تفسير سورة الحشر

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات والأرض يسبّح له ويمجِّده، ويقدِّسه ويوحِّده كقوله تعالى :﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ أي منيع الجناب ﴿ الحكيم ﴾ في قدره وشرعه، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ يعني يهود بني النضير، كان رسول الله ﷺ لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأجلاهم النبي ﷺ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ظنوا أنها ما نعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئاً، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله ﷺ وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى ( أذرعات ) من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى ( خيبر ) وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حلمت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى :﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾ أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذّب كتابه، كيف يحل بهم من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم، روى أبو داود، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ :« أن كفّار قريش كتبوا إلى ( ابن أبيّ ) ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله ﷺ يومئذٍ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم، فلما بلغ النبي ﷺ لقيهم فقال :» لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم «، فلما سمعوا ذلك من النبي ﷺ تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود، إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء، وهو الخلاخيل، فلمّا بلغ كتابه النبي ﷺ أيقنت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي ﷺ : اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبراً، حتى نلتقي بمكان النصف، وليسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله ﷺ بالكتائب فحصرهم فقال لهم :» إنكم والله لا تؤمنون عندي إلاّ بعهد تعاهدوني عليه «، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب، وترك بن بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله ﷺ خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها، فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ [ الحشر : ٦ ] نقول بغير قتال، فأعطى النبي ﷺ أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار، كانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما »
2518
، وبقي منها صدقة رسول الله ﷺ التي في أيدي بني فاطمة.
وقوله تعالى :﴿ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ﴾ أي في مدة حصاركم لهم وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها، ولهذا قال تعالى :﴿ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ﴾ أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى ﴿ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النحل : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ﴾ أي الخوف والهلع والجزع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه، وقوله :﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين ﴾ هو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وحلمها على الإبل، وقال مقاتل بن حيان : كان رسول الله ﷺ يقاتلهم، فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال، وكان اليهود إذا علو مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها، ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾، وقوله :﴿ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا ﴾ أي لولا أن الله كتب عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك، لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العاذب من نار جهنم، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلاّ الحلقة وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله ﷺ قبل الشام، قال : والجلاء أنه كتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله ﷺ، وأنزل الله فيهم :﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ - إلى قوله - ﴿ وَلِيُخْزِيَ الفاسقين ﴾، قال قتادة : الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد، وقال الضحّاك : أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء فهذا الجلاء، وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي، عن ابن عباس قال : كان النبي ﷺ قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أُخْرَى.
2519
وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله ﷺ بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام.
وقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار ﴾ أي حتم لازم لا بد لهم منه، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين، لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد ﷺ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال :﴿ وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾، وقوله تعالى :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفاسقين ﴾ اللين نوع من التمر وهو جيد، قال أبو عبيدة : وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر، وقال كثيرون من المفسرين : اللينة ألوان التمر سوى العجوة، قال ابن جرير : هو جميع النخل، وذلك « أن رسول الله ﷺ لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرعاباً لقلوبهم، فبعث بنو قريظة يقولون لرسول الله ﷺ إنك تنهي عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة، أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم ». روى الإمام أحمد، عن ابن عمر « أن رسول الله ﷺ قطع نخل بن النضير وحرّق » ولفظ البخاري، عن ابن عمر قال : حاربت النضير وقريظة فأجلى بن النضير، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي ﷺ فأمنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط ( عبد الله بن سلام ) ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة. وفي « الصحيحين » عن ابن عمر :« أن رسول الله ﷺ حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفاسقين ﴾ » ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
قال أبو إسحاق : كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أُحُد وبد بئر معونة، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال : كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر.
2520
الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم، فأفاءه الله على رسوله، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح، التي ذكرها الله عزّ وجلّ في هذه الآيات فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ ﴾ أي من بني النضير، ﴿ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ﴾ يعني الإبل، ﴿ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء، ثم قال تعالى :﴿ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى ﴾ أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ إلى آخرها والتي بعدها، فهذه مصاريف أموال الفيء ووجوهه.
روى الإمام أحمد، عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله ﷺ خالصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته، وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله عزّ وجلّ. وقوله تعالى :﴿ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ ﴾ أي جعلنا هذه المصارف لمال الفيء كيلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء، ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئاً إلى الفقراء.
وقوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ﴾ أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتبنوه، فإنه إنما يأمر بخير، وإنما ينهى عن شر. عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت : بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة أَشيء وجدته في كتاب الله تعالى أو عن رسول الله ﷺ ؟ قال : بل شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله ﷺ، قالت : والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول، قال : فما وجدتِ فيه :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ﴾ ؟ قالت : بلى، قال : فإني سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة، قالت : فلعله في بعض أهلك، قال : فادخلي فانظري، فدخلت فنظرت، ثم خرجت، قالت : ما رأيت بأساً، فقال لها : أما حفظت وصية العبد الصالح :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [ هود : ٨٨ ]. وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحُسْن، المغيرات خلق الله عزّ وجلّ.
