تفسير سورة المؤمنون

الدر المصون
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ : العامَّةُ على «أَفْلَحَ» مفتوحَ الهمزةِ والحاءِ فعلاً ماضياً مبنياً للفاعلِ. وورشٌ على قاعدتِه مِنْ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها وحَذْفِها. وعن حمزةَ في الوقف خلفٌ: فرُوِيَ عنه كورشٍ، وكالجماعة. وقال أبو البقاء: «مَنْ ألقى حركةَ الهمزةِ على الدالِ وحَذَفَها فَعِلَّتُه: أنَّ الهمزةَ بعد حَذْفِ حركتِها صُيِّرَتْ ألفاً، ثم حُذِفَتْ لسكونِها وسكونِ الدالِ قبلها في الأصل. ولا يُعْتَدُّ بحركةِ الدال لأنها عارضةٌ». وفي كلامِه نظرٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ اللغةَ الفصيحةَ في النقلِ حَذْفُ الهمزةِ من الأصلِ فيقولون: المَرَة والكَمَة في: المَرْأَة والكَمْأَة. واللغةُ الضعيفةُ فيه إبقاؤُها وتَدْييرُها بحركةِ ما قبلَها فيقولون: المَراة والكَماة بمَدَّةٍ بدل الهمزةِ كراس وفاس فيمَنْ خفَّفَهما. فقولُه: «صُيِّرَتْ ألفاً» ارتكابٌ لأضعفِ اللغتين.
الثاني: أنه وإنْ سُلِّمَ أنَّها صُيِّرَتْ ألفاً فلا نُسَلِّم أنَّ حَذْفَها لسكونِها وسكونِ الدالِ في ألأصل، بل حَذْفُها لساكنٍ محققٌ في اللفظِ وهو الفاء مِنْ «أفلح»، ومتى وُجد سببٌ ظاهرٌ أُحيل الحُكْمُ عليه دونَ السبب المقدر.
313
وقرأ طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أُفْلِحَ» مبنياً للمفعول أي: دَخَلوا في الفلاح. فيُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أفلح متعدِّياً. يقال: أَفْلحه أي: أصاره إلى الفلاح، فيكون «أفلح» مستعملاً لازماً ومتعدِّياً. وقرأ طلحة أيضاً «أَفْلَحُ» بفتح الهمزة واللام وضمِّ الحاء. وتخريجُها على أنَّ الأصلَ «أَفْلحوا المؤمنون» بلحاقِ علامةِ جمعٍ قبل الفاعلِ كلغة «أكلوني البراغيث» فيجيءُ فيها ما قَدَّمْتَه في قول: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ [المائدة: ٧١] ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنبياء: ٣] قال عيسى: «سمعتُ طلحةَ يقرؤُها. فقلتُ له: أتلحنُ؟ قال: نعم كما لحن أصحابي» يعني اتَّبَعْتُهم فيما قَرَأْتُ به. فإنْ لَحَنوا على سبيلِ فَرْضِ المُحالِ فِأنا لاحنٌ تَبَعاً لهم. وهذا يدلُّ على شدِّةِ اعتناءِ القدماءِ بالنَّقْلِ وضَبْطِه خلافاً لمن يُغَلِّطُ الرواةَ.
وقال ابن عطية: «وهي قراءةٌ مردودةٌ». قلت: ولا أدري كيف يَرُدُّونها مع ثبوتِ مِثْلِها في القرآن بإجماع وهما الآيتان المتقدمتان؟ وقال الزمخشري: «وعنه أي عن طلحةَ» أَفْلَحُ «بضمةٍ بغير واو، اجتزاءً بها عنها كقوله:
٣٤٠١ - فلَوْ أنَّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلي ...........................
وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنَّ الواوَ لا تَثْبُتُ في مثلِ هذا دَرْجاً لئلاً يلتقي ساكنان، فالحَذْفُ هنا لا بُدَّ منه فكيف يقول اجتزاءً عنها بها؟ وأمَّا تنظيرُه بالبيتِ
314
فليس بمطابقٍ؛ لأنَّ حَذْفَها من الآيةِ ضروريٌّ ومن البيتِ ضرورةٌ. وهذه الواوُ لا يظهر لفظُها في الدَّرْجِ، بل يظهرُ في الوقفِ وفي الخَطِّ.
وقد اختلف النَّقَلَةُ لقراءةِ طلحة: هل يُثَبِتُ للواوِ صورةً؟ ففي كتاب ابن خالويه مكتوباً بواو بعد الحاء، وفي» اللوامح «:» وحُذِفَتْ الواوُ بعد الحاءِ لالتقائِهما في الدَّرج، وكانت الكتابةُ عليها محمولةً على الوصلِ نحو: ﴿وَيَمْحُ الله الباطل﴾ [الشورى: ٢٤]. قلت: ومنه ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ [العلق: ١٨]، ﴿صَالِ الجحيم﴾ [الصافات: ١٦٣].
و «قد» هنا للتوقُّع. قال الزمخشري: «قد: نقيضَةُ» لَمَّا «، هي تُثْبِتُ المتوقَّعَ و» لَمَّا «تَنْفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقِّعين لهذه البشارةِ، وهي للإِخبار بثباتِ الفَلاحِ لهم فَخُوطبوا بما دَلَّ على ثباتِ ما تَوَقَّعوه».
315
قوله: ﴿فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ : الجارُّ متعلِّقٌ بما بعدَه وقُدِّمَ للاهتمام، وحَسَّنه كونَ متعلَّقِه فاصلةً، وكذلك فيما بعده مِنْ أخواتِه. وأُضِيْفَتْ الصلاةُ إليه لأنهم هم المُنْتَفِعون بها، والمُصَلَّى له غَنِيٌّ عنها، فلذلك أُضِيْفَتْ إليهم دونَه.
قوله: ﴿لِلزَّكَاةِ﴾ : اللامُ مزيدةٌ في المفعولِ لتقدُّمِه على عامِلِه ولكونِه فرعاً. والزكاةُ في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلَقُ على القَدْرِ المُخْرَجِ من
315
الأعْيانِ. قال الزمخشري: «اسمٌ مشتركٌ بين عَيْنٍ ومَعْنى، فالعينُ: القَدْرُ الذي يُخْرِجُه المُزَكِّي مِنَ النِّصاب، والمعنى: فِعْلُ المُزَكِّي، وهو الذي أراده الله فجعل المزكِّيْنَ فاعِلين له ولا يَسُوغ فيه غيرُه لأنَّه ما مِنْ مصدرٍ إلاَّ يُعَبَّرُ عنه بالفِعْلِ. ويُقال لمُحَدِثِه فاعلٌ. تقول للضارب: فاعلُ الضَرْبِ، وللقاتل فاعلُ القَتْل، وللمزكِّي فاعلُ التَّزْكية، وعلى هذا الكلامُ كله. والتحقيقُ في هذا أنَّك تقولُ في جميع الحوادث: مَنْ فاعلُها؟ فيُقال لك: الله أو بعضُ الخَلْق. ولم تمتنعِ الزكاةُ الدالَّةُ على العينِ أَنَ يتعلَّقَ بها [فاعلون] لخروجِها مِنْ صحةِ أَنْ يتناولَها الفاعلُ، ولكن لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعليها. وقد أنشدوا لأميةَ بن أبي الصلت:
٣٤٠٢ - المُطْعِمُون الطعامَ في السَّنَة ال أزمةِ والفاعلون للزكواتِ
ويجوز أن يُرادَ بالزكاة العَيْنُ، ويُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ وهو الأداءُ، وحَمْلُ البيتِ على هذا أَصَحُّ لأنها فيه مجموعةٌ»
. قلت: إنما أحوجَ أبا القاسمِ إلى هذا أنَّ بعضَهم زعم أنه يتعيَّنُ أَنْ تكونَ الزكاةُ هنا المصدرَ؛ لأنه لو أراد العينَ لقال مُؤَدُّوْن، ولم يقل فاعلون، فقال الزمخشري: لم يمتنعْ ذلك لعدمِ صحةِ تناوُلِ فاعِل لها، بل لأنَّ الخَلْقَ ليسوا بفاعِليها، وإنما جَعَلَ الزكَواتِ في بيتِ أميةَ أعياناً لِجَمْعِها؛ لأنَّ المصدر لا يُجْمع.
وناقشه الشيخ فقال: «يجوز أَنْ مصدراً وإنما جُمِعَ لاختلافِ أنواعِه».
316
قوله: ﴿إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه متعلقٌ ب «حافِظون» على التضمين. يعني مُمْسِكين أو قاصِرين. وكلاهما يتعدى ب على. قال تعالى: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ [الأحزاب: ٣٧] الثاني: أن «على» بمعنى «مِنْ» أي: إلاَّ مِنْ أزواجهم. ف «على» بمعنى «مِنْ»، كما جاءَتْ «مِنْ» بمعنى «على» في قوله ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: ٧٧]، وإليه ذَهَب الفراءُ. الثالث: أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحالِ. قال الزمخشري: أي إلاَّ والين على أزواجِهم أو/ قَوَّامين عليهنَّ. مِنْ قولِك: كان فلان على فلانةَ فمات عنها، فخلف عليها فلانٌ. ونظيرُه: كان زيادٌ على البصرة أي: والياً عليها. ومنه قولُهم: «ثلاثةٌ تحت فلان، ومِنْ ثَمَّ سُمِّيَتْ المرأةُ فِراشاً». الرابع: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «غيرُ مَلومين». قال الزمخشري: «كأنه قيل: يُلامُون إلاَّ على أزواجِهم أي: يلامون على كلِّ مباشِر إلاَّ على ما أُطْلِقَ لهم فإنهم غيرُ ملومين عليه». قلت: وإنما لم يَجْعَلْه متعلقاً ب «ملومين» لوجهين. أحدهما: أنَّ ما بعد «إنَّ» لا يَعْمل فيما قبلها.
والثاني: أنَّ المضافَ إليه لا يَعْمل فيما قبلَ المضاف، ولفسادِ المعنى أيضاً.
الخامس: أَنْ يُجْعل صلةً لحافظين. قال الزمخشري: «مِنْ قولِك: احفَظْ عَلَيَّ عِنَانَ فرسي»، على تضمينِه معنى النفي كما ضُمِّن قولُهم: «نَشَدْتُك
317
باللهِ إلاَّ فَعَلْتَ» معنى: ما طَلَبْتُ منك إلاَّ فِعْلَك. يعني: أَنَّ صورتَه إثباتُ ومعناه نفيٌ.
قال الشيخ بعدما ذكَرْتُه عن الزمخشري: «وهذه وجوهٌ متكلَّفَةٌ ظاهرٌ فيها العُجْمَةُ» قلت: وأيُّ عُجْمَةٍ في ذلك؟ على أنَّ الشيخَ جعلها متعلقةً ب «حافظون» على ما ذكره مِنَ التضمين. وهذا لا يَصِحُّ له إلاَّ بأَنْ يرتكبَ وجهاً منها: وهو التأويلُ بالنفيِ ك «نَشَدْتُك الله» لأنه استثناءٌ مفرغ، ولا يكونُ إلاَّ بعد نفيٍ أو ما في معناه.
السادس: قال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ ب حافِظُون» على المعنى؛ لأنَّ المعنى: صانُوها عن كل فَرْجٍ إلاَّ عن فروجِ أزواجِهم «. قلت: وفيه شيئان، أحدهما: تضمين» حافظون «معنى صانُوا، وتضمينُ» على «معنى» عن «.
قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ﴾ »
ما «بمعنى اللاتي. وفي وقوعها على العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنها واقعةٌ على الأنواعِ كقوله: ﴿فانكحوا مَا طَابَ﴾ أي: أنواعَ. والثاني: قال الزمَخشري:» أُريد من جنسِ العقلاءِ ما يَجْري مجرى غيرِ العقلاءِ وهم الإِناثُ «. قال الشيخ:» وقوله: «وهم» ليس بجيدٍ؛ لأنَّ لفظَ «هم» مختصٌّ بالذكورِ، فكان ينبغي أَنْ يقولَ: «وهو» على لفظ «ما». أو «وهُنَّ»
318
على معنى «ما» قلت: والجواب عنه: أن الضميرَ عائدٌ على العقلاءِ، فقوله «وهم» أي: والعقلاءُ الإِناث.
319
قوله: ﴿لأَمَانَاتِهِمْ﴾ : قرأ ابن كثير هنا وفي «سأل» «لأماناتِهم» بالتوحيد. والباقون بالجمع. وهما في المعنى واحد؛ إذ المرادُ العمومُ والجمعُ أوفقُ. والأمانة في الأصلِ مصدرٌ، ويُطْلق على الشيء المُؤْتَمَنِ عليه كقوله: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨] ﴿وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٧] وإنما يؤدى ويُخان الأعيانُ لا المعاني، كذا قال الزمخشري. أمَّا ما ذكره من الآيتين فَمُسَلَّم. وأمَّا هذا الآيةُ الكريمةُ فتحتمل المصدرَ، وتحتمل العينَ.
وقرأ الأخَوان «على صلاتِهم» بالتوحيد. والباقون «صَلَواتهم» بالجمع. وليس في المعارج خلافٌ والإِفرادُ والجمعُ كما تقدَّم في «أمانتهم» و «أماناتهم». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: كيف كرَّرَ ذِكْرَ الصلاةِ أولاً وآخراً؟ قلت: هما ذِكْران مختلفان، وليس بتكريرٍ، وُصِفُوا أولاً بالخشوعِ في صلاتهم، وآخِراً بالمحافظةِ عليها». ثم قال: «وأيضاً فقد وُحِّدَتْ أولاً ليُفادَ الخُشوعُ في جنسِ الصلاةِ أيَّ صلاةٍ كانَتْ، وجُمعت آخراً لتُفادَ المحافظةُ على أعدادِها، وهي الصلواتُ الخمسُ والوِتْرُ والسُّنَنُ الراتبةُ».
319
قلت: وهذا إنما يَتَّجِهُ في قراءةِ غير الأخَوين. وأمَّا الأخوانِ فإنهما أُفْرِدا أولاً وآخراً. على أن الزمخشريَّ قد حَكَى الخلافَ في جَمْعِ الصلاة الثانية وإفرادِها بالنسبة إلى القراءة.
320
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وقرأ الأخَوان " على صلاتِهم " بالتوحيد. والباقون " صَلَواتهم " بالجمع. وليس في المعارج خلافٌ، والإِفرادُ والجمعُ كما تقدَّم في " أمانتهم " و " أماناتهم ". قال الزمخشري :" فإنْ قلتَ : كيف كرَّرَ ذِكْرَ الصلاةِ أولاً وآخراً ؟ قلت : هما ذِكْران مختلفان، وليس بتكريرٍ، وُصِفُوا أولاً بالخشوعِ في صلاتهم، وآخِراً بالمحافظةِ عليها ". ثم قال :" وأيضاً فقد وُحِّدَتْ أولاً ليُفادَ الخُشوعُ في جنسِ الصلاةِ أيَّ صلاةٍ كانَتْ، وجُمعت آخراً لتُفادَ المحافظةُ على أعدادِها، وهي الصلواتُ الخمسُ والوِتْرُ والسُّنَنُ الراتبةُ ".
