ﰡ
خَاشِعُونَ - مُتَذَلِّلُونَ خَائِفُونَ سَاكِنُون.
اللَّغْوِ - مَا لاَ يَجْمُل ِنَ القَوْلِ والفِعْلِ.
﴿لِلزَّكَاةِ﴾ ﴿فَاعِلُونَ﴾
(٥) - والذينَ يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُم فَلاَ يُقَارِفُونَ مُحَرَّماً، وَلاَ يَقَعُونَ فِيمَا نَهَاهُم اللهُ عَنْهُ مِنْ زَنىً وَغَيْرِهِ.
(٦) - وَلاَ يَقْرَبُونَ سِوَى مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ مِنْ أَزْوَاجٍِههِمْ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْْمَانُهم مِنْ إِمَاءٍ، وَمَنْ بَاشَرَ مَا أَحَلَّّ اللهُ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَلُومٍ فِي ذَلِكَ.
(٧) - فَمَنْ تَجَاوَزَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الحَرَامِ، فَهْوَ مِنَ المُعْتَدِينَ، المُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللهُ.
العادُونَ - المُعْتَدُونَ المُتَجَاوِزُونَ الحَلاَلَ إِلَى الحَرَامِ.
(٨) - وَالذينَ إِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا أَمَانَاتِهم، بَلْ يُؤَدُّونَها إِلى أَهْلِهَا، وإِذَا عَاهَدُوا أو عَاقَدُوا أَوْفُوا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخُونُوا وَلَمْ يَغْدُرُوا، وَبقوا مُحَافِظِينَ عَلَى عُهُودِهِمْ وأَمَانَاتِهِمْ وعُقُودِهِمْ.
(٩) - والذينَ يُداوِمُونَ عَلَى أَدَاءِ صَلَوَاتِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ، يُؤَدُّونَها فِي مَوَاقِيتِهَا، ويَتِمُّونَها بِخُشُوعِها، وسُجُودِها، حَتَّى تُؤدِّي المَقْصُودَ مِنْهَا، وَهُوَ خَشْيَةُ اللهِ، والانْتِهَاءُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ.
(١٠) - وَبَعْدَ أَنْ عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوصَافَ المُؤْمِنِينَ الحَمِيدَةَ قَالَ إِنَّ الذينَ اتَّصَفُوا بهذِهِ الصِّفَاتِ الرَّفِيعَةِ يَرِثُونَ الجَنَّةَ، وَيَتَبَوَّءُونَ أَعْلَى مَرَاتِبها، جَزاءً لَهُمْ عَلَى مَا زَيَّنُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مِنَ الصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، والآدَابِ العَاليَةِ، وَيَبْقَونَ فِيها خَالِدِينَ أَبَداً.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ وَلَهُ مَنْزِلانِ: مَنْزِلٌ فِي الجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ. فَإِنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنْزِلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلَه تَعَالَى: ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾ " (أَخْرَجَه ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَة).
(١١) - فَهَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ هُمُ الذينَ يَرِثُونَ مَنَازِلَ الكُفَّارِ فِي الجَنَّةِ، وَيْبْقَونَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ " إِذَا سَأَلْتُم الله الجَنَّةَ فَاسْألوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّه أَعْلَى الجَنَّةِ وأَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجِّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ "
(١٢) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ بَدْءِ خَلْقِ الإِنْسَانِ فَيَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ، أَيْ إِنَّ الله تَعَالَى اسْتَلَّهُ مِنَ الطِّينِ، وفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى المُوجِبَةِ لِلإِيْمَانِ بِهِ.
السُلاَلَةُ - مَا اسْتُلًَّ مِنَ الشيء واسْتُخْرِجَ مِنْهُ أو خُلاَصَتُهُ.
(١٣) - ثُمَّ جَعَلَ اللهُ نَسْلَ آدَمَ مُتَحَدِّراً مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ضَعِيفٍ (مَهِينَ)، فَتَخْرُجُ النُطْفَةُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَسْتَقِرُّ فِي رَحِمِ الأُنْثَى، وَتَكُونُ النُطْفَةٌُ فِي حِرْزٍ حَصِينٍ فِي وَقْتِ الحَمْلِ، إِلى حِينِ الوِلاَدَةِ.
والرَّحِمُ مَحْفُوظٌ بِعِظَامِ الحَوْضِ.
قَرَارٍ مَكِينٍ - مُسْتَقِرٍّ مُتَمَكِّنٍ وَهُوَ الرَّحِمُ.
(١٤) - ثُمَّ صَيَّرَ النُطْفَةَ عَلَقَةً مِنْ دَمٍ؟ ثُمَّ صَيَّرَ العَلَقَةَ مُضْغَةً - أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ بِقَدَرِ مَا يُمْضَغُ - ثُمَّ أَعْطَى هَذِهِ المُضْغَةَ شَكْلَ المَخْلُوقِ، فَإَخَذَ فِي إِظْهَارِ الرأسِ واليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ وَمَلاَمِحِ الوَجْهِ. وَخلَقَ العِظَامَ وَكَسَاهَا لَحْماً، ثُمَّ جَعَلَ هذَا الجَنْينَ خَلْقَاً آخر بَعْدَ وِلاَدَتِهِ. ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَصَوْتٍ وَحَرَكَةٍ وَإِدْرَاكٍ، مَغايِراً لِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي بَدْءِ تَكَوِينِهِ، ثُمَّ يَتَطَّورُ فِي النُمُوِّ. فَتَبَارَكَ اللهُ، وَتَنَزَّهَ عَلَى هَذِهِ القُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الخَلْقِ.
عَلَقَةً - دَماً مُتَجَمِّداً.
مَضْغَةً - قِطْعَةَ لَحْمٍ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ.
خَلْقاً آخَرَ - مُبَايِناً للأَوَّلِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فيهِ.
أَحْسَنُ الخَالِقِينَ - أَتْقَنُ الصَّانِعِينَ والمُصَوِّرِينَ.
(١٦) - ثُمَّ يُعِيدُ اللهُ إِنْشَاءَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَبْعَثُكُم مِنْ قُبُورِكُم لِيُحَاسِبَ كُلَّ مَخْلُوقٍ عَلَى عَمَلِهِ.
(١٧) - وَبَعْدَ أَنْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى خَلْق الإِنْسَانِ وَمَوْتِهِ وَبَعْثِهِ، أَشَارَ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَمَا أَبْدَعَ فِيهِنَّ. فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ خَلَقَ سَبْعَ طَرَائِقَ؛ وَهذِهِ الطَّرَائِقُ تَعني السماوات السَبْعَ - وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾ وَهَذِهِ الطرَائِقُ السَبْعُ كَائِنَةٌ فَوْقَ الأَرْضِ، أَوْ تُحِيطُ بِالأَرْضِ، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، أَوْ خَلْفَ بَعْضٍ، وَقَدْ خَلَقَهَا الله بِحِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ، وَحَفِظَها بِنَامُوسٍ مَحْفُوظٍ فَهِيَ مُتَنَاسِقَةٌ فِي وَظَائِفِهَا وَفِي اتِّجَاهِهَا، وَحَكَمَها بِنَامُوس وَاحِدٍ، وَكُلُّهَا تَتَعَاوَنُ فِي أَدَاءِ وَظَائِفِهَا، وَلَمْ يَكُن اللهُ تَعَالَى غَافِلاً عَمَّا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ، ولَوْ أَهْمَلَ الخَلْقَ لاخْتَلَّ تَوازُنُهُ واضْطَرَبَ فِي سَيْرِهِ.
