تفسير سورة القلم

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة القلم من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مكّية، وهي اثنان وخمسون آية، وثلاث مائة كلمة، وألف ومائتان وستّة وخمسون حرفاً.
أخبرنا محمد بن القيّم أخبرنا محمد بن طه حدّثنا إبراهيم بن شريك حدّثنا أحمد بن عبد الله حدّثنا سلام بن سليم حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن ابنه عن أبي أمامة بن كعب، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة نون والقلم أعطاه الله تعالى ثواب الذين حسّن الله أخلاقهم ).

الجزء العاشر
سورة القلم
مكّية، وهي اثنان وخمسون آية، وثلاث مائة كلمة، وألف ومائتان وستّة وخمسون حرفا
أخبرنا محمد بن القيّم أخبرنا محمد بن طه حدّثنا إبراهيم بن شريك حدّثنا أحمد بن عبد الله حدّثنا سلام بن سليم حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن ابنه عن أبي أمامة بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة ن وَالْقَلَمِ أعطاه الله تعالى ثواب الذين حسّن الله أخلاقهم» [١] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)
ن اختلف القراء فيه، فأظهر بعضهم نونه، وأخفاها الآخرون، وقرأ ابن عباس (نِ) بكسر النون على إضمار حرف القسم، وقرأ عيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعّل، واختلف المفسّرون في معناه، فقال مجاهد ومقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي:
هو الحوت الذي يحمل الأرض، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثمّ رفع فخلق الماء فخلق منه السماوات، ثمّ خلق النون فبسط الأرض على ظهر النون، فتحرّكت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنّ الجبال لتفخر على الأرض، ثمّ قرأ ابن عباس: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ واختلفوا في اسمه:
فقال الكلبي ومقاتل: يهموت، وقال أبو اليقظان والواقدي وأبو كعب: لوسا،
وقال عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: يلهوت
، وقال الراجز.
ما لي أراكم كلكم سكوتا والله ربي خالق اليلهوتا «٢»
قالت الرواة: لمّا خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث الله سبحانه من تحت العرش ملكا،
(١) مجمع البيان: ١٠/ ٨٢.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٢٤ وفيه: البهموتا.
5
فهبط إلى الأرض حتّى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها ولم يكن لقدمه موضع قرار، فأهبط الله تعالى من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم يستقر قدماه، فاحدر الله تعالى ياقوتة حمراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها مسيرة خمس مائة عام، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر، فهو يتنفس كلّ يوم نفسا فإذا تنفس مد البحر، وإذا مدّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرّت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ الآية «١»، فلم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وبسائر جانبه، والحوت على البحر على متن الريح، والريح على القدرة وثقل الدنيا كلّها بما عليها حرفان من كتاب الله تعالى قال لها الجبّار:
كوني، فكانت.
وقال كعب الأحبار: إنّ إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلّها فوسوس إليه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها لو نفضتهم ألقيتهم من ظهرك أجمع، قال: فهمّ لوتيا أن يفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابّة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فضج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن لها فخرجت، قال كعب: والذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت.
وقال بعضهم: هي آخر حروف الرحمن، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: الر وحم ون، حروف الرحمن تبارك وتعالى مقطعة.
وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون: الدواة، وهي رواية ثابت اليماني عن ابن عباس، وقال فيه الشاعر:
إذا ما الشوق يرح بي إليهم ألقت النون بالدمع السجوم
وقال معاوية بن قرة: هو لوح من نور، ورفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٢».
وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله تعالى به، ابن كيسان: فاتحة السورة، عطاء: افتتاح اسمه نور وناصر ونصير «٣» [القرظي] : أقسم الله تعالى بنصرته المؤمنين بيانه قوله:
(١) سورة لقمان: ١٦.
(٢) راجع تفسير الطبري: ٢٩/ ٢١.
(٣) في تفسير القرطبي (١٥/ ٢٨٩) : الحاء افتتاح اسمه: حميد وحنّان وحليم وحكيم، والميم افتتاح اسمه:
ملك ومجيد ومنّان ومتكبر ومصور. [.....]
6
كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
«١»،
جعفر الصادق: هو نهر في الجنّة «٢».
وَالْقَلَمِ وهو الذي كتب به الذكر، وهو قلم من نور ما بين السماء والأرض ويقال: لمّا خلق الله تعالى القلم وهو أوّل ما خلقه نظر إليه فانشقّ نصفين، ثمّ قال: اجر، فقال: يا ربّ بم أجري، فقال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.