قلت : وهذا إنما يَتَّجِهُ في قراءةِ غير الأخَوين. وأمَّا الأخوانِ فإنهما أُفْرِدا أولاً وآخراً. على أن الزمخشريَّ قد حَكَى الخلافَ في جَمْعِ الصلاة الثانية وإفرادِها بالنسبة إلى القراءة.

قوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ : يجوز في هذه الجملةِ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأن تكونَ حالاً مقدرةً: إمَّا من الفاعلِ ب «يَرِثُون»، وإمَّا مِنْ مفعولِه؛ إذ فيها ذِكْرُ كلٍ منهما.
قوله: ﴿مِن سُلاَلَةٍ﴾ : فيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهرُ أَنْ يتعلَّقَ ب خَلَقْنا و «مِنْ» لابتداءِ الغاية. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من الإِنسان. والسُّلالَةُ: فُعالة. وهو بناءٌ يَدُلُّ على القِلَّة كالقُلامة. وهي مِنْ سَلَلْتُ الشيءَ من الشيءِ أي استَخْرَجْتَه منه، ومنه قولُهم: هو سُلالَةُ أبيه كأنه انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِه وأُنْشِد:
٣٤٠٣ - فجاءت به عَضْبَ الأَديمِ غَضَنْفَراً سُلالةَ فَرْجٍ كان غيرَ حَصِيْنِ
وقال أمية بن أبي الصلت:
٣٤٠٤ - خَلَقَ البَرِيَّةَ مِنْ سُلالةِ مُنْتِنٍ وإلى السُّلالَةِ كلِّها سَنعودُ
320
وقال الزمخشري: «السُّلالَةُ: الخُلاصة لأنَّها تُسَلُّ من بين الكَدَر». وهذه الجملةُ جوابُ قسمٍ محذوف. أي: والله لقد خَلَقْنا. وعُطِفَت على الجملةِ قبلَها لِما بينهما من المناسبةِ؛ وهو أنَّه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ المُتَّصِفين بتلك الأوصافِ يَرِثون الفردوسَ، فتضَمَّنَ ذِكْرَ المعادِ الأُخْروي، ذَكَرَ النشأةَ الأولى ليستدِلَّ بها على المَعَادِ، فإن الابتداء في العادة أصعبُ من الإِعادةِ كقوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧]. وهذا أحسنُ مِنْ قولِ ابن عطية: «هذا ابتداءُ كلامٍ، والواو في أولِه عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على جملةِ كلامٍ، وإنْ تبايَنَتا في المعنى» لأنِّي قَدَّمْتُ لك وَجْهَ المناسبة.
قوله: ﴿مِّن طِينٍ﴾ في «مِنْ» وجهان، أحدهما: أنها لابتداءِ الغايةِ. والثاني: أنها لبيانِ الجنسِ. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بين» مِنْ «ومِنْ» ؟ قلت الأُوْلى للابتداءِ، والثانيةٌ للبيانِ كقولِه: ﴿مِنَ الأوثان﴾. قال الشيخ: «ولا تكونُ للبيان؛ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ السُّلالةَ هي الطينُ. أمَّا إذا قُلْنا: إنه مِنْ أُنْسِل من الطين ف» مِنْ «لابتداءِ الغاية».
وفيما تتعلَّق به «مِنْ» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها تتعلَّقُ بمحذوفٍ إذ هي صفةٌ ل «سُلالة». الثاني: أنَّها تتعلَّقُ بنفس «سُلالة» ؛ لأنها بمعنى مَسْلولة. الثالث: أنها تتعلَّقُ ب «خَلَقْنا» لأنها بدلٌ مِن الأولى، إذا قلنا: إن السُّلالةَ هي نفسُ الطين.
321
قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً﴾ : في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ للإِنسانِ. فإنْ أُريد غيرُ آدمَ فواضحٌ، ويكون خَلْقُه مِنْ سُلالةِ الطينِ خَلْقَ أصلِه وهو آدمُ، فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ. وإن كان المرادُ به آدمَ فيكونُ الضميرُ عائداً على نَسْلِه أي: جَعَلْنا نَسْلَه فهو على حَذْفِ مضافٍ أيضاً. أو عاد الضميرُ على الإِنسانِ اللائقِ به ذلك، وهو نَسْلُ آدمَ، فلفظُ الإِنسانِ من حيث هو صالحٌ للأصلِ والفرعِ، ويعود كلُّ شيءٍ لِما يليقُ به. وإليه نحا الزمخشري.
قوله: ﴿فِي قَرَارٍ﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُطْفَة». والقَرار: المستقَرُّ وهو مَوْضِعُ الاستقرارِ. والمرادُ بها الرَّحِمُ. ووُصِفَتْ ب «مَكِيْن» لمكانةِ التي هي صفةٌ المُسْتَقِرِّ فيها، لأحدِ معنيين: أمَّا على المجازِ كطريقٍ سائر، وإنما السائرُ مَنْ فيه، وإمَّا لمكانتِها في نفسِها لأنها تمكَّنَتْ بحيث هي وأُحْرِزَتْ.
قوله: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً﴾ : وما بعدها. ضَمَّنَ «خَلَق» معنى جَعَلَ التصييريةِ فتعَدَّت لاثنين كما تَضَمَّنَ جَعَلَ معنى خَلَق فيتعدَّى لواحدٍ نحوَ: ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١].
قوله: ﴿عِظَاماً﴾ قرأ العامَّةُ «عِظاماً» و «العظام» بالجمع فيهما. وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «عَظْماً» و «العظم» بالإِفراد فيهما. والسُّلمي والأعرج والأعمش بإفرادِ الأول وجَمْعِ الثاني. وأبو رجاء ومجاهد وإبراهيم ابن
322
أبي بكر بجمع الأولِ وإفرادِ الثاني عكسَ ما قبله. فالجمعُ على الأصل لأنه مطابِقٌ لِما يُراد به، والإِفرادُ للجنسِ كقولِه: ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤]. وقال الزمخشري: «وَضَعَ الواحدَ موضع الجمعِ لزوالِ اللَّبْسِ لأنَّ الإِنسانَ ذو عِظامٍ كثيرة». قال الشيخ: «هذا عند سيبويه وأصحابِه لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ وأنشدوا:
٣٤٠٥ - كُلوا في بَعْضِ بطنِكُم تَعِفُّوا .....................
وإن كان مَعْلوماً أنَّ كلَّ واحدٍ له بطنٌ»
. قلت: ومثله:
٣٤٠٦ - لا تُنْكِروا القَتْلَ وقد سُبِيْنا في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شُجينا
يريد: في حُلوقكم. ومثلُه قولُ الآخر:
323
يريد: جلودُها، ومنه ﴿وعلى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا.
قوله: ﴿أَحْسَنَ الخالقين﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدها: أنه بدلٌ مِن الجلالة. الثاني: أنَّه نعتٌ للجلالة وهو أَوْلَى مِمَّا قبلَه؛ لأن البدلَ بالمشتقِ يَقِلُّ. الثالث: أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو أحسنُ. والأصلُ عدمُ الإِضمارِ. وقد مَنَع أبو البقاء أن يكونَ وصفاً قال: «لأنه نكرةٌ وإنْ أُضيف لمعرفةٍ؛ لأنَّ المضافَ إليه عِوضٌ مِنْ» مِنْ «وهكذا جميعُ أَفْعَل منك». قلت: وهذا بناءً منه على أحد القولين في أَفْعَلِ التفضيلِ إذا أُضيف: هل إضافتُه محضةٌ أم لا؟ والصحيحُ الأول.
والخالقين أي: المقدِّرين كقولِ زهير:
٣٤٠٧ - به جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
٣٤٠٨ - ولأنتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي
والمميِّزُ لأَفْعَل محذوفٌ لدلالةِ المضافِ إليه عليه أي: أحسن الخالقين خَلْقاً أي: المقدِّرين تقديراً كقوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ [الحج: ٣٩] أي: في القِتال. حُذِف المأذونُ فيه لدلالةِ الصلةِ عليه.
324
قوله: ﴿بَعْدَ ذلك﴾ : أي: بعدما ذُكِر، ولذلك أُفْرِد اسمُ الإِشارة. وقرأ العامَّةُ «لَمَيِّتُون». وزيد بن علي وابن أبي عبلة وابن
324
محيصن «لَمائِتون» والفرقُ بينهما: أنَّ الميِّتَ يدلُّ على الثبوت والاستقرار، والمائِت على الحدوثِ كضيِّق وضائق، وفرَِح وفارِح. فيُقال لِمَنْ سيموتُ: ميِّت ومائت، ولمن مات: مَيّت فقط دون مائت لاستقرارِ الصفةِ وثبوتِها وسيأتي مثلُه في الزمر إن شاء الله تعالى، فإن قيل: الموتُ لم يَخْتَلِفْ فيه اثنان، وكم مِنْ مخالفِ في البعثِ فلِمَ أَكَّد المُجْمَعَ عليه أبلغَ تأكيدٍ، وتُرك المختلَفُ فيه من تلك المبالغةِ في التأكيد؟ فالجواب: أنَّ البعثَ لمَّا تظاهَرَتْ أدلتُه وتضافَرَتْ أَبْرَزَ في صورةِ المُجْمَعِ عليه المستغني عن ذلك، وأنَّهم لَمَّا لم يعملوا للموتِ ولم يهتموا بأمورِه نُزِّلوا منزلةَ مَنْ يُنكره فأبرزهم في صورةِ المُنْكِرِ الذي استبعدوه كلَّ استبعادٍ.
وكان الشيخُ، سُئِل عن ذلك. فأجاب بأنَّ اللامَ غالباً تُخَلِّص المضارعَ للحال، ولا يمكنُ دخولُها في «تُبْعثون» لأنه مخلِّصٌ للاستقبال لعملِه في الظرف المستقبل. واعترض على نفسِه بقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ [النحل: ١٢٤] فإنَّ اللامَ دَخَلَتْ على المضارع العاملِ في ظرفٍ مستقبلٍ وهو يومُ القيامة. وأجاب بأنه خَرَجَ هذا بقوله «غالباً» أو بأنَّ العاملَ في يوم القيامة مقدرٌ، وفيه نظرٌ لا يَخْفى؛ إذ فيه تهيئةٌ العاملِ للعملِ وقَطْعُه عنه.
و «بعد ذلك» متعلقٌ ب «مَيِّتون» ولا تَمْنَعُ لامُ الابتداءِ من ذلك.
325
قوله: ﴿على ذَهَابٍ بِهِ﴾ :«على ذَهابٍ» متعلقٌ ب «لَقادرون» واللامُ كما تقدَّم غيرُ مانعةٍ من ذلك، و «به» متعلقٌ ب «ذَهاب»
325
وهي مرادِفَةٌ للهمزةِ كهي في ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٠] أي على إذهابه.
326
قوله: ﴿وَشَجَرَةً﴾ : عطفٌ على «جناتٍ». وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سِيناء» بكسر السين. والباقون بفتحها. والأعمش كذلك إلاَّ أنه قَصَرها. فأمَّا القراءةُ الأولى فالهمزةُ فيها ليسَتْ للتأنيثِ؛ إذ ليس في الكلام فِعْلاء بكسر الأول، وهمزتُه للتأنيث، بل للإِلحاقِ ك «سِرْداح» و «قِرْطاس» فهي كِعلْباء فتكونُ الهمزةُ منقلبةً عن ياءٍ أو واوٍ؛ لأن الإِلحاقَ يكون بهما، فلمَّا وقع حرفُ العلةِ متطرفاً بعد ألفٍ زائدة قُلِبَتْ همزةً كرِداء وكِساء، قال الفارسي: «وهي الياءُ التي ظهرَتْ في» دِرْحايَة «. والدِّرْحاية: الرجلُ القصيرُ السمينُ.
وجعل أبو البقاءِ هذه الهمزةَ أصليةً فقال:»
والهمزةُ على هذا أصلٌ مثل «حِمْلاق» وليسَتْ للتأنيثِ إذ ليس في الكلام مثلُ [حِمْراء والياءُ أصلٌ إذ ليس في الكلام «سنأ» ] يعني: مادة سين ونون وهمزة. وهذا مخالِفٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ كونِها بدلاً من زائدٍ ملحقٍ بالأصل. على أن كلامَه محتملٌ للتأويلِ إلى ما تقدَّم، وعلى هذا فَمَنْعُ الصرفِ للتعريف والتأنيث؛ لأنها اسمُ بُقعةٍ بعينها،
326
وقيل: للتعريف والعُجْمة، قال بعضهم: والصحيحُ أن «سِيْناء» اسمٌ أعجمي نَطَقَتْ به العربُ فاختلفَتْ فيه لغاتُها فقالوا: سَيْناء كحَمْراء وصَفْراء، وسِيناء كعِلباء وحِرْباء وسِيْنين كخِنْذِيْذ وزِحليل، والخِنْذِيْذ: الفحلُ والخَصِيُّ أيضاً، فهو مِن الأضداد، وهو أيضاً رأسُ الجبلِ المرتفعُ، والزِّحْلِيلُ: المُتَنَحِّي مِنْ زَحَل إذا تنحى.
وقال الزمخشري: «طُوْرُ سيناء وطور سينين: لا يخلوا: إمَّا أن يُضافَ فيه الطورُ إلى بقعةٍ اسمُها سيناء، وسينون، وإمَّا أَنْ يكونَ اسماً للجبلِ مركباً مِنْ مضافٍ ومضافٍ إليه كامرىء القيس وبعلبك، فيمَنْ أضاف. فَمَنْ كَسَرَ سينَ» سيناء «فقد مَنَعَ الصرفَ للتعريفِ والعجمةِ، أو التأنيثِ، لأنها بقعة وفِعْلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعِلْباء وحِرْباء. قلت: وكونُ ألفِ فِعْلاء بالكسر ليست للتأنيث هو قولُ أهل البصرة، وأمَّا الكوفيون فعندهم أن ألفها تكون للتأنيثِ، فهي عندهم ممنوعةٌ للتأنيثِ اللازم كحمراء وبابها. وكسرُ السين من» سِيْناء «لغةُ كِنانة.
وأمَّا القراءة الثانية فألِفُها للتأنيث، فَمَنْع الصرف واضحٌ. قال أبو البقاء:»
وهمزتُه للتأنيث إذ ليس في الكلامِ فَعْلال بالفتح. وما حكى الفراء مِنْ قولهم: ناقةٌ فيها خَزْعال «لا يَثْبُتُ، وإنْ ثبت فهو شاذٌّ لا يُحمل عليه».
327
وقد وَهِم بعضُهم فجعل «سيناء» مشتقةً من السَّنا وهو الضوءُ، ولا يَصِحُّ ذلك لوجهين أحدُهما: أنه ليس عربيَّ الوَضْعِ. نَصُّوا على ذلك كما/ تقدم، الثاني: أنَّا وإنْ سلَّمنا أنه عربيُّ الوَضْعِ، لكنْ المادتان مختلفتان، فإنَّ عَيْنَ «السنا» نونٌ وعينَ «سيناء» ياء.
كذا قال بعضُهم. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّم أن عينَ «سيناء» ياءٌ، بل هي عينُها نونٌ وياؤُها مزيدةٌ، وهمزتُها منقلبةٌ عن واوٍ كما قُلِبت السَّناء، ووزنها حينئذٍ فِيْعال، وفِيْعال موجودٌ في كلامِهم كمِيْلاع وقِيْتال مصدرُ قاتلَ.
