تفسير سورة الكهف

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

عوجا : العِوج بكسر العين عدم الاستقامة.
إن الله تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها، ولهذا حمد نفسه على إنزاله القرآنَ على رسوله الكريم، وهو أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض. فبه أَخرجهم من الظلمات إلى النور، ولم يجعل فيه اعوجاجا لا باختلال ألفاظه ولا بتباين معانيه.
قيّما : مستقيما، معتدلا.
البأس : العذاب.
من لدنه : من عنده.
بل جعله مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، لينذر الجاحدين بعذاب شديد من عنده ويبشر المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة بأن لهم ثوابا جزيلا.
مقيمين فيه أبدا.
وينذر على الخصوص الذين قالوا إن الله اتخذ ولدا.
كبرتْ كلمة : ما أعظمها من مقالة في الكفر، ومعنى الكلام الاستغراب والتعجب.
وهو منزه عن الولد والشريك، ولا دليل لديهم على قولهم هذا، لا هم ولا آباؤهم، فما أعظمَ هذا الافتراء وما أكبر هذه الكلمة التي تفوهوا بها ! وما قولهم هذا إلا محض اختلاق وكذب.
فلعلك باخعٌ نفسَك : لعلك مهلكٌ نفسك.
على آثارهم : من بعدهم.
لا تهلك نفسك أيها النبي أسفاً وحسرة عليهم لأنهم لم يؤمنوا بالقرآن، أبلغهم رسالة ربك فمن اهتدى منهم فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.
إنا خلقناهم للخير وللشر وصيرنا ما فوق الأرض زينة لها ومنفعة لأهلها، لنرى من يحسن منهم ومن يسيء، ويمتاز أفراد الطبقتين بعضهم عن بعض بحسب درجات أعمالهم.
صعيدا جرزا : تراباً لا يُنبت.
وإنا لجاعلون الأرض وما عليها تراباً لا نبات فيه عند انقضاء الدنيا. والخلاصة أن ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ [ الرحمن : ٢٧ ].
الكهف : النقب المتسع في الجبل.
الرقيم : اللوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف.
لقد أنكر الذين استهوتهم الدنيا البعثَ، مع أن الوقائع تثبت الحياة بعد الرقود الطويل، وهذه قصة أهل الكهف واللوح الذي رُقمتْ أسماؤهم فيه بعد موتهم لم تكن وحدها من العجائب وإن كانت قصةً خارقة للعادة.
أما قصتهم فهي أن جماعة من الشباب آمنوا بربهم وهربوا بدينهم من الاضطهاد، فلجأوا إلى كهف، ودعوا ربهم أن ينقذَهم قائلين : ربنا آتِنا من عندك رحمة وهيئ لنا من أرمنا رشَدا.
فضربنا على آذانهم : أنمناهم عدداً من السنين، والنائم عادة لا يسمع.
فاستجبنا دعاءهم، فأنمناهم آمنين في ذلك الكهف سنين عديدة لا ينتبهون.
ثم بعثناهم : أيقظناهم.
أحصى : أضبطُ لأوقات لبثهم.
ثم أيقظناهم لنعلم مَن مِن الحزبين اللذين اختلفا في مدة مُكثهم بالكهف أضْبَطُ إحصاء لطول المدة التي مكثوها.
روي عن ابن عباس : أن الرقيم اسم قرية قرب أَيلة « العقبة »، ويقول ياقوت في معجم البلدان :« وبقرب البلقاء من أطراف الشام موضع يقال له الرقيم.. » ويقول :« إن بالبلقاء بأرض العرب من نواحي دمشق موضعاً يزعمون أنه الكهف والرقيم قرب عَمان، وذكروا أن عمّان هي مدينة دقيانوس » الملِكِ الذي كان في ذلك الزمان.
وهناك أقوال كثيرة متضاربة علُمها عند الله. وقد أورد الطبري وغيره من المفسرين قصتهم، وليس لها سند صحيح، وقد اعتنى أحد موظفي الآثار من أهل عمان بهذا الكهف وهو اليوم في ضواحي عمان، وعمل له باباً، وألّف رسالة مؤكدا فيها أنه هو الكهف المقصود في القرآن، وبنى بجانبه مسجدا، والآن يزور الكهف كثير من السيّاح.
النبأ : الخبر العظيم.
نحن نقصّ عليك أيها الرسول خَبَرهُم بالصدق، إنهم شبابٌ آمنوا بربهم وسط قوم مشركين، وزِدناهم هدى بالتثبيت على الإيمان.
وربطنا على قلوبهم : قوّينا عزائمهم.
الشطط : الجور والظلم.
وثبّتنا قلوبهم فثبتوا ولم يرهبوا أحدا، ووقفوا وقفة واحدة فقالوا : ربّنا الحقُّ ربُّ السموات والأرض، ولن نعبدَ غيره إلهاً، ولن نتحول عن هذه العقيدة، لأننا إذا دَعَوْنا غيرَ الله نكون قد بعُدنا عن الحق وتجاوزنا الصواب.
السلطان المبين : الحجة الظاهرة.
اعتزلتموهم : بعدتم عنهم وتجنبتموهم.
المرفق : كل ما ينتفع به.
ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم، فقال بعضهم لبعض : ما دمنا قد اعتزلْنا قَوْمَنا في كفرهم وشِركهم، فالجأوا إلى الكهف فراراً بدينكم وأخلِصوا لله العبادة، فإنه تعالى يبسط لكم الخير من رحمته في الدارَين، ويسهل لكم من أمركم ما تنتفعون به من مرافق الحياة
قراءات :
قرأ ابن عامر وأهل المدينة :« مَرفِقا » بفتح الميم وكسر الفاء والباقون :« مِرفقا » بكسر الميم وفتح الفاء.
تزاور : أصله تتزاور، تميل.
وتقرضهم : تجاوزهم.
في فجوة منه : متسع من الأرض.
ثم بين تعالى حالهم بعد أن لجأوا إلى الكهف فقال :﴿ وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين... ﴾.
وإنك أيها المخاطَب لو رأيتَ الكهف لرأيت الشمس حين طلوعها تميل عنه جهةَ اليمين، ورأيتها حين الغروب تتركهم وتعدِلُ عنهم جهةَ الشمال، وهم في متّسع من الأرض، فحرارة الشمس لا تؤذيهم ونسيمُ الهواء يأتيهم. وذلك كلّه من دلائل قدرة الله، فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه وفقَ ناموسه حقا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضلّ ولن تجد له من يرشدُه ويهديه.
القراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب :« تزورّ » بفتح التاء وإسكان الزاي وتشديد الراء والباقون :« تزاور ».
وتحسبهم أيقاظا : تظنهم صاحين غير نائمين.
وهم رقود : جمع راقد نائم.
باسط ذراعيه : عندما يجلس الكلب فإنه يمد ذراعيه.
بالوصيد : فناء الكهف.
وتظنهم أيها الناظر منتبهين وفي الحقيقة هم نيام، ونقلّبهم في نومهم مرةً يمينا وأخرى يسارا لنحفظ أجسامَهم من تأثير الأرض، وكلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعيه بفناء الكهف وهو نائم في شكل اليقظان. ولو شاهدتَهم وهم على تلك الحال لهربتَ منهم، ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ ولفزعت منهم فزعا شديدا، لأنهم في وضع غريب، وذلك لكيلا يدنو منهم أحد ولا تمسّهم يد.
