ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾.لما قال الحق- تبارك وتعالى- في الآية قبل السابقة من سورة الحج ﴿ لعلكم تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] : ولعل تفيد الرجاء، أراد سبحانه أن يؤكد هنا على فلاح المؤمنين فقال :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وأن الرجاء من الله واقع ومؤكد، لذلك جاء بأداة التحقيق ﴿ قد ﴾ التي تفيد تحقق وقوع الفعل، وهكذا تنسجم بداية سورة ( المؤمنون ) مع نهاية سورة ( الحج ).
وقوله تعالى هناك ﴿ تفلحون ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ] : وهنا ﴿ أفلح ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : مادة ( فلح ) مأخوذة من فلاحة الأرض، والفلح هو الشق، لذلك قالوا : إن الحديد بالحديد يفلح، وشق الأرض : إهاجتها وإثارتها بالحرث، وهذه العملية هي أساس الزرع، ومن هنا سمي الزرع حرثا في قوله سبحانه :﴿ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( ٢٠٤ ) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ( ٢٠٥ ) ﴾ [ البقرة ].
ومعنى أفلح : فاز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير.
والأرض حين تحرثها تكون خالية ليس فيها شيء يهلك، إذن : المراد بالحرث هنا الزرع الناتج عن عملية الحرث، والتي لا بد منها كي تتم عملية الزراعة، لأنك بالحرث تثير التربة ليتخللها الهواء، فيزيد من خصوبتها وصلاحها لاستقبال البذرة، وسبق أن تحدثنا عن عملية الإنبات، وكيف تتم، وأن النبات يتغذى على فلقتي البذرة إلى أن يصبح له جذر قوي يستطيع أن يمتص من التربة، فإن ألقيت البذرة في أرض صماء غير مثارة فإن الجذر يجد صعوبة في اختراق التربة والامتصاص منها.
فالحق- تبارك وتعالى- يعطينا صورة من واقعنا المشاهد، ويستعير من فلاحة الأرض ليعبر عن فلاح المؤمن وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة، فالفلاح يحرث أرضه ويسقيها ويرعاها فتعطيه الحبة بسبعمائة حبة، وهكذا سيكون الجزاء في الآخرة :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ( ٢٦١ ) ﴾ [ البقرة ].
فإذا كانت الأرض المخلوقة لله عز وجل تعطي كل هذا العطاء، فما بالك بعطاء مباشر من خالقك وخالق الأرض التي تعطيك ؟ وكما أن الفلاح إذا تعب واجتهد زاد محصوله، كذلك المؤمن كلما تعب في العبادة واجتهد زاد ثوابه وتضاعف جزاؤه في الآخرة.
كأن أول ظاهرية الفلاح في الصلاة، وما يزال الحديث عنها موصولا بما قاله ربنا في الآيات السابقة :﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ( ٧٧ ) ﴾ [ الحج ]، وقال بعدها :﴿ فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.. ( ٧٨ ) ﴾ [ الحج ].
وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا ﴿ الذين هم في صلاتهم خاشعون ( ٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلم يقل مثلا : مؤدون، لأن أمر أداء الصلاة في حق المؤمنين مفروغ منه، العبرة هنا بالهيئة والكيفية، العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار الله الذي تقف بين يديه.
كما تقول لولدك : اجلس أمام المعلم باهتمام، واستمع إليه بإنصات، فأنت لا توصيه بالذهاب إلى المدرسة أو حضور الدرس، فهذا أمر مفروغ منه، لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي ينبغي أن يكون عليها.
والخشوع أن يكون القلب مطمئنا ساكنا في مهمته هذه، فلا ينشغل بشيء آخر غير الصلاة، لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، وما دام في حضرة ربه عز وجل فلا ينبغي أن ينشغل بسواه، حتى إن بعض العارفين لمعنى الخشوع يقول : إن الذي يتعمد معرفة من على يمينه أو من على يساره في الصف تبطل صلاته٢.
ولما دخل سيدنا عمر- رضي الله عنه- على رجل يصلي ويعبث بلحيته، فضربه على يده وقال : لو خشع قلبك لخشعت جوارحك٣. ذلك لأن الجوارح تستمد طاقتها من القلب ومن الدم الذي يضخه فيها، فلو شغل القلب عن الجوارح ما تحركت.
لذلك لما سأل أحد الفقهاء صوفيا : ما حكم من سها في صلاته ؟ قال : حكمه عندنا أم عندكم ؟ قال : ألنا عند ولكم عند ؟ قال : نعم، عند الفقهاء من يسهو في الصلاة يجبره سجود السهو، أما عندنا فمن يسهو في الصلاة نقتله. يعني مسألة كبيرة.
ثم ألا يستحق منك ربك وخالقك أن تتفرغ له سبحانه على الأقل وقت صلاتك، وهي خمس دقائق في كل وقت من الأوقات الخمسة، وقد تركك باقي الوقت تفعل ما تشاء ؟ أتستكثر على ربك أن تفرغ له قلبك، وأن تستحضره سبحانه، وهذه العملية في صالحك أنت قبل كل شيء، في صالحك أن تكون في جلوة مع ربك تستمد منه سبحانه الطاقة والمعونة، وتتعرض لنفحاته وإشراقاته وتقتبس من أنواره وأسراره ؟.
ومن حرص أهل التقوى على سلامة الصلاة وتمامها قال أحدهم لصاحبه الذي يحرص على أن يؤم الناس : لماذا تحرص على الإمامة وأنت تعرف أن طالب الولاية لا يولى ؟ قال : نعم أحرص عليها لأخرج من الخلاف بين الشافعي الذي قال بقراءة الفاتحة خلف الإمام، وأبي حنيفة الذي قال بأن قراءة الإمام قراءة للمأموم، فأحرص على الإمامة حتى أقرأ أنا، ولا أنشغل بهذا الخلاف.
٢ قاله معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما ذكره عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في "الصلاة والتهجد" (ص١٩٣)..
٣ ذكر أبو محمد عبد الحق هذا الأثر في كتاب "الصلاة والتهجد" (ص ١٩٨) بتحقيقي- طبعة دار الوفاء المنصورة، ولكن عزاه للحسن البصري، وذكر له أيضا أن الحسن نظر يوما إلى رجل يعبث بالحصباء في الصلاة وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقال له: بئس الخاطب أنت، تخطب الحور العين وأنت تعبث بالحصباء..
اللغو : الكلام الذي لا فائدة منه، ويطلق أيضا على كل فعل لا جدوى منه، وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ وإذا مروا باللغو مروا كراما ( ٧٢ ) ﴾ [ الفرقان ] : لا ينشغلون به ولا يأبهون له، وحكى القرآن عن الكفار عند سماعهم القرآن قولهم :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه.. ( ٢٦ ) ﴾ [ فصلت ].
لذلك جعل الحق- تبارك وتعالى- من نعيم الجنة :﴿ لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ( ٢٥ ) إلا قيلا سلاما سلاما ( ٢٦ ) ﴾ [ الواقعة ] : كأن من المعايب في الدنيا ومن مصائبها أن نسمع فيها لغوا كثيرا لا فائدة منه، وفي آية أخرى يقول عن خمر الآخرة التي لا تذهب العقل، ولا تجعل صاحبها يهذي بلغو الكلام :﴿ يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ( ٢٣ ) ﴾ [ الطور ].
و﴿ معرضون ( ٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الإعراض في الأصل تجنب الشيء، وهو صورة لحركة إباء النفس لشيء ما. وأهل المعرفة يضعون للغو مقياسا، فيقولون : كل عمل لا تنال عليه ثوابا من الله فهو لغو.
لذلك احرص دائما أن تكون حركتك كلها لله حتى تثاب عليها، كصاحبنا الذي دخل عليه رجل وقصده في قضاء أمر من الأمور وهو لا يملك هذا الأمر، لكن أراد أن يستغل فرصة الخير هذه، وأن يكون له ثواب حتى في حركة الامتناع عنه، فرفع يده : اللهم إنه عبد قصد عبدا وأنا آخذ بيده وأقصد ربا، فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويبا لقصدك. يعني : أنا وإن كنت لا أقدر على قضائها إلا أنني أدخل بها على الله من هذه الناحية.
الزكاة أولا تطلق على معنى التطهير، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( ١٠٣ ) ﴾ [ التوبة ] : لأن الغفلة قد تصيب الإنسان حال جمع المال، فيخالط ماله ما فيه شبهة مثلا، فيحتاج إلى تطهير، وتطهير المال يكون بالصدقة منه.
والزكاة بمعنى النماء، فبعد أن تطهر المال تنميه وتزيده، كما جاء في قوله تعالى :﴿ قد أفلح من زكاها ( ٩ ) ﴾ [ الشمس ] : يعني : نمى ملكة الخير فيها، ورقاها وصعدها بأن ينظر إلى العمل إن كان سينقص منك في الظاهر، إلا أنه سيجلب لك الخير فيما بعد، فترتقي بذلك ملكات الخير في نفسك.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن الربا، وهو الزيادة جمع المتناقضات في آية واحدة، فالربا يزيد المال ويأخذ المرابي المائة مائة وعشرا، في حين تنقص الزكاة من المال في الظاهر، فالمائة بعد الزكاة تصبح سبعة وتسعين ونصفا، ثم تأتي الآية لتضع أمامك المقياس الحقيقي :﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ( ٢٧٦ ) ﴾ [ البقرة ]، فالربا الذي تظنه زيادة هو محق، والذي تظنه نقصا هو بركة وزيادة ونماء.
وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( ٣٩ ) ﴾ [ الروم ] : أي : الذين يضاعف الله لهم ويزيدهم.
وكما أمرنا ربنا- تبارك وتعالى- بالخشوع في الصلاة أمرنا كذلك في الزكاة، فلم يقل : مؤدون. ولكن ﴿ فاعلون ( ٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهذه من تربية مقامات العبادة في الإنسان، فأنت حين تصلي ينبغي أن تخشع وتخضع في صلاتك لله، وكذلك حين تزكي ترقي ملكة الخير في نفسك، فحين تعمل وتسعى لا تعمل على قدر حاجتك، وإنما على قدر طاقتك، فتأخذ من ثمرة سعيك حاجتك، وفي نيتك أن تخرج من الباقي زكاة مالك وصدقتك، فالزكاة- إذن- في بالك وفي نيتك بداية.
﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ( ٥ ) ﴾ :
الفروج : جمع فرج، والمقصود سوءتا كل من الرجل والمرأة، وقد أمر الله تعالى بحفظها على المهمة التي خلقت من أجلها، ومهمة هذه الأعضاء إما إخراج عادم الجسم من بول أو غائط، أو العملية الجنسية وهدفها حفظ النسل، وعلى الإنسان أن يحفظ فرجه على ما أحله الله له في قوله تعالى :﴿ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( ٦ ) ﴾
أي : يحفظون فروجهم إلا على أزواجهم، لأن الله أحلها ﴿ أو ما ملكت أيمانهم ( ٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وملك اليمين حلال لم يعد له موضع، ولم يعد له وجود الآن، وقد حرم هذا القانون البشري الدولي، فلم يعد هناك إماء كما كان قبل الإسلام، فهذا حكم معطل لم يعد له مدلول، وفرق بين أن يعطل الحكم لعدم وجود موضوعه وبين أن يلغى الحكم، فملك اليمين حكم لم يلغ، الحكم قائم إنما لا يوجد له موضوع.
ولتوضيح هذه المسألة : هب أنك في مجتمع كله أغنياء، ليس فيهم فقير ولا مستحق للزكاة عندها تقول : حكم الزكاة معطل، فهي كفريضة موجودة، لكن ليس لها موضوع.
وبعض السطحيين يقولون : لقد ألغى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- سهام المؤلفة قلوبهم١، والحقيقة أنه ما ألغى ولا يملك أن يلغي حكما من أحكام الله، إنما لم يجد أحدا من المؤلفة قلوبهم ليعطيه، فالحكم قائم لكن ليس له موضوع، بدليل أن حكم تأليف القلوب قائم ومعمول به حتى الآن في بلاد المسلمين، وكثيرا ما نحاول تأليف قلوب بعض الكتاب وبعض الجماعات لنعطفها نحو الإسلام، خاصة وغيرنا يبذلون قصارى جهدهم في ذلك. إذن : فسهم المؤلفة قلوبهم ما زال موجودا ويعمل به.
كما نسمع من يقول : إن عمر- رضي الله عنه- عطل حد السرقة في عام الرمادة، وهذا ادعاء مخالف للحقيقة، لأنه ما عطل هذا الحد إنما عطل نصا وأحيا نصا، لأن القاعدة الشرعية تقول : ادرأوا الحدود بالشبهات. وما دام قد سرق ليسد جوعته فلم يصل إلى نصاب السرقة، فالسرقة تكون بعد قدر يكفي الضرورة.
ولقائل أن يقول : إذا دارت حرب بين المؤمنين والكافرين وأسروا منا وأسرنا منهم، ألا يوجد حينئذ ملك اليمين ؟ نقول : نعم يوجد ملك اليمين، لكن ستواجهك قوانين دولية ألزمت نفسك بها وارتضيتها تقول بمنع الرق وعليك الالتزام بها، لكن إذا وجد الرق فملك اليمين قائم وموجود. وهذه مسألة يأخذونها سبة في الإسلام، وكيف أنه يبيح للسيد كذا وكذا من ملك يمينه.
وهذا المأخذ ناشئ من عدم فهم هؤلاء للحكمة من ملك اليمين، وأن كرامة المملوكة ارتفعت بهذه الإباحة، فالمملوكة أخذت في حرب أو خلافه، وكان في إمكان من يأخذها أن يقتلها، لكن الحق سبحانه حمى دمها، ونمى في النفس مسألة النفعية، فأباح لمن يأسرها أن ينتفع بها وأحلها له أيضا.
ولك أن تتصور هذه الأمة أو الأسيرة في بيت سيدها ومعه زوجة أو أكثر وهي تشاهد هذه العلاقات الزوجية في المجتمع من حولها، إن من حكمة الله أن أباح لسيدها معاشرتها، لأنها لن ترى لربة البيت بعد ذلك مزية عليها، لأنهما أصبحا سواء، فإذا ما حملت من سيدها فقد أصبحت حرة بولدها، وكأن الحق سبحانه يسير الأمور تجاه العتق والحرية. ألا تراه بعد هذا يفتح باب العتق ويعدد أسبابه، فجعله أحد مصارف الزكاة وبابا من أبواب الصدقة وكفارة لبعض التجاوزات التي يرتكبها الإنسان.
ثم يقول سبحانه :﴿ فإنهم غير ملومين ( ٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : لا نمدحهم ولا نذمهم، وكأن المسألة هذه في أضيق نطاق.
﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ٧ ) ﴾ :
﴿ ابتغى ﴾ : طلب، ﴿ وراء ذلك ﴾ : غير ما ذكرناه من الأزواج وملك اليمين.
وسبق أن ذكرنا أن كلمة ﴿ وراء ﴾ استعملت في القرآن لمعان عدة، فهي هنا بمعنى غير الأزواج وملك اليمين، ومن ذلك أيضا قوله سبحانه :﴿ .. وأحل لكم ما وراء ذلكم ( ٢٤ ) ﴾ [ النساء ] : يعني : حرمت عليكم كذا وكذا، وأحللت لكم غير ما ذكر.
وتستعمل وراء بمعنى بعد، لأن الغيرية قد تتحد في الزمن، فيوجد الاثنان في وقت واحد، أما البعدية فزمنها مختلف، كما في قوله تعالى :﴿ وامرأته قائمة فضحكت١ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) ﴾ [ هود ] : يعني : من بعده، لأن الزمن مختلف.
وتأتي وراء بمعنى : خلف، كما في قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ( ١٨٧ ) ﴾ [ آل عمران ] : يعني : جعلوه خلف ظهورهم.
وتأتي وراء أيضا بمعنى أمام، كما في قوله تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( ٧٩ ) ﴾ [ الكهف ] : ومعلوم أن الملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة تمر به فيأخذها غصبا.
وقوله تعالى :﴿ من ورائه جهنم.. ( ١٦ ) ﴾ [ إبراهيم ] : وجهنم أمامه، وستأتي فيما بعد، ولم تمض فتكون خلفه.
ومعنى :﴿ فأولئك هم العادون ( ٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : المعتدون المتجاوزون لما شرع لهم، وربنا- تبارك وتعالى- حينما يحذرنا من التعدي يفرق بين التعدي في الأوامر، والتعدي في النواهي، فإن كان في الأوامر يقول :﴿ فلا تعتدوها ( ٢٢٩ ) ﴾ [ البقرة ].
وإن كان في النواهي يقول :﴿ فلا تقربوها ( ١٨٧ ) ﴾ [ البقرة ].
﴿ والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( ٨ ) ﴾ :
﴿ راعون ﴾ : يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ، والأمانة : كل ما استؤمنت عليه، وأول شيء استؤمنت عليه عهد الإيمان بالله الذي أخذه الله عليك، وما دمت قد آمنت بالإله فعليك أن تنفذ أوامره.
إذن : هناك أمانة للحق وأمانة للخلق، أمانة الحق التي قال الله تعالى عنها :
﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( ٧٢ ) ﴾ [ الأحزاب ] : فما دمت قد قبلت تحمل الأمانة، فعليك الأداء.
أما العهد : فكل ما يتعهد به الإنسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به، لأنك حين تعاهد إنسانا على شيء فقد ربطت حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد، فحين تقول لي : سأقابلك غدا في المكان الفلاني في الوقت الفلاني لعمل كذا وكذا، فإنني سأرتب حركة حياتي بناء على هذا الوعد، فإذا أخلفت وعدك فقد أطلقت نفسك في زمنك وتصرفت حسب راحتك، وقيدت حركتي أنا في زمني وضيعت مصالحي، وأربكت حركة يومي، لذلك شدد الإسلام على مسألة خلف الوعد.
في الآيات السابقة تحدث عن الصلاة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها، وهنا يذكر الصلاة من حيث أدائها والحفاظ عليها، لأن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلاة بميلاده وميلاد الأوقات بالأذان، لكن البعض يقولون : إن الوقت ممتد، فالظهر مثلا ممتد من أذان الظهر إلى قبل أذان العصر، وهكذا في باقي الصلوات.
نقول : نعم هذا صحيح والوقت ممتد، لكن من يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت ؟ من يضمن لك أن تصلي العشاء مثلا قبل أذان الفجر ؟ نعم، تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنت من الصلاة وصليت، لكن هل تضمن هذا ؟ كالذي يستطيع أن يحج، إلا أنه أخر الحج إلى آخر أيامه، فإن حج فلا شيء عليه، لكنه لا يضمن البقاء إلى أن يحج، لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة حتى لا تأثم إن فاتك وأنت قادر.
﴿ أولئك ( ١٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : أصحاب الصفات المتقدمة، وهم ستة أصناف : الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.
هؤلاء هم الوارثون، والإرث : أخذ حق من غير عقد أو هبة، لأن أخذ مال الغير لا بد أن يكون إما ببيع وعقد، وإما هبة من صاحب المال. لذلك سألوا الوارث : أهذا حقك ؟ قال : نعم، قالوا : فما صكك عليه ؟ يعني : أين العقد الذي أخذته به ؟ قال : عقدي وصكي :﴿ يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ( ١١ ) ﴾ [ النساء ] : فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر.
وما دام عقدي من الحق- تبارك وتعالى- فلا تقل : إن الميراث مأخوذ بغير عقد، لأنه قائم على أوثق العقود، وهو العقد من الله.
وكثيرا ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع الله حبا في المال واستئثارا به، أو بخلا على من جعل له الشرع نصيبا، فمن كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات، ومن كان عنده بنات يكتب لهن ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله، وهذا كثيرا ما يحدث في المجتمع.
ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع الله فيه وتقسيم الله للمال، فقد وهبك الله المال وتركك تتصرف فيه طوال حياتك، وليس لك أن تتصرف فيه أيضا بعد موتك، عليك أن تدع المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه، لذلك قال الله تعالى عن الإرث :﴿ فريضة من الله ( ١١ ) ﴾ [ النساء ] : يعني : ليست من أحد آخر، وما دامت فريضة من الله فعليك أن تمتثل لها وتنفذها، وحين تتأبى عليها فإنك تتأبى على الله وترفض قسمته.
والمتأمل في مسألة الإرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه الله، ومن كان يحب البنين فليعط البنات حتى لا يفسد علاقة أولاده من بعده، ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم وحرموا منه البنات، يقولون : نريد أن نصحح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع الله.
ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية، فإن رفض بعض الإخوة إعادة التقسيم على شرع الله يقول : أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص، ومثل هؤلاء يفتح الله عليهم ويبارك لهم فيما بقي، لأنهم جعلوا اعتمادهم على الله فيزيدهم من فضله ويربي لهم القليل حتى يصير كثيرا، أما من اعتمد على ما في يده فإن الله يكله إليه.
ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته، نقول له : أنت لست عادلا في هذا التصرف، يجب أن تعاملهم بالمثل، فلو تركت بناتك فقراء لا مال لهن، فمن يعولهن ويرعاهن من بعدك ؟ يعولهن الأعمام. إذن : لتكن معاملة بالمثل.
والحق- تبارك وتعالى- حين يورث هذه الأصناف يورثهم بفضله وكرمه، وقد بين النبي ( ص ) ذلك بقوله : " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ٢.
أما قوله تعالى :﴿ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ( ٣٢ ) ﴾ [ النحل ] : فهذا خاص بمجرد دخول الجنة، أما الزيادة فهي من فضل الله ﴿ ويزيدهم من فضله ( ١٧٣ ) ﴾ [ النساء ].
ومن أسمائه تعالى ( الوارث ) وقال :﴿ وأنت خير الوارثين ( ٨٩ ) ﴾ [ الأنبياء ] : فماذا يرث الحق سبحانه وتعالى منا ؟.
لقد خلق الله الخلق، وأعطى للناس أسباب ملكيته، ووزع هذه الملكية بين عباده : هذا يملك كذا، وهذا يملك كذا من فضل الله تعالى. فإذا كان يوم القيامة عاد الملك كله إلى صاحبه، وكان الحق سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
والله خير الوارثين، لأن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به، لكن الحق سبحانه يرث ما تركه للغير ليعود خيره عليهم ويزيدهم، ويعطيهم أضعافا مضاعفة، وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب فإنه في الآخرة يرث هذه الأسباب، ويعطيهم من فضله بلا أسباب، حيث تعيش في الجنة مستريحا لا تعب ولا نصب ولا سعي، وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أن تحرك ساكنا.
إذن : البشر يرثون ليأخذوا، أما الحق سبحانه فيرث ليعطي، لذلك فهو خير الوارثين.
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٦٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٨١٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( ١١ ) ﴾ :
إذن : الحق سبحانه ورثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة، والفردوس أعلى الجنة، فورث الحق لينفع عباده ويصعد النفع لهم، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب، الحق ورث ليعطي، لا مثل ما أخذ إنما فوق ما أخذ، لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى، والله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى.
لكن ممن يرثون الفردوس ؟
قالوا : الحق- تبارك وتعالى- عندما خلق الخلق، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية رتب على ذلك أمورا، فجعل الجنة على فرض أن الخلق كلهم مؤمنون، بحيث لو دخلوا الجنة جميعا ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام، وكذلك جعل النار على فرض أن الخلق كلهم كافرون، فلو كفر الناس جميعا لكان لكل منهم مكانه في النار.
وعليه فحين يدخل أهل الجنة الجنة يتركون أماكنهم في النار، وحين يدخل أهل النار النار يتركون أماكنهم في الجنة، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها.
والفردوس أعلى مكان في الجنة، لذلك كان النبي ( ص ) يقول : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ١ ذلك، لأن الفردوس جنة على أعلى ربوة في الجنة. يعني : في مكان مميز منها، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا، الناس يحبون السكنى في الأماكن العالية، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء، ألا تراهم يزرعون في المرتفعات، وإن كانت الأرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتص الماء الزائد الذي يفسد الزرع، لذلك يقول سبحانه :﴿ كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ( ٢٦٥ ) ﴾ [ البقرة ].
كذلك الأرض المرتفعة لا تسقى بالماء الغمر، إنما تسقى من ماء السماء الذي يغسل الأوراق قبل أن يروي الجذور، فيكون النبات على أفضل ما يكون، لذلك يقول عنها رب العزة :﴿ فآتت أكلها ضعفين ( ٢٦٥ ) ﴾ [ البقرة ].
ومعلوم أن الأوراق هي رئة النبات، وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات غذاءه، فإذا ما سدت مسام الأوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يقلل من قدرة النبات على التنفس، مثل الإنسان حينما يصاب بشيء في رئته تزعجه وتقلل من كفاءته.
وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده، كما كرم آدم عليه السلام فخلقه بيده تعالى، فقال :﴿ يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي.. ( ٧٥ ) ﴾ [ ص ].
ويروى أن الحق- تبارك وتعالى- لما خلق الفردوس، وغرس أشجارها بيده قال للفردوس٢ : تكلمي، فلما تكلمت الفردوس قالت :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ثم يقول تعالى :﴿ هم فيها خالدون ( ١١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن نعيم الجنة باق ودائم لا ينقطع، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أوتي الإنسان منه، فإنه منقطع زائل، إما أن يتركك بالفقر والحاجة، وإما أن تتركه أنت بالموت، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة :﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعة ( ٣٣ ) ﴾ [ الواقعة ].
وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدم ثمرة الإيمان أولا، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك : هذا جزاء من آمن بي واتبع منهجي. كما جاء في قوله تعالى في استهلال سورة ( الرحمن ) :
﴿ الرحمن ( ١ ) علم القرآن ( ٢ ) خلق الإنسان ( ٣ ) علمه البيان ( ٤ ) ﴾ [ الرحمن ] : كيف وقد خلق الله الإنسان أولا، ثم علمه القرآن ؟.
قالوا : لأن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها، ويحدد لها مهمتها أولا قبل أن يشرع في صناعتها، فمثلا- ولله المثل الأعلى- الذي يصنع الثلاجة، قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها وقانون صيانتها والغاية منها.
والقرآن هو منهج الإنسان، وقانون صيانته في حركة الحياة، لذلك خلق الله المنهج ووضع قانون الصيانة قبل أن يخلق الإنسان.
٢ أخرجه الحاكم في مستدركه (٢/٣٩٢) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال (ص): "خلق الله جنة عدن، وغرس أشجارها بيده فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي في تلخيصه: بل ضعيف..
سبق أن تكلمنا عن خلق الإنسان، وعرفنا أن الخالق- عز وجل- خلق الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام من طين، ومن أبعاضه خلق زوجه، ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى :﴿ وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ( ١ ) ﴾ [ النساء ] :
ومسألة خلق السماء والأرض والناس مسألة احتفظ الله بها، ولم يطلع عليها أحد، كما قال سبحانه :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( ٥١ ) ﴾ [ الكهف ].
فلا تصغ إلى هؤلاء المضلين في كل زمان ومكان، الذين يدعون العلم والمعرفة، ونسمعهم يقولون : إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كونت الأرض.. الخ وعن الإنسان يقولون : كان أصله قردا، إلى آخر هذه الخرافات التي لا أساس لها من الصحة.
لذلك أعطانا الله تعالى المناعة الإيمانية التي تحمينا أن ننساق خلف هذه النظريات، فأخبرنا سبحانه خبر هؤلاء وحذرنا منهم، لأنهم ما شهدوا شيئا من الخلق، ولم يتخذهم الله أعوانا فيقولون مثل هذا الكلام. إذن : هذا أمر استأثر الله بعلمه، فلا تأخذوا علمه إلا مما أخبركم الله به.
وكلمة الإنسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، فكل واحد منا إنسان، بدليل أن الله تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعا في قوله تعالى :﴿ والعصر ( ١ ) إن الإنسان لفي خسر ( ٢ ) إلا الذين آمنوا.. ( ٣ ) ﴾ [ العصر ] : فاستثنى من المفرد الجماعة.
ومعنى ﴿ خلقنا ( ١٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أوجدنا من عدم، وسبق أن قلنا : إن الله تعالى أثبت للبشر صفة الخلق أيضا مع الفارق بين خلق الله من عدم وخلق البشر من موجود، وخلق الله فيه حركة وحياة فينمو ويتكاثر، أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله لا يتغير، لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ].
أما قول القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام :﴿ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.. ( ٤٩ ) ﴾ [ آل عمران ] : فهذه من خاصياته عليه السلام، والإيجاد فيها بأمر من الله يجريه على يد نبيه.
فالمعنى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان.. ( ١٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام ﴿ من سلالة من طين ( ١٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والسلالة : خلاصة الشيء تسل منه كما يسل السيف من غمده أي : الجراب الذي يوضع فيه، فالسيف هو الأداة الفتاكة الفاعلة، أما الغمد فهو مجرد حافظ وحامل لهذا الشيء الهام.
فالسلالة- إذن- هي أجود ما في الشيء، وقد خلق الله الإنسان الأول من أجود عناصر الطين وأنواعه، وهي زبد الطين، فلو أخذت قبضة من الطين وضغطت عليها بين أصابعك يتفلت منها الزبد، وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة.
ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أن يهجو قريشا لمعاداتهم لرسول الله ( ص ) قال : ائذن لي يا رسول الله أن أهجوهم من على المنبر فقال ( ص ) : " أتهجوهم وأنا منهم ؟ " فقال حسان : أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين١.
وتطلق السلالة على الشيء الجيد فيقولون : فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد. يعني : في مقام المدح، حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويسجلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها، ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الأصيلة.
وقد أثبت العلم الحديث صدق هذه الآية، فبالتحليل المعملي التجريبي أثبتوا أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها عناصر الطين، وهي ستة عشر عنصرا، تبدأ بالأكسوجين، وتنتهي بالمنجنيز، والمراد هنا التربة الطينية الخصبة الصالحة للزراعة، لأن الأرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا : مائة وثلاثة عشر عنصرا.
يعني : بعد أن جعلناه بشرا مستويا فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه، وكما خلقناه من خلاصة الطين في الإنسان الأول نخلقه في النسل من خلاصة الماء وأصفى شيء فيه، وهي النطفة، لأن الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس، والدم يمتص خلاصة الغذاء، والباقي يخرج على هيئة فضلات، ثم يصفى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى، ومن خلاصة الدم تكون طاقة الإنسان وتكون النطفة التي يخلق منها الإنسان. إذن : فهو حتى في النطفة من سلالة منتقاة.
والنطفة التي هي أساس خلق الإنسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي، لذلك قال سبحانه :﴿ ألم يك نطفة من مني يمنى ( ٣٧ ) ﴾ [ القيامة ]، ثم جعلنا هذه النطفة ﴿ في قرار مكين ( ١٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : قرار : يعني مستقر تستقر فيه النطفة، والقرار المكين هو الرحم خلقه الله على هذه الهيئة، فحصنه بعظام الحوض، وجعله معدا لاستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها.
يقول العلماء : بعد أربعين يوما تتحول هذه النطفة إلى علقة، وسميت كذلك لأنها تعلق بجدار الرحم، والعلماء يسمونها الزيجوت، وهي عبارة عن بويضة مخصبة، وتبدأ في أخذ غذائها منه.
ومن عجائب قدرة الله في تكوين الإنسان أن المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض، فإذا ما حملت لا ترى الحيض أبدا، لماذا ؟ لأن هذا الدم ينزل حين لم تكن له مهمة ولا تستفيد به الأم، أما وقد حدث الحمل فإنه يتحول بقدرة الله إلى غذاء لهذا الجنين الجديد.
ثم يقول سبحانه :﴿ فخلقنا العلقة مضغة.. ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهي قطعة صغيرة من اللحم على قدر ما يمضغ، وسبق أن قلنا : إن المضغة تنقسم بعد ذلك إلى مخلقة وغير مخلقة، كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم.. ( ٥ ) ﴾ [ الحج ] : هذا على وجه التفصيل، أما في الآية التي معنا فيحدثنا عن أطوار الخلق عامة، حتى لا نظن أن القرآن فيه تكرار كما يدعي البعض.
المضغة المخلقة هي التي يتكون منها جوارح الإنسان وأعضاؤه، وغير المخلقة تظل كما قلنا : احتياطيا لصيانة ما يتلف من الجسم، كما يحدث مثلا في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب الإنسان، فتقوم غير المخلقة بدورها الاحتياطي.
ثم يقول تعالى :﴿ فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر.. ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنه كان في كل هذه الأطوار : النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم العظام واللحم ما يزال تابعا لأمه متصلا بها يتغذى منها، فلما شاء الله له أن يولد ينفصل عن أمه ليباشر حياته بذاته، ولذلك نجد لحظة انفصال الجنين عن أمه في عملية الولادة مسألة صعبة، لأنه سيستقبل حياة ذاتية تستلزم أن تعمل أجهزته لأول مرة، وأول هذه الأجهزة جهاز التنفس.
ومن رحمة الله بالجنين أن ينزل برأسه أولا ليستطيع التنفس، ثم يخرج باقي جسمه بعد ذلك، فإن حدث العكس ونزل برجليه فربما يموت، لأنه انفصل عن تبعيته لأمه، وليس له قدرة على التنفس ليحتفظ بحياته الذاتية الجديدة، لذلك في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لإنقاذ الجنين من هذا الوضع، وقبل أن يختنق.
ولما كانت مسألة خلق الإنسان فيها كثير من العبر والآيات ودلائل القدرة طوال هذه المراحل التي يتقلب فيها الإنسان، ناسب أن تختم الآية بقوله تعالى :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنك حين تقف وتتأمل قدرة الله في خلق الإنسان لا تملك إلا أن تقول : سبحان الله، تبارك الله الخالق.
لذلك يروى أن رسول الله ( ص ) حينما قرأ هذه الآية سبق عمر فقال ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) فقال ( ص ) للكاتب : اكتبها فقد نزلت١، لأنها انفعال طبيعي لقدرة الله، وعجيب صنعه، وبديع خلقه، وهذا نوع من التجاوب بين السليقة العربية واللسان العربي وبين أسلوب القرآن الذي جاء بلسان القوم.
ويقال : إن سيدنا معاذ بن جبل نطق بها أيضا٢، وكذلك نطق بها رجل أخر هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح٣، مع اختلاف في نتيجة هذا النطق : لما نطق بها عمر ومعاذ رضي الله عنهما كان استحسانا وتعجبا ينتهي إلى الله، ويقر له سبحانه بالقدرة وبديع الصنع.
أما ابن أبي السرح فقد قالها كذلك تعجبا، لكن لما وافق قوله قول القرآن أعجب بنفسه، وادعى أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد، ولم لا وهو يقول كما يقول القرآن، ومع ذلك هو ما يزال مؤدبا يدعي مجرد أنه يوحى إليه، لكن زاد تعاليه وجره غروره إلى أن قال : سأنزل مثلما أنزل الله، فليس ضروريا وجود الله في هذه المسألة، فارتد والعياذ بالله بسببها، وفيه نزل قول الله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.. ( ٩٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
وظل ابن أبي السرح إلى فتح مكة حيث شفع فيه عثمان رضي الله عنه عند رسول الله ( ص )، فلما رأى رسول الله حرص عثمان عليه سكت، ولم يقل فيه شيئا، وعندها أخذه عثمان رضي الله عنه وانصرف، فقال النبي ( ص ) لصحابته : " أما كان فيكم من يجهز عليه ؟ فقالوا : يا رسول الله لو أومأت لنا برأسك ؟ يعني : أشرت إلينا بهذا، انظر هنا إلى منطق النبوة، قال ( ص ) : " لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة الأعين " ٤ يعني : هذا تصرف لا يليق بالأنبياء. فلو فعلتموها من أنفسكم كان لا بأس.
ثم بعد ذلك تحل بركة عثمان على ابن أبي السرح فيؤمن ويحسن إسلامه، ثم يولى مصر، ويقود الفتوحات في إفريقيا، ويتغلب على الضجة التي أثاروها في بلاد النوبة، وكأن الله تعالى كان يدخره لهذا الأمر الهام.
٢ - أثر معاذ بن جبل: أخرجه ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أملى علي رسول الله (ص) هذه الآية ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (١٢)﴾ [المؤمنون] إلى قوله ﴿خلقا آخر.. (١٤)﴾ [المؤمنون] فقال معاذ بن جبل: فتبارك الله أحسن الخالقين، فضحك رسول الله (ص)، فقال له معاذ: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: إنها ختمت ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين (١٤)﴾ [المؤمنون]..
٣ - هو: عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي العامري، من بني عامر بن لؤي فاتح أفريقية، أسلم قبل فتح مكة، كان من كتاب الوحي، وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر ووليها بعده لمدة ١٢ عاما، دانت له أفريقية كلها وهزم الروم في معركة "ذات الصواري" عام ٣٤ه. توفي عام ٣٧ه. [الأعلام للزركلي ٤/٨٩]..
٤ - أخرجه أبو داود في سننه (٢٦٨٣)، والنسائي في سننه (٧/١٠٦) من حديث سعد بن أبي وقاص، وفيه أن رسول الله (ص) قال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك. قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين"..
﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( ١٥ ) ﴾ :
ولك أن تسأل : كيف يحدثنا الحق- تبارك وتعالى- عن مراحل الخلق، ثم يحدثنا مباشرة عن مراحل الموت والبعث ؟
نقول : جعلهما الله تعالى معا لتستقبل الحياة وفي الذهن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة، حتى لا تتعالى ولا تغفل عن هذه النهاية ولتكن على بالك، فترتب حركة حياتك على هذا الأساس.
ومن ذلك أيضا قول الله تعالى :﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ( ١ ) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. ( ٢ ) ﴾ [ الملك ] : كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أن يخلق فينا الحياة، وقدم الموت على الحياة حتى تستقبل الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فلا تغتر بالحياة، وتعمل لما بعد الموت.
وقد خاطب الحق- سبحانه وتعالى- نبيه ( ص ) بقوله :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ( ٣٠ ) ﴾ [ الزمر ] : البعض يظن أن ميت بالتشديد يعني من مات بالفعل، وهذا غير صحيح، فالميت بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت، وإن كان ما يزال على قيد الحياة، فكلنا بهذا المعنى ميتون، أما الذي مات بالفعل فهو ميت بسكون الياء، ومنه قول الشاعر١ :
ليس من مات فاستراح بميت**** إنما الميت ميت الأحياء٢
ومعنى :﴿ بعد ذلك ( ١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بعد أطوار الخلق التي تقدمت من خلق الإنسان الأول من الطين إلى أن قال سبحانه :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] :
والمتأمل في هذه الآية وهي تحدثنا عن الموت الذي لا ينكره أحد ولا يشك فيه أحد، ومع ذلك أكدها الحق- تبارك وتعالى- بأداتين من أدوات التوكيد :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( ١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأكدها بإن وباللام، ومعلوم أننا لا نلجأ إلى التوكيد إلا حين يواجهنا منكر، فيأتي التوكيد على قدر ما يواجهك من إنكار، أما خالي الذهن فلا يحتاج إلى توكيد.
تقول مثلا لخالي الذهن الذي لا يشك في كلامك : يجتهد محمد، فإن شك تؤكد له بالجملة الاسمية التي تفيد ثبوت واستقرار الصفة : محمد مجتهد، وتزيد من تأكيد الكلام على قدر الإنكار، فتقول : إن محمدا مجتهد، أو إن محمدا لمجتهد، أو والله إن محمدا لمجتهد. هذه درجات للتأكيد على حسب حال من تخاطبه.