قوله «تنبُتُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو، «تُنْبِتُ» بضمِّ التاءِ وكسرِ الباءِ. والباقون بفتح التاء وضم الباء. فأمَّا الأولى ففيها ثلاثةٌ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ «أنبت» بمعنى نَبَتَ فهو مما اتَّفق فيه فَعَل وأَفْعَل وأنشدوا لزهير:
٣٤٠٩ - رأيتُ ذوي الحاجات عند بيوتهِم قَطِيْناً لها حتى إذا أَنْبَتَ البقلُ
أي: نبت، وأنكره الأصمعي الثاني: أنَّ الهمزةَ للتعديةِ، والمفعولَ محذوفٌ لفهم المعنى أي: تُنْبِتُ ثمرَها أو جَناها. و «بالدهن» أي: ملتبساً بالدهن. الثالث: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كهي في ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] وقولِ الشاعر:
٣٤١٠ -..........................
328
سُوْدُ المَحاجرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وقول الآخر:
٣٤١١ - نَضْربُ بالسَّيْفِ ونرْجُو بالفَرَجْ... وأما القراءةُ الأخرى فواضحةٌ، والباءُ للحال من الفاعل أي: ملتسبةً بالدُّهْن، يعني: وفيها الدهن.
وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تُنْبِتُ» مبنياً للمفعول، مِنْ أنبتها الله. و «بالدهن» حالٌ من القائمِ مقامَ الفاعلِ أي: ملتسبةً بالدهن.
وقرأ زر بن حبيش «تُنْبِتُ الدُّهْنَ» مِنْ أَنْبَتَ، وسقوطُ الباء هنا يَدُلُّ على زيادتها في قراءة مَنْ أثبتها. والأشهب وسليمان بن عبد الملك «بالدِّهان» وهو جمع دُهْن كرُمْح ورِماح. وأمَّا قراءة أُبَي «تُثْمر»، وعبد الله «تَخْرج» فتفسيرٌ لا قراءةٌ لمخالفة السواد.
والدُّهْنُ: عُصارة ما فيه دَسَمٌ. والدَّهْن بالفتح المَسْح بالدُّهن مصدرٌ دَهَن يَدْهُنُ، والمُداهَنَةُ مِنْ ذلك؛ كأنه يَمْسَح على صاحبه ليقِرَّ خاطرُه.
329
قوله: ﴿وَصِبْغٍ﴾ العامَّةُ على الجرِّ نَسَقاً على «بالدُّهْن». والأعمش «وصبغاً» بالنصبِ نَسَقاً على موضع «بالدُّهْن» كقراءةِ «وأَرْجلَكم» في أحدِ محتملاته، وعامر بن عبد الله «وصِباغ» بالألف، وكانت هذه القراءةُ مناسبةً لقراءةِ مَنْ قرأ «بالدِّهان». والصَبْغ والصِّباغ كالدَّبْغ والدِّباغ وهو اسمُ ما يُفْعل به. وللآكلين «صفةٌ.
330
قوله: ﴿نُّسْقِيكُمْ﴾ : قد ذُكر ما في النحل، وقُرِىء «تَسْقيكم» بالتاءِ مِنْ فوقُ أي: أي: الأنعام.
قوله: ﴿مُنزَلاً مُّبَارَكاً﴾ : قرأ أبو بكرٍ فتح الميم وكسر الزاي، والباقون بضمِّ الميم وفتحِ الزاي. والمَنْزِل والمُنْزَل كلٌّ منهما يحتملُ أَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِنزالُ والنُّزُول، وأَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ للنزولِ والإِنزالِ، إلاَّ أنَّ القياسَ «مُنْزَلاً» بالضم والفتح لقوله «أَنْزِلْني»، وأما الفتح والكسر فعلى نيابةِ مصدرٍ الثلاثي مَناب مصدرِ الرباعي كقوله {أَنبَتَكُمْ
330
مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: ١٧]، وقد تقدم نظيرُه في مَدْخَل ومُدْخَل في سورةِ النساء.
و «إنْ» في قوله: ﴿وَإِن كُنَّا﴾ مخففةٌ. واللامُ فارقةٌ. وقيل: «إنْ» نافيةٌ، واللامُ بمعنى «إلاَّ»، وقد تقدَّم ذلك غيرَ مرة.
331
قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ﴾ : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: حَقُّ» أَرْسَلَ «أَنْ يَتَعَدَّى ب» إلى «كأخواتِه التي هي: وَجَّه وأنفذ وبَعَثَ، فما بالُه عُدِّي في القرآن ب إلى تارة وب في أخرى كقوله ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ﴾ [الرعد: ٣٠] ؟ قلت: لم يُعَدَّ ب» في «كما عُدِّي ب» إلى «ولم يجعَلْه صلةً مثلَه، ولكن الأُمَّةَ أو القريةَ جُعِلَتْ مَوْضِعاً للإِرسالِ كقولِ رُؤْبة:
٣٤١٢ - أرسلْتَ فيها مُصْعباً ذا إقحامِ... وقد جاء»
بعث «على ذلك كقولِه تعالى: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً﴾ [الفرقان: ٥١].
قوله: ﴿أَنِ اعبدوا﴾ يجوز أَنْ تكونَ المصدريةَ أي: أَرْسَلْناه بأَنِ اعبدوا أي: بقوله اعبدوا، وأَنْ تكونَ مفسِّرةً.
331
قال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: ذَكَر مقالةَ هود في جوابه في سورةِ الأعراف، وسورة هود، بغير واو: ﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦] ﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ [هود: ٥٣] وههنا مع الواوِ فأيُّ فَرْقٍ بينهما؟ قلت: الذي بغيرِ واوٍ على تقديرِ سؤالِ سائلٍ: قال: فماذا قيل له؟ فقيل له: قالوا: كيتَ وكيتَ. وأمَّا الذي مع الواو فَعَطْفٌ لِما قالوه على ما قاله، ومعناه أنه اجتمع في الحصول: هذا الحقُّ وهذا الباطلُ، وشتان ما بينهما «.
قلت: ولقائلٍ أَنْ يقولَ: هذا جوابٌ بنفس الواقعِ، والسؤالُ باقٍ/؛ إذ يَحْسُنُ أن يُقال: لِمَ لا يُجْعَلْ هنا قولُهم أيضاً جوباً لسؤالِ سائلٍ كما في نظيرتَيْها لو عكس الأمر؟.
332
قوله: ﴿مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ : أي: منه، فَحَذَفَ العائدَ لاستكمالِ شروطِه وهو: اتِّحادُ الحرفِ والمتعلَّقِ، وعدمُ قيامِه مقامَ مرفوع، وعدمُ ضميرٍ آخرَ. هذا إذا جَعَلْناها بمعنى الذي فإنْ جَعَلْتَها مصدراً لم تَحْتج إلى عائدٍ، ويكونُ المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ أي: مِنْ مَشْروبكم. وقال في التحرير: «وزعم الفراء أنَّ معنى» ما تَشْربون «على حذفٍ أي: تشربون منه.
332
وهذا لا يجوز عند البصريين، ولا يَحْتَاج إلى حَذْفٍ البتةَ لأنَّ» ما «إذا كانَتْ مصدريةً لم تحتجْ إلى عائدٍ، فإنْ جعلتَها بمعنى الذي حَذَفْتَ العائدَ، ولم يُحْتَجْ إلى إضمار» مِنْ «. يعني أنَّه يُقَدَّرُ: تَشْربونه من غيرِ حرفِ جرّ، وحينئذٍ تكون شروطُ الحذفِ أيضاً موجودةً، ولكنه تَفُوْتُ المقابلةُ إذ قولُه ﴿تَأْكُلُونَ مِنْهُ﴾ فيه تبعيضٌ، فَلَوْ قَدَّرْتَ هذا: تشربونه مِنْ غير» مِنْ «فاتَتْ المقابلةُ. ثم إنَّ قولَه:» وهو لا يجوز عند البصريين «ممنوع بل هو جائزٌ لوجود شروطِ الحذف.
333
قوله: ﴿إِذَنْ﴾ : قال الزمخشري: «واقعٌ في جزاءِ الشرط وجوابٌ للذين قاولوهم مِنْ قومِهم». قال الشيخ: «وليس» إذن «واقعاً في جزاءِ الشرط بل واقعاً بين» إنَّكم «والخبر، و» إنكم «والخبرُ ليس جزاءً للشرط، بل ذلك جملةٌ جوابِ القَسمِ المحذوفِ قبل» إن «الشرطيةِ. ولو كانت» إنكم «والخبرُ جواباً للشرطِ، لَزِمَتِ الفاءُ في» إنكم «، بل لو كان بالفاءِ في تركيبِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ ذلك التركيبُ جائزاً إلاَّ عند الفراءِ. والبصريون لا يُجيزونه. وهو عندهم خطأٌ».
قلت: يعني أنه إذا توالَى شرطٌ وقسم أُجيب سابقُهما، والقَسَمُ هنا متقدِّمٌ فينبغي أَنْ يُجَابَ ولا يجابَ الشرطُ، ولو أُجيب الشرطُ لاختلَّتْ القاعدةُ إلاَّ عند بعضِ الكوفيين، فإنَّه يُجيب الشرطَ وإنْ تأخَّر. وهو موجودٌ في الشعر.
قوله: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ﴾ : الآيةُ في إعرابها ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ اسم «أنَّ» الأولى مضافٌ لضميرِ الخطاب حُذِفَ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، والخبرُ قولُه: ﴿إِذَا مِتٌّمْ﴾ و ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ تكريرٌ ل «أنَّ» الأولى للتأكيدِ والدلالةِ على المحذوفِ والمعنى: أنَّ إخراجَكم إذا مِتُّمْ وكُنْتُم.
333
الثاني: أنَّ خبرَ «أنَّ» الأولى هو «مُخْرَجُون»، وهو العامل في «إذا»، وكُرِّرَتْ الثانيةُ توكيداً لَمَّا طال الفصلُ. وإليه ذهبَ الجرميُّ والمبردُّ والفراءُ.
الثالث: أنَّ ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ مُؤَولٌ بمصدرٍ مرفوع بفعلٍ محذوفٍ، ذلك الفعلُ المحذوفُ هو جوابُ «إذا» الشرطيةِ، وإذا الشرطيةُ وجوابُها المقدَّرُ خبرٌ ل «أنَّكم» الأولى، تقديرُه: يَحْدُث أنكم مُخْرَجون.
الرابع: كالثالثِ في كونِه مرفوعاً بفعلٍ مقدرٍ، إلاَّ أنَّ هذا الفعلَ المقدَّرَ خبرٌ ل «أنَّ» الأولى، وهو العاملُ في «إذا».
الخامس: أنَّ خبر الأولى محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الثانيةِ عليه، تقديرُه: أنكم تُبْعَثُون، وهو العاملُ في الظرف، وأنَّ الثانية وما في حَيِّزِها بدلٌ من الأولى، وهذا مذهبُ سيبويه.
السادس: أنَّ ﴿أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ مبتدأٌ، وخبرُه الظرفُ مقدَّماً عليه، والجملةُ خبرٌ عن «أنكم» الأولى، والتقديرُ: أيَعِدُكم أنَّكم إخراجُكم كائنٌ أو مستقرٌ وقتَ موتِكم. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في «إذا» «مُخْرَجُون» على كلِّ قولٍ؛ لأنَّ ما في حيِّز «أنَّ» لا يعمل فيما قبلها، ولا يعمل فيها «مِتُّم» لأنه مضافٌ إليه، و «أنَّكم» وما في حَيِّزه في محلِّ نصبٍ أو جرّ بعد حَذْفِ الحرفِ، إذ الأصلُ: أيَعِدُكم بأنَّكم. ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّرَ حرفُ جرّ، فيكونُ في محلِّ نصبٍ فقط نحو: وَعَدْتُ زيداً خيراً.
334
قوله: ﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ﴾ : اسمُ فعلٍ معناه: بَعُدَ، وكُرِّر للتوكيدِ، فليسَتِ المسألةُ من التنازعِ. قال جرير:
٣٤١٣ - فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيقِ نُواصِلُهْ
وفَسَّره الزجَّاجُ في ظاهر عبارتِه بالمصدرِ فقال: «البُعْدُ لِما تُوعدون، أو بَعُدَ لِما توعدون». فظاهرُها أنَّه مصدرٌ بدليلِ عَطْفِ الفعل عليه. ويمكنُ أَنْ يكونَ فَسَّر المعنى فقط. و «هيهاتَ» اسمُ فعلٍ قاصرٍ يرفعُ الفاعلَ، وهنا قد جاء ما ظاهرُه الفاعلُ مجروراً باللامِ: فمنهم مَنْ جعله على ظاهِره وقال: «ما توعدون» فاعلٌ به، وزِيْدت فيه اللامُ. التقديرُ: بَعُدَ بَعُدَ ما تُوْعَدُون. وهو ضعيفٌ إذ لم يُعْهَدْ زيادتُها في الفاعلِ. ومنهم مَنْ جَعَل الفاعلَ مضمراً لدلالةِ الكلامِ عليه، فقَدَّره أبو البقاء: «هيهاتَ التصديقُ أو الصحةُ لِما تُوْعَدون». وقدَّره غيرُه: بَعُدَ إخراجُكم، و «لِما تُوْعدون» للبيانِ. قال/ الزمخشريُّ: «لبيانِ المُسْتَبْعَدِ ما هو بَعْدَ التصويبِ بكلمةِ الاستبعادِ؟ كما جاءَتِ اللامُ في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣] لبيانِ المُهَيَّتِ به». وقال الزجاج: «البُعْدُ لِما تُوعدون» فجعله مبتدأً، والجارُّ بعدَه الخبرُ. قال الزمخشري: «فإنْ قلت: ما تُوعدون هو
335
المستبعَدُ، ومِنْ حَقِّه أَنْ يرتفع ب» هيهاتَ «كما ارتفع بقولِه:
فهيهاتَ هيهاتَ العَقيقُ وأهلُه ..........................
فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاجُ في تفسيرِه:»
البُعْدُ لِما تُوْعَدون، أو بُعْدٌ لِما تُوْعَدون فيمَنْ نَوَّن فَنَزَّلَه مَنْزِلَةَ المصدر «. قال الشيخ:» وقولُ الزمخشري: فَمَنْ نَوَّنَه نَزَّله منزلةَ المصدرِ، ليس بواضحٍ، لأنهم قد نَوَّنوا أسماءَ الأفعال ولا نقول: إنها إذا نُوِّنَتْ تَنَزَّلَتْ منزلةَ المصادر «. قلت: الزمخشريُّ لم يَقُل كذا، إنما قال فيمن نَوَّن نَزَّله منزلةَ المصدرِ لأجلِ قولِه:» أو بُعْدٌ «فالتنوينُ علةٌ لتقديره إياه نكرةً لا لكونِه مُنَزَّلاً منزلةَ المصدرِ؛ فإنَّ أسماءَ الأفعال ما نُوِّن منها نكرةٌ، وما لم يُنَوَّنْ معرفةٌ نحو: صَهْ وصَهٍ، تقديرُ الأول بالسكوت، والثاني بسكوتٍ ما.
