تفسير سورة المؤمنون

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة المؤمنون
مكية وآياتها ١١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ أخبر الله سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البُغْيَةَ، وأحرزوا البقاءَ الدائم.
قلت: وعن عُمرَ بن الخَطَّاب رضي اللَّه عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ، يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ صلى الله عليه وسلّم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْماً، فَمَكَثْنَا سَاعَةً، وَسُرِّيَ عَنْهُ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، زِدْنَا وَلاَ تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلاَ تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلاَ تَحْرِمْنَا، وَآثِرُنَا وَلاَ تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وأرْضِنَا وارض عَنَّا»، ثُمَّ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ»، ثُمَّ قَرَأَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى ختم عشر آيات «١» رواه الترمذي واللفظ له والنسائيُّ والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من «سلاح المؤمن».
قلت: وقد نَصَّ بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزاليّ
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٦) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (٣١٧٣)، والنسائي في «الكبرى» (١/ ٤٥٠) كتاب الوتر: باب رفع اليدين في الدعاء، حديث (١٤٣٩)، وأحمد (١/ ٣٤)، والحاكم (٢/ ٣٩٢)، وعبد الرزاق (٦٠٣٨)، والعقيلي في «الضعفاء» (٤/ ٤٦٠) كلهم من طريق يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القارئ عن عمر بن الخطاب به.
وقال النسائي: هذا حديث منكر، لا نعلم أحدا رواه غير يونس بن سليم، ويونس بن سليم لا نعرفه.
وقال العقيلي في ترجمة يونس: لا يتابع على حديثه هذا ولا يعرف إلا به.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٤)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «الدلائل»، والضياء في «المختارة».
- رحمه الله-: ومِنْ مكائد الشيطان أن يَشْغَلَكَ [في الصلاة بفكر الآخرة وتدبيرِ فِعْلِ الخيرات لتمتنعَ عن فَهْمِ ما تقرأه، واعلم أَنَّ كلَّ ما أشغلك] «١» عن معاني قراءتك فهو وسواس فإنَّ حركة اللسان غيرُ مقصودة بل المقصود معانيها، انتهى من «الإحياء».
وروي عن مجاهد «٢» : أَنَّ الله تعالى لما خلق الجَنَّةَ، وأتقن حُسْنَها قال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين: فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ والخشوع التطامُنُ، وسكونُ الأعضاءِ، والوقارُ، وهذا إنَّما يظهر في الأعضاء مِمَّنْ في قلبه خوف واستكانة لأَنَّه إذا خشع قلبُه خشعت جوارِحُه، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أَنَّ المسلمين كانوا يلتفتون في صلاتهم يُمْنَةً ويُسْرَةً فنزلت هذه الآيةُ، وأُمِرُوا أن يكون [بصرٍ] «٣» المُصَلِّي حِذَاءَ قِبْلَتِه أو بين يديه، وفي الحرم إلى الكعبة، واللَّغْوِ: سقط القول، وهذا يَعُمُّ جميع ما لا خيرَ فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، أي:
يُعْرِضُونَ عن اللغو، وكأنَّ الآية فيها موادعة.
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ذهب الطبريُّ «٤» وغيره إلى: أَنَّها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بَيِّنٌ، ويحتمل اللفظُ أَن يريد بالزكاة: الفضائلَ، كأنه أراد الأزكى من كل فعل كما قال تعالى: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف: ٨١].
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥ الى ١١]
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلى قوله: هُمُ العادُونَ يقتضي تحريمَ الزِّنا والاستمناءِ ومواقعةِ البهائم، وكُلُّ ذلك داخل في قوله: وَراءَ ذلِكَ ويريد:
وراءَ هذا الحَدِّ الذي حُدَّ، والعادي: الظالم، والأمانة والعهد يَجْمَعُ كُلَّ ما تحمَّله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً. وهذا يعمُّ معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك حِفْظُهُ والقيام به، والأمانة أعمُّ من العهد إذ كل عهد فهو أمانة، وقرأ الجمهور:
(١) سقط في ج.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ١٩٦) (٢٥٤١١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٣٦)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٤)، وعزاه لابن جرير عن مجاهد.
(٣) سقط في ج.
(٤) ينظر الطبريّ (٩/ ١٩٩).
«صلواتهم» وقرأ حمزة والكسائيّ: «صلاتهم» بالإفراد «١»، والْوارِثُونَ يريد الجنة، وفي حديث أَبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَسْكَناً فِي الجَنَّةِ، وَمَسْكَناً فِي النَّارِ، فَأَمَّا المُؤْمِنُونَ فَيَأْخُذُونَ مَنَازِلَهُمْ، وَيَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ، وَيَحْصُلُ الكُفَّارُ في منازلهم/ في النّار». ٢٩ ب قلت: وَخَرَّجَهُ ابن ماجه أيضاً بمعناه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْكُمْ إلاَّ [مَنْ] «٢» لَهُ مَنْزِلاَنِ: مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإذَا مَاتَ- يعني الإنسان- وَدَخَلَ النَّارَ، وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ فَذَلِكَ قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» «٣» قال القرطبي في «التذكرة» «٤» : إسناده صحيح، انتهى من «التذكرة».
قال ع «٥» : ويحتمل أَنْ يُسَمِّيَ الله تعالى حصولَهم في الجنة وراثة من حيثُ حصَّلُوهَا دون غيرهم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّ الله أحاط حائط الجَنَّةِ: لَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَلَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَغَرَسَ غَرَاسَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فقالت: «قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ» فقال: طُوبَى لَك! مَنْزِلُ المُلُوكِ» «٦» خرجه البغويُّ في «المسند المنتخب» له، انتهى من «الكوكب الدرّيّ».
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
(١) ينظر: «السبعة» (٤٤٤)، و «الحجة» (٥/ ٢٨٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٨٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٨٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٧٥)، و «العنوان» (١٣٦)، و «حجة القراءات» (٤٨٣)، و «شرح شعلة» (٥٠٧)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٢).
(٢) سقط في ج.
(٣) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٤٥٣) كتاب الزهد: باب صفة الجنة، حديث (٤٣٤١)، والطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٠٠) رقم (٢٥٤٤١) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
قال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٣٢٧) : هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٩)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث».
(٤) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ١٦٦)، (٢/ ٥٦٩).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣٧).
(٦) أخرجه أبو نعيم في «صفة الجنة» (١/ ١٣٧) رقم (١٤٠)، وفي «الحلية» (٦/ ٢٠٤)، والبيهقي في «البعث» (٢٣٦) من حديث أبي سعيد الخدري.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٤٠٠) وقال: رواه البزار مرفوعا وموقوفا، والطبراني في «الأوسط»، ورجال الموقوف رجال الصحيح.
143
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ... الآية: اخْتُلِفَ في قوله: «الإنسان» فقال قتادة وغيره [أراد آدم- عليه السلام- لأنه استُلَّ من الطين «١».
وقال ابن عباس وغيره] «٢» : المراد ابنُ آدم «٣»، والقرارُ المكينِ من المرأة: هو مَوْضِعُ الولد، والمكين: المُتَمَكِّنُ، والعَلَقَةُ: الدَّمُ الغليظ، والمُضْغَةُ: بضعة اللحم قدرَ ما يُمْضَغُ، واختلف النَّاسُ في الخلق الآخر، فقال ابنُ عباس «٤» وغيره: هو نفخ الرُّوح فيه.
