تفسير سورة النجم

مراح لبيد
تفسير سورة سورة النجم من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة النجم
مكية، اثنتان وستون آية، ثلاثمائة وستون كلمة، ألف وأربعمائة وخمسة أحرف
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) أي والقرآن إذا نزل. وهذا استدلال بمعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الدالة على صدقه، أو والنجوم التي هي ثابتة للاهتداء إذا سقطت إلى أسفل، وفائدة تقييد القسم بالنجم بوقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء لا يهتدي به الساري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل سيدكم يا معشر قريش عن الطريق المستقيم، أو ما جن مصاحبكم محمد، وَما غَوى (٢) أي وما أعتقد باطلا قط بل هو رشيد مرشد، دال على الله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) أي ولم يتكلم بالقرآن عن هوى نفسه، وعن رأيه أصلا، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤) أي ما القرآن إلّا وحي من الله يوحى أي يجدد إيحاؤه إليه صلّى الله عليه وسلّم وقتا بعد وقت. ويقال في معنى هذه الآية: ما جن محمد وما مسه الجن، فليس بكاهن، وليس بينه وبين الغواية تعلق، فليس بشاعر، وما قوله إلّا وحي، وليس بقول كاهن ولا شاعر، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) أي علم النبي الوحي ملك شديد القوة بالبدن، وهو جبريل عليه السلام.
روي أنه جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا محمد ما بعثت إلى نبي قط أحب إلي منك، ألا أعلمك أسماء الله عز وجل هن أحب أسمائه أن يدعى بهن قل: يا نور السموات والأرض، يا جبار السموات والأرض، يا عماد السموات والأرض، يا بديع السموات والأرض، يا قيام السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا منتهى العابدين، ويا أرحم الراحمين، فيزول بك كل حاجة». ذُو مِرَّةٍ أي قوة في العقل، فَاسْتَوى (٦) و «الفاء» للسببية أي فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بحراء فخرّ مغشيا عليه دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوحي وذلك أن رسول الله أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فإن التشكل بشكله الذي فطر عليه يتسبب من شدة قوته وقدرته على الخوارق، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) أي والحال أن جبريل في الجانب الشرقي فسد المشرق لعظمته.
وقال الرازي: والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان، فإنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين، ثُمَّ دَنا أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرب من النبي صلّى الله عليه وسلّم فَتَدَلَّى (٨) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض، فإن التدلي هو التعلق من الهواء، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين، بل أقرب من ذلك بنصف قوس، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
(١٠)، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل، ومن الله تعالى ليلة المعراج، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلّى الله عليه وسلّم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له، ولم يقل: إنه جني أو شيطان، ويحتمل أن يقال: لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلّى الله عليه وسلّم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة، وليس على هيئة، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء، والهواء لا يرى، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلّى الله عليه وسلّم جائزة عند من له قلب، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره.
بفتح التاء وسكون الميم، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح.
قال مقاتل: وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي شجرة طوبى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦)، و «إذ» ظرف ل «رآه»، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور، أو من أنوار الله تعالى، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إليها تجلى ربه لها، وظهرت الأنوار، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى، أو ما
محمد عن الأنوار وما طلب شيئا غيرها، بل اشتغل بمطالعتها مع أن في ذلك العالم من العجائب ما يحير الناظر، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أي والله لقد رأى من عجائب الملك والملكوت ما لا تحيط به العبارة أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أي ومناة المتأخرة الذليلة، أي الوضيعة المقدار. وذلك لأن اللات كان وثنا على صورة آدمي وهو لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة والعزى صورتها صورة شجرة سمرة لغطفان، ومناة صورتها صورة صخرة كانت لخزاعة ولهذيل بقديد. فالآدمي أشرف من النبات، وهو أشرف من الجماد وهو متأخر، فالمناة في أخريات المراتب. والمعنى: لما ذكر الله تعالى عظمة آياته في ملكوته وهي أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته، ويهلك المدائن بقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته. قال: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها شركاء الله مع ما تقدم ويقال: أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى الأخرى، ومناة الثالثة في الدنيا تنفعكم في الآخرة.