قال عطا: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت، كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال: أي بني اتق الله واعلم أنّك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده والقدر خيره وشره، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: يا ربّ وما أكتب؟ فقال: اكتب العلم «٣» وقال: فجرى القلم في تلك الساعة وما هو كائن إلى الأبد» [٢] «٤».
وحكي أنّ ابن الزيّات دخل على بعض الخلفاء فوجده مغموما، وقال له: روّح عني يا ابن الزيّات، فأنشأ يقول:
اللهم فضل والقضاء غالب وكان الخطّ في اللوح
انتظر الروح وأسبابه أيئس ما كنت في الروح «٥»
وهل أراد بالقلم الخطّ والكتابة الذي امتنّ الله تعالى على عباده بتعليمه إياهم؟ ذلك كما قال: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
وقد أكثر الحكماء والبلغاء في وصف القلم ونفعه فلم أراد إخلال هذا الكتاب عن تدبر فصوصه؟
فقال ابن هيثم: من جلالة القلم أنّه لم يكتب لله تعالى كتاب إلّا به لذلك أقسم الله تعالى به. وقيل: الأقلام مطايا الفطن ورسل الكرام.
وقيل: القلم الظلم الأكبر. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان وبيان بنان، وفضل بيان البنان أنّ ما تثبته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدرسه الأعوام.
وقال بعض الحكماء: قوام أمور الدين والدنيا شيئان: القلم والسيف، والسيف تحت العلم وفيه يقول شاعرهم:
(١) سورة الروم: ٤٧.
(٢) زاد المسير: ٨/ ٦٥.
(٣) في المصدر: القدر.
(٤) السنن الكبرى: ٩/ ٣.
(٥) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٥/ ١٦٥.
7
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت... له الرقاب ودانت دون حذره الأمم
فالموت والموت لا شيء يغالبه... ما زال يتبع ما يجرى به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ برئت... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم «١»
وللصنوبري:
قلم من القصب الضعيف الأجوف... أمضى من الرمح الطويل الأثيف
ومن النصال إذا بدت لقيتها... ومن المهنّد للصقال المرهف «٢»
وأشدّ إقداما من الليث الذي... يكوي القلوب إذا بدا في الموقف
أنشد أبو القيّم السدوني، قال: أنشدني عبد السميع الهاشمي، قال: أنشدني ابن صفون لأبي تمّام في معناه:
ولضربة من كاتب في بيانه... أمضى وأبلغ من رقيق حسام
قوم إذا عزموا عداوة حاسد... سفكوا الدماء بأسنّة الأقلام
وللبحتري:
قوم إذا أجدوا الأقلام عن غضب... ثمّ استمدّوا بها ماء المنيّات
نالوا بها من أعاديهم وأن كثروا... ما لا ينالوا على المشرفيات
وقال آخر:
ما السيف غضبا يضيء رونقه... أمضى على النائبات من قلمه
ولأبن الرومي:
في كفّه قلم ناهيك من قلم... نبلا وناهيك من كفّ به اتّشحا
يمحو ويثبت أرزاق العباد به... فما المقادير إلّا ما وحى ومحا
قال: وأنشد بعضهم في وصفه:
وأخرس ينطق بالمحكمات... وجثمانه صامت أجوف
كلّه ينطق في جفنه... وبالثام منطقه يعرف
والآخر في وصفه:
نحف الشوى بعد ما على أم رأسه... ويحفى ويقوى عدوه حين يقطع
(١) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٨٥.
(٢) المرهف: النصل الرقيق (لسان العرب ١٢/ ٩٩).
8
لجّ ظلاما في نهار لسانه ويفهم عمّن قال ما ليس يسمع
اخذه وما شجرات نابتات بفقره إذا قطعت حارت مطايا الأصابع
لهن بكاء العاشقين ولونهم سوى أيّها يبكن سود المدامع
آخر:
هذا هو البيت الأول للبيتين التاليين.
يناط نحدّه الأفراد طرّا يمحي بعض خلق أو ممات
بمشيه حيّة وبلون جان وجرم متيم وشيما الطيبات «١»
قوله: وَما يَسْطُرُونَ يكتبون، ويجوز أن يكون معناه ويسطرهم يعني السفرة. وقيل:
جمع الكتبة ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ يعني أنّك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوّة. وقيل: بعصمة ربّك.
وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربّك كقولهم: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أي والحمد لك. وقال لبيد:
وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي وفارقني جار بأربد نافع «٢»
أي: وهو أربد.
وقال النابغة:
لم يحرموا حسن الغداء وأمّهم طفحت عليك بناتق مذكار «٣»
أي: وهو ناتق.
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع ولا منقوص من قولهم: حبل منين إذا كان غير متين.
