تفسير سورة آل عمران

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد ذكرنا الحديث الوارد في ان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين ﴿ الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾، و ﴿ الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ عند تفسير آية الكرسي، وقد تقدم الكلام على قوله :﴿ الم ﴾ في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وتقدم الكلام على قوله :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق، أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً. وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن العظيم عليه، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ التوراة ﴾ أي على موسى بن عمران، ﴿ والإنجيل ﴾ أي على عيسى بن مريم عليهما السلام، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ : أي في زمانهما، ﴿ وَأَنزَلَ الفرقان ﴾ : وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع : الفرقان هاهنا القرآن، واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ وهو القرآن. وأما ما روي عن أبي صالح : أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة، فضعيف أيضاً، لتقدم ذكر التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ : أي يوم القيامة، ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ أي منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انتقام ﴾ : أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك، ﴿ هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى، وحسن وقبيح، وشقي وسعيد، ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم ﴾ أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية، وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام، والحكمة والأحكام، وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى بن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر، لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله!! وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال!؟ كما قال تعالى :﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ].
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات ﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى :﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظُ والتركيبُ لا من حيث المراد، وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فقال ابن عباس : المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به. وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام، وقال سعيد بن جبير :﴿ هُنَّ أُمُّ الكتاب ﴾ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، وقال مقاتل : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن. وقيل في المتشابهات : المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به، روي عن ابن عباس، وقيل : هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان، وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله :﴿ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك، وأما ها هنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا، وهو الذي نص عليه ابن يسار رحمه الله حيث قال :﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، قال : والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق.
ولهذا قال الله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقول :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٥٩ ] وبقول :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾
325
[ آل عمران : ٥٩ ]، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْقٌ من مخلوقات الله، وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى :﴿ وابتغاء تَأْوِيلِهِ ﴾ أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :« قرأ رسول الله ﷺ :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾. إلى قوله :﴿ أُوْلُواْ الألباب ﴾ فقال :» إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم « وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :» تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ قالت : قال رسول الله ﷺ :« فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم » «.
وروى أحمد عن أبي أمامة »
عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ قال :« هم الخوارج »، وفي قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] قال :« هم الخوارج »، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي ﷺ ( غنائم حنين ) فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ( ذو الخويصرة ) - بقر الله خاصرته - إعدل فإنك لم تعدل، فقال رسول الله ﷺ :« لقد خبت وخسرت. إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني » ! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال :« دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم » ثم كان ظهورهم أيام ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ في قوله :« » وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة «، قالو : ومن يا رسول الله؟ قال :» من كان على ما أنا عليه وأصحابي «
326
أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عن رسول الله ﷺ أنه ذكر :« إنّ في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل يتأولونه على غير تأويله ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله ﴾ اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، وقال رسول الله ﷺ :« إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به »، وقال عبد الرزاق : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به ﴾، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولن آمنا به ﴾ واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله تعالى :﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد. فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس فقال :« اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في لقرآن معنيان، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ؛ ويكون قوله ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ مبتدأ و ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ خبره.
327
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر : وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله :﴿ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ [ يوسف : ٣٦ ] أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله :﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ حالاً منهم، وساغ هذا وإن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [ الحشر : ٨ ] - إلى قوله - ﴿ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ﴾ [ الحشر : ١٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً.
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه ﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي ﷺ أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال :« من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم »، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله ﷺ قوماً يتدارؤون فقال :« إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾.
328
عن أم سلمة أن النبي ﷺ كان يقول :« يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »، ثم قرأ :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ وعن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدِّث أن رسول الله ﷺ كان يكثر من دعائه :« » اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «، قالت : قلت يا رسول الله وإن القلب ليتقلب؟ قال :» نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه «. قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو به لنفسي، قال :» بلى، قولي : اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن « ».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ كثيراً ما يدعو :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «. قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال :» ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ « وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ كان إذا استيقظ من الليل قال :» لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب «.
وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
329
يخبر تعالى عن الكفّار بأنهم وقود النار :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار ﴾ [ غافر : ٥٢ ]، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه، كما قال تعالى :﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٥٥ ].
وقال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ]، وقال هاهنا :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه :﴿ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار ﴾ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية. وعن أم الفضل :« أن رسول الله ﷺ قام ليلة بمكة، فقال :» هل بلغت «؟ يقولها ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاهاً - فقال : اللهم نعم، وحرصت وجهدت، ونصحت فاصبر، فقال النبي ﷺ :» ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير «. قالوا : يا رسول الله فمن أولئك؟ قال :» أولئك منكم، أولئك هم وقود النار « ».
وقوله تعالى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، قال ابن عباس : كصنيع آل فرعون، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وغير واحد، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة والدَّأب - بالتسكين والتحريك أيضاً كَنَهر ونَهْر - وهو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس :
كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكتَ نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها! والمعنى في الآية : إنَّ الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد، بل يهلكون ويعذبون، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه :﴿ والله شَدِيدُ العقاب ﴾ أي شديد الأخذ، أليم العذاب، لا يمتنع منه أحد، ولا يفوته شيء، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه.
يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين ﴿ سَتُغْلَبُونَ ﴾ أي في الدنيا، ﴿ وَتُحْشَرُونَ ﴾ أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد. وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله ﷺ لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق ( بني قينقاع ) وقال :« يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً » فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله في ذلك من قوله :﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد ﴾، إلى قوله :﴿ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار ﴾. ولهذا قال تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ ﴾ أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية، أي دلالة على أن الله معزّ دينه، وناصر رسوله، ومظهر كلمته ومعلٍ أمره ﴿ فِي فِئَتَيْنِ ﴾ أي طائفتين ﴿ التقتا ﴾ أي للقتال، ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ ﴾ وهم مشركو قريش يوم بدر. وقوله :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾، قال بعض العلماء : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم. وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة، وهي أن المشركين بعثوا ( عمر بن سعد ) يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسليمن، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وهكذا كان الأمر، كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾ أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة ﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم، والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم، لكن وجَّه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً، كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : في قصة بدر :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] فالجواب : أن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا ﴾ الآية. قال : هذا يوم بدر، قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا.
331
ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] الآية. وقال أبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين! قال : أراهم مائة، قال : فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً، فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم، أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا، ويطلبوا الإعانة من ربهم عزّ وجلّ، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع. ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر :﴿ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان، ويعزّ المؤمنين ويذل الكافرين، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ]، وقال هاهنا :﴿ والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار ﴾ أي : إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
332
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، كما ثبت في الصحيح أنه ﷺ قال :« ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه، وأن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء، وقوله ﷺ :« الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله » وقوله في الحديث الآخر :« حبّب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ».
وحبُّ البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد ﷺ ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث :« تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعاً، وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقول، وحاصلها : أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره، وقيل : ألف دينار، وقيل : ألف ومائتا دينار، وقيل : اثنا عشر ألفاً، وقيل : أربعون ألفاً، وقيل : ستون ألفاً، وقيل : غير ذلك.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزواً عليها، فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخراً ونِواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر، كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] الآية، وأما المسوّمة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل، وقيل : غير ذلك. وقوله تعالى :﴿ والأنعام ﴾ يعني الإبل والبقر والغنم، ﴿ والحرث ﴾ يعني الارض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة عن النبي ﷺ قال :« خير مال امرىء له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة » المأمورة الكثيرة النسل، والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة، ﴿ والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ أي حسن المرجع والثواب، قال عمر بن الخطاب : لما نزلت ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ﴾ قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا ﴾ الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم ﴾ أي قل : يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا، من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقال :﴿ لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً، ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله ﴾ أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة
333
﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم، ثم قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بالعباد ﴾ أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.
334
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى :﴿ الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا ﴾ أي بك وبكتابك وبرسولك، ﴿ فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا بفضلك ورحمتك ﴿ وَقِنَا عَذَابَ النار ﴾، ثم قال تعالى :﴿ الصابرين ﴾ أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات، ﴿ والصادقين ﴾ فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة، ﴿ والقانتين ﴾ والقنوت : الطاعة والخضوع، ﴿ والمنفقين ﴾ أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخَلاّت، ومواساة ذوي الحاجات، ﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾ دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وقد قيل : إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ [ يوسف : ٩٨ ] إنه أخرهم إلى وقت السحر، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول : هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ».
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :« من كل الليل قد أوتر رسول الله ﷺ، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر » وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين ﴿ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى :﴿ لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] الآية، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم ﴾، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام. ﴿ قَآئِمَاً بالقسط ﴾ منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك. ﴿ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ﴾ تأكيد لما سبق، ﴿ العزيز الحكيم ﴾ العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي ﷺ وهو بعرفة يقرأ هذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم ﴾، ثم قال : وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.
وعن غالب القطان : قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ قالها مراراً. قلت : لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية، قال : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني! قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة؛ فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة، قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عزّ وجلّ : عبدي عهد إليّ، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليه الحجة بإرسلا الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال :﴿ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ أي بغي بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي من جحد ما أنزل الله في كتابه ﴿ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.
336
ثم قال تعالى :﴿ فَإنْ حَآجُّوكَ ﴾ أي جادلوك في التوحيد، ﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن ﴾ أي فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له، ولا ندَّ له، ولا ولد له ولا صاحبة له. ﴿ وَمَنِ اتبعن ﴾ أي على ديني، يقول كمقالتي كما قال تعالى :﴿ قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ] الآية، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد ﷺ أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به إلى الكتابيين من المليين والأميين من المشركين، فقال تعالى :﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ ﴾ أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. ولهذا قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بالعباد ﴾ أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي ﴿ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٣ ] وما ذلك إلا لحكمته ورحمته.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنَّة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » وقال ﷺ :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وقال :« كان النبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ».
337
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه :« أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي ﷺ وضوءه ويناوله نعليه، فمرض فأتاه النبي ﷺ فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه، فقال له النبي ﷺ :» يا فلان قل لا إله إلا الله «، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه. فأعاد عليه النبي ﷺ، فنظر إلى أبيه، فقال أبوه : أطع أبا القاسم، فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فخرج النبي ﷺ وهو يقول :» الحمد لله الذي أخرجه بي من النار « ».
338
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب. بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديماً وحديثاً، التي بلَّغتهم إياها الرسل استكباراً عليهم، وعناداً لهم وتعاظماً على الحق واستنكافاً عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق ﴿ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس ﴾ وهذا هو غاية الكبر. عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال :« قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال :» رجل قتل نبياً، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر «، ثم قرأ رسول الله :﴿ إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ الآية. ثم قال رسول الله :» يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عزّ وجلّ « وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره، ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فقال تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي موجع مهين ﴿ أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾.
ينكر الله تعالى على اليهود والنصارى، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم، وهما ( التوراة والإنجيل ) إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله، فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد ﷺ، تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم التنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد، ثم قال تعالى :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم، أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة، ثم قال تعالى :﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ أي ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم، من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم، واختلقوه ولم ينزل الله به سلطاناً، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾، أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر!! والله تعالى سأئلهم عن ذلك كله وحاكم عليهم ومجازيهم به، ولهذا قال تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؟ أي : لا شك في وقوعه وكونه، ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾.
يقول تبارك وتعالى :﴿ قُلِ ﴾ يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه ﴿ اللهم مَالِكَ الملك ﴾ أي لك الملك كله، ﴿ تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ : أي أنت المعطي وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى، على رسوله ﷺ وهذه الأمة، لأن الله تعالى حوّل النبوّة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصَّه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل، من العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك ﴾ الآية، أي : أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد، كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ]، قال الله رداً عليهم :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] ؟ الآية، أي : نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد، بلا ممانع ولا مدافع، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد، كما قال تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] وقال تعالى :﴿ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ﴾ [ الإسراء : ٢١ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.
وقوله تعالى :﴿ وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال :« اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران ﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ».
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ ﴾ أي ومن يرتكب نهي الله من هذا فقد برىء من الله، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة ﴾ [ الممتحنة : ١ ] - إلى أن قال - ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١٤٤ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ٥١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال :« إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم ». وقال الثوري، قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، ويؤيده قول الله تعالى :﴿ مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] الآية. ثم قال تعالى :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته، وعذابه والى أعداءه وعادى أولياءه، ثم قال تعالى :﴿ وإلى الله المصير ﴾ أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله.