وقال ابن عباس «٥» أيضاً: هو خروجه إلى الدنيا.
وقال أيضاً «٦» : تَصَرُّفُهُ في أمور الدنيا، وقيل: هو نباتُ شعره.
قال ع «٧» : وهذا التخصيص كُلُّهُ لا وجهَ له، وإنما هو عامٌّ في هذا وغيرِه: من وجوه النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، وفَتَبارَكَ مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى وَتَقَدَّسَ من معنى البركة.
وقوله: أَحْسَنُ الْخالِقِينَ معناه: الصانعين: يقال لمن صنع شيئاً: خَلَقَهُ، وذهب بعضُ الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس فقال ابن جريج «٨» : إنَّما قال: الْخالِقِينَ لأَنَّهُ تعالى أَذِنَ لعيسى في أَنْ يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٢) (٢٥٤٥٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٣٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٢) سقط في ج.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٢) (٢٥٤٥٤) بمعناه كما ذكره الطبريّ، والبغوي (٣/ ٣٠٤)، وابن عطية (٤/ ١٣٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....]
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٤) (٢٥٤٥٧)، وذكره البغوي (٣/ ٣٠٤)، وابن عطية (٤/ ١٣٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١١)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٤) (٢٥٤٦٦)، وذكره البغوي (٣/ ٣٠٤) بنحوه، وابن عطية (٤/ ١٣٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤١).
(٦) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٤) (٢٥٤٦٦)، وذكره البغوي (٣/ ٣٠٤)، وابن عطية (٤/ ١٣٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤١).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣٨).
(٨) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٥) (٢٥٤٧٣)، وذكره البغوي (٣/ ٣٠٤)، وابن عطية (٤/ ١٣٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٢)، وعزاه لابن جرير عن ابن جريج.
144
قال ع «١» : ولا تُنْفَى اللفظةُ عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفيَّةٌ بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٥ الى ١٩]
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ [لَمَيِّتُونَ] «٢» أي: بعد هذه الأحوال المذكورة، ويريد بالسبع الطرائق: السموات، والطرائق: كُلِّ [ما كان] «٣» طبقاتٍ بعضه فوق بعض ومنه طارقت نعلي. ويجوزُ أَنْ تكونَ الطرائق بمعنى المَبْسُوطاتِ من طرقت الشيء.
قلت: وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ... الآية: ظاهر الآية أَنَّهُ ماءُ المطر، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في أول «تاريخ «٤» بغداد» عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الجَنَّةِ إلَى الأَرْضِ خَمْسَةَ أَنْهَارٍ: سَيْحُونَ: وَهُو نَهْرُ الهِنْدِ، وجَيْحُونَ: وَهُوَ نَهْرُ بَلْخَ، ودِجْلَةَ والفُرَاتَ: وَهمَا نَهَرَا العِرَاقِ، والنِّيلَ: وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أَنْزَلَهَا اللهُ تعالى مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُيُونِ الجَنَّةِ مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَاسْتَوْدَعَهَا الجِبَال، وَأَجْرَاهَا فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ فِي أَصْنَافِ مَعَايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فَإذَا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، أَرْسَلَ اللهُ تعالى جِبْرِيلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ القُرْآنَ، وَالْعِلْمَ كُلَّهُ، وَالْحَجَرَ مِنْ رُكْنِ البَيْتِ، وَمَقَامَ إبْرَاهِيمَ، وَتَابُوتَ موسى عليه السلام بما فِيهِ، وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ ذَلِكَ/ كُلَّهُ إلَى السَّمَاءِ فذلك قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ ٣٠ ألَقادِرُونَ، فَإذَا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مِنَ الأَرْضِ، فَقَدَ أَهْلُهَا خَيْرَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا». وفي رواية:
«خَيْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ» «٥». انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظرَ لأحد معه، ونقل ابن العربي في «أحكامه» هذا الحديثَ أيضاً عن ابن عباس وغيره، ثم قال في آخره: وهذا جائز في القدرة إنْ صَحَّتْ به الرواية، انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣٨).
(٢) سقط في ج.
(٣) سقط في ج.
(٤) ينظر: «تاريخ بغداد» (١/ ٥٧- ٥٨).
(٥) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١/ ٥٧- ٥٨) من طريق مقاتل بن حَيَّان عن عكرمة عن ابن عباس.
قال ع «١» : قوله تعالى: مَاء بِقَدَرٍ قال بعض العلماء: أَراد المطر.
وقال بعضهم: إنَّما أراد الأنهار الأربعة سيحان «٢» وجَيْحَانَ والفرات «٣» والنيل «٤».
قال ع «٥» : والصواب أَنَّ هذا كُلَّهُ داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى.
وقوله تعالى: لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ يحتمل: أنْ يعود الضمير على الجنات فيشمل أنواع الفواكه، ويحتمل أَنْ يعود على النخيل والأعناب خاصَّةً إذ فيهما مراتبُ وأنواع، والأَوَّلُ أعمُّ لسائر الثمرات.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦)
وقوله سبحانه: وَشَجَرَةً عطف على قوله: جَنَّاتٍ ويريد بها الزيتونة، وهي كثيرة في طور سيناء من أرض الشام، وهو الجَبَلُ الذي كُلِّمَ فيه موسى عليه السلام قاله ابن عباس، وغيره «٦»، والطور: الجبلُ في كلام العرب، واخْتُلِفَ في سَيْناءَ فقال قتادة: معناه الحُسْنُ «٧»، وقال الجمهور: هو اسم الجبل، كما تقول جبل أُحُدٍ، وقرأ الجمهور: «تَنْبُتُ» بفتح التاء وضم الباء، فالتقدير تنبت ومعها الدُّهْنُ كما تقول خرج زيد
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣٩).
(٢) (سيحان) نهر كبير بالثغر، من نواحي المصيصة، وهو نهر أذنة بين أنطاكية والروم، يمرّ بأذنة ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال فيصب في بحر الروم.
(٣) الفرات: وهو النهر المعروف.
(٤) نيل مصر: قيل هو تعريب نيلوس، فليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلّا هو، ولا أطول منه. [.....]
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٣٩).
(٦) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٨) رقم (٢٥٤٨١)، وذكره البغوي (٣/ ٣٠٦)، وابن عطية (٤/ ١٣٩).
(٧) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٠٧) (٢٥٤٧٩) وذكره البغوي (٣/ ٣٠٦)، وابن عطية (٤/ ١٣٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٤)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.
