تفسير سورة المؤمنون

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة المؤمنون
كلها مكية وهي مائة وسبع عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم قال: حدثنا الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر قال: حدثنا أبو بكر بن أبي سعيد قال: حدثنا محمد بن علي بن طرخان قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا عبد الرزاق، عن يونس بن سليم، عن زيد الأيلي، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» «١» ثم قرأ:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى عشر آيات وروي عن كعب الأحبار قال: «إن الله تعالى لما خلق الجنة، قال لها: تكلمي، فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وروي عن غيره: «أنها قالت:
أنا حرام على كل بخيل ومرائي»
. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو هذا. وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي سعد وفاز ونجا المصدقون بإيمانهم.
ثم نعتهم ووصف أعمالهم، فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، يعني:
متواضعين. وقال الزهري: «سكون المرء في صلاته، لا يلتفت يميناً ولا شمالاً» وقال الحسن البصري: خاشِعُونَ أي خائفون. وروي عنه أنه قال: خاشِعُونَ الذين لا يرفعون أيديهم في الصلاة إلا في التكبيرة الأولى، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «الخشوع في الصلاة، أن لا تلتفت في صلاتك يميناً ولا شمالاً.» «وذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان إذا قام في الصلاة، رفع بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية، رمى بصره نحو مسجده». وروي عن أبي هريرة، «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: «لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ».
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، يعني: الحلف والباطل من الكلام تاركون. قال قتادة: كل كلام أو عمل لا يحتاج إليه فهو لغو. ويقال: الذين هم عن الشتم
(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٨٢ إلى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر والعقيلي والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.
والأذى معرضون، كقوله عز وجل: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: ٧٢].
ثم قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ، يعني: مؤدون. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ عن الفواحش وعن ما لا يحل لهم.
ثم استثنى، فقال: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ، يعني: على نسائهم الأربع، وذكر عن الفراء أنه قال، عَلى بمعنى من، يعني: إلا من نسائهم مثنى وثلاث ورباع. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، يعني: الإماء، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، لا يلامون على الحلال. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ، يعني:
طلب بعد ذلك ما سوى نسائه وإِمائه، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ، يعني: المعتدين من الحلال إلى الحرام، ويقال: وأُولئك هم الظالمون الجائرون الذين تعمدوا الظلم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨ الى ١١]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
ثم قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ، يعني: ما ائتمنوا عليه من أمر دينهم، مما لا يطلع عليه أحد ومما يأمن الناس بعضهم بعضاً. وَعَهْدِهِمْ، يعني: وفاء بالعهد راعُونَ يعني:
حافظين. وأصل الرعي في اللغة: القيام على إصلاح ما يتولاه. قرأ ابن كثير والذين هُم لأمانتهم بلفظ الوحدان، وقرأ الباقون بلفظ الجمع، يعني: جميع الأمانات.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ، يعني: على المواقيت يُحافِظُونَ، لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ويتمونها بركوعها وسجودها. قرأ حمزة والكسائي على صَلاَتِهِمْ بلفظ الوحدان، وقرأ الباقون صَلَواتِهِمْ بلفظ الجماعة، ومعناهما واحد، لأن الصلاة اسم جنس يقع على الواحد وعلى الأكثر، فهذه الخصال صفة المؤمنين المخلصين في أعمالهم.
ثم بين ثوابهم، فقال عز وجل: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، يعني: النازلين. ثم بيّن ما يرثون وأين ينزلون، فقال: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، وهي البساتين بلغة الروم عليها حيطان، ويقال:
لم يكن أحد من أهل الجنة إلا وله نصيب في الفردوس، لأن هناك كلها بساتين وأشجار ويقال: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، يعني: يرثون المنازل التي للكفار في الجنة- وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنّة، ومنزل في النّار. فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة بهدم منزله الذي له في النّار. وأمّا الكافر فيهدم منزله الذي له في الجنّة ويبني منزله الذي له في النّار.» «١» - ويقال: الفردوس البستان الحسن. هُمْ فِيها خالِدُونَ
(١) الحديث مثبت في النسخة «أ» وفي النسخة «ب» : بلفظ: روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا، ولم يذكر متنه. وعزاه السيوطي: ٦/ ٩٠ إلى سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث.
، يعني: في الجنة دائمون. وقال القتبي: حدثني أبو حاتم السجستاني قال: كنت عند الأخفش وعنده الثوري، فقال: يا أبا حاتم، ما صنعت بكتاب المذكر والمؤنث؟ قلت: قد عملت فيه شيئاً. فقال: ما تقول في الفردوس؟ قلت: مذكر. قال: فإن الله يقول: هُمْ فِيها خالِدُونَ. قلت: أراد الجنة، فأنث. فقال: يا غافل، أما تسمع الناس يقولون أسألك الفردوس الأعلى؟ فقلت: يا نائم، إنما الأعلى هاهنا أفعل وليس بفعلى.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، يعني: آدم عليه السلام. قال الكلبي ومقاتل: السلالة إذا عصر الطين، انسلّ الطين والماء بين أصابعه. وقال الكلبي: خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: ابن آدم من نطفة، سُلَّت تلك النطفة من طين، والطين آدم عليه السلام، والنطفة ما يخرج من صلبه فيقع في رحم المرأة. وقال الزجاج: سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، أي من آدم، والسلالة القليل من أن ينسل، وكل مبني على فعالة فهو يراد به القليل، مثل النخالة، والعلامة والفصالة ثُمَّ جَعَلْناهُ: يعني ذرية آدم. قال القتبي: يقال للولد سلالة والنطفة سلالة، وإنما سميت النطفة سلالة لأنها تنسل بين الصلب والترائب ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، يعني: في مكان حريز حصين. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، أي: حولنا الماء دماً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، أي حولنا الدم مضغة، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي: خلقنا في المضغة عظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ. قال عكرمة وأبو العالية والشعبي:
معناه نفخ فيه الروح.