(١٨) - يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَراً (مَاءً)، بِحَسَبِ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، لاَ كَثِيراً فَيُفْسِدُ الأَرْضَ والعُمْرَانَ، وَلاَ قَلِيلاً فَلاَ يَكْفِي الزُّرُوعَ والثِّمَارَ (بِقَدَرٍ)، وَيَسْتَقِرُّ هَذَا الماءُ فِي الأَرْضِ.. وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ اسْتِعْدَاداً للانْتِفَاعِ بِهِ لإِخْرَاجِ النَّبَاتِ والثِّمَارِ والزُّرُوعِ. وَلَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لا تُمْطِرَ السَّمَاءُ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ صَرْفَ المَطَرِ عَنِ النَّاسِ إِلَى الأََرَاضِي السَّبخَةِ التي لاَ تُنْبِتُ لَفَعَلَ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ مِلْحاً يُضِرُّ بالأرْضِ والنَّبَاتِ ولا يُنْتَفعُ بِهِ لَفَعَلْ. وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ يَغُورُ فِي الأَرْضِ فَلاَ يُوصَلُ إِلَيْهِ لَفَعَلَ ذَلِكَ أيضاً. وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمُ المَطَرَ عَذْباً فَيُسْكِنُهُ فِي الأَرْضِ وَيَسْلكُهُ يَنَابِيعَ فِيها فَيَفْتَحُ العُيُونَ والأَنْهَارَ، وَتُسْقَى بِهِ الزُّرُوعُ والثِّمَارُ، تَشْرَبُونَ مِنْهُ أَنْتُم وَدَوَابُّكُم وأَنْعَامُكُمْ وَتَسْتَعمِلُونَه فِي طُهُورِكُم وَنَظَافَتِكُم فِللَّهِ الْحَمْدُ والمِنَّةُ
بِقَدَرٍ - بِمقْدَارِ الحَاجَةِ والمَصْلَحَةِ.
(١٩) - فَأَخْرَجَ اللهُ بِهَذَا المَاءِ الذي أَنْزَلَهُ مِنَ السمَاءِ بَسَاتِينَ وَحَدَائِقَ (جِنَّاتٍ)، فِيهَا النَّخِيلُ والأَعْنَابُ والزَّيْتُونُ مِنَ الفَوَاكِهِ الكَثِيرَةِ التِي يَأْكُلُهَا النَّاسُ، وَيَتَمتَّعُونَ بِهَا.
﴿لِّلآكِلِيِنَ﴾
(وَفِي الحَدِيثِ: " كُلوا الزَّيْتَ وادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ").
(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ).
شَجَرَةً تَنْبُتُ بالدُّهْنِ -شَجَرَةَ الزَّيْتُونِ التي يَلْتَبِسُ ثَمَرُهَا بالزَّيْتِ.
صِبْغٍ لِلآكِلِينَ - إِدَامٍ لَهُمْ يُغْمَسُ فِيهِ الخُبْزُ.
(٢١) - يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى مَا جَعَلَ فِي الأَنْعَامِ - وَهِيَ الإِبلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والمَاعِزُ - مِنْ مَنافِعَ لِخَلْقِهِ، فَهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَيَأَكُلُونَ مِنْ لُحُومِهَا، وَيَلْبَسُونَ مِنْ أَصُوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وأَشْعَارِهَا، وَيَرْكَبُونَ عَلَى الإِبْلِ وَيَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي خَلْقِ هَذِِهِ الأَنْعَامِ عِبْرَةً لِلنَّاسِ، وَدَلاَلَةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، فَالدَّمُ الذي يَتَوَلَّدُ مِنَ الأَغْذَيَةِ يَتَحَوَّلُ فِي غُدَدِ الضْرعِ إِلى لَبَنٍ طَيِّبِ المَذَاقِ، لَذِيذِ الطَّعْمِ، صَالِحٍ لِلتَغْذِيَةِ.
الأَنْعَامُ - الإِبْلُ والبَقَرُ والغَنَمُ والمَاعِزُ.
لِعِبَرَةً - لَعِظَةً وَآيَةً عَلَى القُدْرَةِ والرَّحْمَةِ.
(٢٣) - لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى نُوحاً عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُحَذِّرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَبَأْسِهِ الشَّدِيدِ، وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِهِ، وخَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَيْسَ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فَتَحْذَرُوا أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ سِوَاهُ؟
(٢٤) - فَقَالَ السَّادَةُ الكُبَرَاءُ مِنْ قَوْمِهِ (الملأُ) : لَيْسَ نُوحٌ إِلاَ بَشَراً مِثْلَكُمْ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَرَفَّعُ عَلَيْكُمْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ فَكَيْفَ أُوْحِيَ إِلَيْهِ مِنْ دُونِكُمْ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ يَفْضُلكُمْ بِشيء؟ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ نَبِيَّاً لَبَعَثَ مَلَكاً مِنْ عِنْدَهِ لاَ بَشَراً، وَنَحْنُ لَمْ يَأتِنا عَنْ أَسْلاَفِنَا وآبَائِنا الأَوَّلينَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رُسُلاً مِنَ البَشَرِ، ولاَ سَمِعْنَا بِمِثْلِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ نُوحٌ مِنْ عِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ.
المَلأُ - وُجوهُ القَوْمِ والسَّادَةُ.
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ - يَتَرَأَّسَ وَيَشرُفَ عَلَيْكُمْ
(وَقِيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ: اصْبِروا عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يَضِيقُ بِمَا هُوَ فِيهِ فَيَرْجِعُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلى دِينِ الآباءِ والأَجْدَادِ).
بِهِ جِنَّةٌ - بِهِ جُنُونٌ، أَوْ جِنٌّ يَخْبُلونَهُ.
فَتَرَبَّصُوا بِهِ - انْتَظِرُوا واصْبِرُوا عَلَيْه.
(٢٧) - فَأَوْحِيْنَا إِلَى نُوحٍ حِينَ اسْتَنْصَرنَا عَلَى قَوْمِهِ الكَفَرَةِ، أن اصْنَعِ السَّفِينَةَ بِأَعْيُنِنَا وَتَحْتَ حِفْظِنا وَرِعَايَتِنَا لَكَ مِنَ التَّعَدِّي عَلَيْكَ، وَتَعْلِيمِنا إِيَّاكَ طَرِيقَةَ صُنْعِها، فَإِذَا جَاءَ قَضَاؤُنا بِإهْلاَكِ قَوْمِكَ وَعَذَابِهِمْ، وَأَخَذَ الماءُ يَنْبَعُ مِن وَجْهِ الأَرْضِ حَتَّى وَصَلَ فِي ارْتِفَاعِهِ إِلَى التَّنُّورِ - وَهُوَ مَوْضِعُ النَّارِ - فَفَارَ، فَأَدْخِلَ فِي السَّفِينَةِ أَهْلَكَ - أَوْلاَدَكَ وَنِسَاءَهم إِلاَّ مَنْ سَبَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اللهِ أَنَّهُ هَالِكَ ضِمْنَ مَنْ سَيَهْلِكُ، فَلاَ تَحْمِلْهُ مَعَكَ -، وَأَدْخِلُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ زَوْجَيْنِ ذَكَراً وأُنْثَى لِتَبْقَى بُذُورُ الحَيَاةِ، بَعْدَ أَنْ تَهْلِكَ الخَلاَئِقُ بالطُّوفَانِ. وأَمَرَ اللهُ تَعالَى نُوحاً بألا تَأْخُذَهُ الرأْفَةُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ أًَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَقَضَى اللهُ بِإِهْلاَكِهِ. وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَضَى بِأنَّهُمْ مُغْرَقُون لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والعُتُوِّ، فَعَلَيْهِ أَنْ لاَ يَرجُوَ مِنْ رَبِّهِ إِنْجَاءَهَم.