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان، والأيام واللحظات وجميع الأوقات، وجميع ما في الأرض والسماوات، لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار، والجبال، ﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي وقدرته نافذة في جميع ذلك. وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته، لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أَنظَرَ من أنظر منهم، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾ الآية، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى :﴿ يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [ القيامة : ١٣ ] فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه، وما رأى من قبيح ساءه وغصَّه، وودَّ لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء :﴿ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ]، ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً :﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ﴾ أي يخوفكم عقابه، ثم قال : جلّ جلاله مرجياً لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه :﴿ والله رَؤُوفٌ بالعباد ﴾ قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذّرهم نفسه وقال غيره : أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتبعوا رسوله الكريم.
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »، ولهذا قال :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ﴾ أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحَب، وقال الحسن البصري : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله ﴾. عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ﷺ :« هل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني ﴾ ».
ثم قال تعالى :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي باتباعكم الرسول ﷺ، يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تخالفوا عن أمره، ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه، حتى يبايع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية، إن شاء الله تعالى.
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى ﴿ ءَادَمَ ﴾ عليه السلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة؛ واصطفى ﴿ وَنُوحاً ﴾ عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً، فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم، لم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، واصطفى ﴿ وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد ﷺ، ﴿ وَآلَ عِمْرَانَ ﴾ والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى بن مريم عليه السلام، فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي ( حنة بنت فاقوذ )، قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوماً طائراً يزق فرخه، فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً، فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محرراً، أي خالصاً مفرغاً للعبادة لخدمة بيت المقدس، فقالت : يا رب ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم ﴾ أي السميع لدعائي العليم بنيتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى ﴾ أي في القوة. والجلد في العبادة، وخدمة المسجد الأقصى. ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾ فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا، وقد حكي مقرراً وبذلك ثبتت السنّة عن رسول الله ﷺ حيث قال :« ولد لي الليلة ولد سميته بامس أبي إبراهيم » أخرجاه، وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله ﷺ فحنكه وسماه ( عبد الله ). وفي صحيح البخاري :« أن رجلاً قال : يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال :» سم ابنك عبد الرحمن « فأما حديث قتادة عن الحسن البصري، عن سمرة بن جندب : أن رسول الله ﷺ قال :» كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه « فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي.
وقوله تعالى إخباراً عن أم مريم أنها قالت :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ أي عوذتها بالله عزّ وجلّ من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك. عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :»
ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها «، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم « ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾.
يخبر ربنا تعالى أنه تقبلها من أمها نذيرة، وأنه أنبتها نباتاً حسناً أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده، تتعلم منهم العلم والخير والدين، فلهذا قال :﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أي جعله كافلاً لها، قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة، وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم، وإنما قدر الله كون زكريا كفلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جماً وعملاً صالحاً، ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل : زوج أختها كما ورد في الصحيح :« فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة » وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قضى في ( عمارة بنت حمزة ) أن تكون في حضانة خالتها امرأة ( جعفر بن أبي طالب ) وقال :« الخالة بمنزلة الأم ». ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها فقال :﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾، قال مجاهد وعكرمة والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وعن مجاهد :﴿ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً ﴾ أي علماً، والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء، وفي السنة لهذا نظائر كثيرة، فإذا رأى زكريا هذا عندها ﴿ قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا ﴾ أي يقول : من أين لك هذا؟ ﴿ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
عن جابر « أن رسول الله ﷺ أقام أياماً لم يطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال :» يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ « قالت : لا والله - بأبي أنت وأمي - فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله ﷺ على نفسي ومن عندي، وكانوا جمعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً - أو حسيناً - إلى رسول الله ﷺ، فرجع إليها فقالت : بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك، قال :» هلمي يا بنية «، قالت : فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهتُ وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصليت على نبيّه، وقدمته إلى رسول الله ﷺ فلما رآه حمد الله، وقال :» من أين لك هذا يا بنية «؟ قالت : يا أبت ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فحمد الله، وقال :» الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه قالت : هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب «
347
، فبعث رسول الله ﷺ إلى علي ثم أكل رسول الله ﷺ، وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين، وجميع أزواج النبي ﷺ، وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً قالت : وبقيت الجفنة كما هي. قالت : فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران، وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً.
348
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم، واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً، ولكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً، وقال :﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ﴾ أي من عندك ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ أي ولداً صالحاً ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء ﴾. قال تعالى :﴿ فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب ﴾ أي خاطبته الملائكة شفاها خطاباً أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته، ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى ﴾ أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله ﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾. روى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية :﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾ أي بعيسى بن مريم، وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى بن مريم، وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه، وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضاً.
وقوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً ﴾ قال أبو العالية حليماً وقال قتادة : سيداً في العلم والعبادة، وقال ابن عباس : السيد الحليم التقي، وقال ابن المسيب : هو الفقيه العالم، وقال عطية : السيد في خُلُقه ودينه، وقال ابن زيد : هو الشريف، وقال مجاهد : هو الكريم على الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى :﴿ وَحَصُوراً ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد ﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ﴾، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا.
وقد قال « القاضي عياض » في كتابه « الشفاء » : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ﴿ حَصُوراً ﴾ ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا : هذه نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل : ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا ﷺ الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوط دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال :« حبب إليّ من دنياكم ».
349
هذا لفظه، والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم من الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال :﴿ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى :﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين ﴾ [ القصص : ٧ ]. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، ﴿ قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ ﴾ : أي الملك، ﴿ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر، ﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ﴾ أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني، ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾، ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحا، فقال تعالى :﴿ واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار ﴾.
350
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام، عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها، أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها، وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين، عن رسول الله ﷺ أنه قال :« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط » وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد » وعن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال :« خير نساء العالمين أربع، مريم بن عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت رسول الله ».
وفي البخاري :« كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود، والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدراين، بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ الروم : ٢٦ ] وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ ﴾ قال الحسن : يعني اعبدي لربك ﴿ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أي كوني منهم : ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر :﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ ﴾ أي نقصه عليك، ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك، كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم، حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها، يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها. وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال : إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيّهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام، بأنه سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير، قال الله تعالى :﴿ إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله، أي يقول له كن فيكون، وهذا تفسير قوله :﴿ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله ﴾ [ آل عمران : ٣٩ ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه، ﴿ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ أي يكون هذا مشهوراً في الدنيا يعرفه المؤمنون بذلك، وسمي المسيح - قال بعض السلف - : لكثرة سياحته، وقيل : لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل : لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برىء بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ نسبة إلى أمه حيث لا أب له، ﴿ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين ﴾ أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه :﴿ وَمِنَ الصالحين ﴾ أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح. وقال ابن ابي حاتم : عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« لم يتكلم في المهد إلا ثلاث، عيسى وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر » فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزّ وجلّ، قالت في مناجاتها :﴿ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ ؟ تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً حاشا لله! فقال لها الملك عن الله عزّ وجلّ في جواب ذلك السؤال ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمرُ الله عظيم لا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي فلا يتأخر شيئاً، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : و ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام : إن الله يعلِّمه الكتاب والحكمة، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة، والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة، والتوراة والإنجيل. فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران، والإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليهما السلام؛ وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا. وقوله :﴿ وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ ﴾ قائلاً لهم :﴿ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله ﴾ وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير، ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عزّ وجلّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، ﴿ وَأُبْرِىءُ الأكمه ﴾، قيل : الأعشى، وقيل : الأعمش، وقيل : هو الذي يولد أعمى، وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي ﴿ والأبرص ﴾ معروف، ﴿ وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله ﴾. قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه اسلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحَّار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار، انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل أحد إليه أن أن يكون مؤيداً من الذي شرَّع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعثِ من هو في قبره رهينٌ إلى يوم التناد؟ وكذلك محمد ﷺ بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عزّ وجلّ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وما ذاك إلا أن كلام الرب عزّ وجلّ لا يشبه كلام الخلق أبداً.
وقوله تعالى :﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغد، ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ أي في ذلك كله، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ أي على صدقي فيما جئتكم به، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ﴾ أي مقرراً لها ومثبتاً، ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ [ الزخرف : ٦٣ ] والله أعلم. ثم قال :﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
يقول تعالى :﴿ فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى ﴾ أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال، قال :﴿ مَنْ أنصاري إِلَى الله ﴾ ؟ قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله، وقال سفيان الثوري : أي من أنصاري مع الله، وقول مجاهد أقرب، والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله، كما كان النبي ﷺ يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر :« من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي » حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر، رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى بن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم :﴿ قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾، الحواريون قيل : كانوا قصّارين، وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم، وقيل : صيادين، والصحيح أن الحواري : الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه، فقال النبي ﷺ :« لكل نبي حواريّ، وحواريّ الزبير ».
عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ قال : مع أمة محمد ﷺ، وهذا إسناد جيد، ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام، وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان - وكان كافراً - أن هنا رجلاً يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك، مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك بعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به تجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل ﴿ عيسى ﴾ فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾.
اختلف المفسرون في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾، فقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إليّ ومتوفيك، يعني بعد ذلك. وقال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك، وقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه، قال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت، وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] الآية وقال تعالى :﴿ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ﴾ [ الزمر : ٤٢ ] الآية، وكان رسول الله ﷺ يقول إذا قام من النوم :« الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا » الحديث. وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى :﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه. وقوله تعالى :﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي برفعي إياك إلى السماء، ﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ﴾، وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء، تفرقت أصحابه شيعاً بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا : هو الله، وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة، وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة.
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له :( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل : جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ). إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه طائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :
355
﴿ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية. فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤهم إلى الروم فلجأوا إلى مدينتهم القسطنطينية، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة.
وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق ﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، ﴿ وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات ﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم ﴾ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك، ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم :﴿ ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ الآية : ٣٤-٣٥ ] وهاهنا قال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ... ﴾.
356
يقول جلّ وعلا :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله ﴾ في قدرة الله حيث خلقه من غير أب ﴿ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾ حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل ﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البُنُوَّة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم :﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ ﴾ [ الآية : ٢١ ]، وقال هاهنا :﴿ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين ﴾ أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال! ثم قال تعالى آمراً رسوله ﷺ أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان :﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾ أي نحضرهم في حال المباهلة ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ﴾ أي نلتعن ﴿ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين ﴾ أي منا ومنكم. يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم. قال ابن إسحاق في سيرته : وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى من نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من رآهم من أصحاب النبي ﷺ ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :« دعوهم »، فصلوا إلى المشرق. قال : فكلّم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم - يقولون : هو الله، ويقولون : هو ولد الله، ويقولون : هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله.
357
وليجعله الله آية للناس، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ :« أسلما »، قال : قد أسلمنا. قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى، قد أسلمنا قبلك، قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا : يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله ﷺ :« ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين »، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »
358
، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه.
وقال البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال :« جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال :» لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين « فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال :» قم يا أبا عبيدة بن الجراح «، فلما قام قال رسول الله ﷺ :» هذا أمين هذه الأمة « وفي الحديث عن ابن عباس » قال قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته. قال فقال :« لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً » «.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله ﷺ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. وقال أبو بكر بن مردويه، عن جابر :»
قدم على النبي ﷺ العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال : فغدا رسول الله ﷺ فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال : فقال رسول الله ﷺ :« والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً » قال جابر : وفيهم نزلت :﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، ﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم * فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي عن هذا إلى غيره، ﴿ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين ﴾ أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده، ونعوذ به من حلول نقمته.
359
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم، ﴿ قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ ﴾، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا، ثم وصفها بقوله :﴿ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله :﴿ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ﴾ لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذه دعوة جميع الرسل. قال الله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، وقال عكرمة : يسجد بعضنا لبعض، ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر، فسأله عن نسب رسول الله ﷺ وعن صفته ونعته وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، ثم جيء بكتاب رسول الله ﷺ فقرأه فإذا فيه :
« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و ﴿ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ».