وقال ابن عطية:»
طَوْراً تلي الفاعلَ دون لامٍ، تقول: هيهات مجيءُ زيدٍ أي: بَعُدَ، وأحياناً يكون الفاعلُ محذوفاً عند اللام كهذه الآيةِ. التقديرُ: بَعُدَ الوجودُ لِما تُوْعدون «. ولم يَسْتَجْوِزْه الشيخُ ومن حيث قولُه حُذِفَ الفاعلُ، والفاعلُ لا يُحْذَفُ. ومن حيث إن فيه حَذْفَ المصدرِ وهو الوجودُ وإبقاءَ معمولِه وهو» لِما تُوعدون «. وهيهاتَ الثاني تأكيدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً. وقد جاء غيرَ مؤكَّدٍ كقوله:
336
٣٤١٤ - هيهات مَنْزِلُنا بنَعْفِ سُوَيْقَةٍ كانت مباركةً على الأيام
وقال آخر:
٣٤١٥ - هيهاتَ ناسٌ مِنْ أُناسٍ ديارُهُمْ دُقاقٌ ودارُ الآخرين الأوانسُ
وقال رؤبة:
٣٤١٦ - هيهاتَ مِنْ مُنْخَرِقٍ هَيْهاؤه... قال القيسي شارحُ» أبيات الإِيضاح «:» وهذا مِثْلُ قولِك: بَعُدَ بُعْدُه؛ وذلك أنه بنى من هذه اللفظةِ فَعْلالاً، فجاء به مجيءَ القَلْقَال والزَّلْزال.
والألفُ في «هيهات» غيرُ الألفِ في «هيهاؤه»، وهي في «هيهات» لامُ الفعلِ الثانيةُ كقاف الحَقْحَقَة الثانية، وهي في «هيهاؤه» ألف الفَعْلال الزائدة «.
وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ كثيرةٌ تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورَها وما قُرِىء به: فالمشهورُ هَيْهات بفتح التاءِ من غيرِ تنوينٍ، بُني لوقوعِه موقعَ
337
المبنيِّ أو لشِبْهِه بالحرفِ وقد تقدَّم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامَّةُ وهي لغة الحجازيين. و» هَيْهاتاً «بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمروٍ في روايةِ هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و» هَيْهاتٌ «بالضمِّ والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوةَ أيضاً، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السَّمَّال في الأول دونَ الثانية.
و»
هَيْهاتٍ «بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسرِ من غير تنوين، وهي قرءاةُ أبي جعفرٍِ وشَيْبة، وتروى عن عيسى أيضاً، وهي لغة تميم وأسد. وهَيْهاتْ بإسكانِ التاء، وبها قرأ عيسى أيضاً وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. وهَيْهاهْ» بالهاء آخراً وصلاً ووَقْفاً. و «أَيْهاتَ» بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعضُ القرَّاء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسعُ لغاتٍ قد قُرِىء بهن، ولم يتواتَرْ منها غيرُ الأولى.
ويجوز إبدالُ الهمزةِ من الهاء الأولى في جميعِ ما تقدَّم فيَكْمُل بذلك ستَ عشرةَ لغةً. و «إيهان» بالنون آخراً، و «أيهى» بالألفِ آخراً. فَمَنْ فَتَح التاءَ قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومَنْ كسرها فهي عنده جمعٌ تأنيثٍ كزَيْنبات وهنِْدات
338
ويُعْزى هذا لسيبويه لأنه قال: «هي مثل بَيْضات» فنُسِب إليه أنه جَمْعٌ مِنْ ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردُها هَيْهَة مثل بَيْضَة. وليس بشيءٍ بل مفردُها هَيْهات قالوا: وكان ينبغي على أصلِه أن يُقال فيها: هَيْهَيَات بقلب ألف هَيْهات ياءً لزيادتِها على الأربعة نحو: مَلْهَيات ومَغْوَيَات ومَرْمَيات؛ لأنها من بناتِ الأربعة المضعَّفة من الياء من باب حاحَيْت وصِيصِيَة. وأصلُها بوزنِ القَلْقَلة والحَقْحَقَةُ/ فانقلبت الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها فصارَتْ هَيْهاة كالسَّلْقاة والجَعْباة، وإنْ كانت الياءُ التي انقلبَتْ عنها ألفُ «سَلْقاة» و «جَعْباة» زائدةً، وياء هَيْهَيَة أصلاً، فلمَّا جُمِعت كان قِياسُها على قولِهم أَرْطَيات وعَلْقيات أن يقلولوا فيها هَيْهَيَات، إلاَّ أنهم حَذَفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسمٍ مبنيٍّ، كما حَذَفوها في ذان واللتان وتان ليَفْصِلوا بين الألفاتِ في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أُوْلات وذوات لتخالِفَ ياء «حَصَيَات» و «نَوَيات».
وقالوا: مَنْ فتح تاء «هيهات» فحقُّه أَنْ يكتبَها هاء لأنها في مفرد كتمرة
339
ونواة. ومَنْ كسرها فَحَقُّه أَنْ يكتبَها تاءً لأنها في جمعٍ كهندات. وكذلك حكمُ الوقفِ سواءٌ. ولا التفاتَ إلى لغة «كيف الإِخوةُ والأخَواهْ» ولا «هذه ثَمَرَتْ» لقلَّتِها. وقد رُسِمَتْ في المصحفِ بالهاء.
واختلف القراءُ في الوقفِ عليها: فمنهم مَنْ اتَّبع الرسمَ فَوَقَفَ بالهاءِ وهما الكسائيُّ والبزيُّ عن ابن كثير. ومنهم مَنْ وَقَفَ بالتاءِ، وهم الباقونَ. وكان ينبغي أَنْ يكونَ الأكثرُ على الوقفِ بالهاءِ لوجهين، أحدُهما: موافقةُ الرسمِ. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسمٌ مفردٌ أصله هَيْهَيَة كزَلْزَلة وقَلْقَلَة من مضاعفِ الرُّباعي. وقد تقدَّم: أنَّ المفردَ يُوقف على تاء تأنيثِه بالهاء.
وأمَّا التنوينُ فهو على قاعدةِ تنوينِ أسماء الأفعال: دخولُه دالٌّ على التنكيرِ، وخروجُه دالٌّ على التعريف. قال القَيْسِيُّ: «مَنْ نَوَّن اعتقد تنكيرَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ النكرةِ كِأنه قال: بُعْداً بُعْداً. ومَنْ لم ينوِّنْ اعتقد تعريفَها وتَصَوَّر معنى المصدرِ المعرفةِ كأنه قال: البُعْدَ البُعْدَ فجعل التنوينَ دليلَ التنكيرِ وعدمَه دليلَ التعريفِ». انتهى. ولا يُوجد تنوينُ التنكير إلاَّ في نوعين: أسماءِ الأفعال وأسماءِ الأصوات نحو: سيبويهِ وسيبويهٍ، وليس بقياسٍ: بمعنى أنه ليس لك أَنْ تُنَوِّن منها ما شِئْتَ بل ما سُمِع تنوينُه اعَتُقِد تنكيرُه. والذي يُقال في القراءاتِ المتقدمةِ: إنَّ مَنْ نَوَّن جعله للتنكيرِ كما تقدَّمَ، ومَنْ لم يُنَوِّنْ جَعَلَ عدَم التنوينَ للتعريفِ. ومَنْ فَتَحَ فللخِفَّةِ وللإِتْباع، ومَنْ كَسَرَ فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين، ومن ضم فتشبيهاً بقبلُ وبعدُ، ومَنْ سَكَّن فلأنَّ أصلَ البناءِ السكونُ، ومَنْ وقف بالهاءِ فإتْباعاً للرسم، ومن وقف بالتاءِ فعلى الأصلِ سواءً كُسِرت
340
التاءُ أو فُتحت؛ لأنَّ الظاهرَ أنهما سواءٌ، وإنما ذلك مِنْ تغييرِ اللغاتِ، وإن كان المنقولُ مِنْ مذهب سيبويه ما تقدَّم. هكذا ينبغي أن تُعَلَّل القراءاتُ المتقدمةُ.
وقال ابنُ عطية فيمَنْ ضَمَّ ونَوَّن: «إنه اسمٌ معربٌ مستقلٌ مرفوعٌ بالابتداءِ، وخبرُه» لِما تُوْعَدون «أي: البعدُ لوعدكم كما تقول: النُّجح لسَعْيك». وقال الرازي في «اللوامح» :«فأمَّا مَنْ رَفع ونَوَّنَ احتمل أَنْ يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء]، خبرُهما من حروف الجر بمعنى: البُعْدُ لِما تُوعدون. والتكرارُ للتأكيد. ويجوز أَنْ يكونا اسماً للفعل. والضمُّ للبناء مثل: حَوْبُ في زَجْرِ الإِبل، لكنه نَوَّنه نكرةً». قلت: وكان ينبغي لابنِ عطيةَ ولأبي الفضل أن يَجْعلاه اسماً أيضاً في حالةِ النصبِ مع التنوين، على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الفعلِ.
قرأ ابنُ أبي عبلةَ «هَيْهات هَيْهات ما تُوْعدون» من غير لامِ جرٍّ. وهي واضحةٌ مؤيِّدَةٌ لمدَّعي زيادتِها في قراءةِ العامَّة.
و «ما» في «لِما تُوْعدون» تحتمل المصدريةَ أي: لِوَعْدِكم، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي، / والعائدُ محذوفٌ أي: تُوْعَدُوْنَه.
341
قوله: ﴿إِنْ هِيَ﴾ :«هي» ضميرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ أي: إنْ حياتُكم إلاََّ حياتُنا. قال الزمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُرادُ به إلاَّ بما يَتْلوه مِنْ بيانِه. وأصلُه: إنِ الحياةُ إلاَّ حياتُنا الدنيا، فوَضَعَ» هي «مَوْضِعَ» حياتُنا «لأنَّ الخبرَ يَدُلُّ عليها ويُبَيِّنها. ومنه» هي النفس تتحمَّل ما حَمَلت «و» هي العربُ تقولُ ما شاءَتْ «. وقد جَعَلَ بعضُهم هذا القِسْمَ ممَّا يُفَسَّر بما بعدَه لفظاً ورتبةً ونسبه إلى الزمخشريِّ متعلقاً بهذا الكلام الذي نقلتُه عنه، لا تَعَلُّقَ له في ذلك.
قوله: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعَوْه مِنْ أَنْ حياتَهم ما هي إلاَّ كذا. وزعم بعضُهم أنَّ فيها دليلاً على عدمِ الترتيبِ في الواو، إذ المعنى: نحيا ونموتُ إذ هو الواقعُ. ولا دليلَ فيها؛ لأنَّ الظاهرَ مِنْ معناها: يموت البعض مِنَّا، ويَحْيا آخرون، وهَلُمَّ جرَّا. يُشيرون إلى انقراضِ العصرِ وخَلْفِ غيرِه مكانَه. وقيل: نموت نحن ويَحْيا أبناؤنا. وقيل: القومُ يعتقدونَ الرَّجْعَةَ أي: نموت ثم نَحْيا بعد ذلك الموتِ.
قوله: ﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ : في «ما» هذه وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ بينَ الجارِّ ومجرورِه للتوكيدِ كما زِيْدَتْ في الباءِ نحو: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. وفي «مِنْ» نحو ﴿مِّمَّا خطيائاتهم﴾ [نوح: ٢٥]. و «قليلٍ» صفةٌ لزمنٍ محذوفٍ أي عَنْ زمنٍ قليل.
والثاني: أنها غيرُ زائدةٍ بل هي نكرةٌ بمعنى شيء أو زمن. و «قليل» صفتُها أو بدلٌ منها. وهذا الجارُّ فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أحدُها: أنَّه متعلقٌ بقولِه: {
342
لَّيُصْبِحُنَّ} أي لَيُصْبِحُن عن زمنٍ قليل نادمين. والثاني: أنه متعلقٌ ب «نادمين». وهذَا على أحدِ الأقوالِ في لام القسم، وذلك أنَّ فيها ثلاثةَ أقوال: جوازَ تقديمِ معمولِ ما بعدها عليها مطلقاً. وهو قول الفراء وأبي عبيدة. والثاني: المَنْعُ مطلقاً وهو قولُ جمهورِ البصريين. والثالث: التفصيلُ بين الظرفِ وعديلِه، وبين غيِرهما، فيجوزُ فيهما الاتساعُ، ويمتنعُ في غيرِهما، فلا يجوز في: «والله لأضربنَّ زيداً» :«زيداً لأضرِبَنَّ» لأنه غيرُ ظرفٍ ولا عديلِه.
والثالث من الأوجه المتقدمة: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: عَمَّا قليلٍ نُنْصَرُ حُذِف لدلالةِ ما قبلَه عليه. وهو قولُه «رَبِّ انْصُرْني».
وقرىء «لَتُصْبِحُنَّ» بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ، أو على أن القولَ صدرَ من الرسولِ لقومِه بذلك.
343
قوله: ﴿غُثَآءً﴾ : مفعولٌ ثانٍ للجَعْل بمعنى التصيير. والغُثاء: قيل هو الجُفاء وقد تقدَّم في الرعد. قاله الأخفش. وقال الزجاج: «هو البالي مِنْ ورق الشجر، إذا جرى السيلُ خالَطَ زَبَدَه». وقيل: كل ما يُلْقيه السَّيْلُ والقِدْرُ مِمَّا لا يُنْتَفَعُ به، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في ذلك. ولامُه واوٌ لأنه مِنْ غثا الوادي يَغْثُو غَثْوَاً وكذلك غَثَت القِدْرُ. وأمَّا غَثِيَتْ نفسُه تَغْثِي
343
غَثَياناً أي: خَبُثَتْ فهو قريبٌ مِنْ معناه، ولكنه مِنْ مادة الياء. وتُشَدَّدُ ثاء «الغُثَّاء» وتُخَفَّفُ وقد جُمع على «أَغْثاء» وهو شاذُّ، بل كان قياسُه أن يُجْمَعَ على أَغْثِيَة كأَغْرِبة، أو على غِثْيان كغِرْبان وغِلْمان. وأنشدوا لامرىء القيس:
٣٤١٧ -..................... من السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مُغْزَلِ
بتشديد الثاء وتخفيفها والجمع أي: والأَغْثاء.
قوله: ﴿فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ﴾ : بُعْداً: مصدرٌ بَدَلٌ من اللفظِ بفعلِه، فناصبُه واجبُ الإِضمارِ لأنَّه بمعنى الدعاءِ عليهم. والأصلُ: بَعُدَ بُعْدَاً وبَعَداً نحو: رَشَدَ رُشْداً ورَشَداً. وفي هذه اللامِ قولان أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ للبيانِ كهي في سَقْياً له وجَدْعاً له. قاله الزمخشري. الثاني: أنها متعلقةٌ ب بُعْداً. قاله الحوفي. وهذا مردودٌ؛/ لأنه لا يُحْفَظُ حَذْفُ هذه اللامِ ووصولُ المصدرِ إلى مجرورِها البتةَ، ولذلك منعوا الاشتغالَ في قولِه ﴿والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ [محمد: ٨] لأنَّ اللام لا تتعلَّقُ ب «تَعْساً» بل بمحذوفٍ، وإن كان الزمخشريُّ جَوَّزَ ذلك، وسيأتي في موضِعه إنْ شاءَ الله تعالى.