القراءات :
قرأ أهل الحجاز :« لملّيت » بتشديد اللام وبالياء وبدون همزة والباقون بالهمزة.
بورقكم : الورق بفتح الواو وكسر الراء، والورق بإسكان الراء : الفضة سواء كانت عملة أو غيرها.
أزكى طعاما : أجود أو أطيب.
وليتلطف : ليكن حذرا ومعاملته لطيفة.
ولا يشعرن بكم أحدا : لا يفعل ما يؤدي إلى كشف أحوالهم.
وكما أنمناهم بعثناهم بعد نومِهم ليسأل بعضهُم بعضا عن مدة بقائهم نائمين. فقال أحدهم : كم مكثتُم نائمين ؟ قالوا : مكثنا يوماً أو بعض يوم. ثم أحالوا العِلم إلى الله، فقالوا : الله أعلمُ بما لبثتم. وشعروا باحتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا : ابعثوا أحدكَم بدراهمكم الفضيّة إلى المدينة، فلْينظْر أي الأطعمة أشهى فليأتِنا برزق منه وليتلطف بالتخفيّ حتى لا يعرفه أحد. وكانوا لا يعلمون أن ثلاثة قرونٍ قد مرّت عليهم وهم راقدون.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر :« بَورْقكم » بفتح الواو وسكون الراء. والباقون « بورِقِكم » بفتح الواو وكسر الراء.
إن يظهروا عليكم : إن يطّلوا عليكم.
إنهم إن يطّلعوا عليكم يقتلوكم رجماً بالحجارة أو يعيدوكم إلى دينهم، ولن تفلحوا إذَنْ أبدا.
وكذلك أعثرنا عليهم : كذلك كشفنا أمرهم فاطلع عليهم أهل المدينة.
وأطلعنا عليهم أهل المدينة ليعلم الناسُ أن وعدَ الله بالبعث حق وأن القيامة لا شك فيها. وآمن أهل المدينة بالله واليوم الآخر، ثم أمات الله الفتية وتنازعَ الناس في شأنهم، فقال بعضهم : ابنُوا عليهم بنيانا ونتركهم وشأنهم، فربُّهم أعلمُ بحالهم. وقال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنَّ على مكانهم مسجداً نعبد الله فيه.
رجما بالغيب : القول بدون علم.
لما ذكر الله القصة ونزاعَ المتخاصمين فيما بينهم، شرع يقصّ علينا ما دار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف في عدد أصحاب الكهف. سيقولُ فريق من الخائضين في قِصتّهم من أهل الكتاب : هم ثلاثةٌ رابعهم كلبهم، ويقول آخرون : هم خمسة سادسهم كلبهم، ظناً بدون يقين، ويقول آخرون : هم سبعة وثامنهم كلبهم. قل يا محمد لهؤلاء المختلفين : ربي أعلمُ بعددهم، ولا يعلم حقيقته إلا قليل من الناس أطلعَهم الله عليه، فلا تجادلْ في شأن الفتية إلا جَدَلاً سهلاً لينا، ولا تستفتِ في شأنهم أحدا، فقد جاءك الحق الذي لا مرية فيه.
جاءت هاتان الآيتان معترضتين أثناء القصة فيهما إرشاد وتأديب للرسول الكريم وتعليمٌ للمؤمنين بأن يفوّضوا الأمورَ كلّها إلى الله، بعد أن يتخذوا كل الاحتياطات، وأن يقرِنوا قولهم بمشيئة الله علاّم الغيوب.
لا تقولن أيها الرسول لشيء تُقدمِ عليه وتهتم به : إني فاعل ذلك غداً أو بعد غد دون أن تقرِنَ قولك بمشيئة الله بأن تقول :« إن شاءَ الله ». فإذا كان هذا الخطاب للرسول الكريم الذي قال :« أدّبني ربي فأحسنَ تأديبي » فنحن أَوْلى وألزم أن نلتزم بهذا الأدب القرآني العظيم، ونشعر دائما أننا مع الله يوجّهنا إلى ما فيه الخير لنا ولأمتنا.
وإذا نسيتَ أمرا فتداركْ نفسك بذِكر الله، وقل عسى أن يوفقني ربي إلى أمر خير مما عزمتُ عليه وأرشدَ منه.
ثم بعد ذلك بين الله تعالى ما أجملَ في قوله :﴿ فضربْنا على آذانِهم في الكهف سنينَ عددا ﴾ فقال :﴿ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً ﴾. وثلاثمائة سنة وتسعٌ قمرية هي ثلاثمائة سنة شمسية، ولذلك جاء هذا النص مبينا حقيقة علمية لم تكن معروفة في ذلك الزمان.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي : ثلاثمائة سنين بالإضافة، والباقون « ثلاثمائة سنين » بتنوين مئة.
قل أيها الرسول للناس : إن الله تعالى وحدَه هو الذي يعلم كم لبثوا في كهفهم وهو الذي يعلم ما غاب في السموات والأرض.
ما أعظم بصره في كل موجود وما أعظم سمعه بكل مسموع، فهو لا يخفى عليه شيء. والله ولي أمر هذا الخلق جميعهم، لا يُشرك في قضائه أحداً من خلقه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك.
لا مبدل لكلماته : لا مغير لأحكامه.
ملتحدا : ملجأ.
بعد أن ذكر الله قصة أهل الكهف، وبين أن هذا القرآن يقص الحق، لأنه وحي من علام الغيوب، أمَرَ بالمواظبة على تلاوته ودرسه، وبيّن في هذه الآية الكريمة أن القيم الحقيقية ليست هي المالَ ولا الجاه ولا السُّلطة ولا لذائذ الحياة ومتعها، فإنها كلّها قيم زائفة، وأن الإسلام لا يحرِّم الطيب منها ولكنه لا يجعل منها غاية الحياة، فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع ولكن لِيذكُرِ الله الذي أنعم بها وليشكرْه على نعمه بالعمل الصالح.
اتلُ أيها الرسول الكتابَ الذي أوحي إليك، والزم العمل به، واتّبع ما فيه من أحكام وتعليم وتأديب. ولا يستطيع أحدٌ أن يغيّر أو يبدّل ما فيه، وليس لك ملجأٌ إلا الله، فإليه المرجع والمآب.
واصبر نفسك : احبسها.
بالغداة والعشي : في الصباح والمساء.
يريدون وجهه : يطلبون رضاه.
فرطا : مجاوزاً للحد.
احتفظ بصحابتك أيها الرسول الذين يعبدون اللهَ وحده في الصباح والمساء يطلبون رضوانه، وهم فقراءُ الصحابة مثل : عمار بن ياسر وصهيب وبلال وغيرهم، فقد رُوي أن عُيَيْنَةَ بن حصن الفَزاري والأقرعَ بن حابس وغيرَهم جاءوا إلى الرسول الكريم وطلبوا منه أن يبعد هؤلاء الفقراءَ من الصحابة ليحادثوه ويسْلموا، فنزلت.