بأَعْيِنُنا - بِرِعَايَتِنَا وَحِفْظِنَا.
فَارَ التَّنُّورُ - نَبَعَ الماءُ مِنْ التَّنُّورِ المَعْرُوفِ
فَاسْلُكْ فِيهَا - فَأَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ
(٢٨) - فَلإِذَا رَكَبْتَ فِي السَّفِينَةِ، وَاطْمأَْنَْتَ أَنْتَ وَمَنْ حَمَلْتَهُم مَعَكَ فِيها، فَقُلْ: الحَمْدُ لله الذِي نَجَّانَا مِنْ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ.
مُنْزِلاً - إِنْزَالاً أَوْ مَكَانَ إِنْزَالٍ.
﴿لآيَاتٍ﴾
لَمُبْتَلِينَ - لَمُخْتَبِرينَ عِبَادَنَا بِهِذِه الآيَاتِ.
(٣١) - ثُمَّ أَوْجَدَ اللهُ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أَقْوَاماً آخَرِينَ (قَرْناً)، يَخْلفُونَهم فِي الأَرْضِ - وَقِيلَ إِنَّهُمْ قَوْمُ عَادٍ لأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ بَعْدَهُم - وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ مَا قَالَهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلاَمِ لِقَوْمِهِ وَهُوَ يُحَذِّرُهم وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ ﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.﴾ قَرْناً آخَرِينَ - أُمَماً آخَرِينَ. أُمَماً أُخْرَى وَهُمْ عَادٌ الأُولى قَوْمُ هُودٍ.
(٣٣) - وَقَالَ الكُبَرَاءُ المُتْرَفُونَ مِنَ قَوْمِ هَذَا النَّبِيِّ، وَهُمُ الذِينَ كَفُرُوا بِرَبِّهِم، وَكَذَّبُوا بِيَوْمِ القِيَامَةٍ، لِمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ: إِنَّ هَذَا المُدَّعِيَ بِأَنَّ الله أَرْسَلَهُ إِلَيْكُم رَسُولاً، إِنْ هُوَ إِلاَّ بَشَرٌ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ كَمَا تَفْعَلُونَ أَنْتُمْ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بشَرٌ رَسُولاً مِنَ اللهِ؟
أَتْرَفَنَاهُمْ - نَعَّمْناُم وَوَسَّعْنَا عَلَيْهِم فَبَطِرُوا.
(٣٤) - وإِنَّكُمْ إِذَا آمَنْتُم لِبَشَرٍ مِثلِكُمْ، وَصَدَّقْتُم بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَعَبَدْتُم الإِلَهَ الذي يَدْعُوكُم لِعِبَادَتِهِ.. فَإِنَّكُم تَكُونَونَ مِنَ الخَاسِرِينَ، لأَنَّكُم لَنْ تَنْتَفِعُوا بِطَاعَتِهِ.
(٣٥) - ثُمَّ قَالَ الكُبَرَاءُ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ سَاخِرِينَ: أَيَعِدُكُمْ هَذَا المُدَّعِي أَنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِظَامُكُم وأَجْسَادُكُمْ قَدْ بَلِيَتْ وَأَصْبَحَتْ تُرَاباً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ.
هَيْهَاتَ - بَعْدَ وُقُوعُ ذَلِكَ المَوْعُودِ.
(٤٠) - فَأَجَابَ اللهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ، وَقَالَ لَهُ، إِنَّ قَوْمَهُ سَيُصْبِحُونَ، خِلاَلَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، نَادِمِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَتَكْذِيبِهِم رَسُولَ رَبِّهِم، حِيْنَما يَحِلُّ بِهِم العَذَابُ.
الغُثُاءُ - الشيءُ الحَقِيرُ الذي لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ الذي يَحْمِلُهُ السَّيْلُ مَعَهُ، أيْ إِنَّى هَؤُلاَءِ الكُّفَارَ أصْبَحُوا هَالِكِينَ لاَ قِيمَةَ لَهُمْ.
الصَّيْحَةُ - العَذًَابُ الشَّدِيدُ - أَوْ هِيَ صَوْتُ الزِّلْزَالِ.
فَبُعْداً - فَهَلاكاً، أو بُعْداً مِنَ الرَّحْمَةِ.
(٤٢) - ثُمَّ أَنْشَأَ اللهُ أُمَماً وَأَجْيَالاً آخَرِينَ بَعْدَ إِهْلاَكِهِ عَاداً، مِنْهُم ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ، وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ قَوْمُ شُعَيْبٍ، وَقَوْمُ لُوطٍ.
قُرُوناً آخرِين - أُمَماً أُخْرَى.
(٤٣) - وَلاَ تَتقَدَّمُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ الوَقْتَ الذي قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالى لِهَلاَكِهَا، وَلاَ تَسْتَأَخِرُ عَنْهُ، فَلِكُلِّ شَيء مِيقَاتٌ يَتِمُّ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَدَّاهُ.
(٤٤) - ثُمَّ أًَوْجَدَ اللهُ بَعْدَ هَؤُلاءِ المُهْلَكِينَ أُمَماً (قُرُوناً) أُخْرَى، وأَرْسَلَ إٍِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً يَدْعُوهُم إِلى اللهِ، وَيُبَلِّغُهُمْ رِسَالاَتِهِ، وأَتْبَعَ الله الرُّسُلَ بَعْضَهُمْ بَعْضاً (تَتْرَى)، وَكُلَّمَا جَاءَ رَسُولٌ إِلَى القَوْمِ الذينَ أَُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، كَذَّبَهُ جُمْهُورُ الكُبَرَاءِ والقَادَةِ، فَأَهْلَكَهُم اللهُ، وألْحَقَهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ المُهْلَكينَ، وَجَعَلَهُمْ أَخْبَاراً وأًَحَادِيثَ يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ، فَأبْعَدَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ القَوْمَ الذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله، وَلاَ يُصَدِّقُونَ رُسُلَهُ.
تَتْرَى - مُتَتَابِعِينَ عَلَى فَتَرَاتٍ.
جَعَلْنَاهُم أحادِيثَ - مُجَرِّدَ أَخْبَارٍ للتَّعَجُبِ والتَّلَهِّي.
(٤٥) - ثُمَّ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى، بَعْدَ الرُّسُلِ الذينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، مُوسَى وَهَارُونَ بالآيَاتِ، والحُجَجِ الدَّامِغَاتِ، والبَرَاهِينِ القَاطِعَاتِ.
سُلْطَانٍ مُبِينٍٍ - بُرْهَانٍ مُبِينٍ مُظْهرٍ لِلْحَقِّ.
(٤٦) - أَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ القَادَةِ والكُبَراءِ (مَلَئِهِ)، فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِها والإِيْمَانِ بِهَا، وَبِمَا جَاءَهُم بِهِ رَسُولاً رَبِّهِمْ، من الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ تَعْذِيبِ بَني إِسْرِائِيلَ (كَما جَاءَ فِي آيةٍ أُخْرَى)، وَكَانُوا قَوْماً مُتَعَالِينَ، دَأْبُهُم العُتُوُّ وَالبَغْيُ عَلَى الناسِ.
قَوْماً عَالِينَ - مُتَكَبِّرِينَ، أو مُتَطَاوِلِينَ بالظُّلْمِ.
