تفسير سورة المؤمنون

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿سُلاَلَةٍ﴾ السُّلالة: الخلاصة مشتقة من السَّل وهو استخراج الشيء من الشيء، تقول: سللت الشَّعر من العجين، والسف من الغمد قال أمية:
خلق البريَّة من سلالة منتن وإِلى السُّلالة كلُّها ستعود
ويقال: الولد سلالة أبيه لأنه انسلَّ من ظهر أبيه ﴿مَّكِينٍ﴾ ثابت راسخ تقول: هذا شيء مكين أي متمكن في الثبوت والرسوخ ﴿طَرَآئِقَ﴾ جمع طريقة والمراد بالطرائق السماوات السبع سميت بذلك لكون بعضها فوق بعض، ومنه قولهم: طارق النعل إِذا جعل إحداهما على الأخرى ﴿صِبْغٍ﴾ السبغ: الإِدام وأصله الصباغ وهو الذي يلون به الثوب قال الهروي: كل إِدامٍ يؤتدم به فهو صبغ ﴿الأنعام﴾ الحيوانات المأكولة «الإِبل، والبقر، والغنم».
التفسِير: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ أي فاز وسعد وحصل على البغية والمطلوب المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة، و ﴿قَدْ﴾ للتأكيد والتحقيق فكأنه يقول لقد تحقَّق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإِيمان والعمل الصالح، ثم عدَّد تعالى مناقبهم فقال ﴿الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ قال ابن عباس: خاشعون: خائفون ساكنون أي هم خائفون متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم ﴿والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ﴾ أي عن الكذب والشتم والهزل قال ابن كثير: اللغو: الباطل وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ﴿والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ أي يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله ﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ هذا هو الوصف الرابع أي عفَّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يحل من الزنا والواط وكشف العورات ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾
277
أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إِلا من زوجاتهم وإِمائهم المملوكات ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ أي فإنهم غير مؤاخذين ﴿فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك﴾ أي فمن طلب غير الزوجات والمملوكات ﴿فأولئك هُمُ العادون﴾ أي هم المعتدون المجاوزون الحدَّ في البغي والفساد ﴿والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ أي قائمون عليها بحفظها وإصلاحها، لا يخونون إِذا ائتمنوا، ولا ينقضون عهدهم إِذا عاهدوا قال أبو حيان: والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قولٍ وفعلٍ واعتقاد، وما ائتمنه الإِنسان من الودائع والأمانات ﴿والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ هذا هو الوصف السادس أي يواظبون على الصلوات الخمس ويؤدونها في أوقاتها قال في التسهيل: فإِن قيل كيف كرّر ذكر الصلوات أولاً وآخراً؟ فالجواب أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها، وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان ﴿أولئك هُمُ الوارثون﴾ أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف الجليلة هم الجديرون بوراثة جنة النعيم ﴿الذين يَرِثُونَ الفردوس﴾ اي الذين يرثون أعالي الجنة، التي تتفجر منها أنهار الجنة وفي الحديث
«إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإِنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة» ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي هم دائمون في ها لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً.. ثم ذكر تعالى الأدلة والبراهين على قدرته ووحدانيته فقال ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ﴾ اللام جواب قسم أي والله لقد خلقنا جنس الإِنسان من صفوة وخلاصة استلت من الطين قال ابن عباس: هو آدم لأنه انسلَّ من الطين ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ أي ثم جعلنا ذرية آدم وبنيه منيّاً ينطف من أصلاب الرجال ﴿فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ أي في مستقر متمكن هو الرحم ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً﴾ أي ثم صيَّرنا هذه النطفة - وهي الماء الدافق - دماً جامداً يشبه العلقة ﴿فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً﴾ أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط ﴿فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً﴾ أي صيَّرنا قطعة اللحم عظاماً صلبة لتكون عموداً للبدن ﴿فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً﴾ أي سترنا تلك العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ أي ثم بعد تلك الأطوار نفخنا فيه الروح فصيرناه خلقاً آخر في أحسن تقويم قال الرازي: أي جعلناه خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث صار إِنساناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع كل عضو من أعضائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين﴾ أي فتعالى الله في قدرته وحكمته أحسن الصانعين صنعاً ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ﴾ أي ثم إِنكم أيها الناس بعد تلك النشأة والحياة لصائرون إلى الموت ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ أي تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة، ولما ذكر تعالى الأطوار في خلق الإِنسان وبدايته ونهايته ذكر خلق السماوات والأرض ولكها أدلة ساطعة على وجود الله فقال ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾ أي والله لقد خلقنا فوقكم سبع سماوات، سميت طرائق لأ ن بعضها فوق بعض ﴿وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ﴾ أي وما كنا مهملين أمر الخلق بل نحفظهم وندبر أمرهم {وَأَنزَلْنَا مِنَ