344
قوله: ﴿تَتْرَى﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ «رُسُلَنا» بمعنى متواتِرين أي: واحداً بعد
344
واحدٍ، أو مُتتابعين على حَسَبِ الخلافِ في معناه كما سيأتي. وحقيقتُه أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ. والثاني: أنه نعتٌ مصدرٍ محذوف تقديرُه: إرسالاً تَتْرى أي: متتابعين أو إرسالاً إثرَ إرْسال.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهي قراءةُ الشافعيِّ «تَتْرَىً» بالتنوين. وباقي السبعةِ «تترى» بألفٍ صريحةٍ دونَ تنوينٍ. وهذه هي اللغةُ المشهورةُ، فَمَنْ نَوَّن فله وجهان، أحدُهما: أنَّ وَزْنَ الكلمةِ فَعْل كفَلْس، فقوله: «تَتْرَىً» كقولك: نَصَرْتُه نَصْراً. وَوَزْنُه في قراءتِهم فَعْلاً. وقد رُدَّ هذا الوجهُ بأنَّه لم يُحْفَظْ جَرَيانُ حركاتِ الإِعرابِ على رائِه، فيُقال: هذا تَتْرٌ ومررت بتَتْرٍ نحو: هذا نَصْرٌ، ورأيت نصراً، ومررتُ بنصرٍ. فإذا لم يُحْفَظْ ذلك بَطَلَ أَنْ يكونَ وزنُه فَعْلاً. الثاني: أن ألفَه للإِلحاقِ ب جَعْفر كهي في أَرْطى وعَلْقى فلمَّا نُوِّن ذَهَبَتْ لالتقاءِ الساكنين. وهذا أقربُ مِمَّا قبلَه، ولكنه يلزمُ منه وجودُ ألفِ الإِلحاقِ في المصادرِ وهو نادرٌ، الثالث: أنها للتأنيثِ كدعوى. وهي واضحةً فتحصَّلَ في ألفِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ من التنوينِ في الوقفِ. الثاني: أنها للإِلحاق. الثالث للتأنيث. واخْتُلف فيها: هل هي مصدرٌ كدعوى وذكرى، أو اسمُ جمعٍ كأسرى وشتى، كذا قالهما الشيخ. وفيه نظرٌ، إذ المشهورُ أنَّ أسرى وشَتَّى جمعا تكسيرٍ لا اسما جمعٍ. وفاؤُها في الأصلِ واوٌ؛ لأنَّها من المُواترة والوِتْر، فقُلِبَتْ تاءً كما قُلِبَتْ تاءً في تَوْارة وتَوْلج
345
وتَيْقُور وتُخَمَة وتُراث وتُجاه، فإنها من الوَرْي والوُلوج والوَقار والوَخامة والوِراثة والوَجْه.
واختلفوا في مَدْلُولِها: فعن الأصمعيِّ: واحداً بعد واحد، وبينهما مُهْلَة. وقال غيره: هي من المُواترة وهي التتابُعُ بغير مُهْلة. وقال الراغب: «والتواتُرُ: تتابُعُ الشيءِ وِتْراً وفرادى. قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ والوَتِيْرَة: السَّجِيَّةُ والطريقة. يقال: هم على وَتيرةٍ واحدةٍ. والتِرَةُ: الذَّحْلُ. والوَتيرة: الحاجزُ بين المَنْخِرَيْن.
قوله: ﴿أَحَادِيثَ﴾ قيل: هو جمعُ»
حديث «ولكنه شاذٌّ. وقيل: بل هو جمعُ أُحْدُوْثَة كأُضْحُوكة. وقال الأخفش:» لا يُقال ذلك إلاَّ في الشَّرِّ. ولا يُقال في الخير. وقد شَذَّتِ العربُ في أُلَيْفاظ فجمعوها على صيغة مَفاعيل كأَباطيل وأَقاطيع «. وقال الزمخشري:» الأحاديث تكونَ اسمَ جمعٍ للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم «. قال الشيخ:» وأَفاعيل ليس من
346
أبنيةِ اسمِ الجمع، وإنما ذكرَه أصحابُنا فيما شَذَّ من الجموعِ كقَطيع وأقاطيع، وإذا كان عَباديد قد حكموا عليه بأنه جمعُ تكسيرٍ مع أنهم لم يَلْفِظوا له بواحدٍ فأحرى «أحاديث» وقد لُفِظ له بواحدٍ وهو «حديث» فاتضح أنه جمُع تكسيرٍ لا اسمُ جمعٍ لما ذكَرْنا «.
347
قوله: ﴿هَارُونَ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً، وأَنْ يكونَ بياناً، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار «أَعْني».
قوله: ﴿لِبَشَرَيْنِ﴾ :«بَشَر» يقع على الواحدِ والمثنى والمجموع والمذكرِ والمؤنثِ. قال تعالى: ﴿مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ﴾ وقد يُطابق. ومنه هذه الآيةُ. وأما إفراد «مِثْلِنا» فلأنَّه يَجْري مَجْرى المصادرِ في الإِفراد والتذكير، ولا يُؤَنَّثُ أصلاً، وقد يطابقُ ما هو له تثنيةً كقوله: ﴿مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين﴾ [آل عمران: ١٣] وجمعاً كقولِه: ﴿ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم﴾ [محمد: ٣٨]. وقيل: أُريد المماثلةُ في البشرية لا الكميَّة. وقيل: اكتُفي بالواحدِ عن الاثنين.
قوله: ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ.
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب﴾ : قيل: أراد قومَ موسى فَحُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه؛ ولذلك أعاد الضميرَ مِنْ قولِه «لعلَّهم» عليهم. وفيه/ نظرٌ؛ إذ يجوز عَوْدُ الضميرِ على القومِ مِنْ غيرِ تقديرِ إضافتِهم إلى موسى، وتكونُ هِدايتُهم مُتَرَتِّبةً على إيتاء التوراةِ لموسى.
قوله: ﴿وَمَعِينٍ﴾ : صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: وماءٍ مَعِيْنٍ. وفيه أحدهما: أنَّ ميمَه زائدةٌ، وأصله مَعْيُوْن أي: مُبْصَرٌ بالعينِ، فأُعِلَّ إعْلالَ «مبيع» وبابه، وهو مثلُ قولِهم «كَبَدْتُه» أي ضربْتُ كَبِدَه، ورَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه، وعِنْته أي: أدركتُه بعيني. ولذلك أدخلَه الخليلُ في مادة ع ي ن. والثاني: أن الميمَ أصليةٌ، ووزنُه فَعيل مشتقٌّ من المَعْن. واختُلِف في المَعْن فقيل: هو الشيءُ القليلُ ومنه الماعُون. وقيل: هو مِنْ مَعَنَ الشيءُ مَعانَةً أي كَثُر. قال جرير:
٣٤١٨ - إنَّ الذين غَدَوْا بِلُبِّك غادَروا وَشَلاً بعينِك لا يَزال مَعيناً
وقال الراغب: «وهو مِنْ مَعَن الماءُ: جرى» وسمى مجاري الماءِ مُعْنان. «وأمعنَ الفرس: تباعَدَ في عَدْوِه، وأَمْعَنَ بحقي ذهبَ به، وفلان مَعَنٌ في حاجته». يعني سريعاً. قلت: كلُّه راجعٌ إلى معنى الجَرْيِ والسُّرْعة.
قوله: ﴿واعملوا صَالِحاً﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «صالحاً» نعتاً لمصدرٍ محذوف ِأي: واعملوا عَمَلاً صالحاً من غير نظرٍ إلى ما يَعْملونه كقولهم: تُعْطي وتمْنع. ويجوز أن يكونَ مفعولاً به وهو واقعٌ على نفسِ المعمولِ.
قوله: ﴿وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ﴾ : قرأ ابن عامر وحده «وأنْ» هذه بفتحِ الهمزةِ وتخفيفِ النون. والكوفيون بكسرها والتثقيل، والباقون بفتحها والتثقيل. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ فهي المخففةُ من الثقيلة. وسيأتي توجيِهُ الفتح في الثقيلة فيتضحُ معنى قراءتِه. وأمَّا قراءةُ الكوفيين فعلى الاستئنافِ.
وأمَّا قراءة الباقين ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها على حذف اللام أي: ولأَِنَّ هذه، فلمَّا حُذِف الحرفُ جرى الخلافُ المشهورُ. وهذه اللامُ تتعلَّقُ ب «اتَّقون». والكلامُ في الفاءِ كالكلامِ في قوله: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]. والثاني: أنها منسوقَةٌ على «بما تَعْملون» أي: إنيِّ عليمٌ بما تَعْملون وبأنَّ هذه. فهذه داخلةٌ في حَيِّز المعلومِ. والثالث: أنَّ في الكلام حَذْفاً تقديره: واعلموا أنَّ هذه أمَّتُكم.
وقد تقدَّم ﴿فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً﴾ وما قيل فيهما، وما قُرِىء به فأغنى عن إعادِته.
قولهم: ﴿فِي غَمْرَتِهِمْ﴾ مفعولٌ ثانٍ ل «ذَرْهم» أي: اتْرُكهم مُسْتَقِرِّين في غَمْرَتهم. ويجوز أّنْ يكونَ ظرفاً للتَّرْكِ. والمفعول الثاني محذوفٌ. والغَمْرَةُ في الأصلِ: الماءُ الذي يَغْمُرُ القامةِ، والغَمْرُ: الماءُ الذي
349
يَغْمُر الأرضَ، ثم استُعير ذلك للجَهالةِ، فقيل: فلانٌ في غَمْرَة، والمادة تدلُ على الغِطاء والاستتارِ، ومِنه الغُمْرُ بالضم لمَنْ لم يُجَرِّبِ الأمورَ، وغُِمارُ الناسِ وخُمَارُهم: زِحامهم. والغِمْر بالكسر الحقد؛ لأنه يُغَطي القلب. والغَمَرات: الشدائدُ. والغامِرُ: الذي يُلْقي نفسَه في المهالِك. وقال الزمخشري: «والغَمْرَةُ: الماءُ الذي يَغْمُر القامةَ، فضُرِبَتْ لهم مَثَلاً لِما هم [مَغْمورون] فيه مِنْ جَهْلهم وعَمايتهم. أو شُبِّهوا باللاعبين في غَمْرَةِ الماءِ؛ لِما هم عليه من الباطلِ كقوله:
٣٤١٩ -.................... كأنني ضاربٌ في غَمْرَةٍ لَعِبُ
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو حيوة وأبو عبد الرحمن»
غَمَراتهم «بالجمع؛ لأنَّ لكلٍّ منهم غَمْرَةً تَخُصُّه. وقراءةُ العامَّةِ لا تأبى هذا المعنى فإنه اسمُ جنسٍ مضافٌ.
350
قوله: ﴿أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ﴾ : في «ما» هذه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى الذي وهي اسمُ «أنْ» و «نُمِدُّهم» صلتُها وعائدُها. «
350
ومن مال» حالٌ من الموصولِ، أو بيانٌ له، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ. و «نُسارعُ» خبرُ «أنَّ» والعائدُ من هذه الجملةِ إلى اسم «أنَّ» محذوفٌ تقديرُه: نُسارِعُ لهم به، أو فيه، إلاَّ أنَّ حَذْفَ مثلِه قليلٌ. وقيل: الرابطُ بين هذه الجملةِ باسم «أنَّ» هو الظاهرُ الذي قامَ مقامَ الضميرِ مِنْ قولِه «في الخيرات»، إذ الأصل: نُسارِعُ لهم فيه، فأوقع «الخيرات» موقعَه تعظيماً وتنبيهاً على كونِه من الخيرات. وهذا يتمشى على مذهبِ الأخفشِ؛ إذ يَرَى الرَّبْطَ بالأسماءِ الظاهرةِ، وإن. لم يكنْ بلفظِ الأولِ، فيُجيز «زيد الذي قام أبو عبد الله» إذا كان «أبو عبد الله» كنيةَ «زيد». وتقدَّمَتْ منه أمثلةُ. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ» مِنْ مالٍ «لأنه كان» مِنْ مال «، فلا يُعاب عليهم [ذلك، وإنما يعابُ عليهم] اعتقادُهم أنَّ تلك الأموالَ خيرٌ لهم».
الثاني: أن تكونَ «ما» مصدريةً فينسَبِكُ منه ومِمَّا بعدَها مصدرٌ هو اسم «أنَّ» و «نُسارع» هو الخبرُ. وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ «أنْ» المصدريةِ قبل «نُسارع» ليصِحَّ الإِخبارُ، تقديرُه: أَنْ نسارعَ. فلمَّا حُذِفَتْ «أنْ» ارتفعَ المضارعُ بعدَها. والتقديرُ: أَيَحْسَبون أنَّ إِمْدادَنا لهم من كذا مسارعةٌ منَّا لهم في الخيرات. والثالث: أنها مُهَيِّئَة كافَّةٌ. وبه قال الكسائي في هذه/ الآية وحينئذٍ يُوقف على «وَبَنِين» لأنه قد حَصَل بعد فِعْلِ الحُسْبانِ نسبةٌ مِنْ مسندٍ ومسندٍ إليه نحو: حَسِبْتُ أنَّما ينطلق عمروٌ، وأنما تقومُ أنت.
وقرأ يحيى بنُ وَثَّاب «إنما» بكسرِ الهمزة على الاستئنافِ، ويكونُ
351
حَذْفُ مفعولَي الحُسْبان اقتصاراً أو اختصاراً. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ «يُمِدُّهم» بالياءِ، وهو اللهُ تعالى. وقياسُه أَنْ يقرأ «يُسارع» بالياء أيضاً. وقرأ السلمي وابن أبي بكرةَ «يُسارع» بالياءِ وكسرِ الراء. وفي فاعِله وجهان، أحدُهما: الباري تعالى الثاني: ضميرُ «ما» الموصولة إنْ جَعَلْناها بمعنى الذي، أو على المصدرِ إنْ جَعَلْناها مصدريةً. وحينئذٍ يكون «يسارِعُ لهم» الخبرَ. فعلى الأولِ يُحتاجُ إلى تقديرِ عائدٍ أي: يُسارع اللهُ لهم به أو فيه. وعلى الثاني لا يُحْتاج إذ الفاعلُ ضميرُ «ما» الموصولةِ.
وعن أبي بكرة المتقدمِ أيضاً «يُسارَع» بالياء مبنياً للمفعول و «في الخيرات» هو القائمُ مَقامَ الفاعل. والجملةُ خبرُ «أنَّ» والعائدُ محذوفٌ على ما تقدَّم وقرأ الحسن «نُسْرع» بالنون مِنْ «أَسْرَعَ» وهي ك «نُسارع فيما تقدَّم.
و ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ إضرابٌ عن الحُسْبانِ المُسْتفهمِ عنه استفهامَ تقْريعٍ، وهو إضرابُ انتقالٍ.
352
قوله: ﴿مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنها لبيانِ الجنسِ. قال ابن عطية: «هي لبيانِ جنسِ الإِشفاق». قلت: وهي عبارةٌ قلقة. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «مُشْفِقُون» قاله الحوفي، وهو واضح.