﴿عَابِدُونَ﴾
(وَهَذَا فِي رَأيَ فِرْعَوْنَ أدْعَى إِلَى الاسْتِهَانَةِ بِمُوسَى وَهَارُونَ، وإِلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَا بِهِ)
(٤٩) - وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى التَّوْرَاةََ عَلَى مُوسَى (الكِتَابَ)، وَفِيهَا أَحْكَامٌ، وَأَوَامِرُ، وَنَواهٍ مِنَ اللهِ، لِيَسْتَهْدِيَ بَنُو إِسْرِائِيلَ بِمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الحَقِّ، وَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الشَّرائِعِ.
(٥٠) - يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ جَعَلَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمرَان عَلَيْهِمَا السَّلامُ، آيةً للنَّاسِ، وَبُرْهَاناً قَاطِعاً عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، فَقَدْ أَوْجَدَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أب، خِلافاً لِمَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ، وَأَنْطَقَهُ وَهُوَ فِي المَهْدِ، وَأَبْرأَ عَلَى يَدَيْهِ الأًَكْمَه والأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَى بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَجَعَلَهُ وأُمَّهُ يَنْزِلاَنِ فِي مَكَانٍ مِنَ الأَرْضِ (رَبْوَةٍ) تَطِيبُ فِيهِ الإِقَامَةُ وَيَحْستُ فِيهِ النَّبَاتُ، فِيهِ المَاءُ والخُضْرَةُ.
المَعِين - المَاءُ الجَاري.
ذًَاتِ قَرَار - ذَاتِ خِصْب.
آوَيْنَاهَما - صَيَّرْنَاهُمَا وَأًَوْصَلْنَاهُمَا.
(٥١) - يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ، والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ، وَقَالَ لَهُم اللهُ تَعَالَى: إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً.
أُمَّتُكُمْ - مِلَّتُكُمْ وَشَرِيعَتُكُم.
(والمَعْنَى أَنَّهُمْ تَنَازَعُوا الأََمْرَ وَتَجَاذَبُوهُ حَتَّى مَزَّقُوهُ بَيْنَهُمْ مِزَقاً، وَقَطَّعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ قِطعاً، ثُمَّ مَضَى كُلُّ حِزْبٍ بِالمزْقَةِ التي خَرَجَتْ بِيَدِهِ فَرِحاً وَهُوَ لاَ يُفَكِّرُ فِي شَيْءٍ آخَرَ).
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ - تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِ دِينِهِمْ.
زُبُراً - قِطَعاً ومِزَقاً وَأَحْزَاباً مُخْتَلِفَةً.
الغَمْرَةُ - أصْلاً هِيَ المَاءُ الذي يَغْمُرُ القَامَةَ وَيَسْتُرُهَا وَيُرَادُ بِهَا هُنَا الجَهَالَةُ والضَلالَةُ.
مَا نُمِدَّهُم بِهِ - مَا نَجْعَلُهُ مَدَداً لَهُمْ.
(٥٦) - هَلْ يَظُنُّ هَؤُلاَءِ أَنَّنَا نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْنَا، وَلِمَنْزِلَتِهِم عِنْدَنَا، وَأَنَّ هَذَا الإِمْدَادَ بالأَمْوَالِ والأََوْلاَدِ مَقْصُودٌ بِهِ المُسَارَعَةُ لَهُمْ بِالخَيْرَاتِ، وَإِيثَارُهُمْ بِالنعْمَةِ والعَطَاءِ؟
إِنَّ الأَمَْ لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ، إِنَّنَا فِي الحَقِيقَةِ نَبْتَلِهِم وَنَفْتِنُهم، وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ سوءِ المَصِيرِ، وَمِنْ شَرٍّ مُسْتَطِير.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُم أَخْلاَقَكُم كَمَا قَسَمَ بَيْنَكم أَرْزَاقَكُمْ، وإِنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَ لِمَنْ أَحَبَّهُ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدِ بِيَدِهِ لاَ يُسْلِمُ عَبْدُ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلاَ يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "). (أَخْرَجَهُ أحْمَدُ).
مُشْفِقُونَ - خَائِفُونَ حَذِرُونَ.
(٥٨) - وَههُمْ يُؤْمِنُونَ بِآيَات رَبِّهمْ التِي نَصَبَها فِي الكَوْنِ، فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ، وَبِآيَاتِهِ التِي نَزَّلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، وَيُوقِنُونَ بِهَا، لاَ يَعْتِرِيهِم شَكَ فِيهَا، كَمَا يُوقِنُونَ بِأنَّ مَا كَانَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ قَدَرِ اللهِ وَقَضَائِهِ.
﴿آتَواْ﴾ ﴿رَاجِعُونَ﴾
(٦٠) - وَهُمْ يَنْهَضُونَ بِالتَّكَالِيفِ والوَاجِبَاتِ المَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَدُّونَ الطَّاعَاتِ والنَّوَافِلَ، وَيَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي جَانِبِ اللهِ تَعَالَى وَيَسْتَقِلَّونَ كُلَّ طَاعَةٍ إِلى جَانِبِ آلاَءِ اللهِ وَنِعَمِهِ، وَيَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ طَاعَاتُهُم لِخَوْفِهِمْ مِنَ أَنْ يَكُونُوا قَصَّرُوا فِي شُرُوطِ أَدَائِها، لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُم رَاجِعُونَ إِِلَى رَبِهِّم، وَسَيُحَاسِبُهُمْ وَسَيُحَاسِبُ جَمِيعَ الخَلْقِ عَلَى جَميعِ أًعْمَالِهمْ.
يُؤْتُونَ ما آتَوْا - يُعْطُونَ مَا أَعْطًَوْا مِنَ الصَّدَقَاتِ.
قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ - خَائِفَةٌ أَلاَّ تُقْبَلَ أَعْمَالُهُمْ.
(٦١) - وَهَؤُلاءِ الذينَ جَمَعُوا هَذِهِ المَحَاسِنَ، يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ، فَيُبَادرُونَهَا لِئلاَّ تَفُوتَهم إِذَا هُمْ مَاتُوا، وَيَتَعَجَّلُونَ فِي الدَّنْيَا وُجُوهَ الخَيْرَاتِ العَاجِلَةِ التي وُعِدُوا بِهَا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ، وَهُمْ لأَجْلِهَا سَابِقُونَ النَّاسَ إِلى الثَّوَابِ
(٦٢) - يَفْرِضُ الإِسْلاَمُ عَلَى قَلْبِ المُؤْمِنِ يَقْظَةً هِيَ فِي طَوْقِهِ واسْتِطَاعَتِهِ، وَلَيْسَتْ فَوْقَ طَاقِتِهِ، لأَنَّ الله تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِها، وأَنَّهُ تَعَالَى يُحَاسِبُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِم التِي سُجِّلَتْ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ، لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاها، وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ شَيئاً مِنْ أَعْمَالِهِم الخَيِّرَةِ، وَلاَ يُنْقَصُونَ مِنْها وَلا يُزَادُ شَيءٌ فِي سَيِّئَاتِهِمْ.
وُسَعَها - قَدَرَ طَاقَتِها مِنَ الأَعْمَالِ.
لاَ يُظْلَمُونَ - لاَ يُزَادُ شَيءٌ فِي سَيِّئَاتِهِمْ مِمَّا لَمْ يَفْعَلُوه.