وروى الأخفش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود أنه قَالَ: «إِنَّ خَلْقَ أَحَدكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ الله عز وجل مَلَكاً، فَيُأْمَرُ بأنْ يَكْتُبَ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَهِيَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ. ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ الرُّوحُ».
وروي، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال: «نفخ فيه الروح»، وروى ابن نجيح، عن مجاهد: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال: «حين استوى شاباً» وروى معمر، عن قتادة: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، قال: «هو نبات الشعر والأسنان»، وقال بعضهم: هو نفخ الروح، ويقال: ذكراً أو أنثى، ويقال: معناه ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، يعني:
الجلد. وروي عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: «ينفخ فيه الروح»، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: «ثم أنشأته خلقاً آخر».
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، يعني: أحكم المصورين. وروى أبو صالح عن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعيد بن أبي سرح يكتب هذه الآيات للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما انتهى إلى قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ، عجب من تفضل الإنسان، أي من تفضيل خلق الإنسان فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب هكذا أُنْزِلَتْ» فشك عند ذلك، وقال: لئن كان محمد صادقاً فيما يقول إنه يوحى إليه، فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن قال من ذات نفسه، فلقد قلت مثل ما قال. فكفر بالله تعالى.
وقال مقاتل والزجاج: كان عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِذْ أُنْزِلَتْ عليه هذه الآية، فقال عمر: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ، فقال النبي عليه السلام: «هكذا أُنْزِلَتْ عَلَيَّ» «١»، فكأنه أجرى على لسانه هذه الآية قبل قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد قيل: إن الحكاية الأولى غير صحيحة، لأن ارتداد عبد الله بن أبي سرح كان بالمدينة، وهذه الآية مكية. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر فَخَلَقْنَا المضغة عظاما فكسونا العظم لحما، وقرأ الباقون عِظاماً بالألف، ومعناهما واحد، لأن الواحد يغني عن الجنس.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ، يعني: تموتون عند انقضاء آجالكم. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ، يعني: تحيون بعد الموت. فذكر أول الخلق، لأنهم كانوا مقرين بذلك، ثم أثبت الموت لأنهم كانوا يشاهدونه ثم أثبت البعث الذي كانوا ينكرونه، ثم ذكر قدرته، فقال عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ، يعني: سبع سموات بعضها فوق بعض كالقبة.
وقال مقاتل والكلبي: غِلَظُ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين كذلك. وقال أهل اللغة: الطرائق واحدها طريقة، ويقال: طارقت الشيء، يعني: إذا جعلت بعضه فوق بعض.
وإنما سمي الطرائق، لأن بعضها فوق بعض.
ثم قال: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ، أي عن خلقهن عاجزين تاركين. ويقال: لكل سماء طريقة، لأن على كل سماء ملائكة عبادتهم مخالفة لعبادة ملائكة السماء الأخرى، يعني:
لكل أهل سماء طريقة من العبادة: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ، أي لم نكن نغفل عن حفظهن، كما قال: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء: ٣٢].
(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٩٤ إلى الطبراني وابن مردويه.
قوله عز وجل: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَآءً بِقَدَرٍ، يعني: بوزن، ويقال: بِقَدَرٍ ما يكفيهم لمعايشهم ويقال: بِقَدَرٍ يعني: كل سنة تمطر بقدر السنة الأولى، كما روي عن ابن مسعود أنه قال: «ليست سنة بأمطر من سنة، ولكن الله عز وجل يصرفه حيث يشاء» ويقال:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَآءً، أي أربعة أنهار تخرج من الجنة: دجلة، والفرات، وسيحان، وجيحان. فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ، يعني: فأدخلناه في الأرض، ويقال: جعلناه ثابتاً فيها من الغدران والعيون والركايا. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ، يعني: يغور في الأرض، فلا يقدر عليه، كقوله عز وجل: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: ٣٠]. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ، يعني:
وأخرجنا بالماء جنات، يعني: الخضرة، ويقال: جعلنا لكم بالماء البساتين. مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، يعني: الكروم لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ، يعني: ألوان الفواكه سوى النخيل والأعناب. وَمِنْها تَأْكُلُونَ.
ثم قال عز وجل: وَشَجَرَةً، يعني: وأنبتنا شجرة، ويقال: خلقنا شجرة، تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ قال قتادة: طور سيناء جبل حسن، وقال الكلبي: جبل ذو شجرة، وقال مجاهد:
الطور جبل، والسيناء حجارة، وقال القتبي: الطور جبل والسيناء اسم. وقال مقاتل: خلقنا في الجبل الحسن الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمر ونافع طُورِ سَيْناءَ بكسر السين، وقرأ الباقون بالنصب، ومعناهما واحد.
ثم قال: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ، يعني: تخرج بالدهن. قرأ ابن كثير وأبو عمرو تَنْبُتُ بضم التاء وكسر الباء، يعني: تخرج الدهن، وقرأ الباقون تَنْبُتُ بنصب التاء وضم الباء، وهو اختيار أبي عبيد، أي: تنبت معه الدهن، كما يقال: جاءني فلان بالسيف، أي معه السيف.
وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ، يعني: الزيت يصطبغ به، وجعل الله عز وجل في هذه الشجرة إداماً ودهناً، وهي صبغ للآكلين.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
ثم قال عز وجل: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، يعني: في الإبل والبقر والغنم معتبر لمن يعتبر فيها، يقال: العبر بأوقار، والمعتبر بمثقال. نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها، يعني: من ألبانها وهي تخرج مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ. قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر نُسْقِيكُمْ بنصب النون، وقرأ الباقون بالضم، وهذا مثل ما في سورة النحل.