إذن : أكد الكلام عن الموت الذي لا يشك فيه أحد، فقال :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( ١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ].
٢ - ذكره ابن منظور في لسان العرب- مادة: موت..
﴿ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( ١٦ ) ﴾ :
ولم يقل : لتبعثون كما قال ﴿ لميتون ( ١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم، ولا يؤكد ما فيه إنكار ؟.
قالوا : نعم، لأن المتكلم هو الله تعالى، الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه، فلما غفلتم عنه كنتم كالمكذبين به المنكرين له، لذلك أكد عليه، لذلك يقال : " ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت " فالكل يعلم الموت ويعانيه، لكن يبعده عن نفسه، ولا يتصوره في حقه.
أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة لا يصح لأحد أن ينكرها، لذلك جاءت دون توكيد :﴿ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( ١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها، لذلك سأطلقها إطلاقا دون مبالغة في التوكيد، أما من يتشكك فيه أو ينكره، فهذا نؤكد له الكلام، فانظر إلى بصر الحق- سبحانه وتعالى- بعقليات خلقه وبنفوسهم وملكاتهم.
﴿ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ( ١٧ ) ﴾ :
نلحظ أن للعدد سبعة مواقف في هذه السورة وأسرارا يجب أن نتأملها، ففي استهلال السورة ذكر سبحانه سبعة أصناف :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) الذين هم.. ( ٢ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وفي مراحل خلق الإنسان نجده مر بسبعة أطوار : سلالة من طين، ثم نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر.
وهنا يقول :﴿ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق.. ( ١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وفي موضع آخر قال :﴿ الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن.. ( ١٢ ) ﴾ [ الطلاق ].
فهذه سبعة للغاية، وسبعة للمغيا له، وهو الإنسان، وسبعة للسماوات والأرض المخلوقة للإنسان.
وطرائق : جمع طريقة أي : مطروقة للملائكة، والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطرق، كما تطرق قطعة من الحديد مثلا، فانظر إلى السماء واتساعها. وقل : سبحان من طرقها.
وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الأرض، لماذا ؟ قالوا : لأن الأرض نقف عليها ثابتين لا نخاف من شيء، إنما الخوف من السماء أن تندك فوقنا، لذلك يقول سبحانه بعدها :﴿ وما كنا عن الخلق غافلين ( ١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلن نغفل عن السماء من فوقكم، وسوف نمسكها بأيدينا، كما قال سبحانه :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده.. ( ٤١ ) ﴾ [ فاطر ].
ثم يعطينا الحق- تبارك وتعالى- الدليل الحسي على هذه الآية، وكيف أن الله تعالى رفع السماء فوقنا بلا عمد، ومثال ذلك الطير يمسكه الله في السماء :﴿ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن.. ( ١٩ ) ﴾ [ الملك ].
نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فلا يسقط، كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح، فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل معلقا في السماء لا يسقط فمن يمسكه في هذه الحالة ؟ هذه صورة تشاهدونها لا يشك فيها أحد، فإذا قلت لكم أني أمسك السماء أن تقع على الأرض فصدقوا وآمنوا، واستدلوا على الغيب بالمشاهد.
وكأن الحق سبحانه في قوله :﴿ وما كنا عن الخلق غافلين ( ١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يقول : اطمئنوا إلى السماء من فوقكم، فقد جعلت لها التأمينات اللازمة التي تؤمن معيشتكم تحت سقفها، اطمئنوا لأنها بأيدينا وفي رعايتنا.
لكن، ما المراد بقوله ﴿ عن الخلق.. ( ١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أهو الإنسان أم خلق السماء ؟ المراد : ما كنا غافلين عن خلق السماء، فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلامتكم.
والغفلة : ترك شيء لأنه غاب عن البال، وهذه مسألة لا تكون أبدا في حق الله- عز وجل- لأنه لا تأخذه سنة ولا نوم.
﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ( ١٨ ) ﴾ :
يقول تعالى عن الماء :﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فهل الماء مقره السماء ؟ لا، الماء مقره الأرض، كما جاء في قول الله تعالى :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( ٩ ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ( ١٠ ) ﴾ [ فصلت ].
لما استدعى الخالق- عز وجل- الإنسان إلى هذا الوجود جعل له في الأرض مقومات استبقاء حياته من الهواء والقوت والماء، والإنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام، وصبره أقل على الماء، لكن لا صبر له على الهواء، لذلك شاءت قدرة الله ألا يملكه لأحد، لأنه مقوم الحياة الأول، فالغلاف الجوي والهواء المحيط بالأرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله :﴿ وقدر فيها أقواتها ( ١٠ ) ﴾ [ فصلت ] : بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الأرض يمتنع الهواء.
ومن حكمة الخالق- عز وجل- وقدرته أن جعل الماء على الأرض مالحا، لأن الملح أساس في صلاح الأشياء التي يطرأ عليها الفساد، فالماء العذب عرضة للتغير والعطن، وبالملح نصلح ما نخشى تغيره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود.. الخ.
لذلك قال الشاعر :
يا رجال الدين يا ملح البلد**** من يصلح الملح إذا الملح فسد
إذن : أصل الماء في الأرض، لكن ينزل من السماء بعد عملية البخر التي تصفيه فينزل عذبا صالحا للشرب وللري، وقلنا : إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الأرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة البخر، ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الأرض.
ومن رحمة الله بنا أن ينزل الماء من السماء ﴿ بقدر ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بحساب وعلى قدر الحاجة، فلو نزل هكذا مرة واحدة لأصبح طوفانا مدمرا، كما حدث لقوم نوح ولأهل مأرب. وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) ﴾ [ الحجر ].
ثم يقول سبحانه :﴿ فأسكناه في الأرض.. ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر، والباقي يتسرب في باطن الأرض، كما قال سبحانه :﴿ فسلكه ينابيع في الأرض ( ٢١ ) ﴾ [ الزمر ] : ومن عجيب قدرة الله في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة، بحيث لا يختلط الماء العذب بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الاستطراق، والعاملون في مجال حفر الآبار يجدون من ذلك عجائب، فقد يجدون الماء العذب بجوار المالح، بل وفي وسط البحر لأنها ليست مستطرقة، إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض.
والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نخرجه عند الحاجة، ويسعفنا إذا نضب الماء العذب الموجود على السطح ﴿ فأسكناه في الأرض.. ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ليكون احتياطيا لحين الحاجة إليه، فإذا جف المطر تستطيعون أن تستنبطوه.
ثم يذكرنا الحق سبحانه بقدرته على سلب هذه النعمة ﴿ وإنا على ذهاب به لقادرون ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : سيروا في هذه النعمة سيرا لا يعرضها للزوال، وقال في موضع آخر :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ( ٣٠ ) ﴾ [ الملك ].
وحين تعد نعم الله التي امتن علينا بها بداية من نعمة الماء :﴿ وأنزلنا من السماء ماء بقدر ( ١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تجدها أيضا سبعة. ويبدو أن لهذا العدد أسرارا في هذه السورة، فقد ذكر من أوصاف المؤمنين سبعة، ومن مراحل خلق الإنسان سبعا، ومن السماء والأرض سبعة، وهنا يذكر من نعمه علينا سبعة، لذلك كان للعلماء وقفات عند هذا العدد بالذات.
وأذكر ونحن في المملكة السعودية وكنت أستاذا في كلية الشريعة ومعي بعض الأساتذة ورئيس بعثتنا الشيخ زكي غيث- رحمه الله وغفر الله له- ورئيس بعثة المعارف الأستاذ صلاح بك الباقر، وكان دائما ما يجلس معنا شيخ علماء المملكة في هذا الوقت السيد إسحق عزوز، وكان يجمعنا كل ليلة الفندق الذي نقيم فيه، وكنا نتدارس بعض قضايا العلم.
وقد أثار الشيخ إبراهيم عطية قضية هذا العدد في القرآن الكريم، وكان يقرأ في تفسير القرطبي فوجد فيه : قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا ابن عباس أتعرف متى ليلة القدر ؟ فقال ابن عباس : أغلب الظن أنها ليلة السابع والعشرين، فلما سمعنا هذا الكلام قلنا : هذه سبعة، وهذه سبع وعشرون، فلما اختلفنا اقترح علينا الشيخ محمد أبو علي- أطال الله عمره- أن نذهب لنصلي في الحرم بدل أن نصلي في الفندق عملا بسنة رسول الله ( ص )، وقد كان كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة، وقلنا : ربما يفتح الله علينا في هذه المسألة.
وبعد أن صلينا جلسنا نناقش هذه المسألة، فإذا برجل لا نعرفه على سمة المجاذيب غير مهتم بنفسه، يجلس بجوارنا وينصت لما نقول، ثم شاركنا الكلام وقال : ألم يقل رسول الله ( ص ) : " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان " ١ ؟ إذن : فدعكم من العشرين يوما، واحسبوا في العشر الأواخر، ثم نظرنا فلم نجده، كأن وحدة الزمن التي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر، وكأنها بهذا المعنى ليلة السابع، وهذه أيضا من أسرار هذا العدد ﴿ وفوق كل ذي علم عليم ( ٧٦ ) ﴾ [ يوسف ].
أطال الله في عمر من بقي من هؤلاء، وغفر الله لمن ذهب.
﴿ فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( ١٩ ) ﴾ :
الجنة : المكان الملئ بالأشجار العالية والمزروعات التي تستر من يسير فيها، أو تستره عن الخارج، فلا يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها، فهي من الكمال بحيث تكفيه، فلا يخرج عنها. واختار هذه الأنواع ﴿ نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ( ١٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لما لها من منزلة عند العرب، وقال ﴿ فواكه كثيرة ( ١٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنه لم يحصر جميع الأنواع.
الطور : جبل منسوب إلى سيناء، وسيناء مكان حسن، لأن الله بارك فيها، والطور كلم الله عليه موسى، فهو مكان مبارك، كما بارك الله أرض بيت المقدس فقال :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ( ١ ) ﴾ [ الإسراء ].
ومعنى :﴿ تنبت بالدهن ( ٢٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الدهن هو الدسم، والمراد هنا شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف ﴿ وصبغ للآكلين ( ٢٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : يتخذونه إداما يغمسون فيه الخبز ويأكلونه، وهو من أشهى الأكلات وألذها عند من يزرعون الزيتون في سيناء وفي بلاد الشام، وقد ذقنا هذه الأكلة الشهيرة في لبنان، عندما ذهبنا إليها في موسم حصاد الزيتون.
الأنعام : يراد بها الإبل والبقر، وألحق بالبقر الجاموس، ولم يذكر لأنه لم يكن موجودا بالبيئة العربية، والغنم وتشمل الضأن والماعز، وفي سورة الأنعام يقول تعالى :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين.. ( ١٤٣ ) ﴾ [ الأنعام ].
ويقال فيها :{ أنعام ونعم ( بفتح النون والعين ).
والعبرة : شيء تعتبرون به وتستدلون به على قدرة الله وبديع صنعه في خلق الأنعام.
لكن، ما العبرة في خلق هذه الأنعام ؟ الحق- سبحانه وتعالى- تكلم عن خلق الإنسان، وأنه تعالى خلقه من صفوة وخلاصة وسلالة من الطين ومن النطفة، وهكذا في جميع أطوار خلقه. وفي الأنعام ترى شيئا من هذا الاصطفاء والاختيار، فالأنعام تأكل من هنا ومن هناك وتجمع شتى الأنواع من المأكولات، ومن هذا الخليط يخرج الفرث، وهو منتن لا تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان، ومن بين الفرث والدم يصفي لك الخالق- عز وجل- لبنا خالصا، وهذه سلالة أيضا وتصفية.
قال تعالى :﴿ وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث١ ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ( ٦٦ ) ﴾ [ النحل ].
ونلحظ أن الآية التي معنا تقول :﴿ نسقيكم مما في بطونها ( ٢١ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وفي آية النحل :﴿ نسقيكم مما في بطونه ( ٦٦ ) ﴾ [ النحل ] : ذلك لأننا نأخذ اللبن من إناث الأنعام ليس من كل الأنعام، فالمعنى ﴿ مما في بطونها ( ٢١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : الإناث منها و﴿ مما في بطونه ( ٦٦ ) ﴾ [ النحل ] : أي : بطون البعض، ولذا عاد الضمير مذكرا.
وقوله :﴿ نسقيكم ( ٢١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : من سقى، وفي موضع آخر ﴿ فأسقيناكموه ( ٢٢ ) ﴾ [ الحجر ] : من الفعل أسقى. البعض يقول إنهما مترادفان، وهما ليسا كذلك لأن لكل منهما معنى، فسقى يعني : أعطاه الشراب، أما أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب أن يشرب٢.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن شراب الجنة، قال :﴿ وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( ٢١ ) ﴾ [ الإنسان ].
ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه :﴿ وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين ( ٢٢ ) ﴾ [ الحجر ] : يعني : جعله في مستودع لحين الحاجة إليه.
كما قلنا في ( مرضع ) بالكسر، و( مرضع ) بالفتح، فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل، ومنه قوله تعالى :﴿ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ( ٢ ) ﴾ [ الحج ].
أما مرضع بالفتح، فهي الصالحة للرضاعة.
ثم يقول تعالى :﴿ ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ( ٢١ ) ﴾ [ المؤمنون ]. نلحظ أن آية النحل ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فرث ودم، أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للأنعام، فكل آية تأخذ جانبا من الموضوع، وتتناوله من زاوية خاصة، نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار في القرآن الكريم، فالآيات في الموضوع الواحد ليست تكرارا، إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة، كل لقطة تؤدي في مكانها موقعا من العظة والعبرة، بحيث إذا جمعت كل هذه المكررات الظاهرة تعطيك الصورة الكاملة للشيء.
والمنافع في الأنعام كثيرة : منها نأخذ الصوف والوبر، وكانوا يصنعون منه الملابس والفرش والخيام، قبل أن تعرف الملابس والمنسوجات الحديثة، ومن ملابس الصوف سميت الصوفية لمن يلبسون الثياب الخشنة، وهم الآن يصنعون من الصوف ملابس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون.
ومن منافع الأنعام أيضا الجلود والعظام وغيرها، يقول تعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم٣ ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ( ٨٠ ) ﴾ [ النحل ].
﴿ ومنها تأكلون ( ٢١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : لحما، وذكر اللحم في آخر هذه المنافع، لأنه آخر ما يمكن الانتفاع به من الحيوان، وسبق أن ذكرنا أن الحيوان الذي أحله الله لنا إذا تعرض لما يزهق روحه، فإنه يرفع لك رقبته، ويكشف لك عن موضع ذبحه كأنه يقول لك : أسرع واستفد مني قبل أن أموت.
وفي لقطة أخرى لمنافع الأنعام يقول سبحانه :﴿ وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ( ٧ ) ﴾ [ النحل ] : إذن : كل آية تحدثت عن الأنعام تعطينا فائدة لتظل مربوطا بالقرآن كله.
٢ - قال الفراء: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري لقوم أسقيت، فإذا سقاك ماء لشفتك قالوا سقاه ولم يقولوا أسقاه، كما قال تعالى: ﴿وسقاهم ربهم شرابا طهورا (٢١)﴾ [الإنسان]، وربما قالوا لما في بطون الأنعام ولماء السماء سقى وأسقى. [لسان العرب- مادة: سقى]..
٣ - الظعن: الانتقال من مكان إلى مكان أي سافر. [القاموس القويم ١/٤١٥]..
﴿ وعليها ( ٢٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : على الدواب تحملون، فنركب الدواب، ونحمل عليها متاعنا، لكن لما كانت الأرض ثلاثة أرباعها ماء، فإن الحق- سبحانه وتعالى- ما تركنا في البحر، إنما حملنا فيه أيضا ﴿ وعلى الفلك تحملون ( ٢٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فكما أعددت لكم المطايا على اليابسة الضيقة أعددت لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء.
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( ٢٣ ) ﴾ :
بعد أن حدثنا القرآن الكريم عن خلق الإنسان وخلق الحيوان، وحدثنا عن بعض نعمه التي امتن بها علينا تدرج بنا إلى صناعة الفلك، لأنه قد يسأل سائل : وكيف تكون هذه الفلك أي : تخلق كالإنسان والحيوان بالتوالد، أم تنبت كالزرع ؟ فأوضح الخالق سبحانه أنها وجدت بالوحي في قوله تعالى :﴿ فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ومعنى ﴿ بأعيننا ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أنها صنعة دقيقة، لم يترك فيها الحق سبحانه نبيه يفعل ما يشاء، إنما تابعه ولاحظه ووجهه إلى كيفية صناعتها والمواد المستخدمة فيها، كما قال سبحانه :﴿ وحملناه على ذات ألواح ودسر ( ١٣ ) ﴾ [ القمر ] : وهي الحبال، كانوا يربطون بها ألواح الخشب، ويضمون بعضها إلى بعض، أو المسامير تشد بها الألواح بعضها إلى بعض.
لكن، مهما أحكمت ألواح الخشب بعضها إلى بعض، فلا بد أن يظل بينها مسام يتسرب منها الماء، فكيف نتفادى ذلك في صناعة الفلك خاصة في مراحلها البدائية ؟ يقولون : لا بد لصانع الفلك أن يجفف الخشب جيدا قبل تصنيعه فإذا ما نزل الخشب الماء يتشرب منه، فيزيد حجمه فيسد هذه المسام تماما، ولا يتسرب منها الماء.
ومن عجائب القرآن ومعجزاته في مسألة الفلك قوله تعالى :
﴿ وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ( ٢٤ ) ﴾ [ الرحمن ] : يعني : كالجبال العالية. وهذه الفلك لم تكن موجودة وقت نزول القرآن إنما أخبر الله بها، مما يدل على أنه تعالى الذي امتن علينا بهذه النعمة، علم ما يمكن أن يتوصل إليه الإنسان من تطور في صناعة الفلك، وأنها ستكون عالية شاهقة كالجبال.
وطالما أن الكلام معنا عن الفلك، فطبيعي ومن المناسب أن نذكر نوحا عليه السلام، لأنه أول من اهتدى بالوحي إليه إلى صناعة الفلك، فقال سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه.. ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ]. لما تكلم الحق سبحانه عما في الأنعام من نعم وفوائد، لكنها تؤول كلها- بل والدنيا معها- إلى زوال، أراد سبحانه أن يعطينا طرفا من الحياة الباقية والنعيم الدائم الذي لا يزول فذكر منهج الله الذي أرسل به نوح، وهو واحد من أولي العزم من الرسل.
والإرسال : هو أن يكلف مرسل مرسلا إلى مرسل إليه، فالمكلف هو الحق سبحانه، والمكلف بالرسالة نوح عليه السلام، والمرسل إليهم هم قومه، والله لا يرسل إلى قوم إلا إذا كانوا يهمونه، وكيف لا وهم عباده وخلقه، وقد جعلهم خلفاء له في الأرض ؟.
والذي خلق خلقا، أو صنع صنعة لا بد أن يضع لها قانون صيانتها، لتؤدي مهمتها في الحياة، وتقوم بدورها على الوجه الأكمل، كما مثلنا لذلك- ولله تعالى المثل الأعلى- بصانع الثلاجة أو التليفزيون حين يضع معه كتالوجا يحوي تعليمات التشغيل وطريقة الصيانة وكيفية إصلاح الأعطال.
فالذي خلق الإنسان وجعله خليفة له في الأرض أولى بهذا القانون وأولى بصيانة خلقه، لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي : " يا ابن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له " يعني : ما دام كل شيء من أجلك يعمل لك ويؤدي مهمته، فعليك أيضا أن تؤدي مهمتك التي خلقتك من أجلها.
لذلك وضع لك ربك قانون صيانتك بافعل كذا ولا تفعل كذا، فعليك أن تلتزم الأمر فتؤديه فهو سر الجمال في الكون، وسر السعادة والتوافق في حركة الحياة، وعليك أن تجتنب النهي فلا تقربه، لأنه سيؤدي إلى قبح، وسيكشف عورة من عورات المجتمع، أما الأمور التي سكت عنها فأنت حر فيها تفعل أو لا تفعل، لأن ذلك لا يأتي بقبيح في المجتمع، وهذه المسائل تسمى المباحات، وقد تركها الله لحريتك واختيارك.
والحق- تبارك وتعالى- لما استدعى الإنسان إلى هذا الكون خلق له مقومات حياته من مقومات استبقاء الحياة من طعام وشراب وهواء واستبقاء النوع بالتناسل، وقد شمل قانون الصيانة كل هذه المقومات، فنظمها وحدد ما يحل وما يحرم. فقال : كل هذه ولا تأكل هذه، واشرب هذا ولا تشرب ذاك، ولو شاهدنا المخترعين في مسائل المادة نجد الصانع يحدد مقومات صنعته، فمثلا هذا الجهاز يعمل على ١١٠ فولت، وهذا يعمل على ٢٢٠ فولت، وهذه الآلة تعمل بالبنزين، وهذه بالسولار، فلو غيرت في هذه المقومات تفسد الآلة ولا تؤدي مهمتها.
كذلك- ولله المثل الأعلى- عليك أن تلتزم بقانون ومنهج خالقك عز وجل، ولا تحد عنه، وإلا فسد حالك وعجزت عن أداء مهمتك في الحياة. فإن أردنا أن تستقيم لنا الخلافة التي خلقنا الله لها وهي خلافة مصلحة لا مفسدة، فعلينا بقانون الصيانة الذي وضعه لنا خالقنا عز وجل.
لذلك، إن رأيت في المجتمع عورة ظاهرة في أي ناحية من نواحي الحياة فاعلم أنها نتيجة طبيعية للخروج عن منهج الله، وتعطيل حكم من أحكامه، فمثلا حين ترى الفقراء والجوعى والمحاويج فاعلم أن في الأمر تعطيلا لحكم من أحكام الله، فهم إما كسالى لا يحاولون السعي في مناكب الأرض، وإما غير قادرين حرمهم القادرون واستأثروا بالثروة دونهم.
البعض يقول : إذا كان الحق سبحانه قد حرم علينا بعض الأشياء، فلماذا خلقها ؟ ويمثلون لذلك بالخنزير مثلا وبالخمر. وخطأ هؤلاء أنهم يظنون أن كل شيء خلق ليؤكل، وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء لمهمة تؤديها في الحياة، وليس بالضرورة أن تؤكل، فالخنزير خلقه الله لينظف البيئة من القاذورات، لذلك لا تراه يأكل غيرها.
أما الخمر فلم تخلق خمرا، إنما هي ثمرة العنب الحلوة التي تؤكل طازجة، أخذها الإنسان وتدخل في هذه الطبيعة وأفسدها بتخميره، فصار الحلال بذلك محرما.
نعود إلى قول الله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه.. ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : القوم : هم الرجال، خاصة من المجتمع، وليس الرجال والنساء، بدليل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن.. ( ١١ ) ﴾ [ الحجرات ] : فالنساء في مقابل القوم أي : الرجال.
ومن ذلك قول الشاعر١ :
وما أدري وسوف أخال أدري**** أقوم آل حصن٢ أم نساء
لكن هل أرسل نوح عليه السلام إلى الرجال دون النساء ؟ أرسل نوح إلى الجميع، لكن ذكر القوم لأنهم هم الذين سيحملون معه أمر الدعوة ويسيحون بها، ويبلغونها لمن لهم ولاية عليهم من النساء، والرجال منوط بهم القيام بمهام الأمور في عمارة الكون وصلاحه.
والإضافة في ﴿ قومه.. ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : بمعنى اللام يعني : قوم له، لأن الإضافة تأتي بمعنى من مثل : أردب قمح يعني من قمح، وبمعنى في مثل : مكر الليل يعني في الليل، وبمعنى اللام مثل : قلم زيد يعني لزيد.
فالمعنى هنا : قوم له، لأنه منهم ومأمون عليهم ومعروف لهم سيرته الأولى، فإذا قال لهم لا يتهمونه، إذن : فمن رحمة الله بالخلق أن يرسل إليهم واحدا منهم، كما قال سبحانه :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ] : ففي هذا إيناس وإلف للقوم على خلاف ما إن كان الرسول ملكا مثلا، فإن القوم يستوحشونه ولا يأنسون إليه.
لذلك، فالنبي ( ص ) كان يسمى بين قومه وقبل بعثته بالصادق الأمين، لأنه معروف لهم ماضيه وسيرته ومقومات حياته تشجع على أن يصدقوه فيما جاء به، وكيف يصدقونه في أمر الدنيا، ولا يصدقونه في البلاغ عن الله ؟
إذن :﴿ إلى قومه ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أننا لم نأت لكم برسول من جنس آخر، ولا من قبيلة أخرى، بل منكم، وتعرفون ماضيه وتاريخه، فتأنسون بما يجئ به، ولا تقفون منه موقف العداء.
أو يكون المعنى : إلى قوم منه، لأنهم لا يكونون قوما قوامين على شؤون إصلاح الحياة، إلا إذا استمعوا منهجه، فهم منه، لأنهم سيأخذون منه منهج الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] :( يا قوم ) استمالة وتحنين لهم ﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٢٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والعبادة طاعة عابد لأمر معبود، والعبادة تقتضي تكليفا بأمر ونهي، فالألوهية تكليف وعبادة، أما الربوبية فعطاء وتربية، لذلك قال سبحانه :﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ( ٣٤ ) ﴾ [ هود ] : أي : ربكم جميعا : رب المؤمن، ورب الكافر، رب الطائع، ورب العاصي.
وكما قلنا : الشمس والقمر والأرض والمطر.. الخ كلها تخدم الجميع، لا فرق بين مؤمن وكافر، لأن ذلك عطاء الربوبية، وإن سألت الكافر الجاحد : من خلقك ؟ من رزقك ؟ فلن يملك إلا أن يقول : الله، إذن : فليخز هؤلاء على أعراضهم، وليعلموا أنه تعالى وحده المستحق للطاعة وللعبادة، فمقتضيات الربوبية والإيمان بها تقتضي أن نؤمن بالألوهية.
كما أن الطفل الصغير ينشأ بين أبيه وأمه ويشب، فلا يجد غيرهما يخدمه ويقضي حاجته ويوفر متطلباته، بل ويزيل عنه الأذى ويسهر على راحته، كل ذلك بروح سعيدة ونفس راضية مطمئنة، ربما يجوعان لتشبع، ويعريان لتكسى، ويحرمان نفسيهما ليوفرا لك الحياة الكريمة، فإذا ما كبر الصغير وبلغ الحلم ومبلغ الرجال نجده يعقهما، ويخرج عن طاعتهما، ويأخذه من أحضانهما أصدقاء السوء، ويزينون له التمرد على أبيه وأمه.
ونقول لمثل هذا العاق : اخز على عرضك واستح، فليس هكذا يكون رد الجميل، وأين كان هؤلاء الأصدقاء يوم أن كنت صغيرا تحتاج إلى من يعولك ويميط عنك الأذى، ويسهر على راحتك ؟ قد كان ينبغي عليك ألا تسمع إلا لمن أحسن إليك.
وهذا مثال لتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية- ولله المثل الأعلى- فكيف تأخذ من ربك عطاء الربوبية، ثم تتمرد عليه سبحانه في الألوهية، فتعصى أمره وتكفر بنعمه ؟ كان من الواجب عليك الوفاء للنعمة.
ولا بد أن تعلم أن ربك- عز وجل- مأمون عليك في التكليف بالأمر والنهي، لأنك عبده وصنعته، وأنك حين تؤدي ما عليك تجاه الألوهية لا ينتفع الله سبحانه من ذلك بشيء، إنما تعود منفعتها عليك، وهكذا إذا ما رددت أمور الطاعة والعبادة والتكاليف لوجدتها تعود في النهاية أيضا إلى عطاء الربوبية، لأنها تعود عليك أنت بالنفع.
فنحن نأخذ الأوامر والنواهي على أنها تكاليف وأعباء يقتضيها الإيمان بالألوهية، نقول : نعم هي تكاليف من الله لكن لصالحك، فلو أنصفت لوجدت الألوهية من الربوبية، فحين يحرم مثلا عليك شرب الخمر ويحميك من فساد العقل، هل ينتفع سبحانه من ذلك بشيء ؟
لذلك يقول تعالى عن هؤلاء :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.. ( ٢٥ ) ﴾ [ لقمان ].
ويقول :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.. ( ٨٧ ) ﴾ [ الزخرف ].
فما دام هو سبحانه خالقكم ورازقكم وخالق السماوات والأرض، فلماذا تعصونه ؟ وهل نقص عصيانكم من ملكه شيئا ؟ وهل زاد في ملكه شيء بطاعة من أطاع ؟ هل زاد في ملك الله بطاعة الطائعين أرض أو سماء، أو شمس أو قمر ؟.
إن الحق سبحانه قبل أن يخلقكم خلق لكم بصفات الكمال فيه كل مقومات حياتكم واستدعاكم إلى كون معد لاستقبالكم ولمعيشتكم، إذن : فربك- عز وجل- لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
لذلك يقول في الحديث القدسي : " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا ع
٢ - يريد: حصن بن حذيفة الفزاري. قاله ابن منظور في [لسان العرب- مادة: حصن]..
﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( ٢٤ ) ﴾ :
الملأ : من الملء يعني : الشيء الذي يملأ الشيء، فالملأ يعني الذين يملئون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتهم، ومن ذلك قولهم : فلان ملء العين، أو ملء السمع والبصر، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحسن مبلغا : فلان قيد العيون يعني : حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شدة حسنه كأنه قيد بصرك نحوه. أما في المقابل فيقولون : فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود.
إذن : الملأ : هم الذين يملئون صدور المجالس أبهة وفخامة ووجاهة وسيادة، لكن، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصبوا ضده وواجهوه ؟.
قالوا : لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر، فالحق- تبارك وتعالى- ينزل منهجا على لسان رسول أول، ويطلب من قومه أن يبلغوا منهج رسولهم من بعده، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عدة صور :
فمنهم من يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله، وهؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
ومنهم من يخرج على منهج ربه خروجا لا رجعة له ولا زجر، وهذا نسميه بلغتنا ( فاقد ) يعني : لم يعد له زاجر من شرع ولا من ضمير. ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أن يتصدى لهم، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم، وإلا لو ظل المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم، ولو ظل على مكانته في المجتمع لتمادى في غيه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع، ويعم الفساد وتشيع الفوضى.
ألا ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني : عائلة القاتل، لا على القاتل وحده ؟ لماذا ؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدت عنده بوادر الاعتداء، لأنهم جميعا سيحملون هذه التبعة.
ونقول : خص الملأ بالذات، لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع، ومن مصلحتهم أن يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم، لذلك هم أول من يقابلون الرسالات بالجحود والنكران. ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى :﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ هود ].
فهؤلاء الذين يسمونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخلق والدين والقيم، فما إن تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم، لذلك يكونون أول من يؤمن. وإن جاء المنهج لإنصاف هؤلاء، فقد جاء أيضا لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليمهم، فلا بد أن يواجهوه ويعاندوه.
ومعنى :﴿ الذين كفروا من قومه.. ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كفروا : يعني جحدوا وجود الله ﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأول شيء صدهم عن الرسول كونه بشرا، إذن : فماذا كنتم تنتظرون ؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾ [ الإسراء ] :
ولا بد في الرسول أن يكون من جنس المرسل إليهم، ليصح أن يكون له أسوة، فيقلدوه ويهتدوا به، وإلا لو جاء الرسول ملكا فكيف تتحقق فيه القدوة ؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه ملك لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل، وليست لديه شهوة، ولا مقومات المعصية ؟
ولنفرض أن الله نزل عليكم ملكا، فكيف ستشاهدونه وتتلقون عنه ؟ لا بد- إذن- أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقي عنه، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل، لذلك قال سبحانه :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ] وتظل الشبهة باقية.
إذن : من الحمق أن نقول بأن يكون الرسول ملكا.
أما قولهم :﴿ بشر مثلكم ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : نعم، هو بشر، لكن ليس كمثلكم، فأنتم كاذبون في هذه المثلية، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي، لذلك يقول رسول الله ( ص ) : " يؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم، وأعطى من الله فأقول : أنا لست كأحدكم ".
ويقول تعالى لرسول الله ( ص ) :﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ( ٦ ) ﴾ [ فصلت ] : ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بشر يوحى إليه، وما بشريته إلا للإيناس والإلف.
ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح :﴿ يريد أن يتفضل عليكم ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] يتفضل : يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعا وهم تابعون ﴿ ولو شاء الله ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : لو شاء أن يرسل رسولا ﴿ لأنزل ملائكة ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : رسلا، وقد رد الله تعالى عليهم هذا القول، فقال تبارك وتعالى :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( ٩٥ ) ﴾ [ الإسراء ] :
ثم يقولون :﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المراد بهذا : يعني أن يأتي من يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام، ولم يأت من يقول لنا هذا الكلام مثل نوح.
وهذا دليل على أنهم مقلدون للآباء، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة١ وإنا على آثارهم مقتدون ( ٢٣ ) ﴾ [ الزخرف ].
ولو تأملنا حال المجتمعات، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء، كيف ؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له رأيه وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الابن عن أبيه، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل، فالولد يختار مثلا الكلية التي يرغبها، الملابس التي يحبها، وإن خالفت رأي أبيه، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إن لزم الأمر، وهذا موجود في كل الأجيال.
إذن : لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور : إنا وجدنا آباءنا على أمة ؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأي مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين ؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يلبي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم، وتتخذون التقليد فيما يقلل تكليفكم، لأن التكليف سيقيد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرافات، لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله.
لذلك، نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبناءنا اليوم، وكيف أفلت الزمام من الآباء والأمهات، فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية، فإن وجهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم وقد ذهب زمانه بلا رجعة، وقد تعدى الأمر من الأولاد إلى البنات، فصرن أيضا يتمردن على هذه القيم ولا يهتممن بها.
فقولهم :﴿ ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وقولهم :﴿ إنا وجدنا آباءنا على أمة ( ٢٣ ) ﴾ [ الزخرف ] : هم كاذبون أيضا في هذه المقولة، لأنهم لو صدقوا لقلدوهم في كل شيء فيما لهم وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق.
لذلك الحق- تبارك وتعالى- يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم، وبأساليب مختلفة، منها قوله سبحانه :﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.. ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ].
لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف، وإن كانت العبادة : طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه، فما أسهل عبادة الأصنام، لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج، وليس معها تكاليف، فبأي شيء أمرك الصنم ؟ وعن أي شيء نهاك ؟ وماذا أعد من جزاء لمن أطاعه ؟ وماذا أعد من عقاب لمن عصاه ؟ إذن : معبود بلا منهج وبلا تكاليف، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم.
ألم يقولوا :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( ٣ ) ﴾ [ الزمر ] : فهذا حمق وسفه وجهل، لأن الكلام منطقيا لا يستقيم، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج، وليس لهم تكاليف، والعبادة طاعة عابد لمعبود ؟.
إذن : ما هو إلا خواء وإفلاس عقدي، لذلك يرد الحق- تبارك وتعالى- عليهم فيقول سبحانه :﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ].
وفي موضع آخر يقول- سبحانه وتعالى- عنهم :﴿ قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] : وهذه أبلغ من سابقتها، لأنهم يصعدون كفرهم ويصرون عليه، فقولهم :﴿ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ] : فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق، ويخالفون الآباء.
لكن هنا ﴿ حسبنا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] : يعني : كافينا، ولن نغيره ولن نحيد عنه، لذلك يأتي تذييل كل آية بما يناسبها، ففي الأولى قال تعالى ردا عليهم :﴿ أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ( ١٧٠ ) ﴾ [ البقرة ]، وفي الأخرى قال ردا عليهم :﴿ أو لو كان أباؤهم لا يعلمون شيئا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ].
فذكر العقل في الأولى، لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه، وذكر في الأخرى العلم، لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله، وعقل العلم أيضا، فالعلم- إذن- أوسع من العقل، لذلك ذكره مع قولهم ﴿ حسبنا.. ( ١٠٤ ) ﴾ [ المائدة ] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر.
كما نلاحظ عليهم في قولهم :﴿ ما سمعنا بهذا.. ( ٢٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أن الغفلة قد استحكمت فيهم، لأن نوحا عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام، فبينهما فترة طويلة، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي، يقول : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ؟.
﴿ إن هو.. ( ٢٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : ما هو و﴿ جنة ﴾ : يعني : جنون، وهو ستر العقل الذي يسيطر على حركة الإنسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها ( افعل كذا ) و( لا تفعل كذا )، أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أن يعرض الأعمال على العقل أو التفكير، لذلك من عدالة الله في خلقه أننا لا نؤاخذ المجنون على تصرفاته حين يعتدي على أحد منا بالسب أو الضرب مثلا، ولا نملك إلا أن نبتسم له، وندعو الله أن يعافينا مما ابتلاه به.
فإن كان هذا حال المجنون في حركة حياته، فهل يكون ذو الخلق الذي يسير وفق قوانين الحياة ومحكوما بنظم وقيم خلقية، هل يكون مجنونا ؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على لسان المكذبين للرسل في كل زمان ومكان، وقد اتهم بها رسول الله ( ص )، فرد الله عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله :﴿ ن والقلم وما يسطرون ( ١ ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾ [ القلم ].
فكيف يكون ذو الخلق مجنونا ؟ ولو كان ( ص ) مجنونا، فلماذا استأمنوه على ودائعهم ونفائسهم، واطمأنوا إليه، وسموه الصادق الأمين ؟ إنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم يعلمون خلقه، وأنه محكوم بقيم من الحق والخير لا تتزحزح.
وما دام الأمر لا يعدو أن يكون رجلا به جنة ﴿ فتربصوا به حتى حين ( ٢٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : انتظروا واتركوه وشأنه، فربما عاد إلى صوابه، وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا منصرفين عنه غير مهتمين به، أو دعوه فإن كان على حق ونصره الله وأظهر أمره عندها نتبعه، وإن كانت الأخرى فها نحن معرضون عنه من بداية الأمر.
بعد أن كذبه قومه دعا الله أن ينصره ﴿ بما كذبون ( ٢٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : انصرني بسبب تكذيبهم، واجعل تكذيبهم لا مدلول له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم، أو : يا رب عوضني بتكذيبهم نصرا، يعني : أبدلني من كذبهم نصرا، كما تقول : اشتريت كذا بكذا، فأخذت هذا بدل هذا.
﴿ فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور١ فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( ٢٧ ) ﴾ :
استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح- عليه السلام- في النصرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفلك هي السفينة، وتطلق على المفرد والجمع، قال تعالى :﴿ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ( ١١٩ ) ﴾ [ الشعراء ]، وقال :﴿ وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( ١٢ ) ﴾ [ فاطر ] : فدلت مرة على المفرد، ومرة على الجمع.
وقوله تعالى :﴿ بأعيننا ووحينا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : دليل على أن نوحا- عليه السلام- لم يكن نجارا كما يقول البعض، فلو كان نجارا لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه :﴿ ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) ﴾ [ طه ]. فالمعنى : اصنع الفلك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأصحح لك إن أخطأت في وضع شيء في غير موضعه، إذن : أمرت وأعنت وتابعت. والوحي : هو خطاب الله لرسوله بخفاء.
