بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة فاطر وهي مكيةﰡ
(وَقَوله) :﴿جَاعل الْمَلَائِكَة رسلًا أولى أَجْنِحَة﴾ أَي: ذَوي أَجْنِحَة.
وَقَوله: ﴿مثنى وَثَلَاث وَربَاع﴾ أَي: مثنى مثنى، وَثَلَاث وَثَلَاث، وَربَاع وَربَاع أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَثَلَاثَة ثَلَاثَة، وَأَرْبَعَة أَرْبَعَة. شعر فِي الْمثنى:
(أحم الله ذَلِك من لِقَاء | أحاد أحاد فِي شهرحلال) |
وَقَوله: ﴿يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء﴾ أظهر الْأَقَاوِيل: أَن الله تَعَالَى يزِيد فِي خلق الْمَلَائِكَة وأجنحتهم مَا يَشَاء على مَا ذكرنَا. وَعَن قَتَادَة قَالَ: يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء: هُوَ الملاحة فِي الْعَيْش. وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هُوَ حسن الصَّوْت. وَحكى النقاش فِي تَفْسِيره: أَنه الشّعْر الْجَعْد. وَعَن بعض التفاسير: أَنه زِيَادَة الْعقل والتمييز. وَعَن بَعضهم: هُوَ الْعلم بالصناعات.
وَقَوله: ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾ أَي: قَادر.
وَقَوله: ﴿وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده﴾ أَي: مَا يمْنَع فَلَا مُرْسل لَهُ من بعد الله أَي: سوى الله وَقد ثَبت أَن النَّبِي كَانَ يَقُول عقيب صَلَاة الْفَرِيضَة: " لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد، وَهُوَ على كل شَيْء قدير، اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت، وَلَا معطي لما منعت، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد ".
وَثَبت هَذِه اللَّفْظَة عَنهُ أَنه قَالَهَا فِي الْقيام بَين الرُّكُوع وَالسُّجُود.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ أَي: الْغَالِب فِي ملكة (الْجَحِيم فِي تَدْبِير خلقه).
وَقَوله: ﴿هَل من خَالق غير الله﴾ اسْتِفْهَام على وَجه التَّقْرِير، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا خَالق غير الله.
وَقَوله: ﴿يرزقكم من السَّمَاء وَالْأَرْض﴾ أَي: من السَّمَاء الْمَطَر، وَمن الأَرْض النَّبَات.
وَقَوله: ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون﴾ أَي: تصرفون عَن الْحق.
وَقَوله: ﴿فَلَا [تغرنكم] الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ وَفِي الْأَثر: أَن الله تَعَالَى مَا أعطي أحدا شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اغْتِرَارًا، وَمَا زوى من أحد شَيْئا من الدُّنْيَا إِلَّا اختبارا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور﴾ أَي: لَا يَغُرنكُمْ الْغرُور، وَهُوَ الشَّيْطَان. قَالَ الْحسن: من الْغرُور أَن تعْمل الْمعْصِيَة، وتتنمى على الله الْمَغْفِرَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حزبه﴾ أَي: أَتْبَاعه.
وَقَوله: ﴿ليكونوا من أَصْحَاب السعير﴾ أَي: ليكونوا فِي السعير، والسعير هُوَ النَّار المتوقدة.
وَقَوله: ﴿فَرَآهُ حسنا﴾ (وَفِي الْآيَة حذف على طريقتين أَحدهمَا: أَن معنى الْآيَة أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا) كمن هداه الله ﴿فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء﴾ وَالطَّرِيق الثَّانِي، أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا ذهبت نَفسك عَلَيْهِ حسرة، فَلَا تذْهب نَفسك عَلَيْهِم حسرات، فَإِن الله يضل من يَشَاء، وَيهْدِي من يَشَاء، وَالْحَسْرَة هُوَ النَّدَم الشَّديد على مَا فَاتَ.