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم، وقال الحسن: كان خلقه آداب القرآن،
ونقلت عائشة عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنها فقالت: كان خلقه القرآن.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، وقال جنيد: سمي خلقه عظيما لأنّه لم يكن له همّة سوى الله.
وقال الواسطي: لأنّه جاد بالكونين عوضا عن الحقّ. وقيل: لأنّه عاشرهم بخلقه وزايلهم
(١) كذا في المخطوط.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٢٦ مورد الآية.
(٣) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٢٦.
9
بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق، وأوصى بعض الحكماء رجلا فقال: عليك بالحقّ مع الخلق والصدق مع الحقّ. وقيل: لأنّه امتثل بالدنيا لله تعالى إياه بقوله: خُذِ الْعَفْوَ «١» الآية. وقيل: عظم له خلقه حيث صغّر الألوان في عينه ليعرف لهذه مكونها.
وقيل: سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه تدلّ عليه ما
أخبرنا أبو القيّم الحسن ابن محمد المفسّر، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار، حدّثنا ابن أبي الرما حدّثنا الدراوردي، عن ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» [٣] «٢».
وقال: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» [٤] «٣».
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفرابي جد أبو العباس الأصم، حدّثنا ابن عبد الحكم أخبرنا أبي وشعيب، وأخبرنا الليث عن عمر بن أبي عمرو عن المطّلب بن عبد الله عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار» [٥] «٤».
قال: وأخبرنا أحمد بن أبي الفرابي، أخبرنا منصور بن محمد السرخسي، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي حدّثنا أبو الوليد حدّثنا شعبة عن القاسم وأبي قرة قال: سمعت عطاء الكيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن» [٦] «٥».
أخبرنا أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد ابن جعفر العماني، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، حدثني أبي، حدّثنا عليّ بن موسى الرضا حدّثنا أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله:
«عليكم بحسن الخلق فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» [٧] «٦».
أخبرنا ابن فنجويّه حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدّثنا سمعان عن ابن الجارود
(١) سورة الأعراف: ١٩٩.
(٢) السنن الكبرى: ١٠/ ١٩٢.
(٣) الجامع الصغير: ١/ ٥١.
(٤) مسند أحمد: ٦/ ٦٤. [.....]
(٥) مسند أحمد: ٦/ ٤٤٦.
(٦) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٨٧.
10
حدّثنا صالح عن سعيد بن جبير عن أبي عثمان اليهري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أحبّكم إلى الله «١» أحسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، وأبغضكم إلى الله المشّاءون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان «٢» الملتمسون للبراء العنت» [٨] «٣».
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٥ الى ١٥]
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)
فَسَتُبْصِرُ فسترى يا محمد وَيُبْصِرُونَ ويرون يعني الذين رموه بالجنون. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اختلف المفسرون في معنى الآية ووجهها، فقال قوم: معناه بأيّكم المجنون، وهو مصدر على وزن المفعول كما يقال: ما لفلان مجنون ومعقود ومعقول أي جلادة وعقد وعقل، قال الشاعر:
حتّى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا «٤»
أي عقلا، وهذا معنى قول الضحاك: ورواية العوفي عن ابن عباس.
وقيل: الباء بمعنى في مجازه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في أي الفريقين المجنون في فريقك يا محمد أو في فريقهم.
والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: تأويله بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وهو الشيطان، وهذا معنى قول مجاهد.
وقال آخرون: معناه: أيّكم المفتون والباء زائدة لقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «٥» ويَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «٦» وهذا قول قتادة والأخفش [وأبي عبيد] «٧».
وقال الراجز:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
(١) في المصدر: إليّ.
(٢) في المصدر: الأحبّة.
(٣) المعجم الأوسط: ٧/ ٣٥٠.
(٤) فتح القدير: ٥/ ٢٦٨.
(٥) سورة المؤمنون: ٢٠.
(٦) سورة الإنسان: ٦.
(٧) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٢٩.
11
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ فيما دعوك عليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال عطية والضحاك: لو تكفر فيكفرون.
وقال ابن عباس: برواية الوالبي لو ترخص فيرخصون، قال الكلبي: لو تلن لهم فيلينون، الحسن: لو تصانعهم دينك فيصانعون في دينهم، زيد بن مسلم: لو تنافق وترائي فينافقون، أبان ابن تغلب: لو تحابهم فيحابوك، وقال العوفي: لو تكذب فيكذّبون، عوف عن الحسن: لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم، ابن كيسان: لو تقاربهم فيقاربوك.
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف بالباطل يعني: الوليد بن المغيرة وقيل: الأسود بن عبد يغوث، وقيل: الأخفش بن شديق. مَهِينٍ ضعيف حقير.