ثم قال: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ، يعني: في ظهورها وأصوافها وألبانها وأشعارها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني: من لبنها ولحومها وأولادها. عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
، يعني:
على الأنعام في المفازة، وعلى السفينة في البحر تسافرون.

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، يعني: أرسلناه إلى قومه كما أرسلناك إلى قومك. فإن قيل: إيش الحكمة في تكرار القصص؟ قيل له: لأن في كل قصة كررها ألفاظاً وفوائد ونكتاً ما ليس في الأخرى، ونظمها سوى نظم الأخرى. وقال الحسن: للقصة ظهر وبطن، فالظهر خبر يخبرهم، والبطن عظة تعظهم. ويقال: إنما كررها تأكيداً للحجة والعظة، كما أنه كرر الدلائل، ويكفي دليل واحد لمن يستدل به تفضلاً من الله تعالى ورحمة منه.
فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: أطيعوا الله عز وجل ووحدوه. مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، يعني: ليس لكم رب سواه، أَفَلا تَتَّقُونَ عبادة غير الله تعالى فتوحدونه؟ يعني: اتقوه ووحدوه.
قوله عز وجل: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: الأشراف الذين كفروا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، يعني: خلقاً آدمياً مثلكم. يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ. بالرسالة، ويقال:
يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يعني: يريد أن يجعل لنفسه فضلاً عليكم بالرسالة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، أي لو شاء أن يرسل إلينا رسولاً، لأنزل ملائكة. مَّا سَمِعْنا بِهذا، يعني: ما يدعونا إليه من التوحيد. فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ، أي: الجنون، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ يعني: انتظروا به حتى يتبين لكم أمره وصدقه من كذبه، ويقال: حَتَّى حِينٍ، يعني: حتى يموت فتنجوا منه.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
فلما أبوا على نوح عليه السلام، دعا عليهم. قالَ رَبِّ انْصُرْنِي يعني: أعني عليهم بالعذاب. بِما كَذَّبُونِ، يعني: بتحقيق قولي في العذاب، لأنه أنذر قومه بالعذاب، فكذبوه.
قوله عز وجل: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا، يعني: اعمل السفينة بأَعيننا، يعني: بمنظر منا وبعلمنا. ثم قال: وَوَحْيِنا، يعني: بوحينا إليك وأمرنا. فَإِذا جاءَ أَمْرُنا،
يعني: عذابنا، وَفارَ التَّنُّورُ يعني: بنبع الماء من أسفل التنور، فَاسْلُكْ فِيها يعني: فأدخل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يعني: من كل حيوان صنفين ولونين ذكراً وأنثى، وَأَهْلَكَ يعني: وأدخل فيها أهلك، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ يعني: إلا من وجب عليه العذاب، وهو ابنه كنعان. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: ولا تراجعني بالدعاء في الذين كفرُوا وهو ابنه. إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطوفان. قرأ عاصم في رواية حفص مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بتنوين اللام، وقرأ الباقون بغير تنوين.
ثم قال عز وجل: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ، يعني: ركبت السفينة أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ يعني: في السفينة فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، يعني: الشكر لله الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني: المشركين.
قوله عز وجل: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي، يعني: إذا نزلت من السفينة إلى البر، فقل: رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً. قرأ عاصم في رواية أبي بكر مُنْزَلًا بنصب الميم وكسر الزاي، يعني:
موضع النزول وقرأ الباقون مُنْزَلًا بضم الميم ونصب الزاي، وهو اختيار أبي عبيد، وهو المصدر من أنزل ينزل، فصار بمعنى أنزلني إنزالاً مباركاً. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ من غيرك.
وقد قرأ في الشّاذ وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ بنصب الزاي، يعني: أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام: قل هذا القول، حتى تكون خير المنزلين.
ثم قال عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ، يعني: في إهلاك قوم نوح. لَآياتٍ، يعني: لعبراً لمن بعدهم. وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ، يعني: وقد كنا لمختبرين بالغرق ويقال: بالطاعة والمعصية. وَإِنْ بمعنى قد، كقوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: ٤٦]، يعني: وقد كان مكرهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
قوله عز وجل: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ، أي خلقنا من بعدهم قَرْناً آخَرِينَ وهم قوم هود، فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني: نبيّهم هوداً عليه السلام أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، يعني قال لهم هود: احمدوا الله وأطيعوه، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ، يعني: اتقوه. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر.
قوله عز وجل: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ، يعني: بالبعث
بعد الموت، وَأَتْرَفْناهُمْ يعني: أنعمنا عليهم، ويقال: وسعنا عليهم حتى أترفوا. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا، يعني قالوا: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ، يعني: آدمياً مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ، يعني: كما تأكلون منه، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ يعني: كما تشربون. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً، يعني: آدمياً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ، أي لمغبونون أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً، أي صرتم تراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، يعني: محيون.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
قوله عز وجل: هَيْهاتَ هَيْهاتَ قرأ أبو جعفر المدني هَيْهاتَ هَيْهاتَ كلاهما بكسر التاء. قال أبو عبيد: قراءتها بالنصب، لأنه أظهر اللغتين وأفشاهما، وقال بعضهم: قد قرئ هذا الحرف بسبع قراءات: بالكسر، والنصب، والرفع، والتنوين، وغير التنوين، والسكون. وهذه كلمة يعبر بها عن البعد، يعني: بعيداً بعيداً، ومعناه أنهم قالوا: هذا لا يكون أبداً، يعني:
البعث. لِما تُوعَدُونَ، يعني: بَعِيداً بَعيداً لِمَا تُوْعَدُونَ. إِنْ هِيَ، يعني: ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، يعني: نحيا ونموت على وجه التقديم، ويقال: معناه يموت الآباء وتعيش الأبناء. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، يعني: لا نبعث بعد الموت. إِنْ هُوَ، يعني: ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ، يعني: بمصدقين. فلما كذبوه دعا عليهم، قالَ رَبِّ انْصُرْنِي، يعني: قال هود: أعني عليهم بالعذاب بِما كَذَّبُونِ.