قوله: ﴿يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ﴾ : العامَّةُ على أنَّه من الإِتياء أي: يُعْطون ما أَعْطَوا. وقرأت عائشة وابن عباس والحسن والأعمش «يَأْتُون
352
ما أَتَواْ» من الإِتيان أي: يفعلون ما فَعَلوا من الطاعاتِ. واقتصر أبو البقاء في ذكر الخلاف على «أتَوْا» بالقصرِ فقط. وليس بجيدٍ لأنه يُوهم أنَّ مَنْ قرأ «أَتَوْا» بالقَصْرِ قرأ «يُؤْتُون» من الرباعي. وليس كذلك.
قوله: ﴿وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل «يُؤْتُوْن»، فالواوُ للحال.
قوله «أنَّهم» يجوزُ أن يكونَ التقديرُ: وَجِلةُ مِنْ أنَّهم، أي: خائفةٌ مِنْ رجوعِهم إلى ربهم. ويجوزُ أن يكون «لأنَّهم» أي: سَبَبُ الوجَلِ الرجوعُ إلى ربهم.
353
قوله: ﴿أولئك يُسَارِعُونَ﴾ : هذه الجملةُ خبرُ «إنَّ الذين». وقرأ الأعمش «إنهم» بالكسرِ على الاستئنافِ فالوقفُ على «وَجِلة» تامٌّ أو كافٍ. وقرأ الحُرُّ «يُسْرِعُون» منْ أَسْرع. قال الزجاج: «يُسارِعُون أَبْلَغُ» يعني من حيث إنَّ المفاعَلة تَدُلُّ على قوةِ الفعلِ لأجلِ المغالبةِ.
قوله: ﴿وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ في الضمير في «لها» أوجهٌ، أظهرها: أنَّه يعودُ على «الخيرات» لتقدُّمِها في اللفظ. وقيل: يعودُ على الجنة. وقيل: على
353
السعادة. وقيل: على الأمم. والظاهرُ أنَّ «سابقون» هو الخبرُ. و «لها» متعلقٌ به قُدِّمَ للفاصلةِ وللاختصاصِ. واللامُ قيل: بمعنى إلى. يقال: سَبَقْتُ له وإليه بمعنىً. ومفعولُ «سابقون» محذوفٌ تقديرُه: سابقون الناسَ إليها. وقيل: اللامُ للتعليل أي: سابِقُون الناسَ لأجلِها. وتكونُ هذه الجملةُ مؤكدةً للجملةِ قبلها، وهي «يُسارِعُون في الخيرات» ولأنها تفيدُ معنىً آخرَ وهو الثبوتُ والاستقرارُ بعدما دَلَّتِ الأولى على التجدد.
وقال الزمخشري: «أي فاعلون السَّبْقِ لأجلها أو سابقونَ الناسَ لأجلها». قال الشيخ: «وهذان القولان عندي واحدٌ». قلت: ليسا بواحدٍ إذ مرادُه بالتقدير الأول أَنْ لا يُقَدَّرَ للسَّبْقِ مفعولٌ البتةَ، وإنما الغرضُ الإِعلامُ بوقوعِ السَّبْقِ منهم غيرِ نَظَرٍ إلى مَنْ سَبقوه كقولِه: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: ٢٥٨] ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ١٨٧] «يعطي ويمنع» وغرضُه في الثاني تقديرُ مفعولٍ حُذِف للدلالةِ، واللام للعلة في التقديرين.
وقال الزمخشري أيضاً: «أو إياها سابقون أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عُجِّلت لهم في الدنيا». قلت: يعني أنَّ «لها» هو المفعولُ ب «سابقون» وتكون اللامُ قد زِيْدَتْ في المفعولِ. وحَسَّن زيادتَها شيئان، / كلٌّ منهما لو انفرد لاقتضى الجوازَ: كونُ العاملِ فرعاً، وكونُه مقدَّماً عليه معمولُه. قال الشيخ: «ولا يَدُل لفظُ» لها سابِقُون «على هذا التفسيرِ لأنَّ سَبْقَ الشيءِ
354
الشيءَ يدلُّ على تقدُّمِ السابقِ على المسبوقِ فكيفَ يقول: وهم يَسْبقون الخيراتِ؟ وهذا لا يَصِحُّ». قلت: ولا أَدْري: عدمُ الصحةِ من أيِّ جهةٍ؟ وكأنه تخيَّل أنَّ السابِقَ يتقدَّم على المسبوق فكيف يتلاقيان؟ لكنه كان ينبغي أن يقولَ: فكيف يقول: وهم ينالون الخيرات وهم لا يُجامِعُونها لتقدُّمهم عليها؟ إلاَّ أنْ يكونَ قد سبقه القلمُ فكَتَبَ بدل «وهم يَنالون» :«وهم يَسْبِقون»، وعلى كلِّ تقديرٍ فأين عَدَمُ الصِّحة؟.
وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوز أَنْ يكونَ» وهم لها سابقون «خبراً بعد خبرٍ، ومعنى» وهم لها «كمعنى قوله:
٣٤٢٠ - أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ... يعني أنَّ هذا الوصفَ الذي وَصَفَ به الصالحين غيرُ خارجٍ من حَدِّ الوُسْعِ والطاقةِ»
. فتحصَّل في اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أحدُها: أنَّها بمعنى «إلى». الثاني: أنها للتعليلِ على بابِها. الثالث: أنَّها مزيدةٌ. وفي خبرِ المبتدأ قولان، أحدُهما: أنه «سابِقون» وهو الظاهرُ. والثاني: أنه الجارُّ كقولِه:
أنت لها أحمدُ مِنْ بينِ البَشَرْ...
355
وقد رجَّحه الطبريُّ، وهو مرويٌّ عن ابنِ عباس.
356
قوله: ﴿يَنطِقُ﴾ : صفةُ ل «كِتاب». و «بالحق» يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب «يَنْطِقُ»، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، حالاً من فاعلِه أي: يَنْطِق مُلْتسباً بالحق.
قوله: ﴿هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾ : كقولِه ﴿هُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
قوله: ﴿حتى إِذَآ﴾ :«حتى» هذه: إمَّا حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدَها غايةٌ لِما قبلها، و «إذا» الثانيةُ فجائيةُ هي جوابُ الشرطيةِ، وإمَّا حرفُ جَرٍّ عندَ بعضِهم. وقد تقدَّم تحقيقُه غيرَ مرةٍ. وقال الحوفيُّ: «حتى غايةُ، وهي عاطفةٌ،» إذا «ظرفٌ مضافٌ لِما بعده، فيه معنى الشرطِ،» إذا «الثانية في موضعِ جواب الأولى، ومعنى الكلامِ عاملٌ في» إذا «والمعنى جَاَْرُوا. والعاملُ في الثانيةِ» أَخَذْنا «. وهو كلامٌ لا يَظْهر.
وقال ابن عطية: و»
حتى «حرفُ ابتداءٍ لا غيرُ. و» إذا «والثانيةٌ التي هو جوابٌ تمنعان مِنْ أَنْ تكونَ» حتى «غايةً ل» عامِلُون «. قلت: يعني أن الجملةَ الشرطيةَ وجوابَها لا يَظْهر أَنْ تكونَ غايةً ل» عامِلون «. وظاهرُ كلامِ
356
مكي أنها غايةٌ ل» عامِلون «فإنَّه قال:» أي لكفارِ قريش أعمالُ من الشرِّ دونَ أعمالِ أهلِ البرِ لها عاملون، إلى أن يأخذَ اللهُ أهلَ النِّعْمةِ والبَطَرِ منهم إذا هم يَضِجُّون «. انتهى.
والجُؤَار: الصُّراخُ مطلقاً. وأنشد الجوهري:
٣٤٢١ - يُراوِحُ مِنْ صَلَواتِ المَلِيْ كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤارا
وقد تقدَّم هذه مستوفىً في النحل.
357
قوله: ﴿على أَعْقَابِكُمْ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تَنْكِصُون». كقوله ﴿نَكَصَ على عَقِبَيْهِ﴾ [الأنفال: ٤٨] ؟ والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال مِنْ فاعلِ «تَنْكِصُون» قاله أبو البقاء ولا حاجةَ إليه. وقرأ أميرُ المؤمنين «تَنْكُصُون» بضم العين. وهي لغةٌ.
قوله: ﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «تَنْكِصُون». قوله: «به» فيه قولان، أحدُهما: أنَّه يتعلقُ ب «مُسْتكْبرين». والثاني أنه متعلقٌ ب «سامِراً». وعلى الأولِ فالضميرُ للقرآن أو للبيتِ شَرَّفه اللهُ تعالى، أو للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو للنُكوصِ المدلولِ عليه ب «تَنْكِصون»،
357
كقوله: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]. والباءُ في هذا كلِّه للسببية؛ لأنه استكبروا بسببِ القرآنِ لَمَّا تُلِيَ عليهم، وبسببِ البيتِ لأنَّهم يقولون: نحن وُلاتُه وبالرسولِ لأنهم يقولون: هو مِنَّا دونَ غيرِه، أو بالنُّكوصِ لأنه سببُ الاستكبارِ. وقيل: ضَمَّنَ الاستكبارَ معنى التكذيبِ؛ فلذلك عُدِّيَ بالباءِ، وهذا يَتَأَتَّى على أن يكونَ الضميرُ للقرآنِ أو للرسولِ.
وأمَّا على الثاني وهو تَعَلُّقُه ب «سامِراً» فيجوزُ أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عادَ عليه فيما تقدَّم، إلاَّ النكوصَ لأنهم كانوا يَسْمُرُون بالقرآن وبالرسول أي: يجعلونَهما حديثاً لهم يَخُوضون في ذلك كما يُسْمَرُ بالأحاديث، وكانوا يَسْمُرُون في البيتِ، فالباء ظرفيةٌ على هذا، و «سامِراً» / نصبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «تَنْكِصُون»، وإمَّا مِنَ الضمير في «مُسْتَكْبرين».
وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عباس وأبو حيوة وتروى عن أبي عمرٍو «سُمَّراً» بضمِّ الفاءِ وفتحِ العين مشددةً. وزيد بن علي وأبو رجاء وابن عباس أيضاً «سُمَّاراً» كذلك، إلاَّ أنَّه بزيادةِ ألفٍ بين الميمِ والراء، وكلاهما جمعٌ ل «سامِِر». وهما جمعان مَقيسان ل «فاعِل» الصفةِ نحو: ضُرَّب وضُرَّاب في ضارِب. والأفصحُ الإِفرادُ؛ لأنه يقعُ على ما فوق الواحِد بلفظ الإِفرادِ تقول: قومٌ سامِرٌ. والسَّامِرُ مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو سَهَرُ الليلِ، مأخوذٌ من السَّمَرِ وهو ما يقعُ على الشجر من ضوءِ القمر، فيجلِسُون إليه يتحدثون مُسْتَأْنِسين به. قال الشاعر:
358
٣٤٢٢ - كأَن لم يكُنْ بين الحَجونِ إلى الصَّفا أنيسٌ ولم يَسْمُرْ بمكةَ سامِرُ
وقال الراغب: «السَّامِرُ: الليلُ المظلم، ولا آتِيْكَ ما سَمَر ابنا سَمِيرٍ، يَعْنُون الليل والنهار. والسُّمْرة: أحدُ الألوان، والسَّمْراء: كُني بها عن الحِنْطة».
قوله: ﴿تَهْجُرُونَ﴾ قرأ العامَّةُ بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ، وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أنَّها مِن الهَجْرِ بسكونِ الجيمِ، وهو القطع والصَّدُ، أي: تهجُرُون آياتِ الله ورسولَه وتَزْهَدون فيهما، فلا تَصِلُونهما. الثاني: أنها من الهَجَرِ بفتحها وهو الهَذَيانُ. يقال: هَجَر المريضُ هَجَراً أي هذى فلا مفعولَ له. ونافع وابن محيصن بضم التاءِ وكسرِ الجيم مِنْ أهجر إهْجاراً أي: أَفْحَشَ في مَنْطِقِه. قال ابن عباس: «يعني سَبَّ الصحابةِ». زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضمِّ التاءِ وفتحِ الهاء وكسرِ الجيمِ مشددةً مضارعَ هَجَّر بالتشديد. وهو محتمِلٌ لأَنْ يكونَ تضعيفاً للهَجْر أو الهَجَر أو الهُجْر. وقرأ ابن أبي عاصم كالعامَّةِ، إلاَّ أنَّه بالياءِ من تحتُ وهو التفاتٌ.
359
قوله: ﴿وَلَوِ اتبع﴾ : الجمهورُ على كسرِ الواوِ لالتقاء الساكنين. وابن وثاب بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضميرِ كما كُسِرَتْ واوُ الضميرِ تشبيهاً بها.
359
قوله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ﴾ العامَّةُ على إسناد الفعل إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّمِ نفسَه. والمرادُ: أَتَتْهم رسلُنا. وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ «آتيناهم» بالمدِّ بمعنى أَعْطيناهم، فيُحتمل أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني غيرَ مذكورٍ. ويُحتمل أَنْ يكونَ «بذِكْرِهم» والباءُ مزيدةٌ فيه. وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمرٍو أيضاً «أَتَيْتُهم» بتاءِ المتكلم وحدَه. وأبو البرهسم وأبو حيوة والجحدري وأبو رجاء «أَتَيْتُهُمْ» بتاء الخطاب، وهو للرسول عليه السلام وعيسى «بذكراهم» بألفِ التأنيث. وقتادةُ «نُذَكِّرُهم» بنون المتكلمِ المعظمِ نفسَه مكانَ باءِ الجرِّ مضارعَ «ذَكَّر» المشدَّدِ، ويكون «نُذَكِّرُهم» جملةً حاليةً. وقد تقدَّم الكلامُ في «خَرْجاً» و «خَراج» في الكهف.
360
وقد تقدَّم الكلامُ في " خَرْجاً " و " خَراج " في الكهف.
قوله: ﴿عَنِ الصراط﴾ : متعلقٌ ب «ناكِبون»، ولا تمنعُ لامُ الابتداءِ مِنْ ذلك على رأيٍ قد تقدَّم تحقيقه. والنُّكُوب والنَّكْبُ: العدولُ والمَيْلُ. ومنه النَّكْباءُ للريح بين رِيْحَيْنِ، سُمِّيَتْ بذلك لعُدولها عن المَهَابِّ ونَكَبَتْ حوداثُ الدهر أي: هَبَّتْ هبوبَ النَّكْباء، والمَنْكِبُ: مُجْتَمَعُ ما بينَ العَضُدِ والكَتِفِ. والأَنْكَبُ المائلُ المَنْكِبِ. ولفلانٍ نِكابة في قومه أي: نِقابة فيشبه أن تكونَ الكافُ بدلاً من القاف. ويقال: نَكَبَ ونَكَّب مُخَففاً ومُثَقلاً.
