وتشتمل هذه السورة على وضع الأسس للاستقرار الداخلي والاستقرار الخارجي في المجتمع، ذلك أن احتفاظ الأمم بكيانها يرتبط بهذين الأمرين العظيمين. فالاستقرار الداخلي : أساسه صلاح الأسرة، وصلاح المال في ظل تشريع عادل مبني على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات. والاستقرار الخارجي : أساسه احتفاظ الأمة بشخصيتها وقدرتها على مقاومة الشر الذي قد يطرأ عليها، والعدو الذي يطمع فيها.
وقد تكفّلت سورة النساء بوضع أسس الأحكام التي تصلح بها هذه النواحي، فعرضت للموضوعات التالية :
العناية بشأن النساء، تنظيم الأسرة والزواج، المال، أسس الجماعة الإسلامية، مصادر التشريع، العناية باليتامى في أنفسهم وأموالهم وإحسان تربيتهم، ألوان التمرد على التشريع، مكافحة الآراء والشُبه الضارة، أحكام الميراث، القتال وأهدافه في الإسلام، وتتويج هذا كله بالدعوة إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من هداية ونور.
ﰡ
بث : خلق ونشر.
تساءلون به : يسأل بعضكم بعضا به، كأن يقول : سألتك بالله أن تفعل كذا. الأرحام : جمع رحم وهي القرابة.
يا أيها الناس احذروا عصيان خالقكم، الذي أنشأكم من العدم، واذكروا أنه أوجدكم من نفس واحدة خلق منها زوجها، ثم نشر منها رجالاً ونساء كثيرين. فاتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون، ويسأل بعضكم بعضا باسمه فيما تتبادلون من أمور. كذلك تذكَّروا حقوق الرحم والقرابةِ عليكم فلا تفّرطوا فيها ولا تقطعوا وشائجها.
وقد قرن الله الرحم باسمه الكريم لأن صلتها أمر عظيم عنده. وقد ورد في الحديث الصحيح «أن الرحم تقول : من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله »، وكذلك قال رسول الله «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصِل رحمه ». قراءات :
قرأ عاصم وحمزة والكسائي :«تساءلون » بفتح السين المخففة، وقرأ الباقون «تساءلون » بفتح السين المشددة، وقرأ حمزة «والأرحام » بجر الميم.
حوباً كبيراً : إثما عظيما.
ظهرت العناية باليتامى في القرآن الكريم منذ أول نزول الوحي، واستمر يوصي بهم إلى أواخر نزول القرآن. وقد وردت آيات كثيرة توصي باليتيم والمحافظة على ماله حتى جعل بعضُها من يظلم اليتيم ويقصّر في حقه كأنه يكفر بالله ويكذّب بيوم الدين.
في هذه السورة العظيمة جاءت الآيات تأمر بالمحافظة على أموال اليتامى والقيام بحقوقهم، ثم تشدّد في التحذير من إهمال ذلك. وقد مهدت لهذه الأحكام في آيتها الأولى، فطلبت تقوى الله، والتقوى في الرحم، وأشعرت الناس أنهم جميعا من نفس واحدة، فاليتيم رحمُهم وإن كان من غير أسرتهم.
وبعد هذا التمهيد الجميل أمرَهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة عندما يبلغون سنّ الرشد، كما حذّرهم من الاحتيال في مبادلة الطيب المختار من مال اليتيم بالرديء الخبيث من أموال الوصي عليه، أو خلط أموالكم بأموال اليتامى. وقد عبر عن هذا بالأكل ﴿ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ ﴾. فإن لجأتم إلى التحايل بالمبادلة، أو الأكل تحت شعار الخلط، فاعلموا ﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ أي ذنْباً عظيماً، فاجتنبوه.
تعولوا : تميلوا عن الحق، وقيل يكثُر عيالكم.
يسأل كثير من الناس قديماً وحديثا : ما وجه الربط بين العدل في معاملة اليتامى، ونكاح النساء ! وقد سأل عروة بن الزبير خالته عائشة أم المؤمنين، ففسرت ذلك بأن بعض أولياء اليتامى كان يتزوج بمن عنده من اليتيمات اللاتي يحل له زواجهن، أو يزوّجها بعض أبنائه، ويتخذ ذلك ذريعة إلى أكل مالها أو أكل مهرها الذي تستحقه بعقد الزواج. فأنزل الله تعالى هذه الآية مرشدة لهم بأن من كان عنده يتيمة وأراد أن يتزوج بها أو يزوّجها من بعض أبنائه، لا لغاية أكل مالها أو أكل مهرها، فلا مانع من ذلك. أما إذا أراد أن يتزوجها ليأكل مالها أو مهرها، فإن الله يأمره أن يتركها تتزوج غيره، وله أن يتزوج غيرها.
ولقد أباح له الزواج بأكثر من واحدة إلى أربع نساء. ثم وضع شرطاً مهماً جداً فقال :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾ بين الزوجات فعليكم أن تكتفوا بواحدة فقط، لكم أن تتمتّعوا بمن تشاؤون من السراري. واختيار الواحدة أقرب من عدم الجور والظلم، إذ أن العدل بين النساء من الأمور الصعبة جدا. لذلك قال تعالى في آية أخرى ﴿ وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾ والمقصود بالعدل هنا هو المعاملة الطيبة، والنفقة، والمعاشرة الحسنة للزوجات على السواء. أما العدل في مشاعر الرجل وميله القلبي فإنه غير ممكن وليس هو المقصود. فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول :«اللهم هذا قَسمي فيما أمِلكَ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ».
وموضوع تعدد الزوجات أمرٌ كثر فيه الكلام قديماً وحديثا، واتخذه أعداء الإسلام سبيلاً للطعن فيه، ولا سيما المستشرقون والمبشرون. ولو أن هؤلاء المتعصبين بحثوا الموضوع بتجرد عن الهوى لرأوا أن الإسلام لم يبتدع تعدد الزوجات بل حدّده ووضع قيوداً تقلله بقدر الإمكان. فقد كان التعدد معروفاً ومعمولاً به عند جميع الأمم، فجاء الإسلام ورخّص فيه وقيّده بقيود صارمة. وذلك لمواجهة واقع الحياة البشرية، وضرورات الفطرة الإنسانية. إن الناس ليسوا سواء، فمنهم من لا تكفيه زوجة واحدة، ومنهم المضطرُّ إلى الجمع لأمور عديدة. والدين الإسلامي ليس ديناً جامداً، بل هو واقعيٌّ ايجابي، يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه كما ينظر إلى واقعه وضروراته ولهذا أباح تعدد الزوجات بذلك التحفظ الشديد، فيحسن أن يؤخذ هذا الموضوع بيسر ووضوح، وأن تُعرف الملابسات التي تحيط به، فلا ينبغي لمسلم أن يقدم على الزواج بأكثر من واحدة إلا لضرورة، ومع مراعاة ما أوجبه الله من العدل.
﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ تمتعوا بما شئتم من السراري، وهذا غير موجود في عصرنا.
﴿ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ أي أن الاقتصار على زوجة واحدة أقرب إلى عدم الوقوع في الظلم والجور، كما أنه أدعى إلى ألاّ تكثر عيالكم فتعجزوا عن الإنفاق عليهم.
نحلة : عطية عن طيب نفس.
الخطاب للأزواج، وأعطوا النساء مهورهن عطية خالصة، ليس لكم فيها شيء. فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا منها دون إجبار ولا خديعة فكلوا هنيئا طيبا، محمود العاقبة.
وعلى هذا لا يجوز للرجل أن يأخذ لنفسه أو ينقص شيئاً من مهر زوجته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، لأن العلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على السماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج.
قياما : تقوم بها أمور معايشكم وتمنع عنكم الفقر.
وارزقوهم فيها : أعطوهم رزقهم من أموالهم، ولا تجمّدوها بل اتَّجروا بها حتى لا تنفد.
ولا تعطوا ضعاف العقول ممن لا يحسنون التصرف في المال أموالهم التي هي أموالكم كمجتمع. ذلك أن مال اليتيم وضعيف العقل هو مالُكم كمسلمين، فإذا ضاع أو تلف خسرتم أنتم. لذلك عليكم أن تثمِّروه وتحافظوا عليه حتى لا يضيع.
﴿ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ﴾ الّتي بها تقوم الحياة وتثبت. وفي هذا حثٌّ على حفظ الأموال وعدم تضييعها. وقد كان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن. ولأَن أَترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن أحتاج الناس.
( وأعطوهم رزقهم ) أي أعطوهم من ثمراتها النصيب الذي يحتاجون إليه للطعام، واكسوهم وعاملوهم بالحسنى.
﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً ﴾ يرضيهم ولا يؤذيهم.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر «التي جعل الله لكم قيما » والمعنى واحد.
إسرافا وبدارا أن يكبروا : لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومسرعين في تبذيرها قبل أن يكبروا. والبدار والمبادرة : المسارعة.
بعد أن أمرنا الله في الآيات السابقة بإيتاء الأيتام أموالهم وبإعطاء النساء مهورهن، بيّن في هذا الآية الكريمة شرطا مهما، وهو : لا يعطى اليتيم أو القاصر ماله إلا إذا كان بالغاً راشدا. فاختبروا عقول اليتامى وتبينوا حسن تصرفهم بالمال، حتى إذا أصبحوا صالحين للزواج وعرفتم فيهم الرشد والسداد فادفعوا إليهم أموالهم. وإياكم أن تأكلوها، لا مسرفين فيها بالإنفاق منها ( ولو على اليتيم نفسه )، ولا مستعجلين في الإنفاق قبل أن يكبر اليتيم. ومن كان من الأوصياء غنياً فليتعفف عن أموال اليتامى، ومن كان فقيرا فليكتفِ بقدر ما يكفيه بحسب الصرف الجاري في بلده ووقته. فإذا سلّمتموهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قبضوها، ( والإشهاد واجب عند الشافعية والمالكية ومندوب عند الحنفية )، والله من ورائكم هو المحاسب والمراقب.
وقد ورد في الحديث : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : لي مال وإني وليُّ يتم، فقال :«كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالاً، ومن غير أن تَقِيَ مالَك بماله ».
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك زوجة تدعى أم كحة، فحاز ابنا عمه، سويد وعرفطة، ميراثه ولم يعطيا الزوجة والبنات شيئا. فجاءت أم كحة إلى الرسول فشكت إليه أمرها. فدعاهما رسول الله، فقالا : إن الميراث لمن يقاتل العدو ويكسب. فنزلت هذه الآية، ثم نزل تفصيل الميراث في الآيات التي بعدها.
والمعنى أنه : إذا ترك الولدان أو الأقربون مالاً فإنه ينقسم، للرجال نصيب منه، وللنساء نصيب، سواء أكان الوارث صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، ومهما كان المال الموروث قليلا أو كثيرا. وهذا الآية عامة فصّلتها الآيتان ١١ و١٢ بعد قليل.
روى عبد الرزاق في مصنفه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشةُ حية، فلم يدعْ مسكيناً ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه. وتلا هذه الآية :
﴿ وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى.... ﴾
تذكّروا أيها الأوصياء، ذريتكم الضعاف من بعدكم، وكيف يكون حالهم بعد موتكم فعامِلوا اليتامى تحت وصياتكم بمثل ما تريدون أن يعامَل أبناؤكم. اتقوا الله في اليتامى وكلِّموهم برفق ولين كما تكلِّمون أولادكم.
كذلك ليخشَ الذين يوصون من أموالهم للفقراء أن يتركوا شيئاً لأولادهم، وعلى من يحضرون عند مريض يريد أن يوصي بشيء من أمواله أن ينصحوه بأن يوصي بقسم قليل ويترك لورثته الباقي خشية حاجتهم من بعده.
روى البخاري أن سعد بن أبي وقاص أراد أن يوصي بنصف ماله من بعده للفقراء، فنصحه النبي أن يوصي بالثلث وقال له :«إن الثلث أيضا كثير. وإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس ». الحديث.
﴿ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ.... ﴾ هنا عاد سبحانه وتعالى إلى التحذير بشدة من أكل أموال اليتامى فقال : إن الذين يظلمون اليتامى بأخذ أموالهم في غير حق، إنما يأكلون في بطونهم النار التي سوف يتعذبون بها يوم القيامة.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم :«وسيصلون » بضم الياء، والباقون بفتحها.
كانت أسباب الميراث في الجاهلية ثلاثة :
( ١ ) النسب : وهو ألا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو، وليس للمرأة والأطفال ميراث.
( ٢ ) التبني : كان الرجل يتبنى ولدا من الأولاد فيكون له الميراث كاملا.
( ٣ ) الحلف والعهد : فقد كان الرجل يحالف رجلاً آخر ويقول له : دمي دمُك، وهدمي هدمك، وترثني، وأرثك، وتُطلب بي وأُطلب بك. فإذا فعلا ذلك يرث الحي منهم الميت. ومعنى هدْمي هدْمك ( يجوز فتح الدال ) : إن طُلب دمك فقد طلب دمي.
فلما جاء الإسلام أقرّ الأول والثالث فقط، وجعل الميراث للصغير والكبير على حد سواء، وورّث المرأة. وقد أقر الثالث بقوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون ﴾، كما أبطل التبني بحكم ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾.
فنظام الميراث الذي بينه القرآن نظام عادل معقول، اعترف بذلك عظماء علماء القانون في أوروبا. وقد اتبع فيه الإسلام النظم الآتية :
جعل التوريث بتنظيم الشارع لا بإرادة المالك. وجعل للمالك حرية الوصية من ثلث ماله، وفي ذلك عدالة عظمى، وتوزيع مستقيم.
جعل للشارع توزيع بقية الثلثين للأقرب فالأقرب، من غير تفرقةٍ بين صغير وكبير، فكان الأولاد أكثر حظاً من غيرهم في الميراث، لأنهم امتداد لشخص المالك. ويشاركهم في ذلك الأبوان والجدة والجد، لكن نصيبهم أقل من الأولاد. وذلك لأن الأولاد محتاجون أكثر من الأبوين والجدّين.. فهم مقبلون على الحياة، فيما الآباء و الأجداد مدْبرون عنها. وتلك حكمة بالغة.
جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، ليحفظ التوازن بين أعباء الرجل وأعباء الأنثى في التكوين العائلي. فالرجل يتزوج امرأة ويكلَّف بإعالتها هي وأبنائها منه، كما أنه مكلف أيضا بإخوانه ووالدته وغيرهما من الأرحام.
أما المرأة فإنها تقوم بنفسها فقط. والقاعدة تقول :«الغُنم بالغرم »، ومن ثم يبدو التناسق في التكوين العائلي والتوزيع الحكيم في النظام الإسلامي.
يتجه الشرع الإسلامي في توزيعه للتركة إلى التوزيع دون التجميع، فهو لم يجعلها للولد البكر كما في النظام الانجليزي، ولا من نصيب الأولاد دون البنات، ولم يحرم أحداً من الأقارب، فالميراث في الإسلام يمتد إلى ما يقارب القبيلة. وقاعدته : الأقربُ فالأقرب. وقد كرّم المرأة فورّثها وحفظ حقوقها. ثم إنه لم يمنع قرابة المرأة من الميراث، بل ورّث القرابة التي يكون من جانبها، كما ورث التي تكون من جانب الأب، فالإخوة والأخوات لأمٍ يأخذون عندما يأخذ الأشقاء. وفي بعض الحالات يأخذ أولاد الأخ ويأخذ الإخوة والأخوات.
وهذا تكريم للأمومة لا شك فيه واعتراف بقرابتها.
التفسير :
﴿ يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ... الآية ﴾ يأمركم الله تعالى في شأن توريث أولادكم أن يكون : للذَّكر مثلُ حظ الأنثَيين. وإذا كان المولود أنثى واحدة فنصيبها النصف، والباقي لأقارب المتوفى، وإذا انعدم الأقارب رُدَّت التركة إلى بيت المسلمين.
وإذا كانت الوارثات بنتَين فأكثر فمن حقهن أن يأخذن ثلثي التركة، ويكون الباقي للأقارب أو بيت المال. ولا يرث الكافر، ولا القاتل عمدا، ولا العبد الرقيق.
وعند الشيعة الأمامية : تأخذ البنت أو البنتان فأكثر جميع التركة، ونصيب كل من الأبوين السدس إذا كان الميت له ولد. وإذا كان لم يخلّف الميت أولادا وورثه أبواه أخذت الأم الثلث وكان الباقي للأب.