ثم يقول تعالى :﴿ فإذا جاء أمرنا وفار التنور ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة، والتي جاءت في قوله تعالى :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( ٣٨ ) ﴾ [ هود ] : ذلك لأنهم لا يعلمون شيئا عن سبب صناعتها.
وفي موضع آخر يعلمنا- سبحانه وتعالى- عن كيفية صنعها فيقول :﴿ وحملناه على ذات ألواح ودسر ( ١٣ ) ﴾ [ القمر ] : وقلنا : إن الدسر : الحبال التي تضم بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة، وتضم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشربت منه يزيد حجمها فتسد المسام بين الألواح، كما نراهم مثلا يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب.
وقد صنع أحدهم سفينة من البردي بهذه الطريقة، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلا من المسامير.
ثم يقول سبحانه :﴿ فإذا جاء أمرنا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بإنجاء المؤمنين بك، وإهلاك المكذبين ﴿ وفار التنور ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والتنور : هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز، ويقال : إنه كان موروثا لنوح من أيام آدم، يفور بالماء يعني : يخرج منه الماء، وهو في الأصل محل للنار، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي. لكن هل كل الماء سيخرج من التنور ؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها.
إذا حدث هذا ﴿ فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : احمل وأدخل فيها زوجين ذكرا وأنثى من كل نوع من المخلوقات، كما في قوله تعالى :﴿ ما سلككم في سقر ( ٤٢ ) ﴾ [ المدثر ] : يعني : أدخلكم، وقال سبحانه :﴿ اسلك يدك في جيبك.. ( ٣٢ ) ﴾ [ القصص ] : يعني : أدخلها، وقال سبحانه :﴿ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ( ١٢ ) ﴾ [ الحجر ].
ومن مادة ( سلك ) أخذنا في أعرافنا اللغوية. نقول : سلك الماسورة أو العين يعني : أدخل فيها ما يزيل سدتها.
والتنوين في ﴿ من كل زوجين اثنين.. ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : من كل شيء٢ نريد حفظ نوعه واستمراره، لأن الطوفان سيغرق كل شيء، والحق- تبارك وتعالى- يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مقومات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلد أو يبيض.
ومعنى ﴿ زوجين ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ليس كما يظن البعض أن زوج يعني : اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى :﴿ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.. ( ١٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ] :
فسمى كل فرد من هذه الثمانية زوجا، لأن معه مثله.
هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقل زوجين، إنما قال ﴿ وأهلك ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أيا كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية ؟.
الأهلية هنا يراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام :﴿ فقال رب إن ابني من أهلي.. ( ٤٥ ) ﴾ [ هود ].
فقال له ربه :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ( ٤٦ ) ﴾ [ هود ].
فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإن جاءت من صلبه فأهلا وسهلا، وإن جاءت من الغير فأهلا وسهلا. لذلك النبي ( ص ) يقول عن سلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " ٣ فقد تعدى أن يكون مسلما إلى أن صار واحدا من آل البيت.
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم :﴿ إلا من سبق عليه القول منهم ( ٢٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وكان له امرأتان، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان، والتي ذكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم :﴿ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما.. ( ١٠ ) ﴾ التحريم ].
وكنعان٤ هو الذي قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا، لأن أحداث هذه القصة جاءت مفرقة في عدة مواضع، بحيث لو جمعت تعطي الصورة العامة للقصة، فإن قلت : فلماذا لم تأت مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام ؟
نقول : جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق- سبحانه وتعالى- نموذجا للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك، فإن أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك، وها هي قصة يوسف، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي ( ص ) كما قال تعالى :﴿ كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( ٣٢ ) ﴾ [ الفرقان ]، لأنه ( ص ) سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يسليه ويثبته أمام هذه الأحداث.
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني متفرقة في عدة مواضع لتسلية رسول الله، والتخفيف عنه كلما تعرض لموقف من هذه المواقف، وبجمع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية.
وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده : سام وحام ويافث وزوجاتهم، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام.
ولما كان الحكم بغرق من كفر من أهله أمرا لا استئناف فيه، قال تعالى بعدها :﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون( ٣٧ ) ﴾ [ هود ] : لكن ظلموا من ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله، والحق سبحانه يقول :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾ [ لقمان ].
صحيح أنت حين كفرت أخذت حق الله في أنه واحد أحد موجود، وإله لا معبود غيره، وأعطيته لغيره، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضر بك وظلمت به نفسك، ومنتهى الحمق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه.
٢ - قال الحسن البصري: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منها، وإنما خرج من الطين. قاله القرطبي في تفسيره [٦/٤٦٥٣]..
٣ - أخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٥٩٨) من حديث عمرو بن عوف المزني. قال الذهبي والعجلوني في كشف الخفاء (١/٥٥٨): سنده ضعيف..
٤ - قال ابن كثير في تفسيره (٢/٤٤٦) " قوله ﴿ونادى نوح ابنه.. (٤٢)﴾ [هود] هذا هو الابن الرابع واسمه يام"..
﴿ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ( ٢٨ ) ﴾ :
﴿ استويت ( ٢٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : استعليت وركبت أنت ومن معك على الفلك واطمأن قلبك إلى نجاة المؤمنين معك ﴿ فقل الحمد لله ( ٢٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلا بد للمؤمن أن يستقبل نعم الله عليه بالحمد، وبألا تنسيه النعمة جلال المنعم، فساعة أن يستتب لك الأمر على الفلك وتطمئن بادر بحمد الله.
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ( ١٢ ) ﴾ [ يونس ].
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعطينا حصانة، ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه، حتى إذا ما تعرضنا لنكران الجميل ممن أحسنا إليه لا نغضب، لأن الناس ينكرون الجميل حتى مع الله عز وجل.
لذلك لما قال موسى- عليه السلام- يا رب أسألك ألا يقال في ما ليس في. يعني : لا يتهمني الناس ظلما، فرد عليه ربه عز وجل : " يا موسى، كيف ولم أصنع ذلك لنفسي ".
إذن : فهذه مسألة لا يطمع فيها أحد، ولو أن كل فاعل للجميل يضن به على الناس لأنهم ينكرونه لفسد الحال، وتوقفت المصالح بين الخلق، وضن أهل الخير بخيرهم، لذلك وضع لنا ربنا- عز وجل- الأسوة بنفسه سبحانه.
والإنسان إن كان حسيسا لا يقف عند إنكار الجميل، إنما يتعدى ذلك فيكره من أحسن إليه ويحقد عليه، ذلك لأن الإنسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة، فإذا ما رأى من أحسن إليه كرهه، لأنه يدك فيه كبرياء نفسه، ويحد من تعاليه.
ومن هنا قالوا : " اتق شر من أحسنت إليه " لماذا ؟ لأنه يخزي ساعة يراك، وهو يريد أن يتعالى، ووجودك يكسر عنده هذا التعالي.
إذن : وطن نفسك على أن الجميل قد ينكر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه، فلا يحزنك أن ينكر جميلك أنت.
وعن ذلك قال الشاعر١ :
يسير ذوو الحاجات خلفك خضعا**** فإن أدركوها خلفوك وهرولوا
وأفضلهم من إذا ذكرت بسئ**** توقف لا ينفي وقد يتقول
فلا تدع المعروف مهما تنكروا**** فإن ثواب الله أربى وأجزل
فالمعنى : إذا استويت أنت ومن معك، واستتب لك الأمر على الفلك، فإياك أن تغتر أو تنأى بجانبك فتنسى حمد الله على هذه النعمة، لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول : " بسم الله مجريها ومرساها " لأنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك، إنما باسم الله الذي ألهم، وباسم الله الذي أعان، وباسم الله الذي تابعني، ورعاني بعينه، وما دمت تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب الفضل بفضله يحفظها لك.
أما أن تنكرها على صاحبها، وتنسبها لنفسك، كالذي قال :﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ( ٧٨ ) ﴾ [ القصص ]. فيقول : ما دام الأمر كذلك، فحافظ أنت عليه.
حتى في ركوب الدابة يعلمنا ( ص ) أن نقول : " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ٢.
وقوله تعالى :﴿ الذي نجانا من القوم الظالمين ( ٢٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وذكر النجاة لأن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة.
٢ - أخرج مسلم في صحيحه (١٣٤٢) كتاب الحج من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ص) كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا، ثم قال: "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون" وكذا أخرجه أحمد في مسنده (٢/١٤٤، ١٥٠)..
﴿ وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ( ٢٩ ) ﴾ :
وفي موضع آخر قال سبحانه :﴿ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك.. ( ٤٨ ) ﴾ [ هود ] : لأنك ستنزل منها وليست هي مكان معيشتك.
وكذلك دعا النبي ( ص ) فقال كما حكى القرآن :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق.. ( ٨٠ ) ﴾ [ الإسراء ].
فلا بد أن تذكر في النعمة المنعم بها، لذلك فالذين يصابون في نعم الله عليهم بأعين الحاسدين، ثق تمام الثقة أنهم حين رأوا نعمة الله عليهم لم يذكروا المنعم بها، ولو أن الإنسان حين يرى نعمة من نعم الله عليه في ماله أو ولده فيقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ووضع النعمة في حماية المنعم لضمن دوام نعمته وسلامتها من أعين الحاسدين، لأنه وضعها تحت قانون الصيانة الإلهية.
ومعنى :﴿ منزلا مباركا.. ( ٢٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الشيء المبارك : الذي يعطي فوق ما يتصور من حجمه، كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويربي أولاده أفضل تربية، فيتساءل الناس : من أين له ذلك ؟ ونقول : إنها البركة التي تحل في القليل فيصير كثيرا، صحيح أن الوارد قليل لكن يكثره قلة المنصرف منه.
وقد مثلنا لذلك بواحد يرتزق من الحلال، فييسر الله أمره، ويقضي مصالحه بأيسر تكلفة، فإذا مرض ولده مثلا يشفيه الله بقرص أسبرين وكوب من الشاي، ولا يفزع لمرضه، لأنه مطمئن القلب، راضي النفس، واثق في معونة الله. أما الذي يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة.. الخ إن مرض ولده يهرع به إلى الأطباء ويتوقع في ولده أخطر الأمراض، فإن ارتشى بعشرة صرف عليها مائة.
وسبق أن قلنا : إن هذه البركة هي رزق السلب الذي لا يزيد من دخلك، إنما يقلل من مصروفاتك.
وكلمة ﴿ وأنت خير المنزلين ( ٢٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أم أنه سبحانه المنزل الوحيد ؟ الله خير المنزلين يعني : أباح أن يقال للعبد أيضا منزل حين ينزل شخصا في مكان مريح، كأن يسكنه مثلا في شقة مريحة، أو يستقبله ضيفا عليه.. الخ. وإن كنت منزلا بهذا المعنى، فالله عز وجل هو خير المنزلين، لأنه سبحانه حين ينزلك ينزل على قدره تعالى، وعلى قدر كرمه وعطائه.
إذن : الحق- تبارك وتعالى- لم يضن عليه خلقه أن يصفهم بما وصف به نفسه، فلم يضن عليك أن يصفك بالخلق فقال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأثبت لك صفة الخلق، لأنك توجد معدوما مع أنك توجده من موجود لله، كأن تصنع من الرمل والنار كوبا من الزجاج مثلا، لكن ما توجده يظل جامدا على حالته لا ينمو ولا يتناسل، وليست فيه حياة، ومع ذلك سماك ربك خالقا، وكذلك قال :﴿ خير الوارثين ( ٨٩ ) ﴾ [ الأنبياء ]. وقال :﴿ خير الماكرين ( ٥٤ ) ﴾ [ آل عمران ].
وكما أن الله عز وجل لم يضن عليك بهذه الصفات، فلا تضن عليه سبحانه بأنه خير المنزلين، وخير الوارثين، وخير الماكرين، وأحسن الخالقين.
﴿ إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ( ٣٠ ) ﴾ :
﴿ وفي ذلك.. ( ٣٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : فيما تقدم ﴿ لآيات.. ( ٣٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : عبر وعظات وعجائب، لو فكر فيها المرء بعقل محايد لانتهى إلى الخير ﴿ وإن كنا لمبتلين ( ٣٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلا تظن أن الابتلاء مقصور على الظلمة والكافرين الذين أخذهم الله وأهلكهم، فقد يقع الابتلاء بمن لا يستحق الابتلاء، وحين يبتلي الله أهل الخير والصلاح فما ذلك إلا ليزداد أجرهم وترفع مكانتهم ويمحص إيمانهم.
ومن ذلك الابتلاءات التي وقعت بالمسلمين الأوائل، فإنها لم تكن كراهية لهم أو انتقاما منهم، إنما كانت تصفية لمعدنهم وإظهارا لإيمانهم الراسخ الذي لا يتزعزع، لأنهم سيحملون دعوة الله إلى أن تقوم الساعة، فلا بد من تمحيصهم وتصفيتهم.
كما قال سبحانه :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( ٢ ) ﴾ [ العنكبوت ]. لا، لا بد من الابتلاء الذي يميز الصادقين ممن يعبد الله على حرف، لا بد أن يتساقط هؤلاء من موكب الدعوة، ولا يبقى إلا المؤمنون الراسخون على إيمانهم الذين لا تزعزعهم الأحداث.
إذن : المعنى ﴿ وإن كنا لمبتلين ( ٣٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : أهل الإيمان الذين لا يستحقون العذاب، لأننا نحب أن نرفع درجاتهم ونمحص إيمانهم ليكونوا أهلا لدعوة الله، لذلك يقول الحق- تبارك وتعالى- في الحديث القدسي :
" وعزتي وجلالي، لا أخرج عبدي من الدنيا وقد أردت به الخير حتى أوفيه ما عمله من السيئات، من مرض في جسمه وخسارة في ماله، وفقد في ولده، فإذا بقيت عليه سيئة ثقلت عليه سكرات الموت حتى يأتيني كيوم ولدته أمه.. وعزتي وجلالي، لا أخرج عبدي من الدنيا وقد أردت به الشر حتى أوفيه ما عمله من الحسنات، صحة في جسمه، وبركة في ماله وولده، فإذا بقيت له حسنة خففت عليه سكرات الموت حتى يأتيني وليست له حسنة ".
إذن : فالابتلاء كما يكون انتقاما من الكفرة والظلمة يكون كذلك تربيبا للنفع، وتمحيصا للإيمان، وإرادة للثواب.
﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( ٣١ ) ﴾ :
أي : من بعد قوم نوح عليه السلام، وقلنا : إن القرن : الزمن الذي يجمع أناسا متقاربين في مسائل الحياة، وانتهى العلماء إلى أن القرن مائة عام، أو إلى ملك مهما طال، أو رسالة مهما طالت، كلها تسمى قرنا١.
﴿ فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( ٣٢ ) ﴾ :
جاء بعد قوم نوح عليه السلام قوم عاد، وقد أرسل الله إليهم سيدنا هودا عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا.. ( ٦٥ ) ﴾ [ الأعراف ] : وقد دعاهم بنفس دعوة نوح :﴿ أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. ( ٣٢ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وقال لهم أيضا :﴿ أفلا تتقون ( ٣٢ ) ﴾ [ المؤمنون ].
إذن : هو منهج موحد عند جميع الرسالات، كما قال سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ].
فدين الله واحد، نزل به جميع الرسل والأنبياء، فإن قلت : فما بال قوله تعالى :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا.. ( ٤٨ ) ﴾ [ المائدة ].
نقول : نعم، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أما المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محل التغيير بين الرسل، لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة، والحق- تبارك وتعالى- يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها.
والشرعة : هي القانون الذي يحكم حركة حياتك، أما الدين فهو الأمر الثابت والموحد من قبل الله- عز وجل- والذي لا يملك أحد أن يغير فيه حرفا واحدا.
لذلك، كانت آفة الأمم أن يجعلوا أنفسهم فرقا مختلفة وأحزابا متباينة، وهؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
وتأمل :﴿ فرقوا دينهم.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ]، ولم يقل : فرقوا شريعتهم ولا منهجهم، ذلك لأن الدين واحد عند الله، أما المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حسب ما في الأمة من داءات، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان، وهؤلاء كانوا يطففون الكيل والميزان، وهؤلاء كانوا يجحدون نعم الله.. الخ.
وسبق أن أوضحنا أن اختلاف الداءات في هذه الأمم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم، فلا يدري هذا بهذا، وهم في زمن واحد، أما في رسالة الإسلام- هذه الرسالة العامة الخاتمة- فقد جاءت على موعد من التقاء الأمم وتواصل الحضارات، فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه من في أقصى الجنوب، لذلك توحدت الداءات، فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان ولجميع المكان، وإلى قيام الساعة.
وآفة المسلمين في التعصب الأعمى الذي ينزل الأمور الاجتهادية التي ترك الله لعباده فيها حرية واختيارا منزلة الأصول والعقائد التي لا اجتهاد فيها، فيتسرعون في الحكم على الناس واتهامهم بالكفر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية.
نقول : من رحمة الله بنا أن جعل الأصول واحدة لا خلاف عليها، أما الفروع والأمور الاجتهادية التي تتأتى بالفهم من المجتهد فقد تركها الله لأصحاب الفهم، وينبغي أن يحترم كل منا فيها رأي الآخر، بدليل قول الله تعالى :﴿ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.. ( ٨٣ ) ﴾ [ النساء ].
وإلا لو أراد الحق سبحانه لما جعل لنا اجتهادا في شيء، ولجاءت كل مسائل الدين قهرية، لا رأي فيها لأحد ولا اجتهاد، أما الحق- سبحانه وتعالى- فقد شاءت حكمته أن يجمعنا جمعا قهريا على الأمور التي إن لم نجمع عليها تفسد، أما الأمور التي تصلح على أي وجه فتركها لاجتهاد خلقه.
فعلينا- إذن- أن نحترم رأي الآخرين، وألا نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره الله لنا من حرية الفكر والاجتهاد.
وأسوتنا في هذه المسألة سيرة رسول الله ( ص )، وسلف هذه الأمة في غزوة الأحزاب، فلما هبت الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفروا من الميدان انصرف رسول الله ( ص ) إلى المدينة، لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني قريظة لتأديبهم، وأخبره- سبحانه وتعالى- أن الملائكة ما زالت على حال استعدادها، ولم يضعوا عنهم أداة الحرب، فجمع رسول الله الصحابة وقال لهم :{ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " ١.
وفعلا، سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب، فمنهم من خاف أن يدركه المغرب قبل أن يصلي العصر، فصلى في الطريق ومنهم من التزم بأمر رسول الله ( ص ) بألا يصلي إلا في بني قريظة، حتى وإن أدركه المغرب، حدث هذا الخلاف إذن بين صحابة رسول الله وفي وجوده، لكنه خلاف فرعي، لما رفعوه إلى رسول الله وافق هؤلاء، ووافق هؤلاء، ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد.
إذن : في المسائل الاجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الآخرين، لذلك- فالعلماء- رضي الله عنهم- وأصحاب الفكر المتزن يقولون : رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. فليت المسلمين يتخلصون من هذه الآفة التي فرقتهم، وأضعفت شوكتهم بين الأمم. ليتهم يذكرون دائما قول الله تعالى :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
ولما تكلم الحق- تبارك وتعالى- عن مسألة الوضوء، قال سبحانه :
﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين.. ( ٦ ) ﴾ [ المائدة ].
نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال ﴿ فاغسلوا وجوهكم.. ( ٦ ) ﴾ [ المائدة ] : دون أن يحدد للوجه حدودا، لماذا ؟ لأن الوجه لا خلاف عليه بين الناس، لكن في الأيدي قال :﴿ وأيديكم إلى المرافق.. ( ٦ ) ﴾ [ المائدة ] : فحدد اليد إلى المرفق، لأنها محل خلاف، فمن الناس من يقول : الأيدي إلى الكتف. ومنهم من يقول : إلى المرفق. ومنهم من يقول : هي كف اليد.
لذلك حددها ربنا- عز وجل- ليخرجنا من دائرة الخلاف في غسل هذا العضو، ولو تركها- سبحانه وتعالى- دون هذا التحديد لكان الأمر فيها مباحا، يغسل كل واحد يده كما يرى، كذلك في الرأس قال سبحانه :﴿ وامسحوا برءوسكم.. ( ٦ ) ﴾ [ المائدة ] : وتركها لاحتمالات الباء التي يراها البعض للإلصاق، أو للتعدية، أو للتبعيض.
إذن : حين ترى مخالفا لك في مثل هذه الأمور لا تتهمه، لأن النص أجاز له هذا الاختلاف، وأعطاه كما أعطاك حق الاجتهاد.
﴿ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ( ٣٣ ) ﴾ :
تكلمنا عن معنى ﴿ الملأ.. ( ٣٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهم عين الأعيان وأصحاب السلطة والنفوذ في القوم، والذين يضايقهم المنهج الإيماني، ويقضي على مكانتهم، ويقف في وجه طغيانهم وسيطرتهم واستضعافهم للخلق.
﴿ وقال الملأ من قومه الذين كفروا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تماما كما حدث مع سابقيهم من قوم نوح ﴿ وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : مادة : ترف مثل فرح، نقول : ترف الرجل يترف إذا تنعم، فإذا زدت عليها الهمزة ( أترف ) نقول : أترفته النعمة، أترفه الله، يعني : كانت النعمة سبب طغيان، ووسع الله عليه في النعمة ليتسع في الطغيان.
وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ] : يعني من منهج الحق ﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون١ ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ].
ذلك، ليكون الأخذ أقوى وأعنف وأبلغ في الإيلام والحسرة، وسبق أن ذكرنا تشبيها أضحك الحاضرين كثيرا، ولله تعالى- المثل الأعلى- قلنا : إن الله تعالى إذا أراد أن يوقع معاندا لا يوقعه من فوق الحصيرة، إنما يوقعه من فوق كرسي عال ومكانة رفيعة، ليكون ( الهدر ) أقوى وأشد.
فإن أخذ الإنسان العادي الذي لا يملك ما يتحسر عليه من مال أو جاه أو منصب، فالأمر هين، أما حين يرقيه ويعلي منزلته ويترفه في النعيم، ثم يأخذه على هذه الحال فلا شك أنه أخذ عزيز مقتدر، وهذا أشد وأنكى.
إذن : أترفناهم يعني : وسعنا عليهم وأمددناهم بالنعم المختلفة ليزدادوا في كفرهم وطغيانهم، على حد قوله تعالى :﴿ فذرهم في غمرتهم٢ حتى حين ( ٥٤ ) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ].
إن الله تعالى يمد لهؤلاء في وسائل الغي والانحراف ليزدادوا منها، ويتعمقوا في آثامها لنتعمق نحن في عذابهم والانتقام منهم.
ثم يحكي القرآن عنهم هذه المقولة التي سارت على ألسنتهم جميعا في كل الرسالات :﴿ ما هذا إلا بشر مثلكم.. ( ٣٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وكأن هذه الكلمة أصبحت لازمة من لوازم المكذبين للرسل المعاندين لمنهج الله، ثم يؤكدون على بشرية الرسول فيقولون :﴿ يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ( ٣٣ ) ﴾ [ المؤمنون ]، ألم يقل كفار مكة لرسول الله ( ص ) :﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. ( ٧ ) ﴾ [ الفرقان ].
سبحان الله، كأنهم يتكلمون بلسان واحد مع اختلاف الأمم وتباعد الأزمان، لكن كما يقولون : الكفر ملة واحدة.
٢ - أي: في غيهم وضلالهم. قاله ابن كثير في تفسيره (٣/٢٤٧) قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٦٦٤): "الغمرة في اللغة ما يغمرك ويعلوك، وأصله الستر. والغمر: الماء الكثير لأنه يغطي الأرض. والمراد هنا: الحيرة والغفلة والضلالة"..
خاسرون إن أطعتم بشرا مثلكم، لكنه بشر ليس مثلكم، إنه بشر يوحى إليه، فأنا لا أتبع فيه بشريته، إنما أتبع ما ينزل عليه من الوحي.
إنهم ينكرون البعث بعد الموت الذي يعدهم به نبيهم، لكن ما الإشكال في مسألة البعث ؟ أليست الإعادة أهون من البدء ؟ وإذا كان الخالق- عز وجل- قد خلقكم من لا شيء فلأن يعيدكم من الرفات أهون، وإن كانت كلمة أهون لا تليق في حق الله تعالى، لأنه سبحانه لا يفعل أموره عن علاج ومزاولة، إنما عن كلمة " كن " لكن الحديث في هذه المسألة يأتي بما تعارفت عليه العقول، وبما يقرب القضية إلى الأذهان.
﴿ هيهات.. ( ٣٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : اسم فعل بمعنى بعد، يعني بعد هذا الأمر، وهو أن نرجع بعد الموت، وبعد أن صرنا عظاما ورفاتا.
والكلمة في اللغة إما اسم أو فعل أو حرف : الاسم ما دل على معنى مستقل بالفهم غير مرتبط بزمن، فحين تقول : سماء نفهم أنها كل ما علاك فأظلك. والفعل كلمة تدل أيضا على معنى مستقل بالفهم لكنه مرتبط بزمن، فحين نقول : أكل نفهم المقصود منها، وهي متعلقة بالزمن الماضي، أما الحرف فكلمة تدل على معنى غير مستقل بذاته، فالحرف ( على ) يدل على معنى الاستعلاء، لكن استعلاء أي شيء ؟.
فالمعنى- إذن- لا يستقل بذاته، إنما يحتاج إلى ما يوضحه، كذلك ( في ) تدل على الظرفية، لكن لا تحدد بذاتها هذه الظرفية، كذلك من للابتداء وإلى للغاية، ولكل من الاسم والفعل والحرف علامات خاصة يعرف بها.
وغير هذه الثلاثة قسم رابع جاء مخالفا لهذه القاعدة، لذلك يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل ( هيهات ) أي بعد، فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علامات الفعل، ومثله شتان بمعنى تفرق، أف بمعنى أتضجر.. الخ.
﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ( ٣٧ ) ﴾ :
لقد استبعد هؤلاء أمر البعث، لأنهم لا يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا، فالأمر عندهم محصور فيها ﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : إن : حرف نفي يعني : ما هي، كما جاء في قوله تعالى :﴿ ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. ( ٢ ) ﴾ [ المجادلة ] : يعني : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.
وقوله :﴿ نموت ونحيا.. ( ٣٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث، لأنهم قالوا :( نموت ونحيا ) فكيف ينكرونه ؟.
والمراد : نموت نحن، ويحيا من خلف بعدنا من أولادنا، بدليل قولهم بعدها :﴿ وما نحن بمبعوثين ( ٣٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
يعني : الرجل الذي أخبركم بمسألة البعث ﴿ افترى على الله كذبا.. ( ٣٨ ) ﴾ [ المؤمنون ]. وعجيب منهم هذا القول، فهم يعرفون الله ويعترفون ﴿ افترى على الله.. ( ٣٨ ) ﴾ [ المؤمنون ]. فكيف يكون إلها دون أن يبلغكم رسالة على لسان رسوله ؟ وإلا، فكيف ستعرفون منهج الله ؟ قالوا : بالعقل، لكن العقل في هذه المسألة لا يصح.
وسبق أن مثلنا لذلك- ولله المثل الأعلى : هب أننا نجلس في حجرة مغلقة ودق جرس الباب، لا شك أننا سنتفق جميعا على أن طارقا بالباب، وهذا يسمى " تعقل "، لكنا سنختلف في التصور : أهو رجل ؟ أم امرأة ؟ أم طفل، أهو بشير أم نذير ؟.... الخ.
إذن : نتفق حين نقف عند التعقل، لكن كيف نعرف من بالباب ؟ نجعله هو يخبر عن نفسه حين نقول : من الطارق ؟ يقول : أنا فلان، وجئت لكذا وكذا. فمن الذي يبلغ عن التعقل ؟ صاحبه.
وكذلك عقلك يؤمن بأن الكون له خالق واجد تدل عليه آيات الكون، فأنت لو نظرت إلى لمبة الكهرباء هذه التي تنير غرفة واحدة، وتأملت لوجدت وراءها مصانع وعددا وآلات وعمالا ومهندسين ومخترعين، ومع ذلك لها قدرة محدودة، ولها عمر افتراضي وربما كسرت لأي سبب وطفئت.
أفلا تنظر كذلك إلى الشمس وتتأمل ما فيها من آيات وعجائب، وكيف أنها تنير نصف الكرة الأرضية في وقت واحد دون أن تتعطل ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، ومع ذلك لم يدعها أحد لنفسه، أفلا يدل ذلك على أن وراء هذا الخلق العظيم خالقا أعظم ؟
إذا كنا نؤرخ لمكتشف الكهرباء ومخترع المصباح الكهربائي، ونذكر ماذا صنع ؟ وكيف توصل إلى ما توصل إليه، أليس يجدر بنا أن نبحث في خالق هذا الكون العجيب ؟
إنك لو حاولت أن تنظر إلى قرص الشمس أثناء النهار، فإن نظرك يكل ولا تستطيع، وإذا اشتدت حرارتها لا يطيقها أحد، مع أن بينك وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، كل ثانية فيها ثلاثمائة ألف كيلومتر، فأي طاقة هذه التي تنبعث من الشمس ؟.
ومن عجائبها أيضا أنك تشعر بحرارتها على الأرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مثلا أو منطقة عالية تقل درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس، على خلاف ما لو أوقدت نارا مثلا فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها، أما الشمس فكلما اقتربت منها قلت درجة الحرارة، فمن يقدر على هذه الظاهرة ؟
فإذا جاء من يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له : إذن هي لك، إلى أن يأتي منازع يدعيها لنفسه، ولم يأت منازع يدعيها إلى الآن.
وقولهم :﴿ افترى.. ( ٣٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : مبالغة منهم في حق رسولهم، لأن الافتراء : تعمد الكذب، والكذب كما قلنا : أن يأتي الكلام مخالفا للواقع، وقد يأتي الكلام مخالفا للواقع لكن حسب علم صاحبه، فهو في ذاته صادق.
سبحان الله، كأن تاريخ الرسالات يعيد نفسه مع المكذبين، وكأنه ( أكلشيه ) ثابت على ألسنة الرسل : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فيتهمونه ويكذبونه ويقولون : ما أنت إلا بشر مثلنا، فتأتي النهاية واحدة : رب انصرني بما كذبون، يعني : أبدلني بتكذيبهم نصرا.
هذه قولة هود- عليه السلام- حين كذبه قومه، وقولة نوح، وقولة كل نبي كذبه قومه، لأن الرسول حين يكذب من المرسل إليهم لا يفزع إلا إلى من أرسله، لأن من أرسله وعده بالنصرة والتأييد :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ [ الصافات ].
وقال :﴿ ولينصرن الله من ينصره.. ( ٤٠ ) ﴾ [ الحج ].
وقال سبحانه :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) ﴾ [ الصافات ].
فالمعنى : انصرني لأنك أرسلتني، وقد كذبني القوم بعد أن استنفذت في دعوتهم كل أسبابي، ولم يعد لي بهم طاقة، ولم يعد لي إلا معونتك، والإنسان حين يستنفذ كل الأسباب التي منحه الله إياها دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطرا داخلا في قوله سبحانه :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه.. ( ٦٢ ) ﴾ [ النمل ].
إذن : لا تلجأ إلى الله إلا بعد أن تؤدي ما عليك أولا، وتفرغ كل ما في طاقتك في سبيل غايتك، لكن لا تقعد عن الأسباب وتقول : يا رب فالأرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة، فاعمل واستنفذ أسبابك أولا حتى تكون في جانب المضطر الذي يجيب الله دعاءه.
لذلك نسمع كثيرا من يقول : دعوت الله ولم يستجب لي، ونقول له : أنت لم تدع بدعاء المضطر، أنت تدعو بدعاء من في يده الأسباب ولكنه تكاسل عنها، لذلك لا يستجاب لك.
وهذه نراها حتى مع البشر، ولله تعالى المثل الأعلى : هب أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك بضاعة من الجمرك مثلا، وجلست تراقب العمال وهم يدخلونها المخازن، فليس من مهامك الحمل والتخزين فهذه مهمة العمال، لكن هب أنك وجدت عاملا ثقل عليه حمله وكاد الصندوق أن يوقعه على الأرض، ماذا يكون موقفك ؟ لا شك أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده، لأنه فعل كل ما في وسعه، واستفرغ كل أسبابه وقواه، فلم تضن أنت عليه بالعون.
كذلك ربك- عز وجل- يريد منك أن تؤدي ما عليك ولا تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسبابا، لأن الأسباب يد الله الممدودة لخلقه، فلا ترد يد الله بالأسباب لتطلب الذات بلا أسباب.
لذلك جاء قول الرسل الذين كذبوا :﴿ رب انصرني.. ( ٣٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ليس وأنا قاعد متخاذل متهاون، ولكن ﴿ بما كذبون ( ٣٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : فعلت كل ما في وسعي، ولم يعد لي بهم طاقة.
﴿ قال عما قليل ليصبحن نادمين ( ٤٠ ) ﴾ :
﴿ عما قليل.. ( ٤٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بعد قليل، ف( عن ) هنا بمعنى بعد، كما جاء في قوله تعالى :﴿ لتركبن طبقا عن طبق ( ١٩ ) ﴾ [ الانشقاق ] يعني : بعد طبق.
أما ﴿ ما.. ( ٤٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هنا فقد دلت على الظرف الزمني، لأن المراد بعد قليل من الزمن.
﴿ ليصبحن نادمين ( ٤٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : حين يقع بهم ما كانوا به يكذبون، ويحل عليهم العذاب يندمون، لأنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم، فليس أمامهم إذن إلا الندم، وهذه المسألة دلت على أن الفطرة الإنسانية حين لا تختلط عليها الأهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق، وإن أخرجها الغضب إلى الباطل، فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب.
والحق- تبارك وتعالى- يعطينا أدلة وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلام فيقول :﴿ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين ( ٢٧ ) ﴾ [ المائدة ].
إلى أن قال سبحانه :﴿ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله.. ( ٣٠ ) ﴾ [ المائدة ] : فجاء القتل أثرا من آثار الغضب، والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه، وينبغي له أن يسر لأنه حقق ما يريد، لكن ﴿ فأصبح من النادمين ( ٣١ ) ﴾ [ المائدة ].
أي : بعد أن هدأت ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل، لماذا ؟ لأن هذه طبيعة النفس البشرية التي لا يطغيها ولا يخرجها عن توازنها إلا الهوى، فإن خرج الهوى عادت إلى الاستقامة وإلى الحق، وكأن الله تعالى خلق في الإنسان مقاييس يجب ألا تفسدها الأهواء ولا يخرجها الغضب عن حد الاعتدال، لذلك يقولون : آفة الرأي الهوى.
لقد استيقظ قابيل، لكن بعد أن رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرعه، لكن الذكي يستيقظ قبل رد الفعل.
لكن، لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات :﴿ ليصبحن نادمين ( ٤٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المتتبع لما حاق بالأمم المكذبة من العذاب والانتقام يجد أنه غالبا ما يكون في الصباح، كما قال تعالى :﴿ أفبعذابنا يستعجلون ( ١٧٦ ) فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ( ١٧٧ ) ﴾ [ الصافات ].
وقال سبحانه :﴿ ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ( ٣٨ ) ﴾ [ القمر ].
وقال سبحانه :﴿ فتنادوا مصبحين ( ٢١ ) ﴾ [ القلم ].
ذلك، لأن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي، فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب، ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة، على خلاف إن جاءهم العذاب أثناء النهار وهم مستعدون.
وندمهم على أنهم كذبوا أمرا ما كان ينبغي أن يكذب وقد جر عليهم الويلات، والندم على خير فات من طبيعة النفس البشرية التي عادة ما تغلبها الشهوة ويغريها الحمق برد الحق، ويمنعها الكبر من الانصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم، ويريد في ظنهم أن يستعلي عليهم، لكن حين يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون، ولات ساعة مندم.
إذن : فشهوة النفس تجعل الإنسان يقف موقفا، إذا ما جوزي عليه بالشدة يندم أنه لم ينفذ ولم يطع، يندم على غطرسته في موقف كان ينبغي عليه أن يتنازل عن كبريائه، لذلك يقولون : من الشجاعة أن تجبن ساعة.
ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو لا تقدر على مجابهته، ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا الموقف حين قال : لا أستطيع أن أحارب أمريكا، فالبعض فهم هذا القول على أنه ضعف وجبن، وهو ليس كذلك، إنما هو شجاعة من الرجل، شجاعة من نوع راق، لأن من الشجاعة أيضا أن تشجع على نفسك، وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك، وتصور لو دخل السادات مثل هذه الحرب فهزم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة لا تحسب العواقب. وقد رأينا عاقبة الجرأة على دخول حرب غير متكافئة.
﴿ فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ( ٤١ ) ﴾ :
ما دام أن الحق- تبارك وتعالى- توعدهم وحدد لهم موعدا، فلا بد أن يقع بهم هذا الوعيد في الوقت ذاته، وإلا لو مر دون أن يصيبهم ما يندمون لأجله لانهدم المبدأ من أساسه، ما دام أن الله تعالى قالها وسجلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو.
﴿ عما قليل ليصبحن نادمين ( ٤٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلا بد أن ينزل بهم العذاب في الصباح.
لذلك ﴿ فأخذتهم الصيحة بالحق.. ( ٤١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لا بالظلم والعدوان، وفي موضع آخر قال سبحانه عنهم :﴿ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( ٦ ) ﴾ [ الحاقة ] : والمعنيان يلتقيان، لأن الريح الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ.
﴿ فجعلناهم غثاء.. ( ٤١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الغثاء : ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات، فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب، والغثاء هو الزبد الذي قال الحق سبحانه وتعالى عنه :﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. ( ١٧ ) ﴾ [ الرعد ].
وفي الحديث الشريف قال ( ص ) لأصحابه : " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها- يعني : يدعو بعضهم بعضا لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها- فقالوا : أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل " ١ يعني : شيئا هينا لا قيمة له يذهب سريعا.
وقوله تعالى :﴿ فبعدا للقوم الظالمين ( ٤١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : بعدا لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كنا نمنيهم به ونعدهم به لو آمنوا، وليس البعد عن العذاب، لأن البعد مسافة زمنية أو مكانية، نقول : هذا بعيد، أي : زمنه أو مكانه، المراد هنا البعد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إن آمنوا.
والظلم : كما قلنا أخذ حق الغير، والشرك هو الظلم الأعظم، لأنه ظلم في مسألة القمة، والبعض من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم، لأنك ظلمت الله سبحانه وتعالى، لأنك أنكرت وجوده وهو موجود، وأشركت معه غيره وهو واحد لا شريك له، نعم أنت ظلمت، لكن ما ظلمت الله، لأنه سبحانه لا يظلمه أحد، وإن كان الظلم- كما نقول- أخذ حق الغير، فحق الله محفوظ وثابت له سبحانه قبل أن يوجد من يعترف له بهذا الحق، حق الله ثابت مهما علا الباطل وتبجح أهل الضلال.
لذلك يقول عز وجل :﴿ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى.. ( ٤٠ ) ﴾ [ التوبة ] : وفي المقابل :﴿ وكلمة الله هي العليا.. ( ٤٠ ) ﴾ [ التوبة ] : ولم يقل قياسا على الأولى : وكلمة الله العليا، لأن معنى ذلك أن كلمة الله لم تكن عليا في يوم ما، لذلك جاءت وكلمة الله مرفوعة على صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبوت ﴿ وكلمة الله هي العليا.. ( ٤٠ ) ﴾ [ التوبة ] : أي : دائما ومهما علت كلمة الكافرين. لماذا ؟.