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم، أنه كان منهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنه : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ﷺ فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فأنزل الله تعالى ﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية. أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ ولهذا قال تعالى :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؟ ثم قال تعالى :﴿ هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ؟ هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد ﷺ لكان أولى بهم، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلىعالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها، ولهذا قال تعالى :﴿ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ﴾ أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ﴾ [ الآية : ١٣٥ ] الآية ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾، يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ﴿ وهذا النبي ﴾ يعني محمداً ﷺ والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم - أبي وخليل ربي عزّ وجلّ - ابراهيم عليه السلام »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ أي ولي جميع المؤمنين برسله.
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم، ثم قال تعالى منكراً عليهم :﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها، ﴿ ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد ﷺ وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه، ﴿ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ ﴾ الآية. هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم، ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا :﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾. قال مجاهد : يعني يهوداً صلت مع النبي ﷺ صلاة الصبح، وكفروا آخر النهار مكراً منهم، ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه، وقال ابن عباس : قالت : طائفة من أهل الكتاب إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله ﷺ من الآيات البينات، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساوونكم فيه، يمتازون به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع، يمنُّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة البالغة ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يُوصف، بما شرف به نبيكم محمداً ﷺ على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم ﴿ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ أي من المال ﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ﴾ أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار، فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك. وقوله ﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾ أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأمين ( وهم العرب ) فإن الله قد أحلها لنا، قال الله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوها بهذه الضلالة، فإن الله حرّم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بُهت. عن أبي صعصعة بن يزيد أن رجلاً سأل ابن عباس، فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس، قال : هذا كما قال أهل الكتاب :﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ ﴾، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. وعن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبي الله ﷺ :« كذب أعداء الله؛ ما من شيء كان في الجاهلية إلى وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ». ثم قال تعالى :﴿ بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ﴾ أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب. اتقى محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾.
يقول تعالى : إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه، من اتباع محمد ﷺ وذكر صفته للناس وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة، بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، ﴿ أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة ﴾ أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها، ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة ﴾ أي برحمة منه لهم، يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة، ﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ أي من الذنوب والأدناس، بل يأمر بهم إلى النار، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر.
الحديث الأول : عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم « قلت : يا رسول الله من هم؟ خسروا وخابوا، قال : وأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال :» المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان « ».
الحديث الثاني : عن عدي بن عميرة الكِندي قال :« خاصم رجل من كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رجلاً من حضرموت إلى رسول الله ﷺ في أرض، فقضى على الحضرمي بالبيّنة فلم يكن له بيّنة، فقضى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي، فقال النبي ﷺ :» من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان «، وتلا رسول الله ﷺ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال :» الجنة « قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ».
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ :« من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان »، قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال : كان في هذا الحديث، « خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله ﷺ في بئر كانت لي في يده فجحدني، فقال رسول الله ﷺ :» بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه «، قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله ﷺ :» من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان «، قال : وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ »
364
الآية.
الحديث الرابع : قال أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :« » إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم «، قيل :» ومن أولئك يا رسول الله؟ قال :« متبرىء من والديه راغب عنهما، ومتبرىء من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم » «.
الحديث الخامس : عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الآية.
الحديث السادس : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :»
ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة - بعد العصر - يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له «.
365
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾، قال مجاهد والحسن :﴿ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب ﴾ يحرفونه، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله.
عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من ( اليهود والنصارى ) من أهل نجران عند رسول الله ﷺ ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله ﷺ :« معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني »، أو كما قال ﷺ، فأنزل الله في ذلك من قولهما :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله - { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله، أي مع الله، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل، فلا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى. لهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم، كما قال الله تعالى :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] الآية. وفي المسند أن عدي بن حاتم قال :« يا رسول الله، ما عبدوهم، قال :» بلى، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم «، فالجهلة من الأحبار والرهبان، ومشايخ الضلال، يدخلون في هذا الذم والتوبيخ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين.
فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه، في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله تعالى :﴿ ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ أي ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين، قال ابن عباس : أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن : فقهاء، وعن الحسن أيضاً : يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، تَعْلمون : أي تفهمون معناه، وقرىء تعلّمون بالتشديد من التعليم، ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً ﴾ أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ﴿ أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ ؟ أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] وقال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ وقال إخباراً عن الملائكة :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ].
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلىعيسى عليه السلام، مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته، ولهذا قال تعالى وتقدس :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾ أي لَمَهْمَا أعطيتكم من كتاب وحكمة، ﴿ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي ﴾، قال ابن عباس ومجاهد : يعني عهدي، وقال محمد بن إسحاق ﴿ إِصْرِي ﴾ أي ميثاقي الشديد المؤكد، ﴿ قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين * فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك ﴾ أي عن هذا العهد والميثاق ﴿ فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقال الحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه، وقد قال الإمام أحمد : جاء عمر إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله ﷺ، قال عبد الله بن ثابت قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله ﷺ ! فقال عمر : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، قال : فسُرّي عن النبي ﷺ، وقال :« والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ».
حديث آخر : وعن جابر قال رسول الله ﷺ :« لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بح، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني » وفي بعض الأحاديث :« لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي » فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الربّ جلّ جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاّ له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به، صلوات الله وسلامه عليه.
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله، الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، الذي له أسلم من في السماوات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً كما قال تعالى :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ [ الرعد : ١٥ ]. وقال تعالى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ النحل : ٤٩-٥٠ ] فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع، وقد قال وكيع في تفسيره عن مجاهد :﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ﴾ قال : هو كقوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ]، ﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله.
ثم قال تعالى :﴿ قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ أي من الصحف والوحي، ﴿ والأسباط ﴾ وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر، ﴿ وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى ﴾ يعني بذلك التوراة والإنجيل، ﴿ والنبيون مِن رَّبِّهِمْ ﴾ وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني بل نؤمن بجميعهم، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ الآية. أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، ﴿ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ».
قال ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلو رسول الله ﷺ هل لي من توبة؟ فنزلت :﴿ كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - إلى قوله - فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، فأرسل إليه قومه فأسلم. ﴿ وَجَآءَهُمُ البينات ﴾ أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به من العماية؟ ولهذا قال تعالى :﴿ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين ﴾. ثم قال تعالى :﴿ أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ ﴾ أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي في اللعنة، ﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة، ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه، أن من تاب إليه تاب عليه.
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لم كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفراً أي استمر عليه إلى الممات، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات، كما قال تعالى :﴿ وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت ﴾ [ النساء : ١٨ ] الآية. ولهذا قال هاهنا :﴿ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون ﴾ أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي، قال الحافظ أبو بكر البزار عن عكرمة عن ابن عباس : أن قوماً أسلموا ثمَّ ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾، أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبداً، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي ﷺ عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال :« لا! إنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »، وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ]، وقال :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. عن أنس بن مالك، أن النبي ﷺ قال :« يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول : نعم، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك ».
طريق آخر : وقال الإمام أحمد، عن أنس قال قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل، فيقول : سل وتمن، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول : أي رب نعم، فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وايسر فلم تفعل فيرد إلى النار »، ولهذا قال :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون ﴿ لَن تَنَالُواْ البر ﴾ قال : الجنة، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه ( بير حاء ) وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب. قال أنَس : فلما نزلت :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول :﴿ لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحب أموالي إليّ ( بير حاء )، وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي ﷺ :« بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين »، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي الصحيحين أن عمر قال :« يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر، فما تأمرني به؟ قال :» احبِسْ الأصل، وأسبِلْ الثمرة « ».
قال ابن عباس : حضرَتْ عصابة من اليهود نبي الله ﷺ فقالوا : حدثنا عن خلالٍ نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي، قال :« سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام »، قالوا : فذلك لك، قالوا : أخبرنا عن أربع خلال، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه. فقال :« أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها »؟ فقالوا : اللهم نعم : فقال :« اللهم اشهد عليهم »، وقال :« أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله » قالوا : نعم. قال :« اللهم اشهد عليهم »، وقال :« وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ » قالوا : اللهم نعم، قال :« اللهم اشهد ». قال :« وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه »، قالوا : فعند ذلك نفارقك ولو كان وليك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال الله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] الآية.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عَرْقاً، ولا يأكل ولد ما له عَرْق، فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناباً به واقتداء بطريقه، وقوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ﴾ أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فإنها ناطقة بما قلناه، ﴿ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بالبراهين والحجج، بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ صَدَقَ الله ﴾ أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن، ﴿ فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد ﷺ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم، كما قال تعالى :
373
﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ]، وقال تعالى :﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ النحل : ١٢٣ ].
374
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس، لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده ﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه، ومنهجه، ويحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله، ولهذا قال تعالى :﴿ مُبَارَكاً ﴾ أي وضع مباركاً ﴿ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾. عن أبي ذر رضي الله عنه قال :« قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال :» المسجد الحرام «، قلت : ثم أيّ؟ قال :» المسجد الأقصى «، قلت : كم بينهما؟ قال :» أربعون سنة « قلت : ثم أي؟ قال :» ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد « وعن علي رضي عنه في قوله تعالى :﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ﴾، قال : كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض، مطلقاً، والصحيح قول علي رضي الله عنه.
وقوله تعالى :﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعاً، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد، وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة، وقال مقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة ( مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والحاطمة، والرأس، والبلدة، والبنية، والكعبة ).
وقوله تعالى :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه، ثم قال تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة، وقال ابن عباس في قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي فمنهم مقام إبراهيم والمشاعر، وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
375
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ قال : الحرم كله مقام إبراهيم. وقوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج، وعن ابن عباس قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه، وقال الله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾ [ قريش : ٣-٤ ] وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك.
ففي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة :« لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا »، وقال يوم فتح مكة :« » إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة : لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها «، فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال :» إلا الإذخر « وعن أبي شريح العدوي أنه قال : لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي ايها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله ﷺ الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال :» إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله ﷺ فيها، فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الغائب «، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارا بخربة. وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة «
376
، وعن عبد الله بن الحمراء الزهري، أنه سمع رسول الله ﷺ وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول :« والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ». وقال بعضهم في قوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ قال : آمناً من النار.
وقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ هذه أول آية وجوب الحج عند الجمهور، وقيل بل هي قوله :﴿ وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] والأول أظهر، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع، لحديث أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله ﷺ فقال :« » أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا «، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله ﷺ :» لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم «، ثم قال :» ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه « وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله ﷺ فقال :» « أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج »، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال :« لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع » «.
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه، وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :»
قام رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : من الحاج يا رسول الله؟ قال :« الشعث التفل »، فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال :« العج والثج »، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله، قال :« الزاد والراحلة » وعن أنَس « أن رسول الله ﷺ سئل عن قول الله تعالىّ :﴿ مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ فقيل : ما السبيل؟ قال :» الزاد والراحلة « وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ :» تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له « وقال رسول الله ﷺ :» من أراد الحج فليتعجل « وروى وكيع بن الجراح عن ابن عباس قال :﴿ مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾ قال :» الزاد والبعير «.
377
وقوله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾ قال ابن عباس : أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه، وقال سعيد بن منصور عن عكرمة : لما نزلت :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] قالت اليهود : فنحن مسلمون، قال الله عزّ وجلّ فأخصمهم فحجهم يعني، فقال لهم النبي ﷺ :« إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً »، فقالوا : لم يكتب علينا، وأبو أن يحجوا قال الله تعالى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾. عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ :« من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً، وذلك بأن الله قال :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾ » وروى الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جَدَة ( أي سعة ) ( فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين ).
378
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق، وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله، وقد توعدهم الله على ذلك، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد، فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون، أي وسيجزيهم على ذلك :﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ [ الشعراء : ٨٨ ].
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب، الذي يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، وما منحهم من إرسال رسوله، كما قال تعالى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] الآية. وهكذا قال هاهنا :﴿ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ﴾، يعني أن الكفر بعيد منكم - وحاشاكم منه - فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم، وهذا كقوله تعالى :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الحديد : ٨ ]. وكما جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال لأصحابه يوماً « » أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟ « قالوا : الملائكة، قال :» وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم «، قالوا : فنحن، قال :» وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم «، قالوا : فأي الناس أعجب إيماناً؟ قال :» قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها « ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾، أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد؛ وطريق السداد وحصول المراد.
عن عبد الله بن مسعود :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ قال : أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وروي مرفوعاً عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« اتقو الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى » وروي عن أَنَس أنه قال : لا يتقي اللَّهَ العبدُ حق تقاته حتى يخزن لسانه، وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ [ التغابن : ١٦ ]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾، أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم، لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه، أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه، فعياذاً بالله من خلاف ذلك.