ويقال إن أشرافَ قريش هم الذين طلبوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره الله تعالى أن لا يتخلّى عن أصحابه، ولا يلتفت إلى هؤلاء وما عندَهم من قوةٍ وجاهٍ ورجال، فاللهُ أكبرُ من كل ما عندهم. وهذا الأصح لأن السورة مكية.
ثم أمره بمراقبة أحوالهم ومجالسِهم فإن فيهم الخير، فقال :﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا.. ﴾، ولا يتحول اهتمامُك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة، فهذه زينةُ الحياة الدنيا الزائلة.
ثم أكد هذا النهي بقول :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
لا تطع هؤلاء المتكبرين فيما يطلبون من تمييزٍ بينهم وبين الفقراء، وطردِهم من مجلسك فهؤلاء قد أغفلْنا قلوبَهم عن ذكرنا واتجهوا إلى ذواتهم وإلى لذّاتهم وشغلوا قلوبهم بزخرف الدنيا وزِينتها وصار أمرُهم في جميعِ أعمالهم بعيداً عن الصواب، ولقد جاء الإسلام ليسوّي بين الناس أمام الله، فلا تفاضل بينهم بمال ولا نسبٍ ولا جاه.
قراءات :
قرأ ابن عامر :« بالغدوة والعَشِيّ » والباقون :« بالغداة والعشي ».
أعتدنا : هيأنا، أعددنا.
السرادق : الخيمة، الفسطاط.
كالمهل : خثارة الزيت، المعدن المذاب.
مرتفقا : متكأ.
بعد أن أمر اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يلتفت إلى قولِ أولئك الأغنياء الذين قالوا : إن طردتَ أولئك الفقراء آمنا بك، أمره أن يقول لهم ولغيرِهم على طريق التهديد والوعيد : إن ما جئتُ به هو الحقُّ من عند ربكم، فمن شاءَ أن يؤمن به فليؤمن فذلك خير له، ومن شاء أن يكفر فليكفر فانه لا يظلم إلا نفسه. إن الله قد أعدّ لمن ظلم نفسه بالكفر نارا تحيط بهم كالسُّرادقِ، وإن يطلبوا الغوثَ بطلب الماء يؤتَ لهم بماءٍ عكرٍ أسود يحرقُ الوجوه لشدة غليانه، ﴿ بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً.. ﴾
ما أقبح ذلك الشرابَ، ويا لسوءِ النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء.
بعد أن ذَكر حال أهل النار وما يلاقون فيها من عذاب وشقاء، ثنّى هنا بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وبدينه الحق وعملوا الصالحات
جنات عدن : جنات الإقامة والاستقرار. يقال عدنَ بالمكان إذا أقام فيه.
الأساور : واحدها سوار، معروفة.
من سندس : من حرير الديباج وهو حرير رقيق، فاسيٌّ معرب.
استبرق : حرير أيضا ولكنه غليظ.
الأرائك : جمع أريكة، المقعد المنجَّد.
فإنهم عند ربهم في جنات عدن يقيمون فيها منعمين أبدا، تنساب الأنهار من تحتهم بين أشجارها وقصورها، ويتحلَّون فيها بمظاهر السعادة، إذ يرفُلون بالحرير من سندس ناعم، واستبرقٍ كثيف، في أيديهم الأساور من الذهب، ومتكئين على أفخر المقاعد بين الوسائد والستائر، نعم الثوابُ لهم، وحسنت الجنة دار إقامة وراحة.
الجنة : البستان.
حففناهما بنخل : جعلنا النخل يحيط بهما.
لقد ضرب الله مثلاً في هذه الآيات الكريمة يبيّن فيه أن المال لا ينبغي أن يكون موضع فَخار لأنه ظلٌّ زائل، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنياً والغني فقيراً، وإنما الذي يجب ان يكون أساسَ التفاضل هو الإيمانُ بلله والعمل الصالح الذي ينفع الناس.
واذكر أيه الرسول مثلاً وقع فيما سلَف بين رجلَين : كافرٍ ومؤمن، وقد رزقنا الكافر جنّتين فيهما أعنابٌ وأصناف كثيرة من الشجر المثمر، وأحطناهما بالنخل، وجعلنا بين البستانين زرعا جيدا.
آتت أُكلها : أثمرت الثمر الجيد.
ولم تظلم منه شيئاً : كان له مال.
وقد أثمرت كل واحدةٍ من الجنتين ثمراً كثيرا، ولم يَنْقُص منه شيءٌ، وقد فجرّنا بينهما نهرا يسقيهما.
يحاوره : يجادله.
أعز نفرا : أكثر خدما وحشما وأعوانا.
وكان لصاحب الجنتين أموالٌ أخرى مثمرة فداخَلَه الغرور والكبرياء بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن وهو يجادله : أنا أَكثرُ منك مالاً وأكثر خدماً وحشَما وأنصارا.
وهو ظالم لنفسه : لكفره وغروره.
أن تبيد : أن تفنى.
ثم زاد فخرا على صاحبه المؤمن، فدخل إحدى جنتيه وهو مأخوذ بغروره.
وما أظن الساعة قائمة : لا أؤمن بيوم القيامة.
منقلبا : مرجعا وعاقبة.
فقال : ما أظنُّ أن تَفنى هذه الجنة أبدا، وما أظنّ أن يوم القيامة آتٍ كما تقول، ولو فُرض ورجعتُ إلى ربي بعد البعث كما تزعم، ليكوننّ لي هناك أحسنُ من هذا الحظ عند ربي، لأنه لم يعطِني هذه الخيراتِ في الدنيا إلا ليعطيني ما هو أفضل منها فيما بعد.
يحاوره : يجادله.
فقال له صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر : كيف تكفر بربك الذي خَلَقك من ترابٍ ثم من نطفة لا تُرى ثم صوّرك رجلاً كاملا.
أنا أقول : إن الذي خلَقني وخلَق هذا الكونَ وما فيه هو الله ربي، وأنا أومن به وأعبُده وحده ولا أُشرِك معه أحدا.
ثم زاد في وعظه قائلا : هلاّ إذ أعجبتْك جنتُك حين دخلتَها ونظرتَ إلى ما فيها من رزق وجمال حمدتَ الله على ما أنعم به عليك وقلت :﴿ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله ﴾ هذا ما شاء الله فيكون ذلكَ شكراً كفيلاً بدوام النعمة عليك.
وبعد أن نصح الكافرَ بالإيمان وأبان له عظيم قدرة الله وكبيرَ سلطانه، قال له : إن تَرَنِي أنا أفقرَ منك وأقلُ ولدا.
حسبانا من السماء : مطرا عظيما، آفة مهلكة.
صعيدا زلقا : أرضا ملساء لا شيء فيها.
فإني أرجو من الله أن يرزقني خيراً من جنتك ويرسلَ على جنتك سيولاً عظيمة وصواعقَ تخرّبها فتصيرَ أرضاً ملساء لا ينبت فيها شيء ولا يثبت عليها قوم،
أو يصبح ماؤها غورا : يغور نهرها في الأرض.
وتصبح أنت وما تملك أثراً بعد عين.
وأحيط بثمره : هلكت أمواله.
يقلب كفيه : تصويرا للندامة والحسرة.
خاوية : خالية، خلت من أهلها وزرعها.
على عروشها : ساقطة على عرائشها. عقبا : عاقبة.