وقال ابن عباس: كذّاب وهو قرين منه لأنّ الرجل إنّما يكذّب لمهانة نفسه عليه. وقال قتادة: المكثار في الشر. هَمَّازٍ مغتاب يأكل لحوم الناس. وقال الحسن: هو الذي يعيب ناحية في المجلس لقوله: همزة. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ قتادة: يسعى بالنميمة يفسد بين الناس.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قال ابن عباس: يعني للإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام ويقول: لأن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. وقال الآخرون: يعني بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق.
مُعْتَدٍ غشوم ظلوم. أَثِيمٍ فاجر.
عُتُلٍّ قال ابن عباس: العتل: الفاتك الشديد المنافق. وقال عبيد بن عمير: العتلّ الأكول الشروب القويّ الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعره، يدفع الملك من أولئك سبعين ألف دفعة.
وقال عليّ والحسن: العتلّ: الفاحش الخلق السيّئ الخلق.
وقال يمان: هو الجافي القاسي اللئيم العشرة. وقال مقاتل: الضخم. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكلّ شديد عند العرب عتل وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف.
بَعْدَ ذلِكَ أي مع ذلك زَنِيمٍ وهو الدعي الملحق النسب الملصق بالقوم وليس منهم.
قال الشاعر:
زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع «١»
وقال حسّان بن ثابت:
(١) لسان العرب: ١٢/ ٢٧٧.
12
وأنت دعي نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد «١»
وقال آخر:
زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الام ذو حسب لئيم «٢»
فقال مرّة الهمداني: إنّما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الزنيم: الذي لا أصل له.
وقيل: هو الذي له زنمة كزنمة الشاة.
روى عكرمة عن ابن عباس قال: في هذه الآية الكريمة نعت فلم يعرف حتّى قيل زَنِيمٍ فعرف، وكانت له زنمه في عنقه يعرف بها. وقال عكرمة: الزنيم: المعروف [بلؤمه] كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال الشعبي: هو الذي له علامة في [الشر] تعرف كما تعرف الشاه بزنمتها.
وقال القرطبي وسعيد بن جبير و [عكرمة] : هو الكافر الهجين المعروف بالشرّ المريب «٣».
وقال الوالبي عن ابن عباس: الزنيم: الظلوم.
أخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيفي حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل حدثني أبي حدّثنا وكيع حدّثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عمر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العتلّ الزنيم فقال: «هو الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشروب الظلوم للناس رحيب الجوف» [٩] «٤».
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا محمد بن الحسن بن عليّ القطيفي حدّثنا أحمد بن عبد الله بن رزين العقيلي حدّثنا صفوان بن صالح حدّثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو شيّة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير عن شهر بن حوشب عن سداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنّة جواظ ولا جعظري ولا عتل ولا زنيم» قال: قلت: فما الجواظ؟
قال: «كلّ جمّاع منّاع».
قلت: فما الجعظري؟
قال: «الفظ الغليظ».
قلت: فما العتل الزنيم؟
(١) لسان العرب: ٧/ ٤٢٠.
(٢) جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٣٢.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٤.
(٤) مجمع الزوائد: ٧/ ١٢٨. [.....]
13
قال: «كلّ رحب الجوف بئر الحلق أكول شروب غشوم ظلوم» [١٠] «١».
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا ابن حبش المقري حدّثنا ابن زنجويه حدّثنا سلمة حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم في قوله: زَنِيمٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبكي السماء من رجل أصحّ الله جسمه وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مقضما- في المصدر بعضا- فكان للناس ظلوما، فذلك العتل الزنيم، قال: وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقلّه» [١١] «٢».
وروي الثمالي عن مجاهد في الزنيم قال: كانت له ست أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة. وأكثر العلماء على أن الزنيم الدعي الشرير، وقد ورد في هذا الباب أخبار غرائب نذكر من بعضها وبالله التوفيق:
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين بن عبد الله المقري حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير حدّثنا ابن خوصا، أخبرنا ابن خنيق حدّثنا يوسف بن أسباط عن أبي إسرائيل الملائي، عن فضيل ابن عمر والفقمي عن مجاهد عن ابن عمر عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده» [١٢] «٣».
أخبرنا الحسين بن محمد حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطواسعي، حدّثنا أبو بدر عباد بن الوليد حدّثنا حيّان بن هلاك حدّثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن عياض عن عيسى بن حطان عن عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير» [١٣] «٤».
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، حدّثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن ميمونة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يزال أمّتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقاب» [١٤] «٥».