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم بِمَا يصنعون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فأحيينا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا [كَذَلِك] النشور﴾ أَي: كَذَلِك النشور
وَقَوله: ﴿فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا﴾ قَالَ الْفراء: معنى الْآيَة: من كَانَ يُرِيد أَن يعلم لمن الْعِزَّة، فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَة مَعْنَاهُ: من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فليتعزز بِطَاعَة الله. قَالَ أهل النَّحْو: هَذَا مثل مَا يَقُول الْإِنْسَان: من كَانَ يُرِيد المَال فَالْمَال لفُلَان أَي: ليطلب المَال عِنْد فلَان، كَذَلِك معنى قَوْله: ﴿من كَانَ يُرِيد الْعِزَّة فَللَّه الْعِزَّة جَمِيعًا﴾ أَي: فليطلب الْعِزَّة من عِنْده. وَقَالَ بعض أهل التَّفْسِير: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعْبدُونَ الْأَصْنَام، ويتقربون بذلك إِلَى الله تَعَالَى، وَيطْلبُونَ الْعِزّ من عِنْد الْأَصْنَام، قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة ليكونوا لَهُم عزا﴾ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَأمرهمْ أَن يطلبوا الْعِزّ من الله لَا من الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب﴾ فِي الْكَلم الطّيب أَقْوَال أَحدهَا: أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله. وَالْآخر: أَنه الْقُرْآن، ذكره شهر بن حَوْشَب، وَالثَّالِث: أَنه ذكر الله. وَعَن قَتَادَة
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أنس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى كل يَوْم: أَنا الْعَزِيز، فَمن أَرَادَ عز الدَّاريْنِ فليطع الْعَزِيز ".
وَقَوله: ﴿وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم أَنهم قَالُوا: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: الْعَمَل الصَّالح يرفع الْكَلم الطيبِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول قَتَادَة؛ قَالَ: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ أَي: يرفعهُ الله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ الْكَلم الطّيب. وَأولى الْأَقَاوِيل هُوَ الأول،
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين يمكرون السَّيِّئَات﴾ أَي: يعْملُونَ السَّيِّئَات، وَيُقَال: نزلت فِي مكر الْكفَّار برَسُول الله حَتَّى خرج من مَكَّة مُهَاجرا إِلَى الْمَدِينَة على مَا ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿لَهُم عَذَاب شَدِيد ومكر أُولَئِكَ هُوَ يبور﴾ أَي: يهْلك وَيبْطل.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من نُطْفَة﴾ ذكر السّديّ أَن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم طارت فِي كل عظم وَشعر و (عصب) فَإِذا مَضَت أَرْبَعُونَ يَوْمًا نزلت إِلَى الرَّحِم، وَخلق الله مِنْهَا الْعلقَة.
وَقَوله: ﴿ثمَّ جعلكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَي: أصنافا. وَفِي تَفْسِير ابْن فَارس: ﴿جعلكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أَي: زوج بَعْضكُم من بعض.
وَقَوله: ﴿وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ أَي: لَا يغيب عَنهُ شَيْء من ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَمَا يعمر من معمر﴾ يَعْنِي: مَا يطول عمر معمر حَتَّى يُدْرِكهُ الْهَرم. وَقَوله: ﴿وَلَا ينقص من عمره﴾ فَيرجع إِلَى الأول، وَالْجَوَاب: أَنه يجوز أَن يذكر على
وَقَوله: ﴿إِلَّا فِي كتاب﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوب فِي كتاب. وَفِي التَّفْسِير أَن الله تَعَالَى يكْتب أجل العَبْد فِي كتاب، ثمَّ يكْتب فِي كتاب (آخر) : قد انْتقصَ من عمره يَوْم، شهر، سنة، إِلَى أَن يسْتَوْفى أَجله. وَذكر بَعضهم أَنه يكْتب تَحت ذَلِك الْكتاب الأول.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك على الله يسير﴾ أَي: هَين.
وَقَوله: ﴿سَائِغ شرابه﴾ أَي: سهل الْمدْخل.
وَقَوله: ﴿وَهَذَا ملح أجاج﴾ أَي: ملح شَدِيد الملوحة. وَفِي الْآيَة بَيَان الْقُدْرَة فِي خلق المَاء العذب والأجاج.