وقد أخبر الله تعالى بأنه قد حقّق ما قدّره هذا المؤمن فقال :﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ... ﴾، أحاطت الجوائحُ بثمار جنته التي كان يقول :﴿ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً ﴾ وأهلكتها الصواعقُ والآفات وأبادت أصولَها، فأصبح يقلّب كفيه ندماً وتحسرا على خسارته وضياع ماله حين رآها ساقطةً على عروشها خاليةً من الثمر، وضاعت منه الدنيا وحُرم الدنيا والآخرة معا، وعظُمت حسرته وقال : ليتَني لم أشرك بربّي أحدا.
القراءات :
قرأ عاصم : وكان له ثمر، وأحيط بثمره بفتح الثاء والميم. وقرأ أبو عمرو : بضم الثاء وإسكان الميم، والباقون : ثمر بضم الثاء والميم.
ولم تكن له عشيرة تنصره من دون الله، وما كان منتصراً بقوّته.
وهنا تبيَّنَ أن الله ينفرد بالوَلاية والنصرة والعزة، ومن اعتزّ بغير الله ذلّ، فلا قوةَ إلا قوّته، ولا نصر إلا نصرهُ وثوابهُ.
ويسدل الستار على مشاهد الجنة الخاوية على عروشها، وصاحبها يقلّب كفّيه أسفاً وندما، وجلالُ الله يظلل الموقف حيث تتوارى قدرةُ الإنسان.
قراءات :
قرأ حمزة :« الوِلاية لله الحق » بكسر الواو، وقرأ أبو عمرو :« الوَلاية لله الحق » بفتح الواو وبضم القاف. وقرأ الكسائي :« الوِلاية لله الحقُّ » بكسر الواو وضم القاف من الحق.
هشيما : يابسا متفتتا.
تذروه الرياح : تنثره، تفرقه.
اذكر أيها الرسول، للناس مَثَلَ حال الدنيا في نُضْرتها ثم سرعةِ فنائها وزوالها كمثَلِ نباتٍ اخضرَّ والتفّ وأزهر، ثم صار هشيماً يابسا تنثره الرياح، والله قادر على كل شيء، وكل ما نراه إلى زوال، وفي الحديث :« الدنيا كَسُوقٍ قام ثم انفضّ »
الباقيات الصالحات : الأعمال الصالحة.
والمال والبنون جمالٌ ومتعة للناس في هذه الحياة الدنيا ولكنْ لا دوامٍ لشيءٍ منها. وقد بين الله تعالى ما هو الباقي فقال :﴿ والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ فإن الأعمال الصالحةَ التي تنفع الناس، وطاعة الله خيرٌ عند الله يُجزل ثوابها، وخير أمل يتعلّق به الإنسان.
بارزة : ظاهرة ليس على وجهها شيء.
حشرناهم : سقناهم إلى الموقف.
فلم نغادر : لم نترك.
بعد أن بين الله تعالى أن الدنيا فانية زائلة وأنه لا ينبغي أن يعتزَّ أحدٌ بِزخْرفها ونعيمها، أردف هنا بذِكر مشاهدِ يوم القيامة وما فيها من أهوال، وأنه لا ينجيّ في ذلك اليوم إلا من آمنَ وعمل صالحا، ولا ينفع الإنسان مالٌ ولا بنون ولا جاهٌ ولا مناصب.
اذكر أيها الرسول، للناس وأنذِرْهم يومَ نُفني هذا الوجودَ ونقتلع هذه الجبالَ من أماكنها ونسيّرها ونجعلها هباء منثورا، كما قال تعالى في سورة النمل ٨٨ :﴿ وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب ﴾ وتبصر في ذلك اليوم الأرضَ ظاهرة مستوية
لا عوج فيها ولا وادي ولا جبل.
﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ : وجمعنا الناس وبعثناهم من قبورهم فلم نترك أحدا،
كما قال تعالى :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٤ ]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« يُحشَر الناس حفاةً عراة.. فقلت : الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال : الأمر أشدُّ من أن يهمَّهم ذلك » وزاد النِّسائِّي :﴿ لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٦ ] يعني : من شدّة الهول لا ينظر أحد إلى غيره.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر :﴿ ويوم تُسيَّر الجبالُ ﴾ بضم التاء ورفع الجبال، والباقون : نسير بضم النون ونصب الجبال.
وعرضوا : أُحضروا للفصل والحساب.
صفا : مصطفين.
ثم بين كيفية حشرِ الخلق وعرضِهم على ربهم بقوله :﴿ وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً... ﴾
ويعرَض الناس في ذلك اليوم على الله في جموع مصفوفة ويقول الله تعالى : لقد بعثناكم بعدَ الموت كما أحييناكم أولَ مرة، وجئتمونا فُرادى حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد، وقد كنتم في الدنيا تكذِّبون بالبعث والجزاء.
ووضع الكتاب : جعل كتاب كل إنسان في يده.
مشفقين : خائفين.
الويل : الهلاك.
أحصاها : عدها.
ووُضع كتابُ الأعمال في يد كل واحد، فيبصره المؤمنون فَرِحين بما فيه، ويبصره الجاحدون فتراهم خائفين مما فيه من الأعمال السيئة، وعند ذلك يقولون : يا ولينَا ما لِهذا الكتابِ لا يترك صغيرةً ولا كبيرة إلا بيَّنها بالتفصيل والدّقة وعدَّها ! !.
ثم أكد الله ذلك بقوله :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ : ووجدوا أمامهم في كتابهم كلَّ عملٍ عملوه مثبتا، والله سبحانَه عادلٌ لا يظلم أحداً من خَلْقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعذّب من يشاء بحكمته وعدله.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إن الله تعالى ينادي يوم القيامة : يا عبادي، أنَا الله لا إله إلا أنا أرحمُ الراحمين وأَحكَم الحاكمين وأسرع الحاسبين، أحضِروا حجّتكم، ويسِّروا جوابكم، فإنكم مسئولون محاسَبون.
فَسَقَ عن أمر ربه : خرج عن طاعته.
فهم لكم عدو : العدو يطلق على الواحد والجمع.
تقدم ذلك في الآية ٣٤ من سورة البقرة، والآية ١١ من سورة الأعراف، والآية ٦١ من سورة الإسراء، وهي في كل موضع جاءت لفائدةٍ ومعنى غير ما جاءت له في المواضع الأخرى، على اختلاف أساليبها وعباراتها من المعنى المراد منها.
وهنا يشير الله تعالى إلى أن الكفر والعصيانَ مصدرهما طاعة الشيطان، وإبليس أعدى الأعداءِ، وقد خرج عن طاعة الله ولم يسجد لآدمَ سجودَ تحيَّةٍ وإكرام، مع أن الملائكة كلَّهم سجدوا وأطاعوا أمرَ ربهم، فعصى ربه عن أمره. ومع هذا وبعد أن عرفتم عصيانه وتمرُّدَه على الله تتخذونه هو وأعوانَه أنصاراً لكم من دون الله، وهم لكم أعداء !
﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ بئس البدلُ للكافرين بالله اتخاذُ إبليسَ وذرّيته أولياءَ من دونه.
العضد : ما بين المرفق والكتف ومعناه هنا المعين المساعد والنصير.
