سورة المؤمنون مكية آياتها مائة وتسع عشرة وعند الكوفيين ثماني عشرة وهي ست ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، ظفروا بالمراد وفازوا بأمانيهم،
﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾، خائفون من الله ساكنون، وعلامته ألا يلتفتيمينا وشمالا ولا يرفع البصر عن موضع السجود،
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْو ﴾ : عن الشرك، أو عن كل ما لا يعنيهم من قول وفعل، ﴿ مُعْرِضُونَ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ أي : زكاة الأموال، فإن قيل السورة مكية، والزكاة قد فرضت بالمدينة قلت : قال بعض المحققين فرضت بالمدينة نصابها وقدرها، وأما أصلها* فقد كان واجبا بمكة، أو المراد زكاة النفس وتطهيرها من الرذائل، والزكاة اسم مشترك بين المعني والعين فإن أريد الثاني فهو على حذف مضاف، أي : لأداء الزكاة فاعلون،
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ أي : حافظون لفروجهم من أن يقعن على أحد،
﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ﴾ أو حافظون بمعنى لا يبذلون، ﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ : أجراهن مجرى غير العقلاء، ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ الضمير لمن دل عليه الاستثناء، أي : غير الحافظين من أن يقعن على الأزواج والسراري،
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ ﴾ : المستثنى، ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ : الكاملون في العدوان،
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾، إذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا أوفوا،
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ : يواظبون لا يتركونها بوجه وذكر المضارعة لما في الصلاة من التجدد الدائمي،
﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ : الجامعون لتلك الصفات، ﴿ هُمُ الْوَارِثُونَ ﴾ : هم أحقاء بأن يسموا ورّاثا دون غيرهم،
﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ﴾ : لما أنهم من أعمالهم نالوا الفردوس كأنهم ورثوها منها أو يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، وقد ورد ( ما منكم إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله :﴿ أولئك هم الوارثون ﴾، أو مبالغة في استحقاقهم، ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ : الفردوس أعلى الجنة، ولهذا أنث ضميره،
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ ﴾ أي : جنسه، ﴿ مِن سُلَالَةٍ ﴾، سمى المني سلالة، لأنه خلاصة سلّت من الظهر، ﴿ مِّن طِينٍ ﴾ أي : من آدم فمن في الموضعين ابتدائية،
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ ﴾ : السلالة، وتذكير الضمير باعتبار الماء والإنسان، ﴿ نُطْفَةً ﴾ بأن خلقنا منهما أو معناه خلقنا آدم من خلاصة من طين، ثم جعلنا نسله من نطفة فمن طين على هذا للبيان، أو صفة لسلالة أو متعلق بها، لأنه بمعنى مسلولة، وضمير جعلناه للإنسان بحذف مضاف، ﴿ فِي قَرَارٍ ﴾ : مستقر، ﴿ مَّكِينٍ ﴾ : حصين يعني الرحم،
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾ : قطعة لحم، ﴿ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ﴾ : بأن صلّبناها، ﴿ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ﴾ : مباينا للخلق الأول مباينة بعيدة فإنه كان جمادا فصار حيوانا سميعا بصيرا وثم هنا، وفي الأولين لكثرة تفاوت الخلقين، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ﴾ : تعالى شأنه، ﴿ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ : خلقا وحذف المميز لدلالة الخالقين عليه، والخالقين هنا بمعنى المقدرين،
﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ : صائرون إلى الموت البتة،
﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ : للجزاء، { تُبْعَثُونَ
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ﴾ : سماوات سماها طرائق، لأن كل شيء فوقه مثله فهو طريقة، وقيل : لأنها طرق الملائكة، ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ : بل نعلم جميع المخلوقات جلها ودقها فتدبر أمرها أو المراد من الخلق السموات فإنه حفظها من الخلل والسقوط، وقيل : المراد منه الإنسان، أي ما غفلنا عنهم فإنا خلقنا السموات لمنافعهم،
﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء ﴾، من جانبه أو من نفسه، ﴿ مَاء بِقَدَرٍ ﴾ : بمقدار معين أو بمقدار ما يكفيهم، ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ ﴾ أي : فجعلنا الماء ثابتا، ﴿ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ أي : نحن قادرون على وجه من وجوه الذهاب إما التصعيد أو التنشيف أو الإفساد أو غيرها،
﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ ﴾، بالماء، ﴿ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا ﴾ : في الجنات، ﴿ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾ : تتفكهون بها، ﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ أي : من زرع الجنات وثمارها تأكلون، أو منها تحصلون معايشكم كما تقول : أنا آكل من حرفتي،