وَقَوله: ﴿وَمن كل تَأْكُلُونَ لَحْمًا طريا﴾ أَي: الْحيتَان.
وَقَوله: ﴿وتستخرجون حلية تلبسونها﴾ الدّرّ والمرجان والجواهر. قَالَ عِكْرِمَة: مَا
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَن فِي الْبَحْر الأجاج تكون عيُونا عذبة، فتمتزج بالملح، وَتَكون من بَين ذَلِك الْجَوَاهِر.
وَقَوله: ﴿وَترى الْفلك فِيهِ مواخر﴾ قَالَ الْحسن: مواقير أَي: ممتلئة. وَعَن بَعضهم: مُعْتَرضَة تَجِيء وَتذهب. وَقيل: جواري. والمخر: هُوَ الشق، فَكَأَن الْفلك يشق المَاء بصدره، فَذكر مواخر على هَذَا الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولتبتغوا من فَضله﴾ أَي: لتطلبوا من فَضله، وفضله هُوَ التِّجَارَات فِي الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿ولعلكم تشكرون﴾ أَي: تشكرون نعم الله.
وَقَوله: ﴿ [ويولج النَّهَار فِي اللَّيْل] وسخر الشَّمْس وَالْقَمَر﴾ قَالَ قَتَادَة: طول الشَّمْس ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا. وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: جرم الشَّمْس كسعة الدُّنْيَا (وَزِيَادَة ثلث، وجرم الْقَمَر كسعة الدني) بِلَا زِيَادَة.
وَقَوله: ﴿كل يجْرِي لأجل مُسَمّى﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ذَلِكُم الله ربكُم لَهُ الْملك وَالَّذين تدعون من دونه﴾ أَي: من الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿مَا يملكُونَ من قمطير﴾ قَالَ مُجَاهِد: القطمير: لفافة النواة، وَهُوَ كسحل البصلة، وَعَن بَعضهم: القمطير وسط النواة، وَالْمعْنَى أَنه يملك شَيْئا قَلِيلا وَلَا كثيرا.
وَقَوله: ﴿وَلَو سمعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكم﴾ أَي: مَا أجابوكم.
وَقَوله: ﴿وَيَوْم الْقِيَامَة يكفرون بشرككم﴾ أَي: يجحدون بشرككم وموالاتكم إيَّاهُم.
وَقَوله: ﴿وَلَا ينبئك مثل خَبِير﴾ أَي: وَلَا ينبئك بِهَذَا أحد مثلي، والخبير هُوَ الله تَعَالَى، وَالْمعْنَى أَن الَّذِي أَنْبَأَك بِهَذَا خَبِير بالأمور، عَالم بهَا.
وَقَوله: ﴿وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد﴾ أَي: الْغَنِيّ عَن خلقه، الْمَحْمُود فِي إحسانه بخلقه.
وَقَوله: ﴿وَيَأْتِ بِخلق جَدِيد﴾ أَي: خلق لم يَكُونُوا أنشأهم وابتدأهم.
وَقَوله: ﴿وَإِن تدع مثقلة﴾ أَي: مثقلة بِالذنُوبِ ﴿إِلَى حملهَا﴾ أَي: إِن دَعَوْت أحدا أَن يحمل ذنُوبه عَنهُ.
وَقَوله: ﴿لَا يحمل مِنْهُ شَيْء وَلَو كَانَ ذَا قربى﴾ أَي: لَا يجد من يحمل عَنهُ، وَإِن كَانَ الْمَدْعُو قَرِيبا أَبَا أَو أَبنَاء. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الرجل (يلقِي) يَوْم الْقِيَامَة أَبَاهُ أَو ابْنه، فَيَقُول: احْمِلْ عني بعض ذُنُوبِي، فَيَقُول: لَا أَسْتَطِيع، حسبي مَا عَليّ. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي قَالَ لمن اسْلَمْ من بني مَخْزُوم: ارْجعُوا عَن الْإِسْلَام، وَأَنا أحمل ذنوبكم يَوْم الْقِيَامَة إِن خِفْتُمْ من الذُّنُوب؛ فَانْزِل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا تنذر الَّذين يَخْشونَ رَبهم بِالْغَيْبِ﴾ قد بَينا الخشية بِالْغَيْبِ.
وَقَوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَمن تزكّى فَإِنَّمَا يتزكى لنَفسِهِ﴾ معنى التزكي هَا هُنَا هُوَ الْعَمَل الصَّالح.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
(وهاجرة يشوي الْوُجُوه حرورها... )
وَقَوله: ﴿إِن الله يسمع من يَشَاء﴾ أَي: من يَشَاء إسماعه.
وَقَوله: ﴿وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور﴾ أَي: لَا تسمع الْكفَّار، وشبههم بالأموات فِي الْقُبُور.
وَقَوله: ﴿وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير﴾ أَي: مُنْذر. وَفِي بعض التفاسير: إِلَّا الْعَرَب لم يكن لَهُم نَبِي سوى النَّبِي. وَفِي بعض الحكايات: أَن بهْلُول الْمَجْنُون لَقِي أَبَا يُوسُف القَاضِي، فَقَالَ لَهُ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير﴾ وَقَالَ النَّبِي: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة من الْأُمَم لأمرت بقتلها "، فَمَا نَذِير الْكلاب؟ ! فتحير أَبُو يُوسُف؛ فَأخْرج حجرا من كمه وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.
وَقَوله: ﴿وَمن الْجبَال جدد﴾ أَي: طرائق (وخطط) ﴿بيض﴾، والجدد: جمع جدة، وَهُوَ الطَّرِيق.
وَقَوله: ( ﴿وحمر﴾ ) أَي: طرائق حمرَة.
قَوْله: ﴿مُخْتَلف ألوانها وغرابيب سود﴾ أَي: سود غرابيب على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، يُقَال: أسود غربيب أَي: شَدِيد السوَاد، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله يكره الشَّيْخ الغربيب " أَي الَّذِي يسود لحيته، والخضاب بالحمرة سنة، أما بِالسَّوَادِ مَكْرُوه. وَمعنى الْآيَة أى: طرائق سود.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾ وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: " رَأس الْعلم خشيَة الله ". وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار بِهِ جهلا. وَيُقَال: أول كلمة فِي الزبُور رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء أَي: من يعلم ملكي وعزي وسلطاني. وَعَن بَعضهم: إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء الَّذين يعلمُونَ أَن الله على كل شَيْء قدير، وَعَن بعض التَّابِعين قَالَ: من لم يخْش الله فَلَيْسَ بعالم. وَيُقَال: خف الله بِقدر قدرته عَلَيْك، واستح من الله بِقدر قربه مِنْك.
وَقَوله: ﴿إِن الله عَزِيز غَفُور﴾ أَي: عَزِيز فِي ملكه، غَفُور (لذنوب عباده).
وَقَوله: ﴿ويزيدهم من فَضله﴾ هُوَ تَضْعِيف الْحَسَنَات، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشَّفَاعَة لمن أحسن إِلَيْهِم، فعلى هَذَا يشفع الْفَقِير للغنى الَّذِي تصدق عَلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿إِنَّه غَفُور شكور﴾ يُقَال: يغْفر الْكثير من الذُّنُوب، ويشكر الْيَسِير من الطَّاعَات.
وَقَوله: ﴿إِن الله بعباده لخبير بَصِير﴾ أَي خَبِير بِمَا فِي ضمائرهم، بَصِير [بأفعالهم].
وَقَوله: ﴿وأورثنا الْكتاب﴾ المُرَاد من الْكتاب: هُوَ الْقُرْآن.
وَمعنى الْآيَة: أى انْتهى إِلَيْهِم الْأَمر بإنزالنا عَلَيْهِم الْقُرْآن، وبإرسالنا مُحَمَّدًا إِلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ﴾ اخْتلف القَوْل فِي المُرَاد بالظالم، فَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالظالم هُوَ الْكَافِر، ذكره الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَعَن بَعضهم: أَن المُرَاد مِنْهُ الْمُنَافِق، فعلى هَذَا لَا يدْخل الظَّالِم فِي قَوْله: ﴿جنَّات عدن يدْخلُونَهَا﴾ وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس أَنه حمل الظَّالِم على الْكَافِر.