(٦٣) - إِنَّ قُلُوبِ المُشْرِكِينَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ هُدَى القُرْآنِ، وَعَنْ الاسْتِرْشَادِ بمَا جَاءَ فِيهِ، مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فَلَوْ أَنَّهُم قَرَؤُوا القُرْآنَ وَاَدَبَّرُوا لَرَأوْا أَنَّهُ كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ والصِّدْقِ، وَأَنَّهُ يَقْضِي بِأَنَّ أَعْمَالَ اللمَرْيِ، مَهْمَا دَقَّتْ، فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَيْهَا، وَأَنَّ رَبَّكَ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ. وَلِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ أُخْرَى، فَقَدْ أَغَرَقُوا فِي الشِّرْكِ والمَعَاصِي، واتَّخَذُوا القُرْآنَ هُزْواً، وَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ سِحْرٌ مُفْتَرىً، وَكَذَّبُوا رَسُولَ اللهِ، وقَالُوا إِِنَّهُ مَجْنُونٌ، وإِنَّهُ قَدْ يَعَلَّمَ القُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ.
(وَجَاء فِي الحَدِيثِ: " فَوالذِي لاَ إٍِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُها) (رَوَاهُ ابْنُ مَسُعُودٍ ").
غَمْرَةٍ - جَهَالَةٍ وَغَفْلَةٍ.
(٦٤) - حَتَّى إِذَا جَاءَ المُتْرَفِينَ مِنْهُمْ، المُنَعَّمِينَ فِي الدُّنْيَا، عَذَابُ اللهِ وَبَأَسُهُ وَنِقْمَتَهُ، إِذَا هُمْ يَسْتَغِيثُونَ، وَيَصْرُخُونَ وَاغوثَاهُ (يَجْأَرُونَ)، لِشدَةِ مَا يُعَانُونَ مِنَ الكُرَبِ والآلامِ.
مُتْرفِيهمِ - مُنَعَّمِيهِم الذين أَبْطَرَتْهُمْ النِعَمَةُ.
يَجْأرُونَ - يَصْرُخُونَ مُسْتَغِيِثينَ بِرَبِّهِم.
(٦٥) - وَيُجِيبُهُم الرَّبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلاً: لاَ تَسْتَغِيثُوا فَلَنْ يُجِيرَكُم اليَوْمَ أَحَدٌ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ مِنْ سُوءِ العَذَابِ، سَوَاءٌ اسْتَغَثْتُم وَصَرَخْتُمْ، أو سَكَتُّم، وَلَنْ يَنْصُرَكُم أَحَدٌ مِنْ اللهِ، فَقَدْ قُضِيَ الأَمْرُ، وَوَجَبَ العَذَابُ.
(٦٦) - لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ اللهِ تُتْلَى عَلَيْكُم بالحَقِّ، فَكُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عَنْ سَمَاعِها، وَتَسْخَرُونَ مِنْهَا، وَتُعْر ِضُونَ عَنْهَا، وَتُدِيرُونَ ظُهُورَكُمْ إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ فًَلاَ عُذْرَ لَكُم اليَوْمَ.
تَنْكِصُونَ - تَرْجِعُونَ مُعْرِضينَ عَنْ سَمَاعِها.
(٦٧) - وَقَدْ كُنْتُم تُعْرِضُونَ عَن الإِيْمَانِ وَأَنْتًمْ تَسْتَكْبِرُونَ بالبَيْتِ الحَرَامِ، وَتَقُولُونَ: نَحْنَ أَهْلُ حَرَمِ اللهِ، وَخُدَّامُ بَيْتِهِ، فَلاَ يُظْهِرُ عَلَيْنَا أَحَداً، وَلاَ نَخَافُ أَحَداً، وَكُنْتُم تَسْمرُونَ حَوْلَ البَيْتِ، وَتَتَنَاوَلُونَ القُرْآنَ بالُجِرِ مِنَ القَوْلِ (سَامِراً تَهْجُرُونَ).
(وَقِيلَ بَلِ المَقْصُودُ بالهُجْرِ مِنَ القَوْلِ والتَّكْذِيبِ رَسُولُ اللهِ والأَوَّلُ أَظْهَرُ).
مُسْتَكْبِرينَ بِهِ - مُسْتَعْظِمِينَ بالبَيْتِ الحَرَامِ.
سَامِراً - سُمَّاراً حَوْلَهُ بِاللَّيْلِ.
تَهْجُرُونَ - تَتَكَلَّمُونَ هُجْراً أي طَعْناً بالقُرآنِ أو بِمُحَمَّدٍ.
(٦٨) - وَيُؤَنِّبُ اللهُ تَعَالَى المُشْرِكِينَ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِم عَدَمَ تَفَهُّمِهِمْ، وَعَدَمَ تَدَبُّرِهِمْ هَذَا القُرْآنَ العَظِيمَ، وَمَا خُصَّ بِهِ مِنَ فَصَاحَةٍ وَبَلاَغَةٍ، وَقَدْ كَانَ لَدَيْهِمْ فُسْحَةٌ مِنَ الوَقْتِ تُمَكِّنُهُمْ مِنَ التَّدَبُّرِ فِيهِ، وَمَعْرَفَةِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ مِنْ رَبِّهِم، وَأَنَّهُ مُبَرَّأٌ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَأَنَّ فِيهِ الأَخْلاَقَ، وَالتَّشْرِيعِ، وَالحِكَمَ الَبالِغَةَ. أًَمِ اعْتَقَدُوا أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ أَمْرٌ لَمْ تَسْبِقْ بِهِ السُّنَنُ مِنْ قَبْلِهِمْ فَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ؟ لَكِنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَتَتَابَعُ، وَتَظْهَرُ عَلَى أَيْدِيهِم المُعْجِزَاتُ، فَهَلاَّ كَانَ ذَلِكَ دَاعِياً لَهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهَذَا الرَسُولِ الكَرِيمِ الذِي جَاءَهُم بِقُرْآنٍ لاَ ريبَ فِي أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
(٧٠) - أَمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدَاً رَجُلٌ بِهِ مَسٌّ مِنْ جُنُونٍ فَلاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ؟ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أرْجَحُ النَّاسِ عَقْلاً، وَأَكْثَرُهُمْ رَزَانَةً، وَأَثْقَبُهُمْ ذِهِناً، وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا تَقَوَّلُوا وَافْتَرَوا، فالذي جَاءَهُم بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِ، فِيهِ دَعْوَةٌ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، وَبَيَانٌ لِمَا شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ، مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ البَشَرِ، لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جُبِلُوا عَلَى الزَّيْغِ والانْحِرَافِ عَنِ الحَقِّ لِمَا رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ والشِّرْكِ، والإِسْرَافِ فِي المَعَاصِي، وَلَذَلِكَ فَإِنَّهُم لاَ يَفْقَهُونَ الحَقَّ، وَلاَ يَسْتَسِيغُونَهُ فَهُمْ لَهُ كَارِهُون.
بِهِ جِنَّةٌ -بِهِ جُنُونٌ.
(٧١) - وَلَوْ سَلَكَ القُرْآنُ طَرِيقَهُمْ بِأَنْ جَاءَ مُؤَيِّداً الشرْكَ باللهِ، وَاتِّخَاذَ الوَلَدِ، وَتَزْيِينَ الآثامِ، وَالحَثَّ عَلَى اجْتِرَاحِ السِّيِّئَاتِ.. لاخْتَلَّ نِظَامُ الكَوْنِ، ولَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ:
- فَلَوْ أَنَّهُ أَبَاحَ الظُّلْمَ، وَتَرْكَ العَدْلِ لَفَسَدَ أَمْرُ الجَمَاعَاتِ.
- وَلَوْ أَبَاحَ لِلْقَوِيِّ الاعْتَدَاءَ عَلَى الضَّعِيفِ لَمَا اسْتَتَبَّ الأَمْنُ وَلاَ سَادَ النِّظَامُ.