وإذا مات الميت وترك أباً وأماً وعددا من الإخوة فلأُمه السدس والباقي للأب، إذ أن الإخوة يحجبون الأم وينقصون ميراثها ولا يرثون. وقال ابن عباس : يأخذون السدس، ولكن هذا مخالف للجمهور.
وكل هذه القسمة من بعد تنفيذ الوصية إذا أوصى الفقيد، ومن بعد سداد الدَّين إذا وُجد، والدَّين مقدَّم على الوصية بإجماع العلماء.
هذه فريضة من الله يجب إتباعها، أما أنتم فلا تدرون أي الفريقين أقرب لكم نفعاً : آباؤكم أو أبناؤكم، فلا تجرموا أحدا ممن له نصيب من التركة. فالله هو العليم بمصالحكم الحكيم فيما فرض عليكم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «فلإمه » بكسر الهمزة. وهي الآن لغة بعض البلاد الشامية.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر «يوصى » بفتح الصاد.
ونصيب الزوجة أو الزوجات، من زوجهنّ الرُّبع إذا لم يكن له ولد، فإن كان له منهن أو من غيرهن ولد، فللزوجة أو الزوجات الثمن. وولد الولد كالولد فيما تقدم. وكل هذه القسمة من بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدَّين.
وبعد أن بيّن سبحانه وتعالى حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة، شرع يبين من يتصل به بالواسطة، وهو الكلالة، فقال :
﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً... ﴾، وإن كان الميت رجلا أو امرأة يورَث كلالة، أي ليس له ولد ولا والد ولا أم، وترك أخاً لأم أو أختا لأم، فنصيب كل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث للذَّكر مثل الأنثى، من بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدَّين إن وُجد.
وفي كل ما تقدم يجب أن تكون الوصية من ثلث الميراث فقط لا تزيد عليه، حتى لا تضر الورثة. وقلنا هنا إن الأخ والأخوات لأم، لأن الإخوة الأشقاء سيأتي حكمهم في آخر السورة.
والوصية مستحسنة، وقد قال علي بن أبي طالب : لأن أُوصي بالخمس أحبّ إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إلي من أن أوصي بالثلث.
فالزموا أيها المؤمنون، ما وصاكم الله به، فإنه عليم بما ينفعكم، حليم لا يعاجل الجائر بالعقوبة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر وابن عباس عن عاصم «يوصى » بفتح الصاد.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر «ندخله » بالنون.
كانت الآيات السابقة تعالج تنظيم حياة المجتمع الإسلامي، فعُنيتْ بحقوق اليتامى والسفهاء المالية، كما عنيت بحقوق النساء وشؤون الميراث، فأبطلتْ ما كان عليه أهل الجاهلية في توزيع الميراث وبينت القسمة العادلة بياناً شافيا.
أما هذه الآية فإنها تعالج حياة المجتمع المسلم، وتطهيره من الفاحشة التي كانت متفشية في أهل الجاهلية. وكان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بشهادة أربعة رجال حُبست في بيتها فلا تخرج منه حتى تموت. وهو ما تحكم به هذه الآية. لكنه لم يستمر فقد جاء تفصيل الحكم لاحقا في سورة النور وفي الأحاديث الصحيحة.
واللاتي يأتين الزنا من نسائكم، بعد ثبوته عليهن بحق، فاحبسوهن أيها المؤمنون، في البيوت وامنعوهن من الخروج إلى أن يتوفاهن الله ﴿ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً ﴾ أي : يفتح لهن طريقاً مستقيما للحياة، بالزواج أو التوبة.
قال ابن عباس : هذا كان الحكم لهذه الفاحشة ثم أبدله الله في سورة النور وجعله الجَلْد.
وقال بعض المفسرين أن المراد باللاتي في أول الآية : من يأتين المساحقة، والمراد باللذان : من يأتيان اللواطة ثم عدلت العقوبة بعد ذلك.
قراءات :
قرأ ابن كثير «واللذان » بتشديد النون.
الفاحشة : الفعلة الشنيعة.
مبينة : ظاهرة، مفضوحة.
المعروف : ما تألفه الطباع.
روى البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم أنه كان إذا مات الرجل في الجاهلية كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوّجوها لمن يشاؤون، وإن شاؤوا لم يزوجوها أبدا. كانوا هم أحق بها من أهلها.. فنزلت هذه الآية. ومن بعض عادات الجاهلية الممقوتة أن كان الرجل إذا مات أبوه عن زوجة غير أُمه فرض عليها زواجها منه، من غير عقد جديد. وكان إذا طلق امرأته وقد دخل بها فإنه يسترد كلَّ ما أعطاها من مهر سابق. ومنهم من كان يطلقها ويعمل على منعها من الزواح بغيره ظلماً وعدوانا.. فجاء الإسلام ورفع عنها ظُلم العضل، وهو من المرأة من الزواج بمن تريد، أو إيذاؤها لحملها على طلب الطلاق لقاءَ مال تدفعه إلى الزوج.
كذلك كان من الجائز عندهم أن يتزوج الرجل مطلقة أبيه، فنهى الإسلام عنه، وسماه مقتا، لأنه أمر فاحش القبح.
يا أيها المؤمنون، لا يحلّ لكم أن تسيروا على سنة الجاهلية فتجعلوا النساء كالمتاع، وترثونهنّ كما ترثون الأموال والعبيد، وتتصرفون فيهن كما تشاؤون، تتخذونهن زوجات من غير مهر، كرهاً. ولا تظلموهن بالتضييق عليهن حتى يفتدين أنفسهن منكم بالمال الذي دفعتُموه لهن من مهور، أو ما حصلن عليه من ميراث.
﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ﴾ إلا أن يرتكبن إثماً بيناً بزنىً، أو بنشوز أو سوء خلق، فعند ذلك لكم أن تضيّقوا عليهن أو تأخذوا بعض ما آتيتموهن عند الفراق.
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف ﴾ عليكم أن تحسنوا معاشرة النساء، فتدخلوا عليهن السرور بالقول والعمل. والزواج شركة يجب أن يكون فيها كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وهناءته ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً... ﴾ الآية. فالزواج مبنيّ على المودة والرحمة في الإسلام.
﴿ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ... ﴾ لِعَيْبٍ في أخلاقهن أو خَلْقهن، أو لتقصير في العمل والواجب عليهن كخدمة البيت وغير ذلك ؛ أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا و لاتَعْجلوا بمضارتّهنّ ولا مفارقتهن، عسى أن يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«كرها » بالضم وهما لغتان كَرها وكُرها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة » بفتح الياء، هنا وفي سورة الأحزاب وسورة الطلاق.
بهتانا : ظلما، وأصل البهتان الكذبُ الذي يبهت المكذوب عليه.
وإذا رغبتم أيها الأزواج، في استبدال زوجة مكان أخرى وأعطيتم الأولى مالاً كثيراً، فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا.. أتأخذونه ظالمين ! إن ذلك إثمٌ وبهتان عظيم.
الميثاق : العهد. الغليظ : الشديد المؤكد.
وكيف يسوغ لكم أن تستردوا ما أعطيتم من المهر، بعد أن تأكدت بينكم الرابطة الزوجية المقدسة، ولابَسَ كل منكما الآخر حتى صار بمنزلة الجزء المتمم لوجوده !
﴿ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ بهذه العبارة الهائلة يختم الله تعالى هذا الآيات فيُفرغ على عقد الزواج صبغة كريمة جعلته فوق عقود البيع والإجارة والتمليك. فتعبير «ميثاقا غليظا » الذي يعني : شديداً مؤكداً، له قيمته في الإيحاء بموجبات الحفظ والمودة. والزواج في عرف الشرع عهد شريف ترتبط به القلوب، وتختلط به المصالح :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ [ البقرة : ١٨٧ ].
وكلمة الميثاق لم تَرِدْ في القرآن الكريم إلا تعبيرا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد، والتزام الأحكام، وما بين الدولة والدولة من الشئون العامة الخطيرة، ثم على عقد الزواج. ومن هذا ندرك مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج إليها.
مقتا : مبغوضا.
ساء سبيلا : بئس العادة.
لا تتزوجوا أيها الأبناء، ما تزوج آباؤكم من النساء، فإنه أمر فاحش يمقته الله والناس. وكان هذا النكاح فاشيا في الجاهلية. فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال : لما مات قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث بنكاح امرأته، ولم ينفق عليها، ولم يورّثها من المال شيئا. فأتت النبي عليه السلام فذكرت له ذلك، فنزلت آية ﴿ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً... ﴾ الخ، وهذه الآية :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ... ﴾ وهو أسوأ سبيلٍ فتجنّبوه، لكن الله يعفو عما سلف منكم في الجاهلية.
بعد ذلك بيّن الشارع أنواع المحرمات.
ثم يأتي القسم الثاني، وهو ما حُرم من جهة الرضاعة. وهذا النوع من خصائص الإسلام، فلا يوجد مثله في شريعة أخرى من الشرائع. وهنّ الأمهات اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة. وعند مالك وأبي حنيفة يحرم قليل الرضاعة وكثيرها، وحدد بعضُهم الرضاعة بثلاث رضعات فأكثر. ومذهب الشافعي وأحمد خمسُ رضعات مشبعات. وعند الإمامية خمس عشرة رضعة، وبعضهم يقول عشر رضعات، ويشترط أن يكون وقت الرضاعة في مدة الرضاعة، يعني في سن الحولَين.
وأخيرا يأتي القسم الثالث، وهو محرّمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج. وهي أربعة أنواع : أمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن عقد عقده على امرأة ولم يدخل بها لا تحرم عليه بناتها. وزوجات أولادكم وأولادِهم. وحرم عليكم الجمع بين الأُختين، وبين المرأة وعمتها وخالتها، والضابط بذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة بحيث لو كانت إحداهما ذكراً لحرم عليه بتلك القرابة نكاح الأخرى.
أما ما قد مضى في الجاهلية فإن الله لا يؤاخذكم عليه إن الله كان غفورا رحيما.
ما ملكت أيمانكم : ما سبيتموهن في الحروب.
ما وراء ذلك : ما سوى ذلك.
محصنين : عفيفين.
غير مسافحين : المسافحة هي الزنى.
وبالإضافة إلى ما سبق حُرم عليكم نكاح المتزوجات عامة إلا مَن سَبيتم وملكتم منهم في حرب بينكم وبين الكفار. إن عقد زواجهن السابق ينفسخ بالسبي فيصِرن حلالاً لكم بعد استبراء أرحامهن، هذا ما كتب عليكم تحريمه فرضاً مؤكداً من عند الله.
وأحلّ الله لكم ما وراء ذلك من النساء، تتزوجون بأموالكم منهن من تشاؤون، محصِنين أنفسكم، بعيدين عن الزنا والمخادعة. وأيّ امرأة من النساء اللاتي أُحللن لكم فاستمتعتم بالزواج منها، فأعطوها مهرها الذي اتفقتم عليه عند العقد. ذلك فريضة من الله فرضها عليكم لا تسامح فيها ؟. بيد أنه لا حرج عليكم فيما إذا تراضيتم على النقص في المهر بعد تقديره، أو تركه كله، أو الزيادة فيه.
إن ذلك عائد للزوجين إذا ما تفاهما وعاشا في مودة و طمأنينة. وهذا ما يبغيه الشارع الحكيم.
وقد تمسّك الشيعة الإمامية بقوله تعالى ﴿ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ وقالوا أن المراد بذلك هو المتعة، وهي الزواج المؤقت. كما قالوا : إن هذا دليل واضح. ولا تزال المتعة قائمة عندهم، معمولاً بها. يقول الطَّبَرْسي، وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية في تفسيره «مجمع البيان » عند هذه الآية :«قيل المرادُ به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معين إلى أجل معلوم، عن ابن عباس والسدّي وجماعة من التابعين، وهو مذهب أصحابنا الإمامية الخ »، وكذلك يقول شيخ الطائفة العلاّمة أبو جعفر محمد بن الحسن الطُّوسي في تفسيره «التبيان ».
ويقول ابن رشد في «بداية المجتهد » :«وأما نكاح المتعة فإنه تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه، إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم... وأكثرُ الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، واشتهر عن ابن عباس تحليلها، وروَوا أنه كان يحتج لذلك بقوله تعالى ﴿ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ... ﴾ الآية وفي قراءة عنه ﴿ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ... ﴾ الخ.
وهذا الذي روي عن ابن عباس، رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار.
وعن عطاء، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : تمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصفٍ من خلافة عمر ثم نهى عنها عمرُ الناسَ ».
قراءات :
قرأ الكسائي :«المحصنات » بكسر الصاد في جميع القرآن، بمعنى أحصنّ فروجهن. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «وأُحِلّ لكم » بضم الهمزة وكسر الحاء كما هو في المصحف هنا، والباقون قرأوا «وأحل لكم » بفتح الهمزة والحاء.
المحصنات : الحرائر.
الفتيات : الإماء.
مسافحات : مستأجَرات للبغاء، وكان ذلك فاشيا في الجاهلية.
والأخدان : واحدُها خِدْن، وهو الصاحب تتخذه المرأة سراً كما كان في الجاهلية. العنت : المشقة.
ومن لم يستطع منكم نكاح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته المادية على ذلك فَلَهُ أن يتزوج أَمَة من الإماء المؤمنات. والله أعلم بحقيقة إيمانكم فلا تستنكفوا من نكاحهن. فأنتم وهنّ سواء في الدين بعضكم من بعض. فإذا رغبتم في نكاحهن فتزوجوهن بإذن أصحابهن، وأدّوا لهن مهورهن التي تفرضونها لهن، حسب المعروف بينكم في توفية الحق ومهر المثل. واختاروهن عفيفات وزوجات لكم، لا مستأجَرات للبغاء جهراً، ولا متخذاتٍ العشّاق والأصحاب سراً. فإذا اقترفن الزنا بعد زواجهن فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة.
﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ... ﴾ وما إباحة نكاح الإماء عند العجز عن الحرائر لمن خشي الضرر على نفسه إلا تسهيل من الله لكم ورفعٌ للحرج. هذا، وصبرُكم على نكاح المملوكات مع العفة خير لكم، والله كثير المغفرة عظيم الرحمة.
قراءات :
قرأ أبو بكر وحمزة «فإذا أحصنّ » بفتح الهمزة والصاد، والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد.
ولا ريب أن الأموال هنا تشمل أموال الأفراد وأموال الأمة لأنه تعالى قال :﴿ وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ ﴾ بمعنى أنه يحرم على الأفراد أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل. ومن ثم فإن أكل أموال الأمة أو وضعها في غير مصلحتها لهو أشد حرمة عند الله، وأكبر جرماً في نظر الإنسانية. لذلك يجب أن نحافظ على أموال الأمة والدولة كما نحافظ على أموال الأفراد.
يا أيها الذين آمنوا لا يأخذ بعضكم مال بعض بغير حق، وقال ( أموالكم ) فأضافها إلى جميع الأمة، تنبيهاً إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل فرد هو مال الأمة جميعا. فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل : كالربا والقمار، والرشوة والسرقة، والغش والتسول، وغير ذلك فقد أباح لغيره أن يأكل ماله.
لقد أباح لكم التجارة بينكم عن طريق التراضي، والعملَ الحِرفي في نواح عديدة من الكسب الحلال. ثم لما كان المال شقيق الروح، فقد نُهينا عن إتلافه بالباطل كَنهْيِنا عن قتل النفس. ﴿ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ ﴾. وهذه إشارة بليغة جداً تُبيّن أنه : لمّا كان من شأن أكل أموال الناس بالباطل أن يغرس الحقد في القلوب، وكثيرا ما يؤدي ذلك إلى القتل والشر، فقد قرنهما الشارع وجاء بهذا التعبير العظيم. ولا ريب في أن من سلب مال إنسان إنما سلبه عنصراً هاماً من عناصر الحياة وصيّره في حكم المقتول. ﴿ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل أنفسكم فتهلكون.
نكفّر : نمحو، ونغفر، ونعفو.
إن تتركوا عمل الذنوب العظيمة وتبتعدوا عنها نمحُ عنكم ما دونها من السيئات وصغائر الذنوب، فلا نؤاخذكم بها.
وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا : ما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، والسِّحر، وأكل ما اليتيم، وأكل الربا، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنَات المؤمنات الغافلات ».
وقد وردت أحاديث كثيرة بتعداد الكبائر، وهي في بعضها سبع، وبعضها تسع، والحقيقة أنه لا حصر لها.
وقال بعض العلماء : كل ذنب رتّب عليه الشارع حداً أو صرّح فيه بوعيد فهو كبيرة.
وفي هذا الآية الكريمة فرَجٌ كبير على المسلمين، والعلماء يقولون : لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.
قراءات :
قرأ نافع :«مدخلاً » بفتح الميم.
من فضله : من إحسانه ونعمه المتكاثرة.
في هذه الآية الكريمة ينهى الله تعالى عن التحاسد وتمنّي ما فضّل الله به بعض الناس من المال والجاه ونحوه، مما يجري فيه التنافس. وذلك ليطهُر المجتمع الإسلامي ظاهراً وباطناً.
إن الله كلفّ كلاً من الرجال والنساء أعمالاً، وليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر، فعلى المسلم الحقيقي أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه، مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه. واسألوا إحسانه وإنعامه فإن خزائنه مملوءة لا تنفد، ولا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فُضل عليكم.
وقد روى الترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله «سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحبّ أن يُسأل، وأفضلُ العبادة انتظارُ الفَرج ».
قراءات :
قرأ ابن كثير والكسائي «وسلوا ».
الذين عقدت أيمانكم : الأزواج، فإن كلاً من الزوجين له حق الإرث بالعقد.
ولكل من الرجال والنساء جعلنا مستحقين لتركتهم يرثونهم، وهم الوالدان والأقربون من الأصول والفروع والحواشي والأزواج، والذين عَقَدَ المتوفى لهم عقداً مقتضاه أن يرثوه إذا مات من غير قرابة، وينصروه إذا احتاج إلى نصرتهم في مقابل ذلك. وكان هؤلاء أربعة أنواع :
الأول : عقد ولاء العتق، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق بعد عتقه بمنزلة العضو في أسرة معتقِه، إذا مات ولم يترك أحدا من عصبته.
الثاني : عقد الموالاة، وهو أن يأتي غير العربي فيرتبط بعقد مع عربي فيصبح بمنزلة عضو في أُسرة مولاه. وهذا يرثه إذا مات بدون وارث.
الثالث : العقد الذي عقده الرسول بين المهاجرين والأنصار وكانوا بذلك العقد يتوارثون.
الرابع : كأن يعاقد الرجلُ الرجلَ ويقول :«ترثني وأرثك ». ثم أبطل الإسلام معظم هذه العقود وجعل الميراث سببه القرابة.
قراءات :
قرأ غير الكوفيّين :﴿ عاقدت أيمانكم ﴾.
قانتات : عابدات بخضوع وسكون.
نشوزهن : عصيانهن، وترفّعهن على أزواجهن.
البغي : الظلم.
في هذا الآية الكريمة تنظيم لشئون الأُسرة، وتحديد اختصاص أعضائها. فللرجال حق الصيانة والرعاية للنساء والقيام بشؤونهن، كي يمكن المرأة أن تقوم بوظيفتها الفطرية وهي الحمل وتربية الأطفال وهي آمنة مكفيّة ما يهمّها من أمور أرزاقها وحاجاتها.
ثم فصّل حال النساء في الحياة المنزلية وبين أنهن قسمان : فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج حافظات لما يجري بينهن وبينهم في الشؤون الخاصة بالزوجية، وكذلك بحفظ بيوتهن وأموال أزواجهن، خضوعاً لأمر الله في ذلك. والذي يُرزق واحدة منهن يعيش في نعيم مقيم.
والقسم الثاني : الزوجات اللاتي تظهر منهن بوادر العصيان والترفع، وتخافون ألاّ يقمن بحقوق الزوجية، فانصحوهن بالقول الليّن المؤثر واعتزِلوهن في الفراش. وإذا لم ينفع ذلك كله عاقبوهن بضرب خفيف غير مبرّح، فإن رجعن إلى طاعتكم فلا تبغوا عليهِنَّ ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيره.
﴿ إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ﴾ إن سلطان الله عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم.
كان الحديث في الآية السابقة عما إذا كان الخلاف من الزوجة فقط، لكنه هنا فيما إذا كان من أحد الزوجين. ومنطوق الآية الكريمة يحرص على التوفيق ولذلك قال :﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ ﴾. فإن حدث خلاف بين الزوجين فقد يكون بسبب نشوز المرأة وقد يكون بسبب ظلم الرجل، فإن تأزَّم الموقف وجب على أقاربهما أن ينتدبوا حكما من أهل الزوج، وحكما من أهل الزوجة، فإن لم يوجد من أقاربهما، فمن عقلاء المسلمين. وعلى الحكَمين أن يجتهدا في تقريب وجهة النظر بين الزوجين ويذكّراهما أن الحياة الزوجية مبنية على الرفق والمودة. ومتى صدقت الإرادة وصحّت العزيمة فإن الله كفيل بالتوفيق. إن الله شرع لكم هذه الأحكام وهو عليم بأحوال العباد وأخلاقهم، خبير بما يقع بينهم، لا يخفى عليه شيء.
الجار ذي القربى : الذي قُرب جواره.
الجار الجنب : الجار الذي لا قرابة له، أو البعيد.
الصاحب بالجنب : الرفيق في السفر، أو المنقطع إليك.
ابن السبيل : المسافر أو الضعيف.
ما ملكت أيمانكم : الأرقاء العبيد.
بعد أن عالجت السورة أمر الأيتام والنساء والميراث وحفظ الأموال وتنظيم الأسرة، جاء التذكير هنا بحسن معاملة الخالق، ثم التذكير بحسن معاملة الناس. فالسورةُ تأمر بأساس الفضائل التي تهذّب النفس وهي عبادة الله والإخلاص له، كما تأمر بالإحسان في معاملة الناس، وتخص بالذكر طوائف من الناس، الإحسانُ إليها إحسان إلى النفس والأسرة وإلى الإنسانية كلها. بذلك تضع للمسلمين أساس الضمان الجماعي، والتكافل الحقيقي بينهم.
اعبدوا الله وحده ولا تشركوا معه أحدا، وأحسِنوا إلى الوالدين إحساناً لا تقصير فيه، لأنهما السبب الظاهر في وجودكم، وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإلى اليتامى، وإلى المساكين الذين افتقروا بسبب عجزهم أو بذهاب الكوارث بأموالهم، وإلى الجيران سواء منهم القريب أو البعيد. وقد وردت أحاديث كثيرة تحض على الإحسان إلى الجار مهما كان دينه أو جنسه، فقد عاد النبي ابن جاره اليهودي، وذبح ابن عمر شاةً فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي ؟....
وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإسلام، وزاده الإسلام توكيداً بما جاء في الكتاب والسنة. من إكرامه إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة ونحو ذلك. وهناك حديث الصحيحين المشهور :«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه ».
والصاحب بالجنب هو الرفيق في السَّفَر، وابن السبيل هو المسافر المحتاج، وما ملكتم من الأرقاء، كل هؤلاء تجب معاملتهم بالحسنى.. فاللهُ لا يحب من كان متكبراً متعالياً على الناس لا تأخذه بهم رحمة. وفي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال رسول الله :«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْرٍ » فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا وفعله حسنا، فقال الرسول الكريم :«إن الله جميل يحب الجمال ».
رئاء الناس : للمراءاة والفخر.
القرين : الصاحب.
هذه الآية الكريمة تبين هنا أن التقصير في الحق الاجتماعي شأنُ المختالين المتكبرين. وهم الذين يظهر أثر كِبرهم في عملهم، وفي أقوالهم. ومثلُ هؤلاء لا يعترفون بحق للغير على أنفسهم. وقد جعلهم الله صنفين من طبيعة كل منهما ألا يعترف لله بشكر على نعمةٍ، ولا للخلق بحق عليه، فهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويخفون نعمة الله عليهم فلا ينفعون أنفسهم ولا الناس. هذا ما كان يفعله جماعة من اليهود، يأتون رجالاً من الأنصار فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم، فنحن نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون.
﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ وهيأنا لهؤلاء عذابا يهينُهم ويذهلهم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«ويأمرون الناس بالبخل » بفتح الباء والخاء. وهي لغة.
وحسْب هذين الصنفين من البشر تسجيل القرآن الكريم عليهم أن قرينهم الشيطان منبع الشر والمغري بالفساد، ﴿ وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً ﴾ وبئس الصاحب.
من لدنه : من عنده.
إن الله تعالى لا ينقُص أحداً من أجر عمله والجزاءِ عليه شيئاً ما، حتى وإن صغُر كذرّة الهباء. يضاعف للمحسن ثَواب حسناته، ويعطي من فضله عطاء كبيرا، أضعافا مضاعفة، بدون حساب. إن الظلم لا يقع من الله تعالى، لأنه من النقص الذي يتنزه عنه، وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع «حسنة » بالرفع. وقرأ ابن كثير و ابن عامر ويعقوب «يضعفها » بالتشديد. والمعنى واحد.
لو تسوَّى بهم الأرض : أن يدفنوا وتسوى عليهم الأرض.
ثم يختم سبحانه وتعالى الأوامر والنواهي المتقدمة بمشهد من مشاهد القيامة، ويحسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة متحركة فيقول :
فكيف يكون حال هؤلاء البخلاء المتكبّرين والمعرِضين عما أمر الله به، إذا جئنا يوم القيامة بكل نبيّ شهيداً على قومه، وجئنا بك يا محمد، شهيدا على قومك أيضاً ؟.
﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ﴾ فإنهم يتمنّون أن يكون ترابا، ولا يكونوا قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكارهم شِركهم وضلالهم، كما وضَح ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام.. ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ. ﴾
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «تَسْوى » بفتح التاء والسين المخففة. وقرأ نافع وابن عامر «تسوى » بفتح التاء وتشديد السين والواو المفتوحتين. والباقون «تسوى » كما هو هنا بضم التاء.
لامستم النساء : جامعتم.
تَيمّموا : اقصدوا.
الصعيد : وجه الأرض.
هذه هي الآية الثانية التي تنزل في الخمر، فقد كانت الخمر متفشّية في المجتمع الجاهلي، فنزل تحريمها تدريجيا. وهناك روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية، فمنها ما رواه أبو داود والترمذي عن علي بن أبي طالب قال :«صنع لنا عبدُ الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذتْ منّا. وحضرت الصلاةُ فقدَّموني فقرأتُ ﴿ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون ﴾ فنزلت الآية، ومعناها : يا أيها الذين آمنوا، لا تصلّوا وأنتم في حال السُّكر الذي لا يَدري معه المصلّي ما يقول. فالصلاة وقوفٌ بين يدي الله، فيجب أن يكون المصلّي صاحياً ليتدبر القرآن والذِكر فيما يقول. ثم قال :﴿ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾، أي : لا تصلُّوا وأنتم جُنب، ولا تدخلوا المساجدَ وأنتم جُنُبٌ إلا عابري الطريق، حتى تطَّهَّروا. ولما كانت الصلاة فريضةً موقوتة يجب تأديتها في وقتها، وكان الاغتسال من الجنابة يتيسَّر في بعض الحالات ويتعذر في بعضها الآخر فقد رخَّص الله ترك استعمال الماء والاستعاضةَ عن الماء بالتيمم، فقال ما معناه :
وإن كنتم مرضى لا تستطيعون استعمال الماء، خشيةَ زيادة المرض أو تأخير البُرء، أو مسافرين يشقّ عليكم وجودُ الماء فاقصدوا الصعيدَ الطيب، وهو كلُّ ما على الأرض، فلو لمس حجراً كفاه عند بعض الأئمة. وكذلك إذا قضى أحدُكم حاجتَه، أو باشرتم النساء ولم تجدوا ماءً، فعليكم بالتراب : اضربوا به أيديَكم وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا إن الله يحب التيسير على عباده.
ومذهبُ الإمام محمد عبده في تفسير :«وإن كنتم مرضى أو على سفر » أن السفر عذرٌ يبيح التيمُّم، وُجد الماء أو غاب، وذلك لأن الآية صريحة بذلك. ومثله قال حسن صدّيق خان في تفسير هذه الآية وهذا نص كلامه :«المعنى أن حُكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكْم المحدِث حدثاً أصغر أو ملامسِ النساء ولم يجد الماء، فعلى كل هؤلاء التيمم ».
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «لمستم النساء ».
اسمع غير مسمع : اسمع غير مجاب إلى ما تدعوا إليه.
راعنا : انظُرنا، وهي توافق كلمة سبٍّ في لغتهم.
أقوم : أعدل.
من اليهود فريق يحرّفون الكلام عن معناه بالتأويل أو الحذف أو التبديل، وهو أمر أجمعَ عليه أهل النظر من الغربيين. يقول مارتن لوثر في كتابه : اليهود وأكاذيبهم «هؤلاء الكذّابون الحقيقيون مصاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس من الدفة إلى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم ».
فتحريف التوراة حاصل باعتراف النصارى أنفسهم، ولذلك عندما يقول القرآن شيئاً فإنه يكون حقاً لا شُبهة فيه.
ويقول اليهود في أنفسهم للنبيّ الكريم : سمعنا بالقول وعصَينا الأمر. ويقولون اسمعْ كلامنا -لا سمعتَ دعاء - يدعون بذلك على النبي. ويقولون ( اسمع غير مسمَع ) فيسوقون اللفظ ومرادُهم الدعاءُ عليه، ويوهمون أن مرادهم الدعاء له ويقولون، راعِنا، يلوون بها ألسنتَهم يوهمون أنهم يريدون «انظُرنا » فيُظهرون أنهم يطلبون رعايته ويُبْطنون وصفه بالرعونة لمجرد السبّ والشتم.
ولو أنهم استقاموا وقالوا ( سمعنا وأطعنا ) بدل قولهم ( سمعنا وعصينا )، وقالوا ( اسمَع ) دون أن يقولوا ( غير مسمَع )، وقالوا ( انظُرنا ) بدل ( راعِنا )- لكان ذلك خيراً لهم وأصوبَ، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة، ولكن الله طردهم من رحمته بإعراضهم عنه، فلا تجدُ منهم من يستجيبون لداعي الإيمان إلا عدداً قليلا.
وصدق الله. فلم يدخل في الإسلام على مر القرون إلا قليل من اليهود، ممن قَسَم الله لهم الخير، وأراد الهدى. أما أغلبهم فقد ظلّوا حرباً على الإسلام والمسلمين، منذ كانوا في المدينة إلى يومنا الحاضر. هذا مع أنهم لم يجدوا أمةً تحفظهم وتصون حقوقهم كالمسلمين. ولم يعيشوا في أمانٍ إلا في ظِل الإسلام ولا يزالون كذلك حتى الآن في كثير من البلاد الإسلامية.
الطمس : إزالة الأثر بمحوهِ أو إخفائه. ومنه الطمس على الأموال في قوله تعالى ﴿ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي أهلكها وأزِلها، والطمس على الأعينِ محوُ نورها، ﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ ﴾ [ يس : ٦٦ ].
يا أيها الذين أوتوا الكتاب، والمقصودُ اليهودُ الذين كانوا حوالي المدينة، والخِطابُ عام لجميع أهل الكتاب، آمِنوا بما أنزلنا من القرآن على محمد. فقد جاء مصدّقاً ومحققاً لما معكم، فآمِنوا به قبل أن يحلّ بكم العقاب الذي تُمْحَى به معالم وجوهكم، ونسلُبها وجاهتها، كما نعمّي عليكم السبل كما نبصّر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم. بذلك يكون سعيكم إلى غير الخير، أو نطردكم من رحمتنا كما لعنّا الذي خالفوا أمرنا بمزاولتهم الصيدَ يوم السبت، وكان قضاء الله نافذاً لا مردَ له.
في هذه الآية الكريمة تهديد كبير، وأمل عظيم ورجاء مفتوح..
تهديدٌ لمن يقترف جريمة الشِرك، فالله لا يغفر ذلك أبداً، لأن الشرك انقطاعُ ما بين الله والعباد، فلا يبقى لهم معه أمل في المغفرة..