قالوا : لأن علو كلمة الكافرين في ذاته علو لكلمة الله، فإذا علا الكفر واستشرى شره وفساده يعض الناس ويوقظ غفلتهم وينبههم إلى خسة الكفر ودناءته وما جره عليهم من ظلم وفساد فينكروه ويعودوا إلى جادة الطريق، وإلى الحق الثابت لله عز وجل.
إذن : فكلمة الله هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا، وكما يقولون : والضد يظهر حسنه الضد. والله عز وجل لا يسلم الحق، ولكن يتركه ليبلو غيرة الناس عليه، فإن لم يغاروا عليه غار هو عليه.
وما داموا ما ظلموا الله، ولا يستطيعون ذلك، فما ظلموا إلا أنفسهم، وإن عقل ظلمك لغيرك وأخذك لحقه فلا يعقل ظلمك لنفسك، لأنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها.
قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( ٣١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فجاءت قرنا بصيغة المفرد، لأن الحديث مقصور على عاد قوم هود، أما هنا فقال تعالى :﴿ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا.. ( ٤٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن الكلام سيأتي عن أمم ورسالات مختلفة ومتعددة، فجاءت ( قرونا ) بصيغة الجمع، قرونا متتابعة أو متعاصرة، كما تعاصر إبراهيم ولوط، وكما تعاصر موسى وشعيب عليهم جميعا وعلى نبينا الصلاة والسلام.
﴿ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( ٤٣ ) ﴾ :
تأملوا هذه الآية جيدا وارعوها انتباهكم، فلكل أمة أجل تنتهي عنده تماما، مثل أجل الأفراد الذي لا يتقدم ولا يتأخر، فقرن بعد قرن، وأمة بعد أمة، تمر بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها.
فلكل أمة رسول يحمل دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أن ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسك الناس بها، ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون، فيكون ذلك إيذانا بزوالها ثم يخلفها غيرها ؟.
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحل محلها حضارات أخرى أقوى، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية.. الخ حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرقي والرفاهية، وتورث أصحابها رخاوة وطراوة، وتبدلهم بالجلد والقوة لينا وضعفا، فيغفلوا عن أسباب رقيهم وتقدمهم، فتنهدم حضارتهم ويحل محلها أقوى منها وأصلب.
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد ( ١٠ ) ﴾ [ الفجر ].
وإلى الآن، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها، لأن الله تعالى قال في حقها :﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) ﴾ [ الفجر ].
ومع ذلك لا نرى لهم أثرا يدل على عظم حضارتهم، ولم يكن لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها، أو تحتفظ لها بشيء، فانهارت وبادت ولم يبق منها حتى أثر.
كذلك أتباع الرسل يمرون بمثل هذه الدورة، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولا جديدا.
﴿ ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( ٤٣ ) ﴾ [ المؤمنون ].
المعنى في الجملة الأولى واضح، فأي أمة لا يمكن أن تسبق أجلها الذي حدده الله لها، ولا يمكن أن تنتهي أو تقوض قبل أن يحل هذا الأجل.
لكن ما المراد بقوله سبحانه :﴿ وما يستأخرون ( ٤٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كيف يتأتى ذلك ؟ فهمنا : لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة، فلا يمكن أن تقوض قبل خمس عشرة، أما كونها تستأخر بعد أن بلغت العشرين إلى عشرة، فكيف يتم ذلك ؟.
نقول : لا تستأخر يعني : من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر، لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل، كما لو قلنا : شخص بلغ سن العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة. فالمعنى : الأصل فيه أنه لا يستأخر.
﴿ ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( ٤٤ ) ﴾ :
﴿ تترا.. ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : متوالين يتبع بعضهم بعضا، لذلك ظنها البعض فعلا وهي ليست بفعل، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى١ ( تترا ) بالتنوين والفعل لا ينون، إذن : هي اسم، والألف فيها للتأنيث مثل حبلى.
أضف إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلا من الواو، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي ( ص ) : " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك- أو وجاهك " ٢ يعني : مواجهك.
فإذا أبدلت التاء الأولى في ( تترا ) واوا تقول ( وترا ) يعني : متتابعين فردا فردا، والوتر هو الفرد.
ثم يقول سبحانه :﴿ كل ما جاء أمة رسولها كذبوه.. ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أرسل إلى قوم إلا كذبوه، ثم يلجأ إلى ربه :﴿ قال رب انصرني بما كذبون ( ٣٩ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ولو لم يكذب الرسل ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل، وعم الطغيان، فطبيعي أن يكذب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم، وكان تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجئ الرسل، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
وقوله تعالى :﴿ فأتبعنا بعضهم بعضا.. ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل، أو نهلك المكذبين ثم يأتي بعدهم آخرون، فيكذبون فنهلكهم أيضا.
﴿ وجعلناهم أحاديث.. ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أحاديث : إما جمعا لحديث كما نقول : أحاديث رسول الله ( ص ) أو جمع : أحدوثة. وهي المقولة التي يتشدق بها الجميع، وتلوكها كل الألسنة، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثر كلام الناس حوله :( جعلوني حدوتة ) يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم.
فقوله :﴿ وجعلناهم أحاديث.. ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كأنه لم يبق منهم أثر إلا أن نتكلم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يحكى، وفي موضع آخر قال تعالى :﴿ فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق.. ( ١٩ ) ﴾ [ سبأ ].
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم :﴿ فبعدا لقوم لا يؤمنون ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بعدا لهم عن رحمة الله، وبعدا لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم، ولو أنهم آمنوا لنالوه.
٢ - أخرجه أحمد في مسنده (١/٢٩٣، ٣٠٣، ٣٠٧)، والترمذي في سننه (٢٥١٦)، وقال: "حديث حسن صحيح" من حديث عبد الله بن عباس..
﴿ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ( ٤٥ ) ﴾ :
تكررت قصة موسى- عليه السلام- كثيرا ومعه أخوه هارون، كما قال :﴿ اشدد به أزري ( ٣١ ) وأشركه في أمري ( ٣٢ ) ﴾ [ طه ] : والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة، لكنه جاء برسالتين : رسالة خاصة إلى فرعون ملخصها :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم.. ( ٤٧ ) ﴾ [ طه ].
وجاء له بمعجزات تثبت صدق رسالته من الله، ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة الإيمان جزءا من هذه الرسالة، إنما جاء هكذا عرضا في المناقشة التي دارت بينهما.
والرسالة الأخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة.
وقوله :﴿ بآياتنا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : قلنا : إن الآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الفائق على نظرائه وأقرانه، والذي يكرم ويفتخر به. والآيات إما كونية دالة على قدرة الله في الخلق كالشمس والقمر.. الخ كما قال سبحانه :﴿ ومن آياته الليل والنهار.. ( ٣٧ ) ﴾ [ فصلت ].
ومهمة هذه الآيات الكونية أن تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة الإيمان به، فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقا وقوة تمده وتديره، فمن يمد هذه الشمس بهذه القوة الهائلة ؟ إن التيار الكهربائي إذا انقطع تطفأ هذه اللمبة، فمن خلق الشمس من عدم، وأمدها بالطاقة من عدم ؟.
إذن : وراء هذا الكون قوة ما هي ؟ وماذا تطلب منا ؟ وهذه مهمة الرسول أن يبلغنا، ويجيب لنا عن هذه الأسئلة.
وتطلق الآية أيضا على المعجزة التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن الله.
وتطلق الآية على آيات القرآن الحاملة للأحكام والحاوية لمنهج الله إلى خلقه.
ثم يقول تعالى :﴿ وسلطان مبين ( ٤٥ ) ﴾ [ المؤمنون ]، فعطف ﴿ سلطان مبين ( ٤٥ ) ﴾ [ المؤمنون ]، على ﴿ بآياتنا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص، لأن الآيات هي السلطان، فالسلطان : الحجة. والحجة على الوجود الأعلى آيات الكون، والحجة على صدق الرسول المعجزات، والحجة على الأحكام الآيات الحاملة لها.
وسمى معجزة موسى عليه السلام ( العصا ) سلطانا مبينا أي : محيطا، لأنها معجزة متكررة رأينا لها عدة حالات : فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حية تلقف الحيات، ومرة يضرب بها البحر فينفلق، ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء، وفوق ذلك قال عنها :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ( ١٨ ) ﴾ [ طه ] :
ومن معاني السلطان : القهر على عمل شيء أو الإقناع بالحجة لعمل هذا الشيء، لذلك كانت حجة إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لأتباعه :﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي.. ( ٢٢ ) ﴾ [ إبراهيم ] : يعني : كنتم رهن الإشارة، إنما أنا لا سلطان لي عليكم، لا سلطان قهر، ولا سلطان حجة.
لذلك قال في النهاية :﴿ ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. ( ٢٢ ) ﴾ [ إبراهيم ] : والإنسان يصرخ إذا فزعه أمر لا حيلة له به، فيصرخ استنفارا لمعين يعينه، فمن أسرع إليه وأعانه يقال : أصرخه. يعني : أزال سبب صراخه.
﴿ فرعون.. ( ٤٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لقب لكل من كان يحكم مصر، مثل كسرى في الفرس، وقيصر في الروم، وتكلمنا عن معنى ( الملأ ) وهي من الامتلاء، والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابة ومنزلة، وهم أشراف القوم وصدور المجالس، ومنه قولهم : فلان قيد النواظر يعني : من ينظر إليه لا ينصرف عنه إلى غيره.
وقوله تعالى :﴿ فاستكبروا وكانوا قوما عالين ( ٤٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والاستكبار غير التعالي، فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به، لكن يأبى أن يطيعه، ويأنف أن يصنع ما أمر به، أما العالي فهو الذي يظن أنه لم يدخل في الأمر من البداية.
ومن هنا جاء قوله تعالى لإبليس لما أبى السجود لآدم :﴿ أستكبرت أم كنت من العالين ( ٧٥ ) ﴾ [ ص ].
والعالون هم الملائكة المهيمون في الله، والذين لا يدرون شيئا عن آدم وذريته.
اعترضوا أيضا هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من الأمم السابقة، إنهم يريدون الرسول ملكا، كما جاء في موضع آخر :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( ٩٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
ومن الغباء أن يطلبوا ملكا رسولا، فلو جاءهم الرسول ملكا، فكيف سيكون أسوة للبشر ؟ وكيف سيرونه ويتلقون عنه ؟ إذن : لا بد أن يأتيهم في صورة بشر، لذلك يقول تعالى :﴿ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ( ٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
وستظل الشبهة قائمة، فما الذي يجعلك تصدق أنه ملك ؟
وقوله تعالى :﴿ وقومهما لنا عابدون ( ٤٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : كيف نؤمن لموسى وهارون وقومهما- أي : بني إسرائيل- خدم لنا، يأتمرون بأمرنا، بل ونذلهم ونذبح أولادهم، ونستحيي نساءهم، ونسومهم سوء العذاب ؟.
وسمى ذلك عبادة، لأن من يخضع لإنسان، ويطيع أمره كأنه عبده.
أي : بالغرق، وهذه قصة مشهورة معروفة، وجعلها الله مثلة وعبرة.
﴿ الكتاب.. ( ٤٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : التوراة، وفيه منهج الهداية ﴿ لعلهم يهتدون ( ٤٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : يأخذون الطريق الموصل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق.
﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة١ ذات قرار ومعين ( ٥٠ ) ﴾ :
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول : ابن مريم ومرة يقول : عيسى ابن مريم. وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلت سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تبشر بغلام تستنكر ذلك، وتقول : كيف ولم يمسسني بشر ؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أن تتزوج وتنجب، لماذا ؟ لأن الله سماه ابن مريم، وما دام سماه بأمه، إذن : فلن يكون له أب.
وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملا ولم يمسسها رجل، لأن عرض الفتاة أغلى وأعز ما تملك، لذلك مهد الحق- تبارك وتعالى- لهذه المسألة، وأعد مريم لاستقبالها، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض.
فلما دخل زكريا- عليه السلام- على مريم فوجد عندها رزقا لم يأت به، وهو كفيلها والمسئول عنها، سألها :﴿ أنى لك هذا قالت هو من عند الله.. ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران ] : وكان هذا الرد من مريم عن فهم تام لقضية الرزق، ولم يكن كلام دراويش، بدليل أنها قالت بعدها :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ٣٧ ) ﴾ [ آل عمران ].
وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل ولي أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأت هو به، حتى لا يدع لأولاده فرصة أن تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم.
لقد انتفع زكريا- عليه السلام- بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور، فلما سمعها من مريم خرجت إلى بؤرة شعوره، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر.
وكذلك انتفعت بها مريم حين أحست بالحمل دون أن يمسسها بشر فاطمأنت، لأن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه.. ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد ﴿ آية.. ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنهما مشتركان فيها : مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج، وعيسى آية لأنه ولد من غير أب، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر، وهما فيها سواء.
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيقدم عيسى في آية :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية.. ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ]. ويقدم مريم في آية أخرى :﴿ وجعلناها وابنها آية للعالمين ( ٩١ ) ﴾ [ الأنبياء ] : هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخبرية لا يتميز أحدهما عن الآخر.
والآية هي الأمر العجيب الذي يثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخلق، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخلق مسألة ( ميكانيكية ) من أب وأم، لذلك كان وجه العجب في خلق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلا على قدرته تعالى، فإن أراد أن يخلق خلق من العدم، أو من أب فقط، أو من أم فقط، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم، لكن لا يوجد الإنجاب، إذن : المسألة إرادة لله عز وجل، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدود لها.
يقول سبحانه :﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( ٤٩ ) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الشورى ].
والآن نلاحظ أن البعض يحاول منع الإنجاب بشتى الوسائل، لكن إن قدر له مولود جاء رغم أنف الجميع، ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها.
ثم يقول سبحانه :﴿ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : من الطبيعي بعد أن حملت مريم بهذه الطريقة أن تضطهد من قومها وتطارد، بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى أن يراها أحد، ألا ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب :﴿ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء.. ( ٢٥ ) ﴾ [ القصص ] : على استحياء، لأنها ذهبت لاستدعاء فتى غريب عنها، فما بالك بمريم حين يراها القوم حاملا وليس لها زوج ؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة.
لذلك لما سئل الإمام محمد عبده وهو في باريس : بأي وجه قابلت عائشة قومها بعد حادثة الإفك ؟ فألهمه الله الجواب وهداه إلى الصواب، فقال : بالوجه الذي قابلت به مريم قومها وقد جاءت تحمل ولدها، ذلك لأنهم أرادوا أن يأخذوها سبة ومطعنا في جبين الإسلام.
ولما كانت مريم بهذه الصفة تولاها الله ودافع عنها، فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين يرى مسألة حملها، وهو أغير الناس عليها بدل أن يتشكك فيها ويتهمها يتحول قلبه عليها بالعطف، كما قال تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه.. ( ٢٤ ) ﴾ [ الأنفال ].
فإذا به يخدمها ويحنو عليها، لأن الله أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا، وكل ما قاله في مجادلة مريم وفي الاستفسار عما حدث بطريقة مهذبة : يا مريم أرأيت شجرة بدون بذرة ؟ فضحكت مريم وقد فهمت ما يريد وقالت : نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة٢ إنه كلام أهل الإيمان والفهم عن الله.
لذلك آواها الله وولدها ﴿ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وساعة تسمع كلمة الإيواء تفهم أن شخصا اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه، وكذلك كانت مريم مضطرة تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها. ولا بد في مكان الإيواء هذا أن تتوفر فيه مقومات الحياة، خاصة لمثل مريم التي تستعد لاستقبال وليدها، ومقومات الحياة : هواء وماء وطعام.
فانظر كيف أعد الحق- سبحانه وتعالى- لمريم مكان الإيواء :﴿ وآويناهما إلى ربوة.. ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهي المكان العالي عن الأرض المنخفض عن الجبل، فهو معتدل الجو، لأنه بين الحرارة في الأرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل.
﴿ ذات قرار.. ( ٥٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : توفرت لها أسباب الاستقرار من ماء وطعام، فالماء يأتيها من أعلى الجبال ويمر عليها ماء معينا، يعني : تراه بعينك، والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي نزلت بجوارها.
ومعلوم أن الربوة هي أنسب الأماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى، ولا يتبقى فيها مياه جوفية تضر بمزروعاتها، لأنها تتصرف في الأرض المنخفضة عنها.
لذلك ضرب لنا الحق- تبارك وتعالى- المثل للأرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر، فقال :﴿ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة.. ( ٢٦٥ ) ﴾ [ البقرة ].
إذن : اختار الله تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث لا تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره.
- بمصر. قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ليس الربى إلا بمصر. قال ابن كثير: وهو بعيد جدا.
- دمشق. قاله سعيد بن المسيب. وقال ابن عباس: أنهار دمشق.
- الرملة من فلسطين. قاله أبو هريرة.
- بيت المقدس. قاله الضحاك وقتادة.
قال ابن كثير: "هذا والله أعلم هو الأظهر، لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وهذا أولى ما يفسر به ثم الأحاديث الصحيحة ثم الآثار"..
٢ - أورده ابن كثير في تفسيره (٣/١١٦) وفيه أن مريم عليها السلام ردت عليه فقالت: "أما قولك هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر، وهل يكون ولد من غير أب فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم" فصدقها وسلم لها حالها..
﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) ﴾ :
لكن، كيف يخاطب الحق- تبارك وتعالى- الرسل جميعا في وقت واحد ؟ نقول : لأن القرآن الكريم هو كلام الله القديم، لم يأت خاصا بمحمد ( ص )، وإن نزل عليه فهو إذن خطاب لكل رسول جاء.
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالأكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح :﴿ واعلموا صالحا.. ( ٥١ ) ﴾ [ المؤمنون ]، ثم يقول سبحانه :﴿ إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كأن الحق سبحانه يقول : اسمعوا كلامي في ما آمركم به، فأنا عليم وخبير بكل ما يصلحكم، لأنني الخالق الذي أعلم كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير، ولا تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال الطيب.
وكما قلنا : إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها، وإلا تعطلت عن أداء مهمتها.
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أن تبدأ بالمطعم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال، فيحدث انسجاما بين هذه الذرات، وتعمل معا متعاونة غير متعاندة، وإن انسجمت ذراتك وتوافقت أعانتك على الصالح.
فإن دخل الحرام إلى طعامك وتلوثت به ذراتك تنافرت وتعاندت، كما لو وضعت للآلة وقودا غير ما جعل لها، فافهموا هذه القضية، لأنني أنا الخالق فآمنوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين يصنع لكم صناعة، ويضع لكم قانون صيانتها.
إذن : أمر الحق سبحانه أولا رسله بالأكل من الطيبات، لأن العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم متوافق من داخله، لذلك في سيرة النبي ( ص ) أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس، أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حار شيئا من اللبن يفطر عليه، وهو ( ص ) يعلم أنها فقيرة لا تملك شيئا فأرسل إليها : من أين لك هذا اللبن ؟ فأرسلت إليه : من شاة عندي، فبعث إليها : ومن أين لك الشاة ؟ قالت : اشتريتها بمال دبرته. فشرب رسول الله من اللبن١.
وإن كنا نحن لا نتحرى في مطعمنا كل هذا التحري، لكن هذا رسول الله الذي ينفذ منهج الله كما جاءه، وعلى أكمل وجه. وفي الحديث الشريف : " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) ﴾ [ المؤمنون ]. وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ البقرة ]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ؟ " ٢.
نعم، كيف يستجاب له وهو يدعو الله بجهاز إرسال فاسد مشوش دنسه وخالطه الحرام ؟
وفي حديث سيدنا سعد رضي الله عنه لما قال لرسول الله : يا رسول الله ادع الله لي أن أكون مستجاب الدعوة، فقال ( ص ) : " يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة " ٣.
ثم يذيل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى :﴿ إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : أعلم ما يصلحكم، وما يجلب لكم الخير.
٢ - أخرجه مسلم في صحيحه (١٠١٥)، وأحمد في مسنده (٢/٣٢٨)، والترمذي في سننه (٢٩٨٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ - عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند رسول الله (ص): ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا.. (١٦٨)﴾ [البقرة] فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال رسول الله (ص): يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد يقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه العمل أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به. أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠/٢٩١) وقال: "رواه الطبراني في الصغير وفيه من لم أعرفهم"..
﴿ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( ٥٢ ) ﴾ :
بعد أن تكلم الحق- سبحانه وتعالى- عن المعركة بين الإيمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن معركة أخرى لا تقل خطورة عن الأولى، وهي معركة الفرقة والاختلاف بين صفوف المؤمنين، ليحذرنا من الخلافات التي تشق عصانا، وتفت في عضد الأمة وتضعفها أمام أعدائها، ونسمعهم الآن يقولون عنا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب- ليتفقوا أولا فيما بينهم، ثم يبشروا بالإسلام.
الأمة : الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد، وتطلق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه خصال الخير التي لا تجتمع إلا في أمة، لذلك سمى الله تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى :﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ( ١٠٢ ) ﴾ [ النحل ].
أما قوله سبحانه :﴿ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا.. ( ٤٨ ) ﴾ [ المائدة ] : فكيف نقول : إنها أمة واحدة ؟.
قالوا : لأن الدين يتكون من أصول وعقائد، وهذه واحدة لا تختلف باختلاف الأديان، وأخلاق وفروع، وهذه تختلف من دين لآخر باختلاف البيئة، لأنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل عصر.
يقول تعالى :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.. ( ١٣ ) ﴾ [ الشورى ].
إذن : فالأمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفت في الشريعة والمنهج، والأحكام الجزئية التي تتعرض لأقضية الحياة، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.. ( ٥٠ ) ﴾ [ آل عمران ].
وكانوا في الأمم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه، فلما جاء الإسلام خفف عن الناس هذا العنت، وشرع لهم أن يغسلوه فيطهر.
وما دام أن أمتكم أمة واحدة ﴿ وأنا ربكم فاتقون ( ٥٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : اتقوا الله في هذه الأمة الواحدة وأبقوا على وحدتها، واحذروا ما يفرقها من خلافات حول فروع إن اختلف البعض عليها اتهموا الآخرين بالكفر، لأنهم يريدون أن ينهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لأنفسهم.
والحق- تبارك وتعالى- يقول :﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ الأنعام ].
فالأمور التي أحكمها الله باللفظ الصريح المحكم أصول لا خلاف عليها ولا اجتهاد فيها، وأما الأمور التي تركها سبحانه للاجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الآخرين، وإلا لو أراد الحق سبحانه لجعل الأمر كله محكما لا مجال فيه لرأي أو اجتهاد.
ومعنى ﴿ وأنا ربكم.. ( ٥٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أن من عطاء ربوبيتي أن جعلت لكم أمورا محكمة وعقائد ثابتة، لأن الاختلاف فيها يفسد المجتمع، وتركت لكم أمورا أخرى تأتون بها أو تتركونها، كل حسب اجتهاده، لأن الاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد في المجتمع، وسبق أن مثلنا لهذه الأمور.
وقوله :﴿ فاتقون ( ٥٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : بطاعة الأمر، فما أحكمته فأحكموه، وما جعلت لكم فيه اجتهادا فاقبلوا فيه اجتهاد الآخرين.
﴿ فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٥٣ ) ﴾ :
﴿ زبرا.. ( ٥٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] يعني : قطعا متفرقة، ومنه ﴿ آتوني زبر الحديد.. ( ٩٦ ) ﴾ [ الكهف ].
﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ( ٥٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به، وكأنها على الحق وغيرها على الباطل، يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس، ويصورون لهم أنهم أتوا بما لم يأت به أحد قبلهم، وتنبهوا إلى ما غفل عنه الآخرون.
﴿ بما لديهم.. ( ٥٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : بالرأي الذي يريدونه، لا بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه وتعالى.
من ذلك قولهم : إن الصلاة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة، وأن ذلك شرك في العبادة.. الخ ولو أن الأمر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة.
إن على هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه الخلافات أن يتفهموا الأمور على وجهها الصحيح، حتى لا نكون من الذين قال الله عنهم :
﴿ فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٥٣ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وما أفسد استقبال الأديان السابقة على الإسلام إلا مثل هذه الخلافات، وإلا فكل دين سبق الإسلام وخصوصا الموسوية والعيسوية قد بشرت بمحمد ( ص )، وكانوا وهم أهل كتاب ورسالة وعلى صلة بالسماء- يجادلون أهل الكفر من عبدة الأصنام يقولون : لقد أطل زمان نبي يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم١.
ومع ذلك :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.. ( ٨٩ ) ﴾ [ البقرة ] : لماذا ؟ لأنهم يريدون أن يحتفظوا بسلطتهم الزمنية.
كيف لا ينكرون رسول الله ( ص )، وقد كان أحدهم٢ يستعد لتنصيب نفسه ملكا على المدينة يوم أن دخلها رسول الله، فأفسد عليه ما أراد ؟.
٢ - هو عبد الله بن أبي سلول. رأس المنافقين في المدينة، أبو الحباب من خزاعة، وسلول جدته لأبيه، كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم وكان كلما حلت بالمسلمين نازلة شمت بهم، وكلما سمع بسيئة نشرها. توفي عام ٩ هجرية. [الأعلام للزركلي ٤/٦٥]..
﴿ فذرهم.. ( ٥٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] يعني : دعهم، والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين، فورد فيهما يدع ويذر. وقد ورد هذا الفعل أيضا في قوله تعالى :﴿ وذرني والمكذبين أولي النعمة.. ( ١١ ) ﴾ [ المزمل ].
وفي قوله تعالى :﴿ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث.. ( ٤٤ ) ﴾ [ القلم ].
والمعنى : ذرهم لي أنا أتولى عقابهم، وأفعل بهم ما أشاء، أو : ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا العقاب، وينزل بهم العذاب.
والغمرة : جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس، فلا يبقى له من أمل في الحياة إلا بمقدار ما في رئته من الهواء ؛ لذلك يحرص الإنسان على أن يمرن نفسه على أن تتسع رئته لأكبر قدر من الهواء.
ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة، وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الآخر : أيهما يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس.
ويقول تعالى :﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( ٢٦ ) ﴾ [ المطففين ] : وتستطيع أن تجري مع نفسك هذه المنافسة، بأن تأخذ نفسا عميقا ثم تعد : واحد، اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء.
فالمعنى : ذرهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت ؛ لأنهم كمن غمره الماء، وسرعان ما تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة ؛ لذلك قال تعالى بعدها :﴿ حتى حين ( ٥٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والحين مدة من الزمن قد تطول، كما في قوله تعالى :﴿ تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.. ( ٢٥ ) ﴾ [ إبراهيم ].
وقد تقصر كما في قوله تعالى :﴿ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( ١٧ ) ﴾ [ الروم ] : وكأن الله تعالى عبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول.
﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾ :
هذه قضية شغلت كثيرا من المؤمنين حين يرون الكافرين بالله مرفهين منعمين، في يدهم المال والنفوذ، في حين أن المؤمنين فقراء، وربما تشكك البعض واهتز إيمانه لهذه المتناقضات.
ونقول لهؤلاء : لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرت حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان، فلما تخلوا عن دينهم وقيمهم حل بهم ما هم فيه الآن.
لقد تقدم علينا الآخرون، لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضا بهذه الأسباب، لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يحرم منه لا مؤمن ولا كافر، فمن أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره.
قال سبحانه :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ [ الشورى ].
والأسباب يد الله الممدودة لخلقه، فمن رد يد الله إليه فلا بد أن يشقى في رحلة الحياة.
وقد يكون تنعم هؤلاء مجرد ترف يجرهم إلى الطغيان، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ].
لذلك فالحق- تبارك وتعالى- يعالج هنا هذه المسألة :
﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] أيظنون أن هذا خير لهم ؟ لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغيانا.
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا.. ( ٨٥ ) ﴾ [ التوبة ].
وقوله تعالى :﴿ بل لا يشعرون.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] :( بل ) : تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها، إضراب عن مسألة تنعم هؤلاء، لأنها نعمة موقوتة وزائلة، وهي في الحقيقة عليهم نقمة، لكنهم لا يشعرون، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يدبر لهم.
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يمده أولا، ويوسع عليه ويعلي مكانته، حتى إذا أخذه كان أخذه مؤلما وشديدا.
وقوله تعالى :﴿ نسارع لهم في الخيرات.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المسارعة ترد في كتاب الله على معان : مرة يتعدى الفعل بإلى، مثل :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.. ( ١٣٣ ) ﴾ [ آل عمران ] : ومرة يتعدى بفي، مثل :﴿ يسارعون في الخيرات.. ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فما الفرق بين المعنيين ؟.
سارع إلى كذا : إذا كنت خارجا عنه، وتريد أن تخطو إليه خطى عاجلة، لكن إن كنت في الخير أصلا وتريد أن ترتقي فيه تقول : سارع في الخيرات. فالأولى يخاطب بها من لم يدخل في حيز الخير، والأخرى لمن كان مظروفا في الخير، ويريد الارتقاء.
﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( ٥٦ ) ﴾ :
هذه قضية شغلت كثيرا من المؤمنين حين يرون الكافرين بالله مرفهين منعمين، في يدهم المال والنفوذ، في حين أن المؤمنين فقراء، وربما تشكك البعض واهتز إيمانه لهذه المتناقضات.
ونقول لهؤلاء : لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرت حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان، فلما تخلوا عن دينهم وقيمهم حل بهم ما هم فيه الآن.
لقد تقدم علينا الآخرون، لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضا بهذه الأسباب، لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يحرم منه لا مؤمن ولا كافر، فمن أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره.
قال سبحانه :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ( ٢٠ ) ﴾ [ الشورى ].
والأسباب يد الله الممدودة لخلقه، فمن رد يد الله إليه فلا بد أن يشقى في رحلة الحياة.
وقد يكون تنعم هؤلاء مجرد ترف يجرهم إلى الطغيان، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ].
لذلك فالحق- تبارك وتعالى- يعالج هنا هذه المسألة :
﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( ٥٥ ) نسارع لهم في الخيرات.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أيظنون أن هذا خير لهم ؟ لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغيانا.
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا.. ( ٨٥ ) ﴾ [ التوبة ].
وقوله تعالى :﴿ بل لا يشعرون.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] :( بل ) : تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها، إضراب عن مسألة تنعم هؤلاء، لأنها نعمة موقوتة وزائلة، وهي في الحقيقة عليهم نقمة، لكنهم لا يشعرون، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يدبر لهم.
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يمده أولا، ويوسع عليه ويعلي مكانته، حتى إذا أخذه كان أخذه مؤلما وشديدا.
وقوله تعالى :﴿ نسارع لهم في الخيرات.. ( ٥٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المسارعة ترد في كتاب الله على معان : مرة يتعدى الفعل بإلى، مثل :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم.. ( ١٣٣ ) ﴾ [ آل عمران ]، ومرة يتعدى بفي، مثل :﴿ يسارعون في الخيرات.. ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ]، فما الفرق بين المعنيين ؟.
سارع إلى كذا : إذا كنت خارجا عنه، وتريد أن تخطو إليه خطى عاجلة، لكن إن كنت في الخير أصلا وتريد أن ترتقي فيه تقول : سارع في الخيرات. فالأولى يخاطب بها من لم يدخل في حيز الخير، والأخرى لمن كان مظروفا في الخير، ويريد الارتقاء.
الخشية : هي أشد الخوف، والإنسان قد يخاف من شيء، لكن يبقى عنده أمل في النجاة، ويتوقع من الأسباب ما ينقذه ويؤمن خوفه، لكن حين تخاف من الله فهو خوف لا منفذ للأمل فيه، ولا تهب فيه هبة تشعرك بلطف.
ومعنى ﴿ مشفقون ( ٥٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الإشفاق أيضا الخوف، وهو خوف يمدح ولا يذم، لأنه خوف يحمل صاحبه ويحثه على تجنب أسباب الخشية بالعمل الصالح، إنه إشفاق من الذنب الذي يستوجب العقوبة، كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفا من الرسوب، وهكذا حال المؤمن يخاف هذا الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة، وهذا دليل الإيمان.
أما الإشفاق بعد فوات الأوان، والذي حكاه القرآن عن المجرمين :﴿ ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا.. ( ٤٩ ) ﴾ [ الكهف ] : فهذا إشفاق لا فائدة منه، لأنه جاء بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل، فقد قامت القيامة ونشرت الكتب ولا أمل في النجاة إذن.
﴿ والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( ٥٨ ) والذين هم بربهم لا يشركون ( ٥٩ ) ﴾ :
نلحظ في هذه الآيات أن الحق سبحانه حدثنا عن الإشفاق والخشية، ثم عن الإيمان بآيات الله، ثم في النهاية عن مسألة الشرك. وقد تسأل : لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك ؟.
نقول : لأن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن، والذي قال الله فيه :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( ١٠٦ ) ﴾ [ يوسف ] : فلا تظن أن الشرك فقط أن تجعل لله شريكا، أو أن تسجد لصنم، فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان صاحبه مؤمنا.
لذلك، فالنبي ( ص ) يعلمنا الأدب في هذه المسألة، فيقول في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " ١.
فالإنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية لله، ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين الشيطان، لذلك وصف النبي ( ص ) الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء٢.
كما أن الشرك الأكبر لا يتصور ممن هذه الصفات المتقدمة صفاته.
٢ - أخرج أحمد في مسنده (٤/٤٠٣) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم"..
نلحظ في هذه الآيات أن الحق سبحانه حدثنا عن الإشفاق والخشية، ثم عن الإيمان بآيات الله، ثم في النهاية عن مسألة الشرك. وقد تسأل : لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك ؟
نقول : لأن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن، والذي قال الله فيه :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( ١٠٦ ) ﴾ [ يوسف ] : فلا تظن أن الشرك فقط أن تجعل لله شريكا، أو أن تسجد لصنم، فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان صاحبه مؤمنا.
لذلك، فالنبي ( ص ) يعلمنا الأدب في هذه المسألة، فيقول في دعائه : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك " ١.
فالإنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية لله، ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين الشيطان، لذلك وصف النبي ( ص ) الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء٢.
كما أن الشرك الأكبر لا يتصور ممن هذه الصفات المتقدمة صفاته.
٢ - أخرج أحمد في مسنده (٤/٤٠٣) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي (ص) قال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم"..
﴿ والذين١ يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ( ٦٠ ) ﴾ :
﴿ يؤتون.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني المال، وقال بعدها :﴿ ما آتوا.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : حتى لا يجعل لها حدا، لا العشر ولا نصف العشر، يريد سبحانه أن يفسح لأريحية العطاء وسخاء النفس، لذلك جاءت ﴿ ما آتوا.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هكذا مبهمة حتى لا نظن أنها الزكاة، ونعرف أن الله تعالى يفتح المجال للإحسانية والتفضل، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله تعالى عنه :﴿ إن المتقين في جنات وعيون ( ١٥ ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( ١٦ ) ﴾ [ الذاريات ].
والمحسن : الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه الله، لكن من جنس ما فرض الله عليه، فإن كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه، لذلك تجد الدقة في الأداء القرآني، حيث يقول بعدها :﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( ١٧ ) وبالأسحار هم يستغفرون ( ١٨ ) ﴾ [ الذاريات ].
وهذه أمور فوق ما فرض الله عليهم، ولم يطلب منك أن تقوم الليل لا تنام، لكن صل العشاء ونم حتى الفجر، وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾ [ الذاريات ] : ولم يقل ( معلوم ) لأن الآية لا تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة، إنما عن الصدقة والتطوع فوق ما فرض الله.
والإبهام في ﴿ ما.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : جاء أيضا في قول الله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ( ٧٨ ) ﴾ [ طه ] : ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم، وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ، ولتذهب الظنون في هولها كل مذهب.
لكن، ما داموا قد أعطوا ومدوا أيديهم للآخرين بالعطاء، فلماذا يقول تعالى :﴿ وقلوبهم وجلة.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ].
نقول : لأن العبرة ليست بمجرد العمل، إنما العبرة بقبول العمل، والعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصا لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة، فهم إذن يعملون ويتحرون الإخلاص وأسباب القبول ويتصدق أحدهم بالصدقة، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ومع ذلك يخاف عدم القبول، وهذه أيضا من علامات الإيمان.
وكأن ربك عز وجل يغار عليك أن تعمل عملا لا تأخذ عليه أجرا، لأنك إن رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء، فهذا إذن جهد مهدر لا فائدة منه، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك.
وفي الحديث القدسي : " الإخلاص سر من أسراري أودعته قلب من أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده " ٢.
والوجل : انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية، والخوف شيء يخيفك أنت، أما الخشية فهي أعلى من الخوف، وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه.
ومن أهل التفسير من يرى أن الآية ﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : جاءت في الرجل الذي يسرق، والذي يزني، والذي يشرب الخمر، لكن قلبه وجل من لقاء الله وخشيته، فما يزال فيه بقية من بقايا الإيمان والحياء من الله تعالى. وقالوا : إن عائشة رضي الله عنها فهمت هذا من الآية٣.
لكن هذا الفهم لا يستقيم مع قوله تعالى ﴿ يؤتون.. ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : يؤتون غيرهم، فهناك إذن مؤت ومؤتى له، ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال : يأتون.
فالمراد : يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى كالزكاة والكفارات والنذور والحدود، أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والأمانات والعدالة في الحكم بينهم.. الخ فيؤدي المؤمن ما عليه من هذه الحقوق، وقلبه وجل ألا يصاحب الإخلاص عمله فلا يقبل.
ثم يقول تعالى :﴿ أنهم إلى ربهم راجعون ( ٦٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فالمؤمن يؤدي ما عليه، ومع ذلك تراه خائفا وجلا، لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه، وهو ربه الذي يجازيه على قدر إخلاصه، ويخاف أيضا أن يفتضح أمره إن خالط عمله شيء من الرياء، لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكا في العمل، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر.
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين، لكن في طيها شيء من الرياء، وإن لم يدر الإنسان به، ومن ذلك قولهم : أفعل هذا لله ثم لك، أو : توكلت على الله وعليك.. الخ، فهذه العبارات وأمثالها تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن ننزه الله عنها، فلا نعطف على الله تعالى أحدا حتى لا نشركه مع الله، ولو عن غير قصد.
لذلك يقول تعالى :﴿ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( ١٠٦ ) ﴾ [ يوسف ] : ويوم القيامة يطمئن أهل الإخلاص إلى الجزاء، ويفاجأ أهل الشرك والرياء بوجود الله تعالى، ولم يكن على بالهم حين عملوا :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه.. ( ٣٩ ) ﴾ [ النور ].
إذن : ما دمنا سنفاجأ بوجود الحق، ولا شيء غير الحق، فليكن عملنا للحق، ولا شيء لغير الحق.