أخبرنا الحسن بن محمد حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي حدّثنا إبراهيم بن الحسن الآدمي حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدّثنا سعيد بن أوس حدّثنا أبو الأشهب- هو العطاردي- قال: سمعت عكرمة يقول: إذا كثر أولاد الزنى قلّ المطر.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٣ بتفاوت.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٤.
(٣) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٤.
(٤) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٤.
(٥) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٤.
14
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب آن بالمد واختاره أبو حاتم وقرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر أأن بهمزتين، وغيرهم بالجرّ.
فمن قرأ بالاستفهام فله وجهان: أحدهما: الآن كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، والآخر: الآن كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ تطيعه. ومن قرأ على الخبر فمعناه: فلا تطع لأيّ كان.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ١٦ الى ٤١]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠)
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠)
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠)
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال ابن عباس: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه قال: فقاتل يوم بدر: فخطم بالسيف بالقتال «١»، وقال قتادة: سنخلق به شيئا، يقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة باقية: قد وسمه ميسم سوء، يريدون الصق به عارا لا يفارقه، كما أنّ السمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها. قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي وعلى البعيث «٢» جدعت أنف الأخطل «٣»
أراد به الهجاء.
وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على أنفه ونسوّد وجهه فنجعل له علامة في الآخرة يعرف سواد وجهه، الضحاك والكسائي: يشكونه على وجهه. وقال حريز بن محمد بن جرير:
سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ما يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. قال الفرّاء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنّه في مذهب الوجه. لأنّ بعض الشيء يعبّر به عن كله، وقد مرّ هذا الباب.
(١) تفسير الطبري: ٢٩/ ٣٥.
(٢) البعيث: هو خداش بن بشر ويقال: بشير.
(٣) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٧.
15
قال النضر بن شميل: معناه سنحدّه على شربه الخمر، والخرطوم: الخمر وجمعه خراطيم. وقال الشاعر:
تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شرّاب الخراطيم «١»
قوله: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني اختبرنا وامتحنّا أهل مكّة بالقحط والجوع. كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ.
أخبرنا أبو عمرو الفرابي أخبرنا أبو موسى أخبرنا الحريري حدّثنا فارس بن عمر حدّثنا صالح بن محمد حدّثنا محمد بن مزوان عن الكليني عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال: بستان باليمن يقال لها القيروان دون صنعاء بفرسخين، يطأه أهل الطريق، وكان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكانت لرجل فمات فورثه بنين له، فكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم تجدّه، فإذا طرح من فوق المنجل أملى البساط، فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زروعهم فكل شيء تعدّاه المنجل فهو للمساكين، وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينثر، فلما مات الأب ورثها هؤلاء الأخوة عن أبيهم، فقالوا: والله إنّ المال لقليل وإنّ العيال لكثير إنّما كان يفعل هذا الأمر إذا كان كثيرا والعيال قليلا، فأمّا إذا قلّ المال وكثر العيال فإنّا لا نستطيع أن نفعل هذا، فتحالفوا بينهم يوما ليعدون عدوة قيل خروج الناس فليصر من نخلهم ولم يستثنوا- لم يقولوا إن شاء الله- فغدا القوم بسدف من الليل إلى جنّتهم ليصرموها فرأوها مسودّة، وقد طاف عليها من الليل طائف من عذاب أصابها فأحرقها فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فذلك قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا حلفوا، لَيَصْرِمُنَّها لتجدّيها ولتقطيع ثمرها، مُصْبِحِينَ إذ أصبحوا قبل أن يعلم المساكين، وَلا يَسْتَثْنُونَ لا يقولون إن شاء الله، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ عذاب مِنْ رَبِّكَ ولا يكون الطائف إلّا بالليل، وكان ذلك الطائف نارا أنزلت من السماء فأحرقتها. وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالليل المظلم الأسود، قال الشاعر:
تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم «٢»
وقال الحسن: صرم عنها الخير فليس فيها شيء، ابن كيسان: كالجرة السوداء، ابن زيد:
كالأرض المصرومة، الأخفش: كالصبح انصرم من الليل، وقال المروّج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، وأصل الصريم: المصروم، وكلّ شيء قطع من شيء فهو صريم، فالليل صريم والصبح صريم، لأنّ كلّ واحد منهما ينصرم عن صاحبه.
قال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة حذيم.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٣٨.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٤٢.
16
فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا فمضوا إليها وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون يقول بعضهم لبعض: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ.