بسلاحه، وقرأ ابن كثير «١» وأبو عمرو: «تُنْبِتُ» بضم التاء [وكسر الباء] «٢» واخْتُلِفَ في التقدير على هذه القراءة، فقالت [فرقة: الباءُ زائدة، كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]، وقالت] «٣» فرقة: التقدير تُنْبِتُ جناها ومعه الدُّهْنُ، فالمفعول محذوف، وقيل: نبت وأَنْبَتَ بمعنى فيكونُ المعنى كما مضى في قراءة الجمهور، والمراد بالآية تعديدُ النعم على الإنسان، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ... الآية: هذا ابتداءُ تمثيلٍ لكُفَّارِ قريش بأُممٍ كفرت بأنبيائها فأُهْلِكُوا، وفي ضمن ذلك الوعيدُ بأَنْ يَحُلَّ بهؤلاء نحوُ ما حَلَّ بأولئك، والملأ: الأشراف، والجنّة، الجنون، وحَتَّى حِينٍ معناه إلى وقت يريحكم القَدَرُ منه، ثم إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه حين يَئِسَ منهم، وإنْ كان دعاؤُهُ في هذه الآية ليس بِنَصٍّ وإنَّما هو ظاهر من قوله: بِما كَذَّبُونِ فهذا يقتضي طلبَ العقوبة، وأَمَّا النصرة بمجردها فكانت تكون بردّهم إلى الإيمان.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
وقوله عزَّ وجل: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قوله: بِأَعْيُنِنا: عبارة عن الإدراك هذا مذهبُ الحُذَّاقِ، ووقفتِ الشريعةُ على أعين وعين، ولا يجوزُ أَنْ يُقال: عينان من حيثُ لم توقف الشريعة على التثنية، ووَحْيِنا معناه في كيفية العمل، ووجهُ البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه، وأَمْرُنا يحتمل أن
(١) ينظر: «السبعة» (٤٤٥)، و «الحجة» (٥/ ٢٩١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٨٧)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٨٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٧٥)، و «العنوان» (١٣٦)، و «حجة القراءات» (٤٨٤)، و «شرح شعلة» (٥٠٧)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٢).
(٢) سقط في ج.
(٣) سقط في ج.
يكونَ واحد الأوامر، ويحتمل أن يريد واحد الأمور، والصحيح من الأقوال في التَّنُّورُ أنه تَنُّورُ الخبز، وأَنَّها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح- عليه السلام-.
٣٠ ب وقوله: فَاسْلُكْ: معناه: فأدخل يقال سلك وأسلك بمعنىً، وقرأ حفص/ عن عاصم «١» :«مِنْ كُلٍّ» بالتنوين، والباقون بغير تنوين، والزوجان: كُلَّ ما شأنه الاصطحابُ من كل شيءٍ نحو: الذكر والأنثى من الحيوان، ونحو: النعال وغيرها، هذا موقع اللفظة في اللغة.
وقوله: وَأَهْلَكَ يريد: قرابته، ثم استثنى من سبق عليه القولُ بأَنَّهُ كافر، وهو ابنه وإمرأته، ثم أُمِرَ نوحٌ ألاَّ يراجعَ رَبَّه، ولا يخاطبَه شافعاً في أحد من الظالمين، ثم أُمِرَ بالدعاء في بركة المنزل.
وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ خطاب لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم ثم أخبر سبحانه أنه يبتلي عباده الزمنَ بعد الزمنِ على جهة الوعيد لِكُفَّارِ قريشٍ بهذا الإخبار، واللام في لَمُبْتَلِينَ لامُ تأكيدٍ، و «مبتلين» : معناهُ: مُصِيبِينَ ببلاء، ومختبرين اختباراً يؤدي إلى ذلك.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٣٩]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩)
وقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
قال الطبريُّ «٢» - رحمه الله-: إنَّ هذا القرنَ هم ثمودُ، قومُ صالح.
قال ع «٣» : وفي جُلِّ الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدمٌ، إلاَّ أنَّهم لم يُهْلَكُوا بصيحة.
(١) والمعنى على هذه القراءة: من كل شيء.
ينظر: «السبعة» (٤٤٥)، و «الحجة» (٥/ ٢٩٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٨٩)، و «العنوان» (١٣٦)، و «حجة القراءات» (٤٨٦)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٤).
(٢) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢١٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٢).
قلت: وهو ظاهر ترتيب قَصَصِ القرآن أَنَّ عاداً أقدم، وَأَتْرَفْناهُمْ معناه نَعَّمْنَاهم، وبسطنا لهم الأموالَ والأَرْزَاقَ وقولهم: أَيَعِدُكُمْ استفهام على جهة الاستبعاد وأَنَّكُمْ:
الثانية بَدَلٌ من الأُولَى عند سيبويه، وقولهم: هَيْهاتَ هَيْهاتَ استبعادٌ، وهيهات أحياناً تلي الفاعل دونَ لام، تقول هيهاتَ مجيءُ زيد، أي: بعد ذلك، ومنه قول جرير:
[الطويل] :
فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الْعَقِيقُ وَمَنْ بِهِ وَهَيْهَاتَ خِلٌّ بِالْعَقِيقِ نُوَاصِلُهْ «١»
وأحياناً يكون الفاعل محذوفاً، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية، التقدير: بعد الوجود لما توعدون.
قال ص: ورد بأن فيه حذف الفاعل، وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير جائز عند البصريين، وذكر أبو البقاء: أنّ اللام زائدة و «ما» فاعل، أي: بعد ما توعدون.
قال أبو حيان «٢» : وهذا تفسير معنى لا إعراب لأَنَّهُ لم تَثبُتْ مصدرِيَّةُ «هيهات»، انتهى. وقولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أرادوا: أَنَّهُ لا وجود لنا غير هذا الوجود وإنّما نموت مِنَّا طائفة فتذهب، وتجيء طائفة جديدة، وهذا هو كفر الدّهريّة.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٨]
قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
وقوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ المعنى: قال الله لهذا النَّبِيِّ الدَّاعي: عَمَّا قليل يندمُ قومُك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصَّيْحَة ذهب الطبريُّ «٣» إلى
(١) البيت لجرير في «ديوانه» ص ٩٦٥ و «الأشباه والنظائر» (٨/ ١٣٣)، و «الخصائص» (٣/ ٤٢)، و «الدرر» (٥/ ٣٢٤)، و «شرح التصريح» (١/ ٣١٨)، (٢/ ١٩٩)، و «شرح شواهد الإيضاح» ص ١٤٣، و «شرح المفصل» (٤/ ٣٥)، و «لسان العرب» (١٣/ ٥٥٣) (هيه)، و «المقاصد النحويّة» (٣/ ٧)، (٤/ ٣١١)، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (٢/ ١٩٣)، (٤/ ٨٧)، و «سمط اللآلي» ص ٣٦٩، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي ص ١٠٠١.
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٣٧٤).
(٣) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢١٢).
أَنَّهم قوم ثمود.
وقوله: بِالْحَقِّ أي: بما استحقوا بأفعالهم وبما حَقَّ مِنَّا في عقوبتهم، والغثاء: ما يحمله السَّيْلُ من زُبَدِهِ الذي لا يُنْتَفَعُ به، فَيُشَبَّهُ كُلُّ هامد وتالف بذلك.
قال أبو حيان «١» :«وبعداً» منصوبٌ بفعل محذوف، أي: بَعُدُوا بُعْداً، أي: هلكوا، انتهى، ثم أخبر سبحانه: إنَّه أنشأ بعد هؤلاء أمماً كثيرةً، كلَّ أَمَّةٍ بأجل، وفي كتاب لا تتعداه في وجودها وعند موتها، وتترى: مصدر من تَوَاتَر الشيءُ.
وقوله سبحانه: فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي: في الإهلاك.
وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يريد أحاديث مَثَلٍ، وقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ الجعل حديثا ٣١ أإلّا في الشر، وعالِينَ/ معناه: قاصدين لِلْعُلُوِّ بالظلم، وقولهم: وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ معناه: خادمون متذللون، والطريق المُعَبَّدُ المُذَلَّلُ، ومِنَ الْمُهْلَكِينَ: يريد بالغرق.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة، ولَعَلَّهُمْ يريد: بني إسرائيل لأَنَّ التوراة إنَّما نزلت بعد هلاكِ فرعونَ والقِبْطِ، والربوة: المُرْتَفِعُ من الأرض، والقرار: التَّمَكُّنُ، وَبَيِّنٌ أَنَّ ماء هذه الربوة يرى معيناً جارياً على وجه الأرض قاله ابن عباس «٢»، والمعين: الظاهِرُ الجري للعينِ، فالميم زائدة، وهو الذي يُعَايَنُ جريُه، لا كالبئرِ ونحوِهِ، ويحتمل أن يكون من قولهم: معن الماء إذَا كَثُرَ، وهذه الربوة هي الموضع الذي فَرَّتْ إليه مريمُ وقتَ وضع عيسى عليه السلام هذا قولُ بعضِ المفسرين، واختلف الناسُ في موضع الربوة، فقال ابن المُسَيِّبِ «٣» : هي الغُوطَةُ بدمشق وهذا أشهر الأقوال لأَنَّ صفة الغُوطَةِ أَنَّها ذات قرار ومعين على الكمال.
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٣٧٥).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢١٩) (٢٥٥٢٣)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢١٨) (٢٥٥١٤)، وذكره البغوي (٣/ ٣١٠)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ١٨). وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن سعيد بن المسيب.
وقال كَعْبُ الأَحْبَارِ «١» : الربوة بيت المَقْدِسِ، وزعم أَنَّ في التوراة أَنَّ بيتَ المقدس أَقْرَبُ الأرض إلى السماء وأَنَّهُ يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً.
قال ع «٢» : ويترجَّحُ: أَنَّ الربوة في بَيْتِ لَحْمٍ من بيت المقدس لأَنَّ ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذٍ كان الإيواءُ، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها: ما تُفسِّرُ لغةً ومنها: ما تُفَسَّرُ نقلاً، فيفتقر إلى صحة سندهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ هاهنا نُكْتَةً، وذلك أَنَّه إذا نُقِلَ لِلنَّاسِ نَقْلَ تواتر أَنَّ هذا موضِعُ كذا، وأَنَّ هذا الأَمرَ جرى كذا- وقع العلم به، ولَزِمَ قبولهُ، لأَنَّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإِيمانُ، وخبرَ الآحاد لا بدَّ من كون المُخْبِرِ به بصفة الإيمان لأَنَّهُ بمنزلة الشاهد، والخَبَرَ المتواتر بمنزلة العيانِ، وقد بَيَّنَا ذلك في «أصول الفقه «٣» »، والذي شاهدتُ عليه الناسَ ورأيتهم يعينونه تعيينَ تواترٍ- مَوْضِعٌ في سفح الجبل في غربيِّ دمشق، انتهى، وما ذكره:
من أَنَّ التواتُرَ ليس من شرطه الإيمانُ هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلاَّ أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذا متواتر لاختلال شرطه، انظر «المنتهى» لابن الحاجب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢١٩) (٢٥٥١٨)، وذكره البغوي (٣/ ٣١٠)، وابن عطية (٤/ ١٤٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٥).
(٣) ينظر: الكلام عن المتواتر في «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٢٣١)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٥٦٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٢/ ١٤)، «نهاية السول» للإسنوي (٣/ ٥٤)، «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٢٩٦)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٩٥)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢/ ٩٥)، «المنخول» للغزالي (٢٣١)، «المستصفى» له (١/ ١٣٢)، «حاشية البناني» (٢/ ١١٩)، «الإبهاج» لابن السبكي (٢/ ٢٦٣)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ٢٠٦)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢/ ١٤٧)، «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٨٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (١/ ١٠١)، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (٣/ ٢٣٢)، «كشف الأسرار» للنسفي (٢/ ٤)، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (٢/ ٣)، «شرح المنار» لابن ملك (٧٨)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (٢/ ٦٢٧)، «تقريب الوصول» لابن جزي (١١٩)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٤٦).
151
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يحتمل أنْ يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم.
قال ع «١» : والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها كما تقول لعالم: يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ «٢» : الخطاب لعيسَى- عليه السلام-.
قلت: والصحيح في تأويل الآية: أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح فلا معنى للتردد في ذلك، وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ ٣١ ب عَلِيمٌ/ [المؤمنون: الآية ٥١]. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ١٧٢]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ [حرامٌ] «٣» وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» «٤» اهـ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قدّرت: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم- قلق اتصال هذه واتصال قوله: فَتَقَطَّعُوا، ومعنى الأُمَّةِ هنا: المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإسلام.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٦).
(٢) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٢٠).
(٣) سقط في ج.
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ٧٠٣) كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (٦٥/ ١٠١٥)، والترمذي (٥/ ٢٢٠) كتاب التفسير: باب ومن سورة البقرة، حديث (٢٩٨٩)، والدارمي (٢/ ٣٠٠)، وأحمد (٢/ ٣٢٨) كلهم من طريق الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وإنما نعرفه من حديث فضيل بن مرزوق.
152
وقوله سبحانه: فَتَقَطَّعُوا يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ كما تقول: تقطع الثوبُ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع «١» :«زُبُراً» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين:
أحدهما: أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة «٢» - والثاني: أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها قاله ابن زيد «٣»، وقرأ أبو عمرو «٤» بخلاف: «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش- خاطب الله سبحانه نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلّم في شأنهم مُتَّصلاً بقوله: فَذَرْهُمْ أي: فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة: ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ... الآية: أسند الطبريُّ «٥» عن عائشة أنها قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، قوله تعالى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ؟ قال: «لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وقلبه وجل، يخاف ألّا يتقبّل منه» «٦».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٧).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢١) برقم (٢٥٥٣٣) وذكره الغوي (٣/ ٣١١)، وابن عطية (٤/ ١٤٧)، والسيوطي (٥/ ٢٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٢) برقم (٢٥٥٣٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٧)، والسيوطي (٥/ ٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه.
(٤) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(٥) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٢).
(٦) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٧- ٣٢٨) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (٣١٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١٤٠٤) كتاب الزهد: باب التوقي على العمل، حديث (٤١٩٨)، وأحمد (٦/ ١٥٩، ٢٠٥)، والطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٠)، والحاكم (٢/ ٣٩٣- ٣٩٤) كلهم من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن عائشة به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢١)، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «نعت الخائفين»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان». [.....]
153
قال ع «١» : ولا نظرَ مع الحديث، والوَجَلُ: نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوَجِلِ إمَّا المُخَلِّطُ فينبغي أنْ يكونَ أبداً تحت خوف من أنْ يكونَ ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإمَّا التَّقِيُّ أوِ التائب، فخوفه أمرَ الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموتِ، وفي قوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ: تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البِرِّ، ويخافون أَلاَّ يُنْجِيَهُم ذلك من عذاب رَبِّهِم «٢»، وهذه عبارة حسنة، ورُوِيَ عن الحَسَنِ أيضاً أَنَّهُ قال: المؤمن يجمع إحساناً وشفقةً، والمنافِقُ يجمع إساءَةً وأمناً «٣».