وفيها أمل عظيم يفتح أبواب رحمته تعالى كلّها لما دونَ الشِرك من الذنوب، فكل ذلك يغفره الله، ما دام العبد يرجو مغفرته، ويؤمن أنه قادر على أن يغفر له. وهذا منتهى الأمر في تصوير الرحمة لا التي لا تنفَد ولا تحدّ.
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً ﴾ ومن يجعل لغير الله شِركة مع الله فقد اخترع ذنباً عظيم الضرر، تُستصغَر في جنب عظَمته جميع الذنوب والآثام، ومن ثم لا يستحق صاحبه الغفران.
الفتيل : ما يكون على نواة التمر مثل الخيط.
ألا تعجب يا محمد، من هؤلاء الذين يُثنون على أنفسهم ويقولون : نحن أبناء الله وأحبّاؤه ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً ! هذا ويضيف اليهود : إن ذنوبنا التي نعملها بالنهار تكفَّر عنَّا بالليل، وما أَشبه ذلك من الافتراء على الله. والحق أن الله وحده هو الذي يعلم الخبيث من الطيّب، فيزكْي من يشاء من عباده، لا اليهود ولا النصارى.
الطاغوت : كل باطل من معبود وغيره، والشيطان، والكاهن.
روي في سبب نزول هذه الآيات عدة روايات تدور كلها على كعب بن الأشرف وحيُيّ بن أخطب، وهما من زعماء وأحبار اليهود المناوئين للنبيّ والإسلام. وخلاصة روايات الطبري أن كعباً وحييَّ بن أخطب ذهبا في جماعة من الأحبار إلى مكة ليحالفوا قريشاً على حرب النبي، فأجابتهم قريش : أنتم أهل الكتاب وأنتم أقربُ إلى محمد. ونحن لا نأمن مكركم حتى تسجدوا لآلهتنا. ففعلوا، ثم سألتهم : أدينُ محمد خير أم ديننا ؟ فقال اليهود : بل دينكم، وأنتم أهدى منه وممن تبعه. فأنزل الله تعالى هذه الآيات. ومعناها :
ألم تر يا محمد، إلى اليهود الذين أوتوا حظاً من عِلم الكتاب يعظّمون غير الله بالعبادة فيسجدون للجبت والطاغوت، ثم يقولون للكفار إنهم أرشدُ طريقةً في الدين من الذين اتبعوا محمداً. كل ذلك يُرضوا المشركين ويحالفوهم ليحاربوا الإسلام.
ثم ينتقل سبحانه من توبيخهم على فِعلتهم المنكرة تلك إلى توبيخهم على حسَدهم وبُخلهم وأثَرتهم، فيقول :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك..... ﴾ فيما عجباً، إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده إذا لم يكن يهودياً ! فهل هم شركاؤه سبحانه، حتى يكون لهم نصيب في ملكه ! لو كان لهم ذلك لضنّوا وبخلوا أن يعطوا الناس نقيرا، وهو أتفهُ الأشياء وأقلها.
إنهم من جرّاء حسدهم للغير واغترارهم بأنفسهم يريدون أن يَضيقَ فضل الله بعباده، لذلك يستكثرون على العرب أن يبعث الله منهم رسولا، مع أنه آتى إبراهيم وآله الكتابَ والنبوَة والملُك، وهو أبوكم وأبو العرب.
نُصْليهم : نشويهم.
نضجت : احترقت.
يعرض سبحانه في هاتين الآيتين صورتين متقابلتين : فريق الذين كذّبوا بآيات الله ومآلهم النار وما يذوقون من العذاب، وفريق المؤمنين العاملين المصدّقين وما يجدونه في الآخرة من النعيم.
فقد أعدّ الله لمن جحد بهذه الحجج البينات التي أنزلها على أنبيائه ناراً حامية تشوي جلودهم. حتى إذا احترقت هذه وفقدتْ القدرة على الإحساس بدّلهم الله جلوداً غيرها ليستمر ألم العذاب. وقد نصّ الكتاب بشكل خاص على الجلود لأنها النهاية الخارجة لشبكة الأعصاب في الجسم، فهي التي تستقبل المؤثراتِ من ألم وحرارة وبرودة وغيرها. وقد بحث في ذلك الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا في كتابه ( الإسلام والطب الحديث ) بحثاً قيِّماً.
﴿ إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾. فهو عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء، وحكيم يعاقب من تقتضي الحكمة أن يتم عقابه، ولا يظلم ربك أحد. هذا فريق.
أما الفريق الآخر فهم الّذين آمنوا بالله وصدّقوا برسوله، وهؤلاء سيدخلون جناتٍ يتمتعون بنعيمها العظيم، ولهم فيها أزواجٌ مطهّرة من العيوب والأدناس، يُدخلن السرور إلى نفوسهم، فتكمل سعادتهم، ويقيمون في ظل ظليل من العيش الطيب.
العدل : إيصال الحق إلى صحابه.
بعد أن بين الله سبحانه الإرشادات الحكيمة التي يجب على الأمة أن تتخذها أساساً للحياة فيها، ذكر هنا ما يجب أن يؤسَّس عليه شأن الجماعة الإسلامية، فقرر أمرين لهما خطرهما في ذلك. وهما : أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل بين الناس، وكأنه يشير بهذا إلى أن الانتفاع بالإرشادات المتقدمة في الأُسرة والأموال لا يتحقق إلا على «أداء الأمانة » و «العدل ».
والأماناتُ كلمة عامة تشمل جميع الحقوق من مالية، وعملية، وعلمية، والحُكم بالعدل فيها هو القضاء بتلك الأمانات عند تعرضها للضياع. أما الحكم بالعدل عامة فيشمل ما كان عن طريق التولية، وما كان عن طريق التحكيم، كما يشمل ما بين المسلمين أنفسهم، وما بنيهم وبين غيرهم. وقد كثُر الحثّ في القرآن على العدل لأنه أساس الحياة. وعناصر العدل في الحكم هي فهمُ الحادثة من جميع جوانبها، ثم معرفة الحكم من مصدره التشريعي ثم تحرّي انطباق الحكْم على الحادثة. كل ذلك مع التسوية بين الخصوم في مجلس القضاء.
﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا ﴾
خطاب عام لجميع الناس وفي مقدّمتهم المؤمنون. وقد وردت عدة أحاديث في نزول هذه الآية منها قضية عثمان بن طلحة ووجوب ردِّ مفتاح الكعبة إليه. لكن، العبرةُ بعموم اللفظ. والمعنى :
أيها المؤمنون، إن الله يأمركم أن توصلوا جميع ما أنتم مؤتمنون عليه، وهو نفوسكم أولاً، وذلك أن تؤمنوا به إيمانا حقيقيا، تطيعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه، وتعملوا عملاً صالحا يرضاه.
هذه هي الأمانة الكبرى التي كُلّف الإنسان بحملها وتقاعست عن ذلك الجبال.. ومنها تنبثقُ سائر الأمانات التي يأمر الله بها أن تؤدَّى.
ثم أمانةُ العبد مع الناس. من ذلك ردُّ الودائع إلى أربابها، وعدم الغش، وحِفظ السر ونحو ذلك مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام. يدخل في ذلك عدل الحاكمين مع الرعية، بألاّ يستأثرون بثرواتها، ولا يتحكموا في رقابها، وأن يختاروا خير الناس لتولّي شئونهم. كما يدخل عدل العلماء مع الناس بأن يرشدوهم إلى دينهم الصحيح، ويعلّموهم الأعمال التي تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية وكسب الحلال، لا أن يتخذوا الدينَ تجارة يبيعون منه القراريط لقاء رضا الحكام وملء جيوبهم هم. ويدخل فيها كذلك أمانة الرجل مع زوجته في النفقة والعشرة، ومع أولاده وسائر أهل بيته المسئول عنهم.
ثمّ يدخل عدل الإنسان مع نفسه بأن يختار لها ما هو الأصلح فلا يُقدم على عمل يضرّه في دنياه أو آخرته، ويتجنب تعاطي الأشياء التي تضر بصحته ويبتعد ما أمكن عن جميع المغريات.
﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل ﴾.
هذا نص مطلق شامل، فإنه سبحانه يطلب منا إقامة العدل بين الناس جميعاً على اختلاف أديانهم وطبقاتهم، لا بين المسلمين فحسب.. لأن العدل هو أساس انتظام الحياة، وعلى ذلك فهو حق لكل إنسان من أي دينٍ أو جنس أو لون. هذا هو دستور الإسلام العظيم لا التستر على التمييز العنصري ولا تسخير الدين في خِدمة الحكام.
﴿ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ هذه موعظة من ربكم فاحرصوا عليها لأنه لا يوجد أحسن منها، إن الله دائماً سميع لما يقال، بصير بما يُفعل، وهو يعلم من أدّى الأمانة ومن خانها، ومن حكَم بالعدل أو جار، فيجازي كلاًّ بعمله. وفي هذا وعد للطائعين، ووعيد للعاصين.
«ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعَلِمَه الّذين يستبطونه منهم » وهذا صريح جداً في موضوع الاجتهاد.
وهذا حديثُ مُعاذ بن جَبل حين ولاّه رسول الله قاضياً على اليمن أوضحُ دليل، فإنه قال له :«بمَ تقتضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : بكتاب الله ؟ قال : فإن لم تجدْ ؟ قال : بسنّة رسول الله. قال : فإن لم تجد ؟ قال : أَجتهد رأيي »، فأقرّه الرسول على ذلك.
﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ ﴾
أطيعوا الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول لأنه يبيّن لكم ما نُزِّل إليكم، وأطيعوا أولي الأمر منكم وهم من ولّيتموهم أنتُم أموركم، والعلماء ورؤساء الجند و سائر من يرجع إليهم الناس في الحاجات عن ثقة فيهم.. فإن تنازعتم في شيء فيما بينكم فاعِرضوه على كتاب الله، ثم على سنة رسول الله لتعلموا حكمه. فإذا لم يوجد نص على الحكم في الكتاب ولا في السنة ينظُر أولوا الأمر فيه، لأنهم هم الذين يوثَق بهم. فإن اتفقوا وأجمعوا وجَبَ العمل بما أجمعوا عليه.
﴿ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾
هذا مقتضى إيمانكم بالله واليوم الآخر، وهو خير لكم، لأنكم تهتدون إلى العدل فيما اختلفتم فيه، وأحسنُ عاقبةً، لأنه يمنع الخلاف المؤدي إلى التنازع والضلال.
والأحاديث الواردة في الحض على طاعة أولي الأمر كثيرة جداً، ففي الصحيحين عن ابن عمر :«السمع والطاعة إلى المرء المسلم، فما أحبَ أو كره مالم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمرنا بمعصية فلا سمع ولا طاعة ».
وفي صحيح مسلم عن أم الحُصَين أنها سمعت الرسول الكريم يخطب في حجة الوداع يقول :«ولو استُعمل عليكم عبدٌ يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا »، أما الذي يَستعمل ذلك العبدَ، فهو الرسول أو الخليفة الذي يُجمع عليه المسلمون. فالأصل هم المسلمون لا القوة، ولا جيوشٌ لقاءَ أجْر، ولا تسلسلٌ في مُلك عضود أساسُه التوارث.
الطاغوت : الطغيان والمعبود من دون الله.
تعرض هذه الآية الكريمة لوناً من ألوان التمرد على الوضع التشريعي السابق، فقد وصفتْ قَوماً أنهم يؤمنون بما أُنزل إلى الرسول والأنبياء السابقين من الكتب، لكنهم يريدون أن يتحاكموا في خصوماتهم إلى رؤوس الطغيان والضلال، فيقبلون حكم غير الله. إنهم يتحاكمون إلى الطاغوت فيحلّلون ما حرم الله، ويحرّمون ما أحل. ولقد أمرهم ا لله أن يكفروا بالطاغوت، ولا يتحاكموا إليه، إلا أن الشيطان يصدّهم عن طريق الحق.
وقد رويتْ عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات منها أن بعض المنافقين تخاصم مع يهودي فقال له اليهودي : أُحاكمك إلى أهل دنيك.. يَعني إلى النبي. فلم يقبل الرجل، وقبل أن يتحاكم إلى أحد الكهان. والآية عامة في كل ما يصد عن حكم الله، ويعرض عن شرعه.
إنه كان تواباً رحيما.
التثبيت : التقوية، جعل الشيء راسخاً ثابتاً.
ولو أنّا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك والمحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم- ما فعلوه، إلا نفر قليل منهم هم المؤمنون حقا. والمقصودُ بذلك المنافقون، وترغيبهم في الإخلاص، وترك النفاق.
وهو يعني أننا لو شدّدنا التكاليف على الناس، كأن نأمرهم بقتل أنفسهم، أو الخروج عن أوطانهم لصعُب ذلك عليهم. ولما فعله إلا الأقلون. وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم. فلما لم نفعل ذلك، رحمةً منا بعبادنا، واكتفينا بتكليفهم ما يطيقون- كان عليهم أن يقبلوهُ ويتركوا التمرد والعناد، حتى ينالوا خير الدارين.
روى الطبري في تفسيره قال : قال رجل من الصحابة لما نزلت هذه الآية : لو أمَرَنا لفعلْنا، والحمد الله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبيَّ الكريم، فقال :«إن من أُمتي لرجالاً، الإيمان أَثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي ».
قراءات :
قرأ ابن عامر وحده «إلا قليلا » بالنصب، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي «أن اقتلوا » بضم النون. «أو اخرجوا » بضم الواو. وقرأ عاصم وحمزة «أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا » بكسر النون والواو، على الأصل بالتقاء الساكنين. وقرأ أبو عمرو ويعقوب «أن اقتلوا » بكسر النون «أو اخرجوا
بضم الواو ».
كل من يطيع الله والرسول ويقوم بما أَمر به وتركِ ما نهى عنه، يكون يوم القيامة مع الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق، من الأنبياء الكرام، وأتباعهم الذين صدّقوهم واتبعوا مناهجهم، والشهداءِ في سبيل الله الذين ضحّوا بأنفسهم، والصالحين الذي صلَحت سريرتهم وعلانيتهم. ما أحسنَ هؤلاء من رفقاء !
أخرج البخاري عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله كيف تقول في رجل أحبَّ قوما ولم يلحق بهم ؟ فقال رسول الله عليه السلام :«المرءُ مع من أحب ».
ثُبات : جماعات، جمع ثُبة.
انفروا : اخرجوا للجهاد.
في هذه الآيات والتي تليها يرسم لنا سبحانه الهيئة الحربية التي يجب أن نتحلّى بها. ومن أهّمِ خططها الحذرُ والاستعداد واستكمال العدة، وهو ينبّهنا إلى الحذر ممن يدّعون أنهم مسلمون وما هم كذلك، وإنما هم ضعاف الإيمان لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد.
يا أيها الذين آمنوا كونوا على حذَر دائماً من أعدائكم، واحترسوا واستعدّوا وخذوا الأُهبة لاتقاء شر العدو، واخرجوا للقتال جماعاتٍ متتابعة أو اخرجوا جميعا. وهذه كلّها مبادئ حربية عامة، فهي ثابتة لعموميتها. أما الخاص فإنه يتحور ويتغير.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام دائم الحذر، له عيون وجواسيس في أرض العدو، كي يظل على علم تام بأرض عدوه وتحركاته. أما نحن اليوم فإننا نائمون عن عدّونا وهو منتبه متيقظ، جواسيسه منتشرة بيننا، ويسخّر من تتفق مصالحه مع مصالحهم طمعاً في المنصب أو الثروة.
لقد استعدّ عدُّونا استعداداً كاملاً وأخذ حذره التام، ونحن غير مستعدين، ولا أرى عندنا أي عزم على القتال، وكل همنا أن نتباهى بالمظاهر الجوفاء من العظمة التافهة، وفي سبيلها يهدم بعضنا بعضا، ويكيد بعضُنا لبعض، مدّعياً الحفاظ على مصلحة الأمة زوراً وبُهتاناً، ومسخّراً في خدمته كل مرتزق وحقير.
إن بينكم من يتثاقل ويتأخر عن الجهاد، فاحذَروا هؤلاء المثبِّطين المعوِّقين ونقّوا صفوفكم منهم. وهذا لعمري اليومَ أكبر داءٍ بيننا وفي صفوفنا يخذّلون، طمعاً في بقاء منصب أو استدرار مال.