قال ابن عباس: على قدرة قادرين في أنفسهم. وقال أبو العالية والحسن: على جد وجهد. وللنخعي والقرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسّسوه بينهم. وروى معمر عن الحسن قال: على فاقة، وقيل: على قوّة، وقال السدي: الحرد: اسم الجنّة. وقال سفيان:
على حنق وغضب، ومنه قول الأشهب بن رملة:
أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود «١»
وفيه لغتان حرّد وحرد، مثل الدّرك والدرك، وقال أبو عبيدة والقتيبي: على منع والحرد، والمحاردة: المنع، تقول العرب: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن.
قال الشاعر:
فإذا ما حاردت أو بكأت فت عن حاجب أخرى طينها «٢»
وقيل: على قصد، قال الراجز:
وجاء سيل كان من أمر الله يحرد حرد الجنّة المغلة «٣»
وقال آخر:
إمّا إذا حردت حردي فمجرية ضبطاء تسكن غيلا غير مقروب «٤»
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ لمخطئوا الطريق فليس هذه بجنتنا. فقال بعضهم: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها ونفعها لمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ هلّا تستثنون، قال أبو صالح: استثناءهم:
سبحان الله. وقيل: هلا تسبحون الله وتقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقيل:
هلّا تستغفرونه من فعلكم.
قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا ننزهه على أن يكون ظالما، وأقرّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ في منعنا حقّ الفقراء وتركنا الاستثناء، وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها.
(١) جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٤٠.
(٢) لسان العرب: ١٣/ ٥١ وفيه: فك عن، جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٤٠.
(٣) جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٤١.
(٤) الصحاح: ٦/ ٢٣٠١. [.....]
17
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، قرأ الحسن وعاصم والأخفش وابن محيص بالتخفيف، وغيرهم بالتشديد، وهما لغتان وفرق قوم بينهما، فقال: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه.
قال عبد الله بن مسعود: بلغني أنّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق، فأبدلهم بها جنّة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا. وقال بكر بن سهل الدمياطي:
حدّثني أبو خالد اليمامي أنه رأى تلك الجنّة، وقال: رأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا.
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نزل من عند الله سبحانه وتعالى. فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرؤون ما فيه. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ تختارون وتشتهون أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود ومواثيق عَلَيْنا بالِغَةٌ كما عهدناكم علمه ووعدناكم فاستوثقتم بها منا، فلا ينقطع عهدكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ كسر (إن) لدخول اللام فيه في ذلك العهد. لَما تَحْكُمُونَ تقضون وتريدون فيكون لكم حكمكم. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الذي ذكرت زَعِيمٌ كفيل، والزعيم: الرسول ها هنا- قاله الحسن وابن كيسان- قائم بالحجة والدعوى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أرباب تفعل هذا. وقيل: شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدّعونه.
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ.
[سورة القلم (٦٨) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)
وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي عن أمر شديد فظيع، وهو إقبال الآخرة. قرأه العامة بياء مضمومة، وقرأ ابن عباس بتاء مفتوحة، أي يكشف القيامة عن ساقها. وقرأ الحسن بتاء مضمومة عَنْ ساقٍ أي عن أمر شديد فظيع، وهو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا وهذا من باب الاستعارة، يقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى جد وجهد ومعاناة ومقاساة للشدة: شمّر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة.
18
قال دريد بن الصّمة يرثي رجلا:
كميش الإزار خارج نصف ساقه... صبور على الجلاء طلاع أنجد «١»
ويقال للأمر إذا اشتدّ وتفاقم وظهر وزالت عماه: كشف عن ساقه، وهذا جائز في اللغة، وإن لم يكن للأمر ساق وهو كما يقال: أسفر وجه الأمر، واستقام صدر الرأي. قال الشاعر يصف حربا:
كشفت لهم عن ساقها... وبدا من الشر الصراح «٢»
وأنشد ابن عباس:
اصبر عناق أنّه شرّ باق... قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق «٣»
وقامت الحرب بنا على ساق.
وقال آخر:
قد كشفت عن ساقها فشدّوا... وجدت الحرب بكم فجدّوا «٤»
والعرب تقول له: الحرب كشفت عن ساقها.
قال الشاعر:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها... ومن طراد الطير عن أرزاقها «٥»
في سنة قد كشفت عن ساقها... حمراء تبري اللحم عن عراقها «٦»
ونحو ذلك قال أهل التأويل.
أخبرنا أبو بكر بن عبد أوس، أخبرنا أبو الحسن محفوظ، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفير عن عاصم، عن سعيد بن جبير: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: عن شدّة الأمر. وقال ابن عباس: هي أشد ساعة في يوم القيامة.