2521
قال : فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أُم يعقوب، فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت، قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله ﷺ وفي كتاب الله تعالى؟ فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت :﴿ وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ﴾، قالت : بلى؟ قال : فإن رسول الله ﷺ نهى عنه، قالت إني لأظن أهلك يفعلونه، قال : اذهبي فانظري، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت فقالت : ما رأيت شيئاً، قال : لو كان كذا لم تجامعنا. وقد ثبت أن رسول الله ﷺ قال :« إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » وقوله تعالى :﴿ واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾ أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره، فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
2522
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم ﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً ﴾، أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه، ﴿ وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون ﴾ أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة، فقال تعالى :﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم، قال عمر :« وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم ». وقوله تعالى :﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ أي من كرمهم وشرف أنفسهم، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم، روى الإمام أحمد، عن أَنَس قال :« قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال :» لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم « ودعا النبي ﷺ » الأنصار أن يقطع لهم البحرين، قالوا : لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلنا، قال :« إما لا، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة » « وقال البخاري، عن أبي هريرة قال :» قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال :« لا »، فقالوا : أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا : سمعنا وأطعنا «، ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾ أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين، فيما فضلهم الله بن من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة، قال الحسن البصري :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً ﴾ يعني الحسد ﴿ مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾ قال قتادة : يعني فيما أعطي إخوانهم، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ ﴾ يعني مما أوتوا : المهاجرون، قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى :﴿ وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الحشر : ٦ ] قال : وقال رسول الله ﷺ :» « إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم »، فقالوا : أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله ﷺ :« أو غير ذلك؟ » قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال :« هم قوم لا يعرفون العلم فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر »، فقالوا : نعم يا رسول الله، وقوله تعالى :﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ «
2523
عني حاجة، أي يقدموا المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أفضل الصدقة جهد المقل »، ومن هذا المقام « تصدق الصدّيق رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله ﷺ :» ما أبقيت لأهلك؟ « فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله »، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وقال البخاري، عن أبي هريرة قال :« أتى رجل رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال النبي ﷺ :» ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله « فقال رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته هذا ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاً، فقالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم فأطفئي السرج ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله ﷺ فقال :» لقد عجب الله عزّ وجلّ - أو ضحك - من فلان وفلانة «، وأنزل الله تعالى :﴿ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾. وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال :»
إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم « وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :» اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا « وقال ابن أبي حاتم، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، فقال له عبد الله : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل، وعن أبي الهياج الأسدي، قال : كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول : اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له : فقال إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
2524
وفي الحديث :« بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة ».
وقوله تعالى :﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة :﴿ والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ التوبة : ١٠٠ ]، فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ ﴾ أي قائلين :﴿ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ ﴾ أي بغضاً وحسداً ﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾، وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء، وقال ابن أبي حاتم، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم، ثم قرأت هذه الآية :﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان ﴾ الآية، وقال ابن جرير : قرأ عمر بن الخطاب :﴿ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] حتى بلغ ﴿ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [ التوبة : ٦٠ ]، ثم قال : هذه لهؤلاء، ثم قرأ :﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] الآية : ثم قال : هذه لهؤلاء، ثم قرأ :﴿ مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى ﴾ [ الحشر : ٧ ] حتى بلغ ﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ﴿ والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ ﴾ ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق بها جبينه.
2525
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبيّ وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بن النضير، يعدونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ﴾، قال الله تعالى :﴿ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ أي لكاذبون فيما وعدوهم به، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ ﴾ أي لا يقاتلون معهم، ﴿ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ ﴾ أي قاتلوا معهم ﴿ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾، وهذه بشارة مستقلة بنفسها، ثم قال تعالى :﴿ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله ﴾ أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله تعالى :﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [ النساء : ٧٧ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ﴾ يعني أنهم من جبنهم وهلعهم، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام، بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة، ثم قال تعالى :﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ أي عداوتهم فيما بينهم شديدة كما قال تعالى :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى ﴾ أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل لكتاب والمنافقين ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، قال مجاهد والسدي : يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع، وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله ﷺ قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ ﴾ يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذي وعدوهم النصر من المنافقين، كمثل الشيطان إذا سوّل للإنسان الكفر ثم تبرأ منه وتنصل، وقال :﴿ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾. روى ابن جرير، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية :﴿ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين ﴾ قال : كانت امرأت ترعى الغنم، كان لها أربعة أخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال : فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له : اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يسمع قولك، فقتلها ثم دفنها قال : فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال هلم : إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأُختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا : بل قصها علينا، قال، فقصها؛ فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر : وأنا والله قد رأيت ذلك، قالوا : فوالله ما هذا إلا لشيء، قال : فانطلقوا، فاستَعْدُوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال : فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو ( برصيصا ) فالله أعلم.
