تفسير سورة الحشر

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
سورة الحشر وتسمى سورة بني النضير.

﴿ سبح لله ما في السموات... ﴾ نزه الله تعالى عما لا يليق به جميع العوالم [ آية ١ الحديد ص ٤٠٠ ].
نزلت هذه السورة في نضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون بقرب المدينة. كانوا قد صالحوا الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ؛ فلما هزم المسلمون في غزوة أحد أظهروا العداوة له، ونقضوا العهد، وحالفوا قريشا على أن يكونوا يدا واحدة عليه صلى الله عليه وسلم. وكان أشدهم حربا على الإسلام، وفحشا في الرسول صلى الله عليه وسلم زعيمهم : كعب بن الأشرف، الذي اغتاله محمد بن مسلمة، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة. ولما قذف الله في قلوبهم الرعب أيسوا من نصرة المنافقين لهم كما وعدهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالمدينة – طلبوا الصلح فأبى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء ؛ على أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال، إلا السلاح، فجلوا إلى خيبر والحيرة، وأريحاء وأذرعات بالشام. وكانوا أول من أجلى من أهل الذمة من الجزيرة. وكان جلاؤهم أول حشر من المدينة. ثم أجلى آخرهم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ وهو آخر حشر لهم منها. وقد دبروا أثناء الحصار الغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم والفنك به ؛ فأطلعه الله على كيدهم.
﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب ﴾ أي بني النضير. ﴿ من ديارهم ﴾ قرب المدينة على ميلين منها. ﴿ لأول الحشر ﴾ أي عند أول حشر ؛ أي إخراج إلى الشام وغيرها. والحشر : إخراج الجماعة عن مقرهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها. واللام للتوقيت ؛ كما في قوله تعالى : " لدلوك الشمس " ١. ﴿ ما ظننتم أن يخرجوا ﴾ لعزتهم ومنعتهم. ﴿ وظلوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله ﴾ أي من بأسه ونقمته. ﴿ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ﴾ فأخذهم الله من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم أنهم يؤخذون، وكانوا يضنون بالمسلمين الضعف في ذلك الوقت﴿ وقذف في قلوبهم الرعب ﴾ ألقى فيها الخوف والفزع الشديد. وأصل القذف : الرمي بقوة أو من بعيد. والرعب : الانقطاع من امتلاء القلب بالخوف. ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ فاتعظوا بما نزل بهم، واحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم ؛ فتعاقبوا مثل عقوبتهم. والاعتبار : من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ومنه العبرة لانتقالها من العين إلى الخذ. واعتبار القائم لانتقاله من الأصل إلى الفرع.
١ آية ٧٨ الإسراء..
﴿ كتب الله عليهم الجلاء ﴾ قدر وقضى عليهم الخروج أو الإخراج من وطنهم على هذه الصورة اللائقة بهم جزاء خيانتهم. يقال : جلا عن وطنه وجلاه عنه جلاء خرج، وأجلاه عنه إجلاء : أخرجه، والواحد جال، والجماعة جالية.
﴿ شاقوا الله ﴾ عادوه وخالفوه ؛ فكانوا في شق وجانب غير شقه وجانبه. ومشاقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشاقة لله تعالى.
﴿ ما قطعتم من لينة ﴾واحدة اللين، هو النخل كله أو إلا العجوة، أو هو كرام النخل، أو واحدة اللون، وهو جميع ألوان التمر سوى البرني والعجوة ؛ ويسميه أهل المدينة الألوان. وأصل لينة لونة، فقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. نزلت حين اختلف الصحابة في قطع نخل لبني النضير كان موضعا للقتال ؛ فمنهم من قطع، ومنهم من أمسك، أي أيّ شيء قطعتم منه أو تركتم على ما هو عليه فيأمر الله تعالى ؛ فلا جناح عليكم في شيء منهما ولا لوم.
﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم... ﴾ الفيء : الرجوع، يقال : فاء عليه، إذا رجع، وأفأته عليه : إذا رددته عليه. والإيجاف : الإسراع في السير يقال : أوجفت البعير، أسرعته والركاب : الإبل. نزلت حين طلب الصحابة منه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بينهم أموال بني النضير قسمة الغنائم ؛ فبين الله تعالى أنها فيء لا غنيمة، إذ أنهم لم يقطعوا لها شقة، ولم يلقوا فيها مشقة، ولم يلتحموا فيها بقتال شديد، بل ذهبوا إلى قراها رجالا، وكانت على ميلين من المدينة، وفتحت صلحا فهي للرسول صلى الله عليه وسلم خالصة، يتصرف فيها كما أمره الله تعالى في الآية التالية ؛ حيث جعل فيها خمس الفيء من أموال الكفار عامة مقسوما على خمسة أسهم لمن ذكرهم الله فيها ؛ لا على ستة لأن سهمه سبحانه ومنهم رسوله سهم واحد. وذكره تعالى افتتاح كلام للتيمن والتبرك ؛ فإن لله ما في السموات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل أربعة أخماسه الباقية لمصالح المسلمين على ما يراه صلى الله عليه وسلم، وله أن يعم بها وأن يخص، ولذلك احتبس صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير شيئا لنوائبه وما يعرون. وقسم أكثرها بين الفقراء المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا سوى ثلاثة نفر أعطاهم لفقرهم، وقال للأنصار :( إن شئتم قسمت أموال بني النضير بينكم وبينهم وأقمتم على مواساتهم في ثماركم، وإن شئتم أعطيتها للمهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم ) ؟ فقالوا : بل تعطيهم دوننا، ونقيم على مواساتهم ؛ فأعطى المهاجرين دونهم، فاستغنى القوم جميعا : المهاجرون بما أخذوا، والأنصار بما رجع إليهم من ثمارهم. و ﴿ أهل القرى ﴾ هم أهل قرى الكفار عامة، الذين نيلت أموالهم صلحا بغير إيحاف خيل ولا ركاب. و ﴿ لذي القربى ﴾ هم بنو هاشم وبنو المطلب.