﴿ وَشَجَرَةً ﴾، عطف على جنات، ﴿ تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء ﴾، الطور : الجبل وهو مضاف إلى البقعة أو المركب اسم لجبل موسى، والزيتون فيه أكثر وأحسن، وقيل : أول من نبت نَبت فيه، ﴿ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾، أي : ملتبسا به مستصحبا له أو الباء للتعدية، ومن قرأ تنبت من باب الإفعال فهو بمعنى نبت أو تقديره تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن، ﴿ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ ﴾، معطوف على الدهن، والصبغ الإدام الذي يغمس فيه الخبز أي : تنبت بشيء جامع بين كونه دهنا وكونه إداما، وعن بعض الدهن : الزيت والإدام نفس الزيتون،
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ﴾ : تعتبرون بها، ﴿ نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا ﴾ : من الألبان أو من العلف فإن اللبن منه يحصل، ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾ : من ظهورها وأصوافها، { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
﴿ وَعَلَيْهَا ﴾ : على الأنعام فإن منها ما يحمل عليه، ﴿ وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ : في البروالبحر.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ﴾، لما عدد نعمه يبين كفرانهم من قديم الزمان، ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾ : وحده، ﴿ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾، استئناف لتعليل الأمر بالتوحيد، ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ : عبادة غيره،
﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ ﴾ : الأشراف، ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ﴾ : لعوامّهم، ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾ : إن يطلب الفضل عليكم فيكون متبوعا لكم، ﴿ وَلَوْ شَاء اللَّهُ ﴾، إرسال رسول، ﴿ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾ : للرسالة، ﴿ مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا ﴾ : الذي يدعونا إليه أو ببعث البشر رسولا، { فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ : جنون، ﴿ فَتَرَبَّصُوا بِهِ ﴾ : اصبروا عليه وانتظروا، ﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾ : لعله يفيق من جنونه أو يموت،
﴿ قَالَ ﴾ نوح بعد اليأس من إيمانهم، ﴿ رَبِّ انصُرْنِي ﴾ : عليهم، ﴿ بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ : بسبب تكذيبهم أو بدله،
﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ : متلبسا بحفظنا وكلاءتنا، ﴿ وَوَحْيِنَا ﴾ : بأن نعلمك كيف تصنع، ﴿ فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا ﴾ : بعذابهم أو بالركوب، ﴿ وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ : نبع الماء فيه، والتنور تنور الخبز، وقيل كان تنور آدم، وعن بعض التنور أعلى موضع في الأرض، وقيل هو مثل يضرب في شدة الأمر نحو حمي الوطيس، ﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا ﴾ : أدخل في الفلك، ﴿ مِن كُلٍّ ﴾ : من كل نوع، ﴿ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ : ذكرا وأنثى واثنين تأكيد، ومن قرأ بالإضافة فمعناه : احمل اثنين من كل زوجين أي : من كل صنف ذكر وصنف أنثى، ﴿ وَأَهْلَكَ ﴾ : أهل بيتك، أو من آمن معك عطف على زوجين، أو اثنين، ﴿ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ﴾ : بهلاكه يريد ابنه وزوجته، ﴿ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ : بدعاء إنجائهم، ﴿ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴾ : لكثرة ظلمهم محكوم عليهم بالإغراق،
﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ ﴾ : علوت واستقررت، ﴿ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي ﴾ : منها أو فيها، ﴿ مُنزَلًا مُّبَارَكًا ﴾ : يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين ومن قرأ منزلا بضم الميم وفتح الزاي* فالمعنى : إنزالا أو موضع إنزال، ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ : فيما فعل بنوح وقومه، ﴿ لَآيَاتٍ ﴾ : يستدل بها، ﴿ وَإِن ﴾ أي : إنه، ﴿ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ : مختبرين قوم نوح البلاء، أو عبادنا لننظر من يعتبر، أو مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، وقد مر في سورة هود تمام القصة،
﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا ﴾ : أحدثنا، ﴿ مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾، همعاد وثمود،
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾، هو هود أو صالح جعل القرن موضع الإرسال ليعلم أنه أوحي إليه وهو فيهم، وما جاء إليهم من مكان آخر، ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ﴾، أن مفسرة لأن في أرسلنا معنى القول، ﴿ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ : عذابه.
﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ ﴾ : الأشراف، ﴿ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ ﴾ : المعاد الجسماني، ﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ ﴾ : أنعمناهم، ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُون ﴾ : تشربونه أو منه،
﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ ﴾ : في ترك دينكم، ﴿ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴾ : إذا واقع في جزاء الشرط جواب لما قال الملأ من قومهم،
﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا ﴾ : بلا لحم وعصب، ﴿ أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ﴾ : من الأجداث ثنى أنكم للتوكيد لما طال الفصل بينه وبين خبره بالظرف،
﴿ هَيْهَاتَ هيْهَاتَ ﴾ : البعد البعد، ﴿ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾ : نزل منزلة المصدر فهو مبتدأ وخبر أو بمعنى بعد، وفاعله ضمير مصدر مخرجون أو ضمير البعد، أي : بعد البعد ووقع ثم قيل : لماذا ؟ فقيل : لما توعدون،
﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ﴾ أي : لا حياة إلا هذه ووضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها حذرا عن التكرير، ﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ : يموت بعض ويولد بعض، ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ : بعد الموت،
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ : فيما يعدنا من البعث، ﴿ وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ : بمصدقين،
﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي ﴾ : عليهم، ﴿ بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ : بسبب تكذيبهم إياي،
﴿ قَالَ ﴾ الله :﴿ عَمَّا قَلِيلٍ ﴾ : عن زمان قليل، وما صلة لتوكيد القلة، ﴿ لَيُصْبِحُنَّ ﴾ : ليصيرن، ﴿ نَادِمِينَ ﴾ : على التكذيب حين عاينوا العذاب،
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ﴾ : صيحة العذاب، أو صاح جبريل عليهم فدمرهم، ﴿ بِالْحَقِّ ﴾ : بالعدل ؛ لأنهم مستحقون، ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء ﴾ أي : كالغثاء وهو ما يحمله السيل من الأوراق والعيدان البالية المسودة، ﴿ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ من المصادر التي تجب حذف فعلها، أي : بعدوا وهلكوا، واللام لبيان من دعي عليه كهيت لك،
﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ ﴾ من للاستغراق، ﴿ أَجَلَهَا ﴾ : الوقت الذي حد لهلاكها، ﴿ وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ : ما يؤخرونه،
﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾ : متواترين واحدا بعد واحد، والألف للتأنيث، فإن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو فإنها من الوتر كتيقور من الوقار، ومن قرأ بالتنوين فمصدر وقع حالا بمعنى المواترة، ﴿ كُلَّمَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ﴾ أي : جمهور وأكثرهم، ﴿ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا ﴾ : في الإهلاك، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾، جمع أحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به تلهيا وتعجبا، ﴿ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾
﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا* ﴾ : الدالة على صدقهما، ﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ : حجة واضحة ملزمة للخصم،
﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا ﴾ : عن المتابعة، ﴿ وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ﴾ : متكبرين،
﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾، البشر يكون واحدا أو جمعا، ومثل وغير يوصف بهما المفرد وغيره، ﴿ وَقَوْمُهُمَا ﴾ : بنو إسرائيل، ﴿ لَنَا عَابِدُونَ ﴾ : خادمون كالعبيد،
﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ﴾ : بالغرق،
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ : التوراة، ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ : بني إسرائيل، ﴿ يَهْتَدُونَ ﴾ وإنزال التوراة بعد إهلاك القبط،
﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾ : دالة على كمال قدرتنا، ﴿ وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ﴾ : مكان مرتفع من الأرض، ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ ﴾ : مستقر من الأرض منبسطة، ﴿ وَمَعِينٍ ﴾ : الماء الجاري هي بيت المقدس وهي أقرب أرض من السماء أو دمشق أو الرملة أو فلسطين أو مصر.
﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات ﴾ : الحلالات، ﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ الصلاح : الاستقامة على ما يوجبه الشرع، والمقصود من الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإعلامه بأن كل رسول في زمانه وصى به ونودي لذلك فهو أمر من لدنه قديم لا يجوز التجاوز عنه بوجه، ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ فأجازيكم به،
﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ﴾ : ملتكم، ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ : ملة واحدة هي الدعوة إلى عبادة الله وحده، نصب على الحال، ﴿ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾، أي : خافوني، لأن ملتكم واحدة، وأنا ربكم فقوله :﴿ وإن هذه أمتكم ﴾ علة لقوله :﴿ فاتقون ﴾، أو تقديره : واعلموا أن هذه أمتكم إلخ. . ،
﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم ﴾ : أمر دينهم وتقطع بمعنى قطع، أو نصب أمرهم بنزع الخافض بالتمييز لأنه معرفة، ﴿ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ﴾ : قطعا حال قيل : ثاني مفعولي تقطع فإنه متضمن معنى جعل أي : جعلوا أمر دينهم قطعا أديانا مختلفة، ﴿ كُلُّ حِزْبٍ ﴾ : من المتحزبين، ﴿ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ : من أمر دينهم، ﴿ فَرِحُونَ ﴾ : يحسبون أنهم على شيء،
﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ ﴾ : جهالتهم التي غمروا فيها، الغمرة الماء الذي يغمر القامة، شبه جهالتهم لأنهم مغمورون فيها، ﴿ حَتَّى حِينٍ ﴾ : حين الهلاك،
﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ ﴾ : نعطيهم، ﴿ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾، بيان لما.
﴿ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ أي : نسارع به لهم فيما فيه خيرهم فضمير اسم مقدر، ﴿ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ﴾ : كالبهائم لا شعور ولا فطنة فإنه لو كان لهم فطنة لتأملوا فيعلموا أن المال والبنين استدرج لا معاجلة خير ومسارعة لطف،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِرَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴾ أي : حذرون عن معاصيه من أجل خشية ربهم يعني : خشيتهم علة لاجتناب المعصية، أو معناه حذرون من خوف عذابه،
﴿ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ : الكونية والشرعية، ﴿ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴾
﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ﴾ : يعطون، ﴿ مَا آتَوا ﴾ : ما أعطوه من الصدقات، ﴿ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ : خائفة من عدم القبول، ﴿ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ : مرجعهم إلى الله أو قلوبهم وجلة من أن مرجعهم إليه، وهو يعلم ما لا يعلمون،
﴿ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ أي : أولئك يسارعون في نيل خيرات الدارين بمزاولة الأعمال الصالحة فيعطيهم خير الدنيا والآخرة، قيل : معناه أولئك يبادرون الطاعات، ويرغبون فيها أشد رغبة، ﴿ وَهُمْ لَهَا ﴾، أي : إلى الخيرات ﴿ سَابِقُونَ ﴾، أو لأجلها فعلون السبق،
﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ : قدر طاقتها لا يريد الله بكم العسر، ﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ ﴾ : اللوح المحفوظ أو صحيفة الأعمال، ﴿ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ﴾ : بالصدق وليس فيه إلا ما فعلوا، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ : بنقص ثواب وعقاب على ما لم يفعلوا،
﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ ﴾ : قلوب الكفرة، ﴿ فِي غَمْرَةٍ ﴾ : غفلة، ﴿ مِّنْ هَذَا ﴾ : الكتاب الذي هو عندنا، أو من هذا الذي عليه المؤمنون، أو من القرآن، ﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ﴾ : خبيثة، ﴿ مِن دُونِ ذَلِكَ ﴾ : الذي وصفنا في شأنهم، أو متجاوز لما وصف به المؤمنون، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم ﴾ : متنعميهم، ﴿ بِالْعَذَابِ ﴾ : القحط الحادث فيهم حتى أكلوا الجياف، والقتل يوم بدر، ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ : فاجئوا الصراخ بالتضرع هو جواب الشرط،
﴿ لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ ﴾ أي : يقال لهم ذلك، ﴿ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ ﴾ : لأنكم لا تمنعون منا فلا ينفعكم الجؤار،
﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي ﴾ : القرآن، ﴿ تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ﴾ : تعرضون عنها، والنكوص الرجوع قهقرى،
﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾ : بالبيت والحرم تفتخرون بأنكم ولاته، والقائمون به وشهرتهم بأن تعظمهم بهذا البيت أغنت عن سبق ذكره، أو معناه مكذبين بالآيات استكبارا ففيه تضمين معنى التكذيب، وتذكير الضمير باعتبار أنها قرآن، ﴿ سَامِرًا ﴾ السامر الجماعة الذين يتحدثون ليلا، نصب على الحال قيل : به متعلق به، أي : تستمرون القرآن فإنهم يجتمعون الليالي حول البيت يطعنون في القرآن، ﴿ تَهْجُرُونَ ﴾ من الهجر بمعنى : الهذيان أي : تهذون، أو من الهجرة أي : تعرضون عنه،
﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾، أي : القرآن، ليعلموا حقيّته، ﴿ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ : من الرسول والكتاب، يعني إرسال هذا الرسول إليهم ليس ببدع، فإنه مثل ما أرسلنا إلى آبائهم الأقدمين، وأم منقطعة، أي : بل جاءهم ما لم يأت آباءهم فلذلك أنكروا،
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ﴾ : بالحسب والنسب والصدق والأمانة، ﴿ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُون ﴾
﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾ : والمجنون لا يصلح للنبوة، ﴿ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ ﴾ : من عند الله لا بالمهمل من الجنون، ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾، فعدم الإتباع لأنه لا يوافق مشتهاهم، قيد الحكم بالأكثر لأن فيهم من لم يؤمن لتوبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تدبره،
﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ ﴾ أي : الله أو القرآن، ﴿ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنّ ﴾ : فإن أهواءهم أن تكون له شريك وولد، منهم من يريد عظمة نفسه وحقارة غيره، ومنهم من يريد عكسه فيفضي إلى نساء العالم، فإنه يلزم النقيضين وهو محال، ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ ﴾ : بكتاب هو وعظهم، أو هو صيتهم وشرفهم، ﴿ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ﴾
﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ ﴾ : على التبليغ، ﴿ خَرْجًا ﴾ : أجرا أو جعلا، ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ ﴾ : عطاؤه وأجره، ﴿ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ " أم " هذه قسيم " أم يقولون به جنة " فهذا إلزام لهم به للسبب، والتقسيم في أنه كإبراهيم وغيره رسول معروف الحال عندكم تام العقل له طمع في خسائس أموالكم، فما هو إلا أنه يريد هدايتكم.
﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي : الإسلام،
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ ﴾ : الذي تدعوهم إليه، ﴿ لَنَاكِبُونَ ﴾ : عادلون،
﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ ﴾ : من القحط والشدائد، ﴿ لَّلَجُّوا ﴾ : أثبتوا، ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ : إفراطهم في المعاصي، ﴿ يَعْمَهُونَ ﴾ : متحيرين،
﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ ﴾ : بالمصائب والشدائد من الموت ونقص الثمار والأموال، ﴿ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ ﴾ : ما انتقلوا من كون إلى كونواستمروا على ما هم عليه، ﴿ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي : وليس من عادتهمأن يتضرعوا وهم كذلك،
﴿ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾، هو عذاب الآخرة، ﴿ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾، آيسون من كل خير واعلم أن كثيرا من المفسرين فسروا العذاب بيوم بدر، والعذاب الشديد بالجزع، ونقلوا أن أبا سفيان قال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، وأنت تزعم أنك رحمة للعالمين، فادع الله أن يكشف عنا القحط فدعا، وكشف فنزلت الآية، وليت شعري كيف يصح هذا واتفقوا على أن السورة كلها مكية من غير استثناء فأين القتال حينئذ وقضية البدر والله أعلم.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾ : لتحسوا آياته وتدبروا فيها، ﴿ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾، ما مزيدة للتأكيد، أي : تشكرون شكرا قليلا كأنه قال : قليلا ما تستعملون السمع والبصر والفؤاد فيما خلقناها له،
﴿ وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ ﴾ : بثكم بالتناسل، ﴿ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ : تجمعون بعد التفرق في القيامة،
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ : هو متولي الاختلاف لا يقدر على تعاقبهما غيره، أو لأمره الاختلاف، وانتقاص أحدهما وازدياد الآخر، ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُون ﴾ : أليس لكم عقول تدلكم على شمول قدرتنا الممكنات التي منها البعث،
﴿ بَلْ قَالُوا ﴾ : أهل مكة، ﴿ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ﴾
﴿ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ استفهام الثاني تأكيد للأول واستبعاد بعد استبعاد،
﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا ﴾ أي : البعث، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : بلسان من يدعي أنه رسولهم، ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ : أكاذيبهم التي كتبوها،