قلت: ولهذا الخَطْبِ العظيم أطال الأولياءُ في هذه الدار حُزْنَهُمْ وأجروا على الوجنات «٤» مدامعهم.
قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان قال: إنما الحُزْنُ على قَدْرِ البصيرة «٥».
قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عُبِدَ اللهُ بمثل طُولِ الحُزْنِ «٦»، وقال ابن المبارك أيضاً: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التَّيْمِيِّ قال:
أَنَّ مَنْ أُوتي من العلم ما لا يُبْكِيهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أُوتِيَ عْلماً ينفعه لأَنَّ الله تعالى نعت ٣٢ أالعلماء فقال: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ/ إلى قوله: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ «٧» [الإسراء: ١٠٧- ١٠٩] انتهى.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٨).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٤) برقم (٢٥٥٤٧)، وذكره البغوي (٣/ ٣١١)، وابن عطية (٤/ ١٤٨)، والسيوطي (٥/ ٢٢)، وعزاه لابن المبارك في «الزهد»، وعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٤) برقم (٢٥٥٤٩)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٨)، والسيوطي (٥/ ٢١)، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن.
(٤) الوجنة: ما ارتفع من الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف.
ينظر: «لسان العرب» (٤٧٧٤).
(٥) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤٢) رقم (١٢٨).
(٦) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤١) رقم (١٢٦).
(٧) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٤١) رقم (١٢٥).
وقوله سبحانه: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ أي: إليها سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله: لَها، وقالت فرقةٌ: معناه وهم من أَجْلِها سابقون، وقال الطبريُّ عنِ ابن عباس: المعنى: سبقتْ لهم السعادَةُ في الأَزَلِ فهم لها «١»، وَرَجَّحَهُ الطبريُّ «٢» بأنَّ اللام متمكنة في المعنى.
وقوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أظهر ما قيل فيه أنَّه أراد كتابَ إحصاءِ الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل: الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا اخْتُلِفَ في الإشارة بقوله: مِنْ هذا هل هي: إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاءِ، أو إلى الدِّينِ بجملته، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلّم؟ وَلَهُمْ أَعْمالٌ أي: من الفساد هُمْ لَها عامِلُونَ: في الحال والاستقبالِ، والمُتْرَفُ: المُنَعَّمُ في الدّنيا، الذي هو منها في سرف، ويَجْأَرُونَ معناه: يستغيثون بصياح كصياح البقر، وكَثُرَ استعمال الجُؤَار في البَشَرِ ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيك طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا «٣»
وقال ص: جأر الرجل إلى الله تعالى، أي: تَضَرَّعَ قاله الحُوفِيُّ، انتهى، وذهب مجاهد وغيره إلى أَنَّ هذا العذابَ المذكورَ هو الوعيدُ بيوم بَدْرٍ «٤»، وقيل: غيرُ هذا.
وقوله سبحانه: لاَ تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا اليوم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٦ الى ٧٦]
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٦) برقم (٢٥٥٦٥)، وذكره البغوي (٣/ ٣١٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٨)، والسيوطي (٥/ ٢٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) ينظر: الطبريّ (٩/ ٢٢٦).
(٣) في «ديوانه» (٧٦) وينظر البيت في «تفسير الطبريّ» (٢/ ١٠٥)، والصاحبي (٨٤)، و «البحر المحيط» (٥/ ٥٠٠)، و «روح المعاني» (١٤/ ١٦٥)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٣٦).
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٨، ٢٢٩) برقم (٢٥٥٨١) عن مجاهد، وبرقم (٢٥٥٨٣) عن ابن جريج، وبرقم (٢٥٥٨٤) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٩)، والسيوطي (٥/ ٢٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد، وعزاه أيضا للنسائي عن ابن عباس.
وعزاه أيضا لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير.
155
وقوله: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني القرآن وتَنْكِصُونَ معناه: ترجعون وراءَكُم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحقّ ومُسْتَكْبِرِينَ حال والضمير في بِهِ: عائد على الحَرَم والمسجد وإنْ لم يَتَقَدَّمْ له ذكر لشهرته، والمعنى: إنكم تعتقدون في نفوسكم أَنَّ لكم بالمسجد الحرام أعظَم الحقوق على الناسِ والمنزلةَ عند اللَّه، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن والمعنى: يُحْدِثُ لكم سماعُ آياتي كبراً وطغيانا، وهذا قول جيّد، وذكر منذر بن سعيد: أن الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مُتَعَلِّقٌ بما بعده، كأن الكلام تَمَّ في قوله: مُسْتَكْبِرِينَ ثم قال: بمحمد عليه السلام سامرا تهجرون، وسامِراً حال، وهو مفرد بمعنى الجمع يقال: قوم سُمَّرٌ وسَمَرةٌ وسَامِرٌ، ومعناهُ: سُهَّرُ الليل مأخوذ من السَّمَرِ وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أَوْجَبَ معرفَتها بالنجوم لأَنَّها تجلس في الصحراء فترى الطوالِعَ من الغوارب، وقرأ أبو «١» رجاء: «سُمَاراً» وقرأ ابن عباس «٢» وغيره: «سمرا» وكانت قريش تَسْمُرَ حول الكعبة في أباطيلها وكفرها، وقرأ السبعة «٣» غيرَ نافع: «تَهْجُرُونَ» بفتح التاء
(١) وقرأ بها ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو نهيك، وزيد بن علي. قال أبو الفتح: فهذا ك: كاتب وكتّاب، وشارب وشرّاب.
ينظر: «الشواذ» (١٠٠)، و «المحتسب» (٢/ ٩٦)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٠)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣٨١)، و «الدر المصون» (٥/ ١٩٦).
(٢) وقرأ بها ابن مسعود، وأبو حيوة، وعكرمة، وابن محيصن، والزعفراني، ومحبوب عن أبي عمرو.
ينظر مصادر القراءة السابقة.
(٣) ينظر: «الحجة» (٥/ ٢٩٨)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٩٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٩٢)، و «العنوان» (١٣٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٧٧)، و «حجة القراءات» (٤٨٩)، و «شرح شعلة» (٥٠٨)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٦). [.....]
156
وضم الجيم قال ابن عباس «١» معناه: تهجرون الحَقَّ وذِكْرَ اللَّه، وتقطعونه من الهجران المعروف، وقال ابن زيد «٢» : هو من هجر المريض: إذا هذى، أي: تقولون اللغوَ من القول وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده: «تُهْجِرونَ» بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة، ومعناه: تقولون الفُحْشَ والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سبّهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قال ابن عباس «٣» أيضاً وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد/ قال بعضهم: شِعْرٌ، وبعضهم: سحر وغير ذلك، أم ٣٢ ب جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوَّلين أي: ليس بِبِدْعٍ بل قد جاء آباءهم الأَوَّلِينَ، وهم سالف الأمم الرُّسُلُ كنوح، وإبراهيم، وإسماعيلَ وغيرهم، وفي هذا التأويل من التَّجَوُّزِ أَنَّ جَعْلَ سالف الأمم، آباء إذِ الناس في الجملة آخِرُهم من أَوَّلِهِم.