٢ - ذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" (٤/٣٧٦) قال العراقي في تخريجه: "رويناه في جزء من مسلسلات القزويني مسلسلا يقول كل واحد من رواته: سألت فلانا عن الإخلاص فقال وهو من رواية أحمد بن عطاء الهجيمي عن عبد الواحد بن زيد عن حذيفة عن النبي (ص) عن جبريل عن الله تعالى، وأحمد بن عطاء وعبد الواحد كلاهما متروك وهما من الزهاد ورواه أبو القاسم القشيري في الرسالة من حديث علي بن أبي طالب بسند ضعيف"..
٣ - سبق ذكر حديث عائشة وفهمها للآية صفحة ١٠٠٦٥..
﴿ أولئك.. ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : أصحاب الصفات المتقدمة ﴿ يسارعون في الخيرات.. ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] وفرق بين أسرع وسارع : أسرع يسرع يعني : بذاته، إنما سارع يسارع أي : يرى غيره يسرع، فيحاول أن يتفوق عليه، ففيه مبالغة وحافز على المنافسة.
وسبق أن أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في، فمعنى ﴿ يسارعون في الخيرات.. ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أنهم كانوا في حيز الخيرات ومظروفين فيه، لكن يحاولون الارتقاء والازدياد من الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى.
وقوله تعالى :﴿ وهم لها سابقون ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هل المسارعة هي علة أنهم سبقوا إلى الخيرات، أم أن سبقهم إلى الخيرات علة المسارعة ؟.
في اللغة يقولون : سبب ومسبب، وشرط وجزاء، وعلة ومعلول. فحين تقول : إن تذاكر تنجح، فالمذاكرة سبب في النجاح، لكن هل سبقت المذاكرة النجاح ؟ لا، بل وجد النجاح أولا في بالك، واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس، وبذلك وجد عندك دافع وخاطر، ثم أردت أن تحققه واقعا، فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف.
إذن : فكل شرط وجواب : الجواب سبب في الشرط، والشرط سبب في الجواب، الجواب سبب في الشرط دافعا له، والشرط سبب في الجواب واقعا وتنفيذا، فالنجاح وجد دافعا على المذاكرة، والمذاكرة جاءت واقعا ليتحقق النجاح.
وكذلك في ﴿ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فالمعنى : القصد أن يسبق فسارع، سارع في الواقع ليسبق بالفعل، لكن السبق قبل المسارعة، لأن الذهن متهيئ له أولا وحقائقه واضحة.
إذن : الشرط والجزاء، والسبب والمسبب، والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب، وواقع هو الشرط.
ومعنى :﴿ وهم لها سابقون ( ٦١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه، كما لو طلبت منك شيئا فتقول لي : هذا شيء صعب فأقول لك : وأنت لها.
﴿ ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ( ٦٢ ) ﴾ :
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيّن أنها على قدر الوسع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلفك إلا بعد علمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أن تنظر إلى الحكم فتقول : أنا أسعه أو لا أسعه، لكن انظر إلى التكليف : ما دام ربك قد كلفك فاعلم أنه في وسعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يخفف عنك التكليف دون أن تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج.. إلخ.
والآن نسمع من يقول : لم تعد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغير، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول : ما دام التكليف باقيا فالوسع باق، والحق- سبحانه وتعالى- أعلم بوسع خلقه وطاقاتهم.
إذن : أنا أنظر أولا إلى التكليف، ثم أحكم على الوسع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوسع.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ( ٦٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المراد هنا كتاب أعمالنا١ الذي سجل فيه كل شيء قدمته الأيدي، لكن : ما الحكمة من تسجيل الأعمال ؟ وهل يكذب العباد ربهم عز وجل فيما سجل عليهم ؟.
قالوا : الحكمة من تسجيل الأعمال أن تكون حجة على صاحبها، وليعلم أن الله ما ظلمه شيئا، لذلك سيقول له ربه :﴿ اقرأ كتابك.. ( ١٤ ) ﴾ [ الإسراء ] : يعني : بنفسك حتى تقام عليك الحجة، ولا يكون عندك اعتراض.
ثم قال بعدها :﴿ وهم لا يظلمون ( ٦٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن الظلم لا يتصور من الحق- سبحانه وتعالى- فالظلم نتيجة الحاجة، وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة عما عندك، فالظلم إذن نتيجة الحاجة، والحق سبحانه هو المعطي، وهو الغني الذي لا حاجة له إلى أحد، فلماذا يظلم ؟
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره ليسد حاجته أو شهوته، ولو كان قويا لكفى نفسه بمجهوده.
﴿ بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ( ٦٣ ) ﴾ :
﴿ بل.. ( ٦٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات الحكم للكلام بعدها، والغمرة كما قلنا : هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء، وهو أول مقوم من مقومات الحياة.
فالإنسان يصبر على الطعام شهرا، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة، إنما لا يصبر على النفس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء، فإن كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء، وتستطيع أن تتحمل عدم التنفس لفترة أطول، أما إن كانت الرئة معتلة، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان.
ومن التنفس جاءت المنافسة، كما في قوله تعالى :﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( ٢٦ ) ﴾ [ المطففين ] : ثم استعملت لكل عمل تنافس فيه غيرك، لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة.
لذلك الخالق- عز وجل- حينما خلق هذه البنية الإنسانية جعل لها نظاما فريدا في وقودها وغذائها على خلاف صنعة البشر، فلو منعت البنزين مثلا عن السيارة توقفت، أما صنعة الخالق- عز وجل- فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب، وأخذك منهما فوق حاجتك، فإن غاب عنك الطعام تغذي جسمك من هذا المخزن الرباني.
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول : نفسي انصدت عن الأكل، والحقيقة أنه أكل فعلا، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه.
ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يختزن في صورة واحدة هي الشحم، الذي يتحول تلقائيا إلى أي عنصر آخر يحتاجه الجسم، فإذا انتهى الشحم تغذى الجسم على اللحم والعضلات، ثم على العظام، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان، لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام :﴿ قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( ٤ ) ﴾ [ مريم ].
أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدر ما تتسع له الرئة، فإذا نفذ منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه، ومن رحمة الله بعباده ألا يملّك الهواء لأحد، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء، أما الهواء الذي يحتاجه في كل نفس، فقد جعله الله ملكا للجميع، حتى لا يمنعه أحد عن أحد، لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب، ولو غضب عليك مالك الهواء لمت قبل أن يرضى عليك.
ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم، إنما تحتوي القلوب :﴿ بل قلوبهم في غمرة.. ( ٦٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهذه بلوى أعظم، لأن القلب محل لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل، ويميز بينها ويختار منها ويرجح، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هديها تسير في حركة الحياة.
لذلك إن كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشد والبلاء أعظم، لأنه مستودع العقائد والمبادئ التي تنير لك الطريق.
والقلب هو محل نظر الله إلى عباده، لذلك يقول سبحانه :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها.. ( ١٧٩ ) ﴾ [ الأعراف ].
وقال سبحانه :﴿ ختم الله على قلوبهم.. ( ٧ ) ﴾ [ البقرة ] : لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه، ولأنه سبحانه رب متول ربوبية الخلق، يعطيهم ما أرادوا حتى إن كان كفرا، لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر، لأنهم عشقوا الكفر وأحبوه.
لذلك نقول لأهل المصائب الذين يصابون في غال أو عزيز فيحزنون عليه، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها، وربما كان الابن عاقا لوالديه في حياتهما، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس، وهو كما قال الشاعر :
لا أعرفنك بعد الموت تندبني**** وفي حياتي ما بلغتني زادا
أو الأم التي فقدت وحيدها مثلا، فتعيش حزينة مكدّرة، وكأنها عشقت الحزن وأحبته، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم، فالحزن إن رأى بابه مواربا دخل وظل معك ولازمك.
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاء عن عبده حتى يرضى به، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم- عليه السلام- حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها، واعتبرها هو تكليفا، ورضي بقدر الله وسلم لأمره، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غرة، فيتغير قلبه عليه :
﴿ فلما أسلما وتله١ للجبين ( ١٠٣ ) وناديناه أن يا إبراهيم ( ١٠٤ ) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ( ١٠٥ ) إن هذا لهو البلاء المبين ( ١٠٦ ) وفديناه بذبح عظيم ( ١٠٧ ) ﴾ [ الصافات ].
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل، بل وزاده بأن بشره بولد آخر هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أجيال متعاقبة جاءت فضلا من الله وجزاء على الرضا بقضائه وقدره، وما أحسن ما قال الشاعر٢ في هذا الموقف :
سلم لربك حكمه فلحكمة**** يقضيه حتى تستريح وتغنما
واذكر خليل الله في ذبح ابنه**** إذ قال خالقه فلما أسلما
إذن : إذا كانت القلوب نفسها في غمرة، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك، وقد أخذ القلب هذه الأهمية، لأنه معمل الدم، ومصدر سائل الحياة، فإن فسد لا بد أن ينضح على باقي الجوارح، فتفسد هي الأخرى، ولو كان القلب صالحا فلا بد أن ينضح صلاحه على الجوارح كلها فتصلح، كما جاء في الحديث الشريف :
" ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ٣.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ( ٦٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا، وإن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم- عز وجل- يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون.
ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار، فيقول : إن الله حكم عليّ بكذا، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح، لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب، وإنما في اختيار العبد ومراده، مع أن العبد حر في أن يفعل أو لا يفعل.
وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب :﴿ تبت يدا أبي لهب وتب ( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب ( ٣ ) ﴾ [ المسد ] فقوله :﴿ سيصلى نارا.. ( ٣ ) ﴾ [ المسد ] : تفيد المستقبل، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار، وكان أبو لهب في أمة ومجمع من القوم الكافرين، ومنهم من آمن فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافرا ؟
ثم ألم يكن بإمكان هذا ( المغفل ) أن يقف على ملأ ويقول : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ويدخل في الإسلام، فيكون الحكم فيه غير صحيح ؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يرد ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار، هذا من طلاقة قدرة الله في فعله وعلى خلقه في أفعالهم.
فالمعنى :﴿ هم لها عاملون ( ٦٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : حكم لا يرد ولا يكذّب، حتى وإن أخبر به صاحبه، لأن علم الله تعالى مستوعب لما كان ولما سيكون، وكأن الحق سبحانه يقول : إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب، إنما فيما يفعله غيري ممن أعطيته حرية الاختيار.
٢ - من شعر الشيخ رضي الله عنه..
٣ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٢)، وكذا مسلم في صحيحه (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه..
﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ( ٦٤ ) ﴾ :
يعني : بعد أن أشركوا بالله وكفروا به، وبعد أن أصبحت قلوبهم في غمرة وعمى إذا مسهم شيء من العذاب يجأرون ويصرخون، ومن ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب الله ؟
ومعنى ﴿ أخذنا.. ( ٦٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كلمة الأخذ لها مجال واسع في كتاب الله، والأخذ : هو الاستيلاء بعنف على شيء هو لا يحب أن تستولي عليه، والأخذ يوحي بالعنف والشدة، بحيث لا يستطيع المأخوذ الإفلات مهما حاول.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ أخذ عزيز مقتدر ( ٤٢ ) ﴾ [ القمر ] : يعني : أخذا شديدا يتململ منه فلا يستطيع الفكاك.
وقوله :﴿ وأخذ الذين ظلموا الصيحة.. ( ٦٧ ) ﴾ [ هود ].
ويقول :﴿ إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾ [ هود ].
ومعنى :﴿ مترفيهم.. ( ٦٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : من الترف وهو التنعم، لأن الحياة تقوم على ضروريات تستبقي الحياة وكماليات تسعدها وترفهها وتثريها، فالمترف من عنده من النعيم فوق الضروريات، يقال : ترف الرجل يترف من باب فرح يفرح، وأترفته النعمة إذا أطغته، وأترفه الله يعني : وسع عليه النعمة وزاده منها. وعلى قدر الإتراف يكون الأخذ أبلغ والألم أشد.
وسبق أن ذكرنا قول الله عز وجل :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الأنعام ] : يعني : من منهج الله، لم نضيق عليهم إنما :﴿ فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( ٤٤ ) فقطع دابر القوم الذين ظلموا.. ( ٤٥ ) ﴾ [ الأنعام ] : فهنا تكون النكاية أشد، والحسرة أعظم.
والكلام هنا عن كفار قريش، فكيف أخذهم الله وهم في ترف من العيش، حيث تصب عندهم كل خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم ؟.
أخذهم الله حال ترفهم بالقحط والسنين، لذلك لما رآهم النبي ( ص ) أترفوا بالنعمة وطغوا بها قال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " ١
واستجاب الله تعالى دعاء نبيه، فأصابهم الجدب والقحط حتى أكلوا الجيف و( العلهز )٢ وهو شعر الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أن جف وتجمد تحت حرارة الشمس، وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب.. ( ٦٤ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وقوله تعالى :﴿ إذا هم يجأرون ( ٦٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يصرخون ويضجون، فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلات يقول للنبي ( ص ) : يا محمد ألست رحمة للعالمين ؟ إذن : فادع الله أن يفرج عنا، فدعا رسول الله ( ص ) ربه حتى فرج عنهم٣.
أو : يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر، حيث أذلهم الله، فقتل منهم من قتل، وأسر من أسر، وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم، وقد كانوا يعذبون المؤمنين ويقتلونهم، ويقيمونهم في حر الشمس ويضعون الأحجار الكبيرة فوق بطونهم، حتى أنزل الله تعالى في هذه الحالة القاسية التي يعانيها المؤمنون :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ( ٤٥ ) ﴾ [ القمر ].
فيستقبلون الآية بتعجب : حتى يقول عمر : أي جمع هذا الذي سيهزم، فليس هناك أي بادرة لنصر المؤمنين، فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه : صدق الله، سيهزم الجمع وقد هزم.
وقوله تعالى :﴿ إذا هم يجأرون ( ٦٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يجأر : يصرخ بصوت عال، والإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها، فيصرخ طلبا لمن ينجده، ويرفع صوته ليسمع كل من حوله، كما يقولون ( يجعر ).
والجؤار مثل الخوار يعني : يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالا وسادة وطغاة، فلماذا لم تظلوا سادة ؟ لماذا تصرخون الآن ؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أن يتماسكوا، وأن يتجلدوا حتى لا يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا، كما يقول الشاعر :٤
وتجلدي للشامتين أريهمو أني**** لريب الدهر لا أتضعضع٥
لكن، هيهات فقد حاق بهم العذاب، ولن يخدعوا أنفسهم الآن، فليس أمامهم إلا الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك.
٢ - العلهز: دم يابس يدق به أوبار الإبل في المجاعات ويؤكل. قال ابن شميل:
وإن قرى قحطان قرف وعلهز فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل.
٣ - عن ابن عباس أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله (ص) فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز- يعني الوبر والدم- فأنزل الله ﴿ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (٧٦)﴾ [المؤمنون] ذكره ابن كثير في تفسيره (٣/٢٥١) وعزاه لابن أبي حاتم..
٤ - الشاعر هو: أبو ذؤيب، خويلد بن خالد الهذلي (توفي ٢٧ ه)..
٥ - التضعضع: الخضوع والتذلل. وفي الحديث: ما تضعضع امرؤ لآخر يريد به عرض الدنيا إلا ذهب ثلثا دينه يعني: خضع وذل. والتجلد: إظهار الجلد وهو التصبر والشدة. [لسان العرب- مادتا: ضعع جلد]..
﴿ لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ( ٦٥ ) ﴾ :
يرد عليهم الحق سبحانه :﴿ لا تجأروا اليوم.. ( ٦٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن من يجأر ينادي من ينصره وأنتم لن تنصروا ﴿ إنكم منا لا تنصرون.. ( ٦٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لا تنصرون من جهتنا، لأنني أنصر أوليائي، وأنصر رسلي، وأنصر من ينصرني، فاقطعوا الظن في نصري لكم، لأنني أنا الذي أنزلت بكم ما جعلكم تجأرون بسببه، فكيف أزيله عنكم ؟
وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه، وشجع بعضهم بعضا على التجرؤ على القرآن وعلى النبي ( ص )، ويصفقون لمن يخوض في حقهما :{ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم١ وما كانوا يعبدون ( ٢٢ ) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ( ٢٣ ) وقفوهم إنهم مسئولون ( ٢٤ ) ما لكم لا تناصرون ( ٢٥ ) بل هم اليوم مستسلمون ( ٢٦ ) [ الصافات ].
إذن : لا تجأروا لأنكم لن تنصروا منا، وكيف ننصركم بجؤاركم هذا، وقد انصرفتم عن آياتي ؟.
كيف تستغيثون بالله وتجأرون إليه وأنتم تلقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود الله بالآيات الكونية، وتثبت لكم صدق الرسول بالمعجزات، وتحمل لكم منهج الله في الآيات حاملة الأحكام، ولكنكم عميتم عن ذلك كله.
ومعنى ﴿ فكنتم على أعقابكم تنكصون ( ٦٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : العقب : مؤخرة القدم، فبدل أن يمشي إلى الأمام كما خلقه الله وجعل له كشافات يبصر بها الطريق، ويهتدي إلى موضع قدميه، إذا به يمشي للخلف على عقبه، وكأنهم أخذوا أخذا غيّر عندهم دولاب السير، لماذا ؟ لأنهم عموا عن أسباب الهداية، فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى، كمن يسير بظهره لا يعرف مواقع قدميه، وهكذا فعلوا هم بأنفسهم.
وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات ( مارشادير )، ويحتاج فيه الإنسان لمن يوجهه ويرشد حركته يمينا أو شمالا، لأنه لا يرى.
فالمعنى : لا تلم إلا نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية، فبعد أن جاءتك وأصبحت بين يديك أغمضت عنها عينيك.
وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان :﴿ فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم.. ( ٤٨ ) ﴾ [ الأنفال ].
مادة : كبر تأتي بكسر الباء للدلالة على العمر تقول : كبر فلان، يعني : كان صغيرا ثم كبر، وبضم الباء للشيء المعنوي والقيم، كما في قوله تعالى :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. ( ٥ ) ﴾ [ الكهف ] : يعني : عظمت.
ومعنى الاستكبار افتعال الكبر وطلبه، مثل : استفهم يعني : طلب الفهم، في حين هو ليس كبيرا في ذاته، فهو محتاج إلى غيره. فالكبير في ذاته من تكون عنده وتتوفر له في ذاته مقومات الحياة وضرورياتها وترفها، لا يستمدها من أحد.
لكن الإنسان ضروريات حياته، وأسباب ترفه موهوبة له من غيره، فلا يصح له أن يتكبر، فمن أراد أن يتكبر فليتكبر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان.. الخ، وهذه كلها أمور موهوبة لك، فالصحيح قد يصبح سقيما، والغني قد يصبح فقيرا.
لذلك، فالكبرياء لله تعالى وحده، لأنه الواهب للغير، والمتفضل على الخلق بما يمكن أن يتكبروا به، ومن صفات جلاله وكماله سبحانه ( المتكبر )، لأنه سبحانه رب الخلق أجمعين، ومن مصلحة الخلق أن يكون المتكبر هو الله وحده، حتى لا يرفع أحد رأسه على خلقه ويتكبر عليهم.
وهكذا يحمي الحق سبحانه خلقه من خلقه، فإن تكبر عليك ربك، وأجرى عليك قدرا، لأنك فعلت شيئا وأنت واحد، فاعلم أنه يتكبر على الآخرين جميعا وهم كثيرون، إن فعلوا بك هذا الشيء، إذن : فصفة الكبرياء لله عز وجل في صالحك.
ومثلنا لذلك، ولله المثل الأعلى : من مصلحة الأسرة ألا يكون لها إلا كبير واحد يرجع إليه، ومن أقوال العامة ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) لأنه الميزان الذي تستقيم به الأمور ويسير دفة الحياة.
وقلنا : إن من أسمائه تعالى ( الكبير ) ولا نقول : الأكبر مع أنها صيغة مبالغة، لماذا ؟ لأن أكبر صيغة مبالغة عندنا نحن البشر، نقول : هذا كبير وذاك أكبر، وهذا قوي وذاك أقوى، ولا يقال هذا في صفته تعالى لأنك لو قلت : الله أكبر لكان المعنى أنك شركت معه غيره، فهو سبحانه أكبر وغيره كبير، لذلك لا تقال : الله أكبر إلا في النداء للصلاة.
إذن : المستكبر : الذي يطلب مؤهلات كبر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلات، والإنسان لا ينبغي له أن يتكبر إلا إذا ملك ذاتيات كبره، والمخلوق لا يملك شيئا من ذلك.
ومعنى ﴿ مستكبرين به.. ( ٦٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الهاء في ( به ) ضمير مبهم، يعرّف بمرجعه، كما تقول : جاءني رجل فأكرمته، فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل. وفي الآية لم يتقدم اسم يعود عليه الضمير، لكن الكلام هنا عن الرسول الذي أرسل إليهم، والقرآن الذي أنزل عليهم معجزة ومنهاجا، إذن : لا يعود الضمير إلا إلى واحد منهما.
أو : أن الضمير في ( به ) يعود إلى بيت الله الحرام، وقد كان سببا لمكانة قريش ومنزلتهم بين العرب، وأعطاهم وضعا من السيادة والشرف، فكانوا يسيرون في رحلات التجارة إلى اليمن وإلى الشام دون أن يتعرض لهم أحد، وفي وقت انتشر فيه بين القبائل السلب والنهب والغارة وقطع الطريق.
وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لولا بيت الله الحرام الذي يحجه العرب كل عام، وخدمته وسدانته في أيدي قريش، لذلك استكبروا به على الأمة كلها، ليس هذا فقط، إنما تجرأوا أيضا على البيت.
ويقول تعالى بعدها :﴿ سامرا تهجرون ( ٦٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : السامر : الجماعة يسمرون ليلا، وكانوا يجتمعون حول بيت الله ليلا يتحدثون في حق النبي ( ص )، يشتمونه ويخوضون في حقه، وفي حق القرآن الذي نزل عليه١.
وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهجر، والهجر هو فحش الكلام في محمد ( ص ) وفي القرآن.
فأمر هؤلاء عجيب : كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة ؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها ؟ إنه سوء أدب مع الله، ومع رسوله، ومع القرآن، يصدق فيه قول الشاعر :
أعلمه الرماية كل يوم**** فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي**** فلما قال قافية هجاني
لقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت، ومع ذلك ما حفظوا حرمته، وجعلوه مكانا للسمر وللهجر وللسفه وللطيش، ولكل ما لا يليق به، فالقرآن عندهم أساطير الأولين، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وشاعر ومجنون.. وهكذا.
والحق- سبحانه وتعالى- ينبهكم إلى ضروريات حياتكم هبة منه سبحانه وتفضل، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة، ولم يكن لكم طاقة لرده ولا قدرة على حماية البيت، فلو هدمه لضاعت هيبتكم وسيادتكم بين القبائل، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم، لكن حمى الله بيته، ودافع عن حرماته، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير.
ويروى أن أحدهم٢ قال للفيل يخاطبه : ابرك محمود وارجع راشدا- يعني : انفد بجلدك، لأنك في بلد الله الحرام، وكما قال الشاعر٣ :
حبس الفيل بالمغمس حتى**** صار يحبو كأنه معقور٤
وهكذا ردهم الله مقهورين مدحورين، وحفظ لكم البيت، وأبقى لكم السيادة.
لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش، يقول تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( ١ ) ألم يجعل كيدهم في تضليل ( ٢ ) وأرسل عليهم طيرا أبابيل ( ٣ ) ترميهم بحجارة من سجيل ( ٤ ) فجعلهم كعصف مأكول ( ٥ ) ﴾ [ الفيل ] : يعني : مثل التبن والفتات الذي تذروه الرياح.
ثم يقول في أول قريش :﴿ لإيلاف قريش ( ١ ) ﴾ [ قريش ] : يعني ما حل بأصحاب الفيل، فاللام في ( لإيلاف ) لام التعليل، يعني : حل ما حل بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف ﴿ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ( ٢ ) ﴾ [ قريش ] : وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أن تعبدوه وحده لا شريك له ﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾ [ قريش ].
٢ - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان بمكة. أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) "١/١٢٥" قال محققه: الخبر في سيرة ابن هشام (١/٥٩) يستطعمان "الناس". ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (٢/١٧٤)..
٣ - هو: أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة..
٤ - المغمس: موضع قريب من مكة. والمعقور: المنحور، أي كأنهم قطعوا إحدى قوائمه ثم نحروه، وهو للإبل. [لسان العرب- مادة: عقر]..
﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( ٦٨ ) ﴾ :
في هذه الآية والآيات بعدها يريد- سبحانه وتعالى- أن يوبخهم بعدة أمور واحد بعد الآخر.
أولها :﴿ أفلم يدبروا القول.. ( ٦٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع : ماذا جرى لهؤلاء ؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلقوه على الجدار ؟
لذلك لا يعقل ألا تفهموا القرآن، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة، لا بد أنكم فهمتموه ووعيتم ما فيه، بدليل قولكم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ [ الزخرف ].
وهكذا الكذاب يسرقه طبعه، وينمّ منطقه عما في ضميره، فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد، لأنه فقير من أوسط القوم، فالمسألة- إذن- منازعة سيادة وسلطة زمنية، لكن ألم يدر هؤلاء أن محمدا ( ص ) ما جاء ليسلبهم سلطتهم، أو يعلو هو عليهم، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم ؟
لقد جاء النبي ( ص ) ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفا لا تشريفا، بدليل أنه عاش في مستوى أقل منكم، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاما وأقلهم شرابا، أقلهم لباسا وأثاثا، حتى أقاربه كانوا فقراء، ومع ذلك حرم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون.
وبعد ذلك كله تقولون :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ [ الزخرف ] : يبدو أنكم ألفتم العبودية للعظماء وللجبابرة، ألفتم العبودية لغير الله، وعز عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم، جاء ليصلحكم، ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عز وجل.
ألم يقل أحد رؤوس الكفر عن القرآن : " والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه " ١.
إذن :﴿ أفلم يدبروا القول.. ( ٦٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : توبيخ، لأنهم فهموا القرآن، لكن حسدوا محمدا ( ص ) أن ينزل عليه، وأن ينال دونهم هذه المكانة، كما قال سبحانه :﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. ( ٥٤ ) ﴾ [ النساء ].
الأمر الثاني :﴿ أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( ٦٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : جاءهم أمر غريب لا عهد لهم به، وهو أن يأتي رسول من عند الله، وهذه المسألة معروفة لهم، فمنهم إبراهيم عليه السلام، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما، إذن : ليست مسألة عجيبة، بل يعرفونها جيدا، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه، إنه الحسد لرسول الله ( ص )، لذلك يقول تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.. ( ٨٧ ) ﴾ [ الزخرف ].
يعني : أنزل عليهم رسول من السماء لا يعرفون سيرته وخلقه ونسبه ومسلكه قبل أن يبعث ؟ إنهم يعرفونه جيدا، وقبل بعثته سموه " الصادق الأمين " وارتضوا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم، ولم يجربوا عليه كذبا أو خيانة أو سقطة من سقطات الجاهلية.
وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى :﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم.. ( ١٢٨ ) ﴾ [ التوبة ] : يعني : من جنسكم، ومن نوعكم، ومن قبيلتكم، ليس غريبا عنكم وهو معروف لكم : سلوكه وسيرته وخلقه، وإذا لم تجربوا عليه الكذب مع الخلق، أتتصورون منه أن يكذب على الخالق ؟.
وهل رسول الله في أول بعثته لما أخبر الناس أنه رسول الله جاء القرآن ليحمل الناس على الإيمان به ؟ لا، إنما جاء ليتحدى من لم يؤمن، أما من آمن بداية، بمجرد أن قال محمد : أنا رسول الله قال : صدقت، وحيثية التصديق ما جرب عليه في الماضي، وما علم من صدقه، وأنه لم يكذب أبدا، لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله، فإن قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشك أحد منهم في صدقه.
لذلك النبي ( ص ) لما قال أبو بكر في مسألة الإسراء والمعراج : إن كان قال فقد صدق٢، يحملها رسول الله تقديرا لأبي بكر ويقول : " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان " يعني : في الخلق الطيب والسلوك السّوي فسبقته للنبوة فاتبعني، ولو سبقني هو لاتبعته ".
ولما نزل جبريل- عليه السلام- على سيدنا رسول الله ( ص ) في أول الوحي فأجهده، فذهب إلى السيدة خديجة- رضي الله عنها- وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها عما حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند الله، ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل، وكان على علم بالكتب السابقة، فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال : إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى وليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال ( ص ) : " أومخرجي هم ؟ " قال : " ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلى عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا " ٣.
ومع ذلك يظل رسول الله ( ص ) خائفا قلقا أن يكون هذا شيئا من الشيطان، فتطمئنه السيدة خديجة، فهذا لا يعقل مع رسول الله، لذلك تقول له : " إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتحمل الكلّ٤، وتعين على نوائب٥ الدهر، والله لن يخذلك الله أبدا " ٦.
ومن هنا اعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في الإسلام، لأنها اجتهدت واستنبطت من مقدمات رسول الله قبل البعثة دليلا على صدقه بعد البعثة، لذلك كانت أول من سميت بأم المؤمنين، حتى قال بعض العارفين : خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول الله ( ص )، لأنه في هذه السن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تدلله، وقد قامت خديجة- رضي الله عنها- فعلا بدور الأم لرسول الله فاحتضنته، وطمأنته ووقفت بجواره في أشد الأوقات وأحرجها.
كما نلحظ في الآية :﴿ أم لم يعرفوا رسولهم.. ( ٦٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فأضاف الرسول إليهم يعني : رسول لهم، أما في الإضافة إلى الله تعالى : رسول الله، فالمعنى رسول منه، وهكذا يختلف المعنى باختلاف الإضافة.
والمسألة الرابعة في توبيخ الله لهم :﴿ أم يقولون به جنة.. ( ٧٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : جنون، والجنون أن تتعطل الآلة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر، فتفعل الخير النافع، وتترك الشر الضار. ولننظر : أي خصلة من خصال الجنون في محمد( ص ).
ودعك من قضية الدين والإله إنما خذ خلقه، والخلق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه، حتى وإن كانوا ضد صفته، فالكذاب يحب الصادق، ويعترف أن الصدق شرف وكرامة، والبخيل يحب الكريم، والغضوب يحب الحليم، ألا ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس، لكن لا يحب من يكذب عليه ؟.
ألا ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته، ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره، حتى إن أهل الحكمة ليقولون : إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته، وتدوس قدمك على كرامته، ومن جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإن أعنته على أمره.
إذن : فالأخلاق مقاييسها واحدة، فقيسوا محمدا بأخلاقه، لا بالدين والرسالة التي جاء بها، انظروا إلى خلقه فيكم، ولن يستطيع واحد منكم أن يتهمه في خلقه بشيء، وما دام لا يتهم في خلقه فلا يتهم كذلك في عقله، لأن العقل هو ميزان الخلق وأساسه.
لذلك يقول ربه- عز وجل- في حقه :
{ ن والقلم وما يسطرون ( ١ ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون١ ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) [ القلم ] : فخلقك العظيم أكبر دليل على أنك لست مجنونا.
إذن : محمد برئ من هذه التهمة، والمسألة كلها كما قال تعالى :﴿ بل جاءهم بالحق.. ( ٧٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فهذا عيبه في نظرهم، لأن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه، والبعض يرى الحق في الخير الذي يأتيه، فإن كان في شيء لا ينتفع منه فهو شر، لذلك إن أردت أن تحكم على خصلة فاحكم عليها وهي عليك، لا وهي لك، فمثلا أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب عليك، إذن : فخذ المسائل على أنها لك وعليك.
والحق- سبحانه وتعالى- حينما قيد حركتك في النظر إلى محارم الآخرين، لا تتبرم ولا تقل : منعني متعة النظر.. الخ، لكن انظر إلى أنه قيد عينيك وأنت واحد، وقيد عيون الآخرين عن محارمك وهم كثيرون.
ويقول تعالى بعدها :﴿ وأكثرهم للحق كارهون ( ٧٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وطبيعي أن يكره أهل الباطل الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم، يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان، ويقوم المعوج في حركة الحياة، وكراهية أهل الباطل لرسول الله كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له لا تكذيب به، ينبغي أن نقول : طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فلا بد أنه على الحق وإلا ما كرهوه.
إذن : فالمسائل لا تسير على هوى المخلوق، إنما على مرادات الخالق، لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكل صانع يغار على صنعته، وهذا مشاهد حتى في صنعة البشر، ولك أن تتصور ماذا يحدث لو أفسدت على صانع ما صنعه.
وعدالة الأشياء أن تسير على وفق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع، لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وفق هواه لأخذ ما ليس له، ولقبل الرشوة، ومال إلى الفسق والانحراف، لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر إلى العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوتة، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد.
لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.. ( ٧١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ولك أن تقول : نعم، اتباع الأهواء يفسد الأرض، ويفسد حركة الحياة فيها، لكن كيف يفسد السماء ؟ وهل لأحد قدرة عليها ؟.
ونقول : ألم يكن من أمنيات هؤلاء :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( ٩٠ ) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( ٩١ ) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.. ( ٩٢ ) ﴾ [ الإسراء ].
إذن : من أهوائهم أن تتهدم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأي فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعت أهواءهم لفسدت السموات والأرض، ليس هذا وفقط بل ﴿ ومن فيهن.. ( ٧١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : حيث سيتعدى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود.
لذلك يقيد النبي ( ص ) هذه الأهواء في قوله : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ١ لأنه ( ص ) :﴿ وما ينطق عن الهوى ( ٣ ) إن هو إلا وحي يوحى ( ٤ ) ﴾ [ النجم ].
وقد توقف بعض المستشرقين معترضا على هذه الآية :﴿ وما ينطق عن الهوى ( ٣ ) ﴾ [ النجم ] : يقولون : يعني كلامه كله صحيح، فلماذا يعدّل له ربه بعض الأحكام ؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدل حين نطق به كان ينطق عن هوى.
ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض، فالهوى أن تعرف الحق، لكن هواك يصرفك عنه، ورسول الله ( ص ) لم يكن يعرف في هذه المسائل حكما وانصرف عنه، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء، ثم نزل الحكم من الله ليعدّل اجتهاد رسوله.
إذن : لم يكن لرسول الله هوى ينطق بمقتضاه، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صدقه ( ص ) وأمانته في البلاغ عن ربه، وإلا فلم يكن أحد ليعلم هذا التعديل، لو أخفاه رسول الله تعصبا لنفسه، أو لدفع الخطأ عنه.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك.. ( ١ ) ﴾ [ التحريم ]، ويقول سبحانه :﴿ عفا الله عنك لم أذنت لهم.. ( ٤٣ ) ﴾ [ التوبة ].
وكان بوسع رسول الله أن يكتم هذه الآيات التي تعاتبه وتعد مأخذا عليه، لكنه ( ص ) كان أمينا يقول ما له وما عليه، لذلك يقول عنه ربه :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( ٤٤ ) لأخذنا منه باليمين ( ٤٥ ) ثم لقطعنا منه الوتين٢ ( ٤٦ ) ﴾ [ الحاقة ].
ثم يقول تعالى :﴿ بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ( ٧١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : و( بل ) تفيد الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات كلام جديد بعدها، والذكر هنا يعني : الشرف والصيت والمكانة العالية، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الزخرف ].
وقوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ( ١٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] : فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن، ويرفعوه فوق رؤوسهم، ففيه مجدهم وشرفهم وعزتهم، والعرب بدون القرآن لا ذكر لهم، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ، كانوا بدوا تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقطع الطريق، كان الواحد منهم يسرق ليكرم ضيفه بما سرق.
وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية، فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم، عجيب أن ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرم في طبيعة واحدة، فهو يفعل ما يعنّ له، وما يخطر بباله، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون، حتى قال فيهم الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد٣ وإن هطلت**** كفاه بالجود حتى أشبه الديما٤
فإنها خطرات من وساوسه**** يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
ومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصل فيها هذا الخلق حتى عند الأطفال، وحتى أن الأب يهم بذبح ولده للضيف، لأنه لم يجد ما يذبحه لقراه٥.
ويقول فيها الشاعر :
وطاو ثلاثا عاصب البطن مرمل**** ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما٦
أخي جفوة فيه من الأنس وحشة ****يرى البؤس فيها من شراسته نعمى
رأى شبحا وسط الظلام فراعه**** فلما رأى ضيفا تشمر واهتما٧
وقال هيا رباه ضيف ولا قرى ! ! ****بحقك لا تحرمه تالليلة اللحما
وأفرد في شعب عجوزا إزاءها**** ثلاثة أشباح تخالهموا بهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة**** ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما٨
فقال ابنه لما رآه بحيرة أيا**** أبت اذبحني ويسر لهم طعما
ولا تعتذر بالعدم على الذي ****طرا يظن لنا مالا فيوسعنا ذما
فروّى قليلا ثم أحجم برهة ****وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما
فبينا هما عنّت على البعد عانة**** قد انتظمت من خلف مسحلها نظما٩
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها ****على أنه منها إلى دمها أظما
فأمهلها حتى تروت عطاشها**** وأرسل فيها من كنانته سهما
فخرت نحوص ذات جحش قد**** اكتنزت لحما وقد طبقت شحما١٠
فيا بشره إذ جرها نحو قومه**** ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمى١١
وبات أبوهم من بشاشته أبا**** لضيفهموا والأم من بشرها أما
لقد تأصلت خصلة الكرم في العربي، حتى في الأطفال الصغار، فهو وإن كان فقيرا لكن لا يحب أن يعرف عنه الفقر، يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء، وإن ناقض ذلك صفات أخرى ذميمة فيه.
والشاهد أنهم جماعة تناقضت خصالهم، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة، وهذه حسبت لهم بعد ظهور الإسلام وبعثة النبي ( ص ) من بينهم، فكيف لمثل هؤلاء أن يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله ؟ ولو كانوا أهل علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام : إنه قفزة حضارية.
ولو كان رسول الله ( ص ) قارئا لقالوا : قرأ لفلان وفلان، كما حكى عنهم الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ النحل ].
إذن : فذكر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم، ولم يهتموا بهذا القرآن، إنما أعرضوا عنه ﴿ فهم عن ذكرهم معرضون ( ٧١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : عن القرآن، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين، لا يعرفون حتى مصلحتهم.
٢ - الوتين: عرق في القلب إذا قطع مات صاحبه، وهو الشريان الرئيسي الهام الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب، والمعنى: أي أمتناه عاجلا وأهلكناه سريعا إذا خالف أمرنا أي مخالفة. [القاموس القويم ٢/٣١٩]..
٣ - هو: إسماعيل بن عباد أبو القاسم الطالقاني، وزير غلب عليه الأدب، استوزره مؤيد الدولة ثم أخوه فخر الدولة، ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه، ولد في الطالقان (من أعمال قزوين) (عام ٣٢٦ ه) وإليها نسبته، توفي بالري (طهران) عام (٣٨٥ ه) ونقل إلى أصبهان فدفن فيها. [الأعلام للزركلي ١/٣١٦]..
٤ - الديمة: المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق. وهو المطر الدائم. ويقال: دامت السماء تديم: مطرت ديمة. [لسان العرب- مادة: ديم]..
٥ - القرى: طعام الأضياف..
٦ - الطاوى: الجائع. مرمل: قد اختلط طعامه بالرمل. الرسم: الأثر..
٧ - راعه: أخافه وأفزعه..