- وَلَوْ أَبَاحَ الزِّنى لَفَسَدَتِ الأَنْسَابُ، وَلَمَا عَرَفَ وَلَدُ وَالِدَهُ فَيَكُونُ الأَوْلاَدُ فِي الطُّرُقَاتِ كَالبَهَائِمِ السَّارِحَةِ وَلاَ يَقُومُ عَلَى أُمُورِهِمْ أَحَدٌ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ جَاءَهُمْ بالقُرْآنِ الذي فِيهِ فَخْرُهُمْ وَشَرَفُهُم فَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ وَجَعَلُوهُ هُزْواً.
بِذَكْرِهِمْ - بِفَخْرِهِمْ وَشَرفِهِمْ - وَهُوَ القُرْآنُ.
(٧٢) - أَمْ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ طَلَبْتَ مِنْهُمْ أَجْراً عَلَى تَبْلِيغِ، الرِّسَالَةِ، فَلأَجْلِ ذَلِكَ لاَ يُؤمِنُونَ. وَفِي الحَقِيقَةِ إِنَّكَ لَمْ تَسْأَلْهُمْ أجْرَاً، وَلا خَرجاً، فَإِنَّ مَا رَزَقَكَ اللهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا وَعَدَكَ بِهِ مِنْ حُسْنِ العَاقِبَةِ فِي الآخِرَةِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ ذَلِكَ، وَلأَنَّكَ تَحْتَسِبُ أَجْرَ مَا تَقُومُ بِهِ، مِنْ إِبْلاَغِ الرِّسَالَةِ، عِنْدَ اللهِ لاَ عِنْدَهُمْ.
خَرَجاً - جُعْلاً أَوْ أَجْراً مِنَ المَالِ.
(٧٣) - وَإِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا تَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الخَيْرِ والهُدَى، وَإِلَى السَّبِيلِ القَوِيمِ المُسْتَقِيمِ، الذي يُوصِلُهُمْ إِلى جَنَّةِ رَبِّهِمْ
(٧٤) - أَمَّا الذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَكَفَرُوا بِالآخِرَةِ، وَالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَهُمْ مُتَنَكِّبُونَ وَتَارِكُونَ عَمْداً الطَّرِيقَ القَوِيمَ المُوصِلَ إِلى جَنَّةِ اللهِ تَعَالَى.
لَنَاكِبُونَ - لَعَادِلُونَ عَنِ الحَقِّ زَائِغُونَ.
(٧٥) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ غِلْظَةِ المُشْرِكِينَ فِي كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ فِيهِ فَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَوْ أَزَاحَ عَنْهُم، الضُّرَّ، وَأَفْهَمَهُم القُرْآنَ لمَا انْقَاذُوا لَهُ، وَلاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغَيْانِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ.﴾ (وَقيلَ بَلِ المَعْنَى هُوَ: وَلَوْ أَنَّهُمْ رُدُّوا في الآخِرَةِ إِلى الدُّنيا لَعَادُوا لِما نُهُوا عنهُ).
وقال ابنُ عَبَاسٍ (إِنَّ كُلَّ ما فيهِ (لَوْ) ممَّا لا يكونُ أبداً).
لَلَجُّوا في طغيانِهِمْ - لَتَمَادَوا في ضَلالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ.
يَعْمَهُونَ - يَعْمونَ عَنِ الرّشدِ، أو يتحيَّرونَ.
(٧٦) - ويَقُولُ تعالى إِنَّه ابْتَلاهُم بالمَصَائِب والشَّدَائِدِ، (كَقَتْلِ سَرَاتِهم يَوْمَ بَدْرٍ.. والشَّدائِد الأُخْرَى التي حَلَّتْ بِهم) فَمَا ردَّهُم ذلكَ عَمَّا هُمْ فيهِ مِنَ الكُفْرِ والعُتُوِّبَلِ اسْتَمَرُّوا على غَيِّهِم وضَلاَلِهِم، ولَمْ يَخْشَعُوا للهِ (مَا اسْتَكَانُوا)، ولم يَتَضَرَّعُوا إليهِ داعِينَ مُسْتَجِيرِينَ لَيْكِشفَ عَنْهُم ذلكَ البلاءَ.
وقد جَاء في الصحيحينِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَعا على قُريْشٍ حينَ اسْتَعْصَوْا عليهِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِم بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ " أيْ بِسَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ. وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ إِنَّ أبَا سُفْيَانَ جَاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ حينما اشْتَدًَ الأمرُ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ انْشُدُكَ الله والرَّحِمَ فَقَدْ} أكَلْنَا العِلْهِ (أي الوَبَرَ والدَّمَ). فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ الآيَه.
فما اسْتَكَانُوا - فَمَا خَضَعُوا وأَظْهُروا المَسْكَنَةَ.
ومَا يَتَضَرَّعُونَ - ولا يَتَذَلَّلُونَ إليهِ تَعَالى بالدُّعَاءِ.
مُبْلِسونَ - يَائِسونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أو مُتَحَيِّرُونَ.
(٧٨) - واللهُ تَعالى هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمُ السَّمْعَ، لِتَسْمَعُوا بِهِ الأَصْوَاتَ، والأبْصَارَ، لتُبْصِرُوا بها الأشْيَاءَ والمَحْسُوسَاتِ، والعُقُولَ، لِتَفْقَهُوا بِها وتُدْرِكُوا آياتِ اللهِ وحُجَجَهُ في الأَنْفُسِ والآفَاقِ، الدَّالَّةَ على وَحْدَانِيتهِ وقُدْرَتِهِ.
وَبَعْدَ أنْ عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَه وتعالى هذِهِ النِّعَمَ التي أَنْعَم بِها على البَشَرِ، أشَارَ إلى كُفْرَانِهِم إيَّاها فَقَالَ: ما أَقَلَّ شُكْرَكُم للهِ على هذهِ النِّعَمِ الوَفِيرَةِ (قليلاً ما تَشْكُرُونَ).
ذَرَأَكُمْ -خَلَقَكُم وَبَثَّكُمْ بالتَّنَاسُلِ.
(٨٠) - وهو الذي وَهَبَ الخَلْقَ الحَيَاةَ بِنَفْخٍ الرُّوح فِيهِم، ثُمَّ يُمِيتُهُم بَعْدَ أنْ كانَ أحْيَاهُم، ثم يُعِيدُ خَلْقَهُم مَرَّةً أُخْرَى يَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ، وَيجْمَعُهم إليه لِلْحِسَابِ، كمَا سَبَقَ أنْ بَدَأ خَلْقَهُم. وهو الذي سَخَّرَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ وَجَعَلَهُما مُتَعاقِبَيْنِ لا يَفْترِقَانِ، وكأنَّما يَطْلُبُ الوَاحِدُ مِنْهُمَا الآخَرَ وجَعَلَهُما مُخْتَلِفَيْنِ طُولاً وقِصراً، يَقْصُرُ هذا تَارَةً ويَطُولُ الآخَرُ، ثم يطُولُ فَيَقْصُرُ الآخَرُ.
وأنْتُمْ يا أيُّها النَّاسُ تَرَونَ كُلَّ ذلِكَ في كُلِّ حِينٍ، أَفَلَيْسَتْ لَكُم عُقُولٌ لِتَتَفَكُّرُوا بِها أنَّ ذلك كُلَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثاً ولا مُصَادَفَةً؟ وإنَّما خَلَقَهُ اللهُ بِقَدْرَتِه، وقَدَّرَهُ وضَبَطَهُ، وجَعَلَه خَاضِعاً لَهُ، لِيَسْتَدِلَّ بهِ النَّاسُ على وُجُودِ خَالِقِه القَدِير الوَاحِدِ الأَحَدِ، الذي لا شَرِيكَ لَهُ.
