تفسير سورة الذاريات

معاني القرآن
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب معاني القرآن .
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله عز وجل :﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً ﴾.
يعني : الرياح.
﴿ فَالْحامِلاَتِ وِقْراً ﴾، يعنى : السحاب لحملها الماء.
﴿ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً ﴾، وهي السفن تجري ميسّرَة.
﴿ فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ﴾ : الملائكة تأتي بأمر مختلف : جبريل صاحب الغلطة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، فتلك قسمة الأمور.
وقوله :﴿ وَالسَّماء ذَاتِ الْحُبُكِ ﴾.
الحُبك : تكسُّر كل شيء، كالرملة إذا مرت بها الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، والدرع درع الحديد لها حُبُك أيضا، والشَّعرة الجَعدة تكسُّرُها حبك، وواحد الحبك : حِباك، وحَبِيكة.
وقوله :﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ﴾.
جواب للقسم، والقول المختلف : تكذيب بعضهم بالقرآن وبمحمد، وإيمان بعضهم.
وقوله :﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾.
يريد : يُصرف عن القرآن والإيمان من صُرف كما قال :﴿ أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا ﴾ يقول : لتصرفنا عن آلهتنا، وتصُدَّنا.
وقوله :﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ﴾.
يقول : لُعن الكذابون الذين قالوا : محمد صلى الله عليه وسلم : مجنون، شاعر، كذاب، ساحر. خرّصوا مالا علم لهم به.
وقوله :﴿ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴾.
متى يوم الدين ؟ قال الله :﴿ يوم الدّين، يَوْمَ هُمْ على النارِ يُفْتَنُون ﴾ وإنما نصبت ( يومَ هُمْ ) لأنك أضفته إلى شيئين، وإذا أضيف اليوم والليلة إلى اسم له فعل، فارتفعا نصب اليوم، وإن كان في موضع خفض أو رفع، وإذا أضيف إلى فَعَل أو يفعَل أو إذا كان كذلك ورفعه في موضع الرفع، وخفضه في موضع الخفض يجوز، فلو قيل : يومُ هم على النار يفتنون ؛ فرفع يوم لكان وجها، ولم يقرأ به أحد من القراء.
وقوله :﴿ يُفْتَنُونَ ﴾ يحرقون ويعذبون بالنار.
وقوله :﴿ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ ﴾ يقول : ذوقوا عذابكم الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا.
وقوله :﴿ آخِذِينَ ﴾ «وفاكهين ».
نصبتا على القطع، ولو كانتا [ ١٨٤/ب ] رفعاً كان صوابا، ورفعهما على أن تكونا خبرا، ورفع آخر أيضاً على الاستئناف.
وقوله :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ﴾.
إن شئت جعلت ما في موضع رفع، وكان المعنى : كانوا قليلا هجوعهم. والهجوع : النوم. وإن شئت جعلت ما صلة لا موضع لها، ونصبت قليلا بيهجعون. أردت : كانوا يهجعون قليلا من الليل.
وقوله :﴿ وَبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ يُصَلون.
وقوله :﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾.
فأما السائل فالطوّاف على الأبواب، وأما المحروم فالمحارَفُ أو الذي لا سهم له في الغنائم.
وقوله :﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴾.
فآيات الأرض جبالها، واختلاف نباتها وأنهارها، والخلق الذين فيها.
وقوله :﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ ﴾.
آيات أيضاً إن أحدكم يأكل ويشرب في مدخل واحد، ويُخْرِج من موضعين، ثم عنّفهم فقال :﴿ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ﴾ ؟
وقوله :﴿ فَوَرَبِّ السَّماء وَالأَرْضِ ﴾.
أقسم عز وجل بنفسه : أن الذي قلت لكم لَحق مثل ما أنكم تنطقون. وقد يقول القائل : كيف اجتمعت ما، وأنّ وقد يكتفي بإحداهما من الأخرى ؟ وفيه وجهان : أحدهما : أن العرب تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما، فمن الأَسماء قول الشاعر :
من النّفر اللائي الذين إذا همُ يَهاب اللئامُ حلقهَ البابِ قَعْقَعوا
فجمع بين اللائي والذين، وأحدهما مجزئ من الآخر.
وأما في الأدوات فقوله :
ما إِنْ رأيتُ ولا سمعت به كاليوم طالى أيْنُق جُرْب
فجمع بين ما، وبين إن، وهما جحدان أحدهما يجزى من الآخر.
وأما الوجه الآخر، فإن المعنى لو أفرد بما لكان كأنّ المنطق في نفسه حق لا كذب : ولم يُرَد به ذلك. إنما أرادوا أنه لحق كما حقٌّ أن الآدمي ناطق.