وَالْقَوْل الْمَشْهُور أَن الظَّالِم لنَفسِهِ من الْمُؤمنِينَ، وعَلى هَذَا يَسْتَقِيم نسق الْآيَة، وعَلى القَوْل الأول يحمل قَوْله: ﴿الَّذين اصْطَفَيْنَا من عبادنَا﴾ على الاصطفاء فِي الْخلقَة وإرسال الرَّسُول وإنزال الْكتاب، وعَلى القَوْل الثَّانِي يحمل الأصطفاء على الزِّيَادَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة من بَين سَائِر الْأُمَم. وَقد روى شهر بن جوشب أَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَابِقنَا سَابق، وَمُقْتَصِدنَا نَاجٍ، وَظَالِمنَا مغْفُور. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: السَّابِق هم الَّذين مضوا على عهد النَّبِي، والمقتصد هم الَّذين اتَّبَعُوهُمْ، والظالم مثلي وَمثلك، تَقول ذَلِك للمخاطب.
وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: السَّابِق هُوَ الَّذِي لَا يُحَاسب أصلا يَوْم الْقِيَامَة، والمقتصد هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا يَسِيرا وَيدخل الْجنَّة، والظالم هُوَ الَّذِي يُحَاسب حسابا شَدِيدا وَيدخل النَّار ثمَّ ينجو.
وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب المشأمة، والمقتصد هم أَصْحَاب الميمنة، وَالسَّابِقُونَ هم المقربون، ذكره السّديّ، فعلى هَذَا الظَّالِم لنَفسِهِ كَافِر. وَعَن بَعضهم: أَن الظَّالِم لنَفسِهِ هم أَصْحَاب الْكَبَائِر، والمقتصد هم أَصْحَاب الصَّغَائِر، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي لم يرتكب صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة، وَعبر بَعضهم عَن هَذَا؛ قَالَ: المقتصد هم أَصْحَاب التَّوَسُّط فِي الطَّاعَات، فعلى هَذَا من غلبت سيئاته على حَسَنَاته فَهُوَ ظَالِم، وَمن اسْتَوَت سيئاته وحسناته فَهُوَ مقتصد، وَمن غلبت حَسَنَاته على سيئاته فَهُوَ سَابق، وَهَذَا قَول مَعْرُوف مأثور [عَن رَسُول الله].
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم آدم، والمقتصد إِبْرَاهِيم، وَالسَّابِق هُوَ مُحَمَّد. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ المريد، والمقتصد هُوَ الْمُحب، وَالسَّابِق هُوَ الواله. وَقَالَ بَعضهم: الظَّالِم هُوَ الَّذِي همه نَفسه وَالدُّنْيَا، والمقتصد هُوَ الَّذِي همه الْجنَّة، وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي همه ربه.
وَعَن بَعضهم قَالَ: الظَّالِم هُوَ الْوَاقِف، والمقتصد هُوَ السائر، وَالسَّابِق هُوَ الْوَاصِل. وَفِي الْآيَة كَلَام كثير.
وَقَوله: { [وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق] بالخيرات بِإِذن الله﴾ أَي: بالطاعات: بِعلم الله.
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير﴾ أَي: الْفضل الْعَظِيم.
وَقَوله: ﴿يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب﴾ ظَاهر الْمَعْنى. والأساور: جمع السوار.
وَقَوله: ﴿ولؤلؤ﴾ أَي: من ذهب ولؤلؤ، وَقُرِئَ: " ولؤلؤا " بِالنّصب أَي: يحلونَ لؤلؤا.
وَقَوله: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ أَي: الديباج. وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة "، وَقَالَ: " هُوَ لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَلنَا فِي الْآخِرَة ".