﴿ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : من أهل العلم،
﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ فإنهم معترفون بأنه خالق الكل، ﴿ قُلْ ﴾ : بعد ما قالوه، ﴿ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ : فتعلموا أن فاطر الأرض ومن فيها قادر على الإعادة حقيق على أن لا يشرك به شيء،
﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ : عقابه فتنتهوا عن نسبة العجز إليه وتسويته بجماد،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٦:﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ : عقابه فتنتهوا عن نسبة العجز إليه وتسويته بجماد،
﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ ﴾ : ملك وخزائن، ﴿ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ ﴾ : يغيث من يشاء ويحفظ، ﴿ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ : لا يغيث أحد منه أحدا، ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ : ذلك،
﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ : تخدعون فتصرفون عن الرشد مع تظاهر الأدلة،
﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ ﴾، من بيان التوحيد والبعث، ﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ : حيث أنكروا ذلك،
﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ أي : لو كان معه آلهة لتفرد كل إله بمخلوقاته متميزا ملكه عن ملك الباقين ولغلب بعضهم بعضا كالعادة بين الملوك فلم يكن بيده ملكوت كل شيء واللازم باطل، ﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ : من الولد والشريك،
﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾، بالرفع خبر محذوف وبالجر صفة، ﴿ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ من له علم كل شيء لا يحتاج إلى شريك مع أنهم معترفون بأنه المتفرد بإحاطة العلم.
﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي : إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب فلا تجعلني معهم ولا فيهم ومن دعائه عليه السلام ( وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون ) وما والنون للتأكيد، وتكرار رب حث على فضل تضرع وتواضع وإظهار عبودية وافتقار وعجز،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ أي : إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب فلا تجعلني معهم ولا فيهم ومن دعائه عليه السلام ( وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون ) وما والنون للتأكيد، وتكرار رب حث على فضل تضرع وتواضع وإظهار عبودية وافتقار وعجز،
﴿ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ ﴾ : من العذاب، ﴿ لَقَادِرُونَ ﴾ : لكنا لحلمنا وحكمتنا لا نستعجل في عذابهم،
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ﴾ أي : ادفع من أذاك وطعنهم في الله بالشرك بالخصلة التي هي أحسن الخصال الحلم والصفح والإلزام بطريق بيان الدليل نحو :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] قيل : هي منسوخة بآية السيف، ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ : فكل إلينا أمرهم،
﴿ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾ : وساوسهم ونزغاتهم،
﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ : فيحوموا حولي،
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ﴾ متعلق ب ( يصفون ) وما بينهما اعتراض لا يزالون على سوء الذكر حتى الآية، ﴿ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾، خاطب الله بلفظ الجمع أو الملائكة، وقيل : لتكرير الفعل أي : ارْجعني ارجعني،
﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ أي : ردوني إلى الدنيا لعلي أعمل صالحا في الإيمان الذي تركته، أو في المال أو في الدنيا، ﴿ كَلَّا ﴾، ردع عن طلب الرجعة واستبعاد، ﴿ إِنَّهَا ﴾ أي : رب ارجعون الخ، ﴿ كَلِمَةٌ ﴾ : طائفة من الكلام المنتظم بعضها ببعض، ﴿ هُوَ قَائِلُهَا ﴾ لا محالة عند استيلاء الحسرة والاضطراب، وعن بعض المفسرين أنها كلمة إلخ علة لردعهم، أي : سؤاله الرجوع للعمل الصالح مجرد عدة وقول لا وفاء ولا حقيقة تحتها نحو ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ) [ الأنعام : ٢٨ ]، ﴿ وَمِن وَرَائِهِم ﴾ : أمامهم، ﴿ بَرْزَخٌ ﴾ حاجز بينهم وبين الدنيا، ﴿ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ هو إقناط كلي للعلم بأن لا رجعة إلى الدنيا يوم يبعث فلا رجعة أصلا،
