون لوجوده وخالقيته ﴿ إلا وهم مشركون ﴾ يعني في حال من الأحوال إلا في حال إشراكهم في العبادة غيره تعالى به، فإنهم كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض قالوا الله، وإذا سئلوا من ينزل من السماء ماء قالوا الله، ومع ذلك كانوا يعبدون الحجارة ويقولون مطرنا بنوء كذا، وعن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت في تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال عطاء هذا في الدعاء حيث نسوا ربهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا الدعاء ﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون. ٦٥ ﴾١ وفي نحو ذلك من الأحوال، وقيل معناه ﴿ إلا وهم مشركون ﴾ باتخاذ الأحبار أربابا مطاعا في خلاف ما أمر الله به، أو مشركون بنسبة التبني إليه تعالى، أو القول بالنور والظلمة، ومن جملة الشرك ما يقوله القدرية من إثبات قدرة الخلق للعبد، وإنما التوحيد ما يقوله أهل السنة لا خالق إلا الله، بل النظر إلى الأسباب مع الغفلة عن المسبب ينافي التوحيد، فالموحدون هم الصوفية.
١ سورة العنكبوت، الآية: ٦٥..
﴿ أفأمنوا ﴾ يعني أنسوا ربهم فآمنوا ﴿ أن تأتيهم غاشية ﴾ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم كائنة ﴿ من عذاب الله ﴾ قال قتادة وقيعة وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع ﴿ أو تأتيهم الساعة ﴾ المشتملة على عذاب جهنم ﴿ بغتة ﴾ فجاءة من غير سابقة علم وعلامة على تعين وقته ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ بإتيانها غير مستعدين لها استفهام إنكار يعني لا ينبغي لهم ذلك النسيان والأمن، قال ابن عباس يهيج الصيحة بالناس وهم في أسواقهم وعن أبي هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا فلا يتبايعانه ولا يطويانه )١ الحديث، وقد مر الحديث وما في الباب في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى :﴿ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ﴾ إلى قوله :﴿ لا تأتيكم إلا بغتة ﴾٢.
١ أخرجه البخاري في كتاب، الرقاق (٦٥٠٦)..
٢ سورة الأعراف، الآية: ١٨٧..
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هذه ﴾ الدعوى إلى التوحيد والإعداد إلى للميعاد ﴿ سبيلي ﴾ سنتي ومنهاجي، والسبيل يذكر ويؤنث كالطريق ثم فسر السبيل بقوله :﴿ أدعوا إلى الله ﴾ أي إلى الإيمان بوجوده ووحدانيته وتنزيهه عما لا يليق به وابتغاء درجات قربه ﴿ على بصيرة ﴾ أي على يقين ومعرفة، أي لست من الخراصين الذين يقولون بأشياء من غير علم، أو المعنى على بصيرة أي بيان وحجة واضحة غير عمياء ﴿ أنا ﴾ تأكيد للمستتر في أدعوا، أو في على بصيرة لأنه حال منه، أو مبتدأ خبره على بصيرة ﴿ ومن اتبعني ﴾ عطف عليه أي من آمن بي وصدقني فهو أيضا يدعوا إلى الله، قال الكلبي وابن زيد حق على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر القرآن، أو المعنى أنا وكل من تبعني فهو على بصيرة، قال ابن عباس يعني به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمان، وقال ابن مسعود من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم كانوا على الهدى المستقيم ﴿ وسبحان الله ﴾ عطف على أدعوا يعني ادعوا إلى الله وأنزهه تنزيها من الشركاء ﴿ وما أنا من المشركين ﴾.
﴿ وما أرسلنا من قبلك ﴾ يا محمد ﴿ إلا رجالا ﴾ لا ملائكة رد لقولهم ﴿ لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴾١ ﴿ نوحي إليهم ﴾ كما نوحي إليك وبذلك امتازوا عن غيرهم، قرأ حفص هنا وفي النحل ولأول من الأنبياء بالنون وكسر الحاء على التكلم والبناء للفاعل والباقون بالياء وفتح الحاء على الغيبة والبناء للمفعول ﴿ من أهل القرى ﴾ يعني من أهل الأمصار لكونهم أعقل وأعلم وأحلم دون أهل البوادي لغلظهم وجفائهم، قال الحسن نظرا إلى هذه الآية لم يبعث الله نبيا من بدو ولا من الجن ولا من النساء، قلت لا دليل في الآية على نفي النبوة من الجن، فإنه تعالى قال :﴿ كان رجال من الإنس يعوذون برجا ل من الجن ﴾٢ وأيضا الكلام في بعث الرسل إلى الإنس، وذلك لا يقتضي إرسال الجن إلى الجن، وقد قال الله تعالى :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا٩٥ ﴾٣ ﴿ أفلم يسيروا في الأرض ﴾ يعني هؤلاء المشركون المكذبون ﴿ فينظروا كيف كان عاقبة ﴾ أمر ﴿ الذين من قبلهم ﴾ من المكذبين بالرسل والآيات فيعتبروا ويحذروا تكذيبك، أو من المستغرقين بالدنيا المتهالكين عليها ﴿ فينقلعوا ﴾ عن حبها ﴿ ولدار الآخرة ﴾ أي دار الحالة الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة ﴿ خير للذين اتقوا ﴾ الشرك والمعاصي يقول الله تعالى، هذا ما فعلنا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب في الدنيا، وما في الدار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكر اكتفاء بدلالة الكلام عليه ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي تستعملون عقولكم لتعرفوا أنها خير، قرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
١ سورة فصلت، الآية: ١٤..