روى الإمام أحمد عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه محجن، فقال : قال رسول الله ﷺ :« يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم »
وقال الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ﷺ :« من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » وفي الحديث الصحيح عن جابر قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجلّ » وعن أنَس قال :« كان رجل من الأنصار مريضاً فجاءه النبي ﷺ يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه، فقال له :» كيف أنت يا فلان «؟ قال بخير يا رسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله ﷺ :» لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف « ».
وقوله تعالى :﴿ واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ قيل :﴿ بِحَبْلِ الله ﴾ أي بعهد الله كما قال في الآية بعدها :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس ﴾
381
[ آل عمران : ١١٢ ] أي بعهد وذمة، وقيل :﴿ بِحَبْلِ الله ﴾ يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن :« هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ».
وروى ابن مردويه عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه ».
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاَّه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثاً : قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ».
وقوله تعالى :﴿ واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ إلى آخر الآية، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن، وإحن، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله؛ متعاونين على البر والتقوى. قال الله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٦٢-٦٣ ] إلى آخر الآية. وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله ﷺ يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضَّل عليهم في القسمة بما أراده الله، فخطبهم فقال :« يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي!! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي! وعالة فأغناكم الله بي!؟ » فكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنُّ.
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن ( الأوس والخزرج )، وذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الإتفاق والألفة، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا ونادوا بشعارهم، وطلبو أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول :« أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهرركم؟ » وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح رضي الله عنهم.
382
يقول تعالى : ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ قال الضحاك : هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء، وقال أبو جعفر الباقر، قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير ﴾. ثم قال :« الخير اتباع القرآن وسنتي » والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان »، وفي رواية :« وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ».
وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال :« والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم »، ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات ﴾ الآية. ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين، في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم.
روى الإمام أحمد عن أبي عامر ( عبد الله بن يحيى ) قال : حججنا مع ( معاوية بن أبي سفيان )، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله ﷺ قال :« إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به ».
وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ﴿ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ ؟ قال الحسن البصري : وهم المنافقون، ﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾، وهذا الوصف يعم كل كافر، ﴿ وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً.
ثم قال تعالى :﴿ تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد ﴿ بالحق ﴾ أي نكشف ما الأمر عليه من الدنيا والآخرة، ﴿ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ أي ليس بظالم لهم، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور، لأنه القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ أي الجميع ملك له وعبيد له، ﴿ وإلى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم، قال البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، قال : خير الناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، ولهذا قال :﴿ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله ﴾، قال الإمام أحمد : قام رجل إلى النبي ﷺ وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال :« خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم » وعن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة. والصحيح أنه هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما قال في الآية الآخرى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] أي خياراً ﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] الآية.
وفي مسند أحمد وجامع الترمذي من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله ﷺ :« أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجلّ » وهو حديث مشهور، وقد حسنَّه الترمذي، وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات، بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل، فالعمل على منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، وفي الحديث :« وجعلت أمتي خير الأمم ».
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها هاهنا : عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً »، فقال أبو بكر رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي.
حديث آخر : قال الإمام أحمد، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي ﷺ :« عرضت عليّ الأمم بالموسم فراثت عليّ أمتي، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم، قد ملؤا السهل والجبل، فقال : أرضيت يا محمد؟ فقلت : نعم! قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون »، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال :« أنت منهم »، فقام رجل آخر فقال : أدع الله أن يجعلني منهم، فقال :« سبقك بها عكاشة » «.
384
حديث آخر : قال الطبراني، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله ﷺ :« » يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عقاب «، قيل : من هم؟ قال :» هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون « ».
حديث آخر : ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« » يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر «، قال أبو هريرة : فقام عكاشة بن حصين الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله ﷺ :» اللهم اجعله منهم «، ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله، فقال :» سبقك بها عكاشة « ».
حديث آخر : عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال :« » عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي؛ فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب «، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال :» ما الذي تخوضون فيه؟ « فأخبروه، فقال :» هم الذي لا يرقون ولا يستقرون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون «، فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم، قال :» أنت منهم «، ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم، قال :» سبقك بها عكاشة « ».
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن عاصم في كتاب السنن، عن محمد بن زياد : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي عزّ وجلّ ».
385
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« إن ربي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفاً، ثم يحثي ربي عزّ وجلّ بكفيه ثلاث حثيات » فكبر عمر وقال : إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشيرتهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر. قال الحافظ المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة، والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : عن عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال : أقبلنا مع رسول الله ﷺ حتى إذا كنا بالكديد - أو قال بقديد - فذكر حديثاً وفيه ثم قال :« وعدني ربي عزّ وجلّ أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب، وإني لأرجوا أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة »، قال الضياء : وهذا عندي على شرط مسلم.
حديث آخر : قال عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنَس عن أنَس قال :« قال رسول الله ﷺ :» إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف «، قال أبو بكر رضي الله عنه. زدنا يا رسول الله، قال :» والله هكذا «، قال عمر : حسبك يا أبا بكر، فقال أبو بكر : دعني وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا. قال عمر : إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد، فقال النبي ﷺ :» صدق عمر « هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق. قال الضياء : وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني عن قتادة عن أنَس عن النبي ﷺ قال :» « وعدني ربي ان يدخل الجنة من أمتي مائة ألف »، فقال له أبو بكر : يا رسول الله زدنا، قال :« وهكذا »، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك، قلت : يا رسول الله زدنا، فقال عمر : إن الله قادر على أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال رسول الله ﷺ :« صدق عمر »، هذا حديث غريب من هذا الوجه.
حديث آخر : عن أنَس عن النبي ﷺ قال :« » يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً «، قالوا : زدنا يا رسول الله، قال :» لكل رجل سبعون ألفاً «، قالوا : زدنا، وكان على كثيب، فقالوا : فقال :» هكذا « وحثا بيديه، قالوا : يا رسول الله : أَبْعد اللَّهُ من دخل النار بعد هذا » «.
386
ومن الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عزّ وجلّ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال :« قال لنا رسول الله ﷺ :» أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة « فكبرنا، ثم قال :» أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة « فكبرنا، ثم قال :» إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة « ».
حديث آخر : قال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة عن أبيه، أن النبي ﷺ قال :« أهل بالجنة عشرون ومائة صف. هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً ».
حديث آخر : قال الطبراني عن أبي هريرة :« لما نزلت :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين ﴾ [ الواقعة : ٣٩-٤٠ ] قال رسول الله ﷺ :» أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة « ».
حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، الناس لنا في تبع، غداً لليهود، وللنصارى بعد غد ».
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله ﴾، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح، كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس دَعَة، فقرأ هذه الآية :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾، ثم قال :( من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها )، رواه ابن جرير، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى :﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [ المائدة : ٧٩ ] الآية، ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال تعالى :﴿ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب ﴾ أي بما أنزل على محمد، ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون ﴾ أي قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين ومبشراً لهم : أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى :﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾، هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة ( بني قينقاع ) وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
387
ثم قال تعالى :﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس ﴾، أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يؤمنون ﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله ﴾ أي بذمة من الله وهو عقد الذمة لهم، وضربت الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة، ﴿ وَحَبْلٍ مِّنَ الناس ﴾ أي أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة، قال : ابن عباس :﴿ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس ﴾ أي بعهد من الله وعهد من الناس، وقوله :﴿ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله ﴾ أي ألزموا، فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه، ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ﴾ أي ألزموها قدراً وشرعاً، ولهذا قال :﴿ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد، فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلا بذل الآخرة. ثم قال تعالى :﴿ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسول الله - وقُيِّضوا لذلك - أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله والاعتداء في شرع الله، فعياذاً بالله من ذلك، والله عزّ وجلّ المستعان.
388
المشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، و ( أسد بن عبيد ) و ( ثعلبة بن شعبة ) وغيرهم، أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب، وهؤلاء الذين أسلموا، ولهذا قال تعالى :﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً ﴾ أي ليسوا كلهم على حد سواء، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال تعالى :﴿ مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ ﴾ أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، متبعة نبي الله فهي ( قائمة ) يعني مستقيمة، ﴿ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ أي يقيمون الليل، ويكثرون التهجد، ويتلون القرآن في صلواتهم، ﴿ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين ﴾، وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ ﴾ [ آل عمران : ١٩٩ ] الآية، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ ﴾ أي لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء، ﴿ والله عَلِيمٌ بالمتقين ﴾ أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً.
ثم قال تعالى : مخبراً عن الكفرة المشركين بأنه ﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً ﴾ أي لا ترد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم، ﴿ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، ثم ضرب مثلاً لا ينفقه الكفار في هذه الدار فقال :﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ﴾ أي برد شديد قاله ابن عباس، وقال عطاء : برد وجليد :﴿ فِيهَا صِرٌّ ﴾ أي نار وهو يرجع إلى الأول، فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشيء بالنار، ﴿ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾ أي فأحرقته يعني بذلك الصعقة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته، وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع، فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه، فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه، وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾.
يقول تبارك وتعالى ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة؛ ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى :﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ﴾ أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره، وقد روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال :« ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضُّه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ».
وقال ابن أبي حاتم : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتباً! فقال : قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين. ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى :﴿ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ﴾ أي تمنوا وقوعكم في المشقة.
ثم قال تعالى :﴿ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ أي قد لاح على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل، ولهذا قال تعالى :﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ ﴾ أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك، وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً، ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ ﴾ أي ليس عندكم من شيء منه شك ولا ريب، وهم عندهم الشك والريب والحيرة، عن ابن عباس :﴿ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ ﴾ أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم، ﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ ﴾ والأنامل أطراف الأصابع، قاله قتادة.
وقال الشاعر :
وما حملت كفاي أنملي العشرا... وقال ابن مسعود والسدي : الأنامل الأصابع، وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ ﴾ وذلك أشد الغيظ والحنق، قال الله تعالى :﴿ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه، ومعل كلمته ومظهر دينه، فموتوا أنتم بغيظكم، ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، لا محيد لكم عنها، ولا خروج لكم منها.
390
ثم قال تعالى :﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ﴾ وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المافقين، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء - لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أُحُد - فرح المنافقون ذلك. قال الله تعالى مخاطباً للمؤمنين :﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾ الآية، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله، الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أُحُد وما كان فيها من الإختبار لعباده المؤمنين، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وبيان الصابرين فقال تعالى :﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ... ﴾.
391
المراد بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهو، وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب. وكانت وقعة أُحُد يوم السبت من شوّال سنة ثلاث من الهجرة، قال قتادة : لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال، وقال عكرمة : يوم السبت للنصف من شوّال فالله أعلم، وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر، وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أُحُد تلقاء المدينة، فصلى رسول الله ﷺ يوم الجمعة فلما فرغ منها استشار الناس :« أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة »؟ فأشار ( عبد الله بن أُبي ) بالمقام بالمدينة، فإن أقاموا بشر محبس، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروح إليهم. فدخل رسول الله ﷺ فلبس لامته وخرج عليهم، وقد ندم بعضهم، وقالوا : لعلنا استكرهنا رسول الله ﷺ، فقالوا : يا رسول الله إن شئت أن نمكث، فقال رسول الله ﷺ :« ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له »، فسار ﷺ في ألف من أصحابه، فلما كانوا بالشوط رجع ( عبد الله بن أُبي ) بثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون، واستمر رسول الله ﷺ سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال :« لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال ».
وتهيأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه، وأمَّر على الرماة ( عبد الله بن جبير ) أخا بني عمرو ابن عوف، والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال لهم :« انضحوا الخيل عنا ولا تؤتين من قبلكم، والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم »، وظاهر رسول الله ﷺ بين درعين، وأعطى اللواء ( مصعب بن عمير ) أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله ﷺ بعض الغلمان يومئذٍ وأخر آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين، وتهيأ قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائة فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل ( خالد بن الوليد ) وعلى الميسرة ( عكرمة بن أبي جهل )، ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار، ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى.