ما أطلعتهم على أسرار التكوين، وما أحضرت إبليس ولا ذريته خَلْقَ السموات والأرض وما أشهدتُ بعضَهم خلق بعض لأستعين بهم، وما كنتُ في حاجةٍ إلى معين، وما كنت متخذ المضلِّين الجاحدين أعوانا وأنصارا، تعالى الله الغنيُّ عن العالمين.
فدعوهم : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم.
موبقا : حاجزا فيه الهلاك. الموبق : المهلك، وبق يبق وبوقا : هلك.
ثم أخبر سبحانه عما يخاطَب به المشركون يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخا فقال :﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾.
اذكر لهم أيها الرسول يوم يقول الله للمشركين : نادوا الذين ادَّعيتم أنهم شركائي في العبادة ليشفعوا لكم كما زعمتم، فاستغاثوا بهم فلم يُجيبوهم، وجعلْنا بينهم حاجزاً مهلكا، وهو النار.
قراءات :
قرأ حمزة وحده :﴿ ويوم نقول ﴾ بالنون، والباقون :﴿ ويوم يقول ﴾ بالياء.
مواقعوها : واقعون فيها.
مصرفا : مكانا ينصرفون إليه.
ورأى المجرمون النارَ بأعينهم، فأيقنوا أنهم واقعون فيها، ولم يجدوا عنها مَحِيدا.
لقد وضحنا للناس كلَّ ما هم في حاجة إليه من أمورِ دينهِم ودنياهم، ليتذَّكروا ويعتبروا، لكنهم لم يقبلوا ذلك.
كان الإنسان بمقتضى جِبِلَّتِه أكثر شيء مِراءً وخصومة، لا يُنيب إلى حق ولا يزدَجِر بموعظة.
وما منع هؤلاءَ المشركين من الإيمان، حين جاءهم الحقُّ وهو الرسول والقرآن، إلا تعنُّتهم وطلبهم من الرسول أن يأتيَهم بالهلاك، وهي سُنَّةُ الأولين، أو يأتيَهم العذابُ مواجهة وعيانا.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ قُبُلا ﴾ بضم القاف والباء. والباقون :﴿ قبلا ﴾ بكسر القاف وفتح الباء
وما نرسل الرسلَ والأنبياء إلا ليبشّروا بالإيمان والتصديق بالله ورسُله وبجزيل ثوابه، وينذِروا الناسَ بعظيم عقابه وأليم عذابه.
ويجادل الذين أشركوا بالباطل ليُبْطِلوا الحق، واتخذوا آيات الله وحُجَجَهُ والنذُرَ التي أنذرهم بها استهزاء وسخريّة.
أكنة : أغطية، واحدها كنان.
أن يفقهوه : أن يفهموه. وقرا : ثقلاً.
ليس هناك أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله فلم يتدَبَّرها، ونسي عاقبةَ ما عمل من المعاصي، وبسبب مَيْلِهم إلى الكفر جعلْنا على قلوبهم أغطية فلا تعقِل وفي آذانهم صَمماً فلا تسمع، وإن تدْعُهم أيها الرسول إلى دين الله الحق فلن يهتدوا أبدا.
موئلا : ملجأ، يقال وَأُلَ يَئِل وَأْلاً وَوُؤلاً : لجأ.
ثم بين الله تعالى أنه لا يعجِّل العقوبة لعباده على ما يقترفون من السيئات والآثام لعلّهم يرجعون إليه ويتوبون، فقال :﴿ وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب... ﴾ : إن ربك أيها الرسول عظيمُ المغفرة لذنوب عباده، فهو يرحمهم ويتجاوز عن خطاياهم. ولو شاء أن يؤاخذَهم على أعمالهم السيئة لعجَّل لهم العذاب، لكنّه لحكمة قدّرها إنما أخّرهم لموعدٍ ليس لهم عنه مهرب ولا ملجأ.
وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم دمرناهم لما ظلم أهلها بتكذيب رسلهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا، وكذلك نفعل بالمكذبين من قومك إذا لم يؤمنوا.
قراءات :
قرأ حفص ﴿ لمهلكهم ﴾ بفتح الميم وبكسر اللام والكاف، وقرأ ابو بكر ﴿ لمهلكهم ﴾ بفتح الميم واللام، والباقون ﴿ لمهلكهم ﴾ بضم الميم وكسر اللام.
فتاه : خادمه، تلميذه.
لا أبرح : لا أزال سائرا.
مجمع البحرين : مكان اجتماعهما.
حقبا : مدة طويلة :
هذه القصة الثالثة التي اشتملت عليها سورة الكهف، وهي قصة موسى مع الرجل الصالح الذي آتاه الله علما. وهذه القصة وردت هنا في سورة الكهف ولم تكرر في القرآن. وموسى هذا اختلف المفسرون فيه : هل هو موسى بن عمران النبي المرسل صاحب التوراة، أو موسى آخر ؟ وأكثر المفسرين على أنه موسى بن عمران. وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما : إن نوفا البكالي من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس : كذب عدو الله.
ونوف البكالي هذا كان من التابعين ومن أصحاب سيدنا علي بن أبي طالب وإمام أهل الشام في عصره. وكان ابن زوجة كعب الأحبار، وكان راويا للقصص، توفي نحو سنة ٩٥ ه.
وعند أهل الكتاب وبعض المحدّثين والمؤرخين أن موسى هذا ليس موسى بن عمران، بل موسى آخر، وهو متقدم في التاريخ.
والقرآن الكريم لم يحدد الأسماء ولا زمن الحادثة، ونحن لا يهمنا الأشخاص وإنما نقف مع نصوص القرآن، والعبرة من القصص، وما نستفيد منها.
وفتاه : يقول المفسرون : إنه يوشع بن نون تلميذه وخليفته. ومجمع البحرين لم يحدَّد مكانهما، وهناك أقوال كثيرة منها : أنهما البحر الأحمر والبحر الأبيض، أو مجمع البحرين عند طنجة وغير ذلك. قال البقاعي في « نظم الدرر » : الظاهر واللهُ أعلم أن مجمع البحرين عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، حيث مجمع النيل والبحر الأبيض.
وكلها أقوال بدون دليل أو خبر قطعي.
﴿ وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً... ﴾ : اذكر أيها الرسول حين قال موسى لفتاه خادمه وتلميذه : سأظل أسير حتى أبلغ ملتقى البحرين أو أسير زمنا طويلا حتى التقي به.
وسبب ذلك كما في كتب الحديث :« عن أبي كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني اسرائيل، فسئل أي الناس أعلم ؟ قال : أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب وكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو هناك ». المِكتَل : الزنبيل، القفة.
الحوت : السمكة الكبيرة.
سربا : مسلكا.
فلما وصل موسى وفتاه المكان الجامع بين البحرين نسيا حوتهما الذي حملاه معهما، وكان الحوت سقط في الماء وغاص فيه.
نصيبا : تعبا.
فلما ابتعدا عن ذلك المكان، أحس موسى بالجوع والتعب، فقال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا في هذا السفر تعبا ومشقة.
أوينا : التجأنا.
فقال له فتاه : أتذكر حين جلسنا نستريح عند الصخرة، فإني نسيت الحوت هناك، إن الحوت سقط في البحر، ونسيت أن أذكر لك ذلك، وما أنساني ذلك إلا الشيطان.