٨ - خبز ملة: هو الخبز يوضع في الرماد الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج..
٩ - عنت: ظهرت. عانة: العنون من الدواب: من حمر الوحش. المسحل: قائد القطيع..
١٠ - نحوص: سمينة ممتلئة. طبقت شحما: امتلأت شحما ولحما..
١١ - الكلم: الجرح. يدما: ينزف دما. [راجع لسان العرب]..
﴿ أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ( ٧٢ ) ﴾ :
( الخرج ) : ما يخرج منك طواعية، أما الخراج فهو ما يخرج منك رغما عنك، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فالخراج أبلغ من الخرج. والمراد بقوله تعالى :﴿ أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير.. ( ٧٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : إن كنت تريد خرجا فلا تأخذه من أيديهم، إنما خذه من ربك، فما عندهم ليس خرجا بل خراج ﴿ فخراج ربك خير.. ( ٧٢ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فلا تأخذ الرزق إلا من يد الخير والبركة، لأن الحق سبحانه لا يمن على خلقه برزق يرزقهم به، فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة، لذلك تكفل سبحانه بأرزاقهم، كما لو دعوت صديقا إلى طعام فإنك تعد له ما يكفي عشرة، فما بالك حينما يعد لك ربك عز وجل ؟.
ثم يذيل الحق سبحانه الآية بقوله تعالى ﴿ وهو خير الرازقين ( ٧٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهذه أحدثت إشكالا عند البعض، لأن الحق سبحانه جعل لخلقه شراكة في صفة الرزق، فغيره سبحانه يرزق أيضا، لكن هو خير الرازقين، لأنه يرزق الخلق بأصول الأشياء التي يرزقون منها غيرهم، فإن كنت ترزق غيرك مثلا طعاما فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره.
هو سبحانه خالق التربة، وخالق الماء، وخالق الهواء، وخالق البذرة، وما عليك إلا أن أعملت عقلك، واستخدمت الطاقات التي منحك الله إياها، فأخرجت هذا الطعام، فلو أنك جئت لأهلك بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر.. إلخ وقامت زوجتك بإعداد الطعام أتقول : إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام ؟.
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة : نزهوا ألسنتكم عن قول : فلان رازق، ودعوها لقول الله تعالى، لأنه سبحانه هو خالق الرزق، وواجد أصوله، وما أنت إلا مناول للغير.
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية، فما دام الخراج خراج ربك يا محمد، فهو خراج كثير وعطاء لا ينفد.
الصراط المستقيم : الطريق المعتدل الذي لا عوج فيه ولا أمتا١، فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم ؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع بالصراط المستقيم الملايين.
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أن تنظر إلى ما أخذه منك، فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير، ويأمرك برعاية اليتيم ليرعى أولادك من بعدك إن تركتهم وهم صغار.
فالشرع- إذن- يؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير الله بالرضا، لأنك في مجتمع إيماني لن يتخلى عنك إن افتقرت، ولن يترك أولادك إن تيتموا، فالمجتمع الإيماني إن مات فيه الأب كان الجميع لليتيم آباء. أما إن ضاع اليتيم في مجتمع الإيمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر الله، ويغري ضعاف الإيمان أن يقولوا : ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة لا يتكفل بهم أحد ؟.
﴿ الصراط.. ( ٧٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الغاية بأقل مجهود، وفي أقل وقت ويوصلك إلى أفضل غاية، والطريق يأخذ حظه من العناية والاهتمام بقدر الغاية الموصل إليها، فالطريق من القاهرة إلى الإسكندرية غير الطريق بين القرى والنجوع.
ومعنى :﴿ لناكبون ( ٧٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : منحرفون عن الطريق، ولهم حظ في الاعوجاج وعدم الاستقامة، لذلك يقول لك من يريد الصدق ( تعال دوغري ) يعني : من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا مراوغة.
لكن، ما الذي جعلهم يتنكبون الطريق المستقيم الذي ينظم لهم حركة الحياة، ويجعلها تتساند لا تتعاند، ويعود مجهود الفرد على الباقين ؟ لماذا يحرمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق ؟
قالوا : لأنهم مكذبون بالآخرة، ولو لم يكونوا مكذبين بالآخرة لآمنوا واتبعوا منهج الله، لأنهم سيئولون إلى الله أيلولة، تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه. فالذي أفسد هؤلاء أنهم اتبعوا أهواءهم، وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف، وغفلوا عن الآخرة، وأنها دار النعيم الحقيقي الذي لا يفوتك ولا تفوته.
كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ( ٦٤ ) ﴾ [ العنكبوت ] : يعني : الحياة الحقيقية.
﴿ ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ( ٧٥ ) ﴾ :
يعني : لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه، كما قال سبحانه في موضع آخر :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.. ( ١٢ ) ﴾ [ يونس ].
وليته اكتفى عند هذا الحد، إنما يتعدى هذا، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وجعل لله أندادا.. ( ٨ ) ﴾ [ الزمر ] : يقول كما قال قارون :﴿ إنما أوتيته على علم عندي.. ( ٧٨ ) ﴾ [ القصص ] : يعني : هذا بمجهودي وتعبي، وقد كلمت فلانا، وفعلت كذا وكذا.
لذلك كان طبيعيا أن يقول له ربه : ما دمت قد أوتيته على علم عندك، فاحفظه بعلم عندك قال تعالى :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض.. ( ٨١ ) ﴾ [ القصص ].
فأين الآن علمك ؟ وأي علم هذا الذي لا يستطيع أن يحتفظ بما أتى به ؟ ومعلوم أن استنباط الشيء أصعب من حفظه وصيانته.
ومعنى :﴿ للجوا.. ( ٧٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تمادوا ﴿ في طغيانهم.. ( ٧٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : والطغيان : مجاوزة الحد، لأن الله تعالى جعل لكل شيء في الوجود حدا مرسوما لا ينقص ولا يزيد، فإن اتبعت هذا الحد الذي رسمه الله لك استقمت واستقامت حركة حياتك بلا منازع، ولو طغى الشيء أفسد حركة الحياة، حتى لو كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، لو طغى يغرق ويدمر بعد أن كان سر الحياة حال اعتداله. ومنه قوله سبحانه :﴿ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية١ ( ١١ ) ﴾ [ الحاقة ].
ويقال لمن جاوز الحد : طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة، فإن تجاوز هذه أيضا نقول : طاغوت.
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان ﴿ يعمهون ( ٧٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : يتحيرون ويعمون عن الرشد والصواب، فلا يميزون بين خير وشر.
﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ( ٧٦ ) ﴾ :
استكان فلان لا تقال إلا لمن كان متحركا حركة شريرة، ثم هدأ وسكن، نقول : فلان ( انكن ) أو استكان وأصلها ( كون ) فالمعنى : طلب وجودا جديدا غير الوجود الذي كان عليه، أو حالا غير الحال الذي كان عليه أولا، فقبل أن يستكين ويخضع كان لا بد متمردا على ربه.
والوجود نوعان : وجود أولي مطلق، ووجود ثان بعد الوجود الأولي، كما نقول مثلا : ولد زيد يعني وجد زيد وجودا أوليا، إنما على أي هيئة وجد ؟ جميلا، قبيحا.. هذه تحتاج إلى وجود آخر، تقول : كان زيد هكذا فعل وفاعل لا يحتاج إلى إخبار آخر لأنها للوجود الأول، لكن حين نقول : كان زيد مجتهدا، فهذا هو الوجود الثاني وهو الاجتهاد، وهو وجود ناتج عن الوجود الأول.
فكان الأولى هي كان التامة التي وردت في قوله تعالى :﴿ وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة.. ( ٢٨٠ ) ﴾ [ البقرة ] : أي : وجد ذو عسرة، ولا تحتاج في هذه الحالة إلى خبر.
ونقول : تمنى فلان على الله أن يوجد له ولد، فكان محمد، يعني : وجد. أما كان الناقصة فتحتاج إلى خبر، لأن ( كان ) فعل يدل على زمان الماضي، والفعل لا بد أن يدل على زمن وحدث، لذلك لا بد لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول : كان زيد مجتهدا، فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص، فكأنك قلت : زيد مجتهد.
ومعنى ﴿ فما استكانوا لربهم.. ( ٧٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أن خضوعهم واستكانتهم لم تكن لأنفسهم ولا للناس، إنما استكانة لله بأخذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا، لا في حال الرحمة وكشف الضر، ولا في حال الأخذ والعذاب، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غير حاله معهم، ومقتضى ذلك أن يغيروا هم أيضا حالهم مع الله، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره.
﴿ وما يتضرعون ( ٧٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الضراعة : هي الدعاء والذلة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.. ( ٤٣ ) ﴾ [ الأنعام ] : يعني : لجئوا إلى الله وتوجهوا إليه بالدعاء والاستغاثة.
لقد فشلت معهم كل المحاولات، فما أجدت معهم الرحمة واستمروا على غلوائهم، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به، إذن : لم يبق لهم حجة ولا أمل في النجاة، ففتح الله عليهم ﴿ بابا ذا عذاب شديد.. ( ٧٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مغلق تفاجئهم ﴿ إذا هم فيه مبلسون ( ٧٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : آيسون من النجاة متحسرون على ما فاتهم.
﴿ وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ :
الحق- سبحانه وتعالى- يقول : خلقت عبادي من عدم، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم، ثم جعلت لهم منهجا ينظم حركة حياتهم ويصون بنيتهم، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته، وأعلم بما يصلحها، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها، فالذي صنع الثلاجة مثلا هل صنعها أولا ثم قال لنا : انظروا في أي شيء تفيدكم هذه الآلة ؟ لا، إنما قبل أن يصنعها حدد مهمتها، والغاية منها، وكذلك خلق الله، ولله المثل الأعلى.
والذي خلق وحدد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه، فإن خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطل عن أداء مهمتك التي خلقت لها، وهي عبادة الله وحده لا شريك له :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( ٥٦ ) ﴾ [ الذاريات ].
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أن تردوه إلى الله وإلى الرسول، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها، ونستنبط من هذه المسألة : إذا رأيت خللا في الكون أو فسادا في ناحية من نواحيه، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرت فاعلم أن حكما لله قد عطل.
فمثلا إن رأيت فقيرا جائعا عاريا فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى :﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ( ١٥ ) ﴾ [ الملك ] : أو : أن القادرين العاملين حرموه حقه الذي جعله الله له في أموالهم، وخالفوا قوله تعالى :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾ [ الذاريات ].
لذلك، فالحق- سبحانه وتعالى- يجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسد حاجة المحتاجين، كما نرى مثلا أحد الأثرياء يترك بلده، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته، وليس هناك سبب لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع، ولو حسبتها لوجدت أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين، فانتقل إلى بلد آخر قلت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه، وتحننك إلى التعرف عليه، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى، أو معجزات تثبت صدق الأنبياء في البلاغ عن الله، لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده، إنما يرسل رسولا ليبلغهم ثم يؤيده بالمعجزة الدالة على صدقه في البلاغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف من هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك : إنه الله، وقد ضربنا لذلك مثلا- ولله المثل الأعلى : هب أن أحدا دق الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث ؟ نتفق نحن جميعا على أن طارقا بالباب. لكن من هو ؟ لا أحد يعلم.
فالاتفاق هنا في التعقل، وأن هناك قوة خلف الباب تدقه، لكن من هو ؟ وماذا يريد ؟ لا بد لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة، وإياك أن تقول بالظن : هذا فلان وأنا أقول هذا فلان، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف من هو، وما عليك إلا أن تقول : من بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه، وعن سبب مجيئه، وماذا يريد. ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا.
الشاهد : أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها، لذلك يقول سبحانه :﴿ وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ( ٧٨ ) ﴾ [ المؤمنون ].
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطا الحواس الخمس الظاهرة أي : أن هناك حواس أخرى لم يكتشفوها، وفعلا اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلا، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرف عليها بالحواس الخمس المعروفة.
وعمدة الحواس : السمع والبصر، لأنه إذا جاءني رسول يبلغني عن الله لا بد أن أسمع منه، فإن كنت مؤمنا بإله فقد اكتفيت بحاسة السمع، وإن كنت غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصنعة على الصانع، وبالخلقة على الخالق، وتقف على ما في كون الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع.
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك، كما لو رأيت النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكونت لديك قضية عقلية مؤداها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلا فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
فإذا رآه بعد ذلك يقول ( أوف )، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكونت لديه نتيجة تجربة استقرت في فؤاده، وأخذها مبدأ يسير عليه في كل حياته، وهكذا من المحسات ومن تجارب الحياة تتكون لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن : من وسائل الإدراك تتكون المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونسميها عقيدة يعني : شيء معقود عليه لا ينحل.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يرتبها دائما هذا الترتيب : السمع والبصر والفؤاد لأنها عمدة الحواس، فالشم مثلا والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلا، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة : السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى.
وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدل على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صدق هذا الترتيب، فأول أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن : فهذا الترتيب خلقي وتكويني. كما أن السمع وهو أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضا الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره، فالأذن تسمع مثلا حتى في حالة النوم على خلاف العين، ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم.
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية، وليست الأذن كذلك، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان، أما المرئي فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك، إذن : فالمسموع واحد والمرائي متعددة، لذلك قال سبحانه :﴿ السمع والأبصار.. ( ٧٨ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فليس لك خيار في السمع، لكن لك خيار في الرؤية، فالمبصرات تتعدد بتعدد الأبصار، لكن السمع لا يتعدد بتعدد الأسماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدوية، ولو بقي لهم السمع كشأن الخلق جميعا لما استقر لهم قرار طوال هذه الفترة الطويلة، ولأفزعتهم الأصوات.
يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( ١١ ) ﴾ [ الكهف ].
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرت السمع والبصر ذكرته بهذا الترتيب : السمع والأبصار، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا :﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا.. ( ١٢ ) ﴾ [ السجدة ] : فقدم البصر على السمع، لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولا قبل أن تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول : لا عذر لك عندي فقد أعطيتك سمعا لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتك عينا لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتك فؤادا تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلك على وجود الخالق عز وجل.
إذن : ما أخذتك على غرة، ولا خدعتك في شيء، إنما خلقتك من عدم، وأمددتك من عدم، ورتبت لك منافذ الإدراك ترتيبا منطقيا تكوينيا، فأي عذر لك بعد ذلك.. وإياكم بعد هذا كله أن تشغلكم الأهواء، وتصرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق- عز وجل- ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدم العلوم إلى أسرارها وكنهها.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية :﴿ قليلا ما تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن هذه نعم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حق الشكر.
البعض يقول في معنى ﴿ قليلا ما تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أنه تعالى عبر عن عدم الشكر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا، لأن الله تعالى أثبت لعباده شكرا لكنه قليل، وربك- عز وجل- يريد شكرا دائما يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي حرم نعمة البصر يتخبط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة، لأنك تعيش وتتقلب في نعم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى من حرم منها.
لذلك، إن أردت أن تدوم لك النعمة فاعقلها بذكر الله المنعم قل عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ألا ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا : إن أردت صيانة النعمة فلا تنس المنعم، لأنه وحده القادر على حفظها وصيانتها، كما نشتري الآن آلة، ونتفق مع صانعها على صيانتها صيانة دورية مقابل أجر معين.
كذلك إن قلت عند النعمة : ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فلن ترى فيها سوء أبدا، لأنك أيقظت ب " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " قانون صيانتها، وجعلت حفظها إلى من صنعها. ولا يصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشكر عليها.
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية، وفي أحد الأعوام زرعه قطنا، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه، فكلمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له : يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني : أخرج منها الزكاة.
﴿ وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( ٧٩ ) ﴾ :
﴿ { ذرأكم.. ( ٧٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها، وتعجب حين ترى أناسا متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء، ولا يرضون بها بديلا، ويتحملون في سبيل البقاء بها العنت والمشقة، حتى إنك لتقول : لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم، وكانت تسمى " اليمن السعيد " ورأيناهم في السعودية وفي الكويت، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم، وجعل الله- سبحانه وتعالى- هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا، لأنهم رضوا في الأولى بقضاء الله، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيما، لو حرم منه المنعمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لأن الخالق- عز وجل- نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خيرات أخرى غير الزراعة، فالخيرات- إذن- مطمورة في أنحاء الأرض، لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن : فبث الخليقة ونشرها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإليه تحشرون ( ٧٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد.
﴿ وهو الذي يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ( ٨٠ ) ﴾ :
﴿ يحيي ويميت.. ( ٨٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فعلان لا بد أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق- عز وجل- يوجد الحياة أولا، ويوجد الموت، ثم يجري حدثا منهما على ما يريده.
والحياة سبقت الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك :﴿ الذي خلق الموت والحياة.. ( ٢ ) ﴾ [ الملك ] : وعلة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادة تنشئ الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمل : ما الذي تفعله إن أردت أن تقوم من مكانك ؟ ماذا تفعل إن أردت تحريك يدك أو قدمك ؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء.
إذن : بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقه- سبحانه وتعالى- ونكذب أنه يقول للشيء : كن فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئا، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء : كن فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدم الحق سبحانه الموت في هذه الآية :﴿ الذي خلق الموت والحياة.. ( ٢ ) ﴾ [ الملك ] : لأن الحياة ستورث الإنسان غرورا في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه- عز وجل- أن ينبهه : تذكر أنني أميت، ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخلق والإماتة صفات لله قديمة قبل أن يخلق شيئا أو يميت شيئا، لأنها صفات ثابتة لله قبل أن يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، ولله المثل الأعلى : الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول : إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل : إذا أطلقت رصاصة على شخص أردته قتيلا فقد خلقت الموت. نقول : الحمد لله أنك لم تدعي الإحياء واكتفيت بالموت، لكن فرق بين الموت والقتل، القتل نقض للبنية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولا دون نقض للبنية.
لذلك يقول سبحانه :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.. ( ١٤٤ ) ﴾ [ آل عمران ].
والنمرود الذي حاج إبراهيم- عليه السلام- في ربه أمر بقتل واحد وترك الآخر، وادعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حق لأمر بإحياء هذا الذي قتله، لذلك قطع عليه إبراهيم- عليه السلام- هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه.
إذن : هدم البنية يتبعه خروج الروح، لأن للروح مواصفات خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة- ولله المثل الأعلى- بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الأسلاك لا نرى نورها إلا إذا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرت لها هذه الصفات، فإن كسرت ينطفئ نورها.
ثم يقول تعالى :﴿ وله اختلاف الليل والنهار.. ( ٨٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظلمة التي تمنع رؤية الأشياء، وقديما كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم، فأثبت خطأ هذه النظرية، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئي على العين فتراه، بدليل أنك لا ترى الشيء إن كان في الظلام.
وظلمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لا بد منه لنهتدي إلى حركة الحياة، والإنسان يواجه خطورة إن سار في الظلام، لأنه إما أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه.
إذن : لا بد من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسعي في مناكب الأرض، وكذلك لا بد من الظلمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم، فيستريح من عناء العمل، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان.
لذلك يقول تعالى :﴿ وله اختلاف الليل والنهار.. ( ٨٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون، يقول تعالى :﴿ والليل إذا يغشى ( ١ ) والنهار إذا تجلى ( ٢ ) ﴾ [ الليل ] : وطالما أن لكل منهما مهمته، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار، أو النهار إلى ليل، لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر، وينامون النهار حتى المغرب، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة، فالتلميذ ينام في الدرس، والعامل ينام ويقصر في أداء عمله.
والنبي ( ص ) ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله : "... أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " ١ لأن الجسم لا يأخذ راحته، ولا يهدأ إلا في الظلمة، فيصبح الإنسان قويا مستريحا نشيطا، واقرأ قول الله تعالى :﴿ وجعلنا الليل لباسا ( ١٠ ) وجعلنا النهار معاشا ( ١١ ) ﴾ [ النبأ ].
ومن دقة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلا، وتقتضي طبيعة أعمالهم السهر، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز، وغيرهم، فيقول تعالى :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار.. ( ٢٣ ) ﴾ [ الروم ] : فالليل هو الأصل، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلا، لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلا صناعيا، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ، ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء.
إذن : الليل والنهار ليسا ضدين، إنما هما خلقان متكاملان لا متعاندان، وهما كالذكر والأنثى، يكمل كل منهما الآخر، لا كما يدعي البعض أنهما ضدان متقابلان، لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلى، قال :﴿ وما خلق الذكر والأنثى ( ٣ ) إن سعيكم لشتى ( ٤ ) ﴾ [ الليل ] : فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة.
واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظلمة والطول والقصر وفي اختلاف الأماكن، فالليل لا ينتظم الكون كله، وكذلك النهار، فحين يكون عندك ليل فهو عند غيرك نهار، يقول تعالى :﴿ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.. ( ١٣ ) ﴾ [ فاطر ].
وينتج عن هذا تعدد المشارق والمغارب بتعدد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب، وكل مغرب يقابله مشرق، لدرجة أنهم قالوا : ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية.
وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذكر الله على مدى الوقت كله، بحيث لا ينتهي الأذان، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة، فأنت تصلي المغرب، وغيرك يصلي العشاء.. وهكذا. إذن : فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكورا في كل الكون بجميع أوقات الصلاة في كل وقت.
حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطبا الزمن : يا زمن وفيك كل الزمن. يعني : يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر، لكن عند غيري.
ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضا الصيف الحار والشتاء البارد، والحق سبحانه وتعالى كلف العبيد كلهم تكليفا واحدا كالحج مثلا، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي، وبذلك من لم يناسبه الحج في الصيف حج في الشتاء، لأن اختلاف التوقيت القمري يلون السنة كلها بكل الأجواء.
لذلك قالوا : إن ليلة القدر تدور في العام كله، لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير، ومرة يوافق الثاني، ومرة يوافق الثالث، وهكذا.
ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خلفة، كما قال تعالى :﴿ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( ٦٢ ) ﴾ [ الفرقان ] :
فنحن نرى الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها، فما دام الحق- سبحانه وتعالى- جعل الليل والنهار خلفة، فلا بد أن يكون ذلك من بداية خلقهما، فلو وجد الليل أولا ثم وجد النهار، فلا يكون الليل خلفة، لأنه لم يسبقه شيء، فهذا يعني أنهما خلقا معا، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت الأرض مكورة، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد، فالذي واجه الشمس كان نهارا، والذي واجه الظلمة كان ليلا.
ثم يقول سبحانه :﴿ أفلا تعقلون ( ٨٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة، وقد كانت اختلافات الأوقات مبنية على التعقل، أما الآن فهي مبنية على النقل، حيث تقاربت المسافات، وصرنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد.
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض، حتى بعد أن التقطوا لها صورا أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك. ونقول : لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآننا إلى هذا القول ؟ ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات ؟
ولو تأملت قوله تعالى :﴿ وهو الذي مد الأرض.. ( ٣ ) ﴾ [ الرعد ] : لوجدت فيه الدليل القاطع على صدق هذه النظرية، لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة، وهذا لا يتأتى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية. لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي توضح هذه الحقيقة وتظهرها.
إذن : الحق سبحانه في قوله :﴿ أفلا تعقلون ( ٨٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية، لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عز وجل، ولماذا يعمل الإنسان عقله ويتفنن مثلا في ارتكاب الجرائم فيرتب لها ويخطط ؟ لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيوقعه في مزلق، فيترك وراءه منفذا لإثبات جريمته، وثغرة توصل إليه، لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة.
وكأن الحق- سبحانه وتعالى- يقول : لقد استخدمت عقلك فيما لا ينبغي، وسخرته لشهوات نفسك، فلا بد أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك، فإن سترتها عليك مرة فإياك أن تتمادى، أو تظن أنك أفلت بعقلك وترتيبك وإلا أخذتك ولو بجريمة لم تفعلها، لأنك لا تستطيع أن ترتب بعقلك على الله، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب.
كما لو فضح الإنسان بأمر هو منه برئ، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاء لما قد أصابه في الأولى، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب.
والحق- سبحانه وتعالى- حينما ينبه العقل ويثيره : تفكر، تدبر، تعقل، ليدرك الأشياء الكونية من حوله، فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صنعته وإبداعه لكونه، لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة.
وهذه المسألة نلاحظها فيمن يعرض صنعته من البشر، فالذي يتقن صنعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلفها لك صانعها، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكشف عيبها.
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صنعته فعليك أن تدري المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك.
﴿ بل قالوا مثل ما قال الأولون ( ٨١ ) ﴾ :
أي : لم يتعظوا بكل هذه الآيات، بل قالوا مثلما قال الأولون :
﴿ قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( ٨٢ ) ﴾.
وسواء أكان هذا قولهم أو قول سابقيهم من الأولين، فقد كان الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر.
ولذلك قال قائلهم :﴿ وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ( ٧٨ ) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ( ٧٩ ) ﴾ [ يس ].
أتظنون أن الله تعالى إذا وعدكم بالموت ثم بالبعث أن هذا سيكون في الدنيا ؟ لذلك تقولون : وعدنا بهذا من قبل ولم يحدث، وقد مات منا كثيرون ولم يعودوا ولم يبعثوا، فمن قال لكم إنكم ستموتون اليوم وتبعثون غدا ؟
البعث لا يكون إلا بعد أن يموت جميع الخلق، ثم يبعثوا كلهم مرة واحدة.
إذن : هذا الكلام منهم مجرد سفسطة وجدل لا معنى له.
وكلمة ﴿ وعدنا.. ( ٨٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني بالبعث، والوعد عادة يكون بالخير، كما أن الوعيد يكون بالشر، كما جاء في قول الشاعر :
وإني إذا أوعدته أو وعدته**** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
يعني : هو رجل كريم يترك الشر الذي توعد به، ويفعل الخير الذي وعد به، وإن قال العلماء : قد يستعمل هذا مكان هذا.
لكن، هل الوعد للكفار بالبعث وما يتبعه من عذاب وعقاب يعد وعدا ؟ قالوا : نعم يعد هذا الشر وهذا العذاب الذي ينتظر وعدا بالخير لأنه ينبههم ويلفتهم إلى خطورته حتى لا يقعوا فيه إذن : هو خير لهم الآن حيث يحذرهم كما تحذر ولدك من الرسوب إن أهمل في دروسه.
ومن ذلك أيضا في هذه المسألة ما أشرنا إليه من تكرار قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ١٣ ) ﴾ [ الرحمن ] : في سورة الرحمن، وأنها جاءت بعد ذكر نعم الله على سبيل التوبيخ لمن أنكر هذه النعم أو كذب بها. وتكررت مع كل نعمة تأكيدا لهذا التوبيخ، لكن العجيب أن تذكر هذه الآية حتى بعد النقم أيضا، كما في قوله تعالى :
﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( ٣٥ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٦ ) ﴾ [ الرحمن ].
وهل في النار والشواظ نعمة ؟ نقول : نعم فيها نعمة، لأنها نصيحة لك قبل أن تقع في هذا المصير وتحذير لك في وقت التدارك حتى تراجع نفسك.
وقولهم :﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ( ٨٣ ) ﴾ [ المؤمنون ]، ﴿ إن هذا.. ( ٨٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : ما هذا. وأساطير : جمع أسطورة مثل : أعاجيب وأعجوبة، وهناك من يقول : إن أساطير جمع سطر أسطار أساطير مثل شكل وأشكال، فهي جمع للجمع. وسواء أكانت جمع أسطورة أو جمع سطر، فالمعنى لا يختلف : لأن الشيء المسطور قد يعتبره الناس خرافة وكلاما لا معنى له.
والأساطير هي الكلام المكذوب الذي لا أصل له، فلا يسمى الكلام أسطورة إلا إذا جاء وقته ولم يحدث، فلك أن تقول أساطير إنما البعث الذي تقولون عنه ﴿ أساطير الأولين ( ٨٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لم يأت وقته بعد، فلم يمت جميع الخلق حتى يبعثوا، فقد أخطأتم التوقيت وظننتم أنكم في الدنيا تموتون وتبعثون هكذا على رؤوس الأشهاد، والناس ما زالت في سعة الدنيا.
﴿ قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( ٨٤ ) ﴾ :
ويأتي في السؤال بإن الشرطية الدالة على الشك في كونهم يعلمون.
فما دمتم أقررتم بأن الأرض ومن فيها لله ﴿ أفلا تذكرون ( ٨٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : ما الذي صرفكم عن مالك الأرض وخالقها ؟.
﴿ قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( ٨٦ ) ﴾ :
نلحظ أنهم لم يجادلوا في هذه المسألة، ولم يقولوا مثلا إنها سماء واحدة هي التي نراها، مما يدل على أنها أمر غير منكور عندهم، ولا بد أن الأنبياء السابقين قد أخبروهم خبر السماء، وأنها سبع سموات، وأصبحت عندهم قضية عقلية يعرفونها، وإلا كان بوسعهم الاعتراض، حيث لا يرون إلا سماء واحدة. إذن : لم يجادلوا في هذا الموضوع.
وقوله تعالى :﴿ ورب العرش العظيم ( ٨٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : العرش مخلوق عظيم لا يعلم كنهه إلا الله الذي قال فيه ﴿ ثم استوى على العرش.. ( ٥٤ ) ﴾ [ الأعراف ]، وقال ﴿ وكان عرشه على الماء.. ( ٧ ) ﴾ [ هود ].
والعرش لم يره أحد، إنما أخبر عنه ربه الذي خلقه، فقال : لي كذا ولي كذا، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه عظيم. وفي هذه أيضا لم يجادلوا رسول الله ولم يقولوا إننا لم نر العرش، مما يدل على أن عندهم حصيلة من تراث الأنبياء السابقين انتقلت إليهم فطرة من فطر التكوين البشري في السماع من الموجودين.
وقد وصف العرش بأنه عظيم عند البشر أيضا، ففي قصة سليمان وملكة سبأ قال الهدهد :﴿ ولها عرش عظيم ( ٢٣ ) ﴾ [ النمل ] : لأن العرش رمزية لاستقرار الملك واستتباب الأمر للملك الذي لا ينازعه في ملكه أحد، ولا يناوشه عليه عدو، لذلك أول ما قال سليمان- عليه السلام- في أمرها قال :﴿ أيكم يأتيني بعرشها.. ( ٣٨ ) ﴾ [ النمل ] : وكأنه يريد أن يسلب منها أولا رمز العظمة والأمن والأمان والاستقرار في الملك.
﴿ سيقولون لله قل أفلا تتقون ( ٨٧ ) ﴾ :
فما دام الأمر كذلك وما دمتم تعترفون بأن لله ملك السماوات والأرض، وله العرش العظيم، فلماذا لا تتقون هذا الإله ؟ لماذا تتمردون على منهجه ؟ إن هذا الكون كله بما فيه خلق لخدمتك، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي : " يا ابن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " ١ يعني : لا تلهك النعمة عن المنعم. وعلى العبد أن ينظر أولا إلى خالقه ومالكه، فيؤدي حقه، ثم ينظر إلى ما يملك هو.
ومعنى :﴿ أفلا تتقون ( ٨٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : الاتقاء : أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، وسبق أن قلنا : من عجيب آيات القرآن أن تقول مرة ( اتقوا الله ) ومرة ( اتقوا النار )، والمعنى لا تعارض فيه كما يظنه البعض، بل المعنى واحد : لأن النار جند من جنود الله ومن صفات جلاله، فالمراد : اتقوا عذاب الله، واتقوا صفات القهر والجبروت بأن تجعل بينك وبينها وقاية.
﴿ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ( ٨٨ ) ﴾ :
معنى ﴿ بيده.. ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تدل على التمكن من الشيء، كما تقول : هذا الأمر في يدي يعني في مكنتي وتصرفي، أقلبه كيف أشاء ﴿ ملكوت كل شيء.. ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : مادة ملك منها ملك، ومنها ملك، ومنها ملكوت.
الملك ما تملكه أنت، حتى لو لم يكن عندك إلا ثوب واحد فهو ملك، أما ملك فيعني أن تملك من يملك، وهذا يكون ظاهرا. أما الملكوت فالأشياء المخلوقة التي لا تقع عليها حواسك، ولا يمكن أن تعلم عنها شيئا إلا بإخبار خالقها، والإنسان لا يرى كل ما في الكون، بل إن في نفسه وذاته أشياء لا يعرفها، فهذا كله من عالم الملكوت.
بل إن الإنسان لا يرى حتى الملك الظاهر المحس، لأنه لا يرى منه إلا على قدر مد بصره، وما خرج عن هذا النطاق لا يراه، وإن كان يراه غيره، ويمكن أن يدخل هذا الملك الذي لا تراه في دائرة الملكوت بمعناه الواسع.
إذن : الملكوت يطلق على الأشياء المحجوبة التي لا يراها أحد، أو على الأشياء التي يراها واحد دون الآخر.
والإنسان إذا تعمق في عبادة الله وفي طاعته يفيض عليه من التجليات، ويعطيه من هذا الملكوت عطاء مباشرا، كما قال :﴿ من لدنا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ النساء ].
ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال عنه ربه :﴿ وإبراهيم الذي وفى ( ٣٧ ) ﴾ [ النجم ]، وقال عنه :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن.. ( ١٢٣ ) ﴾ [ البقرة ] : يعني : يؤدي ما لله بدقة وعلى الوجه الأكمل، لذلك يأتمنه ربه على أن يكون إماما للناس ﴿ قال إني جاعلك للناس إماما.. ( ١٢٤ ) ﴾ [ البقرة ].
فلما أحسن إبراهيم ما بينه وبين ربه وبلغ هذه المنزلة قال عنه ربه :﴿ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض.. ( ٧٥ ) ﴾ [ الأنعام ].
لأنه أحسن في الأولى فرقي إلى أعلى منها، كما لو دخل رجل بيتك وشاهد ما عندك من نعيم، ففرح لما أنت فيه، وقال : ما شاء الله تبارك الله، ودعا لك بالزيادة، فلما رأيت منه ذلك قلت له إذن : تعالى أريك ما هو أعظم.
كذلك العبد الصالح الذي عبد الله وتقرب إليه بمنهج موسى عليهما السلام، فلما استقام على هذا المنهج وتعمق في عبادة الله وطاعته أعطاه الله من علمه اللدني دون واسطة ودون رسول، حتى كان هو معلما لموسى عليه السلام.
ثم يقول سبحانه :﴿ وهو يجير ولا يجار عليه.. ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يجير : تقول : استجار بفلان فأجاره يعني : استغاث به فأغاثه، ومنه قوله تعالى :﴿ وإني جار لكم.. ( ٤٨ ) ﴾ [ الأنفال ] : والإنسان لا يستجير بغيره إلا إذا ضعفت قوته عن حمايته، فيلجأ إلى قوي يحميه ويدافع عنه.
إذن : هذه المسألة لها ثلاثة عناصر : مجير، وهو الذي يقبل أن يغيثك ويحتضنك ويدافع عنك. ومجار : وهو الضعيف الذي يطلب الحماية. ومجار عليه : وهو القوي الذي يريد أن يبطش. ومن المعروف أن رسول الله ( ص ) في رحلته إلى الطائف وبعد أن فعلوا به ( ص ) ما فعلوا استجار، ودخل في حمى كافر.
فالحق- سبحانه وتعالى- يجير من استجار به، ويغيث من استغاثه لكن ﴿ لا يجار عليه.. ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن الذي يجيرك إنما يجيرك من مساو له في القوة، فيستطيع أن يمنعك منه، ويحميك من بطشه، فمن ذا الذي يحميك من الله ؟ ومن يجيرك إن كان الله هو طالبك ؟
لذلك يقول سبحانه في مسألة ابن نوح :﴿ قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.. ( ٤٣ ) ﴾ [ هود ] : فالله- عز وجل- يجير على كل شيء، ومن أصبح وأمسى في جوار ربه فلا خوف عليه.
وتلحظ هنا العلاقة بين صدر هذه الآية وعجزها، فالله تعالى بيده وفي قبضته سبحانه كل شيء، والأمر كله إليه، فإياك أن تظن أنك تفلت من قبضته بالنعمة التي أعطاك، لأنه سبحانه قادر أن يسلبك إياها، وساعتها لن يجيرك أحد، ولن يغيثك من الله مغيث، ولن يعصمك من الله عاصم.
ثم اقرأ قوله تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ].
وهنا أيضا يقول سبحانه :﴿ إن كنتم تعلمون ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : إن كان عندكم علم بهذه المسألة ووصلت إليكم وعاينتموها.
﴿ سيقولون لله قل فأنى تسحرون١ ( ٨٩ ) ﴾ :
ففي هذه الآية أيضا يقولون " لله "، لأنه واقع ملموس لا ينكر، وطالما أن الأمر كذلك ﴿ فأنى تسحرون ( ٨٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كيف تسحرون أو أسحرتم عن هذا الواقع وصرفتم عنه إلى هذا الكلام الباطل ؟.
هذه قضايا ثلاث جاءت على صورة سؤال لتدينهم بوضوح العقيدة في الوجود الأعلى، وبوضوح البينات في إعجاز البلاغ عن الله، وبوضوح الآيات في آيات المنهج، وقد أراد الحق سبحانه أن يأتي الكلام منهم وبإقرارهم هم على أنفسهم، ليكون حجة وشهادة حق عليهم.
ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة، لذلك سألهم :﴿ قل لمن الأرض ومن فيها.. ( ٨٤ ) ﴾ [ المؤمنون ].
﴿ وقل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( ٨٦ ) ﴾ [ المؤمنون ].
﴿ قل من بيده ملكوت كل شيء.. ( ٨٨ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وهم يقولون في هذا كله ( لله ) إذن : فماذا بقي لكم ؟ ما الذي منعكم أن تتقوا الذي تؤمنون بأنه المالك للأرض وللسماء وبيده كل شيء ؟ إنه مجرد استكبار وعناد وغطرسة، وإلا فماذا تعني كلمة ( الله ) التي تنطقون بها ؟
إنكم تعرفون الله، وتعرفون مدلول هذه الكلمة، لأن مدلول الكلمة سابق على وجودها في لغة البشر، فاللغة عادة ألفاظ توضع لمعان تدل عليها، فالمعنى يوجد أولا، ثم نضع له اللفظ الدال عليه، وما دام أن لفظ ( الله ) يدور على ألسنتكم ولا بد أنكم تعرفون مدلوله، وهو قضية لغوية انتهيتم منها، وإلا فالأمر العدمي لا اسم له، فالتليفزيون مثلا : ما اسمه قبل أن يخترع ؟ لم يكن له اسم، لأنه لم يكن له معنى، فلما وجد وضع له الاسم.
وحيث دارت الألسنة بكلمة الله فمعنى ذلك أنه تعالى موجود قبل وجود الاسم، فالمسألة- إذن- حجة عليكم.
لذلك عرض الحق- سبحانه وتعالى- هذه القضايا في صورة سؤال لينتزع منهم الإقرار بها، كما لو أنكر شخص جميلك فيه، فإن قلت له على سبيل الإخبار : لقد قدمت لك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب وله أن يعترف أو ينكر.
أما حين تقول له : ألم أقدم لك كذا وكذا ؟ على سبيل الاستفهام، فإنه لا يملك إلا الاعتراف، وينطق لك بالحق وبالواقع، وتصل بإقراره إلى ما لا تؤديه الشهادة أو البينة عليه.