278
السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي أنزلنا من السحاب القطر والمطر بحسب الحاجة، لا كثيراً فيفسد الأرض، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض﴾ أي جعلناه ثابتاً مستقراً في الأرض لتنتفعوا به وقت الحاجة ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ أي ونحن قادرون على إِذهابه بالتغوير في الأرض فتهلكون عطشاً أنتم ومواشيكم قال ابن كثير: لو شئنا لجعلناه إذا نزل يغور في الأرض إلى مدى لا تصلون إِليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه تعالى ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً، فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع فيها فينفتح العيون والأنهار، ويسقى الزروع والثمار، فتشربون منه أنتم ودوابكم وأنعامكم ﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ أي فأخرجنا لكم بذلك الماء حدائق وبساتين فيها النخيل والأعناب ﴿لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ أي لكم في هذه البساتين أنواع الفواكه والثمار تتفكهون بها ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي ومن ثمر الجنات تأكلون صيفاً وشتاءً كالرطب والعنب والتمر والزبيب، وإِنما خصَّ النخيل والأعناب بالذكر لكثرة منافعهما فإِنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإِدام، ومقام الفواكه رطباً ويابساً وهما أكثر فواكه العرب ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ﴾ أي وممَّا أنشأنا لكم بالمء أيضاً شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل الطور وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ أي تُنبت الدهن أي الزيت الذي فيه منافع عظيمة ﴿وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ﴾ أي وإِدام للآكلين سمي صبغاً لأنه يلون الخبز إذا غُمس فيه، جمع الله في هذه الشجرة بين الأُدم والدهن، وفي الحديث
«كلوا الزيت وادهنوا به فإِنه من شجرةٍ مباركة» ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً﴾ أي وإن لكم أيها الناس فيما خلق لكم ربكم من الأنعام وهي «الإِبل والبقر والغنم» لعظةً بالغةً تعتبرون بها ﴿نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا﴾ أي نسقيكم من ألبانها من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ﴿وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ أي ولكم في هذه منافع عديدة: تشربون من ألبانها، وتلبسون من أصوافها وتركبون ظهورها، وتحملون عليها الأحمال الثقال ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي وتأكلون لحومها كذلك ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أي وتحملون على الإِبل في البر كما تحملون على السُّفن في البحر، فإِنَّ الإِبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِخبار بصيغة الماضي لإِفادة الثبوت والتحقق ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ كما أنَّ ﴿قَدْ﴾ لإِفادة التحقيق أيضاً.
٢ - التفصيل بعد الإِجمال ﴿الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ..﴾ الخ.
٣ - إ نزال غير المنكر منزلة المنكر ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ﴾ الناس لا ينكرون الموت ولكنَّ غفلتهم عنه وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح يعدَّان من علامات الإنكار ولذلك نزلوا منزلة المنكرين وأُلقي الخبر مُؤكداً بمؤكدين «إٍنَّ واللام».
٤ -
279
الاستعارة اللطيفة ﴿سَبْعَ طَرَآئِقَ﴾ شبهت السماوات السبع بطرائق النعل التي يجعل بعضها فوق بعض بطريق الاستعارة.
٥ - التهديد ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾.
٦ - السجع غير المتكلف ﴿خَاشِعُونَ، حَافِظُونَ، عَادُونَ﴾ وكذلك ﴿طِينٍ، مَّكِينٍ، الخالقين﴾ وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآيات من قوله ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ إلى قوله ﴿وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ﴾ أربعة أنواع من دلائل قدرته تعالى، الأول: تقلب الإِنسان في أطوار الخلق وهي تسعة آخرها البعث بعد الموت، الثاني: خلق السماوات السبع، الثالث: إِنزال الماء من السماء، الرابع: منافع الحيوانات وذكر منها أربة أنواع «الانتفاع بالألبان، وبالصوف، وباللحوم، وبالركوب».