وقال الربيع عن العطا: أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن جعفر بن سلم الجتلي، حدّثنا محمد بن عمر وابن مسعدة البيروتي، حدّثنا محمد بن الوزير السلمي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا روح بن جناح عن مولى عمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، عن
(١) لسان العرب: ١١/ ١١٧.
(٢) لسان العرب: ١٠/ ١٦٨.
(٣) الدر المنثور: ٦/ ٢٥٤.
(٤) فتح القدير: ٥/ ٢٧٥.
(٥) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٤٨.
(٦) العراق: بالضم العظم بغير لحم، والعرق بالفتح ما اشتمل على اللحم.
19
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: «نور عظيم يخرّون له سجّدا» [١٥] «١».
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الرومي يقرأ أبي عليه في مسجده يوم السبت لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست وثمانين وثلاثمائة، حدّثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدّثنا زهير بن محمد، حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدّثنا قريش بن حيان العجلي، حدّثنا بكر بن وائل عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟
قال: «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟».
قلنا: لا.
قال: «فهل تضارون في القمر ليلة البدر؟».
قلنا: لا.
قال: «فإنّكم ترون كذلك، إذا كان يوم القيامة جمع الأوّلون والآخرون، ونادى مناد: من كان يعبد شيئا فليلزمه، وترفع لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون فتمضي ويتبعونها حتى يقذفهم في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيقال لهم: ذهب الناس وبقيتم فيقولون: لنا ربّ لم نره بعد، قال: يقول هل تعرفونه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه آية إذا رأيناه عرفناه، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجدا، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فَلا يَسْتَطِيعُونَ» [١٦] «٢».
أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم- قراءة عليه في جمادي الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، أخبرنا أبو بكر الشافعي، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي، حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، حدّثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يأخذ الله تعالى للمظلوم من الظالم، حتى لا يبقى مظلمة عند أحد حتى أنه يكلف شائب اللبن بالماء ثمّ يتبعه أن يخلص اللبن من الماء، فإذا فرغ من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد شيئا من دون الله إلّا مثلت له آلهته بين يديه، ويجعل الله ملكا من الملائكة على صورة عزير، ويجعل الله ملكا من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم، فيتبع هذا اليهود ويتبع هذا النصارى، ثمّ يلونهم، وقيل: تلونهم آلهتهم إلى النار، وهم الذين يقول الله تعالى: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ «٣» فإذا لم يبق إلّا المؤمنون، وفيهم المنافقون قال الله لهم: ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون.
(١) مجمع الزوائد: ٧/ ١٢٨.
(٢) جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٥١ بتفاوت.
(٣) سورة الأنبياء: ٩٩.
20
فيقولون: ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره، فينصرف الله تعالى فيمكث ما شاء أن يمكث، ثمّ يأتيهم فيقول: أيّها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون والله ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربّهم، فيخرون سجّدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه يجعل الله أصلابهم كصياصي البقر، ثمّ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم» [١٧] «١».
أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد أن أبا الفرج البغدادي القاضي، أخبرهم عن أبي جعفر الطبري، حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدّثنا أبي وشعيب بن الليث عن الليث، حدّثنا خالد بن يزيد بن أسلم عن أبي هلال، قال أبو جعفر: وحدّثني موسى بن عبد الرحمن بن المسروقي، حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا هشام بن سعيد، حدّثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا ليلحق كل أمة بما كانوا يعبدون (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم) «٢» فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلّا ذهبوا حتى يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات من أهل الكتاب، ثمّ يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب يحطم بعضها، بعضا ثمّ يدعى اليهود فيقال: ماذا كنتم تعبدون؟
فيقولون: عزير بن الله فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تريدون؟ فيقولون:
أي ربنا ظمئنا اسقنا فيقول: أفلا تردّون فيذهبون حتى يتساقطون في النار، ثمّ يدعى النصارى فيقول: ماذا كنتم تعبدون؟
فيقولون: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تريدون؟
فيقولون: أي ربّنا ظمئنا اسقنا، فيقول: أفلا تردّون فيذهبون فيتساقطون في النار، فيبقى من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر، ثمّ يأتي الله تعالى جل جلاله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة، فيقول: أيها الناس لحقت كل أمة بما تعبد، ونحن ننظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول: هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟
فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق فيخرون سجدا لله تعالى أجمعون، ولا يبقى من كان سجد في الدنيا سمعة ورياء ولا نفاقا إلّا صار ظهره طبقا واحدا، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثمّ يدفع برّنا ومسيئنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة، فيقول: أنا ربكم فيقولون:
نعم أنت ربّنا ثلاث مرّات» [١٨] «٣».