قوله: ﴿لَّلَجُّواْ﴾ : جواب «لو». وقد توالى فيه لامان وفيه تَضْعيفٌ لقول مَنْ قال: إنَّ جوابها إذا نفي ب «لم» ونحوِها مِمَّا صُدِّر فيه حرفُ النفي بلام، إنه لا يجوزُ دخولُ اللامِ لو قلت: «لو قام زيدٌ لَلَمْ يقم
360
عمروٌ» لم يَجُزْ قال: لئلاَّ يتوالى لامان. وهذا موجودٌ في الإِيجابِ كهذهِ الآية ولم يَمْنَعْ، وإلاَّ فما الفرقُ بين النفي والإِثباتِ في ذلك؟
واللَّجاجُ: التَّمادِي في العِناد في تعاطي الفعلِ المزجورِ عنه. ومنه اللَّجَّة بالفتح لتردُّد الصوت كقوله:
٤٣٢٣ - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ... ولُجَّة البحرِ لتردُّدِ أمواجه. ولُجَّةُ الليلِ لتردُّدِ ظَلامِه. واللَّجْلَجَةُ تردُّدُ الكلامِ، وهو تكريرُ لَجَّ. ويقال: لَجَّ وأَلجَّ.
361
قوله: ﴿فَمَا استكانوا﴾ : قد تقدم قبلَه استكان في آل عمران. وجاء الأولُ ماضياً، والثاني مضارعاً ولم يَجِيْئا ماضيين ولا مضارعين، ولا جاء الأول مضارعاً والثاني ماضياً؛ لإفادةِ الماضي وجودَ الفعلِ وتحقُّقَه وهو بالاستكانةِ أليقُ بخلافِ التضرُّع، فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبالِ. وأمَّا الاستكانةُ فقد تُوْجَدُ منهم. وقال الزمخشري: «فإن قلت: هلاَّ قيل: وما تَضَرَّعوا فما يَسْتَكِيْنون. قلت: لأن المعنى مَحَنَّاهم فما وُجِدَتْ
361
منهم عقيبَ المِحْنَةِ استكانةٌ، وما من عادةِ هؤلاء أَنْ يَسْتَكينوا ويتضرعوا حتى/ يُفْتَحَ عليهم بابٌ العذابِ الشديد». قلت: فظاهرُ هذا أنَّ «حتى» غايةٌ لنفيِ الاستكانةِ والتضرُّعِ.
362
وقرىء «فَتَّحنا» بالتشديدِ. والكلام في «إذا» و «إذا» قد تقدم قريباً. وقرأ السُّلميُّ «مُبْلَسُوْن» بفتحِ اللامِ مِنْ أَبْلَسه أي: أدخله في الإِبْلاس.
قوله: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ : قرأ أبو عمرٍو في روايةٍ «يَعْقِلون» بياء الغيبةِ على الالتفات.
قوله: ﴿سَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ : قرأ أبو عمرو «سيقولون اللهُ» في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه «مَنْ» [مِنْ] قولِه: «سيقولون اللهُ، قل: أفلا تَتَّقون» «سيقولون اللهُ، قُلْ فأنى تُسْحَرون» لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو «مَنْ» فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون «لله» في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه «مَنْ ربُّ السماوات» وبين قولِه «لِمَنِ السماوات». ولا بينَ قولِه «مَنْ بيده» ولا «لِمَنْ له» إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك: مَنْ ربُّ هذه الدار؟ فيقال: زيدٌ. وإن شِئْتَ: لزيدٍ؛ لأنَّ
362
السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال: لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه «لله» لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز؛ لأنه لا فرقَ بين «لِمَن الأرضُ» و «مَنْ رَبُّ الأرض» إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
363
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:قوله :﴿ سَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ : قرأ أبو عمرو " سيقولون اللهُ " في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه " مَنْ " [ مِنْ ] قولِه :" سيقولون اللهُ، قل : أفلا تَتَّقون " " سيقولون اللهُ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرون " لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو " مَنْ " فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون " لله " في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى ؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه " مَنْ ربُّ السماوات " وبين قولِه " لِمَنِ السماوات ". ولا بينَ قولِه " مَنْ بيده " ولا " لِمَنْ له " إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك : مَنْ ربُّ هذه الدار ؟ فيقال : زيدٌ. وإن شِئْتَ : لزيدٍ ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال : لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها ؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه " لله " لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز ؛ لأنه لا فرقَ بين " لِمَن الأرضُ " و " مَنْ رَبُّ الأرض " إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:قوله :﴿ سَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ : قرأ أبو عمرو " سيقولون اللهُ " في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه " مَنْ " [ مِنْ ] قولِه :" سيقولون اللهُ، قل : أفلا تَتَّقون " " سيقولون اللهُ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرون " لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو " مَنْ " فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون " لله " في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى ؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه " مَنْ ربُّ السماوات " وبين قولِه " لِمَنِ السماوات ". ولا بينَ قولِه " مَنْ بيده " ولا " لِمَنْ له " إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك : مَنْ ربُّ هذه الدار ؟ فيقال : زيدٌ. وإن شِئْتَ : لزيدٍ ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال : لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها ؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه " لله " لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز ؛ لأنه لا فرقَ بين " لِمَن الأرضُ " و " مَنْ رَبُّ الأرض " إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:قوله :﴿ سَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ : قرأ أبو عمرو " سيقولون اللهُ " في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه " مَنْ " [ مِنْ ] قولِه :" سيقولون اللهُ، قل : أفلا تَتَّقون " " سيقولون اللهُ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرون " لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو " مَنْ " فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون " لله " في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى ؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه " مَنْ ربُّ السماوات " وبين قولِه " لِمَنِ السماوات ". ولا بينَ قولِه " مَنْ بيده " ولا " لِمَنْ له " إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك : مَنْ ربُّ هذه الدار ؟ فيقال : زيدٌ. وإن شِئْتَ : لزيدٍ ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال : لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها ؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه " لله " لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز ؛ لأنه لا فرقَ بين " لِمَن الأرضُ " و " مَنْ رَبُّ الأرض " إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:قوله :﴿ سَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ : قرأ أبو عمرو " سيقولون اللهُ " في الأخيرتين من غير لامِ جَرّ، رَفَعَ الجلالةَ، جواباً على اللفظِ لقولِه " مَنْ " [ مِنْ ] قولِه :" سيقولون اللهُ، قل : أفلا تَتَّقون " " سيقولون اللهُ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرون " لأنَّ المسؤولَ به مرفوعٌ المحلِّ وهو " مَنْ " فجاء جوابُه مرفوعاً مطابقاً له لفظاً، وكذلك رُسِمَ الموضعان في مصاحفِ البَصرة. والباقون " لله " في الموضعين باللام، وهو جوابٌ على المعنى ؛ لأنَّه لا فَرْقَ بين قولِه " مَنْ ربُّ السماوات " وبين قولِه " لِمَنِ السماوات ". ولا بينَ قولِه " مَنْ بيده " ولا " لِمَنْ له " إلاَّ جارُّه. وهذا كقولِك : مَنْ ربُّ هذه الدار ؟ فيقال : زيدٌ. وإن شِئْتَ : لزيدٍ ؛ لأنَّ السؤالَ لا فرقَ فيه بين أن يقال : لِمَنْ هذه الدارُ، ومَنْ ربُّها ؟ واللامُ مرسومةٌ في مصاحفهم فوافقَ كلٌ مُصْحَفَه، ولم يُخْتَلَفْ في الأول أنه " لله " لأنه مرسومٌ باللام. وجاء الجوابُ باللامِ كما في السؤال. ولو حُذِفَتْ من الجواب لجاز ؛ لأنه لا فرقَ بين " لِمَن الأرضُ " و " مَنْ رَبُّ الأرض " إلاَّ أنَّه لم يَقْرَأْ به أحدٌ.
قوله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ﴾ قد قُرىء هنا ببعض ما قُرىء به في نظيره: فقرأ ابنُ أبي إسحاق «أَتَيْتَهم» بتاء الخطاب، وغيرُه بتاء المتكلم.
قوله: ﴿إِذاً لَّذَهَبَ﴾ :«إذَنْ» جوابٌ وجزاءٌ. قال الزمخشري: «فإن قلتَ:» إذَنْ «لا تَدْخُلُ إلاَّ على كلامٍ هو جوابٌ وجزاءٌ، فكيف وقع قولُه:» لَذَهَبَ «جواباً وجزاءً، ولم يتقدَّمْه شرطٌ ولا سؤالُ سائلٍ؟ قلت: الشرطُ محذوفٌ تقديرُه:» لو كان معه آلهةٌ «حُذف لدلالةِ» وما كان معه مِنْ إلَهٍ «. قلت: هذا رأي الفراء، وقد تقَّدم ذلك في الإِسراء في قوله: ﴿وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ﴾ [الآية: ٧٣].
قوله: ﴿عَمَّا يَصِفُونَ﴾. وقرىء تَصِفُون، بتاء الخطابِ. وهو التفاتٌ.
قوله: ﴿عَالِمِ الغيب﴾ : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصم بالجرِّ على البدل من الجلالةِ. وقال
363
الزمخشري: «صفة لله» كأنَّه تَمَحَّضَ للإِضافةِ فتعرَّفَ المضافُ. والباقون بالرفع على القطعِ خبرَ مبتدأ محذوفٍ.
قوله: ﴿فتعالى﴾ عطفٌ على معنى ما تَقَدَّم كأنه قال: عَلِمَ الغيبَ فتعالى كقولِك: زيدٌ شجاعٌ فَعَظُمَتْ منزلتُه أي: شَجُعَ فعَظُمَتْ. أو يكونُ على إضمارِ القولِ أي: أقول: فتعالى اللهُ.
364
قوله: ﴿إِمَّا تُرِيَنِّي﴾ : قرأ العامَّةُ «تُرِيَنِّي» بصريحِ الياء. والضحَّاك «تُرِئَنِّي» بالهمز عوض الياء وهذا كقراءته: «فإمَّا تَرَئِنَّ» «لَتَرَؤُنَّ» بالهمز وهو بدلٌ شاذُّ.
قوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلْنِي﴾ : جوابُ الشرط. و «رَبِّ» نداءٌ معترضٌ بين الشرطِ وجزائِه.
قوله: ﴿على أَن نُّرِيَكَ﴾ : متعلقٌ ب لَقادِرون أو بمحذوفٍ على خلافٍ سَبَقَ: في أنَّ هذه اللامَ تمنعُ ما بعدها أَنْ تعملَ فيما قبلها.
قوله: ﴿مِنْ هَمَزَاتِ﴾ : جمع هَمْزَة وهي النَّخْسَة والدَّفْعَةُ بيدٍ وغيرِها. والمِهْماز: مِفْعال من ذلك كالمِحْراث من الحَرْث. والهَمَّاز: الذي يَعيبُ الناسَ كأنه يَدْفع بلسانه ويَنْخُس به.
قوله: ﴿حتى إِذَا﴾ : في «حتى» هذه أوجهٌ، أحدُها: أنها غايةٌ لقولِه: «بما يَصِفون». والثاني: أنها غايةٌ ل «كاذبون». وبَيَّنَ هذين الوجهين قولُ الزمخشري: «حتى تتعلق ب» يَصِفون «أي: لا يزالون على سوءِ الذكر إلى هذا الوقت، والآيةُ فاصلةٌ بينهما على وجهِ الاعتراضِ والتأكيدٍ». ثم قال: «أو على قولِه» وإنهم لكاذِبون «. قلت: قوله: أو على قولِه كذا» كلام محمولٌ على المعنى إذ التقدير «حتى» مُعَلَّقَةٌ على «يَصِفُون» أو على قوله: «لَكاذِبون». وفي الجملة فعبارةٌ مُشْكلة.
الثالث: قال ابنُ عطية: «حتى» في هذه المواضع حرفُ ابتداءٍ. ويُحتمل أَنْ تكونَ غايةً مجردةً بتقديرِ كلامٍ محذوفٍ. والأولُ أَبْيَنُ؛ لأنَّ ما بعدها هو المَعْنِيُّ به المقصودُ ذِكْرُه «. قال الشيخ:» فَتَوَهَّمَ ابنُ عطية أن «حتى» إذا كانت حرفَ ابتداءٍ لا تكونَ غايةً، وهي وإنْ كانَتْ: حرفَ ابتداءٍ، فالغايةُ معنًى لا يُفاريقها، ولم يُبَيِّنْ الكلامَ المحذوفَ المقدَّرَ «. وقال أبو البقاء:» حتى «غايةٌ في معنى العطفِ». وقال الشيخ: «والذي يَظْهر لي أن قبلها جملةً محذوفةً تكون» حتى «غايةً لها يَدُلُّ عليها ما قبلها. التقديرُ: فلا أكونُ كالكفارِ الذين تَهْمِزُهم الشياطينُ ويَحْضُرونهم، حتى إذا جاء. ونظيرُ
365
حَذْفِها قولُ الشاعر:
٣٤٢٤ - فيا عَجَبا حتى كُلَيْبٌ تَسُبُّني .........................
أي: يَسُبُّني الناسُ كلُّهم حتى كُلَيْبٌ. إلاَّ أن في البيت دَلَّ ما بعدها عليها بخلافِ الآيةِ الكريمة.
قوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ في قوله» ارْجِعُون «بخطابِ الجمع ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنه على سبيلِ التعظيمِ كقولِ الشاعر:
٣٤٢٥ - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
وقال آخر:
٢٣٢٦ - ألا فارْحَمُوني يا إلَهَ محمدٍ ...........................
قد يُؤْخَذُ من هذا البيتِ ما يَرُدُّ على الشيخ جمال الدين بن مالك حيث قال:»
إنه لم يَعْلَمْ أحداً أجاز للداعي يقول: يا رحيمون «. قال:» لئلاَّ يؤْهِمُ خلافَ التوحيِد «. وقد أخْبر تعالى عن نفسه بهذه الصيغةِ وشِبْهِها للتعظيمِ في غيرِ موضعٍ من كتابِه الكريم.
الثاني: أنه نادى ربَّه، ثم خاطب ملائكةَ ربِّه بقوله:»
ارْجِعُون «ويجوز على هذا الوجهِ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: يا ملائكةً ربي، فحذف
366
المضافَ ثم التفت إليه عَوْدِ الضميرِ كقوله: ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ ثم قال: ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] التفاتاً ل» أهل «المحذوف.
الثالث: أنَّ ذلك يَدُلُّ على تكريرِ الفعل، كأنه قال: ارْجِعُون ارْجِعون ارْجِعون. نقله أبو البقاء. وهو يُشْبِهُ ما قالوه في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] أنه بمعنى: أَلْقِ أَلْقِ ثُنِّي الفعلُ للدلالةِ على ذلك، وأنشدوا قولَه:
٣٤٢٧ - قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ........................
أي: قِفْ قِفْ.
367
قوله: ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ﴾ : من بابِ إطْلاقِ الجزءِ وإرادةِ الكلِّ. كقوله: «أصدقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةٌ لبيدٍ» يعني قوله:
٣٤٢٨ - ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ .........................
وقد تقدَّم طَرَفٌ مِنْ هذا بأوسعِ عبارةٍ في آلِ عمران. و «هو قائلُها» صفلةٌ ل «كلمة».
قوله: ﴿بَرْزَخٌ﴾ البَرْزَخْ: الحاجِزُ بين المتنافِيَيْنِ. وقيل: الحِجابُ بين
367
الشيئين أَنْ يَصِلَ أحدُهما للآخر، وهو بمعنى الأول. وقال الراغب: «أصلُه بَرْزَه بالهاءِ فَعُرِّب. وهو في القيامة الحائلُ بين الإِنسانِ وبين المنازلِ. الرفيعة. والبَرْزَخُ قبلَ البعثِ: المَنْعُ بين الإِنسانِ وبين الرَّجْعَةِ التي يتمنَّاها».