﴿ بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ( ٩٠ ) ﴾ :
يعني : دعوني أخبركم عن أمرهم، ولماذا أنكروا الحق ولم ينطقوا به، إنهم ينكرون الحق لأنهم كاذبون ويريدون أن يثبتوا أن ما هم عليه أمر طبيعي، لماذا ؟ لأنهم مستفيدون من الانحراف ومن الباطل، لذلك يقفون في وجه الرسالة التي جاءت لتعديل الميزان والقضاء على الانحراف والباطل، ويلجئون إلى تكذيبها وصرف الناس عنها ليظلوا ينتفعون هم بالباطل.
لذلك تأمل : لماذا يكذب الناس ؟ يكذبون لأنهم ينتفعون من الكذب، ويتعبهم الصدق، ويضيق عليهم الخناق.
﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ( ٩١ ) ﴾ :
يا ليت الأمر وقف بهم عند مجرد عدم الإيمان بالله، إنما تعداه إلى أن وصفوا الله تعالى بما لا يليق من الصفات، وما دام أن الله تعالى ينفي عن نفسه تعالى اتخاذ الولد ﴿ ما اتخذ الله من ولد.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فلا بد أنهم قالوا : اتخذ الله ولدا، فترقوا في فجورهم وطغيانهم، وتجرأوا حتى على مقام العزة.
ونقول أولا : ما الولد ؟ الولد ما ينجبه الإنسان من ذكر أو أنثى، وقد سمعنا هؤلاء يقولون : عيسى ابن الله، والعزير ابن الله، وقالوا عن الملائكة : بنات الله، وقد قال تعالى :﴿ ما اتخذ الله من ولد.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ليشمل البنين والبنات.
ومعنى ﴿ اتخذ الله من ولد.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أن الله تعالى كان موجودا، ثم اتخذ له ولدا، فاتخاذ الولد إذن حادث، وهذا يعني أنه قد مرت فترة لم يتخذ الله له فيها ولدا، لذلك نسأل : ما الذي زاد في ملك الله بوجود الولد ؟ هل أصبحت السماوات ثمانية ؟ هل زاد في الكون شمس أخرى أو قمر ؟ الكون كما خلقه الله تعالى، وجعل فيه ضرورياته وأصوله وفروعه لم يزد فيه شيء. إذن : فاتخاذ الولد عبث لم يحدث منه شيء.
ويقولون : اتخذ الله الولد ليؤنس خلقه بوجود ولده وشيء من رائحته بين الخلق، قالوا هذا في مؤتمر ( نيقية )، كأنه عندهم يقوم مقام الألوهية. لكن كم كانت مدة بقائه بينكم ؟ لقد أقام المسيح في الأرض بضعا وثلاثين سنة قبل أن يرفع، فكيف يحرم من هذا الأنس من سبقوا ميلاده عليه السلام ؟ وكيف يحرم منه من أتوا بعده ؟.
أليس في هذا ما يتعارض وعدالة الربوبية، لأن الخلق جميعا خلق الله، وهم عنده سواء ؟
ومنهم من يقول : إنه جاء ليرفع الخطيئة، لكن الخطيئة ما زالت في الأرض بعدما فعل ما فعل. إذن : فكلها حجج واهية.
ولو ناقشنا هذه المسألة مناقشة منطقية فلسفية : لماذا يتخذ الإنسان الولد ؟ يتخذ الإنسان الولد لأنه يحب الحياة، وموته يختصر هذه الحياة، فيريد الولد ليكون امتدادا لحياته، ويضمن به بقاء الذكر جيلا من بعده، فإن جاء للولد ولد ضمن جيلين، لذلك يقولون " أعز من الولد ولد الولد ". لكن أي ذكر هذا الذي يتمسكون به ؟ إن الذكر الحقيقي ما تخلفه من بعدك من عمل صالح يسبقك عند الله.
والحق- سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى ذكر من بعده تعالى، لأنه باق لا يموت، فهذه المسألة إذن ممنوعة في حقه تعالى.
وقد يتخذ الولد ليكون سندا وعونا لأبيه حين يكبر وتضعف قواه، لذلك يقولون : خير الزواج الزواج المبكر، لأنه يساعدك على إنجاب أب يعولك في طفولة شيخوختك، لأنك تنجب طفلا وأنت صغير، فيعاصرك أكبر مدة من الزمن، وتطول به قرة عينك على خلاف من ينجب على كبر، لذلك قال : أب يعولك في طفولة شيخوختك ولم يقل ابنا لأنك في هذه الحال تحتاج إلى حنان الأب.
وهذه أيضا ممتنعة في حقه تعالى، لأنه سبحانه القوي، ، الذي لا يحتاج إلى معين، ولا إلى عزوة.
مسألة أخرى : أن الإنسان يحب الولد، لأنه بعض منه، وهو سبب في وجوده، فيحب أن يكون له ولد من صلبه، وهذا فرع من حبه للتملك، فالإنسان أول ما يحب يحب أن تكون له أرض، ثم يحب أن يزرعها ويأكل من خيراتها، ثم يحب أن تكون له حيوانات يشرب لبنها ويستفيد منها، ثم إن تم له هذا كله يتطلع إلى الولد، وكأنه تدرج من حب الجماد إلى النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.
وهذه المسألة أيضا لا تجوز في حقه تعالى : فإن أحببت الولد ليكون جزءا منك ومن صلبك تعتز به وببنوته، فالخلق جميعا عيال الله وأولاده، فكيف يحتاج إلى الولد بعد ذلك ؟
إذن : كلها حجج ومسائل باطلة، لذلك رد الله عليهم ﴿ ما اتخذ الله من ولد.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وأتى بمن الدالة على العموم، يعني : ما اتخذ الله شيئا من بداية ما يقال له ولد، ولو كان حتى متبنى، كما تقول : ليس عندي مال، فتنفي أن يكون عندك مال يعتد به أو ذو قيمة، لكن هذا لا يمنع أن يكون عندك عدة جنيهات أو قروش. فإن قلت : ما عندي من مال، فقد نفيت أن يكون عندك أقل ما يقال له مال.
ونرد بهذه المسألة على من يقول أن ( من ) هنا زائدة، لأن كلام الله دقيق لا زيادة فيه، الزيادة في كلام البشر، والحق سبحانه منزه عن هذه المسألة.
ثم يرتقي بنا الحق سبحانه في الرد عليهم فيقول :﴿ وما كان معه من إله.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : معبود بحق أو بغير حق، لذلك سمى الأصنام آلهة، لكن كلمة الله انصرفت إلى المعبود بحق سبحانه وتعالى، فنفى الحق سبحانه الشركاء معه في العبادة، كما جاء في موضع آخر :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ الأنبياء ].
يعني : لو كان فيهما آلهة الله خارج منها لفسدت السماء والأرض، وكذلك لو كان فيهما آلهة مع الله لفسدتا أيضا، لأن إلا هنا ليست استثنائية، إنما هي اسم بمعنى غير، وقد ظهر إعرابها على لفظ الجلالة بعدها ( الله ).
ومسألة تعدد الآلهة لو تأملتها لبان لك بطلانها، فإن كان مع الله آلهة لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم، وجعلوه قطاعات، يأخذ كل منهم قطاعا فيه، فواحد للأرض، وآخر للسماء، وثالث لما بين الأرض والسماء وهكذا.
ولكن، هل يستغني قطاع من الكون عن الآخر ؟ أتستغني الأرض عن السماء ؟ إذن : سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون.
كذلك نقول : الإله الذي أخذ الأرض مثلا، لماذا لم يأخذ السماء ؟ لا بد أنه أخذ الأرض بقوته، وترك السماء لعجزه، ولا يصلح إلها من وصف بهذه الصفة، فإن قالوا : إنهم جميعا أقوياء يستطيع كل واحد منهم أن يخلق الخلق بمفرده نقول : إذن ما فائدة الآخرين ؟
ثم يقول سبحانه :﴿ إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : لو استقل كل منهم بقطاع من الكون دون الآخر لفسدت الأمور، كما رأينا في دنيا البشر أن يحاول أحد الملوك أن يستقل بقطاع من الأرض لا حق له فيه، ورأينا ما أحدثه من فساد في الأرض، هذا مثال لقوله تعالى :﴿ ولعلا بعضهم على بعض.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : وهي صورة من صور الفساد.
لذلك يعالج الحق سبحانه هذه القضية ويعلنها على الملأ :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم.. ( ١٨ ) ﴾ [ آل عمران ] :
فليس هذا كلامنا، وليست هذه شهادتنا، بل كلام الله وشهادته سبحانه لنفسه، لكن هل علم هؤلاء الآلهة بهذه الشهادة ؟ إن علموا بهذه الشهادة فسكوتهم عليها وعدم اعتراضهم عجز، وإن لم يدروا فهم غافلون نائمون، ففي كلتا الحالتين لا يصح أن يكونوا آلهة.
وفي موضع آخر يرد عليهم الحق سبحانه :﴿ لو كان معه آلهة كما يقولون إذا.. ( ٤٢ ) ﴾ [ الإسراء ] : يعني في هذه الحالة ﴿ لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾ [ الإسراء ] : يعني : ذهبوا يبحثون عن الإله الذي أخذ منهم الكون، وتعدى على سلطانهم، إما ليجابهوه ويحاكموه، وإما ليتقربوا إليه.
لذلك سيقول عن الذين تدعون أنهم آلهة من دون الله :﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة.. ( ٥٧ ) ﴾ [ الإسراء ] : يعني : عيسى والعزير والملائكة الذين قلتم إنهم بنات الله، هؤلاء جميعا يتوسلون إلى الله ويتقربون إليه ﴿ أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه.. ( ٥٧ ) ﴾ [ الإسراء ].
وفي موضع آخر يقول تعالى :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.. ( ١٧٢ ) ﴾ [ النساء ].
إنهم لا يستنكفون عن عبوديتهم لله، بل يعتزون بهذه العبودية، ويغضبهم ويسوؤهم أن نقول عنهم آلهة، أو نعطيهم من التقديس أكبر مما يستحقون، ذلك لأن ولاءهم وعصبيتهم لله تعالى أكبر من ولائهم وعصبيتهم لأنفسهم.
لذلك، فإن هذه الأشياء التي يتخذونها آلهة من دون الله هي أول من يلعنهم، فالأحجار التي عبدوها من دون الله- مع أن كلمة العبادة هنا خطأ ونقولها تجاوزا، لأن العبادة طاعة العابد لأمر المعبود، وانتهاؤه بنهيه، والأحجار ليس لها أوامر وليس لها نواه- هذه الأحجار أعبد منهم لله، وأعرف منهم بالله، لذلك تكرههم الحجارة وتلعنهم، وتتحول عليهم في القيامة نارا تحرقهم.
اقرأ هذا الحوار الذي يتنافس فيه غار حراء الذي شهد بداية الوحي وأنس فيه رسول الله ( ص ) بأول آيات القرآن، وغار ثور الذي احتمى فيه رسول الله عند الهجرة، وكلاهما أحجار، يقول الشاعر١ :
كم حسدنا حراء حين ترى**** الروح أمينا يغذوك بالأنوار
فحراء وثور صارا سواء**** بهما اشفع لدولة الأحجار
عبدونا ونحن أعبد لله**** من القائمين بالأسحار
تخذوا صمتنا علينا دليلا**** فغدونا لهم وقود النار
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوه**** على ابن مريم والحواري
للمغالي جزاؤه والمغالى**** فيه تنجيه رحمة الغفار
لذلك يقول تعالى لعيسى عليه السلام :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله.. ( ١١٦ ) ﴾ [ المائدة ].
فيقول عيسى :﴿ إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ( ١١٦ ) ﴾ [ المائدة ].
نعم، الله تعالى يعلم ما قال عبده ونبيه عيسى، لكن يريد أن يقر عليهم بأنه كاره لقولهم هذه الكلمة.
والنبي ( ص ) حينما هزم الرومان من الفرس حزن لهزيمة الرومان، لماذا ؟ لأنهم أهل كتاب يعرفون الله، ويعرفون البلاغ عن الله، وإن كانوا كافرين به، أما الفرس فكانوا مجوسا يعبدون النار، لذلك يطمئنه ربه بقوله :﴿ ألم ( ١ ) غلبت الروم ( ٢ ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( ٣ ) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( ٤ ) بنصر الله.. ( ٥ ) ﴾ [ الروم ].
فإن كانوا لا يؤمنون بمحمد، فهم يؤمنون برب محمد، فالعصبية- إذن- لله أكبر من العصبية للرسول المبلغ عن الله.
ثم يقول سبحانه :﴿ سبحان الله عما يصفون ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يصفون بمعنى : يكذبون، لكن عبر عنه بالوصف كأن المعنى : إن أردت أن تعرف الكذب فاسمع إلى كلامهم فهو الوصف الدقيق له، وقال في موضع آخر :﴿ وتصف ألسنتهم الكذب.. ( ٦٢ ) ﴾ [ النحل ]. فكلامهم هو الكذب بعينه، وهو أصدق وصف له، لأن الكذب ما خالف الواقع، وهم لا يقولون إلا ما خالف الواقع.
كما لو سألت : ما الحماقة ؟ فأقول لك : انظر إلى تصرفات فلان، يعني : هي الوصف الصادق للحماقة، والترجمة الواضحة لها، وكأنه بلغ من الوصف مبلغا يجسم لك المعنى الذي تريده.
ومعنى :﴿ سبحان الله.. ( ٩١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تنزه، وهي مصدر وجد قبل أن يوجد المسيح، فهي صفة لله تعالى أزلية، حيث ثبت تنزيه الله قبل أن يخلق الخلق، فلما خلق الله السماء والأرض سبحت لله :﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض.. ( ١ ) ﴾ [ الحديد ] : ولم ينقطع التسبيح بعد ذلك، قال الحق سبحانه :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. ( ١ ) ﴾ [ الجمعة ].
وما دام الكل يسبح لله، وما زال مسبحا، فسبح أنت يا محمد :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ( ١ ) ﴾ [ الأعلى ].
فكيف يكون الكون كله مسبحا، ولا تسبح أنت، وأنت سيد هذا الكون ؟.
﴿ عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ( ٩٢ ) ﴾ :
العلم : إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط، فإن كانت القضية مجزوما بها وواقعة، لكن لا تستطيع أن تدلل عليها كالطفل حين يقول : الله أحد، فهذا تقليد كما يقلد الولد أباه أو معلمه، فهو يقلد غيره في هذه المسألة إلى أن يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يدلل عليها.
فإن كانت القضية مجزوما بها وليست واقعة، فهذا هو الجهل، فليس الجهل كما يظن البعض ألا تعلم، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع.
لذلك تجد الجاهل أشق وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئا، ليست لديه قضية بداية، فهذا ينتظر منك أن تعلمه، أما الجاهل فيحتاج إلى أن تخرج من ذهنه القضية الخاطئة أولا، ثم تضع مكانها الصواب.
والغيب : المراد به الغيب المطلق يعني : ما غاب عنك وعن غيرك، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا، إنما نحن غيب لمن غاب عنه، وهذا غيب مقيد، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما، لأن هذه الأشياء كانت غيبا عمن قبلنا مع أنها كانت موجودة، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنا وصارت مشهدا، لذلك قال تعالى :﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.. ( ٢٥٥ ) ﴾ [ البقرة ].
فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى، فإن شاء أطلعهم على الغيب، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره.
إذن : المعلوم لغيرك وغيب عنك ليس غيبا، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات توصل إليه ليس غيبا، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك، والذي قال الله تعالى عنه :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ( ٢٦ ) إلا من ارتضى من رسول.. ( ٢٧ ) ﴾ [ الجن ] :
والشهادة : يعني المشهود، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب، فمن باب أولى يعلم المشهود، فلماذا ذكر الشهادة هنا ؟ قالوا : المعنى : يعلم الغيب الذي غيب عني، ويعلم الشهادة لغيري.
ومن ناحية أخرى : ما دام أن الله تعالى غيب مستتر عنا، وهناك كون ظاهر، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب، فأراد- سبحانه وتعالى- أن يؤكد على هذه المسألة، فهو سبحانه غيب، لكن يعلم الغيب والشهادة.
ونرى من الناس من يحاول أن يهتك ستار الغيب، ويجتهد في أن يكشف ما استتر عنه، فيذهب إلى العرافين والمنجمين وأمثالهم، وهو لا يدري أن الغيب من أعظم نعم الله على خلقه، فالغيب هو علة إعمار الكون، وبه يتم التعامل بين الناس، ذلك لأن الإنسان ابن أغيار، كثير التقلب، ولو علم كل منا وكشف له ما عند أخيه لتقاطع الناس، وما انتفع بعضهم ببعض.
لذلك يقولون : لو تكاشفتم ما تدافنتم. يعني : لو كشف لك عما في قلب أخيك لضننت عليه حتى بدفنه بعد موته.
إذن : فجعل هذه المسائل غيبا مستورا يحنن القلوب، ويثري الخير بين الناس، فينتفع كل منهم بالآخر، وإلا لو علمت لواحد سيئة، وعرفت موقفه العدائي منك لكرهت حتى الخير الذي يأتيك من ناحيته، ولتحرك قلبك نحوه بالحقد والغل، وما انتفعت بما فيه من حسنات.
لذلك، نقول لمن يبحث عن غيب الآخرين : إن أردت أن تعرف غيب غيرك، فاسمح له أن يعرف غيبك، ولن تسمح له بذلك، إذن : فدع الأمر كما أراده الله، ولا تبحث عن غيب الآخرين حتى تستقيم دفة الحياة.
وربك دائما يلفتك إلى النظر إلى المقابل، ففي الحديث القدسي : " يا ابن آدم، دعوت على من ظلمك، ودعا عليك من ظلمته، فإن شئت أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت تركتكما إلى الآخرة فيسعكما عفوي " ١.
فالحق- تبارك وتعالى- يريد أن يصفي نفوس الخلق، وأن يقف الناس عند حدود ما أطلعك الله عليه، ولا تبحث عن المستور حتى لا تتعب نفسك، حتى تواجه مشاكل الحياة بنفس صافية راضية عنك وعن الناس.
ثم يقول تعالى :﴿ فتعالى عما يشركون ( ٩٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئا من هذا كله، لا غيبا ولا شهادة، لذلك لا ينفعك إن عبدته، ولا يضرك إن لم تعبده.
﴿ قل رب إما تريني ما يوعدون ( ٩٣ ) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( ٩٤ ) ﴾ :
﴿ قل.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أمر من الله تعالى لرسوله ( ص ) ﴿ رب.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : منادى حذفت منه أداة النداء يعني : يا رب ﴿ إما تريني ما يوعدون ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : من العذاب ﴿ رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( ٩٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : إن قدرت أن تعذبهم في حياتي فلا تعذبهم وأنا فيهم.
وهذا من رقة قلبه ( ص )، وحين اشتد به إيذاء الكفار وعنادهم في أول الدعوة أرسل الله إليه الملائكة تعرض عليه الانتقام من قومه المكذبين به، لكنه يأبى ذلك ويقول : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ١
ويقول : " لعل الله يخرج من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله " ٢.
كما أن موقفه يوم فتح مكة واضح ومعروف، ذلك لأنه ( ص ) أرسل رحمة للعالمين.
لكن، هل قال الرسول ودعا بهذا الدعاء لأنه يعتقد أن الله يجعله معهم حين ينزل بهم العذاب ؟ نقول : لا، لأنه لم يقل هذه الجملة من نفسه، إنما أمره الله بها، ولم يكن رسول الله ليعتقد هذا الاعتقاد، إذن : المسألة وحي من الله لا بد أن يبلغه، وأن يقولها كما قالها الله، لأن مدلولها رحمة به في ألا يرى من يعذب، أو من باب قوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأنفال ] : وهذا الدعاء الذي دعا به رسول الله يدفع عنه أي خطر يطرأ عليه، ويطمئنه أن هذا الأمر لن يحدث.
وقوله :﴿ إما تريني.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : عبارة عن ( إن ) و( ما ) وهما يدلان على معنى الشرطية والزمنية، فكأنه قال : قل ساعة أن ينزل بهم العذاب : رب لا تجعلني في القوم الظالمين.
٢ - أخرج البخاري في صحيحه (٣٢٣١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٩٥) كتاب الجهاد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي (ص): هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهوم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي (ص): بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا..
﴿ قل رب إما تريني ما يوعدون ( ٩٣ ) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( ٩٤ ) ﴾ :
﴿ قل.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أمر من الله تعالى لرسوله ( ص ) ﴿ رب.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : منادى حذفت منه أداة النداء يعني : يا رب ﴿ إما تريني ما يوعدون ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : من العذاب ﴿ رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( ٩٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : إن قدرت أن تعذبهم في حياتي فلا تعذبهم وأنا فيهم.
وهذا من رقة قلبه ( ص )، وحين اشتد به إيذاء الكفار وعنادهم في أول الدعوة أرسل الله إليه الملائكة تعرض عليه الانتقام من قومه المكذبين به، لكنه يأبى ذلك ويقول :" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ١
ويقول :" لعل الله يخرج من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله " ٢.
كما أن موقفه يوم فتح مكة واضح ومعروف، ذلك لأنه ( ص ) أرسل رحمة للعالمين.
لكن، هل قال الرسول ودعا بهذا الدعاء لأنه يعتقد أن الله يجعله معهم حين ينزل بهم العذاب ؟ نقول : لا، لأنه لم يقل هذه الجملة من نفسه، إنما أمره الله بها، ولم يكن رسول الله ليعتقد هذا الاعتقاد، إذن : المسألة وحي من الله لا بد أن يبلغه، وأن يقولها كما قالها الله، لأن مدلولها رحمة به في ألا يرى من يعذب، أو من باب قوله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.. ( ٢٥ ) ﴾ [ الأنفال ] : وهذا الدعاء الذي دعا به رسول الله يدفع عنه أي خطر يطرأ عليه، ويطمئنه أن هذا الأمر لن يحدث.
وقوله :﴿ إما تريني.. ( ٩٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : عبارة عن ( إن ) و( ما ) وهما يدلان على معنى الشرطية والزمنية، فكأنه قال : قل ساعة أن ينزل بهم العذاب : رب لا تجعلني في القوم الظالمين.
٢ - أخرج البخاري في صحيحه (٣٢٣١)، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٩٥) كتاب الجهاد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي (ص): هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهوم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي (ص): بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا..
أي : أننا قادرون على أن نريك شيئا مما وعدناهم به من العذاب، لكنه ليس عذاب الاستئصال، لأن الله تعالى أكرم أمتك- حتى الكافر منها- بأن عافاها من هذا العذاب، لأنه يأتي على الكافرين فلا يبقي منهم أحدا، ويمنع أن يكون من ذريتهم مؤمن بالله. فهب أن عذاب الاستئصال نزل بهم في بدر مثلا، أكنا نرى المؤمنين منهم ومن ذرياتهم بعد بدر ؟.
إذن : لا يكون عذاب الاستئصال إلا إذا علم الله تعالى أنه لا فائدة منهم، ولا حتى من ذريتهم من بعدهم، كما حدث مع قوم نوح، ألا ترى نوحا عليه السلام يقول عنهم :﴿ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ( ٢٧ ) ﴾ [ نوح ].
ولا يمكن أن يقول نوح هذا الكلام، أو يحكم على قومه هذا الحكم إلا بوحي من الله، لأنه لا يستطيع أن يحكم على هذه القضية الكونية التي لا يعلمها إلا المكون الأعلى سبحانه، فنحن نرى عتاة الكفر ورؤوس الضلال، ثم يؤمنون بعد ذلك كلهم ويبلون في الإسلام بلاء حسنا.
وانظر إلى عكرمة وخالد وعمرو بن العاص، وكم تألم المؤمنون وحزنوا لأنهم أفلتوا من القتل، لكن لله تعالى تدبير آخر، وكأنه يدخرهم لخدمة الإسلام وحماية الدعوة.
فعكرمة بن أبي جهل يظهر شجاعة نادرة في موقعة اليرموك حتى يطعن طعنة الموت، ويستند إلى عمر ويقول وهو يجود بروحه في سبيل الله : أهذه ميتة ترضي عني الله ورسوله ؟.
هذا في يوم الخندمة١ الذي قال فيه الشاعر٢ :
إنك لو شاهدت يوم الخندمه
إذ فر صفوان وفر عكرمه
ولحقتنا بالسيوف المسلمه
يفلقن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت٣ حوله وحمحمه
لم تنطقي باللوم أدنى كلمه٤
أما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد كان من أمرهما ما نعرف جميعا.
٢ - جاء في لسان العرب: أن هذا الرجز نسبه ابن السيد البطليوسي في المثلث للراعش الهذلي، وذكر ابن بري أنه حماس بن قيس بن خالد الكناني. وقيل: إن هذا الرجز لهريم ابن الحطيم..
٣ - النهيت: الصياح. وقيل: هو الصوت من الصدر عند المشقة. [لسان العرب- مادة: نهت]..
٤ - أورد ابن منظور هذه الأبيات في [لسان العرب- مادة: خندم] من قول الراعش الهذلي لامرأته وكانت لامته على انهزامه فقال هذه الأبيات. وكان قد قال قبل ذلك:
إن يقبلوا اليوم فما بي علة
هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السله.
﴿ ادفع.. ( ٩٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تدل على المدافعة يعني : أمامك خصم يهاجمك، يريد أن يؤذيك، وعليك أن تدفعه عنك، لكن دفع بالتي هي أحسن أي : بالطريقة أو الحال التي هي أحسن، فإن أخذك بالشدة فقابله باللين، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلفهم من حولك.
كما جاء في قوله تعالى :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.. ( ١٥٩ ) ﴾ [ آل عمران ].
فإن أردت أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح، يوم أن مكنه ربه من رقاب أعدائه، ووقف أمامهم يقول : يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " ١.
ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم، وذكروه بأواصر القرابة والرحم، وحدثوه بما يحنن قلبه، ولقنوه ما ينتفعون هم به : أخ كريم وابن أخ كريم، ولم يقولوا مثلا : أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء.
وفعلا كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله ( ص ).
وقصة فضالة٢ الذي كان يبغض رسول الله، حتى قال قبل الفتح : والله ما أحد أبغض إلي من محمد، وقد زاد غيظه من رسول الله حينما رآه يدخل مكة ويحطم الأصنام، فأراد أن يشق الصفوف إليه ليقتله، وبعدها قال : " فوالله، ما وضعت يدي عليه حتى كان أحب خلق الله إلي " ٣.
لكن ماذا ندفع ؟ ندفع ( السيئة ). ونلحظ هنا أن ربنا- تبارك وتعالى- يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن، لا بالحسن، لأن السيئة يقابلها الحسنة، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال، فيقول لك : ادفع السيئة بالأحسن.
وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرف الإيماني :﴿ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( ٣٤ ) ﴾ [ فصلت ] : ولو تأملت معنى هذه الآية لوجدت أن المجازاة من الله، وليست ممن عاملته هذه المعاملة، لأن الله تعالى يقول :﴿ كأنه.. ( ٣٤ ) ﴾ [ فصلت ] : ولم يقل : يصبح لك وليا حميما.
ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك، ويندم على إساءته لك، ويحاول أن يعوضك عنها فيما بعد، وألا يعود إلى مثلها مرة أخرى، لكنه مع كل هذا لا يسمى وليا حميما، إنما هو ولي وحميم، لأنه كان سببا في أن يأخذك ربك إلى جانبه، ويتولاك ويدافع عنك.
لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبه في أحد المجالس، وكان في وقت رطب البلح أرسل الحسن إليه طبقا من الرطب وقال لخادمه : اذهب به إلى فلان وقل له : لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك٤.
إذن : من الغباء أن نتناول الآخرين بالهمز واللمز والطعن والغيبة، فإنك بهذا الفعل كأنك أهديت لعدوك حسناتك، وأعطيت أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك.
ألا ترى موقف الأب حين يقسو على ولده، فيستسلم له الولد ويخضع، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظلمه ولا يقابله بالمثل، ساعتها يحنو الأب على ولده، ويزداد عطفا عليه، ويحرص على ترضيته، كذلك يعامل الحق- تبارك وتعالى- العباد فيما بينهم من معاملات- ولله المثل الأعلى. لذلك قلنا : لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لضن عليه بالظلم، لأنه سيظلمه من ناحية، ويرضيه الله من ناحية أخرى.
ويقال : إنه كان عند أحد الملوك رجل ينفس فيه الملك عن نفسه، فإن غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبه أمام الناس حتى يهدأ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيسا من المال، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمرا عنده، فحاول أن يتمحك ليصل إلى الملك، ثم قال له : ألست في حاجة لأن تشتمني اليوم ؟.
فمسألتنا بهذا الشكل، إذن : ما عليك إلا أن تدفع بالتي هي أحسن، فإن صادفت من صاحبك مودة وصفاء، وإلا فجزاء الله لك أوسع، وعطاؤه أعظم، وما أجمل قول الشاعر٥ حين عبر عن هذا المعنى :
يا من تضايقه الفعال من التي ومن الذي
ادفع فديتك بالتي حتى ترى فإذا الذي
يعني : إن أردت الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، فاعمل بالتي هي أحسن.
ثم يقول سبحانه :﴿ نحن أعلم بما يصفون ( ٩٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : معناه : أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك، لكن الحال أننا نعرفه جيدا ونحصيه عليهم، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب، فدع هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يريد أن ينزه ذات رسوله ( ص ) من انفعالات الغضب، وألا ينشغل حتى بمجرد الانفعال، لأنه حين يتعرض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه، وخصوصا إذا كان هذا الرد مخالفا لطبعك الحسن وخلقك الجميل، فكأنه يكلفك شيئا فوق طاقتك.
فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه : دعك منهم، وفوض أمرهم إلينا، فنحن أعلم بما يصفون أي : بما يكذبون في حقك.
٢ - هو: فضالة بن عمير بن الملوح الليثي (الإصابة ت ٦٩٨٨)..
٣ - ذكر ابن عبد البر في كتاب الدرر في السير له أن النبي (ص) مر به يوم الفتح وهو عازم على الفتك به فقال له: ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء كنت أذكر الله تعالى. فضحك رسول الله (ص) وقال: أستغفر الله لك. ثم وضع يده على صدره. قال: فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه. ذكره ابن حجر العسقلاني في الإصابة (ترجمة ٦٩٨٨)..
٤ - ذكره أبو حامد الغزالي (٣/١٥٤) أن رجلا قال للحسن: إن فلانا قد اغتابك فبعث إليه رطبا على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام..
٥ - الشيخ رحمه الله وعفا عنه..
﴿ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ( ٩٧ ) ﴾ :
لماذا جاءت الاستعاذة من همزات الشياطين بعد هذه المسألة ؟ قالوا : لأن الشيطان يريد أن يتدخل، ويظهر لك أنه معك، وأنه يغار عليك، فيحرضك عليهم ويغريك بهم، ويدفعك إلى الانتقام منهم والتسلط عليهم.
وهمزات : جمع همزة، وهي النزغة أو النخسة يثير بها الشيطان الإنسان، ومنه قوله تعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. ( ٢٠٠ ) ﴾ [ الأعراف ].
يعني : إن دخل عليك الشيطان بهمزه ووسوسته فقل : أعوذ بالله من همزات الشياطين، بل وأزيد من ذلك الزم جانب الحيطة معه، فقل : أعوذ بالله أن يحضرون مجرد حضور، وإن لم يهمزوا لي، فأنا لا أريدهم في محضري، ولا أريد أن أجالسهم.
ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويوقن أنه ميت تتكشف له الحقائق ويرى ما لا نراه نحن، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( ٢٢ ) ﴾ [ ق ] :
فيتمنى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو ما يزال يحتضر، لماذا ؟ لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويكذب بها، والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يرون منهم إشارات تدل على أنهم يرون أشياء لا نراها نحن، كل حسب حاله وخاتمته.
وأذكر حين مات أبي، وكان على صدري ساعتها أنه قال لي : يا أمين- وهذا اسمي في بلدي- كيف تبنى كل هذه القصور ولا تخبرني بها ؟
والجنود الذين صاحوا في المعركة : هبي يا رياح الجنة. لا بد أنهم رأوها وشموا رائحتها، وإلا ما الذي جعلهم يتلهفون للموت، ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالا ينتظرهم أفضل مما هم فيه.
ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدثه رسول الله ( ص ) عن أجر الشهداء عند الله، وكان في يده تمرات أو في فمه يمضغها، فقال : يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فأقتل في سبيل الله ؟ قال : نعم، فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة١.
كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مضغ هذه التمرات. فإلى هذه الدرجة بلغ يقين هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله.
ونلحظ في هذه الآية :﴿ حتى إذا جاء أحدهم الموت.. ( ٩٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : هكذا بصيغة المفرد ﴿ قال رب ارجعون ( ٩٩ ) ﴾ [ المؤمنون ] : جاء بالجمع على سبيل التعظيم، ولم يقل : رب ارجعني، كما جاء في قوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾ [ الحجر ].
فهنا الحق- تبارك وتعالى- يعظم ذاته، لكن هذا يعظم الله الآن، وهو في حال الاحتضار، وقد كان كافرا به، وهو في سعة الدنيا وبحبوحة العيش.
أو : أنه كرر الطلب : أرجعني أرجعني أرجعني، فجمعها الله تعالى. أو : أنه استغاث بالله فقال : رب ثم خاطب الملائكة : ارجعون إلى الدنيا.
﴿ لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ :
أي : أنني تركت كثيرا من أعمال الخير، فلعلي إن رجعت بعد أن عاينت الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات، أو لعلي أعمل صالحا فيما تركت، لأنني ضننت بمالي وبمجهودي وفضلي على الناس، وكنزت المال الكثير، وتركته خلفي ثم أحاسب أنا عليه، فإن عدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة.
ثم تأتي الإجابة :﴿ كلا إنها كلمة هو قائلها.. ( ١٠٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : قوله : ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، إنها مجرد كلمة لا واقع لها، كلمة يقولها وقت الضيق والشدة، فالله تعالى لن يرجعهم، ولو أرجعهم ما فعلوا، لذلك نفاها بقوله ( كلا ) التي ترد على قضايا تريد إثباتها، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ( ١٥ ) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ( ١٦ ) ﴾ [ الفجر ].
فيرد الحق سبحانه :( كلا ) لا أنت صادق ولا هو، فليس المال والغنى وكثرة العرض دليل كرامة، ولا الفقر دليل إهانة، فكلتا القضيتين خطأ، بدليل أنك إذا أعطاك الله المال، ثم لا تؤدي فيه حق الله وحق العباد، ولا يعينك على أداء ما فرض عليك صار المال وبالا عليك وإهانة لا كرامة. ما جدوى المال إن دخلت في قوله تعالى :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ( ١٧ ) ﴾ [ الفجر ] ؟ ساعتها سيكون مالك حجة عليك.
كذلك الحال مع من يظن أن الفقر إهانة، فإن سلب الله منك المال الذي يطغيك فقد أكرمك، وإن كنت لا تدري بهذا الإكرام.
ثم يقول سبحانه :﴿ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : كيف يتمنون الرجوع وبينهم وبينه برزخ يمنعهم العودة إلى الدنيا، لذلك تسمى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية، فليست من الدنيا، وليست من الآخرة.
وفي موضع آخر يصور الحق سبحانه هذا الموقف بقوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.. ( ٢٨ ) ﴾ [ الأنعام ] : أي : لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله، وإن كانت هذه قضية عقلية ففي واقعهم ما يثبت صدق هذه القضية، واقرأ فيهم قول الله تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه.. ( ٨٣ ) ﴾ [ الإسراء ] : فأخذ نعمة الله وتقلب فيها، ثم تنصل من طاعة الله.
ويقول تعالى في هذا المعنى أيضا :﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه.. ( ١٢ ) ﴾ [ يونس ].
إذن : المسألة اضطرارات، كلما اضطروا دعوا الله ولجئوا إليه، وتوسلوا، فخذوا من واقع حياتهم ما يدل على صدق حكمي عليهم لو عادوا من الآخرة.
والبرزخ : هو الحاجز بين شيئين، وهذا الحاجز يأخذ قوته من صاحب بنائه، فإن كان هذا الحاجز من صناعته- سبحانه وتعالى- فلن ينفذ منه أحد.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ مرج١ البحرين يلتقيان ( ١٩ ) بينهما برزخ لا يبغيان ( ٢٠ ) ﴾ [ الرحمن ] : وما داما يلتقيان، فما فائدة البرزخ هنا ؟.
قالوا : نعم يلتقيان، ولا يبغى أحدهما على الآخر، لأن المسألة ليست سدا أو بناء هندسيا، إنما برزخ خاص لا يقدر عليه إلا طلاقة القدرة الإلهية التي خرقت النواميس، فجعلت الماء السائل جبلا، بعد أن ضربه موسى بعصاه، فصار كل فرق كالطود العظيم، طلاقة القدرة التي فجرت الحجر عيونا.
إذن : المسألة ليست ( ميكانيكا ) كما يظن البعض. والبرزخ بين الماء المالح والماء العذب آية من آيات الله شاخصة أمامنا، يمكننا جميعا أن نتأكد من صحة هذه الظاهرة.
لكن هذا البرزخ من أمامهم، فلماذا قال تعالى :﴿ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] :
قالوا : لأن اللفظ الواحد يطلق في اللغة وله معان عدة واللفظ واحد، لذلك يسمونه المشترك، فمثلا كلمة عين تطلق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وتقال للذهب والفضة، وللرجل البارز في قومه، والسياق هو الذي يحدد المعنى المراد، لذلك على السامع أن تكون عنده يقظة ليرد اللفظ إلى المعنى المناسب لسياقه.
وكذلك كلمة ( النجم ) فتعني الكوكب في السماء، وتعني كذلك ما لا ساق له من النبات، وهو العشب الذي ترعاه البهائم، ومنه قول الشاعر :
أراعي النجم في سيري إليكم**** ويرعاه من البيدا جوادي
فكلمة ( وراء ) تطلق ويراد بها معان عدة، قد تكون متقابلة يعينها السياق، فتأتي وراء بمعنى ( بعد ) كما في قوله تعالى :﴿ ومن وراء إسحاق يعقوب ( ٧١ ) ﴾ [ هود ]، وتأتي بمعنى ( غير ) كما في قوله تعالى :﴿ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( ٧ ) ﴾ [ المؤمنون ]،
وتأتي بمعنى ( أمام ) كما في قوله تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( ٧٩ ) ﴾ [ الكهف ] : فالملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة قادمة. وكذلك في قوله تعالى :﴿ من ورائه جهنم ( ١٦ ) ﴾ [ إبراهيم ].
فقوله تعالى :﴿ ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ١٠٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : من أمامهم.
﴿ فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( ١٠١ ) ﴾ :
الصور : البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث.
والأنساب : جمع نسب، وهو الالتقاء في أصل مباشر، كالتقاء الابن بالأب، أو الأب بالابن، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة، والنسب هو أول لحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل، لكن لا بد أن يكون لك نسب وقرابة وأهل.
فحين ينفي الحق- سبحانه وتعالى- النسب يقول :﴿ فلا أنساب بينهم.. ( ١٠١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فليس النفي لوجود النسب، فإذا نفخ في الصور منعت البنوة من الأبوة، أو الأبوة من البنوة. إنما النسب موجود حقيقة، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحدا، فالنسب موجود لكن دون نفع، فالنفع من أمور الدنيا أن يوجد قوي وضعيف، فالقوي يعين الضعيف، ويفيض عليه، أما في هذا الموقف فالكل ضعيف.