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ﴾ : النفخة الأخيرة، ﴿ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ ﴾ : لا تنفع الأنساب، ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ ويفرح المؤمن أن قد وجب له حق على والده وولده فيأخذ منهما، ﴿ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ﴾ لا يسأل حميم ولا قريب حميمه وقريبه وهذا في أول يوم* القيامة ولما تزوج عمر ابنة علي من فاطمة قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سيي ونسبي ) فأصدقها أربعين ألفا إعظاما لها، وروى الحافظ ابن عساكر عن عبد الله ابن عمرو مرفوعا : سألت ** ربي أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلى أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك )،
﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾ : بأن يكون له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، ﴿ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ﴾
﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ : بأن ليس له عقائد وأعمال صالحة تثقل ميزانه، ﴿ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ ﴾ : حيث بطلوااستعدادها، ﴿ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾، خبر ثان وبدل من الصلة،
﴿ تَلْفَحُ ﴾ : تحرق، ﴿ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ : عابسون هو تقلص الشفتين عن الأسنان، وفي الترمذي قال عليه السلام :( تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ رأسه، ولتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته )***،
﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ أي : يقال لهم ذلك، ﴿ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾ الشقاوة : سوء العاقبة، ﴿ وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ﴾ : عن الهدى،
﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا ﴾ : لما تكره، ﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ : لأنفسنا،
﴿ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا ﴾ أي : ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب، ﴿ وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ : في رفع العذاب أو مطلقا، وعن بعض السلف : إنه لم يكن لهم بعد ذلك إلا شهيق وزفير وعواء كالكلب،
﴿ إِنَّهُ ﴾ : إن الشأن، ﴿ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾
﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ﴾، بكسر السين وضمها لغتان بمعنى الهزء زيدت ياء النسبة للمبالغة، وعند الكوفيين المضموم من السخرة بمعنى الانقياد والعبودية، ﴿ حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ : لتشاغلكم باستهزائهم، ﴿ وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُون ﴾
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ : بما صبروا* : بصبرهم على أذاكم، ﴿ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ استئناف، ومن قرأ بفتح إن فثاني مفعولي جزيت أي : جزيتهم الفوز مخصوصين به،
﴿ قَالَ ﴾ : الله، ومن قرأ ( قل ) فهو خطاب لأهل النار في أن مجموعهم في حكم شخص أو الخطاب مع كل واحد أو ومع بعض رؤسائهم أو مع الملك الموكل بهم، أي : قل لهم، ﴿ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ : أحياء، ﴿ عَدَدَ سِنِينَ ﴾، تمييز لكم،
﴿ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ استقصروا مدة لبثهم في الدنيا ونسوا لعظم ما هم فيه، ﴿ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ ﴾ : القادرين على العد فنحن في شيء لا نقدر معه إعمال الفكر، أو العادين الملائكة الحفظة،
﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أي : ما مكثتم فيها إلا زمانا قليلا على فرض أنكم تعلمون مدة لبثها وقد ورد ( أن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض، قالوا : يوما أو بعض يوم قال لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يسأل أهل النار فيجيبون مثلهم فيقول، بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم نادي وسخطي امكثوا خالدين مخلدين )،
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ أي : عابثين بلا فائدة حال أو مفعول له، أي : تلهيا بكم وما زيدت للتأكيد، ﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾، عطف على إنما،
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ ﴾ عن أن يخلق عبثا، ﴿ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ الذي يحق له الملك أو الثابت الذي لا يزال ملكه، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾، لأن الرحمة تترل منه أو لأنه منسوب إلى أكرم الأكرمين،
﴿ وَمَن يَدْعُ ﴾ : يعبد، ﴿ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾، لا برهان صفة أخرى لإلها لازمة له جيء بها التأكيد، أو جملة معترضة بين الشرط والجزاء ﴿ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ فيجازيه بما يستحقه، ﴿ إِنَّهُ ﴾ : إن الشأن، ﴿ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
﴿ وَقُل ﴾ : يا محمد، ﴿ رَّبِّاغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
*والحمد لله حق حمده*