قالَ الله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ، يعني: عن قريب. وما صلة، كقوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ١٥٩]. لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ، يعني: ليصيرن نادمين، فأخبر الله تعالى عن معاملة الذين كانوا من قبل مع أنبيائهم وسوء جزائهم وأذاهم لأنبيائهم، ليصبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أذى قومه.
ثم أخبر عن عاقبة أمرهم، فقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ يعني: العذاب وهو الريح العقيم، ويقال: وهي صيحة جبريل عليه السلام فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً، يعني: يابساً، ويقال: هلكى كالغثاء، وهو جمع غثاء، وهو ما على السيل من الزبد، لأنه يذهب ويتفرق.
وقال الزجاج: الغثاء البالي من ورق الشجر، أي جعلناه يبساً كيابس الغثاء. ويقال: الغثاء النبات
اليابس كقوله: فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: ٥]. ثم قال: فَبُعْداً، يعني: سحقاً ونكساً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يعني: بعداً من رحمة الله تعالى.
قوله عز وجل: ثُمَّ أَنْشَأْنا، يعني: خلقنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وفي الآية مضمر ومعناه: فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ يعني: ما يتقدم ولا تموت قبل أجلها طرفة عين، وَما يَسْتَأْخِرُونَ بعد أجلهم طرفة عين.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
قوله عز وجل: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا، يعني: بعضها على إثر بعض. قرأ ابن كثير وأبو عمرو تَتْرَى بالتنوين، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الراء بغير تنوين، وقرأ الباقون بنصب الراء وبغير تنوين وهو التواتر. قال مقاتل: كلّ ما في القرآن «تترى وَمِدْرَاراً وَأَبَابِيلَ وَمُرْدِفِينَ»، يعني:
بعضها على إثر بعض. قال القتبي: أصل تترى وتراً، فقلبت الواو تاءً كما قلبوها في التقوى والتخمة، وأصلها وتراً، والتخمة وأصلها أوخمت.
ثم قال عز وجل: كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً بالهلاك الأول فالأول، فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي أخباراً وعبراً لمن بعدهم، ويقال: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ لمن بعدهم، يتحدثون بأمرهم وشأنهم وقال الكلبي: ولو بقي واحد منهم لم يكونوا أحاديث.
فَبُعْداً لِلْهَالِكِ ويقال: فسحقاً لِقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ، يعني: لا يصدقون.
قوله عز وجل: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني:
بحجة بينة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي: قومه فَاسْتَكْبَرُوا يعني: تعظموا عن الإيمان والطاعة، وَكانُوا قَوْماً عالِينَ يعني: متكبرين. فَقالُوا أَنُؤْمِنُ يعني: أنُصدق لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا؟ يعني:
خلقين آدميين. وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ، يعني: مستهزئين ذليلين. فَكَذَّبُوهُما، يعني: موسى وهارون عليهما السلام، فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ يعني: صاروا مغرقين في البحر.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
481
قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، يعني: التوراة، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني:
لكي يهتدوا، يعني: بني إسرائيل.
قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً، يعني: عبرة وعلامة لبني إسرائيل، ولم يقل آيتين، وقد ذكرناه. ثم قال: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ، وذلك أنها لما ولدت عيسى عليه السلام هم قومها أن يرجموها، فخرجت من بيت المقدس إلى أرض دمشق، والربوة: المكان المرتفع.
ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ، يعني: أرضاً مستوية وَمَعِينٍ يعني: الماء الجاري الطاهر، وهو مفعول من العين، وأصله: معيون، كما يقال: ثوب مخيط. وقال سعيد بن المسيب: الربوة هي دمشق، ويقال: هي بيت المقدس، لأنها أقرب إلى السموات من سائر الأرض. ويقال: إنها الرملة وفلسطين. قرأ ابن عامر وعاصم رَبْوَةٍ بنصب الراء، وقرأ الباقون بالضم، ومعناهما واحد.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ، يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وإنما خاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم وأراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته، كما يجيء في مخاطبتهم. كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، يعني: من الحلالات. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا ابن صاعد قال: حدثنا أحمد بن منصور قال: حدثنا الفضل بن دكين قال: حدثنا الفضل بن مرزوق قال: أخبرني عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَا أَيُّها النَّاسُ إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً، وَإنَّ الله تَعَالَى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٥٧]. ثمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ، يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك» «١» وقال الزجاج: خوطب بهذا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ وتضمن هذا الخطاب أن الرسل عليهم السلام جميعاً كذا أمروا. قال:
ويروى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وكان رزق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الغنيمة وأطيب الطيبات الغنائم.
ثم قال تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً يعني: خالصاً. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، يعني:
قبل أن تعملوا.
قوله عز وجل: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، يعني: دينكم الذي أنتم عليه، يعني: ملة الإسلام دين واحد، عليه كانت الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، يعني: أنا شرعته لكم فأطيعون. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: أَن بنصب الألف وتشديد النون، وقرأ ابن عامر بنصب الألف وسكون النون، وقرأ الباقون بكسر الألف والتشديد على معنى الابتداء.
(١) عزاه السيوطي ٦/ ١٠٢ إلى أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم.