كما قال تعالى :﴿ يوم يفر المرء من أخيه ( ٣٤ ) وأمه وأبيه ( ٣٥ ) وصاحبته وبنيه ( ٣٦ ) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ( ٣٧ ) ﴾ [ عبس ].
ويقول :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ( ٣٨ ) ﴾ [ المدثر ].
لذلك حينما حدث رسول الله ( ص ) أننا سنحشر يوم القيامة حفاة عراة تعجبت السيدة عائشة، واستحيت من هذا الموقف، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك، فهذا موقف ينشغل كل بنفسه، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد١.
إذن : النفي لنفع الأنساب، لا للأنساب نفسها.
وإن كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إن كانوا غير مؤمنين، وقد ضربها الله مثلا في قصة نوح- عليه السلام- وولده، وخاطبه ربه :﴿ إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح.. ( ٤٦ ) ﴾ [ هود ] : فامتنع النسب حتى في الدنيا، فالبنوة ليست بنوة الدم واللحم، البنوة- خاصة عند الأنبياء- بنوة عمل واتباع.
وإذا تأملت تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزون بالإسلام، لا بالأنساب، فالدين والعقيدة هما اللحمة، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره، وإن كان أدنى منه في مقاييس الحياة.
قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير٢- رضوان الله عليه- وكان فتى قريش المدلل، وأغنى أغنيائها، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة، فلما أشرب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم، وحرم من خير أهله، ثم هاجر إلى المدينة، وهناك رآه رسول الله ( ص ) يلبس جلد شاة فقال : " انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم " ٣.
وفي المعركة رأى مصعب أخاه أبا عزيز٤ أسيرا في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليسر٥ فقال له مصعب : اشدد على أسيرك- يعني : إياك أن يفلت منك- فإن أمه غنية، وستفديه بمال كثير، فنظر أبو عزيز إلى مصعب وقال : أهذه وصايتك بأخيك ؟ فقال : هذا أخي دونك.
إذن : فلا أنساب بينهم، حتى في الدنيا قبل الآخرة.
وفي غزوة أحد استشهد مصعب بن عمير، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوبا قصيرا، إن غطى رأسه انكشفت رجلاه، وإن غطى رجليه انكشفت رأسه، فقال النبي ( ص ) : " غطوا رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر " ٦.
والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمت وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من أجل دينها، ولكن من أجل زوجها، فيشاء الله تعالى أن يظهر براءتها، فيتنصر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان، ولما علم رسول الله ( ص ) بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها، فوكل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها٧.
وبعد زواجها من رسول الله ( ص ) أراد أبوها أبو سفيان زيارتها، وكانت تمهد فراش رسول الله، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نحته جانبا، ومنعته أن يجلس- وهو كافر- على فراش رسول الله، فقال : أضنا بالفراش علي ؟ فقالت : نعم٨.
إذن : نفع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة، لكن الحق- سبحانه وتعالى- تفضل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين، لأنه سبحانه وسع الكافر، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أولى، فإن رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تعينه فأعنه.
واقرأ في هذا قوله تعالى :﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا.. ( ١٥ ) ﴾ [ لقمان ].
فهما كافران، بل ويريدانك كافرا، ومع ذلك احفظ لهما حق النسب، ولا تقطع الصلة بهما.
ويروى أن إبراهيم- عليه السلام- وقد أعطاه الله الخلة، وقال عنه :﴿ وإبراهيم الذي وفى ( ٣٧ ) ﴾ [ النجم ] : وابتلاه بكلمات فأتمهن، مر عليه عابر سبيل بليل، فقبل أن يدخله ويضيفه سأله عن ديانته، فأخبره أنه غير مؤمن، فأعرض عنه إبراهيم- عليه السلام- وتركه ينصرف، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم وسعت عبدي وهو كافر بي، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة ؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه، فقال الرجل : نعم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله.
ويرتقي أهل المعرفة بالنسب، فيرون أنه يتعدى الارتباط بسبب وجودك، وهو الأب أو الأم، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء، أو تفرع شيء من شيء، فهناك نسب أعلى، لا لمن أوجدك بسبب، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولا الذي أوجدك من عدم، وإن أثبت حقا للوالدين، لأنهما سبب وجودك. فكيف بالموجد الأعلى ؟.
وقوله تعالى :﴿ ولا يتساءلون ( ١٠١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : سأل : تقتضي سائلا ومسئولا، أما الفعل ( تساءل ) فيدل على المفاعلة يعني : كل منهما سائل مرة، ومسئول أخرى، كما تقول : شارك محمد عمرا، وقاتل.. الخ.
وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله، قائلين : إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقل ما فيه، لماذا وقد قال الله تعالى عن القرآن :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ( ٨٢ ) ﴾ [ النساء ].
يقول هؤلاء : إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية، وأثبته في قوله تعالى :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( ٢٥ ) ﴾ [ الطور ] في الحوار بين الكفار.
وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين :﴿ كل نفس بما كسبت رهينة ( ٣٨ ) إلا أصحاب اليمين ( ٣٩ ) في جنات يتساءلون ( ٤٠ ) عن المجرمين ( ٤١ ) ما سلككم في سقر ( ٤٢ ) قالوا لم نك من المصلين ( ٤٣ ) ولم نك نطعم المسكين ( ٤٤ ) وكنا نخوض مع الخائضين ( ٤٥ ) وكنا نكذب بيوم الدين ( ٤٦ ) ﴾ [ المدثر ].
ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( ٢٥ ) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ( ٢٦ ) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ( ٢٧ ) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ( ٢٨ ) ﴾ [ الطور ].
إذن : كيف بعد ذلك ينفي التساؤل ؟ ويقول :﴿ ولا يتساءلون ( ١٠١ ) ﴾ [ المؤمنون ] :
وهذا التضارب الذي يرونه تضارب ظاهري، لأن هناك فرقا بين أن تسمع عن شيء وبين أن تفاجأ به وأنت غير مؤمن، لقد قالوا :﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ( ٣٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فحين فوجئوا بالنفخ في الصور، وداهمتهم القيامة التي كانوا يكذبون بها بهتوا ودهشوا، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمرا واقعا لا مفر منه، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضا عما هم فيه وعما نزل بهم.
إذن : فالسؤال له زمن، ونفي السؤال له زمن، لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة منفكة، فإذا رأيت شيئا واحدا أثبت مرة، ونفي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب، فاعلم أن الجهة منفكة.
ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضا في سؤال أهل المعاصي، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ( ٢٤ ) ﴾ [ الصافات ]، ويقول في نفي سؤالهم ﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( ٣٩ ) ﴾ [ الرحمن ] : فكيف يثبت الفعل وينفيه، والفاعل واحد ؟.
وهذا الاعتراض منهم ناشئ عن عدم فهم للغة القرآن والملكة العربية، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله. لكن رب ضارة نافعة، فقد حركت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدي لهم، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطعم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض.
وسيدنا عمر- رضي الله عنه- وكان القرآن ينطق على وفق ما يريد، يرى الناس يقبلون الحجر الأسود، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر، وكان رضي الله عنه يقبله ويقول : " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك " ٩.
فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادة لها عندنا، لكن عندنا النبي ( ص ) وهو مشرع لنا وواجب علينا اتباعه، وهكذا كان رد عمر على من أثاروا هذه الفتنة.
ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان ملهما يوافق قوله قول القرآن الكريم، وقفت له امرأة وراجعته وقالت له : أخطأت يا عمر، كيف تنهى عن الغلاء في المهور، والله تعالى يقول :﴿ وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا.. ( ٢٠ ) ﴾ [ النساء ].
فأجاز أن يكون المهر قنطارا من ذهب، عندها قال عمر بجلالة قدره : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " ١٠ ليبين أنه لا كبير أمام شرع الله.
إذن : هذه مسائل مرسومة ولها أصل، يجب أن تعلم لنرد بها حين نسأل في أمور ديننا.
نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى. ونقول : جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال ممن يجهل ويريد المعرفة، كما يسأل التلميذ معلمه، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما يريد.
فإذا نفى الله تعالى السؤال، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم، إنما يسألكم لتقروا، لذلك قال سبحانه :﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
إذن : إثبات السؤال له معنى، ونفيه له معنى، فإذا نفي فقد نفى سؤال العلم من جهتهم، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم، لتكون الحجة ألزم، لأن الإقرار سيد الأدلة.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال : التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة، فيفتح كتابه ويهز رأسه كأنه يقرأ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصل شيئا، فيقول له : ذاكرت وما ذاكرت.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى مخاطبا رسوله ( ص ) :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأنفال ] : هكذا نفي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد، لأن رسول الله ( ص ) أخذ فعلا حفنة من الحصى ورمى بها نحو الأعداء١١، لكن هل في قدرته أن يوصل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعا ؟ فالعمل والرمي للرسول، والنتيجة والغاية لله عز وجل.
٢ - هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، أبو محمد، هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، وبعثه (ص) إلى المدينة يعلم مسلميها الفقه ويقرئهم القرآن ثم قدم على رسول الله (ص) مع السبعين الذين وافوه في العقبة الثانية، وكان مصعب رقيق البشرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، توفي في غزوة أحد. [صفة الصفوة ١/٢٠٥، ٢٠٦]..
٣ - عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي (ص) إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب (جلد) كبش قد تنطق به، فقال النبي (ص): انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون. أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (١/٢٠٦). وأخرجه أبو نعيم في الحلية (١/١٠٨) قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء (٤/٢٩٥) إسناده حسن..
٤ - هو زرارة بن عمير أخو مصعب بن عمير. له صحبة وسماع من النبي (ص)، واتفق أهل المغازي على أنه أسر يوم بدر. انظر الإصابة لابن حجر (ترجمة ٧٥٣ الكنى)..
٥ - اسمه كعب بن عمرو الأنصاري، شهد العقبة وبدرا وله فيها آثار كثيرة وهو الذي أسر العباس بن عبد المطلب. كان قصيرا عظيم البطن، مات بالمدينة عام ٥٥ هجرية. [الإصابة ترجمة ١٢٤٣]. وقد ضبط الحافظ ابن حجر كنيته (أبو اليسر) فقال (٥/٣٠٧): "بفتح التحتانية باثنتين والمهملة". وقال (٧/٢١٨) "بفتحتين"..
٦ - متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (١٢٧٦)، ومسلم في صحيحه (٩٤٠) من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه..
٧ - قال ابن الجوزي في صفة الصفوة (٢/٣١): "بعث رسول الله (ص) عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة ليخطبها عليه فزوجها إياه وأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث بها إلى شرحبيل بن حسنة. وقيل: وكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوجها، وذلك سنة سبع من الهجرة"..
٨ - أورده ابن الجوزي في صفة الصفوة (٢/٣٣) "أن أبا سفيان قال لابنته أم حبيبة بعد أن طوت فراش رسول الله (ص) يا بنية، أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله (ص) وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر" ومعلوم أن أبا سفيان أسلم فيما بعد في فتح مكة..
٩ - أخرجه البخاري في صحيحه (١٥٩٧)، ومسلم في صحيحه (١٢٧٠) من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه. قال الطبري: "إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشى عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله (ص) لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان" أورده ابن حجر في الفتح (٣/٤٦٣)..
١٠ - أورده ابن كثير في تفسيره (١/٤٦٧) بلفظ "امرأة أصابت ورجل أخطأ" أخرجه الزبير بن بكار. قال ابن كثير: فيه انقطاع. وأورده أيضا بنحوه وعزاه لأبي يعلى. قال ابن كثير: إسناده جيد قوي..
١١ - عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "رفع رسول الله (ص) يديه يعني يوم بدر فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا، فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين" أخرجه أبو نعيم (ص ٤٠٤) والبيهقي (٣/٧٩) كلاهما في دلائل النبوة، وذكره ابن كثير في تفسيره (٢/٢٩٤)..
﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( ١٠٢ ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( ١٠٣ ) ﴾ :
ثقلت وخفت هنا للحسنات، يعني : كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة. ويمكن أن نقول : ثقلت موازينه بالسيئات يعني : كثرت الحسنات، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات.
والميزان يقوم على كفتين في أحدهما الموزون، وفي الأخرى الموزون به، وللوزن ثلاث صور عقلية : أن يخف الموزون، أو يخف الموزون به، أو يستويا، وقد ذكرت الآية حالتين : خفت موازينه، وثقلت موازينه، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فأما من ثقلت موازينه ( ٦ ) فهو في عيشة راضية ( ٧ ) وأما من خفت موازينه ( ٨ ) فأمه هاوية ( ٩ ) وما أدراك ما هيه ( ١٠ ) نار حامية ( ١١ ) ﴾ [ القارعة ].
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف :
﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ( ٤٦ ) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( ٤٧ ) ﴾ [ الأعراف ].
فمن غلبت حسناته ذهب إلى الجنة، ومن غلبت سيئاته ذهب إلى النار، وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار، لأنهم تساوت عندهم كفتا الميزان، فلا هو من أهل الجنة، ولا هو من أهل النار، فهم على الأعراف، وهو السور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
ثم يقول تعالى في شأنهم :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ( ٤٦ ) ﴾ [ الأعراف ]، لأن رحمة الله سبقت غضبه، وعفوه سبق عقابه.
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجرم يعطي ثقلا، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة، فحسنة كذا بكذا، والمراد من الميزان دقة الفصل والحساب.
ونلحظ في الآية :﴿ فمن ثقلت موازينه.. ( ١٠٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : بالجمع ولم يقل : ميزانه، لماذا ؟ قالوا : لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص، فللصلاة ميزان، وللمال ميزان، وللحج ميزان.. إلخ ثم تجمع له كل هذه الموازين.
وقوله :﴿ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنهم أخذوا لها القليل العاجل، وفوتوا عليها الكثير الآجل، وسارعوا إلى متعة فانية، وتركوا متعة باقية، لأن الدنيا أجلها محدود، والزمن فيها مظنون، والخير فيها على قدر إمكانات أهلها.
أما الآخرة فزمنها متيقن، وأجلها ممدود خالد، والخير فيها على قدر إمكانات المنعم عز وجل، فلو قارنت هذا بذاك لتبين لك مدى ما خسروا، لذلك تكون النتيجة أنهم ﴿ في جهنم خالدون ( ١٠٣ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تبشع الجزاء في جهنم، وتصور أهوالها، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير، وننفر من هذه العاقبة البشعة، كما يقول الشرع بداية : سنقطع يد السارق، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة.
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.. ( ١٧٩ ) ﴾ [ البقرة ] :
وقد هوجم القصاص كثيرا من أعداء الإسلام، إذ يقولون : يكفي أن قتل واحد من المجتمع، فكيف نقتل الآخر ؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين، إنما وضعه ليمنع القتل، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء، فحين يعرف القاتل أنه سيقتل قصاصا يمتنع ويرتدع، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل، وقد عبروا عن هذا المعنى فقالوا : القتل أنفى للقتل.
﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( ١٠٢ ) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( ١٠٣ ) ﴾ :
ثقلت وخفت هنا للحسنات، يعني : كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة. ويمكن أن نقول : ثقلت موازينه بالسيئات يعني : كثرت الحسنات، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات.
والميزان يقوم على كفتين في أحدهما الموزون، وفي الأخرى الموزون به، وللوزن ثلاث صور عقلية : أن يخف الموزون، أو يخف الموزون به، أو يستويا، وقد ذكرت الآية حالتين : خفت موازينه، وثقلت موازينه، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فأما من ثقلت موازينه ( ٦ ) فهو في عيشة راضية ( ٧ ) وأما من خفت موازينه ( ٨ ) فأمه هاوية ( ٩ ) وما أدراك ما هيه ( ١٠ ) نار حامية ( ١١ ) ﴾ [ القارعة ].
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف :
﴿ وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ( ٤٦ ) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ( ٤٧ ) ﴾ [ الأعراف ].
فمن غلبت حسناته ذهب إلى الجنة، ومن غلبت سيئاته ذهب إلى النار، وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار، لأنهم تساوت عندهم كفتا الميزان، فلا هو من أهل الجنة، ولا هو من أهل النار، فهم على الأعراف، وهو السور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
ثم يقول تعالى في شأنهم :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ( ٤٦ ) ﴾ [ الأعراف ]، لأن رحمة الله سبقت غضبه، وعفوه سبق عقابه.
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجرم يعطي ثقلا، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة، فحسنة كذا بكذا، والمراد من الميزان دقة الفصل والحساب.
ونلحظ في الآية :﴿ فمن ثقلت موازينه.. ( ١٠٢ ) ﴾ [ المؤمنون ] : بالجمع ولم يقل : ميزانه، لماذا ؟ قالوا : لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص، فللصلاة ميزان، وللمال ميزان، وللحج ميزان.. إلخ ثم تجمع له كل هذه الموازين.
وقوله :﴿ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم.. ( ١٠٣ ) ﴾ [ المؤمنون ] : لأنهم أخذوا لها القليل العاجل، وفوتوا عليها الكثير الآجل، وسارعوا إلى متعة فانية، وتركوا متعة باقية، لأن الدنيا أجلها محدود، والزمن فيها مظنون، والخير فيها على قدر إمكانات أهلها.
أما الآخرة فزمنها متيقن، وأجلها ممدود خالد، والخير فيها على قدر إمكانات المنعم عز وجل، فلو قارنت هذا بذاك لتبين لك مدى ما خسروا، لذلك تكون النتيجة أنهم ﴿ في جهنم خالدون ( ١٠٣ ) ﴾ [ المؤمنون ].
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تبشع الجزاء في جهنم، وتصور أهوالها، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير، وننفر من هذه العاقبة البشعة، كما يقول الشرع بداية : سنقطع يد السارق، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة.
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.. ( ١٧٩ ) ﴾ [ البقرة ] :
وقد هوجم القصاص كثيرا من أعداء الإسلام، إذ يقولون : يكفي أن قتل واحد من المجتمع، فكيف نقتل الآخر ؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين، إنما وضعه ليمنع القتل، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء، فحين يعرف القاتل أنه سيقتل قصاصا يمتنع ويرتدع، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل، وقد عبروا عن هذا المعنى فقالوا : القتل أنفى للقتل.
﴿ تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( ١٠٤ ) ﴾ :
اللفح : أن تمس النار بحرارتها الشيء فتشويه، ومثله النفح١ ﴿ وهم فيها كالحون ( ١٠٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كلمة " كالح " نقولها حتى في العامية : فلان كالح الوجه. يعني : تغير وجهه تغيرا ينكر لا تستريح له، وضربوا للوجه الكالح مثالا برأس الخروف المشوية التي غيرت النار ملامحها، فأصبحت مشوهة كالحة تلتصق الشفة العليا بجبهته، والسفلى بصدره، فتظهر أسنانه في شكل منفر.
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطابا يلقي اللوم عليهم ويحملهم مسئولية ما وصلوا إليه، فلم يعذبهم ربهم ابتداء، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم، وأرسل إليهم رسولا يحمل منهاجا يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي، ونبههم إلى كل شيء، ومع ذلك عصوا وكذبوا، ولم يستأنفوا عملا جديدا على وفق ما أمر الله. إذن : فهم المقصرون.
يعني : أنتم السبب فيما أنتم فيه من العذاب، فليس للناس على الله حجة بعد الرسل، وليس لأحد عذر بعد البلاغ، لذلك حينما يدخل أهل النار النار يخاطبهم ربهم :﴿ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم.. ( ٧١ ) ﴾ [ الزمر ] :
فالآية تثبت أنهم هم المذنبون أمام نفوسهم :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ [ النحل ] : فلم نفاجئهم بعقوبة على شيء لم نبصرهم به، إنما أرسلنا إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ويبشرهم وينذرهم.
والإنذار بالشر قبل أن يقع نعمة من النعم، كما قلنا في سورة الرحمن عن قوله تعالى :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( ٣٥ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٦ ) ﴾ [ الرحمن ]. وهل النار والشواظ نعمة ؟ نعم نعمة، لأننا نحذرهم منها قبل وقوعها، وأنت ما زلت في سعة الدنيا، وأمامك فرصة الاستدراك.
والآيات- كما قلنا- تطلق على الآيات الكونية التي تلفت الناس إلى وجود الخالق الأعلى الذي أنشأ هذا الكون بهذه الهندسة البديعة، وتطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن الله، وتطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن.
وقد جئناكم بكل هذه الآيات تتلى عليكم وتسمعونها وترونها، ومع ذلك كذبتم، ومعنى ﴿ تتلى عليكم.. ( ١٠٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أننا نبهناكم إليها، ولفتنا أنظاركم إلى تأملها، حتى لا تقولوا : غفلنا عنها.
﴿ شقوتنا.. ( ١٠٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : الشقاوة١ وهي الألم الذي يملك كل ملكات النفس لا يترك منها جانبا، يقولون : فلان شقي يعني مضيق عليه ومتعب في كل أمور حياته، لا يرى راحة في شيء منها.
وكأنهم بقولهم :﴿ غلبت علينا شقوتنا.. ( ١٠٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يريدون أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقون بها عند الله تعالى، يقولون : يا رب لقد كتبت علينا الشقوة من الأزل، فلا ذنب لنا، وكيف نسعد نحن أنفسنا ؟ يقولون : لو شاء ربنا ما فعلنا ذلك.
ونقول لهم : لقد كتب الله عليكم أزلا، لأنه سبحانه علم أنكم ستختارون هذا.
فوصفوا أنفسهم بالظلم، كما قال سبحانه عنهم في آية أخرى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( ٢٨ ) ﴾ [ الأنعام ].
﴿ قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ( ١٠٨ ) ﴾ :
﴿ اخسئوا ( ١٠٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : كلمة بليغة في الزجر تعني : السكوت مع الذلة والهوان، لذلك يقولونها للكلاب : وقد تقول لصاحبك : اسكت على سبيل التكريم له، كما لو حدثك عن فضلك عليه، وأنك قدمت له كذا وكذا فتقول له : اسكت اسكت، تريد له العزة، وألا يقف أمامك موقف الضعف والذلة.
والخسوء من معانيها أنك تضعف عن تحمل الشيء، كما في قوله تعالى :﴿ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ( ٤ ) ﴾ [ الملك ] : يعني : ضعيف عن تحمل الضوء.
وفي قوله سبحانه :﴿ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ( ٦٥ ) ﴾ [ البقرة ] : يعني : مطرودون مبعدون عن سمو الإنسانية وعزتها، لذلك نرى القردة مفضوحة السوءة، خفيفي الحركة بما لا يتناسب وكرامة الإنسان.
إذن : ليس المراد أنهم أصبحوا قردة، إنما كونوا على هيئة القردة، لذلك نراهم حتى الآن لا يهتمون بمسألة العرض وانكشاف العورة.
إذن : المعنى ﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ( ١٠٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : اسكتوا سكوتا بذلة وهوان، ويكفي ما صنعتموه بالمؤمنين بي.
﴿ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ( ١٠٩ ) ﴾ :
والمراد هنا الضعاف من المؤمنين أمثال عمار وبلال وخباب بن الأرت١، وكانوا يقولون هذا الكلام، وهو كلام طيب لا يرد، بل يجب أن يسمع، وأن يحتذى به، ويؤخذ قدوة.
تكلمنا عن هذه المسألة في قوله تعالى :
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( ٢٩ ) وإذا مروا بهم يتغامزون ( ٣٠ ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين١ ( ٣١ ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( ٣٢ ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( ٣٣ ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( ٣٤ ) على الأرائك ينظرون ( ٣٥ ) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( ٣٦ ) ﴾ [ المطففين ] :
إذن : اتخذ الكفار ضعاف المؤمنين محل سخرية واستهزاء، وبالغوا في ذلك، حتى لم يعد لهم شغل غير هذا، وحتى شغلهم الاستهزاء والسخرية عن التفكر والتأمل فلم يبق عندهم طاقة فكرية تفكر فيما آمن به هؤلاء، وهذا معنى :﴿ حتى أنسوكم ذكري.. ( ١١٠ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : شغلكم الاستهزاء بالمؤمنين عن الإيمان بمن خلقكم وخلقهم.
ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد من السخرية، إنما تعداه إلى أن يضحكوا من أهل الإيمان، ويضحكوا أهلهم ﴿ وكنتم منهم تضحكون ( ١١٠ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وفي الآية الأخرى :﴿ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( ٣١ ) ﴾ [ المطففين ] : وسخرية أهل الباطل من أهل الحق موجودة في كل زمان، وحتى الآن نرى من يسخرون من أهل الاستقامة والدين والورع ويتندرون بهم.
﴿ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( ١١١ ) ﴾ :
لما صبر أهل الإيمان على الاستهزاء والسخرية عوضهم الله تكريما ونعيما، وهذه مسألة يجب ألا يغفل عنها المؤمن حين يسخر منه أعداؤه، عليه أن يتذكر عطاء ربه وجزاء صبره، وإن كان الساخر منك عبدا له قدرته المحدودة، فالمكرم لك ربك بقدرة لا حدود لها، ولك أن تقارن إذن بين مشقة الصبر على أذاهم، ولذة النعيم الذي تجده بعد ذلك جزاء صبرك.
لبث : مكث وأقام، فالمعنى : ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض، لكن لماذا هذا السؤال ؟.
قالوا : لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعادا خالدا، ونعيما باقيا هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها- وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا- فهل يقارن بما أعد للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه ؟.
والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها، فيكون لبثهم قريبا، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلا، إذن : فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض ؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن، لأن إدراك الزمن يتأتى بمشاهدة الأحداث، فالميت لا يشعر بالزمن، لأنه لا يعيش أحداثا، كالنائم لا يدري المدة التي نامها، وكل من سئل هذا السؤال قال :﴿ يوما أو بعض يوم.. ( ٢٥٩ ) ﴾ [ البقرة ].
قالها العزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعا، لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة، لأن الزمن ابن الحدث، فإن انعدم الحدث انعدم الزمن.
لذلك يقول تعالى عمن ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( ٤٦ ) ﴾ [ النازعات ].
﴿ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين ( ١١٣ ) ﴾ :
أي : أصحاب العد الذين يمكنهم العد والحساب، لأننا لم نكن في وعينا لنعد كم لبثنا، والمراد بالعادين هم الملائكة الذين يعدون الأيام ويحسبونها١.
- الحساب الذين يعرفون ذلك. قاله قتادة.
- الملائكة الذين كانوا معنا في الدنيا. قاله مجاهد..
إن : بمعنى ما، يعني : ما لبثتم إلا قليلا، فمهما قدرتم من طول الحياة حتى من مات منذ أيام آدم عليه السلام، فسيكون قليلا بالمقارنة بالزمن الذي ينتظركم في الجزاء الأخروي، فما لبثتموه في الدنيا لا يقاس بعذاب الآخرة الممتد الباقي، هذا ﴿ لو أنكم كنتم تعلمون ( ١١٤ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تعلمون طول ما تصيرون إليه من العذاب الخالد المقيم.
( حسبتم ) ظننتم، يعني : ماذا كنتم تظنون في خلقنا لكم ؟ كما قال في موضع آخر :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( ٢ ) ﴾ [ العنكبوت ]. وكلمة ﴿ عبثا.. ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : العبث هو الفعل الذي لا غاية له ولا فائدة منه، كما تقول : فيم تعبث ؟ لمن يفعل فعلا لا جدوى منه، وغير العبث نقول : الجد ونقول : اللعب واللهو، كلها أفعال في حركات الحياة. لكن الجد : هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة.
أما اللعب فهو أن تعمل عملا هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دربتك أنت على الحركة وشغل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها، وينشغل بها عن الأشياء القيمة في المنزل، والتي إن لعب بها حطمها، فأنت تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة، أو تعلمه باللعب شيئا يفيده فيما بعد، كالسباحة أو ركوب الخيل.
واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد، أو لغاية تنفي ضررا، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب، فمثلا الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة، فيسمى فعله لعبا، فإن كان في العاشرة يسمى فعله لهوا، لأنه شغله عن الصلاة، وهي واجبة عليه.
واللعب يدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك، أما العبث فلا فائدة منه، لذلك قال سبحانه :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا.. ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] : فنفى أن يكون الخلق عبثا بلا غاية، لأن الله تعالى خلق الخلق لغاية مرسومة، ووضع لهم منهجا يحدد هذه الغاية، ولا يضع المنهج للخلق إلا الخالق.
كما قلنا سابقا : إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة، إنما قبل أن يصنعه حدد له مهمته والغاية منه، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة، إذن : فالغاية مرسومة بداية وقبل العمل.
فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء، وهو أيضا الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فدعه يحدد لك غايتك، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك، بافعل كذا ولا تفعل كذا.
إذن : فساد الدنيا يأتي من أن الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية، وفي تحديد المنهج، وقانون الصيانة، وليس من مهمتها ذلك، والخالق حينما يحدد لك الغاية يضع لك المنهج الذي يعينك على غايتك، إنما أنت : متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة ؟.
إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سن العشرين على أحسن تقدير، فمن- إذن- يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السن ؟ لا أحد غير خالقك عز وجل، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصنعة للصانع غاية ومنهجا وصيانة.
وكيف تظن أن الله تعالى خلقك عبثا، وهو الذي استدعاك للوجود وأعد لك مقومات حياتك وضرورياتها، وحثك بإعمال عقلك في هذه المقومات لتستطيع أن ترفه بالطاقة والقدرة المخلوقة لله تعالى لتسعد نفسك وترفه حياتك.
وقد كنا في الماضي نجلس على ضوء المسرجة، والآن على أضواء النيون والكريستال، ومهما ترفت حياتك وتوفرت لك وسائل الراحة فلا تنس أنها عطاء من الله في المادة وفي الطاقة وفي العقل المفكر، كلها مخلوقة لله عز وجل، لا تملك منها أنت شيئا، بدليل أن الله إذا سلبك العقل لصرت مجنونا، ولو سلبك الطاقة والقدرة لصرت ضعيفا لا تستطيع مجرد التنفس، فهذه نعم موهوبة لك ليست ذاتية فيك.
إذن : عليك أن تتأمل في خالقك عز وجل، وما وهبك من مقومات الحياة، لتعلم أن هذا الخلق لا يمكن أن يكون عبثا، ولا بد أن له غاية رسمها الخالق سبحانه، وأنت في ذاتك تحاول أن تضع لك غاية في جزئية ما من الغاية الكبرى التي خلقك الله لها.
ألا ترى الولد الصغير كيف تعتني به وتعلمه وتنفق عليه مرحلة بعد الأخرى، حتى يصل إلى الجامعة، وتتعلق أنت بأمل كبير في أن يكون لولدك هذا مكانة في المجتمع ومنزلة بين الناس ؟ هذه العملية في حد ذاتها غاية، لكن بعد أن يحصل على الوظيفة المرموقة والمكانة والمنزلة ينتهي الأمر بالموت.
إذن : لا بد من وجود غاية أخرى أعظم من هذه، غاية لا يدركها الفناء، وليس لها بعد، هذه الغاية الكبرى هي لقاء الله وملاقاة الجزاء، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وعلينا أن نأخذ كل مسائل الحياة وجزئياتها في ضوء هذه الحقيقة، أننا لم نخلق عبثا، بل لغاية مرادة لله، ولها أسباب توصل إليها.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأنكم إلينا لا ترجعون ( ١١٥ ) ﴾ [ المؤمنون ] :( ترجعون ) يعني : رغما عنكم، ودون إرادتكم، كأن شيئا ما يسوقهم، كما في قوله تعالى :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ( ١٣ ) ﴾ [ الطور ] : يعني : يدفعون إليها، ويضربون على أقفائهم، ويساقون سوق الدواب.
﴿ فتعالى.. ( ١١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : تنزه وتقدس، وكلمة العلو تعني علو المنزلة. نقول : علا فلان على فلان، أما حين نقول : تعالى الله، فالمراد العلو الأعلى، وإن وهب علوا للغير فهو علو الداني، وعلو المتغير، بدليل أنه تعالى يعليك، وإن شاء سلبك، فالعلو ليس ذاتيا فيك.
وكلمة الملك نعرفها فيمن يملك قطعة من الأرض بمن فيها ويحكم وله رعية، ومن هذه المادة : المالك. ويطلق على أي مالك لأي شيء، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك، أما : الملك فهو من يملك الذين يملكون، فله ملك على المالكين، وهذا الملك لم يأخذ ملكه بذاته، إنما بإيتاء الله له.
لذلك يقول تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.. ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ] : فلو كان ملك هؤلاء الملوك ذاتيا ما نزع منهم، ألا ترى الملك من ملوك الدنيا يقوى ويستتب له الأمر، ويكون له صولجان وبطش وفتك.. إلخ، ومع هذا كله لا يستطيع الاحتفاظ بملكه ؟ وفي لحظة ينهار هذا الملك ولو على يد جندي من جنوده، بل وربما تلفظه بلاده، ولا تقبل حتى أن يدفن بها، وتتطوع له بعض الدول، وتقبل أن توارى رفاته بأرضها، فأي ملك هذا ؟.
وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر- وكأنها قائمة- دليلا على صدق الآية :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.. ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ] : إذن : إن ملكك الله فاعلم أنه ملك موهوب، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه، لأن الله تعالى ملكك لغاية، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه.
لذلك كان الحق- سبحانه وتعالى- ﴿ الملك الحق.. ( ١١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : الذي لا يزحزحه أحد عن ملكه، أو يسلبه منه، وهو الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء لا ينازعه فيه أحد، وإن أعطى من باطن ملكه تعالى ملكا لأحد، فيظل في يده سبحانه زمام هذا الملك، إن شاء بسطه، وإن شاء سلبه ونزعه. فهو وحده الملك الحق، أما غيره فملكهم موهوب مسلوب، وإن ملك سبحانه أناسا، أمر أناس في الدنيا يأتي يوم القيامة فيقول :﴿ لمن الملك اليوم.. ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
وتلحظ أن كلمة ﴿ تؤتي الملك.. ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ] : سهلة على خلاف ﴿ تنزع الملك.. ( ٢٦ ) ﴾ [ آل عمران ]، ففي النزع دليل على المشقة والمعاناة، لأن صاحب الملك يحاول أن يتمسك به ويتشبث وينازع، لكن أينازع الله ؟
فقوله سبحانه :﴿ فتعالى الله الملك الحق.. ( ١١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ] : المراد : تعالى عن أن يكون خلقكم عبثا، وتعالى عن أن تشردوا من قبضته، أو تخرجوا عن نفوذه، أو تستقلوا بخلقكم عن سيطرته، وتعالى أن تفلتوا من عقابه أو تمتنعوا عنه، لأنه لا إله غيره :﴿ لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( ١١٦ ) ﴾ [ المؤمنون ].
فالحق تبارك وتعالى يحكم في إطار :﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) الله الصمد ( ٢ ) لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ولم يكن له كفوا أحد ( ٤ ) ﴾ [ الإخلاص ] : فإذا قال لك شيئا فاعلم أنه لا إله غيره يعارضه.
والعرش : رمز لاستتباب الأمر للمالك، لأنه ينشغل بتدبير ملكه والقضاء على المناوئين له وتأديب أعدائه، فإذا ما استتب له ذلك جلس على عرشه، إذن : الجلوس على العرش يعني استقرار الأمور واستتباب أمر الملك، لذلك فإن الحق سبحانه بعد أن خلق الخلق استوى على العرش.
والعرش يفيد أيضا السيطرة والتحكم، وعرش الله عرش كريم، لأنه تعالى عليك لا ليذلك ويهينك، وإنما تعالى عليك ليعاليك إليه ويعطيك من فضله. كما سبق أن قلنا : إن من مصلحتنا أن يكون الله تعالى متكبرا، ومن عظمة الحق سبحانه أن يكون له الكبرياء، فساعة يعلم الجميع أن الكبرياء لله وحده لا يتكبر أحد على أحد.
يقول الحق سبحانه :﴿ وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( ٣٧ ) ﴾ [ الجاثية ].
لذلك يقولون في الأمثال :( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) يعني : ليعيش في ظله، فالحق- تبارك وتعالى- يتعالى لصالح خلقه.
ومن ذلك ما قلناه في مسألة العبودية، وأنها مكروهة ثقيلة إن كانت للبشر، لأن السيد يأخذ خير عبده، إنما هي محبوبة إن كانت لله تعالى، لأن العبودية لله يأخذ العبد خير ربه.
فإن كانت عروش الدنيا للسيطرة والتحكم في مصائر الناس وامتصاص دمائهم وأخذ خيراتهم، فعرش ربك عرش كريم، والكريم في كل شيء أشرف غاياته، اقرأ قوله تعالى :﴿ كم تركوا من جنات وعيون ( ٢٥ ) وزروع ومقام كريم ( ٢٦ ) ﴾ [ الدخان ].
وحين يوصينا بالوالدين، يقول سبحانه :﴿ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( ٢٣ ) ﴾ [ الإسراء ].
فالعرش الكريم أشرف غايات الملك، لأن الملك ليس تسلطا وقهرا، إنما هو ملك لصالح الناس، والحق- تبارك وتعالى- حينما خلق الحياة وزع فيها أسباب الفضل، ولكنه جعل فيها القوي القادر، وجعل فيها الضعيف العاجز، ثم أمر القوي أن يأخذ بيد الضعيف، وأن يعوله، فالكرم استطراق نفع القوي للضعيف، فكل خصلة من خصال الخير توصف بالكرم.
إذن : إياك أن تفهم أن عرش ربك للسيطرة والعلو والجبروت، لأنه عرش كريم.
﴿ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( ١١٧ ) ﴾ :
﴿ يدع مع الله.. ( ١١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : يعني : يعبد مع الله، والعبادة طاعة المعبود في أمره ونهيه، لكن كيف تدعو إلها، لا ينفعك ولا يضرك، ولا برهان عندك على ألوهيته ؟ لذلك هدده سبحانه وتوعده بقوله :﴿ فإنما حسابه عند ربه.. ( ١١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : ربه الحق ﴿ إنه لا يفلح الكافرون ( ١١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ].
وعجيب أن تبدأ السورة بقوله تعالى :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وتنتهي بقوله :﴿ إنه لا يفلح الكافرون ( ١١٧ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : بنقيض ما بدأت به، وعليك أنت أن تتأمل ما بين هذين القوسين، وما دامت المسألة مسألة إيمان يفلح أهله، وكفر لا يفلح أهله، فتمسكوا بربكم، والتزموا منهجه في ( افعل ) و( لا تفعل ).
﴿ وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ( ١١٨ ) ﴾ :
إن هفوتم هفوة فإياكم أن تنسوا هذه الحقيقة، والجئوا إلى ربكم فإنه غفار شرع لكم التوبة لتتوبوا، والاستغفار لتستغفروا، وهو سبحانه أرحم بكم من الوالدة بولدها، وهو خير الراحمين.
والمعنى ﴿ اغفر.. ( ١١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : الذنوب السابقة الماضية ﴿ وارحم.. ( ١١٨ ) ﴾ [ المؤمنون ] : أي : ارحمنا أن نقع في الذنوب فيما بعد، واعصمنا في مستقبل حياتنا من الزلل. إذن : تمسك بربك وبمنهج ربك في كل حال، لا يصرفك عنه صارف.