٢ سورة الجن، الآية:..
٣ سورة الإسراء، الآية: ٩٥.
﴿ حتى إذا استيئس الرسل ﴾ عامة لما دل عليه ﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾ أي فتراخي نصرهم حتى إذا استيئسوا، وقال البيضاوي غاية لمحذوف دل عليه الكلام تقديره لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى إذا استيئس الرسل من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير سوء ﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ قرأ الكوفيون وأبو جعفر بتخفيف الذال، وكانت عائشة تنكر هذه القراءة نظرا إلى ظاهر معناه أنهم ظنوا أخلفوا ما وعدهم الله لكن القراءة متواترة وإن لم تسمعها عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغها متواترا، والمعنى ظنوا أي الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون، أو كذبهم القوم بوعد الإيمان، أو المعنى وظنوا أن المرسل إليهم أنهم أي الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد، أو المعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا واخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم، وقال الغوي وروى عن ابن عباس أن معناه ضعف قلوب الرسل يعني وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر وكانوا بشرا وظنوا أنهم أخلفوا ثم تلا ﴿ حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ﴾١ وهذا المعنى الذي أنكرته عائشة، قال البيضاوي إن صحت هذه الرواية يعني عن ابن عباس فالمراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة، قال الطيبي الرواية صحيحة فقد رواه البخاري والظاهر أن المراد بالآية المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل، وقرأ غير الكوفيين بالتشديد، والمعنى وظنت يعني اتقنت الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم تكذيبا لا يرجى إيمانهم بعده، كذا قال قتادة وقال بعضهم معنى ﴿ حتى إذا استيئس الرسل ﴾ ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم وظنوا أن آمن بهم منهم قد كذبوا وارتدوا عن إيمانهم لشدة المحنة والبلاء واستبطاء النصر ﴿ جاءهم ﴾ أي الرسل ﴿ نصرنا فنجي من نشاء ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على لفظ الماضي المبني للمفعول من التفعيل، فيكون محل من مرفوعا، والباقون بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء على لفظ المضارع المتكلم من الأفعال ومن حينئذ في محل النصب والمراد بمن نشاء النبي والمؤمنون، وإنما لم يعينهم ليدل على أنهم هم الذين يستأهلون إن نشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يذهب الوهم إلى غيرهم ﴿ ولا يرد بأسنا ﴾ عذابنا ﴿ عن القوم المجرمين ﴾ إذا نزل بهم وفيه بيان المشيئتين، قلت : ويمكن أن يكون المراد بمن نشاء بعض المؤمنين فإن بعضهم قد يهلكون بمجاورة الكافرين قال الله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾٢.
١ سورة البقرة، الآية: ٢١٤..
٢ سورة الأنفال، الآية: ٢٥..
﴿ لقد كان في قصصهم ﴾ أي في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته ﴿ عبرة لأولى الألباب ﴾ أي لذوي العقول السليمة المبرأة عن شوائب الأنف والركون إلى الحس، حيث نقل من غيابة الجب إلى غيابة الحب، ومن الحصير إلى السرير فصارت عاقبة الصبر السلامة والكرامة، ونهاية المكر الخزي والندامة ﴿ ما كان ﴾ القرآن ﴿ حديثا يفترى ﴾ أي يختلق ﴿ ولكن تصديق الذي بين يديه ﴾ من التوراة والإنجيل والزابور ﴿ وتفصيل كل شيء ﴾ مما يحتاج إليه العباد في الدين، إذ ما من أمر ديني إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، فإن ما كان ثابتا بالسنة فقد قال الله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾١ وقال :﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾٢ وقال :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾٣ ونحو ذلك وما كان ثابتا بالإجماع فقد قال الله تعالى :﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾٤ الآية، وما كان ثابتا بالقياس فقد قال الله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار٢ ﴾٥ ﴿ وهدى ﴾ من الضلال ﴿ ورحمة ﴾ ينال بها خير الدارين ﴿ لقوم يؤمنون ﴾ أي يصدقونه خصوا بالذكر لانتفاعهم به دون غيرهم، وما نصب بعد لكن معطوف على خبر كان، قال الشيخ أبو منصور في ذكر قصة يوسف وإخوته في تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش كأنه يقول أن إخوة يوسف مع كونهم موافقا له في الدين وكانوا أبناء رجل واحد، عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر وهم يعلمون قبح صنيعهم فصبر يوسف على ذلك وعفا عنهم، فأنت أحق أن تصبر على أذى قومك فإنهم كفار جهال لا يعلمون قبح صنيعهم، وقال : وهب إن الله تعالى لم ينزل كتابا إلا وفيه سورة يوسف تامة كما هي في القرآن والله أعلم.
تمت سورة يوسف مستهل صفر من السنة ١٢٠٢ الثانية بعد ألف ومائتين ويتلوه سورة الرعد إن شاء الله تعالى.
١ سورة النساء، الآية: ٦٤..
٢ سورة النساء، الآية: ٥٩..
٣ سورة الحشر، الآية: ٧..
٤ سورة النساء، الآية: ١١٥..
٥ سورة الحشر، الآية: ٢.
.

Icon