فَائِدَة: روى الإِمام أحمد عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كان إِذا نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل، فلبثنا ذات يوم ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال» اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تُؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا «ثم قال: لقد أُنزل عليَّ عشر آيات من أقامهنَّ دخل الجنة ثم قرأ ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ حتى ختم العشر»
280
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى دلائل التوحيد في خلق الإِنسان، والحيوان، والنبات، وفي خلق السماوات والأرض، وعدَّد نعمة عل عباده، ذكر هنا أمثالاً لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة وما نالهم من العذاب، فابتدأ بقصة نوح، ثم بقصة موسى وفرعون، ثم بقصة عيسى بن مريم، وكلُّها عبر وعظات للمكذبين بالرسل والآيات.
اللغَة: ﴿جِنَّةٌ﴾ بكسر الجيم أي جنون ﴿فَتَرَبَّصُواْ﴾ فانتظروا والتربص: الانتظار ﴿مُبْتَلِينَ﴾ مختبرين ﴿هَيْهَاتَ﴾ اسم فعل ماض بمعنى بَعُد قال الشاعر:
تذكرت أياماً مضين من الصبا وهيهات هيهاتاً إِليك رجوعها
﴿غُثَآءً﴾ الغثاء: العشب إِذا يبس، وغُثاء السيل: ما يحمله من الحشيش والقصب اليابس ونحوه ﴿بُعْداً﴾ هلاكاً قال الرازي: بعداً وسُحقاً ودماراً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها قال سبيويه وهي منصوبة بأفعال لا يستعمل إٍِظهارها ومعنى ﴿بُعْداً﴾ بعدوا بعداً أي هلكوا ﴿قُرُوناً﴾ أمماً ﴿تَتْرَا﴾ تتابع يأتي بعضهم إِثر بعض ﴿أَحَادِيثَ﴾ جمع أُحدوثة كأُعجوبة وهي ما يتحدث به عجباً وتسلية ﴿مَعِينٍ﴾ ماء جار ظاهر للعيون ﴿رَبْوَةٍ﴾ الربوة: المكان المرتفع من الأرض.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ أي والله لقد أرسلنا رسولنا نوحاً إلى قومه داعياً لهم إِلى الله قال المفسرون: هذه تعزية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذكر هذا الرسول، ليتأسى به في صبره، وليعلم أنَّ الرسل قبله قد كُذبوا ﴿فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي اعبدوه وحده فليس لكم ربٌّ سواه ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ زجرٌ ووعيد أي أفلا تخافون عقوبته بعبادتكم غيره؟ ﴿فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم الممعنون في الكفر والضلال ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي ما هذا الذي يريد أن يطلب الرياسة والشرف عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً.. واعجبْ بضلال هؤلاء استبعدوا أن تكون النبوة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحجر ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً﴾ أي لو أراد ال له أن يبعث رسولاً لبعث ملكاً
281
ولم يكن بشراً ﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين﴾ أي ما سمعنا بمثل هذاكللام في الأمم الماضية، والدهور الخالية ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي ما هو إلا رجلٌ به جنون ﴿فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ﴾ أي انتظروا واصبروا عليه مدة حتى يموت ﴿قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾ أي قال نوح بعد ما يئس من إِيمانهم: ربِّ انصرني عليهم بإِهلاكهم عامةً بسبب تكذيبهم إِياي ﴿فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ أي فأوحينا إِليه عند ذلك أن اصنع السفينة بمرأى منا وحفظنا ﴿وَوَحْيِنَا﴾ أي بأمرنا وتعليمنا ﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا﴾ أي فإِذا جاء أمرنا بإِنزال العذاب ﴿وَفَارَ التنور﴾ أي فار الماء في التنور الذي يخبز فيه قال المفسرون: جعل الله ذلك علامة لنوح على هلاك قومه ﴿فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين﴾ أي فأدخل في السفينة من كل صنفٍ من الحيوان زوجين «ذكر وأنثى» لئلا ينقطع نسل ذلك الحيوان ﴿وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ﴾ أي واحمل أهلك أيضاً إِلاّ من سبق عليه القول بالهلاك ممن لم يؤمن كزوجته وابنه ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ﴾ أي ولا تسألني الشفاعة للظالمين عند مشاهدة هلاكهم فقد قضيت أنهم مغرقون محكوم عليهم بالغرق ﴿فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك﴾ أي فإِذا علوت أنت ومن معك من المؤمنين على السفينة ﴿فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين﴾ أي احمدوا الله على تخليصه إِياكم من الغرق وإِنما قال ﴿فَقُلِ﴾ ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإِماماً فخطابه خطابٌ لهم ﴿وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ أي أنزلني إِنزالاً مباركاً يحفظني من كل سوء وشر قال ابن عباس: هذا حين خرج من السفينة ﴿وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾ أي أنت يا رب خير المنزلين لأوليائك والحافظين لعبادك ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ﴾ أي إِنَّ فيما جرى على أمة نوح دلائل وعبر يستدل بها أولوا الأبصار ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ أي وإِنَّ الحال والشأن كنا مختبرين للعباد بإِرسال المرسلين ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح قوماً آخرين يخلفونهم وهم قوم عاد ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ أي أرسلنا إِليهم رسولاً من عشيرتهم هو هود عليه السلام ﴿أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به أحداً لأنه ليس لكم ربٌّ سواه ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي أفلا تخافون عذابه وانتقامه إِن كفرتم؟ ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة﴾ أي قال أشراف قومه الكفرة المكذبون بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب ﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ أي وسَّعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا ونعمناهم في هذه الحياة ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ أي قالوا لأتباعهم مضلين لهم: ما هذا الذي يزعم أنه رسول إِلا إِنسان مثلكم ﴿يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ أي يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إِلى الطعام والشراب ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ أي ولئن أطعتموه وصدقتموه فإِنكم لخاسرون حقاً حيق أذللتم أنفسكم باتّباعه قال أبو السعود: انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها؟ قاتلهم الله أنَّى يؤفكون ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً﴾ استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أيعدكم بالحياة بعد الموت أن تصبحوا رفاتاً
282
وعظاماً بالية؟ ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ أي أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم وكرَّر لفظ ﴿أَنَّكُمْ﴾ تأكيداً لأنه لمّا طال الكلام حسن التكرار ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ﴾ أي بعد بعُد هذا الذي توعدونه من الإِخراج من القبور، وغرضهم بهذا الاستبعاد انه لا يكون أبداً ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ أي لا حياة إِلا هذه الحياة الدنيا ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي يموتُ بعضنا ويُولد بعضنا إِلى انقراض العصر ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ أي لا بعث ولا نشور ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً﴾ أي ما هو إِلا رجل كاذب يكذب على الله فيما جاءكم به من الرسالة، والإِخبار بالمعاد ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي ولسنا له بمصدقين فيما يقوله ﴿قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ﴾ لما يئس نبيُّهم من إِيمانهم ورأى إِصرارهم على الكفر دعا عليهم بالهلاك والمعنى ربّ انصرني عليهم بسبب تكذيبهم إِياي ﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ﴾ أي قريب من الزمان سيصيرون نادمين على كفرهم ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق﴾ أي أخذتهم صيحة العذاب المدمر عدلاً من الله لا ظلماً ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً﴾ أي هلكى كغثاء السيل قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاءً كغثاء السيل وهو الشيء التافه الحقير الذي لا ينتفع منه بشيء ﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾ أي فسحقاً وهلاكاً لهمم وظلمهم، وهي جملة دعائية كأنه قال: بعداً لهم من رحمة الله وهلاكاً ودماراً لهم ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ﴾ أي أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أمماً وخلائق أخرين كقوم صالح وإِبراهيم وقوم لوط وشعيب قال ابن عباس: هم بنو إِسرائيل، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم دلَّ عليه قوله ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أي ما تتقدم أمةٌ من الأمم المهلكة عن الوقت الذي عُيّن لهلاكهم ولا تتأهر عنه ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾ أي بعثنا الرسل متتالين واحداً بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضاً ﴿كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ تشنيع عليهم بكمال ضلالهم أي أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من سبقهم من الضالين المكذبين ولهذا قال ﴿فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً﴾ أي ألحقنا بعضهم في إِثر بعض بالهلاك والدمار ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ أي أخباراً تُروى وأحاديث تُذكر، يتحدث الناس بما جرى عليهم تعجباً وتسلية ﴿فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ أي فهلاكاً ودماراً لقومٍ لا يصدّقون الله ورسله ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا﴾ أي أرسلناهما بآياتنا البينات قال ابن عباس: هي الآيات التسع «العصا، اليد، الجراد» الخ ﴿وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي وحجة واضحة ملزمة للخصم ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ أي أرسلناهما إلى فرعون الطاغية وأشراف قومه المتكبرين ﴿فاستكبروا﴾ أي عن الإِيمان بالله وعبادته ﴿وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ﴾ أي متكبرين متمردين، قاهرين لغيرهم بالظلم ﴿فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ أي أنصدق رجلين مثلنا ونتَّبعهما؟ ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ أي والحال أن قوم موسى وهارون منقادون لنا كالخدم والعبيد؟ ﴿فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين﴾ أي فكذبوا رسولينا فكانوا من المغرقين في البحر ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أي أعطينا موسى التوراة بعد غرق فرعون وملائه ليهتدي بها بنوا إِسرائيل ﴿وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ أي وجعلنا قصة مريم وابنها عيسى معجزةً عظيمة تدل على كمال قدرتنا ﴿وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ﴾ أي وجعلنا منزلهما ومأواهما إِلى مكانٍ مرتفع من أرض بيت المقدس قال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات ﴿ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ أي مستوية يستقر
283
عليها وماءٍ جارٍ ظاهر للعيون قال الرازي: القرار: المستقر كل أرض مستوية مبسوكة، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وعن قتادة: ذات ثمارٍ وماء، يعني أنه لأجل الثمار يسقر فيها ساكنوها ﴿ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً﴾ أي قلنا يا أيها الرسل كلوا من الحلال وتقربوا إِلى الله بالأعمال الصالحة، والنداء لكل رسولٍ في زمانه وصى به كل رسول إرشاداً لأمته كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ وعيدٌ وتحذير أي إِني عالم بما تعملون لا يخفى عليَّ شيء من أمركم، قال القرطبي: شمل الكل في الوعيد وإِذا كان هذا مع الرسل والأنبياء، فما ظنُّ كل الناس بأنفسهم؟ ﴿وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملتكم ملة واحدة وهي دين الإِسلام ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون﴾ أي وأنا ربكم لا شريك لي فخافوا عذابي وعقابي.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة البديعة ﴿اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ عبَّر عن المبالغة في الحفظ والرعاية بالصنع على الأعين لأن الحافظ للشيء في الأغلب يديم مراعاته بعينه فلذلك جاء بذكر الأعين بدلاً من ذكر الحفظ والحراسة على طريق الاستعارة.
٢ - الكناية ﴿وَفَارَ التنور﴾ كناية عن الشدة كقولهم حمي الوطيس، وأطلق بعض العلماء التنور على وجه الأرض مجازاً.
٣ - جناس الاشتقاق ﴿أَنزِلْنِي مُنزَلاً﴾ و ﴿تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.
٤ - الطباق بين ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ وكذلك بين ﴿تَسْبِقُ.. ويَسْتَأْخِرُونَ﴾. ٥ - الجناس الناقص ﴿أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا﴾ لتغيير بعض الحروف مع الشكل.
٦ - التشبيه البليغ ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً﴾ أي كالغثاء في سرعة زواله ومهانة حاله، حذف وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً.
٧ - أسلوب الإِطناب ﴿الذين كَفَرُواْ، وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخرة، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا﴾ ذماً لهم وتسجيلاً عليهم القبائح والشناعات.
٨ - السجع اللطيف مثل ﴿تَتَّقُونَ، تَشْرَبُونَ، مُّخْرَجُونَ﴾ ومثل ﴿عَالِينَ، المهلكين، قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾.
فَائِدَة: لفظ البشر يطلق على الواحد والجمع، فمن إِطلاقه على الواحد ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ [مريم: ١٧] ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ ؟ على إِطلاقه على الجمع ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً﴾ [مريم: ٢٦] ﴿وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ﴾ [المدثر: ٣١] أفاده صاحب الكشاف.
284
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء والمرسلين، أتبعه بذكر أخبار الكفرة المتمردين من أقوامهم واختلافهم وتفرقهم في الدين حتى أصبحوا فرقاً وأحزاباً، ليجتنب الإِنسان طرق أهل الضلال.
اللغَة: ﴿زُبُراً﴾ قطعاً جمع زبور وهي القطعة من الفضة أو الحديد ﴿غَمْرَتِهِمْ﴾ الغمرة: الحيرة والضلالة وأصله في اللغة: الماء الذي يغمر القامة ﴿يَجْأَرُونَ﴾ يضجون ويستغيثون وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور ﴿تَنكِصُونَ﴾ النكوص: الرجوع إلى الوراء ﴿نَاكِبُونَ﴾ نكب عن الطريق نكوباً إِذا عدل عنه ومال إلى غيره.