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ المعنى: ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدَّةَ عمره صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ.
قال ابن جريج «٤»، وأبو صالح: الحقُّ: اللَّه تعالى.
قال ع «٥» : وهذا ليس من نَمَطِ الآية، وقال غيرهما: الحق هنا: الصواب والمستقيم.
قال ع «٦» : وهذا هو الأحرى، ويستقيمُ على هذا فساد السموات والأرض ومن فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاءِ وذلك أَنَّهُم جعلوا للَّه شركاءَ وأولاداً، ولو كان هذا حَقّاً لم تكن لله عز وجل الصفاتُ العِلَيَّةُ، ولو لم تكن له سبحانه- لم تكن الصَّنْعَةُ، ولا القُدْرَةُ كما هي، وكان ذلك فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢].
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣١) برقم (٢٥٦٠٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٠)، والسيوطي (٥/ ٢٤)، وعزاه للطستي عن ابن عباس بنحوه.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣٢) برقم (٢٥٦١٤)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٠).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣٢) برقم (٢٥٦١٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٠)، والسيوطي (٥/ ٢٤)، وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣٤) برقم (٢٥٦٢٣) عن أبي صالح، وبرقم (٢٥٦٢٥) عن ابن جريج، وذكره البغوي (٣/ ٣١٣)، وابن عطية (٤/ ١٥١)، وابن كثير (٣/ ٢٥٠) والسيوطي (٥/ ٢٥)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي صالح.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥١).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥١).
157
وقوله سبحانه: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ قال ابن عباس «١» : بوعظهم، ويحتمل:
بشرفهم، وهو مَرْويٌّ.
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً الخَرْجُ والخراج بمعنًى، وهو: المال الذي يُجْبَى ويؤتى به لأوقات محدودة.
وقوله سبحانه: فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ يريد ثوابَهُ، ويحتمل أن يريد بخراج ربك:
رِزْقَه، ويُؤَيِّدُهُ قوله: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
و «الصراط المستقيم» دين الإسلام، «وناكبون» : أَي: مجادلون ومُعْرِضُون، وقال البخاريُّ: لَناكِبُونَ: لعادلون، انتهى.
قال أبو حيان «٢» : يقال: نكب عن الطريقِ ونَكَّبَ بالتشديد، أي: عَدَلَ عنه، انتهى، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القَحْطُ، ومَنَّ اللَّه عليهم بالخصب، ورَحِمَهُم بذلك- لبقوا على كفرهم ولَجُّوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المُدَّةِ التي أصاب فيها قريشاً السِّنُونَ الجَدْبَةُ والجُوعُ الذي دعا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيُ يُوسُفَ» «٣» الحديث.
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ، قال ابن عباس وغيره «٤» : هو الجوعُ والجَدْبُ حَتَّى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، ورُوِيَ أَنَّهم لما بلغهم الجَهْدُ رَكِبَ أبو سفيانُ، وجاءَ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقال: يا محمد، ألستَ تزعمُ أَنَّك بُعِثْتَ رحمةً للعالمين؟ قال: بلى، قَالَ: قَدْ قَتَلْتَ الآباءَ بِالسَّيْفِ، واْلأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، وَقَدْ أكلنا العلهز «٥» فنزلت «٦» الآية،
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣٤) برقم (٢٥٦٢٦)، وذكره البغوي (٣/ ٣١٤)، وابن عطية (٤/ ١٥١)، والسيوطي (٥/ ٢٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٣٨٣).
(٣) تقدم.
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٣٥) برقم (٢٥٦٣٢)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٢).
(٥) العلهز: وبر يخلط بدماء الحلم، كانت العرب تأكله في الجاهلية تأكله في الجدب.
(٦) أخرجه النسائي في «التفسير» (٢/ ٩٨- ٩٩) رقم (٣٧٢)، والطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٣٥- ٢٣٦) رقم (٢٥٦٣٢)، وابن حبان (١٧٥٣- موارد)، والطبراني (١١/ ٣٧٠) رقم (١٢٠٣٨)، والحاكم (٢/ ٣٩٤)، والبيهقي في «الدلائل» (٢/ ٩٠- ٩١) من طريق عكرمة عن ابن عباس.
وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٦)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.
158
واسْتَكانُوا معناه: تواضعوا وانخفضوا.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٧ الى ٨٣]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذابٍ شَدِيدٍ... الآية تَوُعُّدُ بعذاب غير مُعَيَّنٍ، وهذا هو الصواب، وهذه المَجَاعَةُ إنَّما كانت بعد وقعة بدر، والمُبْلِسُ الذي قد نزل به شَرٌّ وَيئِسَ من زواله ونَسُخِهِ بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نِعَمٍ في نفس تعديدها استدلالٌ بها على عِظَمِ قدرته سبحانه، فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ...
الآية، أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوبُ، وذرأ: بَثَّ وخلق.
وقوله: بَلْ إضرابٌ، والجَحْدُ قبله مُقَدَّر/ كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه ٣٣ أالآيات أو نحو هذا، والْأَوَّلُونَ: يشير به إلى الأُمَمِ الكافرة: كعاد وثمود.
وقوله تعالى: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ... الآية، قولهم:
وَآباؤُنا إنْ حُكِيَ المقالة عن العرب فمرادُهُم مَنْ سَلَفَ من العالم، جعلوهم آباءَ من حيث النوعُ واحدٌ، وكونهم سلفاً، وفيه تَجُوزٌ، وإنْ حُكِيَ ذلك عن الأَوَّلِينَ فالأَمر مستقيم فيهم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٨٤ الى ٩١]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)
وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أَمَر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا
يمكنهم إلاَّ الإقرارُ بها، ويلزم من الإقرار [بها] «١» توحيدُ اللَّه وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع «٢» في الأَوَّل: «للَّه» بلا خلاف، واخْتُلِفَ في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحدَه: «اللَّه» جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: «للَّه» جواباً على المعنى، كأنه قال في السؤال: لمن ملك السموات السبع؟
وقوله سبحانه: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط وَوَضْعِ الأفعالِ والأَقوالِ غيرِ مواضعها ما يقع من المسحور عَبَّرَ عنهم بذلك.
وقالتَ فرقة: تُسْحَرُونَ معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لُغَةً، والإجارة:
المنع، والمعنى: أَنَّ اللَّه تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذَه فلا مانِعَ له.
وقوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، وفي قوله سبحانه: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [الآية] «٣».
دليلُ [التمانع] «٤» وهذا هو الفسادُ الذي تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. [الأنبياء: الآية ٢٢]. والجزءُ المُخْتَرَعُ مُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ به قدرتان فصاعداً، وقد تقدم الكلامُ على هذا الدليل فَأَغنى عن إعادته.
وقوله: إِذاً جوابٌ لمحذوف تقديره: لو كان معه [إله] «٥» إذاً لذهب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٢ الى ٩٨]
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
(١) سقط في ج.
(٢) ينظر اتفاق الجميع على هذا الحرف، واختلافهم في الثاني والثالث، يعني في قوله تعالى «لله» من الآيتين (٨٧)، (٨٩) - في: «السبعة» (٤٤٧)، و «الحجة» (٥/ ٣٠٠)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٩٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٩٤)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٧٨)، و «العنوان» (١٣٧)، و «حجة القراءات» (٤٩٠)، و «شرح شعلة» (٥٠٩)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٧). [.....]