ألا ترى أن قولك أحقٌّ منطقك معناه : أحقٌّ هو أم كذب ؟ وأن قولك : أحقٌّ أنك تنطق ؟ معناه : أللانسان النطق لا لغيره. فأدخلتَ أنَّ ليُفرَق بها بين المعنيين، وهذا أعجب الوجهين إليَّ.
وقد رفع عاصم والأعمش ( مثلَ ) ونصبها أهل الحجاز والحسن، فمن رفعها جعلها نعتا للحق ومن نصبها جعلها في مذهب المصدر كقولك : إنه لحق حقا. وإن العرب لتنصبها إذا رفع بها الاسم فيقولون : مثلَ من عبد الله ؟ ويقولون : عبد الله [ ١٨٥/ا ] مثلَك، وأنت مثلَه. وعلة النصب فيها أن الكاف قد تكون داخلة عليها ؛ فتُنصب إذا ألقيت الكاف. فإن قال قائل : أفيجوز أن تقول : زيدٌ الأسدَ شدةً، فتنصب الأسد إذا ألقيت الكاف ؟ قلت : لا ؛ وذلك أن مثلَ تؤدى عن الكاف ؛ والأسدُ لا يؤدى عنها ؛ ألا ترى قول الشاعر :
وزعتُ بكالهراوة أعوجِيٍّ إذا وَنتِ الرِّكاب جرى وثابا
أن الكاف قد أجزأت من مثل، وأن العرب تجمع بينهما ؛ فيقولون : زيد كمثلك، وقال الله جل وعز :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ﴾، واجتماعهما دليل على أن معناهما واحد كما أخبرتك في ما وإن ولا وغيره.
وقوله :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾.
لم يكن عَلِمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزله الله عليه.
وقوله :﴿ الْمُكْرَمِينَ ﴾.
أكرمهم بالعمل الذي قرّبه.
وقوله :﴿ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾.
رفع بضمير : أنتم قوم منكرون.
وهذا يقوله إبراهيم عليه السلام للملائكة.
وقوله :﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ ﴾.
رجع إليهم، والروغ وإن كان على هذا المعنى فإنه لا يُنطق به حتى يكون صاحبه مُخْفياً لذهابه [ أو مجيئه ] ألا ترى أنك لا تقول : قد راغ أهل مكة، وأنت تريد رجعوا أو صدروا ؟ فلو أَخفي راجع رجوعه حسنت فيه : راغ ويروغ.
وقوله :﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ ﴾.
إذا كبر، وكان بعض مشيختنا يقول : إذا كان العِلْم منتظراً [ لمن ] يوصف به قلت في العليم إذا لم يعلم : إنه لعالم عن قيل وفاقِهٌ، وفي السيد : سائد، والكريم : كارم. والذي قال حسن، وهذا كلام عربي حسن، قد قاله الله في عليم، وحليم، وميت.
وكان المشيخة يقولون للذي لما يَمُت وسيموت : هو مائت عن قليل، وقول الله عز وجل أصوب من قيلهم، وقال الشاعر فيما احتجوا به :
كريم كصفو الماء ليس بباخل بشيء، ولا مهد ملاما لباخل
يريد : بخيل، فجعله باخل ؛ لأنه لم يبخل بعد.
وقوله :﴿ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ ﴾.
في صيحة، ولم تقبل من موضع إلى موضع إنما هو كقولك : أقبل يشتمني، أخذ في شتمي فذكروا أن الصيحة : أوَّه، وقال بعضهم : كانت يا ويلتا.
وقوله :﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَها ﴾.
هكذا أي جمعت أصابعها، فضربت جبهتها، ﴿ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾ أتلد عجوز عقيم ؟ ورفعت بالضمير بتلد.
وقوله :﴿ وَتَرَكْنا فِيها آيَةً ﴾.
معناه : تركناها آية وأنت قائل للسماء فيها آية، وأنت تريد هي الآية بعينها.
وقوله :﴿ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ﴾.
يقال : تولى أي أعرض عن الذكْرِ بقوته في نفسه، ويقالُ : فتولى برُكنه بمن معه لأنَّهُم قوّته.
وقوله :﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾.
أتى باللائمة وقد ألام، وقوله :﴿ لَقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائلِينَ ﴾ هم الآيات وفعلهم.
وقولُه عز وجل :﴿ كَالرَّمِيمِ ﴾.
والرميمُ : نباتُ الأرضِ إذا يَبِسَ ودَبسَ فهو رَمِيمٌ.
وقوله عز وجل :﴿ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ ﴾.
كان ذلِكَ الحينُ ثلاثةَ أيام.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾.