التفسِير: ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقٌّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم ﴿حتى حِينٍ﴾ أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ للمشركين ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلاَّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم ﴿وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: ٣٥] وفي
285
الحديث «إِن الله يعطي الدنيا لمن يُحبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ»، ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال ﴿إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون ﴿والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي والبراهين الدالة على وجوده سبحانه
وفي كل شيءٍ له آيةٌ... تدلُّ على أنه واحد
﴿والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه الله وطلباً لرضوانه ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً ﴿أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الآية الكريمة فقالت ﴿والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجل؟ فقال لها:
«لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عَزَّ وَجَلَّ» ﴿أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ أي هم الجديرون بها والسابقون إِليه قال الإِمام الفخر: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما لا ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها ﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإنسان ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم {بَلْ قُلُوبُهُمْ
286
فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} أي بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن ﴿وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك﴾ أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإشراك ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب ﴿حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب﴾ أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر ﴿إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ﴾ أي إِذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين ﴿لاَ تَجْأَرُواْ اليوم﴾ أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب ﴿إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي لقد كنتم تسمعون آيات القرآن تقرأ عليكم ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره ﴿سَامِراً تَهْجُرُونَ﴾ أي متحدثين ليلاً تسمرون تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن، وسبّ النبي عليه السلام ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ ﴿أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين﴾ أي أم جاءهم من الله بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا ييكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود ﴿بَلْ جَآءَهُمْ بالحق﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف ﴿وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي لو كان ما كرهوه من الحق - الذي هو التوحيد والعدل -
287
موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة ﴿لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ﴾ أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي فهم معرضون عن هذا القرآن العظيم وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ «الذكر» تعظيماً للقرآن ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً﴾ أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبيلغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فيلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ﴾ أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي وإنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم ﴿وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ﴾ أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ أصل الغمرة الماء الذي يغمر القامة، شبَّه ما هم فيه من الجهالة والضلالة بالماء الذي يغمر الإِنسان من فرقة إلى قدمه على سبيل الاستعارة.
٢ - الاستفهام الإِنكاري ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾.
٣ - حذف الرابط في ﴿نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات﴾ حذف «به» أي نسارع لهم به في الخيرات، وحسن حذفه لاستطالة الكلام مع أمن اللبس.
٤ - الطباق بين ﴿يُؤْمِنُونَ.. يُشْرِكُونَ﴾.
٥ - الاستعارة البديعة ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق﴾ النطق لا يكون إلا ممن يتكلم بلسانه، والكتاب ليس له لسان، فوصف سبحانه الكتاب بالنطق مبالغة وصفه بإِظهار البيان وإِعلان البرهان، وتشبيهاً باللسان الناطق بطريق الاستعارة.
٦ - جناس الاشتقاق ﴿يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ﴾ ﴿أَعْمَالٌ.. هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾.
٧ - الاستعارة الفائقة ﴿فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ شبّه إِعراضهم عن الحق بالراجع القهقرى إلى الخلف وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية.
٨ - السجع الرصين ﴿مُّشْفِقُونَ، يُؤْمِنُونَ، يُشْرِكُونَ، سَابِقُونَ﴾ الخ.
288
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى إِعراض المشركين عن دعوة الإِيمان، ذكر هنا سبب الإِعراض وهو العناد والطغيان، ثم أردفه بإِقامة الأدلة على التوحيد، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إِلى سعداء
289
وأشقياء، وختم السورة ببيان الحكمة من حشر الناس إِلى دار الجزاء وأنه لولا لاقيمة لما تميز المطيع من العاصي ولا البرُّ من الفاجر.
اللغَة: ﴿مُبْلِسُونَ﴾ يائسون متحيرون، والإِبلاس: اليأس من كل خير ﴿يُجْيِرُ﴾ يمنع ويحمي من استغاث به يقال: أجرت فلاناً على فلان إِذا أغثته ومنعته منه ﴿هَمَزَاتِ﴾ جمع همزة وهي الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأزّ، وهمزات الشيطان: كيده بالوسوسة ﴿بَرْزَخٌ﴾ حاجز ومانع قال الجوهري: البرزخ: الحاجز بين الشيئين ﴿كَالِحُونَ﴾ الكلوح: أن تتقلَّص الشفتان وتتباعد الأسنان، وذلك نهاية القبح لوجه الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: نزلت في قصة «ثمامة بن أُثال» لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الآيات.