392
ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ أي تنزلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم، ﴿ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ﴾ الآية. قال البخاري، قال عمر : سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت :﴿ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ ﴾ الآية قال : نحن الطائفتان ( بنو حارثة ) و ( بنو سلمة )، وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى :﴿ والله وَلِيُّهُمَا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ ﴾ أي يوم بدر، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فيهم فارسان وسبعون بعيراً والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدوّ يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة، والخيول المسوَّمة والحلي الزائد. فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيّض وجه النبي وقبيله وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين، ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العَدَد والعُدَد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾ [ التوبة : ٢٥ ]. وقال الإمام أحمد، عن سماك قال : سمعت عياضاً الأشعري، قال : شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء. وقال عمر : إذا كان قتالاً فعليكم أبو عبيدة، قال : فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا إنه قد جائني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصراً، وأحصن جنداً، الله عزّ وجلّ فاستنصروه، فإن محمداً ﷺ قد نصر في يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني. قال : فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ، قال : وأصبنا أموالاً فتشاورنا، فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة. و ( بدر ) محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له ( بدر بن النارين ) قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدراً، وقوله :﴿ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تقومون بطاعته.
393
اختلف المفسرون في هذا الوعد : هل كان يوم بدر أو يوم أُحُد؟ على قولين أحدهما : إن قوله :﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ متعلق بقوله :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ] واختاره ابن جرير. قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله :﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة ﴾، قال : هذا يوم بدر. وقال الربيع بن أنَس : أمد الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف، فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله في قصة بدر :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ ﴾ [ الأنفال : ٩ ] - إلى قوله - ﴿ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ١٠ ] ؟ فالجواب أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله :﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، والله أعلم.
( القول الثاني ) : إن هذا الوعد متعلق بقوله :﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ] وذلك يوم أُحُد، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك، لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذٍ، وقوله تعالى :﴿ بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ يعني تصبروا على مصابرة عدوكم، وتتقوني وتطيعوا أمري، وقوله تعالى :﴿ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا ﴾، قال الحسن وقتادة : أي من وجههم هذا، وقال مجاهد وعكرمة : أي من غضبهم هذا. وقال ابن عباس : من سفرهم هذا، ويقال : من غضبهم هذا، وقوله تعالى :﴿ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ ﴾ أي معلمين بالسيما. عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكان سيماهم أيضاً في نواصي خيولهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الآية ﴿ مُسَوِّمِينَ ﴾ قال : بالعهن الأحمر، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أتت الملائكة محمداً ﷺ مسوّمين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف، وقال قتادة وعكرمة :﴿ مُسَوِّمِينَ ﴾ أي بسيما القتال. وعن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون. وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ﴾ أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال :
394
﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [ محمد : ٤ ]، ولهذا قال هاهنا :﴿ وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم ﴾ أي هو ذو العزة التي لا ترام، والحكمة في قدره والأحكام.
ثم قال تعالى :﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا ﴾ أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين، فقال :﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفاً ﴾ أي ليهلك أمة ﴿ مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ ﴾ أي يرجعوا ﴿ خَآئِبِينَ ﴾، أي لم يحصلوا على ما أملوا، ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ ﴾، أي بل الأمر كله إليّ، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، وقال :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ البقرة : ٢٧٢ ]، وقال :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، وقال محمد بن إسحاق في قوله :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ ﴾ أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر بقية الأقسام فقال :﴿ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة ﴿ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم، ولهذا قال :﴿ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي يستحقون ذلك، قال البخاري : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله ﷺ يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ ﴾ الآية. وقال البخاري أيضاً، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعوا على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال : إذا قال :« سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد : اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر :« اللهم العن فلاناً وفلاناً » لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ ﴾ الآية.
وقال الإمام أحمد : عن أنَس رضي الله عنه أن النبي ﷺ كسرت رباعيته يوم أُحُد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال :« كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عزّ وجلّ » فأنزل الله :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾.
وقال ابن جرير : عن قتادة قال : أصيب النبي ﷺ يوم أحد وكسرت رباعيته، وفرق حاجبه، فوقع وعليه درعان والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه، فأفاق وهو يقول :« كيف بقوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ؟ » فأنزل الله :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ ﴾ الآية.
ثم قال تعالى :﴿ وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ الآية، أي الجميع ملك له وأهلهما عبيد بين يديه، ﴿ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴿ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
395
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده في القدر، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى :﴿ واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى :﴿ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ أي كما أعدت النار للكافرين. وقد قيل : إن في معنى قوله :﴿ عَرْضُهَا السماوات والأرض ﴾ تنبيهاً على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة :﴿ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ [ الرحمن : ٥٤ ] أي فما ظنك بالظهائر، وقيل : بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح :« إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن » وهذه الآية كقوله في ( سورة الحديد ) :﴿ سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض ﴾ [ الآية : ٢١ ] الآية. وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن ( هرقل ) كتب إلى النبي ﷺ « إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي ﷺ :» سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار « ».
وهذا يحتمل معنيين، أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزّ وجلّ، وهذا أظهر، والثاني : أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها، كما قال الله عزّ وجلّ :﴿ عَرْضُهَا السماوات والأرض ﴾ والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.
ثم ذكر تعالى صفةَ أهل الجنة فقال :﴿ الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء ﴾ أي في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال :﴿ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ [ البقرة : ٢٧٤ ]، والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر، وقوله تعالى :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس ﴾، أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم، وقد ورد في بعض الآثار :
396
« يقول تعالى يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت، أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« ليس الشديد بالصُرَعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » وقال الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :« » أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله «، قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال :» اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله، مالَكَ من مالِكَ إلا ما قدمت، وما لوارثك إلا ما أخرت « قال : وقال رسول الله ﷺ :» ما تعدون الصرعة فيكم! قلنا الذي لا تصرعه الرجال، قال :« لا، ولكن الذي يملك نفسه عن الغضب »، قال : وقال رسول الله ﷺ :« أتدرون ما الرقوب » قلنا الذي لا ولد له، قال :« لا، ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئاً » «.
حديث آخر : قال الإمام أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنَس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :»
من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء «.
حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ أن النبي ﷺ قال :»
من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله جوفه أمناً وإيماناً «.
فقوله تعالى :﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عزّ وجلّ، ثم قال تعالى :﴿ والعافين عَنِ الناس ﴾ أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال :﴿ والله يُحِبُّ المحسنين ﴾ فهذا من مقامات الإحسان. وفي الحديث :»
ثلاث أقسم عليهن، ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله « وروى الحاكم في مستدركه، عن أُبيّ بن كعب، أن رسول الله ﷺ قال :» ومن سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعطِ من حرمه، ويصلْ من قطعه « وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ :» إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول : أين العافون عن الناس، هلموا إلى ربكم، وخذوا أجوركم، وحق على كل امرىء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة «.
397
وقوله تعالى :﴿ والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« إن رجلاً أذنب ذنباً فقال : رب إن أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله عزّ وجلّ : عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره، فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفر لي، فقال عزَّ وجلَّ : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره فقال الله عزّ وجلّ عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء » وعن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته؛ وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني، وصدق أبو بكر، أنه سمع رسول الله ﷺ قال :« ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عزّ وجلّ، إلا غفر له » ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال :« ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » وعن أنَس رضي الله عنه قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية :﴿ والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ ﴾ بكى.
وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلم رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون » وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال :« قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني ».
398
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله ﴾ أي لا يغفرها أحد سواه، وقوله :﴿ وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عزّ وجلّ عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه، كما قال رسول الله ﷺ :« ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة »، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ]، وكقوله :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] ونظائر هذا كثيرة جداً. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به :﴿ أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ أي جزاؤهم على هذه الصفات ﴿ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي من أنواع المشروبات، ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها، ﴿ وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين ﴾ يمدح تعالى الجنة.
399
يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون :﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ﴾، أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين، ولهذا قال تعالى :﴿ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين ﴾، ثم قال تعالى :﴿ هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ﴾ يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم، ﴿ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ ﴾ يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم، ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين :﴿ وَلاَ تَهِنُوا ﴾ أي لا تضعفوا بسبب ما جرى، ﴿ وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون، ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ ﴾ أي إن كنتم قد أصبتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح، ﴿ وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس ﴾ أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ ﴾ قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ ﴾ يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته، ﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين * وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ ﴾ أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به.
وقوله تعالى :﴿ وَيَمْحَقَ الكافرين ﴾ أي فإنهم إذا ظفروا بغواً وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم، ثم قال تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين ﴾، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ ﴾ [ الآية : ٢١٤ ]. وقال تعالى :﴿ أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٢ ] الآية، ولهذا قال هاهنا :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين ﴾ أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو، وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال :« لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف »، ولهذا قال تعالى :﴿ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ ﴾ يعني الموت شاهدتموه وقت حد الأسنة واشتباك الرماح، وصفوف الرجال للقتال، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس، كما تتخيل الشاة صداقة الكبش، وعداوة الذئب.
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحُد وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ( ابن قميئة ) إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله ﷺ قد قتل وجوزوا عليه ذلك - كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام - فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ﴾ أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه. قال ابن أبي نجيح عن أبيه : إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له : يا فلان أشعرت أن محمداً ﷺ قد قتل، فقال الأنصاري : إن كان محمداً قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ﴾. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف :﴿ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ ﴾ أي رجعتم القهقرى، ﴿ وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين ﴾ أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حياً وميتاً، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن أن الصدّيق رضي الله عنه تلاهذه الآية لما مات رسول الله ﷺ.
عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله ﷺ وهو مغطى بثوب حبرة : فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبّله وبكى، ثم قال : بأبي أن وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين : أما الموتة التي كتب عليك فقد متها، وروى الزهري : عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر، قال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى :﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ﴾ إلى قوله ﴿ وَسَيَجْزِي الله الشاكرين ﴾، قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض.
401
وقال أبو القاسم الطبراني، عن عكرمة عن ابن عباس : أن علياً كان يقول في حياة رسول الله ﷺ :﴿ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ ﴾ والله لا ننقلب على أعقابنا عبد إذا هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فم أحق به مني؟ وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له، ولهذا قال :﴿ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ كقوله :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ﴾ [ فاطر : ١١ ]، وكقوله :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ﴾ [ الأنعام : ٢ ] وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام الإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه، كما قال ابن أبي حاتم عن حبيب بن ظبيان : قال رجل من المسلمين وهو ( حجر بن عدي ) : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ ثم أقحم فرسه دجلة، فلما أقحم أقحم الناس، فلما رآهم العدوّ قالوا : ديوان... فهربوا.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا ﴾ أي من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها وما قسم له في الدنيا كما قال تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ]، وقال تعالى :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٨-١٩ ] ولهذا قال هاهنا :﴿ وَسَنَجْزِي الشاكرين ﴾ أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم. ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد، ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ قيل معناه : كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير، وهذا القول هو اختيار ابن جرير. وقد عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل، فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال فقال لهم :﴿ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ﴾، أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و ﴿ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ ﴾ وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير.
402
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر، فإنه قال : وكأين من نبي أصابه القتل ومع ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك الصبر ﴿ والله يُحِبُّ الصابرين ﴾. فجعل قوله :﴿ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ حالاً وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله :﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ ﴾ الآية. وقرأ بعضهم :﴿ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾ أي ألوف، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الربيون الجموع الكثيرة، وقال الحسن :﴿ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ﴾، أي علماء كثير، وعنه أيضاً : علماء صبر أي أبرار أتقياء، وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عزّ وجلّ، قال : ورد بعضهم عليه فقال : لو كان كذلك لقيل الربيون بفتح الراء، وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية والربانيون الولاة، ﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا ﴾ قال قتادة :﴿ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾ بقتل نبيهم، ﴿ وَمَا استكانوا ﴾ يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله، وقال ابن عباس :﴿ وَمَا استكانوا ﴾ تخشعوا، قال ابن زيد : وما ذلوا لعدوهم، ﴿ والله يُحِبُّ الصابرين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين ﴾ أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك، ﴿ فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا ﴾ أي النصر والظفر والعاقبة ﴿ وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة ﴾ أي جمع لهم ذلك مع هذا ﴿ والله يُحِبُّ المحسنين ﴾.
403
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى :﴿ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ﴾، ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه فقال تعالى :﴿ بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين ﴾، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال، فقال :﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين ﴾ وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :« أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » وقال الإمام أحمد : عن أبي موسى قال، قال رسول الله ﷺ :« أعطيت خمساً : بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً » قال ابن عباس في قوله تعالى ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب ﴾ قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة، فقال النبي ﷺ :« إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب » وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ﴾ قال ابن عباس : وعدهم الله النصر، ﴿ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ ﴾ أي تقتلونهم ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي بتسليطه إياكم عليهم ﴿ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ ﴾ الفشل : الجبن ﴿ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ ﴾ كما وقع للرماة ﴿ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ﴾ وهو الظفر بهم ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ﴾ وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة ﴿ وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم ﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ﴾ أي غفر لكم ذلك الصنيع. قال ابن جريج : قوله :﴿ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ﴾ قال : لم يستأصلكم ﴿ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين ﴾.
عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر، أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله :﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾، فلما خالف أصحاب رسول الله ﷺ وعصوا ما أمروا به أفرد النبي ﷺ في تسعة، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم ﷺ، فلما أرهقوه قال :
404
« » رحم الله رجلاً ردهم عنا « قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما أرهقوه أيضاً قال :» رحم الله رجلاً ردهم عنا «، فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه :» ما أنصفنا أصحابنا «، فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل، فقال رسول الله ﷺ :» قولوا الله أعلى وأجل، فقالوا : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله ﷺ :« قولوا الله مولانا والكافرون لا مولى لهم »، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر ( فيوم علينا ويوم لنا : ويوم نساء ويوم نسر ) حنظلة بحنظلة وفلان بفلان : فقال رسول الله ﷺ :« لا سواء : أما قتلانا فأحياء يرزقون؛ وأما قتلاكم ففي النار يعذبون »، فقال أبو سفيان : لقد كان في القوم مُثْلة - وإن كانت لعن غير مَليّ منا - ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني، قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسو الله ﷺ :« أكلت شيئاً »؟ قالوا : لا، قال :« ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار »، قال : فوضع رسول الله ﷺ حمزة فصلى عليه، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة، حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه، ثم رفع وترك حمزة، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة «.
وقال البخاري عن البراء قال :»
لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي ﷺ حبشاً من الرماة وأمر عليهم ( عبد الله ابن جبير )، وقال :« لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ». فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن. وقد بدل خلاخلهن فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله بن جبير : عهد إليَّ النبي ﷺ أن لا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً، فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد، فقال :« لا تجيبوه »، فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال :« لا تجيبوه »، فقال أفي القوم ابن الخطاب، فقال : إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله، أبقى الله لك ما يحزنك؛ قال أبو سفيان : اعل هبل فقال النبي ﷺ :« أجيبوه »، قالوا : ما نقول؟ قال :« قولوا : الله أعلى وأجل »، قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي ﷺ :« أجيبوه »، قالوا : ما نقول؟ قال :« قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم »، قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سجال؛ وستجدون مُثْلة لم آمر بها ولم تسؤني «
405
وعن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هنا وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل، ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم، قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته ( عمرة بنت علقمى الحارثية ) فدفعته لقريش فلاثوا بها وقال السدي عن عبد الله بن مسعود قال : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحُد ﴿ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ﴾ قال ابن إسحاق : انتهى أنَس بن النضر عم أنَس بن مالك إلى ( عمر بن الخطاب ) و ( طلحة بن عبد الله ) في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم، فقال : ما يخليكم؟ فقالوا : قتل رسول الله ﷺ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه - وقال البخاري عن أنَس بن مالك أن عمه يعني ( أنَس بن النضر ) غاب عن بدر فقال : غبت عن أول قتال النبي ﷺ لئن أشهدني الله مع رسول الله ﷺ ليَرينَّ الله ما أجد، فلقي يوم أحد فهزم الناس، فقال اللهم إن أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون؛ فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد إني أجد ريحح الجنة دون أحد، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ ﴾ أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبال هاربين من أعدائكم، ﴿ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ ﴾ أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب، ﴿ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ ﴾ أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة، قال السدي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها، فجعل الرسول ﷺ يدعو الناس :
406
« إليّ عباد الله، إليّ عباد الله » فذكر الله صعودهم إلى الجبل، ثم ذكر دعاء النبي ﷺ إياهم فقال :﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ ﴾.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :« جعل رسول الله ﷺ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - ( عبد الله بن جبير ) قال : ووضعهم موضعاً، وقال :» إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم «، قال، فهزموهم، قال : فلقد والله رأيت النساء يشتددن على جبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة أي قوم الغنيمة! ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ ؟ فقالوا : إنا لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله ﷺ إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين. وكان رسول الله ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً. قال أبو سفيان : أفي القوم محمد أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً - قال فنهاهم رسول الله ﷺ أن يجيبوه، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه، فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم، فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، فقال : يوم بيوم بدر، والحرب سجال. إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول : اعل هبل، فقال رسول الله ﷺ :» ألا تجيبوه «؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال :» قولوا الله أعلى وأجل «، قال : لنا العزى ولا عزى لكم، قال رسول الله ﷺ :» ألا تجيبوه؟ « قالوا : يا رسول الله وما نقول؟ قال :» قولوا مولانا ولا مولى لكم « ».
وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي ﷺ يعني يوم أحد، وفي الصحيحين، عن أبي عثمان النهدي قال : لم يبق مع رسول الله ﷺ في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله ﷺ إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما.
407
وعن سعيد بن المسيب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : نثل لي رسول الله ﷺ كنانته يوم أحد، وقال :« ارم فداك أبي وأمي »، وعن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله ﷺ قال سعد : فلقد رأيت رسول الله ﷺ يناولني النبل، ويقول :« ارم فداك أبي وأمي » حتى أنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال :« رأيت يوم أحد عن يمين النبي ﷺ وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، وعن أنَس بن مالك : أن رسول الله ﷺ أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش، فلما أرهقوه قال :» من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة - «، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم أرهقوه أيضاً فقال :» من يردهم عنا وله الجنة « فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله ﷺ لصاحبيه :» ما أنصفنا أصحابنا « وقال أبو الأسود عن عروة ابن الزبير قال :» كان ( أُبيّ بن خلف ) أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله ﷺ، فلما بلغت رسول الله ﷺ حلفته قال :« بل أنا أقتله إن شاء الله »، فلما كان يوم أُحُد أقبل ( أُبيّ ) في الحديد مقنعاً وهو يقول : لا نجوتُ إن نجا محمد، فحمل على رسول الله ﷺ يريد قتله، فاستقبله ( مصعب بن عمير ) أخو بني عبد الدار يقي رسول الله ﷺ بنفسه فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله ﷺ ترقوة أبي بن خلف من فرجه بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور، فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله ﷺ :« بل أنا أقتل أُبيًّا »، ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون «
408
، فمات إلى النار ﴿ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير ﴾ [ الملك : ١١ ].
وذكر محمد بن إسحاق قال :« لما أسند رسول الله ﷺ في الشعب أدركه ( أُبيّ بن خلف ) وهو يقول : لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القوم : يا رسول الله يعطف عليه رجل منا، فقال رسول الله ﷺ :» دعوه «، فلما دنا منه تناول رسول الله ﷺ الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم كما ذكر لي : فلما أخذها رسول الله ﷺ منه انتفض بها انتقاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انفضَّ، ثم استقبله رسول الله ﷺ فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً ».
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله ﷺ - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله ﷺ في سبيل الله » وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت :« كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدث، قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله ﷺ دونه - وأراه قال حميَّة - فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني، فقلت : يكون رجلاً من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله ﷺ منه، وهو يخطف المشي خطفاً لا أعرفه فإذا هو ( أبو عبيدة بن الجراح ) فانتهيت إلى رسول الله ﷺ وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر، فقال رسول الله ﷺ :» عليكما صاحبكما يريد طلحة « وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال : وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال ( أبو عبيدة ) : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله ﷺ، فأزمَّ عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثنيته مع الحلقة، وذهبت لأصنع ما صنع فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال، ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً، فأصلحنا من شأن رسول الله ﷺ ثم أتينا ( طلحة ) في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه »
409
وقال ابن وهب : إن ( مالكاً ) أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي ﷺ يوم أحد مصَّ الجرج حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له : مجه، فقال : لا والله لا أمجه أبداً، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي ﷺ :« من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد » وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله ﷺ فقال : جرح وجه رسول الله ﷺ وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ﷺ، فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم.
وقوله تعالى :﴿ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ ﴾ أي فجزاكم غماً على غم، كما تقول العرب : نزلت ببني فلان، نزلت على بني فلان، وقال ابن جرير : وكذا قوله :﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل ﴾ [ طه : ٧١ ] أي على جذوع النخل. قال ابن عباس : الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد ﷺ، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي ﷺ :« اللهم ليس لهم أن يعلونا »، وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة، والثاني حين قيل : قتل محمد ﷺ كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة. وقال السدي : الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني بإشراف العدو عليهم. وقال محمد بن إسحاق :﴿ فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ ﴾ أي كرباً بعد كرب من قتل من قتل من إخوانكم، وعلو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قتل نبيكم، فكان ذلك متتابعاً عليكم غماً بغم. وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول سماعهم قتل محمد، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح. وقوله تعالى :﴿ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ ﴾ أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم ﴿ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ ﴾ من الجراح والقتل قاله ابن عباس والسدي ﴿ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو جل وعلا.
410
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان. كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر :﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ ﴾ [ الأنفال : ١١ ] الآية، وقال ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال :( النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان ). وقال البخاري، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. وعن أنس بن مالك أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال : والطائفة الآخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق، ﴿ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية ﴾ أي إنما هم أهل شك وريب في الله عزّ وجلّ، فإن الله عزّ وجلّ يقول :﴿ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ ﴾ يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله عزّ وجلّ سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال :﴿ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ﴾ يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف ﴿ يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية ﴾ كما قال في الآية الأخرى :﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ﴾ [ الفتح : ١٢ ] وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وان الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم ﴿ يَقُولُونَ ﴾ في تلك الحال ﴿ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ ﴾ فقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ﴾ ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله :﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾، أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله ﷺ. قال ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال : فوالله إني لأسمع قول ( متعب بن قشير ) ما أسمعه إلا كالحلم يقول :﴿ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله :﴿ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ﴾ لقول معتب. قال الله تعالى :﴿ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ ﴾ أي هذا قدر قدره الله عزّ وجلّ وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه.
411
وقوله تعالى :﴿ وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال، ﴿ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾ أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر. ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ﴾ أي ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها. ثم قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ ﴾ أي عما كان منهم من الفرار، ﴿ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم.
412
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة المؤمنين مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم، فقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ ﴾ أي عن إخوانهم، ﴿ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض ﴾ أي سافروا للتجارة ونحوها، ﴿ أَوْ كَانُواْ غُزًّى ﴾ أي كانوا في الغزو، ﴿ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا ﴾ أي في البلد، ﴿ مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ﴾ أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو. وقوله تعالى :﴿ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم، ثم قال تعالى رداً عليهم :﴿ والله يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقَدَره، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره، ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء، وقوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضاً وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني، ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عزّ وجلّ فيجزيه بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر فقال تعالى :﴿ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ ﴾.
يقول تعالى مخاطباً رسوله ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ أي بأي شيء جعلك الله لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم، وقال قتادة :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ يقول : فبرحمة من الله لنت لهم و ( ما ) صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥، المائدة : ١٣ ]، وبالنكرة كقوله :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ ﴾ [ المؤمنون : ٤٠ ] وهكذا هاهنا. قال :﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ ﴾ أي برحمة من الله، وقال الحسن البصري : هذا خلق محمد ﷺ بعثه الله به، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾، والفظ : الغليظ والمراد به هاهنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك :﴿ غَلِيظَ القلب ﴾ أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو : إني أرى صفة رسول الله ﷺ في الكتب المتقدمة « أنه ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح ». ولهذا قال تعالى :﴿ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾. ولذلك كان رسول الله ﷺ يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تطييباً لقلوبهم، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون. وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم، وشاروهم في أُحُد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدوّ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم، وشاروهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان، سعد ابن معذ وسعد بن عبادة، فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصديق : إنا لمن نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، فكان ﷺ يشاورهم في الحروب ونحوها.
وروينا عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ قال : نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حواري رسول الله ﷺ ووزيريه وأبوي المسلمين، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر وعمر :
414
« لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما »، وروى ابن مردويه، عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله ﷺ عن العزم؟ فقال :« مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم »، وقد قال ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« المستشار مؤتمن ».