ذلك ما كنا نبغي : ذلك ما كنا نريد.
فارتدا على آثارهما قصصا : رجعا في نفس الطريق التي جاءوا منها.
الحوت : السمكة الكبيرة.
فقال له موسى : إن هذا الذي حدث هو ما أريده لحكمة أرادها الله. فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يتتبعان أثرهما حتى أتيا الصخرة.
فلما بلغا تلك الصخرة وجدا عندها رجلا صالحا أعطاه الله الحكمة، أي علّمه من عنده علما كثيرا.
رشدا : إصابة الخير.
وسلم عليه موسى، وقال له : هل أصحبك لتعلمني مما علمك الله أسترشدُ به في أمري ؟
فقال الرجل الصالح : إنك لن تستطيع الصبر على ما تراه مني.
على ما لم تحط به خُبرا : على معرفة الشيء معرفة تامة. والخُبر : المعرفة.
وكيف تصبر على أمور ظاهرها منكر وباطنها مجهول لا خبرة لك بمثلها ؟
قال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا معك مطيعا لك فيما تأمر به.
ذكرا : بيانا وشرحا.
قال الرجل الصالح : إن سرت معي ورأيت أني عملت عملاً منكرا فلا تعترض علي وتسألني عنه حتى أحدثك عنه وأبين لك سره.
وهذا العبد الصالح اختلف العلماء فيه، هل هو الخضر كما هو شائع بين أكثر المفسرين أو هو رجل آخر، وهل هو نبي أو ملك من الملائكة، أو ولي ؟ وهذا قول كثير من العلماء.
واختُلف فيه : هل هو لا يزال حيا إلى اليوم أو أنه مات، فقد أنكر البخاري أن يكون حيا، وعلماء السنة يقولون إنه ميت بدليل قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد ﴾ [ الأنبياء : ٣٤ ].
وبذلك جزم ابنُ المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي، وأبو يعلى الحنبلي، وأبو الفضل بن تامر، والقاضي أبو بكر بن العربي، وأبو بكر بن النقاش، وابن الجوزي. قال أبو الحسين بن المناوي : بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا فإذا أكثر المغفلين مغترون بأنه باق، والأحاديث الواردة واهية والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم.
وقال في « فتح البيانط : والحق ما ذكره البخاري وأضرابه في ذلك، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يقيمه عليه.
ويقول الصوفيون أنه حي وأن بعضهم لقيه، وهذا كلام ليس عليه دليل ويناقض نصوص القرآن.
وبما أنه لم يرد نص معتمد في القرآن أو الحديث فإننا نكتفي بالعبرة من القصة، ولا يهمنا معرفة الأسماء والأشخاص.
وقد كتب الحافظ ابن حجَر في الإصابة بحثا طويلا في نحو عشرين صفحة قال فيه : وقد جمعت من أخباره ما انتهى إليّ علمه مع بيان ما يصح من ذلك وما لا يصح.
إمرا : منكرا.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى وجدا سفينة فركباها، فخرقها العبد الصالح فاعترض موسى قائلا : أخرقتَ السفينة لتغرق من فيها من الركاب ؟ لقد ارتكبت أمرا منكرا.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ ليغرق أهلها ﴾ بالياء ورفع أهلها.
قال العبد الصالح :﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ لما ترى من أعمالي ولا تدرك سرها
لا ترهقني : لا تحمّلني ما لا أطيق.
العسر : الشدة والمشقة وضد اليسر، يعني ارفق بي وعاملني باليسر.
قال له موسى : لا تؤاخذني فقد نسيت العهد الذي بيننا، ولا ترهقني وتكلفني مشقة ويسّر عليّ أمري.
زكية : طاهرة من الذنوب.
نكرا : منكرا تنفر منه النفوس.
وخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان فلقيا صبياً فقتله العبد الصالح، فقال موسى مستنكرا هذا العمل : كيف تقتل نفسا طاهرة بريئة من الذنوب ولم ترتكب ذنبا !
لقد ارتكبت إثما عظيما.
قال العبد الصالح : لقد قلت لك إنك لن تستطيع الصبر على ما ترى من أعمالي
قد بلغت من لدني عذرا : وجدت عذرا من قبلي.
قال موسى : إن سأتلك عن شيء بعد هذه المرة عن عجيب أفعالك التي أشاهدها فلا تصاحبني، قد بلغتَ الغاية التي تعذر بسببها في فراقي.
قراءات :
قرأ يعقوب :﴿ فلا تصحبني ﴾ والباقون :﴿ فلا تصاحبني ﴾ وقرأ نافع :﴿ من لدني ﴾ بتخفيف النون، وقرأ أبو بكر :﴿ من لدني ﴾ بإسكان الدال. قرأ ابن كثير والبصْرِيَّان :﴿ لتخذت عليه أجرا ﴾ بفتح التاء وكسر الخاء.
استطعما أهلها : طلبا منهم أن يطعموهما.
جدارا يريد أن ينقض : حائطا مشرفا على السقوط.
فأقامه : فسوّاه ورممه.
فانطلقا يمشيان حتى وصلا إلى قرية، فطلبا من أهلها أن يطعمهما، فرفضوا أن يضيّفوهما، ووجدا في القرية جدارا يكاد يسقط فسوّاه العبد الصالح ورممه. فقال موسى : لو شئت لطلبت أجرة على بنائه.
هذا فراق بيني وبينك : إلى هنا انتهى اجتماعنا.
سأنبئك بتأويل : سأخبرك بتفسير ما لا تعرفه.
فقال : هذا الاعتراض الدائم منك على ما أفعل سبب الفراق بيني وبينك، وسأخبرك بحكمة هذه الأفعال التي خفي عليك أمرها ولم تستطع الصبر عليها.
أما السفينة التي أحدثت فيها خرقا، فهي لمساكين ضعفاء يعملون بها في البحر لتحصيل رزقهم فأحدثت فيها عيبا، لأنه كان هناك ملك يغتصب كل سفينة صالحة، وبعملي هذا نجت السفينة من ذلك.
وأما الغلام الذي قتلته فكان أبواه مؤمنين، وعلمت أنه إن عاش فإنه سيكون سبباً لكفرهما
خيرا منه زكاة : أحسن منه طهارة.
وأقرب رحما : قرابة ورحمة.
وأراد ربك بقتله أن يعوضهما خيرا منه ديناً وأقرب براً ورحمة.
القراءات :
قرأ نافع وأبو عمرو :﴿ أن يبدلهما ﴾ بتشديد الدال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وعاصم :﴿ رحما ﴾ بضم الراء وإسكان الحاء، والباقون :﴿ رحما ﴾ بضم الراء والحاء.
كنز : مال مدفون تحت الجدار.
يبلغا أشدهما : بلوغ الرشد وكمال العقل.
وأما الجدار الذي أقمته دون أجر فكان لغلامين يتيمين من أهل المدينة، وكان تحته مال مدفون تركه أبوهما لهما وكان رجلا صالحا، فأراد الله أن يحفظ لهما ذلك المال حتى يبلغا رشدهما ويستخرجاه، رحمة من ربهما وتكريماً لأبيهما.