وكان حال أمثال هؤلاء في الماضي أنهم إذا أصاب المسلمين نكبةٌ في الجهاد، قالوا شامتين : قد أنعم الله علينا إذ لم نكن معهم ولم نشهد القتال، وقد سلّمنا الله من هذه المصيبة.
فليقاتل في سبيل الله من أراد أن يبيع الحياةَ الدنيا ويجعل الآخرة ثمناً لها وعوضا عنها، لإعلاء كلمة الله، ونصر دينه. إن من يقاتل في سبيل الله لن يعدم إحدى الحسنَيين : أن يُقتل فيكون شهيداً، وتلك منزلة عظمى عند الله، أو ينتصر فينال فضلَ الفوز في الدنيا، وأجره عند الله عظيم في كلتا الحالتين.
فيا أيها المؤمنون : قاتِلوا أعوان الشيطان وأنصاره، واعلموا أنكم منتصرون عليهم بتأييد الله، لأن كيد الشيطان ومكره ضعيف سخيف، أما الغلبة والنصر فهي للحق بإذن الله.
أجل : ميعاد.
متاع الدنيا : كل ما يستمتع به ويلذ.
الخطاب لجماعة من المسلمين وفيهم المنافقين وضعفاء الإيمان..
ألم تنظر يا محمد، إلى أولئك الذين أمرهم الله بحقن الدماء وكف الأيدي عن القتال قبل أن يجيء الإذن به فقيل لهم : كفوا عن القتال فهو لم يُفرض عليكم بعد، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة التي تمكّن الإيمانَ في قلوبكم. ففعلوا. ولما فُرض عليهم القتال كرهه الضعفاء منهم وخشُوا أن يقاتلهم الكفّار وينزلوا بهم النّكال، وخافوا منهم كخوفهم من الله أو أشد، وقالوا مستغربين : ربنا لِمَ كتبتَ علينا القتال في هذا الوقت ! متوهّمين أن فرض القتال فيه تعجيل لآجالهم، ولذلك قالوا : هلا أخّرتَنا إلى زمن قريب نستمتع فيه بما في هذه الدنيا ؟ قُل لهم يا محمد : تقدَّموا للقتال ولو أدى ذلك إلى موتكم، فإن متاع الدنيا تافه حقير بجانب متاع الآخرة. والآخرة أفضلُ لمن اتقى الله وعمل صالحا، وستُجزون على أعمالكم في الدنيا بالتمام والكمال، لا تخسرون خيطاً بقدر الفتيل الذي على شق النواة.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «ولا يظلمون » بالياء.
مشيدة : مرتفعة.
يفقهون : يفهمون.
إن الموت أمر لا مَهرب منه، ولسوف يدرككم حيث كنتم ولو تحصّنتم في شواهق القصور أو في القلاع والحصون. وما دام الموت لا بدّ منه فلماذا تكرهون القتال وتجبُنُون ؟ إن هؤلاء الجبناء إن أصابهم رخاءٌ ونعمة قالوا إنها من عند الله، وإن أصابتهم شدّة وجدْب قالوا لك يا محمد : هذا من عندك، وما كان إلا بشؤمك.
وكلّ هذا ضعف في إيمانهم ونقص في عقولهم. وهذه مقالة اليهود والمنافقين حين قدم الرسول المدينةَ وأصابهم قحط وجفاف. فقل لهم الآن يا محمد : إن هذا زعم باطل، فكل ما يصيبكم مما تحبون أو تكرهون، هو من عند الله، ومن تقديره. ماذا أصاب هؤلاء القوم، وماذا دهاهم في عقولهم حتى باتوا لا يعقلون شيئا !
والخطاب ظاهُره للنبيّ ولكنه تصوير للنفس البشرية عامة، وإن لم يقع منه عليه السلام ما يستوجب السيئة. وهذا كله ليعلّمنا أن كل شيء من عند الله، على معنى أنه خالقُ الأشياء وواضع النظُم للوصول إلى هذا الأشياء بسعي الإنسان وكسبه. وأن الإنسان لا يقع فيما يسوءه إلا بتقصير منه في معرفة السبب والأسباب أو مخالفتها. ولقد أرسلناك يا محمد، للناس جميعاً، فليس لك دخل فيما يصيبهم من حسنات ولا سيئات، وكفى بالله شهيدا.
من أطاع الرسولَ فقد أطاع الله، لأنه لا يأمر إلا بما أمر ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه، لذلك كانت طاعته طاعة الله. ومن أعرض عن طاعتك يا محمد على هذا الاعتبار فليس لك أن تُكرهه عليها، لأنك أُرسلت مبشِّراً ونذيرا، ولَم ترسل مسيطراً ورقيبا تحفظ على الناس أفعالهم وأقوالهم.
رُوي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال :«من أحبني فقد أحبَ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله »، فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل ؟ لقد قارف الشِرك، قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه رَبّاً لكما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية....
بيّت : دبر الأمر ليلاً، والمراد دبروا أمرهم سرّا.
ويقول هذا الفريق من الناس إذا أمرتَهم بأمر : أمرُك مطاع، وليس لك منا إلا الطاعة، ولكنهم إذا خرجوا من عندك دبّرتْ طائفةٌ منهم أمراً مناقضاً لما أخبرتهم به. واللهُ سبحانه وتعالى يحصي عليهم ما يدبرونه في الخفاء، فأعرِض عنهم، وفوّض أمرك إلى الله، فهو يكفيك شرهم ولا يضرك أحد.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحمزة «بيت طائفة » بالإدغام.
أفلا يتدبر أولئك المنافقون ويتفكرون جيداً في القرآن حتى يعلموا حقيقة الرسالة التي يدلّ عليها ويهدي إليها ذلك الكتاب ! ما بالهم يعمون عن هذا التناسق الذي في سُوَره وآياته، وتلك الأخبار والأحكام التي جاء بها، والحقائق التي تصوّرها العقائد، وقواعد الشرائع، وسياسة الشعوب والقبائل وضرب الأمثال ! كيف يتأتى هذا كله لرجل أمّي : لو كان هذا الكتاب من عند غير الله، لتناقضت معانيه واختلفت أحكامه اختلافاً كثيرا.
يستنبطونه : يستخرجونه.
تصوّر هذه الآية حال المؤمنين في المدينة، حيث كونّوا مجتمعاً جديداً. وكان بينهم طائفة تدّعي الإسلام، وهم المنافقون، وطائفة أخرى ممن لم يتركز حالُهم من ضعاف المؤمنين. لذلك كان كل خبر يصِلُهم يستفزّهم ويطلق ألسنتهم بالكلام فيه وإذاعته بين الناس، سواء أكان من ناحية الجيش الّذي يغزو ويقاتل العدو، أو من ناحية الأمن الداخلي عندهم. وكان لكثير من المسلمين علاقات جوارٍ أو نسب أو صداقة مع اليهود والمنافقين، فكان هؤلاء يستغلّون سذاجة المسلمين ويتلقون الأخبار ويشيعونها بين الناس مع زيادة وتغيير وتبديل. لذلك بيّن الله لهم ما ينبغي عمله في مثل هذه الحال، فقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر من القواد وكبار الصحابة، لوجدوا عندهم العلم الحقيقي بالأمر، لأن لهم الخبرة والدراية، وهم الذين يعرفون كيف يستخرجون خفايا الحقائق بدقة نظرهم.
هذا من جهة سبب نزول الآية. أما حُكمها فإنه عام لجميع المسلمين ودائم في كل زمان ومكان. وفيها تأديب لكل من يحدّث بكل ما يسمع، وكفى بذلك كذبا. وقد روى مسلم عن النبي الكريم أنه قال :«كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بك ما سمع ».
ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا بهديه في كل زمان لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم حكّامهم واستبدّوا، ولما زال مُلكهم وسلطانهم. ولولا فضلُ الله عليكم بتثبيت قلوبكم على الإيمان لاتّبع أكثرُكم الشيطان، ولم ينجُ من إغوائه إلا القليل.
هكذا يربّينا القرآن الكريم ويعّلمنا، ليغرس الإيمان والولاء لصالح المسلمين، يحدّده أولو الرأي فيهم لا أولي القوّة والأموال، ويعلّم نظام الجندية في آية واحدة.
البأس : القوة.
التنكيل : معاقبة المجرم بما يكون فيه عبرة للناس.
إذا أردتَ الفوز والظفر على الأعداء يا محمد، فجاهد أعداءَ الله من أهل الشرك وأعرِض عن هؤلاء المنافقين الذين قالوا «لمَ كتبتَ علينا القتال » والذين يتذبذبون فيقولون لك «طاعة » وهم يُضمرون خلاف ما يقولون. إنك لست مسئوولا إلا عن نفسك. ثم ادعُ المؤمنين إلى القتال وحرضهم عليه، وعسى الله أن يدفع عنكم شدة الكافرين وبأسهم. إنه أشد قوة منهم، وأشد تنكيلاً بالكافرين.
وقد روي أن الرسول الكريم واعد أبا سفيان بعد أُحدٍ موسم بدرٍ الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد دعا الناسَ إلى الخروج. وخرج في شعبان من سنة أربع في سبعين راكبا، ووافوا الموعد. وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فرجعوا من مَرّ الظهران.
كِفْل : نصيب. مقيتا : مقتدرا.
بمناسبة تحريض الرسول للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به، وذِكر المبطئين عنه، يقرر تعالى هنا قاعدة عامة في الشفاعة : فالذي يشجّع على القتال ويعاون عليه يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة، والذي يثبّط الهمم تكون عليه تبعة سيئةٌ ووزر كبير. ثم إن المبدأ عام في كل شفاعة، فالشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق المسلم وابتُغي بها وجه الله، لا الرشوة كشفاعات هذا العصر، وكانت في أمر جائز. أما الشفاعةُ السيئة فما كانت بخلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث كثيرة في أمر الشفاعة ومساعدة الناس في بلوغ الحق، فقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر أن رسول الله قال :«المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كُربةً فرج الله عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ».
وروى أبو داود عن أبي أُمامة أن رسول الله قال :«من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هديةً فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر » وهكذا : الهدية رشوة، إذا كانت لقاء خدمة أو لغمط حق بفعل محسوبية.
بعد أن علّمنا الله تعالى طريق الشفاعة الحسنة، وأنها الخالصة لله، جاءت هذه الآية للتأديب في المعاملة : كيف نسلّم على الناس، وكيف نرد التحية بأحسن منها. ذلك أن التحية في المجتمع علاقة من العلاقات الطيبة التي تدور بها عجلة الحياة بيسر.
وقد جعل الإسلام تحيته «السلامُ عليكم » لأنه دين السلام، فهو حتى حين يدعو إلى القتال فإنما يدعو لإقرار السلام في الأرض.
وإذا حيّاكم أَحدٌ بتحية فردوا بأحسن منها أو بمثلها، فمن قال لكم : السلام عليكم، أجيبوا : وعليكم السلام ورحمة الله.
هذا وإلقاء السلام سُنة : وردُّه واجب.
روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سلّم عليك من خلْق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله تعالى يقول :﴿ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ ».
﴿ إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾ إنه تعالى رقيب عليكم في مراعاة هذه الصلة بينكم بالتحية ويحاسبكم على ذلك. وفي هذا إشارة إلى تأكيد أمر هذه الصلة بين الناس.
الله لا إله الا هو، ولا سلطان لغيره، فلا تقصّروا في عبادته. إنه سيبعثكم بعد موتكم ويحشركم إلى موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، وهو يوم آتٍ لا ريب فيه، ولهذا لا تشكّوا في حديثه فإن لا قول أصدق من قوله.
أركسهم : ردهم إلى حكم الكفرة، وأصل الرَّكس رد الشيء مقلوباً.
هذه أحكام في معاملة المسلمين لغيرهم، وهي بعض القواعد التي أنشأها الإسلام لأول مرة في تاريخ البشرية وفي مجال المعاملات الدولية. وبفضْلها يُقيم المجتمع المسلم علاقاته مع غيره من المجتمعات الأخرى على أساس العدالة. وقد وردت هذه القواعد متفرقة في سورة القرآن الكريم، فحرص عليها المسلمون وطبقوها.
أما غير المسلمين فإنهم بدأوا في سَنِّ القانون الدولي في القرن السابع عشر الميلادي، أي بعد نزول القرآن بعشرة قرون. ومن المؤسف أن كانت جميع القوانين التي سُنّت والمنظمات التي أوجبت مجردَ أدواتٍ تختفي وراءها الأطماع الدولية، لا أجهزة لإحقاق الحق. وأكبرُ شاهد على ذلك الآن هي المنظمة الدولية الكبرى «هيئة الأمم »، فإنها لم تحلّ أية قضية، ولم ترعَ حقاً من حقوق الأمم المهضومة، بل ظلّت لعبة في يد الدول الاستعمارية لحماية مصالحها.
والآية هنا تعالج قضايا المنافقين، والذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، والمحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو بحرب قومهم وهم على دينهم، والمتلاعبين بالعقيدة الذين يُظهرون الإسلام إذا قدِموا المدينة والكفرَ إذا عادوا إلى مكة.
مالكم أيها المسلمون حِرتم في المنافقين وانقسمتم فئتين لاختلافكم حول كفرهم ! إن الأدلة تتظاهر على ذلك فما يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم أهم مؤمنون أم كافرون ؟ ولا بصدد وجوب قتلهم أم لا ؟
وهؤلاء الذين اختلف المسلمون في أمرهم هم فريق من المشركين كانوا يظهرون المودة للمسلمين وهم كاذبون. وكان المؤمنون في أمرهم فرقتين : واحدة ترى أنهم يُعَدّون من الموالين، فيجوز أن يستعان بهم على المشركين، وأخرى ترى أن يعامَلوا كما يعاملُ غيرهم من المشركين. وقد حسم الله الخلاف في ذلك وأمر المسلمين أن يبتّوا في أمر كفرهم، فإنه هو قد أركسهم. ومن ثم : كيف تختلفون أيها المسلمون، في شأنهم واللهُ قد صرفهم عن الحق الذي أنتم عليه بما كسبوا من أعمال الشر والشِرك ! ليس في استطاعتكم هداية من قدّر الله ضلاله، ولن تجدوا له طريقا إلى الهداية على الإطلاق.
أولياء : نصراء، جمع وليّ.
إنكم تودّون هداية هؤلاء المنافقين فيما هم لا يقنعون منكم إلا بأن تكفروا مثلهم، وحتى يُقضى على الإسلام الذي أنتم عليه.. فاحذروا غوائل نفاقهم.
﴿ فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ... ﴾
إذا كانت هذه حالهم فلا تتخذوا منهم مناصرين لكم، ولا تعتبروهم منكم حتى يؤمنوا ويهاجروا مجاهدين في سبيل الإسلام. بذلك تزول عنهم صفة النفاق. فإن أعرضوا عن ذلك، وانضمّوا إلى أعدائكم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم. إياكم أن تتخذوا منهم ولياً يتولّى شيئاً من أموركم، ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم.
حصرت صدروهم : ضاقت.
السلم : الاستسلام.
ثم استثنى من هؤلاء أولئك الّذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين فيدخلون في عهدهم. كما استثنى الذين هم في حيرة من أمرهم، قد وقفوا على الحياد، مسالمين لا يقاتلون قومهم معكم ولا يقاتلونكم أنتم، فهؤلاء جميعا لا يجوز قتالهم. هذا هو مبدأ الإسلام كما جاء صريحا في قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا ﴾.
﴿ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾.
لو شاء تعالى لجعلهم يحاربونكم، ولكنه رحمَكم بأن صرفهم عن قتالكم. فإذا اعتزلوكم ولم يقاتلوكم فليس لكم من حق في الاعتداء علَيهم، ولا يسوغ لكم قتالهم.
السلطان المبين : الحجة الواضحة.
ستجدون طائفة أخرى منافقة شريرة كالطائفة السابقة، لكنها ليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم معكم ميثاق. وهؤلاء فريق من المنافقين كانوا يُظهرون الإسلام للرسول وأصحابه ليأمنوا القتل والسباء. أما الحقيقة فإنهم كفار. يعلم ذلك منهم قومهم. وكان هؤلاء يأتون النبي فيُسْلِمون رياءَ ثم يرجعون إلى قريشٍ فيرتكسون في الأوثان، يريدون أن يأمنوا ههنا وههنا.