482
ثم قال عز وجل: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، يقول: فرقوا دينهم وتفرقوا في دينهم، ومعناه: أن دين الله تعالى واحد، فجعلوه أدياناً مختلفة زبراً. قرأ ابن عامر: زُبُراً بنصب الباء، أي قطعاً وفرقاً، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي زُبُراً. بضم الباء، أي كتباً، معناه: جعلوا دينهم كتباً مختلفة، ويقال: فتقطعوا كتاب الله وحرفوه وغيروه. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، يعني: بما هم عليه من الدين معجبون، راضون به.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٤ الى ٦١]
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لاَّ يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
قوله عز وجل: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ، يعني: اتركهم في جهالتهم حَتَّى حِينٍ، يعني: إلى حين يأتيهم ما وعدوا به من العذاب.
ثم قال: أَيَحْسَبُونَ، يعني: أيظنون وهم أهل الفرق، أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ يعني: أن الذي نزيدهم به مِنْ مالٍ وَبَنِينَ في الدنيا. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، يعني: هو خير لهم في الآخرة؟ قرأ بعضهم يُسَارَعُ بالياء ونصب الراء على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وقراءة العامة نُسارِعُ بالنون وكسر الراء، يعني: يظنون أنا نسارع لهم. في الخيرات، بزيادة المال والولد، بل هو استدراج لهم.
وروي في الخبر: «أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام: أيفرح عبدي أن أبسط له في الدنيا، وهو أبعد له مني ويجزع عبدي المؤمن أن أقبض منه الدنيا، وهو أقرب له مني؟» ثم قال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، وقد تم الكلام، يعني: أيظنون أن ذلك خيرا لهم في الدنيا؟ ثم قال: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لاَّ يَشْعُرُونَ أن ذلك فتنة لهم ويقال: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ وقد تم الكلام، يعني: أيظنون أن ذلك خير لهم في الدنيا؟
ثم قال عز وجل: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ يعني: نبادرهم في الطاعات وهو خير لهم، أي في الآخرة بَلْ لاَّ يَشْعُرُونَ أن ذلك مكر بهم وشر لهم في الآخرة.
ثم ذكر المؤمنين، فقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، يعني:
خائفين من عذابه، ويقال: هذا عطف على قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ثم قال: وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، يعني: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن يصدقون.
قوله: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ، يعني: لا يشركون معه غيره، ولكنهم يوحدون ربهم، ويقال: بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ هو أن يقول: لولا فلان ما وجدت هذا.
ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا، يعني: يعطون ما أعطوا من الصدقة والخير.
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ، يعني: خائفة. وروى سالم بن مغول، عن عبد الرحمن بن سعيد الهمداني: أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ هم الذين يشربون الخمر، ويسرقون، ويزنون؟ قال: «لا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، ولكنهم هُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيُصَلُّونَ».
وروي عن أبي بكر بن خلف أنه قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقلنا: يا أمّ المؤمنين كيف تقرئين وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُ». وقال الزجاج: من قرأ يُؤْتُونَ ما آتَوْا، معناه: يعطون ما أعطوا، ويخافون أن لا يقبل منهم ومن قرأ يَأْتُونَ ما أتوا أي: يعملون من الخيرات ما يعملون، ويخافون مع اجتهادهم أنهم مقصرون.
ثم قال تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، يعني: لأنهم إلى ربهم راجعون، ومعناه:
يعملون ويوقنون أنهم يبعثون بعد الموت.
قوله عز وجل: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، يعني: يبادرون في الطاعات من الأعمال الصالحة، وَهُمْ لَها سابِقُونَ، يعني: هم لها عاملون، يعني: الخيرات، وقال الزجاج: فيه قولان: أحدهما: معناه هم إليها سابقون، كقوله عز وجل: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: ٥] يعني: إليها، ويجوز هُمْ لَها سابِقُونَ أي: لأجلها، أي من أجل اكتسابها، كقولك: أنا أكرم فلاناً لك، أي من أجلك.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٧]
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
قوله عز وجل: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، يعني: بقدر طاقتها. وَلَدَيْنا كِتابٌ، يعني: وعندنا نسخة أعمالهم التي يعملون، وهي التي تكتب الحفظة عليهم يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، يعني: يشهد عليهم بالصدق. وقال الكلبي: وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، أي طاقتها، فمن
لم يستطع أن يصلي قائما، فليصلّ قاعدا. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وهو الذكر، يعني:
اللوح المحفوظ. وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ، يعني: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا، يعني: في غفلة من الإيمان بهذا القرآن ويقال: هم في غفلة من هذا الذي وصفنا من كتابة الأعمال. وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ قال مقاتل: يقول: لهم أعمال خبيثة دون الشرك هُمْ لَها عامِلُونَ، أي لتلك الأعمال لا محالة التي في اللوح المحفوظ. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: ذكر الله تعالى: الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. ثم قال للكفار: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ثم رجع إلى المؤمنين، فقال: وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ الأعمال التي عددت هم لها عاملون.
ثم قال عز وجل: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ، يعني: أغنياءهم وجبابرتهم بالعذاب. قال مجاهد: يعني: بالسيوف يوم بدر، وقال الكلبي: بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف. إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ، أي يصيحون ويتضرعون إلى الله تعالى، حين نزل بهم العذاب.
ويقال: يدعون ويستغيثون.
يقول الله تعالى: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ، يعني: لا تضجوا ولا تتضرعوا اليوم. إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ، يعني: من عذابنا لا تمنعون.