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) أي كيف جعلتم لله تعالى بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون، والله كامل العظمة، فكيف جعلتموه ناقصا ونسبتم إلى أنفسكم الكامل، فنسبتكم البنات إلى الله تعالى قسمة جائزة على طريقتكم حيث نسبتم إلى أنفسكم الأعظم من الثقلين، وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى، وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم وإلا نقص للحقير، فإذا أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي هي لكم، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي ما هذه الأصنام المذكورات إلّا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم فإنكم قلتم: إنها آلهة وليست بآلهة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما أنزل الله بهذه الأسماء من حجة فوضع الاسم لا يجوز إلّا بدليل نقلي أو عقلي، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي ما يتبع الكافرون في تسمية الأصنام آلهة إلا توهم أن ما هم عليه حق، وإلّا ما دونه مما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أي البيان بالكتاب المنزل والمرسل أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) أي الإنسان ما اشتهاه من شفاعة الأصنام وغيرها أو هل له أن يعبد بالاشتهاء فيعبد ما لا يستحق العبادة! فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) أي إن اختار الإنسان معبودا على ما اشتهاه فيعاقبه على فعله في الدنيا وإلّا فيعاقبه في الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) أي وكثير من الملائكة مع علو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة فيمن يشاء ويرضى، وهو العابد الشاكر، لا المعاند الكافر، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فكيف تقبل شفاعة الجمادات، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بأحوال يوم القيامة لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما بين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلّا بالإذن قالوا: نحن لا نعبد
الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد الغائب، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم. الشأن فقال تعالى ردا عليهم: كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الإناث حيث قلتم: الملائكة بنات الله. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وهذه الجملة حال من فاعل «ليسمون»، أي ليسمون الملائكة بالبنات والحال أنه لا علم لهم بما كانوا يقولون أصلا. وقرئ «بها» أي بالتسمية، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في أن الملائكة إناث، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) أي لا ينفع شيئا من العلم بحقيقة الشيء والظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين، ومدح من حاله لا يعلم، فالظن فيه معتبر، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب، وأما في الاعتقاديات فلا يغني الظن شيئا من الحق، فإن المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير، ففي الحق ينبغي أن يكون جازما، والظان لا يكون جازما، ويحتمل أن المراد من الحق هو الله تعالى. والمعنى: وأن الظن لا يفيد شيئا من الله تعالى، فإن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) أي اترك مجادلة من أعرض عن القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكور لأمور الآخرة قاصرا نظره إلى الدنيا. وهذه الآية غير منسوخة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة، والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بالجواب عنها بالمجادلة، ثم لما لم ينفع أمر بالإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبرهان، أي وأمر بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقاتلة ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك الظن غاية ما يبلغون به من الإدراك المتظلم للظن الفاسد، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) أي إن الله أعلم بمن لم يرجع إلى الهدى أصلا، وبمن يقبل الاهتداء في بعض الأحوال، وقد علم الله أنه لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال، فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي خلقا وملكا والوقف هنا تام عند أبي حاتم لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي بعقاب ما عملوا من الضلال وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى (٣١) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ متعلق بقوله: ضَلَّ واهْتَدى» كأنه تعالى قال: هو يعلم بمن ضلّ واهتدى ليجزيهما، أو متعلق بقوله تعالى فأعرض، أي أعرض عنهم ليقع الجزاء الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ. وهذا الموصول بدل من الموصول الثاني، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» وَالْفَواحِشَ.
قيل: الكبائر: ما وعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا، والفواحش: ما أوجب الله عليه حدا في الدنيا إِلَّا اللَّمَمَ وهو ما يقصده المؤمن ولا يحققه، أو ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال، إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، وهذا تنبيه على أن إخراج اللحم عن
حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء، ثم يصير دما، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد اتَّقى (٣٢) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم، فإن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (٣٤) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء.