2526
وقوله تعالى :﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي فكان عاقبة الأمر بالكفر مصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها ﴿ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين ﴾ أي جزاء كل ظالم.
2527
عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار قال، فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغيّر وجه رسول الله ﷺ، لما رأى بهم من الفاقة، قال : فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن، وأقام الصلاة فصلّى، ثم خطب فقال :﴿ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ النساء : ١ ] - إلى آخر الآية، وقرأ الآية التي في الحشر - ﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ - تصدق رجل من ديناره من درهمه، من ثوبه، من صاع بر، من صاع تمر - حتى قال - ولو بشق تمرة. قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله ﷺ يتهلل وجهه، كأنه مذهبه، فقال رسول الله ﷺ :« من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء »، فقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ﴾ أمر بتقواه، وهو يشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر، وقوله تعالى :﴿ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ أي حاسبوا أنفسكم قبل تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، ﴿ واتقوا الله ﴾ تأكيد ثان ﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾ أي لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك هُمُ الفاسقون ﴾ أي الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معاهدهم، كما قال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾ [ المنافقون : ٩ ].
خطب أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه فقال : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم، فمن استطاع أن يقضي الأجل، وهو من عمل الله عزّ جلّ، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزّ وجلّ، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزّ وجلّ أن تكونوا أمثالهم ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾، أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى :
2528
﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ]، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. وقوله تعالى :﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة ﴾ أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة كما قال تعالى :﴿ أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢١ ]، وقال تعالى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار ﴾ [ ص : ٢٨ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ أي الناجون المسلَّمون من عذاب الله عزّ وجلّ.
2529
يقول تعالى معظماً لأمر القرآن ومبيناً علو قدره، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد والأكيد :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله ﴾ أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عزّ وجلّ، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ قال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً ﴾ إلى آخرها، يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته أياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع، ثم قال تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، وقال الحسن البصري : إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى ﴾ [ الرعد : ٣١ ] الآية، وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن، ثم قال تعالى :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم ﴾ أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الرحمن الرحيم ﴾ المراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ]، وقال تعالى :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] وقال تعالى :﴿ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ يونس : ٥٨ ]، ثم قال تعالى :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك ﴾ أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله تعالى :﴿ القدوس ﴾ قال وهب بن منبه : أي الطاهر، وقال مجاهد وقتادة : أي المبارك، وقال ابن جريج : تقدسه الملائكة الكرام، ﴿ السلام ﴾ أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وقوله تعالى :﴿ المؤمن ﴾ قال ابن عباس : أي أمن خلقه من أن يظلمهم، وقال قتتادة : أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد : صدّق عباده المؤمنين في إيمانهم به، وقوله تعالى :﴿ المهيمن ﴾ قال ابن عباس وغير واحد : أي الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم، كقوله :
2530
﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [ المجادلة : ٦، البروج : ٩ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤٦ ]، وقوله :﴿ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [ الرعد : ٣٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ العزيز ﴾ أي الذي قد عز كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه، ولهذا قال تعالى :﴿ الجبار المتكبر ﴾ أي الذي لا تليق الجبرية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته كما تقدم في الصحيح :« العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته »، وقال قتادة : الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء، وقال ابن جرير : الجبار المصلح أُمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم، وقال قتادة : المتكبر يعني عن كل سوء، ثم قال تعالى :﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. وقوله تعالى :﴿ هُوَ الله الخالق البارىء المصور ﴾ الخلق : التقدير، والبرء : التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئاً ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزّ وجلّ. قال الشاعر يمدح آخر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
أي أنت تنفذ ما خلقت، أي قدرت بخلافل غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريده فالخلق : التقدير، والفري : التنفيذ، ومنه يقال : قدر الجلاد ثم فرى، أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده، وقوله تعالى :﴿ الخالق البارىء المصور ﴾ أي الذي إذا أراد شيئاً قال له : كن فيكون، على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار، كقوله تعالى :﴿ في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴾ [ الانفطار : ٨ ]، ولهذا قال المصور أي الذي ينفذما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله تعالى :﴿ لَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف، ونذكر الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ :« إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماًن مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارىء، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدىء، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور »
2531
وقوله تعالى :﴿ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ]، وقوله تعالا :﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ أي فلا يرام جنابه، ﴿ الحكيم ﴾ في شرعه وقدره، عن معقل بن يسار عن النبي ﷺ قال :« من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخرة سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة ».
2532
Icon