قوله عز وجل: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، أي تقرأ وتعرض عليكم، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ، أي ترجعون إلى الشرك وتميلون إليه. مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، أي متعظمين، ويقال تَنْكِصُونَ أي تقيمون عليه مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ يعني: بالبيت، صار هذا كناية من غير أن يسبق ذكر البيت، لأن ذلك البيت كان معروفاً عندهم. وقال مجاهد: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بمكة بالبلد. سامِراً بالليل لجلسائهم تَهْجُرُونَ بالقول الذي في القرآن. ويقال: تَهْجُرُونَ يعني: تتكلمون بالفحش وسب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «زُورُوها- يعني: المقابر- ولا تَقُولُوا هُجْراً» يعني: فحشاً. وقال القتبي: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، يعني: بالبيت العتيق تهجرون به، ويقولون: نحن أهله سامراً. والسمر: حديث الليل. وقال أهل اللغة: السمر في اللغة ظل القمر، ولهذا سمي حديث الليل سمراً، لأنهم كانوا يجتمعون في ظل القمر ويتحدثون. قرأ نافع سامِراً تَهْجُرُونَ بضم التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بنصب التاء وضم الجيم. وقال أبو عبيد: هذه القراءة أحب إلينا، فيكون من الصدود والهجران، كقوله: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ [المؤمنون: ٦٦]، يعني: تهجرون القرآن ولا تؤمنون به. ومن قرأ: تَهْجُرُونَ أراد الإفحاش في المنطق، وقد فسرها بعضهم على الشرك.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٨ الى ٧٤]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
ثم قال عز وجل: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أصله: يتدبروا فأدغم التاء في الدال، يعني: ألم يتفكروا في القرآن؟ أَمْ جاءَهُمْ من الأمان مَّا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ، معناه: جاءهم الذي لم يجىء آباءهم الأولين، وهذا كقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: ٦] وقال الكلبي:
أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من البراءة من العذاب.
ثم قال تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ، يعني: نسبة رسولهم. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، يعني: جاحدين. قال أبو صالح: عرفوه ولكن حسدوه.
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ، يعني: بل يقولون به جنون. بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، يعني:
الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة والقرآن من عند الله عز وجل، أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ، يعني: جاحدين مكذبين، وهم الكفار.
قوله عز وجل: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ، والحق هو الله تعالى، يعني: لو اتبع الله أهواءهم أي: مرادهم، لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، يعني: لهلكت، لأن أهواءهم ومرادهم مختلفة ويقال: لو كانت الآلهة بأهوائهم، كما قالوا: لفسدت السموات، كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢]. ثم قال: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ، يعني: أنزلنا إليهم جبريل عليه السلام بعزهم وشرفهم، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، يعني: عن القرآن، أي تاركوه لا يؤمنون به. أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً، قرأ حمزة والكسائي خراجاً. فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، يعني: فثواب ربك خير، ويقال: قوت ربك من الحلال خير من جعلهم وثوابهم. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، أي أفضل الرازقين.
قوله عز وجل: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يعني: دين مستقيم وهو الإسلام لا عوج فيه. وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، يعني: لا يصدقون بالبعث عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ، أي عن الدين لعادلون ومائلون.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
قوله: وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ، يعني: من الجوع الذي أصابهم، لَلَجُّوا أي مضوا وتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، يعني: في ضلالتهم يترددون.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، يعني: بالجوع، فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ يعني: ما تضعضعوا وما خضعوا لربهم. وَما يَتَضَرَّعُونَ يقول: ما يرغبون إلى الله في الدعاء وبالطاعة، حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ، يعني: نفتح عليهم. قال السدي: هو فتح مكة. إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ قال: أبلسوا يومئذٍ وتغيرت ألوانهم، حين ينظرون أصنامهم تكسرت، وقال عكرمة: ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعني: فتح مكة، ويقال: الجوع الشديد إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي آيسون من كل خير ورزق.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٨ الى ٨٧]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧)
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ فهذه الأشياء من النعم.
قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ يعني: أنتم لا تشكرون، ويقال: شكركم فيما صنع إليكم قليل. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ، يعني: خلقكم في الأرض. وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في الآخرة، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي الموتى ويميت الأحياء. وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، أي ذهاب الليل ومجيء النهار، أَفَلا تَعْقِلُونَ أمر الله؟ ويقال: أفلا تعقلون توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون؟
ثم قال عز وجل: بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ يعني: كذبوا مثل ما كذب الأولون.
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ، يعني: هذا القول. إِنْ هَذَا يعني: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني: أحاديثهم وكذبهم.
قوله عز وجل: قُلْ لكفار مكة: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من الخلق. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن أحداً يفعل ذلك غير الله، فأجيبوني. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ يعني:
تتعظون فتطيعونه وتوحدونه. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ وكلهم قرءوا الأول بغير ألف، وأما الآخر فإن كلهم قرءوا بغير ألف غير أبي عمرو، فإنه قرأ الله، والباقون لله. قال أبو عبيد: وجدت في مصحف الإمام كلها بغير ألف. قال: وحدثني عاصم الجحدري أن أول من قرأ هاتين الألفين نصر بن عاصم الليثي. فأما من قرأ الله فهو ظاهر لأنه جواب السائل عما يسأل، ومن قرأ لِلَّهِ فله مخرج في العربية سهل، وهو ما حكى
الكسائي عن العرب أنه يقال للرجل: من رب هذه الدار؟ فيقول: لفلان، يعني: هي لفلان.
والمعنى في ذلك، أنه إذا قيل: من صاحب هذه الدار؟ فكأنه يقول: لمن هذه الدار. وإذا قال المجيب: هي لفلان، أو قال: فلان، فهو جائز ولو كان الأول الله، لكان يجوز في اللغة، ولكنه لم يقرأ والاختلاف في الآخرين. ثم قال: قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ عبادة غير الله تعالى، فتوحدوه.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
قوله عز وجل: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، يعني: خزائن كل شيء. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ، يعني: يقضي ولا يقضى عليه، ويقال: وهو يؤمن من العذاب ولا يؤمن عليه، أي ليس له أحد يؤمن الكفار من عذابه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، يعني: من الذين تصرفون عن الإسلام وعن الحق.