قيل: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا: فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال: أخشى عذاب الله. فقال له: لا تخف وأعطني كذا، وأنا أتحمل عنك العذاب، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلّى الله عليه وسلّم
وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه، أو أخيه أو عمه، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا، وَأَنَّ سَعْيَهُ أي عمله من خير وشر سَوْفَ يُرى (٤٠) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه،
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) أي المرجع بعد الموت، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن، أو خاص وهو
النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا تسلية لقلبه كأنه تعالى قال: لا تحزن فإن المنتهى إلى الله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) فكل ما يعمله الإنسان بخلقه حتى الضحك والبكاء.
قيل: إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء، والقرد يضحك ولا يبكي، والإبل تبكي ولا تضحك، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) أي خلق الموت والحياة فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) أي تهراق في رحم الأنثى، وَأَنَّ عَلَيْهِ تعالى النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) أي نفخ الروح كما قال تعالى هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي نفخ الروح بعد خلق النطفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى أي أغنى الناس بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، وَأَقْنى (٤٨) أي وأعطاه الأموال بالكسب بعد كبره، فكل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء، وكل ما زاد عليه فهو إقناء وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وهي نجم مضيء وتسمى الشعرى العبور وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية، وكانت خزاعة تعبدها وتعتقد تأثيرها في العالم، وهي المرادة في هذه الآية دون الشعرى الشامية المسماة بالشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع. وهذا إشارة إلى فساد قول قوم، فإن بعض الناس قال: إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر، وبعضهم قال: إن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم، فردهم الله تعالى بقوله هو تعالى محرك النجوم ورب معبودهم الشعرى العبور، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وهي قوم هود. وسميت أولى لتقدمها في الزمان على عاد الثانية، التي هي ثمود، قوم صالح.
وقرأ نافع وأبو عمرو بإسقاط نون التنوين لالتقاء الساكنين، وبنقل حركة همزة أولى إلى اللام. وقرأ قالون كذلك لكن بقلب الواو همزة ساكنة. وقرأ الباقون بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة،
وَثَمُودَ عطف على عاد. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدال في الوصل وبسكون الدال في الوقف. والباقون بالتنوين في الوصل وبالوقف على الألف فَما أَبْقى (٥١) أي فما أبقى من عاد وثمود أحدا، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي أهلكهم من قبل الفريقين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) من الفريقين حيث يبتدئون بالكفر ويتجاوزون في المعاصي فإنهم كانوا يؤذون نوحا عليه السلام، ويضربونه حتى يغشى عليه، وينفرون الناس عنه، ويحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، والبادئ أظلم
و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل عمل بها»
«١» وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) أي أسقط قريات لوط، وسدوم، وصادوم، وعمورا، وصوائم إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبريل عليه السلام بأمره
(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (٣: ١٠٩). [.....]
جبريل بذلك. فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) أي فكساها الله تعالى أمرا عظيما من فنون العذاب، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) أي تتشكك في أي أنعم ربك أيها الإنسان أي لما عد الله تعالى من أنواع النعم وهو الخلق من النطفة، ونفخ الروح فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافرين أهلكهم، قال: فبأي آلاء ربك تتمارى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل، هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أي هذا النبي رسول كالرسل قبله يرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، والله تعالى لما بيّن الوحدانية بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أشار إلى اثبات رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى:
هذا نَذِيرٌ إلخ، ثم أشار إلى القيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) أي قربت الساعة التي يزداد كل يوم قربها، فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أي ليس للساعة نفس قادرة على إظهار وقتها إلّا الله تعالى، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) أي أتعجبون إنكارا من هذا القرآن أو من حديث حشر الأجساد بعد الفساد، وَتَضْحَكُونَ استهزاء من القرآن، أو أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قريب، وَلا تَبْكُونَ (٦٠) مما في القرآن من الزجر والتخويف وكان حالقكم أن تبكوا منه،
وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) أي معرضون أو مستكبرون، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢) أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزل القرآن، واعبدوه ولا تعبدوا غيره، لأن عبادة غيره تعالى ليست بعبادة.
Icon