(٨٢) - وقد كَانَ مُكَذِّبُوا الأُمُمِ السَّابِقَةِ مُنْكِرينَ: هَلْ سَنُبْعَثُ مِنْ قُبُورِنا، ونَعُودُ أحياءً كَما كُنَّا، بَعْدَ أنْ نَمُوتَ وتَبْلى عِظَامُنَا؟
(٨٣) - وَقالُوا إنَّ آبَاءَهم وُعِدُوا بِمِثْلِ هذا البَعْثِ والنُّشُورِ يَوْمَ القِيَامَةِ وهُمْ يُوعَدُون بِهِ أيضاً، ولكنَّهُ لم يَقَعْ بَعْدُ. ثُمَّ قَالُوا: إِنَّ هَذَا مِنْ قَبيلِ القصَصِ الخَيالِيَّةِ، والأسَاطِيرِ التي تُرْوى عَنِ الأَوَّلينَ.
أسَاطِيرُ الأَوَّلين - أكَاذِيبُهُم وقصَصُهُم الخُرَافِيةُ المَسْطُورَة في كُتُبِهِم.
(٨٦) - وقُلْ لَهُم: مَنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ السَّبْعَ ومَنْ فِيهِنَّ، ومَنْ هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيم؟ وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: العَرْشُ لا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ أَحَدٌ إلاَّ اللهُ تَعالى.
أَجَارَهُ - جَعَلَه في جِوَارِه، وشَمَلَهُ بِحِمَايَتِهِ.
المَلَكُوتُ - المُلْكُ الوَاسِعُ العَظِيمُ.
هَوَ يُجِيرُ - يُغَيثُ ويَحْمِي مَنْ يَشَاءُ ويَمْنَعُهُ.
لا يُجَارُ عَلَيْه - لا يُغَاثُ أَحَدٌ مِنْهُ ولا يُمْنَعُ.
فأنَّى تُسْحَرُون - فَكَيْفَ تُخْدَعُونَ عَنْ تَوْحِيدِهِ.
(٩٠) - لَيْسَ الأَمْرُ كما يَقُولُ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ (بَلْ)، ولا كَما يَزْعُمونَ مِنْ أنَّ ما جَاءَهُم بِهِ رَسُولُهم هو مِنْ قَصَصِ الأوَّلِين وأحَادِيِثِهم، ولَيْسَ مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدَ اللهِ، والحَقِيقَةُ هِيَ أنَّ مُحَمَّداً صَادِقٌ وَأَنَّ الله هُوَ الذي أَمَرَهُ بِإِبْلاَغِهِ إلى النَّاسِ، ودَعْوتِهِمْ إلى الأخْذِ بِهِ، وإنَّهُم لَكاذِبُونَ فيما يَقُولُونَه وَيَزعُمُونَهُ، وفيما يَعْبُدونَهُ مِنْ أَصْنَامٍ وأَوْثَانٍ.
(٩١) - يُنَزِّهُ اللهُ تَعالى نَفْسَهَ الكَرِيمَةَ عَنْ أَنْ يَكونَ لَهُ وَلَدٌ أو شَرِيكٌ في المُلْكِ والتَّصَرُّفِ والعِبَادَةِ، ويَقُولُ: إنَّه لَوْ كَانَ هناكَ أَكْثَرُ مِنْ إِلهٍ لَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُم قَهْرَ الآخرِينَ، وَخِلافَهُم، ولَحَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُم أنْ يُثْبِتَ سُلطَانَهُ، والاسْتِعَلاءَ على غَيرِهِ، فَتَعَالى اللهُ عُلُوّاً كَبِيراً، وتَنَزَّهَ عَمَّا يَقُولُه الظَّالِمُونَ المُعْتَدونَ في دَعْوَاهُم الوَلَدَ، والشَّرِيكَ لَهُ.
(٩٢) - وَإِنَّه يَعْلَمُ ما يَغِيبُ عَنِ المَخْلُوقَاتِ، وما يُشَاهِدُونَه، فَتَقَدَّسَ وَتَنزَّهَ وَتعالى عَمَّا يَقُولُه الظَّالِمُون الجَاحِدُون، وعَمَّا يُنْسبُونَه إليهِ مِنْ وُجُودِ الشَّرِيكِ والنِّدِّ والوَلَدِ.
(٩٤) - فإنِّي أَتَوَسَّلُ إليكَ يَا رَبِّ أنْ لا تَجْعَلَنِي فِيهِم، وأنْ لا تُهْلِكَنِي بِمَا تُهْلِكُهُم بِهِ.
(وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدْعُوا فَيَقُول: " وإذا أَرَدْتَ بِقَومٍ فِتنَةً فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ "). (أخرجَهُ أحمدُ والتِّرمَذي).
(٩٥) - وَلَوْ شِئْنَا لأَرَيْنَاكَ ما نُنْزِلَ بِهِم مِنَ العَذَابِ والبَلاَءِ، فإنَّنا قَادِرُونَ على ذَلِكَ، ولكِنَّنا نُؤخِّرُه حَتَّى يبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ.
(وقد أَرى اللهُ تَعالى رَسُولَه الكَرِيمَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ في مَعْرَكَةِ بَدْرٍ).
(٩٧) - وَاسْتَعِذْ باللهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، ومِنْ هَمَزَاتِهِم، ودَفَعَاتِهِم، ونَفْثِهِم، ونَفْخِهم، لأَنَّهُمْ لاَ تَنْفَعُ مَعَهُم الحِيَلُ، ولا يَنْقَادُونَ بالمَعْرُوف، والنَّبِيُّ ﷺ مَعْصُومٌ مِنْها، ولكنَّ ذلك زِيَادَةٌ في التَّوَقِّي، وتَعْلِيمٌ لأُمَّتِه أَنْ يَتَحَصَّنُوا باللهِ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ في كُلِّ حِينٍ.
أَعُوذُ بِكَ - أعْتَصِمُ وأَمْتَنِعُ.
(١٠٠) - إِنًَّ الكَافِرَ يَسْأَلُ رَبَّهُ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِيَعْمَل صَالِحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَلِيُصْلِحَ فِيمَا تَرَكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍِ. وَيَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ رَادِعاً وَزَاجِراً: إِنَّهُ لاَ يُجِيبُهُ إِلَى طَلَبِهِ هَذَا (كَلاَّ). فَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لاَ مَعْنَى لَهَا، يَقُولُهَا كُلُّ ظَالِمٍ وَقْتَ الضِّيقِ والشِّدَّةِ، وَلَوْ رُدَّ لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ فِي الحَيَاةِ، وجَاءَتْهُ الآيَاتُ فَلَمْ يَتَّعِظُ بِهَا، وَلَمْ يَعْمَلُ صَالِحاً، وَيَقُومُ وَرَاءَهم حَاجِزٌ (بَرْزَخٌ)، يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلى الدُّنْيَا، وَيَبْقَوْنَ كَذَلِكَ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وَيُنْشَرُونَ.
(وَقَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إِنَّ البَرْزَخَ المَقْصُودَ هُنَا هُوَ الفَتْرَةُ التي يَقْضِيها الأَمْوَاتُ فِي قُبُورِهِمْ، مِنْ يَوْمِ مَمَاتِهِمْ إِِلى يَوْمِ الحَشْرِ).