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾، أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه ﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ وهذه الآية كما تقدم من قوله :﴿ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : ١٢٦ ]، ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال :﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾، قال ابن عباس ومجاهد : ما ينبغي لنبي أن يخون، وقال ابن أبي حاتم، عن ابن عباس : فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا : لعل رسول الله ﷺ أخذها فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾ أي يخون. وقال ابن جرير، عن ابن عباس، أن هذه الآية :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾ نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها، فأكثروا في ذلك، فأنزل الله :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ﴾، وعنه قال : إتهم المنافقون رسول الله ﷺ بشيء فُقد، فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ﴾، وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. ﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقد وردت السنّة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة. قال الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي، عن النبي ﷺ قال :« أعظم الغلول عند الله ذراع في الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض - أو في الدار - فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة ».
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت المستورد بن شداد يقول، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليست له زوجة فليتزوج، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليس له دابة فليتخذ دابة، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال ».
415
( حديث آخر ) : قال ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ :« لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء يقول : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ».
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد :« استعمل رسول الله ﷺ رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام رسول الله ﷺ على المنبر، فقال :» ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر «، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال :» اللهم هل بلغت «؟ ثلاثاً ».
( حديث آخر ) : قال أبو عيسى الترمذي، عن معاذ بن جبل قال :« بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت، فقال :» أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول :﴿ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ﴾ لهذا دعوتك فامض لعملك « ».
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال :« قام فينا رسول الله ﷺ يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال :» لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك « أخرجه الشيخان.
وقوله تعالى :﴿ أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير ﴾ أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه، ومن استحق غضب الله وألزمه به فلا محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى :
416
﴿ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى ﴾ [ الرعد : ١٩ ]، كقوله :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ﴾ [ القصص : ٦١ ] الآية. ثم قال تعالى :﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله ﴾ قال الحسن البصري : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات، وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل، يعني متفاوتون في منازلهم، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كقوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٢، الأحقاف : ١٩ ] الآية ولهذا قال تعالى :﴿ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾، أي وسيوفيهم إياها، لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شراً، بل يجازي كل عامل بعمله. وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، كما قال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ ﴾ [ الكهف : ١١٠، فصلت : ٦ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، وقال تعالى :﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] ؟ فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه، ولهذا قال تعالى :﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾ يعني القرآن ﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم، وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم، ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة ﴾ يعني القرآن والسنّة، ﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا الرسول، ﴿ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بيِّن لكل واحد.
417
يقول تعالى :﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ ﴾ وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، ﴿ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا ﴾ يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً ﴿ قُلْتُمْ أنى هذا ﴾ أي من أين جرى علينا هذا؟ ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾. عن عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله ﷺ عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله ﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ بأخذكم الفداء، وهكذا قال الحسن البصري وقوله :﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ أي بسبب عصيانكم لرسول الله ﷺ حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، ﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه. ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله ﴾ أي فراركم بين يدي عدوكم، وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك، ﴿ وَلِيَعْلَمَ المؤمنين ﴾ أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ يعني بذلك أصحاب ( عبد الله بن أبي ابن سلول ) الذين رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان والقتال والمساعدة، ولهذا قال :﴿ أَوِ ادفعوا ﴾، قال ابن عباس وعكرمة : يعني كثروا سواد المسلمين، وقال الحسن : ادفعوا بالدعاء، وقال غيره : رابطوا، فتعللوا قائلين :﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾، قال مجاهد : يعنون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالاً. وقد روي أن رسول الله ﷺ خرج إلى أُحد في الف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كان بالشوط بين أُحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس فقال : أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتل انفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكِّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم، ومضى رسول الله ﷺ، قال الله عزّ وجلّ :﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾، استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب إلى الإيمان لقوله :﴿ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ﴾.
418
قال تعالى :﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا :﴿ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ فإنهم يتحققون أن جنداً من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما اصيب من أشرافهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين وأنه كائن بينهم قتال لا محالة، ولهذا قال تعالى :﴿ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ﴾ أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، قال الله تعالى :﴿ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين، قال مجاهد : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه.
419
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم، وإن قتلوا في هذه الدار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار، روى ابن جرير بسنده عن أنَس بن مالك في قصة أصحاب رسول الله ﷺ الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل ( بئر بعونة ) قال : لا أدري أربعين أو سبعين، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله ﷺ حتى أتو غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله ﷺ أهل هذا الماء؟ فقال - اراه أبو ملحان الأنصاري - أنا أبلغ رسالة رسول الله ﷺ، فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتو أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين ( عامر بن الطفيل ).
وقال ابن إسحاق : حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآناً، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً، وأنزل الله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾، وقد قال مسلم في صحيحه، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ فقال : أما إنا قد سالنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال :« أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ».
( حديث آخر ) : عن أنَس، أن رسول الله ﷺ قال :« ما من نفس تموت لها عند الله خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة ».
( حديث آخر ) : عن جابر قال، قال لي رسول الله ﷺ :
420
« أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له : تمنَّ، فقال له : أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال : إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون » وقال البخاري، عن ابن المنكدر، سمعت جابراً قال : لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ ينهوني والنبي ﷺ لم ينه، فقال النبي ﷺ :« لا تبكيه - أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ».
( حديث آخر ) : عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :« لما أصيب إخوانكم يوم أُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عزّ وجلّ : أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ وما بعدها ».
( حديث آخر ) : عن طلحة بن خراش الأنصاري قال :« سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله ﷺ ذات يوم فقال :» يا جابر مالي أراك مهتماً؟ « قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك ديناً عليه، قال، فقال :» ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً « قال علي : والكفاح المواجهة. » قال سلني أعطك قال : أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عزّ وجلّ إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون، قال : أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً ﴾ الآية « ».
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة ( أصحاب المذاهب المتبعة ) فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، عن مالك بن أنَس الأصبحي رحمه الله، عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » قوله :« يعلق » أي يأكل.
421
وفي الحديث :« إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة » وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
وقوله تعالى :﴿ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله ﴾ إلىآخر الآية : أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة. وقال محمد بن إسحاق :﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم. قال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله ﷺ بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم - أي ربهم - أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشرا بذلك، فذلك قوله :﴿ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ ﴾ الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنَس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله ﷺ يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم. قال أنَس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع :« أن بلِّغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ».
ثم قال تعالى :﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين ﴾، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقلما ذكر الله فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.
وقوله تعالى :﴿ الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح ﴾ هذا كان يوم ( حمراء الأسد ) وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه لما سنذكره، فانتدب المسلمون على ما بهم ما الجراح والإثخان طاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله ﷺ، وعن عكرمة أنه : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا فسمع رسول الله ﷺ بذلك، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا ( حمراء الأسد ) فقال المشركون : نرجع من قابل، فرجع رسول الله ﷺ، فكانت تعد غزوة فأنزل الله تعالى :﴿ الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
422
قال محمد بن إسحاق : عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ كان قد شهد أُحداً، قال : شهدنا أُحداً، مع رسول الله ﷺ أنا وأخي ورجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو قلت لأخي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله ﷺ ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله ﷺ، وكنت أيسر جراحاً منه؛ فكان إذا غلب حملته عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها :﴿ الذين استجابوا للَّهِ والرسول ﴾ الآية، قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبوك منهم ( الزبير ) و ( أبو بكر ) رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله ﷺ ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال :« من يرجع في أثرهم »، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير. وروي عن عروة قال قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وكانت وقعة أُحُد في شوّال، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي ﷺ واشتد عليهم الذي أصابهم، وإن رسول الله ﷺ ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين، وقال :« إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتىعام مقبل »، فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال :﴿ إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾ وقال الحسن البصري في قوله :﴿ الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح ﴾ إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله ﷺ :« » إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب، فمن ينتدب في طلبه «، فقام النبي ﷺ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله ﷺ فتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي ﷺ يطلبه فلقي عيراً من التجار فقال : ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم، فجاء التجار فأخبروا رسول الله ﷺ بذلك، فقال النبي ﷺ :» حسبنا الله ونعم الوكيل « فأنزل الله هذه الآية ».
423
وقوله تعالى :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ﴾ الآية، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك، بل توكلوا على الله واستعانوا به، ﴿ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾، وقال البخاري، عن ابن عباس :﴿ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قال لهم الناس ﴿ إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾ وفي رواية له : كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار :﴿ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل ﴾. وعن أبي رافع أن النبي ﷺ وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية.
وفي الحديث :« إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل » وقد قال الإمام أحمد، عن عوف ابن مالك أنه حدثهم، « أن النبي ﷺ قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي ﷺ :» ردوا عليّ الرجل « فقال :» ما قلت «؟، قال :» قلت حسبي الله ونعم الوكيل « فقال النبي ﷺ :» إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل « ».
قال تعالى :﴿ فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء ﴾ أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم :﴿ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء ﴾ مما أضمر لهم عدوهم، ﴿ واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾. عن ابن عباس في قول الله :﴿ فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ ﴾، قال ( النعمة ) أنهم سلموا، و ( الفضل ) أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله ﷺ فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه. وقال مجاهد في قوله الله تعالى :﴿ الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم ﴾ قال هذا أبو سفيان قال لمحمد ﷺ موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فقال محمد ﷺ :« عسى »، فانطلق رسول الله ﷺ لموعده حتى نزل بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا، فذلك قول الله عزّ وجلّ :﴿ فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء ﴾ الآية، قال : وهي غزوة بدر الصغرى.
424
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله تعالى :﴿ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى :﴿ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ]، وقال تعالى :﴿ فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً ﴾ [ النساء : ٧٦ ]، وقال تعالى :﴿ أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [ المجادلة : ١٩ ]، وقال :﴿ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]، وقال :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ ﴾ [ الحج : ٤٠ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ ﴾ [ محمد : ٧ ] الآية، وقال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد ﴾ [ غافر : ٥١ ] والآيات في ذلك كثيرة.
425
يقول تعالى لنبيّه :﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر ﴾ وذلك من شدة حرصه على الناس، كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى : ولا يحزنك ذلك ﴿ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة ﴾ أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾. ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إخباراً مقرراً :﴿ إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان ﴾ أي استبدلوا هذا بهذا، ﴿ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً ﴾ أي ولكن يضرون أنفسهم ﴿ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾، كقوله :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥٥-٥٦ ] وكقوله :﴿ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ القلم : ٤٤ ] وكقوله :﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ٨٥ ].
ثم قال تعالى :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ﴾ أي لا بد أن يعقد شيئاً من المحنة، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوّه، يعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر، يعني بذلك ( يوم أحد ) الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله ﷺ، وهتك به ستار المنافقين، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله ﷺ، ولهذا قال تعالى :﴿ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ﴾، قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد، وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة، وقال السدي : قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر به فأنزل الله تعالى :﴿ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب ﴾ أي حتى يخرج المؤمن من الكافر روى ذلك ابن جرير. ثم قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب ﴾ أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك، ثم قال تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ ﴾. كقوله تعالى :﴿ عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ﴾ [ الجن : ٢٦-٢٧ ] الآية. ثم قال تعالى :﴿ فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ﴾ أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم ﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ﴾ أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه، وربما كان في دنياه، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة ﴾، قال رسول الله ﷺ :
426
« من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثّل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول أنا مالك، أنا كنزك »، ثم تلا هذه الآية :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ﴾ إلى آخر الآية.
( حديث آخر ) : عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال :« إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول. أنا مالك أنا كنزك ».
( حديث آخر ) : عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال :« ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فيقول : أنا كنزك »، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله :﴿ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة ﴾.
وقال العوفي، عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها، رواه ابن جرير، والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه، وقد يقال : إن هذا أولى بالدخول والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض ﴾ أي ﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [ الحديد : ٧ ]، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عزّ وجلّ. فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي بنياتكم وضمائركم.
427
قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ]، قالت اليهود : يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله :﴿ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ الآية؟ وقال محمد بن إسحاق، عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصدّيق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له ( فنحاص ) وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له أشيع، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب ( فنحاص ) إلى رسول الله ﷺ فقال : يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله ﷺ :« ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر »؟ فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك، فأنزل الله :﴿ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾ الآية. وقوله ﴿ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ ﴾ تهديد ووعيد، ولهذا قرنه تعالى بقوله :﴿ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ أي هذا قولهم في الله، وهذه معاملتهم رسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء، ولهذا قال تعالى :﴿ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً.