﴿ كي لا يكون ﴾ الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به. ﴿ دولة بين الأغنياء منكم ﴾ خاصة، أي حظا بينكم ؛ تتكاثرون به. أو متداولا تتعاورونه فيما بينكم فلا يصيب الفقراء. والدولة – بالضم وبالفتح – اسم لما يدور من الجد والحظ. أو لما يتداول في الأيدي ؛ فيحصل في يد هذا تارة، وفي هذا تارة. وقال ابن العلاء : الدولة – بالضم – في المال. وبالفتح في الحرب. وظاهر التعليل : اعتبار الفقر في الأصناف الأربعة الأخيرة. ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾ أي يجب عليكم الإذعان والعمل بكل ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ومنه ما يأمر به في الفيء. ولتأكيد التعميم عقبه بقوله :﴿ واتقوا الله ﴾ أي في كل أمر ونهي. وفي الآية دليل على وجوب الأخذ بالسنن الصحيحة في كل الأمور. وعن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقولا لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ). أخرجه أبو داود، والترمذي وقال : هذا حديث حسن... وهو من أعلام النبوة ؛ فقد وقع ذلك بعد من الجاهلين بكتاب الله ومنصب الرسالة، ومن الزنادقة الصادين عن سبيل الله ! .
﴿ للفقراء المهاجرين ﴾ بدل من " ولذي القربى " أو متعلق بفعل محذوف، والجملة استئناف بياني. وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى :﴿ فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ ولم يعلموا مصرف الأربعة الأخماس الباقية ؛ فكأنهم قالوا : فلمن تكون هذه ! فقيل : تكون للفقراء المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم ؛ فهي للمسلمين عامة، وهو صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها تخصيصا وتعميما كما يشاء.
﴿ والذين تبوءوا الدار ﴾ نزلوا وأقاموا به ؛ معطوف على المهاجرين، ﴿ والإيمان ﴾ أي وأخلصوا الإيمان، ﴿ من قبلهم ﴾ أي من قبل تبوء المهاجرين لها وقيل : الجملة مستأنفة لمدح الأنصار بخصال حميدة ؛ منها : محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاص الفيء بهم. ﴿ ولا يجدون في صدورهم حاجة ﴾ أي شيئا محتاجا إليه﴿ مما أوتوا ﴾ مما أعطى المهاجرين من الفيء وغيره﴿ خصاصة ﴾ حاجة وأصلها : من خصاص البيت، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح. ﴿ ومن يوق شح نفسه ﴾ أي يوق بتوفيق الله شحها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق. والشح : البخل مع الحرص.
﴿ والذين جاءوا من بعدهم ﴾ أي من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة. وقيل : المراد بهم الذين هاجروا حين قوي الإسلام. معطوف على المهاجرين. وقيل : مبتدأ، خبره ﴿ يقولون ربنا ﴾.
﴿ غلا ﴾ حقدا. والحاصل : أن الآية الأولى أفادت اختصاصه صلى الله عليه وسلم بفيء بني النضير. والآية الثانية أفادت تعميم الحكم في كل فيء من أموال الكفار، وبينت مصارف خمس الفيء. وقوله :﴿ للفقراء... ﴾ بيان لمصرف الأربعة الأخماس الباقية منه. وقد خصه الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين ؛ لاقتضاء مصلحة المهاجرين والأنصار هذا التخصيص. وبهذا يخالف الفيء الغنيمة ؛ فإن أربعة أخماسها حق للمقاتلين دون سواهم من المسلمين ؛ كما في آية الأنفال. وفي الآية أقوال أخرى لعل ما ذكرناه أوضحها. والله أعلم بأسرار كتابه.