مِنْ وَرَائِهِمْ - أَمَامَهُمْ.
بَرْزَخٌ - حَاجِز دونَ الرَّجْعَةِ.
(١٠١) - فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةُ النُّشُورِ، قَامَ النَّاسُ مِنَ القُبُورِ، فَلاَ تَنْفَعُ الإِنْسِانَ فِي ذَلِكَ اليَومِ قَرَابَةٌ، وَلاَ يسْأَلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، فَلِكُلّ امْريءٍ يَوْمِئذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ.
الصُّورُ - قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً.
(١٠٢) - والعَمَلُ هَوَ مِيزَانُ عِنْدَ اللهِ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ كَانَ مِنَ المُفْلِحِينَ الذين فَازُوا بِمَا سَعَوا إِلَيْهِ، فَنَجَوْا مِنَ النَّارِ، وأُدْخِلُوا الجَنَّةَ.
(١٠٣) - وَمَنْ ثَقُلَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَأُوْلَئِكَ الذين خَابُوا وَهَلُكُوا، وَبَاؤُوا بالصِّفَقَةِ الخَاسِرَةِ وَخَلَدُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
(١٠٤) - تَلْفَحُ النَّارُ وُجُوهَهُم فَتَشْوِيها، وَتَتَقَلَّصُ شِفَاهُهُمْ، وَتَتَغَيَّرُ مَلاَمِحُهُمْ.
كالِحُونَ - عَابِسُونَ، أو مُتَقَلِّصُو الشِّفَاهِ عَنِ الأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ اللَّفْحِ.
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ - تُحُرِقُ.
(١٠٥) - وَيُقَالُ لأَهْلِ النَّارِ تَوْبِيخاً وَتَقْرِيعاً لَهُمْ عَلَى مَا ارْتَكَبُوا مِنْ كُفْرِ وَآثَامٍ فِي الدُّنْيَا فَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ: لَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمُ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلْتُ إِلَيْكُمُ الكُتُبَ، وَأَزَلْتُ شُبَهَكُمْ، فَلَمْ تَبْقَ لَكُمْ حُجَّةٌ، وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي.
غَلَبَتْ عَلَيْنَا - اسْتَوْلَتْ عَلَيْنَا وَمَلَكتْنَا.
شِقْوَتُنَا - شَقَاوَتُنَا، أَو لَذَّتُنَا وَشَهَوَاتُنَا.
(١٠٧) - ثُمَّ يَقُولُونَ لِرَبِهِّمْ: رَبَّنَا أَخْرَجْنَا مِنَ النَّارِ، وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ وارْتِكَابِ الآثامِ، فَنَحْنُ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِنَا مُسْتَحِقُّونَ للْعُقُوبَةِ.
اخْسَؤُوا فِيهَا - اسْكُتُوا سُكُوتَ ذِلَّةٍ وَهَوَانٍ كَالْكِلاَبِ.
(١٠٩) - ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى مُذَكِّراً لِهَؤُلاَءِ بِذُنُوِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَبِاسْتِهْزَائِهِمْ بِعِبَادِه المُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِه: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي آمنُوا بِي وَبِرُسُلِي، وَكَانُوا يَقُولُون: رَبَّنَا آمَنَّا بِكَ، وَبِرُسُلِكَ، فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَأَنْتَ خَيْرٌ الرَّاحِمِينَ.
سِخْريّاً - مَوْضِعاً لِلْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ.
(١١١) - وَإِنِّي جَزَيْتُهُمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَكَافَأْتُهم عَلَى صَبْرِهِمْ عَلَى أَذَكُمْ لَهُمْ، وَاسْتِهْزَائِكُم بِهِمْ، وَجَعَلْتُهُم الفَائِزِينَ بالسَّعَادَةِ والسَّلاَمَةِ والجَنَّةِ والنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ.
(١١٢) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى مَا أَضَاعُوهُ، فِي عُمْرِهِم القصِيرِ فِي الدُّنْيَا، مِنْ طًَاعَةِ اللهِ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلَوْ صَبَرُوا مُدَّةَ حَيَاتِهِم الدُّنْيا القَصِيرَةِ لَفَازُوا كَمَا فَازَ أَوْلِيَاءُ اللهِ المُتَّقُونَ.
وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى: كَمْ كَانَتْ مُدَّةُ لَبْثِكُمْ وإِقَامَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ السِّنِينَ؟
(١١٣) - فَيَقُولُونَ: إِنَّهُمْ لَبِثُوا فِي الأًَرْضِ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ يَا رَبَّنَا الحَفَظَةَ العَارِفِينَ بِأَعْمَالِ العِبَادِ، المُحْصِينَ لَهَا (العادِّينَ).
(١١٤) - وَيَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَبِثْتُمْ مُدَّةً يَسِيرَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تُدْرِكُونَ لَمَا آثَرْتُم الزَّائِلَ الفَانِي، عَلَى الدَّائِم البَاقي، وَلَمَا تَصَرَّفْتُم هَذًَا التَّصَرُّفَ السَّيِّئ الذي اسْتَوْجَبَ سَخَطَ اللهِ عَلَيْكُم فِي تِلْكَ المُدَّةِ اليَسِيرَةِ، وَلَوْ أَنَّكُم صَبَرْتُم عَلَى عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ، كَمَا فَعَلَ المُؤْمِنُونَ لَفزْتُم كَمَا فَازُوا.
﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾
(وَقِيلَ بَلْ مَعْنَى الآيَةِ هُوَ: هَلْ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِتَعْبَثُوا وَتَلْعَبُوا كَمَا خُلِقَتِ البَهَائِمُ، لاَ ثَوابَ وَلاَ عِقَابَ؟)
(١١٦) - فَتَعَالَى اللهُ وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ أَنْ يَخْلِقُ شَيئْاً عَبَثاً، فَإِنَّهُ المَلِكُ الحَقُّ المُنَزِّهُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّ العَرْشِ، (والعَرْشَ هُوَ سَقْفُ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ) فَهُوَ تَعَالَى المُهَيْمِنُ المُسَيْطِرُ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الوُجَودِ، وَهُوَ الكَرِيمُ.
(وَقِيلَ إِنَّ الكَرِِيمَ هُنَا صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَتَعْنِي أَنَّهُ البَديعُ الحَسَنُ البَهِيُّ المَنْظَرِ).
فَتَعَالَى اللهُ - ارْتَفَعَ بِعَظَمَتِهِ، وَتَنَزَّهَ عَنِ العَبَثِ.
(١١٧) - يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى مَنْ أَشْرَكَ بِعِبَادَتِهِ أَحَدَاً سِوَاهُ فَيَقُولُ: إِنَّ مَنْ أَشْرَكَ باللهِ سِوَاهُ، وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلاَ بُرْهَانَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَلاَ دَلِيلَ فَإِنَّ الله يُحَاسِبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّيهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ جَزَاءٍ، وَلاَ يُفْلِحُ الكُفَّارُ، وَلاَ يَنْجُونَ مِنَ العِقَابِ.
(١١٨) - ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ ﷺ والمُؤْمِنِينَ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ، فَقُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسْولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ (أَي امْحُ ذَنْبِي واسْتُرْهُ عن النَّاسِ)، وارْحَمْ (أي سَدِّدُ خُطَايِ وَوَفِّقْنِي فِي الأَقْوَالِ والأفْعَالِ)، وأَنْتَ يَا رَبّ خَيْرُ مَنْ رَحِمَ ذا ذَنْبٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ، وَتَجَاوَزَ عَنْ عِقَابِهِ.