تفسير سورة ق

القطان
تفسير سورة سورة ق من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

مجيد: وافر المجد، واسمٌ من اسماء الله الحسنى، يقال: مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد. ويقال: مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد. والمجد: المروءة والسخاء والكرم والشرف. رجعٍ بعيد: البعث بعد الموت بعيدٌ كما يقولون. ما تنقص الأرض: ما تبليه الأرض من الاجسام بعد الموت. حفيظ: حافظ لتفاصيل الأشياء كلها. كذّبوا بالحق: كذبوا بالنبوة الثابتة. مريج: مختلط، مضطرب. ما لها من فروج: ليس فيها شقوق. مددناها: بسطناها. رواسي: جبالا ثوابت تمنع الأرض من ان تميد. من كل زوج: من كل صنف. بهيج: ذو بهجة وحسن. منيب: راجع. حَب الحصيد: حب الزرع المحصود. باسقات: طويلات، يقال بسقت النخلة بسوقا طالت. الطلع: أول ما يخرج من ثمرها. نضيد: منضود بعضه فوق بعض. كذلك الخروج: مثلَ ما ننبت النباتَ، كذلك نخرجكم من قبوركم.
﴿ق﴾ : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان.
أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف: إنا أرسلناك يا محمد لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة، بل عجِبوا أن جاءهم رسولٌ منهم ينذِرهم بالبعثِ بعد الموت، وزادوا في هذا الانكار فقالوا: هذا شيء عجيب.
ثم زادوا في الانكار والتعجب بقولهم:
﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾
أبعدَ ان نموتَ ونصير تراباً نرجع أحياء مرة اخرى! ذلك البعثُ بعد الموت رجوعٌ بعد الوقوع.
ثم اشار الله تعالى الى دليل جوازِ البعث وقدرته تعالى عليه فقال:
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾.
قد علمنا ما تأكلُ الأرض من أجشامهم بعد الموت وتُبليهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، والى أين صارت، فلا يصعُب علينا بعثُهم من جديد، وعندنا كتابٌ حافظٌ لتفاصيل الأشياء كلها.
ثم بين الله تكذيبهم بالنبوة الثابتة فقال:
﴿بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾
إنهم لم يتدبروا ما جاءهم به الرسولُ، وهو الحقُّ الثابت، بل كذّبوا به دون تدبُّرٍ وتفكر، فهم في قلقٍ من أمرهم واضطرابٍ لا يستقرون منه على حال.
ثم وجّه انظارهم الى دليلٍ يدحض كلامهم لو فكروا فيه: ألم ينظُروا إلى السماء والأرض وإلى الحبال الرواسي عليها، وكيف زيَّنَ السماءَ بالكواكب وليس فيها شقوق، وإلى الماء النازل من السماء الذي أنبت به الجنّاتِ من مختلف الأصناف والألوان، والنخلَ الباسقاتِ وطلعها المنضدَ الجميل.. كل هذه الاشياء من أجلِ العباد ليعيشوا آمنين في هذه الحياة الدنيا متمتعين. وكما أنزلنا الماء من السماء وأحيينا به الأرض - كذلك نُخرجكم أيها الناس من قبوركم ونبعثكم حياة اخرى. ﴿كَذَلِكَ الخروج﴾.
الرسّ: البئر التي لم تبنَ بالحجارة. واصحاب الرسّ: قوم شعيب. الأيكة: الشجر الكثير الملتف، وهم من قوم شعيب ايضا. تُبَّع: احد ملوك حمير في اليمن. أفعَيِينا: أفَعجِزنا. في لبس: في شك. الوسوسة: حديث النفس، وما يخطر بالبال. حبل الوريد: عِرق كبير في العنق. قعيد: مقاعد له كالجليس بمعنى المجالس. رقيب: مراقب. عتيد: مهيأ، حاضر. سكرة الموت: شدّته. تَحيد: تميل. يوم الوعيد: يوم وقوع العذاب الذي وُعدوا به. سائق وشهيد: سائق يسوقها الى المحشر، وشاهد يشهد عليها. الغطاء: الحجاب. وهو الغفلة والانهماك في اللذات، وقصر النظر. حديد: قوي نافذ.