﴿ كُلَّ مَا رُدوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا ﴾
كلما دعاهم قومه إلى الشِرك بالله ارتدّوا، فصاروا مشركين مثلهم. فأمر الله بقتالهم إن لم يصلُحوا.. أي إذا لم يعتزلوكم ويلتزموا الحياد على الأقل : خُذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فلا علاج لهم غير ذلك.
الدية : مبلغ من المال يدفعه القاتل لأهل القتيل.
في هذه الآية الكريمة أحكام لعلاقات المسلمين بعضهم ببعض، وفيها أحكام تتناول ثلاثة حالات من القتل الخطأ. وهو المفروض أن يكون بين المسلمين، لأن المسلم لا يجوز أن يقتل أخاه المسلم أبداً، ولا قَتْلَ إلا في حدٍّ أو قَصاص.
فالحالة الأولى : أن يقع القتل خطأً على مؤمن أهلُه مؤمنون في دار الإسلام. في هذه الحالة يجب عتق رقبة مؤمنة، وأن تؤدى دِيَة، أي مبلغ من المال ( حدّده النبي بمائة من الإبل أو ألف دينار ) إلى أهل القتيل لتسكن ثائرة نفوسهم، وتعوّضهم عما فقدوه من نفع المقتول. هذا إلا إذا عفا أهله وعفّوا عن الدية، وهو أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع الإسلامي.
وأما عِتق الرقبة فإنه تعويضٌ للمجتَمع المسلم عن القتيل المفقود، فمن أعدم نفساً مؤمنة تكون كفّارته أن يوجِد نفسا. والعتقُ كأنه إيجادٌ من جديد. فالإنسان حر، ولا يكمل وجوده إلا مع حريته. وفي هذه دليل كبير على أن الإسلام جاء ليحرّر لا ليسترقّ.
وهنا معنى قوله تعالى :
﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾.
والحالة الثانية : أن يقع القتل خطأ على مؤمن في دار الحرب وأهلُه محاربون للإسلام. وفي هذه الحالة يجب عتق رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قُتلت، لكنه لا يجوز أداء الدية لقومه المحاربين، خشية أن يستعينوا بها على قتال المسلمين. ولا مجال هنا لاسترضاء أهل القتيل لأنهم أعداء للمسلمين.
وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾.
والحالة الثالثة : أن يقع القتل على رجل قومُه معاهدون للإسلام. وهنا يجب تحرير رقبة مؤمنة، ودفع الدية كاملة إلى أهله. فالله سبحانه قد حرَّم قتل المعاهد كما حرم قتل المؤمن.
ويقول بعض المفسّرين في هذه الحالة الثالثة إذا كان المقتول خطأ هو المؤمن فقط، وجبت الدية وعتق الرقبة.
فمن لم يجد رقبة يفتديها أو عجز مالُه عن ذلك وجَبَ عليه صيام شهرين متتابعين، وذلك من باب «توبة من الله » شرعها لكم، ليتوب عليكم ويطهّر نفوسَكم من التهاون الذي يفضي إلى القتل الخطأ.
﴿ وكان لله عليما حكيما ﴾ والله عليم بأحوال النفوس وما يطهّرها، حكيم فيما شرعه من الأحكام والآداب التي تضمن إرشادكم إلى سعادة الدارين.
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً، فمن ذلك ما ورد في الصحيحين عن ابن مسعود قال :« قال رسول الله أولُ ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ».
وفي حديث الترمذي والنّسائي عن ابن عمرو :«لَزوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتلِ رجل مسلم ».
إن من قتل مؤمنا متعمّدا مستحلاًّ ذلك القتل، فجزاؤه على جريمته البشعة أن يدخل جهنم خالداً فيها، إنه يستحق غضب الله وأن يطرده الله من رحمته، وقد أعد له عذابا عظيماً.
قال ابن القيّم : لما كان الظلم والعدوان منافَيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأرسل الله سبحانه رسله، وأنزل كتبه فهو من أكبر الكبائر عند الله، ودرجتُه في العظمة بحسب مفسدته في نفسه. لذا صار قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده.
وقد قال بعض العلماء ومنهم ابن العباس : إن القاتل عامداً متعمداً لا تُقبل توبته، وسيخلَّد في النار. وقال آخرون : إذا تاب ورجع إلى الله تُقبل توبته، لأنه تعالى يقول :﴿ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾. وهذا هو الذي يتمشى مع قواعد الإسلام.
في سبيل الله : الجهاد.
تبيَّنوا : تثَّبتوا تأنّوا.
ألقى إليكم السلم : استسلم وانقاد.
عرض الحياة الدنيا : حطام الدنيا من مال وغيره.
مغانم : جمع مَغْنَم، رزق وفضل كثير، وما يغنم في الحرب.
بعد أن بيّن الله في الآيات السابقة أحكام قتل الخطأ والقتل العمد، ينبّه المؤمنين ويحذرهم في هذه الآية من نوع قتلِ خطأٍ كان يحصل أحياناً. فيأمر المسلمين إذا خرجوا غزاة ألا يبدأوا بقتال أحدٍ أو قتله حتى يتثبتوا من واقعه، وعليهم أن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان، فمن نطَقَ بالشهادتين في تلك الحال قُبل منه.
وروى البخاري والترمذي عن ابن عباس قال :«مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي وهو يسوق غنماً له فسلّم عليهم، فقالوا ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه وأتَوا بغنمه النبيّ، فنزلت الآية » ومعناها :
«يا أيها الذين آمنوا إذا ذهبتم للجهاد فاحترِسوا أن تقتلوا المؤمنين وأنتم لا تعلمونهم. إن عليكم أن تتثبَّتوا في قتل من اشتبه أمره عليكم لتعلموا أمسلم هو أم كافر ».
ولا تقولوا لمن استسلم لكم ولم يقاتلكم وأظهرَ لكم الإسلام إنك لست بمؤمن، فتقتلوه طمعاً في ما معه من حطام الدنيا.. إن عند الله أرزاقا كثيرة لكم ونعماً لا تحصى. لقد كنتم على الكفر قبل أن هداكم الله بمنّه وكرمه، فكونوا على بينة من الأمر الذي تُقدِمون عليه. لا تأخذوا بالظن، فالإسلام يكتفي بظاهر القول. وليس لكم أن تفتشوا عما في القلوب. إن الله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء.
وفي هذا الآية وعيد لنا وتحذير شديد من الوقوع في مثل هذا الخطأ. وهو أشدُّ في حال من نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القِبلة. أما الحرب من أجل الغنائم فقط فأمرٌ مرفوض.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا » بالتاء والثاء في الموضعين، والباقون فتبينوا كما هو هنا. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة «ألقى إليكم السلم » بدون ألف.
الحسنى : الجنة.
هنا حثٌّ للمسلمين المتخلّفين في دار الكفر والحرب على الهجرة إلى دار المسلمين، ليجاهدوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، فتقوى صفوف المسلمين ويكثر عددهم.
لا يكون القاعدون عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم، مساوين للّذين يبذلون أموالهم أو يعرّضون أنفسهم للقتل في سبيل الحق. فالمجاهدون هم الذين يحمون الأمة والدين والبلادَ لا القاعدون، إلا إذا كان القعود لعذر يمنع من الخروج للقتال، فيرفع اللوم. المجاهدون أفضل درجة. ومع هذا فقد وعد الله الفريقين العاقبةَ الطيبة والجنة في الدار الآخرة :﴿ وكلاً وعدَ الله الحسنى ﴾. وفضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين الّذين لم يجاهدوا، غير أصحاب العاهات والأعذار.
قراءات :
قرأ نافع وابن عامر والكسائي :«غير أولي الضرر » بنصب الراء من غير. والباقون «غير » بالرفع.
مأواهم : مسكنهم.
إن الذين تقبض الملائكة أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم بتركهم الهجرةَ من دار الشرك إلى دار الإسلام سوف نسألهم في أي شيء كنتم من أمر دينكم، ولماذا لم تهاجروا ؟ فإن قالوا : كنا مستضعَفين بين المشركين يمنعوننا من الإيمان بالله، واتباع رسوله، أجابهم الملائكة : ألم تكن أرضُ الله واسعة ؟ لماذا لم ترحلوا إلى دار الإسلام حيث تستطيعون أن تعبدوا الله وتتبعوا نبيه ؟ إن مثل هؤلاء الذين قدِروا على الهجرة ولم يهاجروا مأواهم جهنم يُعذَّبون فيها وساءت مصيرا. وعلى كل حال فإن حُكم الآية باقٍ، ينطبق على كل من خذل المسلمين أو قصّر في نصرهم وساعدَ الكفار.
وقد روى المحدِّثون في سبب نزولها روايات عدة منها : قال ابن عباس : كان قوم بمكة قد أسلموا، فلما هاجر رسول الله كرهوا أن يهاجروا، وخافوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وفي بعض الروايات تسميةٌ لعدد منهم، مثل : قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، وعلي بن أمية بن خلف، والحارث بن زمعة بن الأَسود، والعاصي بن منبه بن الحجاج وغيرهم.
وتقول الروايات أنهم قُتلوا جميعاً أو أكثرهم.
وقع أجره على الله : ثبت أجره عند الله ووجب.
ومن يهاجر في سبيل الله، ولنصرة دينه، يجد في الأرض مأوى يصيب فيه الخير وسعة الرزق والنجاة من الاضطهاد. هذا وعدٌ من الله تعالى للمهاجرين في سبيله. أما من يموت في الطريق مهاجراً إلى الله ورسوله، قبل وصوله، فقد وعده الله بالأجر العظيم، مكافأة له على ترك وطنه لإقامة دينه واتباع رسوله.
وقد ذكر العلماء أن من سار لأمر فيه منفعةٌ كطلبِ علمٍ وحجٍّ وكسبٍ حلال مات قبل الوصول إلى مقصده، فله مثل هذا الحكم.
جناح : ذنب.
أن تقصروا من الصلاة : أن تصلوا ركعتين بدل الأربع.
هنا يبين تعالى حكم الصلاة في حالة الخوف، فيرخّص لنا أن نصلّي ركعتين بدلاً من أربع. وهذه رخصة لنا من الله في حالة الجهاد والخوف من العدو. وهي تدل على أن الصلاة لا تُترك أبداً، بل يجب أن تؤدى مهما كان الأمر خطيرا. وهو يشير إلى أن إقامة الصلاة في ساحة المعركة، وفي أوقات الخوف سلاح عظيم يقوّي معنوية المسلمين ويزيدهم اطمئناناً إلى النصر. ومع هذا فإنه يجب الحذر من الأعداء، لأنهم لا يقصّرون في فتنتكم، فالحراسة متعينة عليكم آنذاك حتى لا يغدروا بكم.
كتابا موقوتا : فرضاً محدود الأوقات.
إذا كنت أيها الرسول، في جماعتك وقامت صلاة الجماعة فلا تنسوا الحذر من الأعداء.. دع طائفة منهم تصلي معك فيما تقف الطائفةُ الأخرى قبالة العدو يحرسون إخوانهم المصلّين. وعلى المصلّين أن يكونوا يقظين ويحملوا أسلحتهم ولا يتركوها وقت الصلاة، يفعلون ذلك استعداداً لمواجهة الخطر وحيطة من الغدر.
﴿ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ ﴾.
إذا سجدوا المصلّون معك فليكنْ الّذين يحرسونكم من خلفكم، لأن الساجد أحوجُ ما يكون للحراسة حين السجود. فإذا انقضت الركعة الأولى، تقوم الجماعة التي صلّت وتقف مكان الجماعة الحارسة، وعند ذلك تأتي الجماعة الأخيرة فتصلي معك ركعة كذلك. وهنا يكون الإمام قد أتم صلاته فيسلّم، وعندئذ تأتي الطائفة الأولى فتصلّي الركعة الثانية وتسلّم، بينما تحرسها الجماعة الثانية، ثم تجيء الجماعة الثانية فتصلّي الركعة الثانية وتسلم. بذلك يكون الجميع قد صلّوا بإمامة الرسول. وهكذا يفعل كل إمام وقائد عند الخطر.
واحذروا أيها المؤمنون، فإن أعداءكم يتمنّون أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم أثناء صلاتكم، فيحملوا عليكم حملة واحدة علّهم يصيبون منكم غرّة فيقتُلون وينهبون.
ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطرٍ أو مرض من جراح، لكن عليكم في جميع الأحوال ألا تغفلوا. إن عدوّكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم.
﴿ إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ بما هداكم إليه من أسباب النصر، بأخذ الأهبة والحذر والاعتصام بالصبر والصلاة.
وقد قال بالصلاة على الصفة أوردناها عدد كبير من فقهاء الصحابة منهم : علي، وابن عباس، وابن مسعود، وابن عمرو، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو موسى الأشعري. ومن فقهاء الأمصار : مالك، والشافعي وغيرهما. وفي كتب الفقه خلاف كبير في صفة هذه الصلاة لا مجال لذكره هنا.
ابتغاء : طلب.
تألمون : تتألمون.
لا تضعُفوا في طلب الكافرين الذين أعلنوا عليكم الحرب، واستعدوا لقتالكم، فإذا كنتم أنتم تتألمون من الحرب وشدّتها وما تجلب من ويلات، فإنهم هم أيضاً يتألمون مثلكم. فكلكم بشر. والفرق بينكم وبينهم أنكم على الحق، ترجون من الله رضاه ونصره، وهم على الباطل، لا يرجون شيئاً. والله تعالى عليم بأعمالكم وأعمالهم، حكيم يجازي كل واحد بما يعمل. وقد سبق له وقرر أن النصر لكم ما دمتم عاملين بهدْيه سائرين على الطريق القويم.
خصيما : مخاصما، مدافعا عنهم.
نزلت هذه الآيات والتي بعدها إثر حادث سرقة قام به طعمة بن أبيرق، الأنصاريُّ، ثم ذهب مع بعض أقربائه إلى النبيّ وقالوا : يا نبي الله، صاحبنا بريء، وإنما الذي سرق الدرع فلانُ اليهودي. وقد وُجدت الدرع في بيت زيد ابن السمين هذا فعلا. وعند ذلك برّأ الرسول الكريم طعمة، وعذَره على رؤوس الأشهاد.
ولما جاء صاحب الدرع المسروقة إلى النبي يكلّمه في أمر السارق أنّبه النبيُّ وقال له :«عمدتَ إلى أهل بيتٍ يُذكَر منهم إسلام وصَلاح وترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بيّنة ! » قال قتادة بن النعمان، وهو من أقارب صاحب الدرع : لما سمعتُ ما قال الرسول الكريم رجعتُ ولَوددت أني خرجتُ من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله في ذلك الأمر. فنزلت هذه الآيات تبيّن الحقيقة، وكانت درساً قاسياً وعظيماً لإحقاق الحق والفصل في الأمر وإبعاد الظلم عن اليهودي. وقد بيّن كتابُ الله أن الحق أحقُّ أن يُتبع.. إذ ظهر بعدُ أن طعمة قد سرق الدرع ثم خبأها عند اليهودي. وبإنزال هذه الآيات أعطى الله درساً بليغاً للمسلمين فَحْواه أن مهمة هذا الدين تحقيق العدالة بين الناس جميعا، لا يحابي مسلماً ولا يمالئ حاكما ولا شريفا.
إنا أنزلنا إليك يا محمد، هذا القرآن حقاً وصِدقاً كي تحكم بين الناس بما أعلمك الله به من الأحكام، فلا تكن مدافعاً عن الخائنين، ولا تتهاون في تحرّي الحق.
وبعد أن شدّد سبحانه في صورة انقطاع الناس عن هذه الجرائم، بيّن أنه غفور لمن استغفره، رحيم بعباده، يقبل منهم التوبة والرجوع إليه دائماً.
لا تدافع أيها النبي، عن هؤلاء ولا تساعدهم، فإن الله لا يحب من اعتاد الخيانة، وألفتْ نفسه اجتراح السيئات والكذب.
يبيتون : يدبّرون ويزوّرون، بيّت الأمر : دبره بالليل.
إن هؤلاء يستترون بخياناتهم من الناس، ولا يستترون من الله. لقد غفلوا عن أنه لا تخفى عليه خياناتهم، بل بلغ من جهلهم أنهم يدبرون التهم الباطلة للأبرياء علّهم يلقون بالجريمة عن ظهورهم. والله عليم بكل شيء، محيط بالأسرار، وهم تحت عينه وفي قبضته.