التفسِير: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ﴾ أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء ﴿لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾ أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع ﴿فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم ﴿حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أي حتى إ ِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم ثم ذكَّرهم تعالى ينعمة ودلائل وحدانيته فقال ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى
﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٦] وخصَّ هذه
290
الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي قليلاً تشكرون ربكم، و ﴿مَّا﴾ لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ ﴿وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض﴾ أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب ﴿وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي يُحيي الِّمم ويميت الخلائق والأمم ﴿وَلَهُ اختلاف الليل والنهار﴾ أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدلي على وجوده وقدرته ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟ ﴿بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون ﴿قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ ؟ أي إئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ﴾ أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال ﴿قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ﴾ ؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك ﴿قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم﴾ ؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله ﴿قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا ﴿قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ﴾ أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو
291
تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ثم قال ثانياً ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾ وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق﴾ أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد.
لمَّا بالغ في الحِجاج عليه بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد، ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ﴾ أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لانفرد كلٌ بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق ﴿فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد ﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا ﴿رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين﴾ هذا جواب الشرط ﴿إِمَّا﴾ وكرَّر قوله ﴿رَّبِّ﴾ مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمة ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلأى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ أي أعتصم بك من نزغات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾ عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده ﴿قَالَ رَبِّ ارجعون﴾ أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة
292
الجمع للتعظيم ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ ﴿كَلاَّ﴾ كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيافليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور﴾ أي فإِذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴿وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الطور: ٢٥] لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي زادت سيئاته على حسناته ﴿فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ﴾ أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار﴾ أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث «تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته» ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن آيات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أي غلبت علينا شقاوتنا ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب ابتاعنا للملذّات والأهواء ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي أخرجنا من النار وردُنَّا إلى الدنيا ﴿فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم العدوان.
أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال في التسهيل: اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين﴾ قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم ﴿حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ
293
تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تتضحكون عليهم في الدنيا ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا﴾ أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾ أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ﴾ أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمَّرتم فيها من السنين؟ ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم ﴿فَسْئَلِ العآدين﴾ أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها ﴿قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة ﴿لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء ﴿فَتَعَالَى الله﴾ أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل ﴿الملك الحق﴾ أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإِعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائض وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره ﴿رَبُّ العرش الكريم﴾ أي خالق العرش العظيم وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ﴾ أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ أي لا حجة له به ولا دليل ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أي جزاؤه وعقابه عند الله ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ وختمها بقوله ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام.
﴿وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين﴾ أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
البّلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الامتنان ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾.
٢ - التفنن ﴿السمع والأبصار﴾ أفرد السمع وجمع الأبصار تفنناً.
٣ - التنكير للتقليل ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ و ﴿مَّا﴾ تأكيد للقلة المستفادة من التنكير والمعنى شكراً قليلاً وهو كناية عن عدم الشكر.
٤ - الاستفهام الذي غرضه الإِنكار والتوبيخ ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ؟
٥ - الطباق بين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
٦ -
294
حذف جواب الشرط ثقةً بدلالة اللفظ عليه ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه.
٧ - طباق السلب ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ﴾.
٨ - تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ أي ما اتخذ ولداً وكذلك ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ ذكر ﴿مِنْ﴾ في الجملتين تأكيداً تثبيتاً للنفي.
٩ - الطباق في ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾.
١٠ - التأكيد بإِنَّ واللام ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ لإِنكار المخاطبين لذلك.
١١ - الطباق المعنوي ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ لأنه المعنى ادفع بالحسنة السيئة فهو طباق بالمعنى لا بالفظ.
١٢ - واو الجمع للتعظيم ﴿رَبِّ ارجعون﴾ ولم يقل ارجعني تعظيماً لله جل وعلا.
١٣ - المجاز المرسل ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ أطلق الكلمة على الجملة وهو من إِطلاق الجزء وإرادة الكل.
١٤ - المقابلة اللطيفة بين ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ وبين ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ..﴾ الآيتان.
١٥ - القصر ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾.
١٦ - جناس الاشتقاق ﴿وَأنتَ خَيْرُ الراحمين﴾.
١٧ - السجع الموزون الخالي من التكلف وهو كثير مشهور.
295
Icon