قرأها العوامُ [ الصاعقة ] بالألف.
قالَ حدثنا محمدُ بن الجهم قالَ حدثنا الفراء قالَ : وحدثني قيس بن الربيع عن السُّدِّي عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب : أنه قرأ ( الصَّعقة ) بغير ألف، وهم ينظرون.
وقوله عز وجل :﴿ فَما اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ ﴾.
يقولُ : فما قاموا لها ولو كانت : فما استطاعُوا من إقامةٍ لكان صَوَاباً.
وطرحُ الألفِ منها، كقوله جلّ وعز :﴿ والله أَنْبَتَكُم مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ﴾ ولو كانت - إنباتا - كان صَوابا.
وقوله جل ذكره :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ ﴾.
نَصبها القراء [ ٥٥/ا ] إلاّ الأعمشَ وأصحابه، فإنهم خفضوها لأنها في قراءةِ عبد اللهِ فيما أعلم : وفي قوم نوح.
ومن نصبها فعلى وجهين : أخذتهم الصعقة، وأخذت قومَ نوح.
وإن شئت : أهلكناهم، وأهلكنا قومَ نوح. ووجه آخرُ ليسَ بأبغَضَ إلىّ من هذين الوجهين : أن تُضمَر فعلا واذكر لهم قوم نوح، كما قال عز وجل :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ﴾ ﴿ وَنُوحا إِذْ نادَى مِنْ قَبْلُ ﴾ في كثير من القرآن معناه : أنبئهم واذكر لهم الأنبياء وأخبارهم.
وقوله عز وجل :﴿ بِأَييْدٍ ﴾ بقوةٍ.
وقوله عز وجل :﴿ وَإِنا لَمُوسِعُونَ ﴾. أي إنا لدو وسَعَةٍ لخَلْقِنا. وكذلك قوله جل ذكره :﴿ على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ﴾.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ﴾.
الزَّوجان من جميع الحيوانِ : الذكَرُ والأُنثى، ومِن سوى ذلِكَ : اختلافُ ألوان النبات، وطُعومِ الثمار، وبعضٌ حلوٌ، وبعضٌ حامضٌ، فذانِك زوجان.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ﴾.
معناه : فرُّوا إليه إلى طاعتِه من معصيته.
وقوله تبارك وتعالى ﴿ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ ﴾.
معناه : أتوَاصى به [ ٥٥/ب ] أهلُ مكةَ، وَالأُمم الماضِيةُ، إذْ قالوا لَكَ كما قالت الأُمَمُ لرُسلها.
وقوله تبارك وَتعالى :﴿ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾.
إلا ليوحِّدوني، وَهذه خاصّةُ يقولُ : وَما خلقت أهلَ السعادةِ من الفريقين إلا ليُوحِّدُوني. وَقال بعضُهم : خلقَهم ليفعلوا فَفَعل بعضُهم وَترك بعضٌ، وَليس فيه لأهلِ القَدَرِ حُجَّةٌ، وَقد فُسِّرَ.
وقوله تبارك وَتعالى :﴿ ما أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ﴾.
يقولُ : ما أريدُ منهم أن يرزقوا أنفسهم، ﴿ وَما أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴾ أن يُطعموا أحداً من خلقي ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾.
﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾.
قرأ يحيى بن وَثاب ( المتين ) بالخفض جعله من نعتٍ القوةِ، وَإن كانت أُنثى في اللفظ، فإنَّهُ ذهب إلى الحبل وَإلى الشيء المفْتولِ.
أنشد بعض العربِ :
لكل دَهْرٍ قد لَبِسْتُ أثْوباً من ريطةٍ وَاليُمنَةَ المُعَصَّبا
فجعل المُعَصَّبَ نعتاً لليُمْنَة، وَهي مؤنثةٌ في اللفظ لأن اليُمنةَ ضربٌ وَصِنْفٌ من الثيابِ : الوَشى، فذهبَ إليه.
وقرأ الناس ( المتينُ ) رفعٌ من صِفةِ الله تبارك وَتعالى.
وقوله :[ ٥٦/ا ] عز وَجل :﴿ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً ﴾.
والذنوب في كلام العرب : الدَلُو العظيمة وَلكن العربَ تذهَبُ بها إلى النَّصِيب وَالحظِّ.
وَبذلِكَ أتى التفسيرُ : فإنَّ للذين ظَلموا حظًّا من العذابِ، كما نزَلَ بالذين من قبلهم، وَقَالَ الشاعرُ :
لنا ذَنوبٌ وَلكمْ ذَنوبُ فإنْ أبيتمْ فلنا القَليبُ
وَالذنوبُ : يُذكَّرُ، وَيؤنَّثُ.
Icon