ثم قال عز وجل: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ، قال الكلبي: يعني: القرآن، وقال مقاتل: يعني:
جئناهم بالتوحيد. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم أن الملائكة عليهم السلام كذا وكذا
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ٩٥]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
ثم قال عز وجل: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، أي من شريك. إِذاً لَذَهَبَ، يعني: لو كان معه آلهة لذهب كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، يعني: لاستولى كل إله بما خلق وجمع لنفسه ما خلق. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، يعني: ولغلب بعضهم على بعض. - كفعل ملوك أهل الدنيا يلتمس بعضهم قهر بعض ويقال: استولى على ما خلق دون صاحبه، ولغلب بعضهم على بعض «١» - سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الكذب.
قوله عز وجل: عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، يعني: عالم السر والعلانية، ويقال: عالم بما مضى وما هو كائن. فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يعني: هو أجلُّ وأعلى مما يوصف له من الشريك والولد. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية حفص: عالِمِ الْغَيْبِ بكسر الميم على معنى النعت لقوله سُبْحانَ اللَّهِ، وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
قوله: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ من العذاب وما صلة. ويقال: إن أريتني عذابهم. رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يعني: أخرجني منهم قبل أن تعذبهم، فلا تعذبني معهم بذنوبهم. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ قال الكلبي:
هذا أمر قد كان بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شهده أصحابه وقد مضى بعد الفتنة التي وقعت في الصحابة، بعد قتل عثمان رضي الله عنه وذكر: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم ير بعد نزول هذه الآية ضاحكاً ولا مبتسماً. وقال مقاتل: وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ يعني: يوم بدر، ويقال: يوم فتح مكة، ويقال: قل: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
يعني: الفتنة رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يعني: مع الفئة الباغية، وهذا كقوله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥]. وذكر عن الزبير أنه كان إذا قرأ هذه الآية، يقول: «قد حذرنا الله تعالى فلم نحذر».
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
ثم قال عز وجل: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ، يعني: ادفع بحلمك جهلهم، ويقال:
بالكلام الحسن الكلام القبيح، ويقال: ادفع بقول لا إله إلا الله الشرك من أهل مكة. ثم قال:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ، يعني: بما يقولون من الكذب. ويقال: معناه نحن أعلم بما يقولون فلا تعجل أنت أيضاً. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ، يعني: أعتصم بك من نزغات الشيطان وضرباته ووساوسه. ثم قال: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ، يعني: قل: رب أعوذ بك من قبل أن يحضرني الشياطين عند تلاوة القرآن، ويقال: يَحْضُرُونِ عند الموت، ويقال: عند الصلاة.
وأصله: أن يحضرونني، إلا أنه يكتب يَحْضُرُونِ بحذف إحدى النونين للتخفيف.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٥]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
قوله عز وجل: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، يعني: أمهلهم وأجلهم، حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت وهم الكفار، قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ يعني: يقول لملك الموت وأعوانه: يا سيدي ردني، ويقال: يدعو الله تعالى، ويقول: يا رب ارجعون، ويقال: إنما قال بلفظ
الجماعة، لأن العرب تخاطب جليل الشأن بلفظ الجماعة. ويقال: معناه يا رب مرهم ليرجعوني إلى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً يعني: خالصاً فِيما تَرَكْتُ في الدنيا.
قال الله تعالى: كَلَّا وهو رد عليهم، يعني: أنه لا يرد إلى الدنيا. ثم قال: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها يعني: يقولها ولا تنفعه.
ثم قال: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ يعني: من بعدهم القبر إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة، ويقال: بين كل شيئين حاجز فهو برزخ، ويقال: هو بين النفختين، وقال قتادة: البرزخ بقية الدنيا، وقال الحسن: القبر بين الدنيا والآخرة.
قوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: النفخة الأخيرة، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يعني: لا ينفعهم يَوْمَئِذٍ النسبُ، وَلا يَتَساءَلُونَ عن ذلك. فهذه حالات لا يتساءلون في موضع، ويتساءلون في موضع آخر. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ يعني: رجحت حسناته على سيئاته، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: الناجون في الآخرة، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعني:
رجحت سيئاته على حسناته، فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ يعني: تنفح. قال أهل اللغة: النفح واللفح بمعنى واحد، إلا أن اللفح أشد تأثيراً وهو الدفع، يعني: تضرب وجوههم النار. وَهُمْ فِيها يعني:
في النار، كالِحُونَ يعني: كلحت وعبست وجوههم، والكالح: الذي قد قلصت شفتاه عن أسنانه، ونحو ما تُرى من رؤوس الغنم مشوية إذا بدت الأسنان، يعني: كلحت وجوههم فلم تلتق شفاههم. وقال ابن مسعود: «كالرأس النضيج».
ثم قال: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: ألم يكن يقرأ عليكم القرآن فيه بيان هذا اليوم، وما هو كائن فيه؟ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ يعني: بالآيات.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٦ الى ١١١]
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
قوله عز وجل: قالُوا رَبَّنا يعني: الكفار غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا التي كتبت علينا، والتي قدرت علينا في اللوح المحفوظ. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الهدى. قرأ حمزة والكسائي شقاوتنا بنصب الشين والألف، وقرأ الباقون شِقْوَتُنا بكسر الشين وسكون القاف بغير ألف. وروي عن ابن مسعود: شقاوتنا وشِقْوَتُنا ومعناهما قريب. رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها يعني: من النار، فَإِنْ عُدْنا إلى الكفر والتكذيب، فَإِنَّا ظالِمُونَ أي: فحينئذٍ يقول الله
490
تعالى: اخْسَؤُا فِيها، يعني: اصغروا فيها واسكتوا، أي: كونوا صاغرين، وَلا تُكَلِّمُونِ، أي ولا تكلموني بعد ذلك.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «إن أهل النار ليدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً، ثم يرد عليهم: إنكم ماكثون. ثم يدعون ربهم: ربنا أخرجنا منها، فإن عدنا فإنا ظالمون، فلا يجيبهم مقدار ما كانت الدنيا مرتين، ثم يجيبهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فو الله ما نبس القوم بعد هذا بكلمة إلا الزفير والشهيق» «١».
وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما قال الله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، «فانطبقت أفواههم وانكسرت ألسنتهم، فمن الأجواف يعوون كعواء الكلب» ويقال: اخْسَؤُا أي تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد.
ثم بيّن لهم السبب الذي استحقوا تلك العقوبة به، فقال: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ وهم المؤمنون: رَبَّنا آمَنَّا، أي صَدَّقْنَا، فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
قوله عز وجل: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا، يعني: هزواً، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي يعني:
أنساكم الهزء بهم العمل بطاعتي، وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ في الدنيا. قرأ عاصم، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو سِخْرِيًّا بكسر السين، وكذلك في سورة ص، وكانوا يقرءون في الزخرف بالرفع، قالوا: لأن في هذين الموضعين من الاستهزاء. وهناك في الزخرف من السخرة والعبودية، فما كان من الاستهزاء فهو بالكسر، وما كان من التسخير فهو بالضم. وقرأ حمزة والكسائي ونافع سِخْرِيّاً كل ذلك بالضم. وقال أبو عبيد: هكذا نقرأ، لأنهن يرجعن إلى معنى واحد، وهما لغتان سِخْرِيٌّ وسُخْرِيّ وذكر عن الخليل وعن سيبويه: أن كلاهما واحد.
قوله عز وجل: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا، يعني: جعلت جزاءهم الجنة وهم المؤمنون بما صبروا، يعني: بصبرهم على الأذى وعلى أمر الله تعالى. أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ، يعني: الناجين. قرأ حمزة والكسائي أَنَّهُمْ بكسر الألف على معنى الابتداء، والمعنى: إني جزيتهم.
ثم أخبر فقال: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ وقال أبو عبيد، وقرأ الباقون أَنَّهُمْ بالنصب أَنِّي جزيتهم لأنهم هم الفائزون. وقال أبو عبيد: الكسر أحب إليَّ على ابتداء المدح من الله تعالى.
(١) عزاه السيوطي ٦/ ١١٩ إلى ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في البعث.
491

[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٦]

قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاَ تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
قوله عز وجل: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، يعني: في القبر. ويقال: في الدنيا. ويروى عن ابن عباس في بعض الروايات أنه قال: «لا أدري في الأرض أم في القبر؟» وقال مقاتل: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي القبر عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قال الأعمش: يعني: الحافظين، وقال مقاتل: يعني: ملك الموت وأعوانه، وقال قتادة: يعني:
فاسأل الحسَّاب، وقال مجاهد: يعني: الملائكة عليهم السلام، وهكذا قال السدي. قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ في القبر أو في الدنيا، إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يعني: لو كنتم تصدقون أنبيائي عليهم السلام في الدنيا، لعرفتم أنكم ما مكثتم في القبور إلا قليلاً. قرأ حمزة والكسائي وابن كثير: قل كَمْ لَبِثْتُمْ على معنى الأمر، وكذلك قوله قُلْ إِنْ لَّبِثْتُمْ، وقرأ الباقون:
قالَ بالألف، وقرأ حمزة والكسائي: فسل العادين بغير همز، وقرأ الباقون: فَسْئَلِ بالهمزة.
قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، أي: لعباً وباطلاً لغير شيء، يعني: أظننتم أنكم لا تعذبون بما فعلتم؟ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاَ تُرْجَعُونَ بعد الموت. قرأ حمزة والكسائي: لاَ تُرْجَعُونَ بنصب التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بضم التاء ونصب الجيم لا تُرْجَعُونَ، وكذلك التي في القصص قالوا: لأنها من مرجع الآخرة، وما كان من مرجع الدنيا فقد اتفقوا في فتحه، مثل قوله: وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: ٥٠]. قال أبو عبيد: وبالفتح نقرأ، لأنهم اتفقوا في قوله تعالى: أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: ٩٥]، وقال: إنهم لاَ يرجعون وقال أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: ٦٠]، كقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦]، فأضاف الفعل إليهم.
ثم قال عز وجل: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ، يقول: ارتفع وتعظم من أن يكون خلق شيئاً عبثاً، وإنما خلق لأمر كائن. ثم وحد نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، يعني: السرير الحسن.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
قوله عز وجل: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لاَ بُرْهانَ لَهُ بِهِ، يقول: لا حجة له بالكفر ولا عذر يوم القيامة. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ في الآخرة، يعني: عذابه. إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكافِرُونَ،
492
يعني: لا يأمن الكافرون من عذابه، ويقال: معناه جزاء كل كافر إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون في الآخرة عند ربهم.
قوله عز وجل: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، يعني: تجاوز عني. وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، يعني: من الأبوين وهذا قول الحسن، ويقال: من غيرك، ويقال: إنما حسابه عند ربه فيجازيه، كما قال: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [الغاشية: ٢٦] وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يستغفر للمؤمنين، ويسأل لهم المغفرة. ويقال: أمره بأن يستغفر لنفسه، ليعلم غيره أنه محتاج إلى الاستغفار. كما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إني أستغفر الله رَبِّي وَأَتُوبُ إلَى الله في كل يوم سَبْعِينَ مَرَّةً، أَوْ قالَ مِائَةَ مَرَّةٍ» «١» والله سبحانه وتعالى أعلم.
(١) حديث ابن هريرة: أخرجه البخاري (٦٣٠٧) بلفظ «والله» ومسلم (٢٧٠٢) (١٣) وأحمد ٢/ ٢٨٢، ٣٤١ وحديث الأغر المزني عند مسلم (٢٧٠٢) وأحمد: ٤/ ٢٦٠ وأبي داود (١٥١٥) والبغوي (٨٢٨٧).
493
Icon