واعلمْ أني ما فعلت هذا كله بأمري واجتهادي من عندي نفسي، وإنما فعلته بتوجيه من ربي، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى ولم تستطع الصبر عليه.
ذكراً : خبرا.
اختلف المؤرخون والمفسرون في شخصية ذي القرنين، فقال كثير من المفسرين : إنه اسكندر المقدوني، وفي تاريخ ملوك حمير واقيال اليمن أن ذا القرنين هو تبَّع بن شمر يرعش.. وأنه غزا بلاد الروم وأوغل فيها حتى وصل إلى وادي الظلمات.
وفي رواية أنه الصعب بن تبع بن الحارث ويلقب بذي القرنين، وروايات كثيرة، وكلها من باب الرجم بالغيب والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا.
ويقول أبو الكلام أراد في كتابه عن ذي القرنين أنه « كورش الأكبر » مؤسس الأسرة الأخمينية والذي يقول العقاد إننا إذا أمعنا النظر في التاريخ نجد أن أوصافه تنطبق على ما وصف به القرآن ذا القرنين، إذ كان ملهماً وفاتحا عظيما، غزا الأرض شرقا وغربا وأقام سدا ليصد به هجمات المغيرين من « يأجوج ومأجوج » على بلاده. وأما اسكندر المقدوني فقد كان وثنيا معروفا بالقسوة والوحشية، ثم إن الاسكندر لا يعقل أن يكون هو باني سور الصين، فهو أولا لم يصل الصين، بل عاد من الهند حيث تمرد عليه رجاله، وأن سد الصين بني بعده بنحو مائة وعشرين سنة. ما بين سنة ٢٤٦ - ٢٠٩ قبل الميلاد وبانيه معروف وهو الملك « ش هو انجتي ». وطول سد الصين ٢٤٠٠ كيلو متر استغرق بناؤه سنين عديدة. وسيأتي الكلام على السد ومكانه قريبا.
يسألك بعض زعماء قريش أيها الرسول عن نبأ ذي القرنين فقل لهم سأقص عليكم بعض أخباره روي في سبب نزول سورة الكهف أن زعماء قريش أرسلوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وَصِفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.. فقال لهم اليهود : سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فهو رجل متقوِّل فروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنهم كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبيّ فاتبعوه... فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا : يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فأخبروهم بما قال اليهود. فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن هذه الأمور الثلاثة. فقال : أخبركم غدا عما سألتم ولم يَقُلْ إن شاء الله، ومكث خمس عشرة ليلة لم يأته الوحي. فأرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه ! وشق ذلك على النبي الكريم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف. وهناك روايات أخرى في سبب النزول ولا يهمنا ذلك كله، والمهم العبرة من القصص القرآني ويكفينا ذلك.
مكنّا له في الأرض : جعلنا له قوة وسلطة.
آتيناه من كل شيء سببا : هيأنا له السبب الذي يوصله إلى ما يريد.
إنا مكنا لأمره في الأرض، فأعطيناه سلطانا قويا، ويسرنا له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وآتيناه الكثير من العلم بالأسباب كي يستطيع توجيه الأمور، ورحل ثلاث رحلات : واحدة إلى المغرب، وواحدة إلى المشرق، وواحدة إلى ما بين السدّين.
وأتبع سببا : سار في طريقه.
ومضى بهذه الأسباب يبسط سلطانه على الأرض.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة :﴿ فأتْبع سببا ﴾ بفتح الهمزة وسكون التاء، والباقون :﴿ فاتَّبع سببا ﴾ بجعل الهمزة ألف وصل وتشديد التاء المفتوحة.
حمئة : ذات طين أسود.
حتى إذا وصل إلى مكان بعيد جهة مغرب الشمس، ووقف على حافة البحر، وجد الشمس تغرب عند عين ذات حمأة وطين أسود، ووجد بالقرب من هذه العين قوما كفارا فألهمه الله أن يتخذ فيهم أحد أمرين : إما أن يدعوهم إلى الإيمان، وهذا أمر حسن في ذاته ؛ وإما أن يقاتلهم إن لم يجيبوا داعي الإيمان.
قراءات :
قرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلا حفصا :﴿ في عين حامئة ﴾ والباقون :﴿ في عين حمئة ﴾ بفتح الحاء وكسر الميم وفتح الهمزة، كما هو في المصحف.
نكرا : فظيعا.
فقال ذو القرنين : إن من ظلم نفسه بالبقاء على الشرك استحق العذاب في هذه الدنيا على يديه، ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذابا شديدا.
الحسنى : المثوبة الحسنة.
يسرا : سهلا ميسرا.
وأما من استجاب وآمن بِرِبِه وعمل صالحا، فله المثوبة الحسنى في الآخرة وسنعامله في الدنيا برفق ولين ويسر.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر :﴿ فله جزاءً الحسنى ﴾ بنصب جزاء مع التنوين، والباقون :﴿ فله جزاءُ الحسنى ﴾ برفع جزاء وإضافته إلى الحسنى.
وقفل راجعا من مغرب الشمس حتى بلغ مشرق الشمس حيث بلغ غاية المعمور من الأرض في ذلك الزمن، فوجدها تطلع على قوم ليس لهم بناء يكنّهم ولا لباس لهم، فهم عراة في العراء أو في سراديب في الأرض.
خبرا : علما.
إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من قبل بلوغه طرفي المشرق والمغرب، ونحن مطلعون على جميع أحواله لا يخفى علينا شيء منها.
السدين : الجبلين.
وهذه رحلة ذي القرنين الثالثة فلما وصل إلى مكان بعيد بين جبلين وجد هناك قوما لا يفهمون ما يقال لهم لغرابة لغتهم وجهلهم. ويقال إن الجبلين المذكورين عند مدينة دربند، بالقرب من مدينة ترمذ حيث يعرف بباب الحديد.
قراءات :
قرأ نافع وحمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب :﴿ بين السدّين ﴾ بضم السين، والباقون :﴿ بين السدين ﴾ بفتح السين، وهما لغتان.
وقرأ حمزة والكسائي :﴿ لا يكادون يفقهون قولا ﴾ بضم الياء وكسر القاف، والباقون :﴿ يفقهون ﴾ بفتح الياء والقاف.
خَرْجا : أجرة من أموالنا.
قال المجاورون لهذين الجبلين لذي القرنين : إنه يوجد أناس مفسدون في الأرض وهم يأجوج ومأجوج، ويقال إنهم التتر والمغول، وكانوا يغيرون على الأمم المجاورة لهم فيفسدون ويدمرون، ولذلك توسل المجاورون إلى ذي القرنين أن يجعل بينهم وبينهم سدا.
قراءات :
قرأ عاصم وحده :﴿ يأجوج ومأجوج ﴾ بالهمز، والباقون :﴿ ياجوج وماجوج ﴾ بدون همز.
وقرأ أهل الكوفة :﴿ خراجا ﴾ إلا عاصما :﴿ خرجا ﴾.
ردما : حاجزا.
ولذلك أجاب طلبهم بأنه بحول الله وقوته سيبني هذا السد، وشرع فيه وقال لهم : أعينوني بما تقدرون عليه من رجال وأدوات أحقق لكم هذا الطلب و ﴿ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير :﴿ ما مكنني ﴾.