بعد ان ذكر اللهُ تعالى تكذيبَ المشركين للنبيّ - ذكر المكذِّبين للرسُل من الأقوام السابقة مثل قوم نوحٍ وأصحابِ الرسّ وثمود، وعادٍ وفرعون وقوم لوط وقوم تُبَّع وغيرهم، وما آل اليه أمرُهم من الدمار والعذاب. وكل ذلك تسلية لرسوله ﷺ وتهديد لكفار قريش بأنهم سيصيبهم ما أصابَ الذين قبلهم إن أصرّوا على الكفر والعناد. ثم بعد هذا العرض يقول الله تعالى:
﴿أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾
هل عجَزنا عن ابتداء الخلْق الأول، حتى نعجِزَ عن إعادتهم مرة اخرى! بل هم في ريبٍ من ان نخلقهم من جديد. ﴿كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤].
ثم ذكر الله تعالى دليلاً اخر على إمكانه وقدرته، وهو علمُه بما في صدور الناس جميعا:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾
فلا يخفى علينا شيءٌ من أمرِ البشر.
ثم بين أكثر من ذلك بقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾
ونحن لعلمِنا بأحواله كلها اقربُ اليه من عِرق الوريد، الذي هو في جسده ذاته.
أخرج ابنُ مردويه عن أبي سعيد الخدريّ ان النبي ﷺ قال: «نزل اللهُ في ابن آدم أربع منازل: هو أقربُ اليه من حبل الوريد، وهو يحُول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصيةِ كل دابة، وهو معهم أينما كانوا».
ثم ذكر اللهُ تعالى ان الانسانَ موكَّلٌ به مَلَكان يكتبان ويحفظان عليه عملَه وأقواله، فهو تحت رقابة دائمةٍ شديدة دقيقة، وكل شيء مسجَّلٌ عليه تسجيلاً دقيقا.
ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن الانسانَ عند الموت ينكشفُ له كل شيء فقال:
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾.
ومعنى ذلك أن النفسَ وهي في سكرات الموت ترى الحقَّ كاملاً واضحاً، تراه بلا حجاب في تلك الساعة، وتدرك ما كانت تجهل، وهو الحق الذي كنتَ تفرّ منه ايها الكافر، ها قد جاءك فلا حيدَ عنه ولا مناص.
ثم بعد ذلك ينعطف الحديث الى يوم القيامة:
﴿وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد...﴾
ونفخ في الصور نفخةَ البعث، وذلك اليوم ﴿يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين﴾ [المطففين: ٦]، هو يومُ الوعيد الذي اوعد اللهُ الكفّارَ أن يعذّبهم فيه بعد الحساب. يومذاك تأتي كل نفسٍ إلى ربّها ومعها سائقٌ يسوقها اليه، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملتْ في الدنيا من خير او شر.
ثم يقال للمكذَِّب: لقد كنتَ في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا الذي تراه من الأهوال والشدائد، فأزلنا عنكَ الحجابَ الذي كان يغطّي عنك أمور الآخرة، ﴿فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ﴾ قويّ نافذٌ لا يحجبه شيء، فلا مهرب عن عذاب الحريق.
القرين: المصاحب، الملَكُ الموكل بالمرء. معتدٍ: متجاوز للحق ظالم. مريب: شاكّ في الله وفي دينه، يقال: أرابَ الرجلُ صار ذا ريبة، وأرابَ الرجلَ اقلقه وازعجه. قال قرينه: الشيطان الذي أطغاه. كان في ضلال بعيد: بعيد عن الحق. وأزلفت الجنة: قُربت وأُدْنِيَتْ. غير بعيد: في مكان قريب. لكل أواب: لكل تائب راجع عن المعصية الى الطاعة. حفيظ: حافظ لحدود الله وشرائعه. منيب: مخلص. ولدينا مزيد: مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
لا يزال الحديث عن يوم القيام وما يجري فيه.
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾
وقال الملَكُ الموكَّل به الذي كان يسوقه الى الموقف: هذا الذي وكَّلتني به يا ربُّ من بني آدم قد أحضرتُه وما هو مسجَّل عليه من قولٍ وعمل.
فيقال للملَكَين (السائق والشهيد) : ألقِيا في جهنمَ كلَّ كفّار عنيد، منّاعٍ للخير، ظالمٍ متجاوزٍ للحق، قد عَبَدَ غير الله. ألقياه في العذاب الشديد.
فيقول ذلك الكافر عندما يرى العذاب: ربِّ إن قريني من الشياطين أطغاني. فيردّ عليه قرينه بقوله: ﴿رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ﴾ كان طبعهُ الكفرَ والضلال والبعد عن الحق.
قال تعالى للكافرين وقرنائهم: لا تختصِموا لديَّ في هذا الموقف، وقد قدّمتُ اليكم في الدنيا وعيداً على الكفر مع رسُلي إليكم فلم تؤمنوا.
﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾
لا يغيَّر قضائي الذي قضيته، ولا أَظلم أحداً، فلا أعذبه بغير جرم اجترمه، ولا أعذبُ احداً مكان احد.
وبعد ذلك يذكر مكان حلول الوعيد بقوله:
﴿مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ؟﴾
وهذا يقال تقريعاً للكافرين إذ تطلب جهنمُ المزيدَ منهم.
وبعد هذا الحوار يأتي ذِكرُ حال المتقين. وهو مشهد يختلف كل الاختلاف، وديعٌ أليف تقرَّب فيه الجنة من المتقين حتى تتراءى لهم ويشهد المؤمنون فيه الترحيب والتكريم من رب العالمين.
﴿وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾
وقُرّبت الجنة للذين آمنوا واتقوا ربهم بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكراماً لهم، فيرون ما أعدّ اللهُ لهم من نعيم وحبور، ولذةٍ وسرور، ويقال لهم: ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ﴾ من كل خير. ثم يصفهم الله تعالى بأوصاف كريمة بقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾
ثم يؤذَن لهم بالدخول بسلام خالدين فيها أبدا، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخلود﴾.
وبعد ذلك يعلن المولى تعالى ببشارة عظيمة:
﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.
إنهم يجدون فيها كل ما يشتهون. ثم يمنُّ الله تعالى بكرمه أن يزيدَهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينُهم ولم يدرْ بخَلَدِهم، وتلك الضيافة الكبرى من الرحمن الرحيم.
قراءات:
قرأ نافع وابو بكر: يوم يقول لجهنم.... بالياء. والباقون: نقول بالنون.
القرن: الجيل من الناس. أشدّ منهم بطشا: اشد منهم قوة. فنقّبوا في البلاد: طافوا في البلاد طلباً للرزق. مَحيص: مَهْرب. لَذِكرى: لعبرة. او ألقى السمعَ وهو شهيد: أصغى الى ما يتلى عليه وهو حاضر، ويفطن لما يقال. لغوب: تعب. أدبار السجود اعقاب الصلوات، والأدبار جمع دُبُر ومعناه الأصلي الظهر ومؤخرة كل شيء. الصيحة: النفخة الثانية يوم القيامة. بالحق: بالبعث. يوم الخروج: من القبور. بجبّار: بمسيطر ومسلَّط، انما انت داعٍ ومنذر.
يبين الله تعالى لرسوله الكريم أنه مهما بلغت قوة قومه وغناهم فإنهم لم يبلغوا قوة الذين كانوا قبلهم من الأمم، فقد كان السابقون أشدَّ قوة وبطشا، وطوّفوا في البلاد وامعنوا في البحث والطلب ولم يغنِ عنهم كل ذلك من الله شيئا.
وفي هذا الذي نتلوه عليك من أخبار الماضين ذكرى وعبرةٌ لمن كان له قلبٌ يدرك الحقائق ويفهم ما يقال له، ويصغي وهو حاضرٌ شاهد.
ثم أعاد الدليلَ مرة أخرى على إمكان البعث، فبيّن ان الله خلق السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب.. وما دام الله قادراً على خلْق هذا الكون العجيب فإنه قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى.
﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾
اصبر على ما يقوله المشركون في شأنِ البعث من الأباطيل التي لا مستَنَدَ لها ولا دليل. وسبِّحْ بحمدِ ربك وقت الفجر ووقتَ العصر وبعضَ الليل وفي أعقاب جميع الصلوات.
وقد وردت احاديث صحيحة في تحديد التسبيح بأن يقول: سبحانَ الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرة، واللهُ اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ويختمها بقول لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملْكُ وله الحمدُ يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بعد كل صلاة.
﴿واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد﴾
أصغِ ايها الرسول لما أُخبرك به من اهوال يوم القيامة، يوم ينادي الملَكُ من مكان قريب من الناس، يوم يسمعون النفخةَ الثانية بالحق الذي هو البعث.
﴿ذَلِكَ يَوْمُ الخروج﴾ من القبور.
ثم لخص ما تقدم بقوله تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير﴾
إلينا رجوع الناس جميعهم يوم البعث والجزاء. وفي ذلك اليوم يخرجون من الأرض بعد ان تتشقق عنهم مسرعين الى المحشَر.
﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾. هو عظيم بما فيه من الاهوال ولكنه علينا سهلٌ يسير.
ثم يخاطب الرسولَ الكريم مسلياً له بقوله: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ﴾ فاتركهم إلينا، ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ ولا مسيطِر حتى تجبرهم على الإيمان. ما عليك الا البلاغ، ولذلك ﴿فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾.
Icon