وقوله تعالى :﴿ الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار ﴾، يقول تعالى تكذيباً لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، قال الله عزّ وجلّ :﴿ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات ﴾ أي بالحجج والبراهين، ﴿ وبالذي قُلْتُمْ ﴾ أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة، ﴿ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾ ؟ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل، ثم قال تعالى مسلياً لنبيّه محمد ﷺ :﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ﴾ أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل، الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات، وهي الحجج والبراهين القاطعة ﴿ والزبر ﴾ وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين ﴿ والكتاب المنير ﴾ أي والواضح الجلي.
يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام ﴾ [ الرحمن : ٢٦-٢٧ ]، فهو تعالى وحده الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخراً كما كان أولاً، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة ﴾ وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما توفي النبي وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة ﴾ أي في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله ثقوا وإياه فارجو، فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام، وقوله :﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ﴾ أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم :﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ﴾ ».
وقوله تعالى :﴿ وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى :﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ الأعلى : ١٦-١٧ ] وقال :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى ﴾ [ القصص : ٦٠ ]، وفي الحديث :« والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه » وقال قتادة : هي متاع متروكة أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى :﴿ لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات ﴾ [ البقرة : ١٥٥ ] إلى آخر الآيتين، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً ﴾، يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر، مسلياً لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمراً لهم بالصفح والعفو حتى يفرج الله، فقال تعالى :﴿ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور ﴾، قال ابن أبي حاتم، عن أسامة بن زيد : كان النبي ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال تعالى :﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً ﴾، قال : وكان رسول الله ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم.
429
وعن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول الله ﷺ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود ( سعد بن عبادة ) ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتى مر على مجلس فيه ( عبد الله بن أبي بن سلول ) وذلك قبل أن يسلم ابن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، وأهل الكتاب واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أُبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله ﷺ ثم وقف، فنزل ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أُبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي ﷺ يخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي ﷺ دابته فسار حتى دخل على ( سعد بن عبادة ) فقال له النبي ﷺ :« يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب » ؟ يريد عبد الله بن أُبي، قال كذا وكذا، فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ.
وكان رسول الله ﷺ، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى :﴿ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً ﴾ الآية، وقال تعالى :
430
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] الآية. وكان النبي ﷺ يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله له فيهم، فلما غزا رسول الله ﷺ بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول ﷺ على الإسلام، فبايعوا وأسلموا، فكل من قام بحق أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله.
431
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد ﷺ وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعرضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي ﷺ أنه قال :« من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » وقوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ الآية، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ :« من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلى قلة » وفي الصحيحين أيضاً :« المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ».
وقد روي أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين!! فقال ابن عباس : ما لكم وهذه، وإنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ الآية، وقال ابن عباس : سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه. وفي رواية عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله ﷺ كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ، فإذا قدم رسول الله ﷺ من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ﴾ الآية.
وقد روى ابن مردويه عن محمد بن ثابت الأنصاري أن ( ثابت بن قيس الأنصاري ) قال : يا رسول الله والله لقد خشيت أن أكون هلكت، قال : لمَ؟ قال : نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال رسول الله ﷺ :
432
« أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة » فقال : بلى، يا رسول الله فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب. وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب ﴾ أي لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لا بد لهم منه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي هو مالك كل شيء والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، القدير الذي لا أقدر منه.
433
معنى الآية إن الله تعالى يقول :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ﴾ أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انفخاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والراوئح والخواص، ﴿ واختلاف اليل والنهار ﴾ أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا قال تعالى :﴿ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب ﴾ أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال الله فيهم :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ]. ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال :﴿ الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ ﴾. كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين : أن رسول الله ﷺ قال :« صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك » أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم، ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ﴾ أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وحكمته واختياره ورحمته. وقال الداراني : أين لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة، وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال : الحسن الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
وعن عيسى عليه السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكراً، وصمته تفكراً، ونظره عبراً. وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه. وقال ابن المبارك : مرّ رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال، وكنز الأموال. وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾ [ القصص : ٨٨ ]. وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه، وعن عيسى عليه السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضعيفاً، واتخذ المساجد بيتاً، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد.
434
وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها. ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر.
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٥-١٠٦ ]، ومدح عباده المؤمنين :﴿ الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ﴾، قائلين :﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ﴾ أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل، فقالوا :﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً، ﴿ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل؛ يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم، ثم قالوا :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ﴾ أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع، ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ أي يوم القيامة لا مجير لهم منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ ﴾ أي داعياً يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول ﷺ، ﴿ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ﴾ أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا واتباعنا نبيك، ﴿ رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا ﴾ أي استرها، ﴿ وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا ﴾ فيما بيننا وبينك، ﴿ وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار ﴾ أي ألحقنا بالصالحين، ﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ ﴾ قيل : معناه على الإيمان برسلك، وقيل : معناه على ألسنة رسلك، وهذا أظهر. ﴿ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة ﴾ أي على رؤوس الخلائق، ﴿ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد ﴾ أي لا بد من الميعاد الذين أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك.
وقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله ﷺ مع أهلة ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب ﴾ الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
435
وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء، وتلا هذه الآية :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب ﴾ إلى آخر السورة، ثم قال :« اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعظم لي نوراً يوم القيامة ».
وعن عطاء قال :« انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا، قال : قول الشاعر ( زر غباً تزدد حباً )، فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله ﷺ !؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال » ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ «، قالت، فقلت : والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت، فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال :» ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب ﴾ «، ثم قال :» ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها « ».
436
يقول الله تعالى :﴿ فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر :
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب... عن أم سلمة قالت : يا رسول الله، لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى :﴿ فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى ﴾ إلى آخر الآية، وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم، عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ]. وقوله تعالى :﴿ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى ﴾ هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله :﴿ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ﴾ أي جميعكم في ثوابي سواء، ﴿ فالذين هَاجَرُواْ ﴾ أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، ﴿ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال :﴿ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي ﴾ أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ ﴾ [ الممتحنة : ١ ]، وقال تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد ﴾ [ البروج : ٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ ﴾ وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال :« يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال :» نعم «، ثم قال :» كيف قلت «؟ فأعاد عليه ما قال، فقال :» نعم، إلا الدين قاله لي جبريل آنفاً «، ولهذا قال تعالى :﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله :﴿ ثَوَاباً مِّن عِندِ الله ﴾ أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً كما قال الشاعر :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
إن يعذب يكن غراماً وإن يع طِ جزيلاً فإنه لا يبالي
وقوله تعالى :﴿ والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب ﴾ أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً.
يقول تعالى : لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً، وجميع ما هم فيه ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد ﴾ [ غافر : ٤ ]، وقال تعالى :﴿ مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾ [ يونس : ٧٠ ]، وقال تعالى :﴿ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ لقمان : ٢٤ ]، وقال تعالى :﴿ فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾ [ الطارق : ١٧ ] أي قليلاً، وقال تعالى :﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين ﴾ [ القصص : ٦١ ] ؟ وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار قال بعده :﴿ لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾. عن عبد الله بن عمرو قال : إنما سمّاهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقاً، كذلك لولدك عليك حق. وعن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول :﴿ وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ﴾، ويقول :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ آل عمران : ١٧٨ ].
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد ﷺ، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء ثم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هوداً أو نصارى، وقد قال تعالى :﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ القصص : ٥٢ ] الآية. وقد قال تعالى :﴿ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [ البقرة : ١٢١ ] الآية. وقد قال تعالى :﴿ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٥٩ ]، وقال تعالى :﴿ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٧-١٠٨ ]. وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاً، كما وجد في ( عبد الله بن سلام ) وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى، فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ﴾ [ المائدة : ٨٢ ]، إلى قوله تعالى :﴿ فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ [ المائدة : ٨٥ ] الآية. وهكذا قال هاهنا :﴿ أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ الآية.
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة ﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ] بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعند البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي ﷺ إلى أصحابه، وقال :« إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلّوا عليه » فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه، وروى ابن أبي حاتم، عن أنَس بن مالك قال : لما توفي النجاشي، قال رسول الله ﷺ :« استغفرا لأخيكم »، فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة، فنزلت :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ ﴾ الآية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ يعني مسلمة أهل الكتاب، وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله ﴾ الآية، قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ﷺ فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين، للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد ﷺ، واتباعهم محمداً ﷺ.
439
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال، قال رسول الله ﷺ :« ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين » فذكر منهم رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، وقوله تعالى :﴿ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ أي لا يكتمون ما بأيديدهم من العلم كما فعلته الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجانا ولهذا قال تعالى :﴿ أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ قال مجاهد : سريع الحساب يعني سريع الإحصاء.
وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾ قال الحسن البصري : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف، وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس ويشهد له حديث :« ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات!! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط » وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية؟ ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾ قلت : لا، قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي ﷺ غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت :﴿ اصبروا ﴾ أي على الصلوات الخمس، ﴿ وَصَابِرُواْ ﴾ أنفسكم وهواكم، ﴿ وَرَابِطُواْ ﴾ في مساجدكم، ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما عليكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ :« » ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ « قلنا : بلى، يا رسول الله، قال :» إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط « وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا ( مرابطة الغزو ) في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه، فروى » البخاري في صحيحه « عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ﷺ قال :» رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها «.
( حديث آخر ) : روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله ﷺ أنه قال :»
رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان «.
440
( حديث آخر ) : قال ﷺ :« كل ميت يختم له على عمله إلا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان ».
( حديث آخر ) : عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« من مات مرابطاً في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع الأكبر ».
( طريق أُخرى ) : قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« من مات مرابطاً وقي فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر، وغدا عليه ريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة ».
( طريق أُخرى ) : قال الترمذي، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان، قال : سمعت عثمان وهو على المنبر يقول إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله ﷺ كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ».
( حديث آخر ) : قال الترمذي : مرّ سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابطة له وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله ﷺ ؟ قال : بلى، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة ».
( حديث آخر ) : قال أبو داود :« عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول الله ﷺ يوم حنين حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله ﷺ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم، فتبسم النبي ﷺ وقال :» تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله «، ثم قال :» من يحرسنا الليلة «؟ قال أنَس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله، قال :» فاركب «، فركب فرساً، فجاء إلى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ :» استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تغز من قبلك الليلة «، فلما أصبحنا خرج رسول الله ﷺ إلى مصلاه فركع ركعيتين، فقال :» هل أحسستم فارسكم «؟، فقال رجل : يا رسول الله ما أحسسناه، فثوّب بالصلاة، فجعل النبي ﷺ وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال :» أبشروا فقد جاءكم فارسكم «، فجعلنا ننظر في خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء، حتى وقف على النبي ﷺ فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول الله ﷺ :» هل نزلت الليلة «؟ قال : لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له :» أوجبتَ فلا عليك أن لا تعمل بعدها « ».
441
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد بسنده عن أبي ريحانة، قال :« كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه، فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة ( يعني الترس ) فلما رأى ذلك رسول الله ﷺ من الناس نادى :» من يحرسنا هذه الليلة فأدعوا له بدعاء يكون له فيه فضل؟ « فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله، قال :» ادن «، فدنا منه، فقال :» من أنت «؟ فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول الله ﷺ بالدعاء فأكثر منه. قال أبو ريحانه : فلما سمعت ما دعا به قلت : أنا رجل آخر، فقال :» ادن «، فدنوت، فقال :» من أنت «؟ قال، فقلت : أبو ريحانة، فدعا بدعاء دون ما دعا به للأنصاري، ثم قال :» حرمت النار على عين دمعت - أو بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله «، وروى النسائي منه :» حرمت النار « إلى آخره.
( حديث آخر ) : قال الترمذي، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :»
عينان لا تَمَسُّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله «.
( حديث آخر ) : روى البخاري في »
صحيحه « عن أبي هريرة، قال، قال رسول الله ﷺ :» تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة. وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع « فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، ولله الحمد على جزيل الأنعام، على تعاقب الأعوام والأيام.
442
تنبيه : قال ابن جرير : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر : أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ وروى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى ( الفضيل بن عياض ) في سنة سبعين ومائة :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل الله في أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث؟ قال، قلت : نعم، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليّ الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال :« يا رسول الله علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال :» هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ « فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي ﷺ :» فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات؟! « وقوله تعالى ﴿ واتقوا الله ﴾ أي في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن :» اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن «، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي في الدنيا والآخرة.
443
Icon