وَقَالَ مُجَاهِد: هم الْخبز. وَالْأولَى أَن يحمل على جَمِيع الأحزان، فهم ينجون عَن كلهَا، وَمن الْمَعْرُوف أَن الْحزن: هُوَ حزن أهوال الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿إِن رَبنَا لغَفُور شكور﴾ قد بَينا.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿لَا يمسنا فِيهَا نصب وَلَا يمسنا فِيهَا لغوب﴾ أَي: تَعب وإعياء.
وَقَوله: ﴿وَلَا يُخَفف عَنْهُم من عَذَابهَا﴾ أَي: من عَذَاب النَّار.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك نجزي كل كفور﴾ أَي: كفور للنعمة.
وَقَوله: ﴿رَبنَا أخرجنَا﴾ أَي: يصطرخون وَيَقُولُونَ: ﴿رَبنَا أخرجنَا نعمل صَالحا غير الَّذِي كُنَّا نعمل﴾ أَي: نعمل من الصَّالِحَات بدل مَا كُنَّا نعمل من السَّيِّئَات.
وَقَوله: ﴿أَو لم نُعَمِّركُمْ﴾ أَي: يَقُول الله تَعَالَى لَهُم: ﴿أَو لم نُعَمِّركُمْ مَا يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر﴾ مَعْنَاهُ: أَو لم نُعَمِّركُمْ الْعُمر الَّذِي يتَذَكَّر فِيهِ من تذكر. وَاخْتلف القَوْل فِي ذَلِك الْعُمر؛ فالأكثرون على أَنه سِتُّونَ سنة، (وَهَذَا) مَرْوِيّ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَقد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من عمره الله سِتِّينَ سنة فقد أعذر إِلَيْهِ فِي الْعُمر ". وَعَن بَعضهم: أَنه أَرْبَعُونَ سنة. وَعَن بَعضهم: ثَمَانِيَة عشر سنة. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: هُوَ الْبلُوغ. وَعَن بَعضهم: هُوَ سَبْعُونَ سنة؛ لِأَنَّهُ، عِنْد ذَلِك يدْخل فِي الْهَرم.
وَقَوله: ﴿وَجَاءَكُم النذير﴾ أَي: مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه الشيب، حكى ذَلِك عَن وهب بن مُنَبّه وَغَيره. وَفِي الْأَثر: مَا من شَعْرَة تبيض إِلَّا قَالَت لأختها: يَا أُخْتِي، استعدي فقد قرب الْمَوْت. وَقَالَ بَعضهم: الشيب (حطام) الْمنية. وَسَماهُ بَعضهم بريد الْمَوْت.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَوْله: ﴿وَجَاءَكُم النذير﴾ كل مَا ينذر ويخوف بهَا. وَفِي غَرِيب التَّفْسِير: أَنه الْحمى. وَقيل أَيْضا: هُوَ الْعقل.
وَقَوله: ﴿فَذُوقُوا فَمَا للظالمين من نصير﴾ أَي: نَاصِر.
وَقَوله: ﴿فَمن كفر فَعَلَيهِ كفره﴾ أَي: فَعَلَيهِ وبال كفره.
وَقَوله: ﴿وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم عِنْد رَبهم إِلَّا مقتا﴾ أَي: بغضا. وَقيل: مَا يُوجب لَهُم المقت.
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَلَا يزِيد الْكَافرين كفرهم إِلَّا خسارا﴾ أَي: خسرانا.
وَقَوله: ﴿اروني مَاذَا خلقُوا من الأَرْض﴾ أَي: أعلموني.
وَقَوله: ﴿أم لَهُم شرك فِي السَّمَوَات﴾ أَي: شركَة.
وَقَوله: ﴿أم آتَيْنَاهُم كتابا فهم على بَيِّنَة مِنْهُ﴾ أَي: على دَلَائِل وَاضِحَة مِنْهُ.
وَقَوله: ﴿بل إِن يعد الظَّالِمُونَ﴾ أَي: مَا يعد الظَّالِمُونَ بَعضهم بَعْضًا إِلَّا غرُورًا، والغرور كل مَا يغر الْإِنْسَان مِمَّا لَا أصل لَهُ.