زبر الحديد : قطع الحديد، المفرد زبرة،
الصدفين : وأحدها صدف : جانب الجبل.
قطرا : نحاسا مذابا، أو رصاصا.
وطلب منهم أن يمدوه بقطع الحديد، فأقام سدا عاليا ساوى به بين حافتي الجبلين، ثم أمر أن يوقدوا نارا حتى انصهر الحديد فصب عليه النحاسَ المذاب، فأصبح سدا منيعا. ويقول الخبراء الذين زاروا تلك المنطقة : إن هذا السد موجود الآن ويُعرف بسد دربند، وطوله ٥٠ ميلا وارتفاعه ٢٩ قدما، وسمكه عشرة أقدام، وتتخلله بعض الأبواب الحديدية، قوي، أعلاه برج للمراقبة.
قراءات :
قرأ حمزة وأبو بكر :﴿ ائتوني ﴾، والباقون :﴿ آتوني ﴾ بمد الهمزة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر :﴿ الصُدفين ﴾ بضم الصاد والدال، وقرأ أبو بكر :
﴿ الصدفين ﴾ بضم الصاد وإسكان الدال، والباقون :﴿ الصدفين ﴾ بفتح الصاد والدال.
أن يظهروه : أن يرتقوا عليه ويجتازوه.
فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يجتازوه، ولا أن يثقبوه لصلابته.
دكَّاء : مهدوما مستويا مع الأرض.
وبعد أن أتم ذو القرنين بناء السد، قال شاكرا لله :﴿ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾.
إن هذا السد من رحمة الله بكم، وسيظل قائما حتى يسويه بالأرض، وإن أمر الله نافذ لا محالة
وهذا النص لا يحدد زمنا معينا لخروج يأجوج ومأجوج، ففي سورة الأنبياء :﴿ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ﴾ [ فمن الجائز أن تكون هي غارات المغول والتتر التي دمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو، ويكون هذا تصديقا للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن زينب بنت جحش قالت : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول :« ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلّق بأصبعيه السبابة والإبهام، قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ».
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ دكاء ﴾ بالهمزة مع المد، والباقون :﴿ دكا ﴾ بدون همزة.
نفخ في الصور : الصور : قرنٌ ينفخ فيه فيحدث صوتا عاليا.
وتركنا يأجوج ومأجوج خلف السد يموج بعضهم في بعض لكثرتهم إلى أن نأمر بفتحِهِ ويخرجون إلى ما وراءه يفسدون ويدمرون كعادتهم.
فإذا كان موعد يوم القيامة ونفخ في الصور، يجمع الله الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
بعد أن ذكر الله تعالى أنه إذا نفخ في الصور وجاء يوم القيامة جمع الناس من جميع أطراف الأرض، بين هنا أنه عند ذلك يُبرز جهنم ويعرضها للذين كفروا بالله.
غطاء : غشاوة.
الذين كانت أعينهم في الدنيا مقفلة، وقلوبهم في غفلة عن ذكره، وكانوا لا يستطيعون أن يسمعوا ذكر الله.
ثم بين أن ما اعتمدوا عليه من المعبودات الأخرى لا تنفعهم ولا تنصرهم في ذلك اليوم.
أعتدنا هيأنا.
نزلا : أصل النزل ما يُهيّأ للضيف النزيل، وهنا جعل جهنم مكانا لهؤلاء الجاحدين ينزلون به.
أظنوا أن اتخاذهم المعبودات الضعيفة التي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا ينفعهم أو ينجيهم من العذاب. إنا أعتدنا لهم جهنم مقرا ينالون فيه ما يستحقون من جزاء.
وفي ذلك تهكم بهم وتخطئة في حسبانهم ذلك، وإشارة إلى أن لهم وراء جهنم ألوانا أخرى من العذاب.
ثم بين سبحانه ما فيه تنبيه إلى جهلهم وخسرانهم فقال : قل أيها الرسول لهؤلاء الجاحدين : هل نخبركم بأشد الناس خسرانا لأعمالهم.
الذي بطل عملهم في الحياة الدنيا، وهم يعتقدون أنهم يحسنون بعملهم صنعا ! إنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، وظنوا أنهم بفعلهم هذا مطيعون له، وقد ذهب سعيهم هباء فلم يجدِهم شيئا.
ثم بين الله السبب في بطلان سعيهم فقال :﴿ أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً ﴾.
هؤلاء الذين كفروا بما جاء به الرسول من دلائل وآيات، وأنكروا البعث والجزاء ولقاء الله فحبطت أعمالهم، أي فسدت وبطلت. وأصل الحبوط انتفاخ بطن الدواب عندما تأكل شيئا يضرها من الكلأ ثم تلقى حتفها، وهذا أنسب شيء لوصف أعمال هؤلاء الكفار الذين هم أشبه شيء بالدواب. ولذلك سوف يمهَلون يوم القيامة ويتركون في جهنم، ولا قيمة لهم.
الهزؤ : السخرية.
ثم بين مآلهم بسبب كفرهم وسائر معاصيهم بعد أن بين حبوط أعمالهم وخسرانهم فقال :﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً ﴾ : ذلك الذي بيناه وفصلناه شأن هؤلاء، وجزاؤهم جهنم بسبب كفرهم وسخريتهم بما أنزل الله.
الفردوس : المنازل العليا في الجنة.
بعد أن ذكر سبحانه ما أعده للكفار من عذاب جزاءَ جحودهم بربهم واستهزائهم برسله وآياته، بين هنا المقابل وهو حال المؤمنين وما ينتظرون من نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار.
إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال جزاؤهم أعلى المنازل في الجنة.
حِوَلا : تحولا.
خالدين فيها أبدا، لا يرضون غيرها بديلا.
مدادا : حبرا.
ثم ختم السورة ببيان حال القرآن الذي فيه الدلائل والبينات على وحدانية الله، وإرساله الرسل، وكلماته التي لا نهاية لها، فالبحرُ وسعه مهما كبر يظل صغيراً إلى جنب علم الله وكلماته التي تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له، والذي لا يدرك البشر نهايته.
قل أيها الرسول للناس : إن علم الله محيط بكل شيء، ولو كان ماء البحر مدادا يسطر به كلمات الله الدالة على علمه وحكمته لنفذ هذا المداد ولو مد بمثله قبل أن تنفد كلماتُ الله، لأن علوم الله وكلماته لا نهاية لها، ومثله قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله ﴾ [ لقمان : ٢٧ ].
يرجو لقاء ربه : يطمع في لقائه.
قل لهم أيها الرسول : إنما أنا إنسان مثلكم أستمد علمي من الوحي الإلهي، أعلمكم ما علمني الله إياه، وقد أوحى الله إلي أن ربكم واحد لا شريك له، فمن كان يطمع في لقاء الله وثوابه فليعمل الأعمال الصالحة مخلصا له ﴿ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ هذا هو العمل العظيم الذي ينجي الإنسان عند لقاء ربه.
وهكذا تختم سورة الكهف التي بدأت بذكر الوحي والتوحيد بما بدئت به من أن محمد عليه الصلاة والسلام بشر مرسل يوحى إليه، والتوحيد وعدم الشرك هما الجواز الذي يوصل إلى الجنة.
نسأل الله تعالى أن يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم.
Icon