تعود مضار الذنوب على من يفعلها، لأن الله يعلم ما ارتكب الفاعل، ويعامله بمقتضى حكمته، فمن يعمل ذنبا فإنما يضر نفسه وعليه يعود ضرره.
البهتان : الكذب على الغير الذي يجعله حائرا.
ومن يكسب ذنباً خطأ أو إثما متعمّداً ثم يبرّئ نفسَه بأن ينسبَه إلى رجل بريء فقد اقترف ذنبين : أحدهما الكذب والافتراء باتهام الأبرياء، والثاني الذنبُ الواضح المبين.
هنا يرسم لنا القرآن الكريم ميزان العدالة الذي يحاسب الله بمقتضاه كل فرد على ما جنى، وفي الوقت نفسه يفتح باب التوبة على مصراعيه. فالتوبة مقبولة دائماً.
﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ﴾
لقد عَصَمَك الله من الناس ومن اتّباع الهوى، وأنزل عليك القرآن ميزاناً للحق، وآتاك الحكمة من لدنه كي تبيّن للناس مقاصد الدين وأسراره، وعلّمك من الشرائع والأحكام ما لم تكن تعلمه من قبل. وكان فضله عليك عظيماً حين أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم النبيّين.
المعروف : عمل الخير.
ابتغاء مرضاة الله : طلباً لرضاه.
لا خير في كثيرٍ من تَناجي أولئك الذين يُسّرون الحديثَ من جماعة طُعْمة، فقد أرادوا مساعدته على اتهام اليهودي بالسرقة. كذلك لا خير في كل من كان على شاكلتهم، من الذين يتناجون بالإثم والعدوان ويدبّرون المكائد للمسلمين.
وإنما الخير في التناجي بالبِرّ والتقوى، كأمرٍ بصدقة أو عمل معروف، أو قيام بإصلاح ذات البين. ومثلُ هذا أن يجتمع الرجل بأخيه المسلم فيقول : إن فلاناً بحاجةٍ فهيّا لنساعده، أو قم معي إلى دار فلان فقد بلغني أن بينه وبين جاره نزاعاً، وغير ذلك من أعمال الخير. فهذه من الأمور الحسنة المطلوبة شرعا.
وقد ورد في الحديث عن النبي عليه السلام :«أفضَلُ الصدقة إصلاحُ ذات البَين ». ومن يفعل هذا الخير لوجه الله وطلبِ مرضاته فإن الله سيؤتيه الثواب العظيم في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حمزة وأبو عمرو «فسوف يؤتيه » بالياء.
نولَّه ما تولى : نجعله واليا لما اختار من الضلال.
ومن يجعل من الرسول شقاقاً، بارتداده عن الإسلام، وإظهار عداوته له، ومن بعد ما ظهرت له الهداية، نتركُه وما اختار لنفسه، ونَكِلُه إلى ما توكل عليه، ثم نُدخله النار يوم القيامة، وساءت مصيراً.
ذُكر في سبب نزول هذه الآية أن بشير بن أبيرق ارتد عن الإسلام والتحق بالمشركين ﴿ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى ﴾. وبعضهم يقول إنه كان منافقا. وبعض الروايات تقول أن طعمة هرب والتحق بالمشركين.. والعبرة هنا بعموم النَص، فالحكم ينطبق على كل من يكيدون للإسلام، أو يرتدون عنه، أو يشاقّون الرسول عليه الصلاة والسلام.
«إن القرآن ليس قانوناً، ولا كتاباً فنياً، يذكر المسألة مرة واحدة، يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها، وإنما هو كتاب هداية.. وإنما ترجى الهداية بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يعدها ويهيؤها لقبول المعنى المراد، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية. ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة إلا بالتكرار، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذي عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم ».
إناث : معناها معروف، والمراد هنا اللات والعزى ومناة، لأن أسماءها مؤنثة، وقيل : المراد بالإناث الأموات، لأن العرب تصف الضعيف بالأنوثة.
المريد : بفتح الميم، مبالغة في العصيان والتمرد
كان أهل الجاهلية يزعمون أن الملائكة بنات الله :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾- [ الإسراء : ٤٠ ]. وقد حملهم هذا الاعتقاد على أن يتخذوا تماثيل يسمونها أسماء الإناث، كاللات والعزى ومناة، ويرمزون بها إلى الملائكة التي زعموا أنها بنات الله.. ومع الزمن تحولت تلك الأصنام عندهم إلى آلهة تخلق وترزق.. وهكذا تتحول وتتطور زيارة قبور الأولياء- عند الأعراب والعوام- من تقديس المبدأ الذي مات عليه صاحب القبر إلى الاعتقاد بأنه قوة عليا تجلب النفع، وتدفع الضرر.
﴿ وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ﴾. أي أن عبادة المشركين للأصنام هي في واقعها عبادة الشيطان نفسه، لأنه هو الذي أمرهم بها فأطاعوه.
النصيب المفروض : الحصة الواجبة.
المعنى أن الشيطان قال لله جل وعز : إن لي سهماً فيمن خلقتَهم لعبادتك، وقلت عنهم فيما قلت :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾- [ الذاريات : ٥٦ ]، وأن هذا السهم فرض واجب لي يطيعني ويعصيك. والآن : إن ظاهر الآية يدل على أن الشيطان شخص حقيقي، وأنه يخاطب الله بقوة وثقة، فهل الكلام جارٍ على ظاهره، أو لا بد من التأويل ؟.
نقل صاحب «تفسير المنار » عن أستاذه الشيخ محمد عبده أن في كل فرد من أفراد الإنسان استعداداً لعمل الخير والشر، ولاتباع الحق والباطل، وإلى هذا الاستعداد أشار سبحانه بقوله :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النجدين ﴾- [ البلد : ١٠ ]، وأن النصيب المفروض للشيطان من الإنسان هو استعداده للشر الذي هو أحد النجدين. وعليه يكون لفظ الشيطان كناية عن هذا الاستعداد.
الشيطان والعلم الحديث :
لقد سيطرت فكرة الشيطان على عقول الناس يوم كان العلم مجرد كلمات تقال، وسطورٍ تملأ صفحات الكتب، ولا تتجاوزها إلى العمل إلا قليلا، أما اليوم فقد أصبحت فكرة الشيطان بشتى تفاسيرها أسطورة بعد أن صار العلم مقياساً لكل حقيقة، وأساساً لكل خطوة يخطوها الإنسان، وقوة في كل ميدان، حتى إنه يطير إلى القمر والمريخ، يخاطب أهل الأرض من هناك ؟.
على هذا التساؤل نقول :
لا نظن أحداً يهوّن من شأن العلم، ولا كونه قوة وثروة، فحاجة الناس إليه تماماً كحاجتهم إلى الماء والهواء.. ولكن لا أحد يجهل أن في العلم استعداداً للخير والشر، فهو حين يوجَّه إلى الخير ينتج الطعام للجائعين، والكساء للعراة، والعلاج للمرضى، وحين يوجه إلى الشر يقتل ويدمر.. والشر هو الركيزة الأولى لسياسة الشيطان الذي نعنيه. وقد أصبح العلم اليوم في يد السياسة تتجه به إلى الفتك والهدم، والسيطرة والاستغلال.
ولقد تضاعف نصيب الشر أو الشيطان- مهما شئت فعبر- بتقدم العلم وتطوره. كان أعوان الشر والاستعمار فيما مضى يتسلحون بقوة العضلات، أما الآن، وبعد أن بلغ العلم من الجبروت ما بلغ فإنهم يتسلحون بالذرة والصواريخ وأسلحة الحرب الكيماوية. وهم لا ينسون إشعال حرب نفسية من الدسائس، يخططونها لأتباعهم، كلما اهتزت كراسيّهم بفعل رغبة الشعوب في التحرر وفعل الخير لأوطانهم.
إضلال الشيطان للإنسان أن يزين له الحق باطلاً، والخير شراً، أو يوهمه أنه لا حق ولا خير في الوجود، ولا جنة ولا نار، وفي الحديث :«خلق إبليس مزيناً، وليس إليه من الضلالة شيء » أما تمنية الشيطان للإنسان فهو يخيل إليه إدراك ما يتمناه رغم أنه باطل، ويؤمله في النجاة يوم الحساب، وما إلى ذلك من الأماني الكاذبة، والسعادة الموهومة.
﴿ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله ﴾. كان العرب في الجاهلية يقطعون آذان بعض الأنعام، ويوقفونها للأصنام، ويحرّمونها على أنفسهم، ويأتي التفصيل عند تفسير ﴿ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب ﴾ من سورة المائدة.
وبعد أن كان الشر أو الشيطان يأمر حزبه في عصر الجاهلية بقطع آذان الأنعام وتغيير خلق الله أصبح يأمرهم بإلقاء قنابل النابالم على النساء والأطفال في فيتنام، والقنبلة الذرية على المدن ك «هيروشيما » و «ناكازاكي » لإفناء خلق الله.
﴿ وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله-أي يطيعه- فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ﴾. حيث يصبح ضحية الأهواء والشهوات، وأسير الأوهام والخرافات.
أي أن حزب الشيطان من المشركين والمفسدين لا نجاة لهم من عذاب الله..
بعد أن بيّن الله أحوال الذين يتبعون أهواءهم وملذّاتهم بإغواء الشيطان، ويتخذون آلهة غير الله، وذكر أن عاقبتهم الخسران في الدنيا ومأواهم جهنم في الآخرة بيّن هنا عاقبة أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالحاً وهي فوزهُم من الله بجنات وارفة، فيها أنهار جارية، يتمتعون فيها بنعيم خالد. هذا وعد من الله، ووعدُ الله لا يكون إلا حقا، وهل أصدقُ من الله وعدا.
ولياً : يلي أمره ويدافع عنه.
يقرر سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة قاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء، وهي : أن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولاً إلى الأمانّي بل إلى أصل ثابت، وسنّة لا تتخلّف. إنه قانون تستوي أمامه الأمم، لا يحابي أحداً، ولا تُخرق له القاعدة. إن صاحب السوء مجزيّ بالسوء، وصاحب الحسنة مجزيّ بالحسنة. وليس فضلُ الدين وشرفه ولا نجاة أهله أن يقول القائل منهم : إن ديني أفضل وأكمل، فالجزاء على قدر العمل، لا بالتمني والغرور. إنه ليس بما تتمنّون أيها المسلمون، ولا بما يتمناه اليهود والنصارى. فالأديان لم تشرع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتساب إليها دون العمل. إنما النجاة من العذاب بالإيمان والعمل الصالح.
فمن عمل عملاً سيئا يُجزَ به، ولن يجد له وليّا غير الله يدفع عنه الجزاء، ولا نصيرا ينقذه مما يحل به.
ومن يعمل عملاً صالحاً، سواء كان ذكرا أو أنثى، وهو مطمئن القلب بالإيمان يدخل الجنة، لا يظلمه ربه شيئاً ولا يُنقص من عمله قليلاً أو كثيرا.
خليلاً : صديقاً محبا.
وقد أردف سبحانه بعد ذلك ذِكر درجات الكمال فبيّن : أن أساس عمل الخير منبعث من الاعتقاد السليم، وأنَّ أحسنَ الدين أن يُخلص المرءُ فيجعل وجهه وعقله ونفسه لله، لا يطلب إلا رضاه. بذلك تستقيم مداركه فيدرك رسالة الرسل. وقد عبّر سبحانه عن توجُّه الإنسان لله بالوجه، لأن الوجه أعظمُ مظهرٍ لما في النفس من إقبال وإعراض، وشرود وكآبة، وذلك مرآة لما في السريرة.
﴿ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي : المِلّة التي كان عليها إبراهيم في ابتعاده عن الوثنية وأهلها، وعند سيدنا إبراهيم تلتقي الوحدة الدينية للمسلمين واليهود والنصارى، فاتّبِعوا طريقَ من أكرمه الله فاتخذه خليلاً.
وفي هذا الآية رد قاطع على كل من حدّثته نفسه بأنه هو أحسن من غيره، أو دينه أحسنُ من دين غيره، دون أن يعمل عملاً صالحا ويؤمن إيماناً كاملا. فقد كانت اليهود والنصارى يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه، ودينُنا خير دين. ولعل فكرة الاستعلاء هذه راودت بعض المسلمين فقالوا نحن خير أمة أُخرجت للناس، وأن الله متجاوز عما يقع منّا على أساس من ذلك...
لقد جاء هذا النص يردّ هؤلاء وهؤلاء إلى الصواب، فهناك عند الله ميزان واحد هو إسلام الوجه لله، مع الإحسان واتباع ملة إبراهيم.
فأحسنُ الدين هو هذا الإسلام، ملة إبراهيم، وأحسن العمل هو الإحسان، والإحسانُ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
يفتيكم : يبين لكم ما أشكلَ عليكم.
المستضعفين : الضعفاء من اليتامى والولدان.
إنهم يطلبون منك يا محمد، بيان ما غمُض من أحكام النساء، والمراد بهن هنا اليتيمات. كان من عادة العرب في الجاهلية إذا كانت عند أحدهم بنت يتيمة صار وليها ووارثها، ورغب في تزوّجها ليأخذ مالَها. وقد تكون غير جميلة ولها مال ولا يتزوجها ولا يزوجها من أحد.. خشية أن يُحرم من مالها ؟ فجاءت الآية هنا تدعو إلى ترك عادات الجاهلية. فالرجل الذي عنده يتيمة يريد أن يتزوجها يجب عليه أن يدفع لها مهراً كالمرأة الغريبة عنه. وإذا لم يرغب في زواجها فليتركها تتزوج من غيره. كما بيّنت الآية أنه يجب توريث الضعفاء من الأولاد الصغار والنساء وإعطاؤهم حقوقهم كاملة. ثم رغَّب الله تعالى المؤمنين في العمل بما فيه فائدة لليتامى، وذكّرهم أنه عالِمٌ لا يعزب عن علمه شيء، وهو مجازيهم بما يعملون.
والخلاصة : إن الذي يتلى عليهم في الضعيفَين، المرأة واليتيم، هو ما تقدّمَ في أول السورة، لذلك يذكّرهم الله بتلك الآيات المفصّلة ليتدبّروها ثم يعملوا بها. وهو بذلك كله يريد استئصال عادات الجاهلية الممقوتة، ويضع عوضاً منها تقاليد إنسانية راقية يبني عليها المجتمع الإسلامي العظيم.
وأحضِرت الأنفس الشُّح : جُبلت النفوس على البخل، والشحُّ أشدّ البخل.
إن خافت الزوجة من زوجها إهمالاً لشؤون الأسرة وجفاءً لها وعدم إقباله عليها، كأن يقلّل من محادثتها أو غير ذلك فيجب عليها أن تتريَّث. فلعلّه يكون مشغولا، أو يواجه بعض المشاكل في عمله. ومن الأفضل لها أن تصارحه وتسعى في المصالحة معه، ولا بد لأحد الطرفين أن يتنازل قليلا عن بعض حقوقه. والصلحُ خير من الفِراق، ورابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقها بالحفظ. ولما كان الرجل هو الأقوى فإن عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف وأن يتحرى العدل معها قدر المستطاع.
﴿ وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح ﴾
إن النفوس عرضة للبخل، فينبغي أن يكون التسامح بينهما كاملا، لأنهما قد ارتبطا بميثاق الزوجية العظيم. ثم رغب الله تعالى في بقاء الرابطةِ الزوجية جهد المستطاع فقال :﴿ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾، ليعني : إن تحسنوا العشرة فيما بينكم أيها الأزواج وتتقوا أسباب النشوز والإعراض فان الله سوف يجازي من أحسن منكم ويثيبه على ذلك.
المعلّقة : التي ليست مطلَّقة ولا ذات بعل.
مهما حرصتم على العدل والمساواة بين الزوجات، حتى لا يقع ميل إلى إحداهن، فلن تستطيعوا ذلك. وحتى لو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهن به. فالعدل الكامل ههنا في حكم المستحيل. إذ لا بد أن يميل الزوج بقلبه إلى واحدة أكثر من الأخرى.. من ثَم رفع الله عنكم ذلك، وما كلّفكم إلا العدلَ فيما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الميل القلبي لا يملكه المرء.
وقد كان رسول الله يقسم بين نسائه فيعدل : ثم يقول :«اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تُلمْني فيما تملك ولا أملك »، يعني القلب.