وَقَوله: ﴿وَلَئِن زالتا إِن أمسكهما من أحد من بعده﴾ أَي: لَا يمسكهما أحد سواهُ، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿وَلَئِن زالتا﴾ وَهِي لَا تَزُول؟
وَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى قد قَالَ: ﴿تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا أَن دعوا للرحمن ولدا﴾ وَالله تَعَالَى يمسكهما عَن هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِي بعض الْآثَار: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: يَا رب، كَيفَ أعلم [أَنَّك] لَا تنام؟ فَوضع فِي يَدَيْهِ قَارُورَتَيْنِ على مَا ذكرنَا.
وَفِي بعض التفاسير: أَن الأَرْض ثَقيلَة متسلفة، وَالسَّمَاء خَفِيفَة مستطيرة، وَقد ألصق الله تَعَالَى أَطْرَاف السَّمَوَات بأطراف الْأَرْضين، فالسماء تمنع الأَرْض بتصعدها عَن التسفل، وَالْأَرْض تمنع السَّمَاء بثقلها عَن الصعُود، حَكَاهُ النقاش، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فَإِن قيل: مَا معنى ذكر الْحلم هَا هُنَا؟
قُلْنَا: لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء هَمت بِمَا هَمت عُقُوبَة للْكفَّار، فَأَمْسكهَا الله تَعَالَى، وَلم يَدعهَا أَن تَزُول تركا للمعالجة فِي الْعقُوبَة، وَكَانَ ذَلِك حلما مِنْهُ جلّ جَلَاله.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُم نَذِير﴾ أَي: مُحَمَّد ﴿مَا زادهم إِلَّا نفورا﴾ أَي: مَا زادهم الْمَجِيء إِلَّا نفورا.
وَقَوله: ﴿ومكر السَّيئ﴾ أَي: وَفعل الْمَكْر السَّيئ، وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " ومكرا سَيِّئًا ". وَفِي الْمَكْر السَّيئ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشّرك، وَالْآخر: أَنه الْمَكْر برَسُول الله.
وَقَوله: ﴿وَلَا يَحِيق الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله﴾ أَي: لَا تنزل عُقُوبَة الْمَكْر السَّيئ إِلَّا بأَهْله، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن وبال الْمَكْر رَاجع إِلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿فَهَل ينظرُونَ إِلَّا سنة الْأَوَّلين﴾ (أَي: طَريقَة الْأَوَّلين) فِي الإهلاك ونزول الْعَذَاب لَهُم.
وَقَوله: ﴿فَلَنْ تَجِد لسنة الله تبديلا وَلنْ تَجِد لسنة الله تحويلا﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَالْمرَاد من التّكْرَار هُوَ التَّأْكِيد.
وَقَوله: ﴿من شَيْء فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الأَرْض إِنَّه كَانَ عليما قَدِيرًا﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿مَا ترك على ظهرهَا من دَابَّة﴾ أَي: على ظهر الأَرْض بِمَا كسب النَّاس من الذُّنُوب. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِن الْجعل تعذب فِي حجرها بذنب ابْن آدم.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن يؤخرهم إِلَى أجل مُسَمّى﴾ أَي: إِلَى مُدَّة مَعْلُومَة.
وَقَوله: ﴿فَإِذا جَاءَ أَجلهم فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا﴾ أَي: بَصيرًا بأعمالهم يجازيهم عَلَيْهَا، الْحَسَنَة بِالْحَسَنَة، والسيئة بِالسَّيِّئَةِ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يس (١) وَالْقُرْآن الْكَرِيم (٢) إِنَّك لمن الْمُرْسلين (٣) على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾تَفْسِير سُورَة يس
وَهِي مَكِّيَّة، وروى مقَاتل بن حَيَّان، عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي قَالَ: " إِن لكل شَيْء قلبا، وَإِن قلب الْقُرْآن سُورَة يس، وَمن قَرَأَ سُورَة يس أعطَاهُ الله ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن عشر مَرَّات.
وَالْخَبَر غَرِيب أوردهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامعه، وَالله أعلم.