(١) الدر المنثور: ٥/ ٣٤١ بتفاوت.
(٢) غير موجود في المصدر.
(٣) جامع البيان للطبري: ٢٩/ ٥٠.
21
وبه قال أبو جعفر بن جرير الطبري، حدّثنا أبو لهب، حدّثنا أبو بكر، حدّثنا الأعمش، عن المنهال عن قيس بن بكر، قال: حدثني عبد الله وهو عند عمر قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي رب العالمين أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، ولا يكلّمهم بشيء أربعين عاما، ثمّ ينادي مناد: يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ثمّ عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم، قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون: حتى يأتينا ربّنا، قال: وتعرفونه؟
قالوا: إن اعترف لنا، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخرّ من كان يعبده ساجدا ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنّ في ظهورهم السفافيد فيذهب بهم إلى النار ويدخل هؤلاء الجنّة، فذلك قوله سبحانه وتعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج، وتسوّد وجوه الكافرين والمنافقين. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ في الدنيا. إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أصحاء فلا يأتونه ويأبونه.
قال إبراهيم التيمي: يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيئون. قال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلّا في الذين يتخلّفون عن الجماعات.
ويروى أنّ ربيع بن الجثم عرض له الفالج فكان يتهادى «١» بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة، قال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا.
قيل لسعيد بن المسيب: إنّ طارقا يريد قتلك فتغيّب، فقال: أحيث لا يقدره عليّ الله، فقيل له:
فاجلس، فقال: أسمع حيّ على الفلاح فلا أجيب «٢».
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي فدعني والمكذبين بهذا القرآن. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنأخذهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فيعذّبوا يوم بدر. وقيل: معناه سنزيدهم حزنا وخذلانا فيزدادوا عصيانا وطغيانا.
وقال سفيان الثوري: يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال [العباد] «٣» : لم نعاقبهم في وقت مخالفتهم فيستيقظوا بل أمهلناهم ومددنا لهم في النعم حتى زال عنهم خاطر التدبير، فكانوا منعّمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة.
(١) في المخطوط: تهادى.
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٥١. [.....]
(٣) كذا في المخطوط.
22
وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه.
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ في الضجر والغضب والعجلة وهو يونس (عليه السلام).
إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ مغموم لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ أدركه، وفي مصحف عبد الله (تداركته) بالتاء. نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ حين رحمه وتاب عليه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مليم مجرم.
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلك أنّ الكفار أرادوا أن يعيّنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه.
وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى أن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعاينها ثمّ يقول: يا جارية خذي المكيل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه البقرة، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر.
وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثمّ يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه، فما تذهب إلّا قريبا حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعين ويفعل به مثل ذلك «١»، فأجابهم وأنشد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا وأخال أنّك سيد معيون «٢»
فعصم الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: ويكاد الذين كفروا.
لَيُزْلِقُونَكَ دخلت اللام لمكان إن، وقرأ الأعمش وعيسى ليرهقونك، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود أي يهلكونك، وقرأ أهل المدينة بفتح الياء لَيُزْلِقُونَكَ، وقرأ غيرهم بضمه، وهما لغتان، يقال: زلّفه تزلقه زلقا، أزلقه تزلقه إزلاقا بمعنى واحد، واختلفت «٣» عبارات المفسرون في تأويله.
قال ابن عباس: يقذفونك بأبصارهم لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ.
ويقال: زهق السهم وزلق إذا نفذ، وقال قتادة، بمعنى يزهقونك، معمر عن الكلبي:
يصرعونك، حيان عنه: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة، عطية: يرجونك، المؤرخ:
(١) أسباب النزول للواحدي: ٢٤٩.
(٢) الصحاح: ٦/ ٢١٧١.
(٣) في المخطوط: واختلف.
23
يزيلونك، النضر بن شميل والأخفش: يعينونك، قال عبد العزيز بن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد يروّعنك به ويظهرون العداوة لك. السدي: يصيبونك بعيونهم، ابن زيد:
ليمسوك، جعفر: ليأكلونك، الحسن وابن كيسان: ليقتلونك، وهذا كما يقال: صرعني بطرفه وقتلني بعينه، وقال الشاعر:
ترميك مزلقة العيون بطرفها وتكلّ عنك نصال نبل الرامي
وقال آخر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزيل مواطئ الأقدام «١»
وقال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
العين حق «وأن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» [١٩] «٢».
وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ يعني محمدا، وقيل: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٢٥٦.
(٢) تفسير القرطبي: ٩/ ٢٢٦.
24
Icon