﴿ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل ﴾
إذا كان العدل الكامل غير مستطاع فعليكم ألا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن وتعرضوا عن الأخرى، فتتركونها كأنها ليست زوجة، ولا مطلّقة. وعليكم أن تصلحوا في معاملة النساء وتتقوا ظلمهن ولا تفضّلوا بعضهن على بعض فيما يدخل في اختياركم كالقسم والنفقة، والله يغفر لكم ما لا يدخل في اختياركم كالحبّ وزيادة الإقبال.
ثم يبين الله تعالى أن الفراق قد يكون فيه الخير إن لم يكن هناك وفاق.
﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ﴾
إذا لم يُمكن الإصلاح واستحكمتِ النفرة، فإن التفريق أفضلُ إذ ذاك. والله تعالى يغني كليهما من سعة رحمته وفضله. الأرزاق بيده، وهو واسع الرحمة، وحكيم فيما شرع من الأحكام.
إن لبّ الدين هو الخضوع لخالق هذا الكون، والاعتراف بسلطانه المطلق على كل ما في السماوات والأرض. وبهذا السلطان أبرزَ وصيّته لكل من أنزل عليهم كتاباً من عنده فقال ما معناه : وصّينا أهل الديانات السماوية ووصيناكم أنتم يا معشر المسلمين أن تخافوه وتعبدوه.
﴿ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾
لا يخلّ بسلطانه شيء. وهو غنيّ عنكم.. ومع ذلك، فإنه يحمد لكم إيمانكم.
وبقدر ما يؤكد الإسلام كرامة الإنسان على الله وتفضيله على كل ما في الكون- يقرّر هَوانَهُ على الله حين يكفر ويتجبّر، ويدّعي خصائص الألوهية.
وهكذا نجد أن الدين الإسلامي تكفّل بسعادة الحياة في الدارين، وقد حقّقها للمسلمين في صدر الإسلام. ولو استقام المسلمون على سنّة كتابهم لاستردوا مكانتهم التي بهرت العالم قروناً طويلة.
قوامين بالقسط : عاملين على إقامة العدل.
فلا تتّبعوا الهوى أن تعدِلوا : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا.
وإن تلووا : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق بأن تحاولوا كتمانها.
أو تعرضوا : تمتنعوا.
بعد أن حثّ الشارع على العدل والمساواة في النساء واليتامى والضعفاء، عمّم الأمر هنا بالعدل بين الناس جميعا. والعدل أحد مبادئ الإسلام الهامة، فهو نظام الوجود، والقانون الذي لا يختلف النظر فيه.
يا أيها المؤمنون.. كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته. أدّوا شهادتكم لوجه الله ولو على أنفسكم أو والديكم أو أقاربكم. وإن كان المشهود عليه غنياً أو فقيرا فلا تمتنعوا عن أداء الشهادة احتراماً لغناه، ولا رحمةً به لفقره. إن الله أَولى بالنظر إلى حال الغني والفقير منكم، فلا تتبعوا أهواءكم كراهةَ أن تعدِلوا. وإن تلووا ألسنتكم لإخفاء معالم الحق أو تمتنعوا عن الشهادة فإن الله يعلم ذلك، وسوف يجازيكم عليه بالحق.
قراءات :
قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي «وإن تلووا » كما هو هنا في المصحف، وقرأ حمزة وابن عارم «وأن تلوا » يعني وإن وَليتم إقامة الشهادة.
القراءات : قرأ نافع والكوفيون : الذي نزَلَ، والذي أنزَلَ، بفتح النون والهمزة، والباقون «نُزل » و «أنُنزل » بضم النون والهمزة.
ألم نستحوذ عليكم : الاستحواذ هو الاستيلاء.
أولئك المنافقون ينتظرون ما يحدث لكم من خير أو شر، فإن نصَركم الله قالوا : ألم نكن معكم باعتبارنا من جماعتكم ؟ وإن كان للكافرين الظفرُ عليكم منُّوا عليهم وقالوا لهم : ألم نمنحكم مودتنا ونمنعكم من المؤمنين ؟ فاعرفوا لنا هذا الفضل وهاتوا نصيبنا مما أصبتم.
والله تعالى يحكم بينكم وبين هؤلاء المنافقين يوم القيامة، ولن يجعل للكافرين سبيلاً للغلب على المؤمنين ما دام هؤلاء متمسكين بدينهم متبعين لأوامره ونواهيه.
كُسالى : جمع كسلان.
يراؤون الناس : يعملون من أجل أن يرام الناس وهم لا يؤمنون.
إن المنافقين يحسبون أنهم يخدعون الله ويخفون عنه حقيقة أمرهم، وهو يكشف خداعهم لا محالة، فيُمهلهم يرتعون في شرهم، ثم يحاسبهم على ما يفعلون. وإذا قام هؤلاء المنافقون إلى الصلاة قاموا متثاقلين بدون رغبة ولا إيمان. إنهم يخشون الناس فيوهمونهم أنهم مؤمنون، كما يعملون الأعمال الطيبة لمجرد الرياء، حتى يراهم المؤمنون ويظنوهم منهم.
وهم لا يذكرون الله إلا نادرا، ويظلّون مذبذبين تارة مع المؤمنين وتارة مع الكافرين، لأنهم طلاب منافع، ومن قضت سُنته تعالى أن يكون ضالاً عن الحق، فلن تجد له سبيلا للهداية.
إن المنافقين في سفلى طبقات جنهم، لأنهم شر أهلها.. فقد جمعوا بين الكفر والنفاق، ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشّهم. ولن تجد لهم يا محمد نصيراً ينقذهم من العذاب.
قراءات :
قرأ الكوفيون «الدرك » بسكون الراء والباقون «الدرك » بفتح الراء وهم لغتان.
ولا ينسحب ذلك على الذين رجعوا عن النفاق ولاذوا بالله وأخلصوا لدينه، فأولئك يعدُّون من المؤمنين، وقد أعدّ لهم جزاءً عظيماً في الدنيا والآخرة.
إن الله لا يرضى من المؤمنين أن يقول السوءَ بعضهم لبعض، إلا الّذي وقع عليه ظلم، فإن الله رخص له أن يشكوَ من ظلمه، ويشرح ذلك لصديق أو حاكم أو غيره مما يساعده على إزالته. واللهُ لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم، وهو سميع لكلام المظلوم، وعليم بأظلم الظالم، لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا أفعالهم ونيّاتهم فيها.
وهكذا فإن الإسلام يحمي سمعة الناس ما لم يَظلِموا.. فإذا ظَلموا لم يستحقّوا هذه الحماية، عند ذلك يحق للمظلوم أن يجهر بكلمة السوء في ظالمه. بذا يوفّق الإسلام بين حرصه على العدل، وحرصه على الأخلاق..
قراءات :
قرأ حفص عن عاصم وقالون عن يعقوب «سوف يؤتيهم » بالياء. والباقون :«نؤتيهم » بالنون.
الصاعقة : الشرارة الكهربائية التي تسبق سماع الرعد. البينات : الدلائل الواضحة.
في هذه الآية الكريمة وما يليها بيان لتعنُّت اليهود وجدلهم وإصرارهم على الكفر، فقد طلبوا إلى رسول الله أن يأتيهم بكتاب من السماء ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء ﴾ يَرَوْنَه ويلمسونه بأيديهم. فقد قالوا : يا محمد، إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتِنا بألواح مكتوبة بخط سماوي يشهد أنك رسول الله.
ولقد روى الطبري في تفسيره أن اليهود قالوا للنبي :«لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله يكون فيه «من الله تعالى إلى فلان.. إنك رسول الله، وإلى فلان.. إنك رسول الله، وهكذا، ذكروا أسماء معينة من أحبارهم ». ما قصدُهم من ذلك إلا التعنت والجدل. ولن يقتنعوا حتى لو أنزل الله ذلك الكتاب ولمسوه بأيديهم كما قال تعالى. ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ].
فلا تعجب أيها الرسول، من سؤالهم هذا، فقد سألوا موسى فقالوا : أرِنا الله عَياناً، فعاقبهم الله بأن أرسل عليهم صاعقة أهلكتهم. ولم يقِفوا عند هذا الحدّ بل ازدادوا كفراً، فاتخذوا العجل إلَها وعبدوه، وهم عبيد الذهب والمادة، كل هذا رغم ما جاءهم به موسى من الأدلة الواضحة. ومع ذلك فقد عفونا عنهم. لكن العفو لم ينفع معهم ولم يقدّروه، فآتينا موسى سُلطة ظاهرة فأخضعناهم له.
لقد غضب الله عليهم جزاء كفرهم، بسبب رميهم مريم كذباً من عندهم باقتراف الزنا.
ولقد غضب الله عليهم جزاء كفرهم بحكم قولهم إنّا قتلنا عيسى بن مريم رسول الله مع أن الحق أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه وإنما شُبّه لهم ذلك. والواقع أنهم قتلوا شخصاً يشبهه. أما الذين اختلفوا في شأنه فهم في شك من أمره، إذ ليس لهم به علم قطعي، وما يتبعون إلا مجرد الظن.
وروايات الأناجيل الموجودة الآن حول هذا الموضوع متناقضة، فبعضها يرى أن يهوذا الاسخريوطي أحد تلاميذ المسيح هو الذي سلّمه للجند وأخذ ثلاثين قطعة من الفضة اشترى بها حقلا. أعمال : ١٨ و١٩.
وفي إنجيل مَتَّى أن يهوذا ندم وردّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلا : قد أخطأت إذ سلّمت دماً بريئا.... متّى ٣٧ -٧.
وفي إنجيل متّى أيضاً أن يهوذا ندم ومضى وخنق نفسه. ٢٧ : ٥.
أما كتاب أعمال الرسل فيذكر أن يهوذا لم يخنق نفسه بل ( سقط على وجهه فانشقّ من الوسط...... ) : الخ ذلك.
والخلاصة : أن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى نجا ممن أرادوا قتله فقتلوا آخر ظناً منهم أنه المسيح.
﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً.... ﴾
الزبور : الكتاب اسمه الزبور.
يا محمد، لقد أوحينا إليك هذا القرآن بنفس الطريق التي أوحينا بها إلى نوح والنبيين من بعده، ولم يُنزل الله تعالى صفائح مسطورة من السماء على أحد، كما سألك اليهود للتعجيز والعناد. كذلك أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وباقي الأنبياء المذكورين، وآتينا داود كتاباً اسمه الزّبور.
قراءات :
قرأ حمزة : زبوراً بضم الزاي والباقون بفتح الزاي.
بل لقد أرسلنا غير هؤلاء رسلاً آخرين أخبرناك ببعض أحداثهم ووقائعهم، ( كما في سورة الأنعام والقصص والأنبياء وهود والشعراء ) ورسلاً لم نخبرك عنهم شيئاً.
أما طريقة الوحي إلى موسى على الخصوص، فاعلم يا محمد أن الله قد كلّمه تكليماً.
إن الذين كفروا بما أُنزل إليك قد ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة، كما ظلموا غيرهم بإغوائهم وكذبهم على الناس بكتمان الحقيقة. لذلك لن يغفر الله لهم ما داموا على الكفر، ولن يهديهم طريق النجاة.
كلمته : وهي «كُن » التي وُجد فيها.
ألقاها إلى مريم : أوصلها إياها.
روح منه : لأنه خُلق بنفخٍ من روح الله وهو جبريل.
بعد أن انتهى القرآن من محاجّة اليهود وإنصاف سيّدنا عيسى وأمه الطاهرة من افتراءاتهم وغلوِّهم في تحقيره، عطف هنا إلى إنصاف عيسى من غلو النصارى في شأنه، ورفضِ ما دخل عليهم من أساطير الوثنية التي تسربت إلى عقيدة المسيح بعده، بفعل شتى الأقوام والمِلل.
يا أهل الكتاب من اليهود، لا تتجاوزوا الحدود التي حدّها الله، ولا تعتقدوا إلا الحق الثابت : احذروا أن تفتروا على الله الكذب. فتنكروا رسالة عيسى، أو تجعلوه الها مع الله. إنما هو رسول من عند الله كسائر الرسل، خَلقه بقُدرته، وكلمتِه التي نفخها روحه جبريل في مريم. فالمسيح سرٌّ من أسرار قدرته، وليس ذلك بغريب. أمَا خلَقَ آدَمَ من قبله من غير أب ولا أم ! ! ﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ].
قال القاسمي في تفسيره :«يحكى أن طبيبا نصرانياً من أطباء الرشيد ناظر عليَّ بن حسن الواقدي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى. وتلا هذه الآية ؟ ﴿ إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾. فقرأ الواقدي قوله تعالى في سورة الجاثية :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾، فقال : إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً من الله تعالى علوا كبيرا. فانقطع النصراني وأسلم. وفرح الرشيد بذلك الجواب ووصل الواقديَّ بِصِلة فاخرةٍ.
آمِنوا يا نصارى بالله ورسله جميعاً إيماناً صحيحاً، ونزِّهوه عن كل شريك ومثيل. لا تقولوا إن الآلهة ثلاثة. انتهوا عن هذا الباطل، فهو نقيض لعقيدة التوحيد التي جاءت بها الأديان السماوية. إن الله يا هؤلاء واحد منزَّه عن التعدد، فليس له أجزاء ولا أقانيم، ولا هو مركَّب ولا متَّحد بشيء من المخلوقات.
الأقانيم : جمع أقنوم معناها الأصل، والأقانيم الثلاثة عند النصارى هي : الأب والابن وروح القدس.
قال مرقص في الفصل الثاني عشر من إنجيله : إن أحد الكتبة ( من اليهود ) سأل يسوع عن أول الوصايا فأجابه : أول الوصايا اسمع يا إسرائيل، الربُّ الهنا واحد... فقال له الكاتب «جيداً يا معلِّم، بالحق قلتَ إنّه واحد وليس آخرُ سواه. فلما رأى يسوعُ أنه أجاب بعقلٍ قال له لستَ بعيداً عن ملكوت السماوات ».
هذا نص صريح على أن عقيدة المسيح التوحيد، سبحانه تعالى، تقدَّس أن يكون له ولد. وما حاجته إليه، وكل ما في السموات والأرض ملك له ! !
لن يأنَف المسيح أو يترفع عن أن يكون عبداً لله، فهو عارف بعظمة الله وما يجب له من العبودية. كذلك لن يأنف الملائكة المقربون عن ذلك، ومن يتكّبر على ذلك، أباً كان، فإن الله سيحشرهم يوم القيامة ويجزيهم أشد الجزاء.
لقد جاءكم الدليل الواضح يا بني الإنسان، من قِبل ربكم، وهو يبين لكم حقيقة الإيمان، وصدق رسالة محمد النبي الأميّ.. ولقد أنزلنا إليكم مع هذا الرسول وعلى لسانه قرآناً يهديكم، يضيء لكم الطريق، ويوصلكم إلى سعادة الدارين.
هلك : مات.
روى الإمام أحمد، والشيخان، وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال :«دخل عليَّ رسولُ الله وأنا مريض لا أعقِل، فتوضّأ ثم صبّ عليَّ فعقلت. فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت هذه الآية ».
والمعنى : إن مات رجل وليس له ولد ولا والد يرثه، ولكن له أختاً فإنها تفوز بنصف التركة. وإن ماتت امرأة لا ولَد لها لكن لها أخاً واحداً نال ذلك الأخ كل ما تركت من المال. فإن كان للميت أختان فقط فلهما الثلثان، وإن كان للمورّث عدد من الأخوة والأخوات تنقسم التركة بينهم : للذكر نصيبان وللمرأة نصيب، والله عالِم بكل ما تعملون.
هكذا تختَتَم هذه السورة العظيمة التي بدأت بعلاقات الأسرة، وتكافلها الاجتماعية تضمنت الكثير من التنظيمات الاجتماعية في ثناياها. إنها تختَتَم بتكملة أحكام الكلالة. وكان قد ورد بعض هذه الأحكام في أول السورة، بقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة....... ﴾ الآية.
ومع ختم آية الميراث، تختَتَم السورة بذلك التعقيب القرآني الذي يردّ الأمورَ إلى الله ويربط تنظيم الحقوق والواجبات والأموال وغير ذلك بقوله ﴿ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
﴿ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من الميراث وغيره من علاقات الأُسَر والجماعات، والمجتمع وما فيه، من الأحكام والتشريعات.