﴿ ألم تر إلى الذين نافقوا.... ﴾ حكاية لما جرى بين المنافقين – وعلى رأسهم عبد الله بن أبي – وبين بني النضير أثناء حصارهم. ﴿ ولا نطيع فيكم ﴾ أي في قتالكم﴿ أحدا أبدا ﴾ من الرسول أو المسلمين. ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ في وعودهم المؤكدة بالأيمان لبني النضير. وصفهم الله في هذه الآية بالكذب وفي الآية التالية بالجبن، وهكذا حال المنافقين دائما.
﴿ لأنتم ﴾ أيها المؤمنون، ﴿ أشد رهبة ﴾ أي مرهوبية﴿ في صدورهم ﴾ أي صدور المنافقين، ﴿ من الله ﴾ من رهبتهم من الله ؛ فقد كانوا يظهرون لكم خوف الله ؛ وأنتم أهيب في صدورهم من الله.
﴿ لا يقاتلونكم ﴾ أي اليهود والمنافقون. وقيل : اليهود. أي لا يقدرون على قتالكم﴿ جميعا ﴾ أي مجتمعين في موطن واحد. ﴿ إلا في قرى محصنة ﴾ بالخنادق والحصون ونحوها. ﴿ أو من وراء جدر ﴾ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم ؛ لفرط رهبتهم منكم. جمع جدار. ﴿ بأسهم بينهم شديد ﴾ أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس، ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. ﴿ وقلوبهم شتى ﴾ أهواؤهم متفرقة فيما بينهم.
﴿ كمثل الذين من قبلهم قريبا ﴾ أي مثل يهود بني النضير كمثل اليهود الآخرين، وهم بنو قينقاع الذين غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأجلاهم قبل غزوة بني النضير. ﴿ ذاقوا وبال أمرهم ﴾ سوء عاقبة كفرهم [ آية ٩٥ المائدة ص ٢٠٧ ].
﴿ كمثل الشيطان ﴾ أي مثل المنافقين فيما صنعوه مع بني النضير كمثل الشيطان.
﴿ نسوا الله ﴾ تركوا ذكره، ولم يراعوا حقوقه. ﴿ فأنساهم أنفسهم ﴾ فلم يسعوا بما ينفعها، ولم يعملوا ما يخلصها.
﴿ خاشعا متصدعا ﴾ متذللا متشققا﴿ من خشية الله ﴾ وخوفه. وهو تمثيل لعلو شأن القرآن وقوة تأثيره في القلوب. وتوبيخ لقساة القلوب، ومتحجري الضمائر، الذين أعرضوا عنه وكفروا به، ولم ينتفعوا بما جاء فيه.
﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ السر والعلانية. أو مالا يرى ولا يحس وما يرى ويحس، أو ما سيكون وما قد كان.
﴿ الملك ﴾ المالك لكل شيء. أو المتصرف في كل شيء، أو الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه. ﴿ القدوس ﴾ البليغ في الطهارة والتنزه عما لا يليق به سبحانه من جميع النقائص والعيوب ؛ من القدس وهو الطهارة. وأصل القدس – بالتحريك – وهو السطل ؛ لأنه يتطهر به، ومنه القادوس المعروف. ﴿ السلام ﴾ ذو السلامة من النقائص والعيوب ؛ فهو صفة ذات. أو ذو السلام على عباده في الجنة، أو الذي سلم الخلق من ظلمه ؛ وعليهما يكون صفة فعل. ﴿ المؤمن ﴾ المصدق لرسله بإظهار المعجزات على أيديهم، أو مصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، والكافرين ما أوعدهم به من العقاب ؛ من الإيمان وهو التصديق، أو الذي يأمن أولياؤه من عذابه، ويأمن عباده من ظلمه. يقال : آمنه ؛ من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى :﴿ وآمنهم من خوف ﴾ ١. ﴿ المهين ﴾ الرقيب الحافظ لكل شيء ؛ من الأمن بقلب همزته هاء. أو الشهيد، أو القائم على خلقه برزقه، أو الأمين، أو العلي. ﴿ العزيز ﴾ القوى الغالب الذي لا يعجزه شيء. ﴿ الجبار ﴾ العظيم الشأن في القدرة والسلطان ؛ فهو صفة ذات. أو المصلح أمور خلقه، المصرّف لهم فيما فيه صلاحهم، أو القهار الذي يجبر الخلق على ما شاء من أمره ؛ فهو صفة فعل. وهو في حق الله صفة مدح، وفي حق الخلق صفة ذم. ﴿ المتكبر ﴾ المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله من بصفات المحدثين، أو المتكبر عن ظلم عباده.
١ آية ٤ قريش..
﴿ البارئ ﴾ المبدع المخترع للأشياء، والمبرز لها من العدم إلى الوجود. ﴿ المصور ﴾ مصور الأشياء ومركبها على هيئات مختلفة وصور شتى كيف شاء ؛ من التصوير وهو التخطيط والتشكيل. ﴿ له الأسماء الحسنى ﴾ التي سمى بها نفسه، والتي هي أحسن الأسماء ؛ لدلالتها على معان حسنة، من تحميد وتقديس وغير ذلك. والحسنى : تأنيث الأحسن.
والله أعلم.
Icon