(٣) سقط في ج.
(٤) سقط في ج.
(٥) سقط في ج.
160
وقوله: عالِمِ الْغَيْبِ المعنى: هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو «١» وغيره: «عَالِمِ» بالجر اتباعاً للمكتوبة.
وقوله سبحانه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أمَرَ اللَّه تعالى نَبِيَّه- عليه السلام- أنْ يدعوَ لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن كان قضي أن يرى ذلك، و «إن» شرطية و «ما» زائدة و «تريني» جزم بالشرط لزمته النونُ الثقيلة وهي لا تُفَارِقُ، «أَمَّا» عند المُبَرِّدِ، ويجوزُ عند سيبويه أنْ تفارقَ، ولكن استعمالَ القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأُمَّةِ دُعَاءٌ في حسن الخاتمة، وقوله ثانياً: «رب» اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أمْرٌ بالصفح ومكارِمِ الأخلاق، وما كان منها لهذا فهو مُحْكَمٌ باقٍ في الأُمَّةِ أبداً، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال.
وقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ يقتضي أَنَّها آية مُوَادَعَةٍ.
وقال مجاهد «٢» : الدفع بالتي هي أحسن: هو السلامُ، تُسَلِّمُ عليه إذا لَقِيتَه.
وقال الحسن «٣» : واللَّه لا يُصِيبُهَا/ أَحَدٌ حَتَّى يكظم غيظه، ويصفح عمّا يكره، وفي ٣٣ ب الآية عدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أي: اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتَّعَوُّذِ من همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسانُ فيها نفسه وكأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكُفَّارِ فتقع المجادلة، ولذلك اتَّصَلَتْ بهذه الآية، وقال ابن زيد:
هَمْزُ الشيطان: الجنونُ «٤»، وفي «مُصَنَّفِ أَبي داودَ» : أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ: هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، ونَفْثِهِ» «٥». قال أبو داودَ: همزه: الموتة، ونفخه:
(١) وقرأ بها ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم.
ينظر: «السبعة» (٤٤٧)، و «الحجة» (٥/ ٣٠١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٩٤)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٩٥)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٧٩)، و «شرح شعلة» (٥٠٩) و «حجة القراءات» (٤٩١)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٧).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤١) رقم (٢٥٦٤٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٥).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤١) رقم (٢٥٦٤٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٥).
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤٢) برقم (٢٥٦٤٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٥)، والسيوطي (٥/ ٢٨)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد.
(٥) أخرجه أبو داود (١/ ٢٦٢- ٢٦٣) كتاب الصلاة: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، حديث (٧٦٤)، وابن ماجه (١/ ٢٦٥) كتاب الصلاة: باب الاستعاذة في الصلاة، حديث (٨٠٧)، وأحمد (٤/ ٨٥) من حديث جبير بن مطعم.
161
الكبر، ونفثه: السحر.
قال ع «١» : والنّزعات وسورات الغضبِ من الشيطان، وهي المُتَعَوَّذُ منها في الآية، وأصل الهمز: الدَّفْعُ والوَكزُ بيدٍ أو غيرها.
قلت: قال صاحب «سلاح المؤمن» : وهَمَزَاتُ الشياطين: خَطَرَاتُها التي تَخْطِرَهَا بقلب الإنسان، انتهى.
وقال الواحديّ: همزات الشياطين: نزغاتها ووساوسها، انتهى.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ حَتَّى في هذا الموضع حَرْفُ ابتداءٍ، والضمير في قوله: أَحَدَهُمُ للكفار، وقوله: ارْجِعُونِ أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: ارْجِعُونِ: نون العظمة وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة: «إذَا عَايَنَ المُؤْمِنُ المَوْتَ، قَالَتْ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ: نُرْجِعُك؟
فيقول: إلى دَارِ الهُمُومِ وَالأَحْزَانِ؟ بل قُدُماً إلى اللهِ، وأَمَّا الكَافِرُ، فَيَقُولُ: ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً»
«٢».
وقوله: كَلَّا: رَدٌّ وزجر.
وقوله: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تحتمل ثلاثة معانٍ:
أحدها: الإخبارْ المُؤكّدُ بأنَّ هذا الشيء يقع، ويقولُ هذه الكلمة.
الثاني: أنْ يكون المعنى: إنها كلمة لا تغنى أكثر من أَنَّه يقولها، ولا نفعَ له فيها ولا غَوْثَ- الثالث: أنْ يكون إشارةً إلى أنّه لو رُدَّ لعاد، والضمير في: وَرائِهِمْ للكفار، والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثَم يُسْتَعَارُ لما عدا ذلك، وهو هنا:
للمُدَّةِ التي بين موت الإنسان وبين بعثه هذا إجماع من المفسرين.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٥).
(٢) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٤٢) رقم (٢٥٦٥٢) عن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة، فذكره.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٩)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
162
وقوله عز وجل: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ... الآية: قال ابن مسعود «١» وغيرُه: هذا عند النفخة الثانية وقيامِ الناس من القُبُورِ فهم حينئذٍ لهول المطلع واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائلُ، وزال انتفاعُ الأنساب فلذلك نفاها سبحانه، والمعنى: فلا أنسابَ نافعةٌ، ورُوِيَ عن قتادَة أَنَّهُ: ليس أَحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم مِمَّن يَعْرِفُ، لأَنَّهُ يخاف أَنْ يكونَ له عنده مَظْلِمَةٌ «٢»، وفي ذلك اليوم يَفِرُّ المرء من أخيه وأُمِّهِ وأبيه وصاحبتِهِ وبَنِيْهِ، ويفرحُ كلُّ أحد يومئذٍ أنْ يكون له حَقُّ على ابنه وأبيه، وقد وَرَدَ بهذا حديثٌ، وكأنّ ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة مواطنُ يكون فيها السؤال والتعارف.
قال ع «٣» : وهذا التأويل حَسَنٌ، وهو مرويُّ المعنى عن ابن عباس «٤»، وذكر البزَّارُ من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كَفَّتَيِ الْمِيزَانِ، فَإنْ ثَقُلَ مِيزانُهُ، نَادَى/ المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ الخَلاَئِقَ: سَعِدَ فُلاَنٌ ٣٤ أسعادة لاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَداً، وَإنْ خَفَّ مِيزَانُهُ، نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلاَئِقَ: شَقِيَ فُلاَنٌ شَقَاوَةً لاَ يَسْعَدُ بَعْدَهَا أبداً «٥» »، انتهى من «العاقبة». وروى أبو داودَ في «سننه» عن عائشة رضي الله عنها أَنَّها ذَكَرَتِ النَّارَ فبكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ:
ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذكُرُونَ أَهْلِيَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَمَّا في ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ، فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَداً، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَم: أَيِخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الكِتَابِ حَتَّى يَقُولَ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩]، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يُعْطَى كِتَابَهُ: أفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شَمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ»
«٦»، انتهى. ولفح النار: إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشافُ الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابن
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٩) نحوه، وذكره البغوي (٣/ ٣١٧)، وابن عطية (٣/ ١٥٦)، والسيوطي (٥/ ٣٠)، وعزاه لابن المبارك في «الزهد»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية»، وابن عساكر عن ابن مسعود بنحوه.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤٥) برقم (٢٥٦٧١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٦)، والسيوطي (٥/ ٣٠)، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٦).
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤٤) برقم (٢٥٦٦٧) نحوه، وذكره البغوي (٣/ ٣١٧)، وابن عطية (٤/ ١٥٦). [.....]
(٥) أخرجه البزار (٣٤٤٥- كشف) من حديث أنس بن مالك، وذكره الهيثمي (١٠/ ٣٥٣) وقال: رواه البزار، وفيه صالح المري، وهو مجمع على ضعفه.
(٦) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٥٤) كتاب السنة: باب في ذكر الميزان، حديث (٤٧٥٥).
163
مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكِبَاشِ إذا شيطت بالنار فإنَّها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد «١».
قلت: وفي «الترمذيِّ» عن أبي سعيد الخدريّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال: تَشْوِيهِ النَّارُ، فَتَقْلُصُ شَفَتُهُ العُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ... » «٢» الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب، انتهى.
وهذا هو المُعَوَّلُ عليه في فهم الآية، وأَمَّا قول البخاريِّ: كالِحُونَ «٣» معناه:
عابسون- فغيرُ ظاهر، ولَعَلَّهُ لم يقف على الحديث.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٨]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي: يقال لهم، والآياتُ هنا القرآن، وقرأ حمزة:
«شَقَاوَتُنَا» ثم وقع جواب رغبتهِم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ويقال: إنَّ هذه الكلمة إذا سمعُوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جَهَنَّمُ، ويقع اليأسُ- عافانا الله من عذابه بمنّه وكرمه-! وقوله: اخْسَؤُا زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٠٩ الى ١١٨]
إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣)
قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٤٦) برقم (٢٥٦٧٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٧)، والسيوطي (٥/ ٣١) وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٧٠٨) كتاب صفة جهنم: باب ما جاء في صفة طعام أهل النار، حديث (٢٥٨٧)، وفي (٥/ ٣٢٨) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (٣١٧٦)، وأحمد (٣/ ٨)، والحاكم (٢/ ٣٩٥)، وأبو يعلى (٢/ ٥١٦) رقم (١٣٦٧) كلهم من طريق ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.
وصححه الحاكم.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٣١)، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «صفة النار»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في «الحلية».
(٣) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٢٩٩) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين.
164
وقوله عز وجل: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا... الآية الهاء في إِنَّهُ: مُبْهَمَةٌ: وهي ضمير الأمر والشأن، والفريقُ المُشَارُ إليه: كُلُّ مُسْتَضْعَفٍ من المؤمنين يَتَّفِقُ أنْ تكون حالُه مع كُفَّارٍ مِثلَ هذه الحال، ونزلت الآية في كُفَّارِ قريشِ مع صُهَيْبٍ، وعَمَّار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمَنْ جرى مجراهم قديماً وبقيةَ الدهر، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «سُخْرِيّاً» بضم السين «١»، والباقون بكسرها فقيل هما بمعنى واحد ذكر ذلك الطبريُّ «٢».
وقال ذلك أبو زيد الأنصاريُّ: إنهما بمعنى الهُزْءِ «٣»، وقال أبو عبيدَة وغيره: إنَّ ضم السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء»
، ومعنى الاستهزاء هنا أليق أَلاَ ترى إلى قوله: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ.
وقوله سبحانه: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ... الآية قوله: فِي الْأَرْضِ قال الطبريُّ «٥» معناه: في الدنيا أحياءَ، وعن هذا وقع السؤال، ونَسُوا لفرط هول العذاب حَتَّى قالوا: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والغرضُ توقيفهم على أَنَّ أعمارهم قصيرة أَدَّاهُمُ الكُفْرُ فيها إلى عذاب طويل، عافانا الله من ذلك بِمَنِّهِ وكرمه!.
وقال الجمهور: معناه: كم لَبِثْتُمْ في جوف التراب أمواتاً؟ قال ع «٦» : وهذا هو
(١) وحجتهم: إجماع الجميع على الرفع في سورة الزخرف، فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.
ينظر: «السبعة» (٤٤٨)، و «الحجة» (٥/ ٣٠٢)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٩٥)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٨٠)، و «العنوان» (١٣٧)، و «حجة القراءات» (٤٩١)، و «شرح شعلة» (٥١٠)، و «إتحاف» (٢/ ٢٨٨).
(٢) ينظر: الطبريّ (٩/ ٢٥٠).
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ١٥٨).
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ١٥٨).
(٥) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٥٣).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٨).
165
٣٤ ب الأصوب من حيث أنكروا البعث/. وكان قولهم: إنهم لا يقومون من التراب، وقوله آخراً: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاَ تُرْجَعُونَ يقتضي ما قلناه.
قلت: الآيات محتملة للمعنيين، والله أعلم بما أراد سبحانه قال البخاريُّ «١» : قال ابن عباس: فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي: الملائكة «٢»، انتهى.
ص: قرأ الجمهور: «العَادِّينَ» «٣» - بتشديد الدال- اسم فاعل من «عدّ»، وقرأ الحسن والكسائيّ في رواية: «العَادِينَ» «٤» بتخفيف الدال، أي: الظَّلَمَةَ، و «إنْ» من قوله:
إِنْ لَبِثْتُمْ نافيةٌ، أي: ما لبثتم إلّا قليلا، اهـ. وعَبَثاً: معناه: باطلاً، لغير غَايَةٍ مُرَادَةٍ، وخَرَّجَ أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعانيِّ عن ابن مسعود «أنه قرأ في أذن مبتلى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً... إلى آخر السورة، فأفاق، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما قرأتَ في أذنه؟ قال: قرأت: أَفَحَسِبْتُمْ... إلى آخر السورة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ أَنَّ رَجُلاً مُوقِناً قَرَأَهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَال»
، انتهى «٥»، وخَرَّجَهُ ابن السُّنِّيُّ أيضاً، ذكره النووي.
وقوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ: المعنى: فتعالى الله عن مقالتهم في دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم تَوَعَّدُ سبحانه عَبَدَةَ الأوثان بقوله: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وفي حرف عبد الله: «عند ربك»، وفي حرف «٦» أُبَيِّ: «عند الله» ثم أَمر تعالى نَبِيَّهُ صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء والذكر له فقال: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
(١) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٢٩٩) كتاب التفسير: باب سورة المؤمنين.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٢) برقم (٢٥٦٩٥) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (٤/ ١٥٩) عن مجاهد، والسيوطي (٥/ ٣٤)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٣٩٠). [.....]
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٣٩٠)، و «الدر المصون» (٥/ ٢٠٥)، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ٢٨٩).
(٥) أخرجه أبو يعلى (٨/ ٤٥٨) رقم (٥٠٤٥)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٦٣١)، وأبو نعيم في «الحلية» (١/ ٧).
كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥/ ١١٥)، وقال: رواه أبو يعلى، وفيه ابن لهيعة، وفيه ضعف، وحديثه حسن اهـ. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٣٤)، وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٦) في قراءة عبد الله، وقراءة أبي: ينظر «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٩).
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٥٩).
166
Icon