368
قوله: ﴿فِي الصور﴾ : قرأ العامَّةُ بضم الصادِ وسكونِ الواو. وابن عباسٍ والحسنُ بفتحِ الواوِ جمعَ صورة. وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواوِ وهو شاذٌّ، وهذا عكسُ «لحى» بضم اللام جمعَ «لِحْية» بكسرِها.
قوله: ﴿فَلاَ أَنسَابَ﴾ الأنسابُ: جمعُ نَسَب وهو القَرَابةُ مِنْ جهةِ الوِلادة، ويُعَبَّر به عن التواصلِ، وهو في الأصلِ مصدرٌ. قال الشاعر:
٣٤٢٩ - لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقِع
قوله: ﴿بَيْنَهُمْ﴾ يجوزُ تَعَلُّقُه بنفسِ «أنساب»، وكذلكَ «يومئذٍ» أي: فلا قرابةَ بينهم في ذلك اليوم. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «أَنْساب». والتنوينُ في «يومئذٍ» عوضٌ من جملةٍ، تقديرهُ: يومَ إذ يُنْفخ في الصُّور.
قوله: ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «خالِدون» خبراً ثانياً ل «أولئك» وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم خالدون، وقال الزمخشري: ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ بدلٌ مِنْ «خَسِروا أنفسَهم»، ولا محلَّ
368
للبدلِ والمبدلِ منه؛ لأنَّ الصلة لا مَحَلَّ لها. قال الشيخ: «جَعَلَ» في جهنم «بدلاً مِنْ» خَسِروا «وهذا بدلٌ غريبٌ. وحقيقتُه أَنْ يكونَ البدلُ الفعلَ الذي تَعَلَّق به» في جهنم «أي: استقرُّوا في جهنم، وهو بدلُ شيءٍ مِنْ شيء؛ لأنَّ مَنْ خَسِر نفسَه استقرَّ في جهنَم».
قلت: فجعل الشيخُ الجارُّ والمجرورَ البدلَ دون «خالدون» والزمخشريُّ جعل جميع ذلك بدلاً، بدليلِ قولِه بعد ذلك: «أو خبرٌ بعد خبرٍ ل» أولئك «أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ». وهذان إنما يليقان ب «خالدون»، وأمَّا «في جهنم» فمتعلِّقٌ به، فيحتاج كلامُ الزمخشريِّ إلى جوابٍ. وأيضاً فيصير «خالدون» مُفْلتاً. وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الموصولُ نعتاً لاسمِ الإِشارة وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ كونُه خبراً له.
369
قوله: ﴿تَلْفَحُ﴾ : يجوزُ استئنافُه، ويجوز حاليَّتُه. ويجوز كونُه خبراً آخرَ ل «أولئك»، واللَّفحُ: إصابةُ النارِ الشيءَ/ وكَلْحُها وإِحْراقُها له، وهو أشَدُّ من النَّفْخِ. وقد تقدَّم النفخ في الأنبياء.
قوله: ﴿كَالِحُونَ﴾ الكُلُوح: تَشْميرُ الشَّفَةِ العليا، واسترخاءُ السُّفْلى. وفي الترمذي: تَتَقَلَّصُ شَفَتُه العليا، حتى تبلغَ وسطَ رأسِه، وتَسْتَرْخي السفلى
369
حتى تَبْلُغَ سُرَّته «ومنه» كُلوحُ الأَسَدِ «أي: تكشيرُه عن أنيابِه. ودهرٌ كالِحٌ، وبردٌ كالحٌ أي: شديد. وقيل: الكُلُوْحُ هو: تَقْطيبُ الوجهِ وبُسُورُه. وكَلَح الرجلُ يَكْلَحُ كُلُوحاً وكِلاحاً.
370
قوله: ﴿شِقْوَتُنَا﴾ : قرأ الأخَوان: «شَقاوتُنا» بفتح الشين وألفٍ بعد القاف. والباقون بكسرِ الشينِ وسكونِ القافِ وهما مصدران بمعنى واحدٍ، فالشَّقاوة كالقَساوة وهي لغةٌ فاشِيَةٌ، والشِّقْوةُ كالفِطْنَة والنِّعْمة. وأنشد الفراء:
٣٤٣٠ - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوَتِهْ بنتَ ثمانِيَْ عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ
وهي لغةُ الحجاز. قرأ قتادة والحسن في روايةٍ كالأَخَوَيْن إلاَّ أنهما كَسَرا الشينَ. وشبلٌ في اختياره كالباقين، إلاَّ أنَّه فَتَح الشينَ.
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾ : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ استئنافاً. وأُبَيّ والعتكيُّ بفتحها أي: لأنه. والهاءُ ضميرُ الشأنِ.
قوله: ﴿سِخْرِيَّاً﴾ : مفعولٌ ثانٍ للاتخاذ. وقرأ
370
الأخَوان ونافعٌ هنا وفي ص بكسرِ السين. والباقون بضمِّها في المؤمنين. واختلف الناس في معناهما. فقيل: هما بمعنىً واحدٍ، وهو قولُ الخليلِ وسيبويه والكسائي وأبي زيد. وقال يونس: «إن أُرِيْدَ الخِدْمَةُ والسُّخْرة فالضمُّ لا غيرُ. وإنْ أريدَ الهُزْءُ فالضمُّ والكسر. ورجَّح أبو عليٍ وتبعه مكي قراءةَ الكسرِ قالا: لأنَّ ما بعدها أليقُ لها لقولِه: ﴿وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾. قلت: ولا حجةَ فيه لأنَّهم جمعوا بين الأمرَيْن: سَخَّروهم في العمل، وسَخِروا منهم استهزاءً. والسُّخْرَة بالتاء: الاستخدام، و» سُخْرِيَّاً «بالضمِّ منها، والسُّخْرُ بدونها: الهزء، والمكسورُ منه. قال الأعشى:
٣٤٣١ - إنِّي أتاني حديثٌ لا أُسَرُّ به مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيه ولا سُخْرُ
ولم يَختلف السبعةُ في ضَمِّ ما في الزخرف؛ لأنَّ المرادَ الاستخدامُ وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ فَرَّق بينهما. إلاَّ أنَّ ابنَ محيصن وابن مسلم وأصحابَ
371
عبدِ الله كسروه أيضاً، وهي مُقَوِّيَةٌ لقولِ مَنْ جعلهما بمعنى.
والياءُ في» سِخريَّاً «و» سُخْريَّاً «للنسبِ زِيْدَتْ للدلالةِ على قوةِ الفعل، فالسُّخْرِيُّ أقوى من السُّخْر، كما قيل في الخصوص: خصوصيَّة، دلالةً على قوةِ ذلك، قال معناه الزمخشري.
372
قوله: ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾ : قرأ الأخوان بكسرِ الهمزةِ استئنافاً. والباقون بالفتحِ، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه تعليلٌ وهي موافقةٌ للأولى فإنَّ الاستئنافَ يُعَلَّلُ به أيضاً. والثاني ولم يذكُرْ الزمخشري غيرَه أنَّه مفعولٌ ثانٍ لجَزَيْتُهم. أي: بأنهم أي: فَوزْهم. وعلى الأول يكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً.
قوله: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ﴾ : قرأ الأخَوان «قل: كم لَبِثْتُمْ». «قُلْ إنْ لبثتم» بالأمر في الموضعين، وابن كثير كالأخوين في الأول فقط، والباقون «قال» في الموضعين، على الإِخبار عن الله أو المَلَك. والفعلان مرسومان بغيرِ ألفٍ في مصاحفِ الكوفة، وبألفٍ في مصاحفِ مكةَ
372
والمدينةِ والشامِ والبصرةِ، فحمزةُ والكسائيُّ وافقا مصاحفَ الكوفة وخالفها عاصمٌ، أو وافقها على تقديرِ حَذْفِ الألفِ من الرسم وإرادتها. وابن كثير وافق في الثاني مصاحفَ مكة، وفي الأولِ غيرَها، أو أتاها على تقديرِ حَذْفِ الألف وإرادتِها. وأمَّا الباقون فوافقوا مصاحفَهم في الأول والثاني.
و «كم» في موضعِ نصبٍ على ظرفِ الزمانِ أي: كم سنة. و «عددَ» بدلٌ مِنْ «كم» قاله أبو البقاء: وقال غيره: إن «عد سنين» تمييز ل «كم» وهذا هو الصحيحُ.
وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عَدَداً» منوناً. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ «عدداً» مصدراً أُقيم مُقام الاسمِ، فهو نعتٌ تقدَّم على المنعوت. قاله صاحب «اللوامح». يعني أن الأصل: «سنين عدداً» أي: معدودة، لكنه يُلتزم تقديمُ النعتِ على المنعوتِ، فصوابُه أن يقول: فانتصبَ حالاً. هذا مذهبُ البصريين. والثاني: أنَّ «لَبِثْتُم» بمعنى عَدَدْتُم. فيكون نصبُ «عدداً» على المصدر و «سنين» بدلٌ منه. وقال صاحب «اللوامح» أيضاً: «وفيه بُعْدٌ؛ لعدم دلالة اللُّبث على العدد». والثالث: أنَّ «عدداً» تمييزٌ ل «كم» و «سنين» بدلٌ منه.
373
قوله: ﴿العآدين﴾ : جمعُ «عادٍّ» من العَدَد. وقرأ الحسن والكسائي في روايةٍ بتخفيفِ الدالِ جمعَ «عادٍ» اسم فاعل مِنْ عدا
373
أي/: الظَّلَمَة. وقال أبو البقاء: «وقُرىء بالتخفيفِ على معنى العادِيْن المتقدِّمين كقولك:» وهذه بِئْرٌ عادية «، أي: سَلْ من تقدَّمَنا. وحَذَفَ إحدى ياءَي النسَب كما قالوا الأشعرون وحَذَفَ الأخرى لالتقاء الساكنين». قلت: المَحْذوفُ أولاً مِن الياء الثانية لأنها المتحركةُ، وبحذفِها يلتقي ساكنان. ويؤيِّد ما ذكره أبو البقاء ما ذكره الزمخشري فقال: «وقُرىء» العادِيِّين «أي: القدماء المُعَمَّرين فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟». وقال ابن خالويه: «ولغةٌ أخرى» العاديِّين «يعني بياءٍ مشددة جمع عادِيَّة بمعنى القدماء».
374
قوله: ﴿لَّوْ أَنَّكُمْ﴾ : جوابُها محذوفٌ، تقديرُه: لو كنتم تعلمونَ مقدارَ لُبْثِكم من الطول لَمَا أَجَبْتُم بهذه المدة. وانتصب «قليلاً» على النعتِ لزمنٍ محذوفٍ أو لمصدرٍ محذوف أي: إلاَّ زمناً قليلاً أو إلاَّ لُبْثاً قليلاً.
قوله: ﴿عَبَثاً﴾ : في نصبه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: عابثين. الثاني: أنه مفعولٌ مِنْ أجله أي: لأجل العَبَثِ. والعَبَثُ: اللَّعِبُ وما لا فائدةَ فيه وكلُّ ما ليس له غَرَضٌ صحيحٌ. يقال: عَبَثَ يَعْبَثُ عَبَثاً إذا خَلَط عَمَلَه بلَعِبٍ. وأصله من قولِهم: عَبَثْتُ الأَقِطَ أي: خَلَطْتُه. والعَبِيْثُ طعام مخلوط بشيء، ومنه العَوْبَثَانِيُّ لتمر وسَوِيْقٍ وسمن مختلط.
قوله: ﴿وَأَنَّكُمْ﴾ يجوز أَنْ يكونَ معطوفاتً على ﴿أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ﴾ فيكونُ
374
الحُسْبانُ منسحباً عليه، وأن يكون معطوفاً على «عبثاً» إذا كان مفعولاً مِنْ أجله. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» عبثاً «أي: للعبث ولتَرْكِكِم غيرَ مرجوعين». وقدَّم «إلينا» على «تُرْجَعون» لأجل الفواصلِ.
قوله: ﴿لاَ تُرْجَعُونَ﴾ هو خبر «أنَّكم». وقرأ الأخوان «تَرْجِعُون» مبنياً للفاعل. والباقون مبنياً للمفعول. وقد تقدَّم أنَّ «رَجَعَ» يكون لازماً ومتعدياً. وقيل: لا يكون إلاَّ متعدِّياً والمفعولُ محذوفٌ.
375
قوله: ﴿الكريم﴾ : قرأه العامَّةُ مجروراً نعتاً للعرش وُصِفَ بذلك لتَنَزُّل الخيراتِ منه أو لنسبتِه إلى أكرمِ الأكرمين. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وإسماعيل عن ابن كثير وأبان بن تغلب مرفوعاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ للعرش أيضاً. ولكنه قُطِع عن إعرابه لأجلِ المدحِ على خبر مبتدأ مضمر. وهذا جيدٌ لتَوافُقِ القراءتين في المعنى. الثاني: أنه نعتٌ ل «رب».
قوله: ﴿وَمَن يَدْعُ﴾ : شرطٌ. وفي جوابِه وجهان أصحُّهما: أنه قوله «فإنما حِسابُه» وعلى هذا ففي الجملة المتقدمة وهي قولُه: ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ وجهان، أحدُهما: أنها صفةٌ ل «إلهاً» وهو صفةٌ لازمةٌ. أي: لا يكون الإِلَهُ المَدْعُوُّ من دون اللهِ إلاَّ كذا، فليس لها مفهومٌ لفسادِ المعنى. ومثلُه ﴿وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] لا يُفْهم أنَّ ثَمَّ إلَهاً آخرَ مَدْعُوَّاً من دونِ اللهِ له برهان، وأن ثَمَّ طائراً يطير بغير جناحيه. الثاني: أنها جملةٌ اعتراضٍ بين الشرطِ وجوابِه. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقولِه: «وهي صفةٌ لازمةٌ كقوله:»
375
يَطير بجناحيه «، جيء بها للتوكيد لا أَنْ يكونَ في الآلهة ما يجوز أَنْ يقومَ عليه بُرْهانٌ. ويجوز أَنْ يكونَ اعتراضاً بين الشرطِ والجزاءِ كقولك:» مَنْ أحسن إلى زيدٍ لا أحقَّ بالإِحسان منه فاللهُ مُثيبُه «.
الثاني: من الوجهين الأولين: أنَّ جوابَ الشرطِ»
قولُه لا بُرْهانَ له به «كأنه فَرَّ مِنْ مفهومِ الصفةِ لِما يلزمُ مِنْ فسادِه فَوَقَعَ في شيءٍ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ، وهو حَذْفُ فاءِ الجزاءِ من الجملةِ الاسميةِ، كقوله:
٣٤٣٢ - مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللهُ يَشْكُرُها ........................
البيت. وقد تقدَّم تخريجُ كونِ»
لا برهانَ له «على الصفةِ. ولا إشكال؛ لأنها صفةٌ لازمةٌ، أو على أنها جملةٌ اعتراضٍ.
قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾ الجمهور على كسرِ الهمزةِ على الاستئنافِ المُفيد للعلمِ. وقرأ الحسنُ وقتادةُ»
أنه «بالفتح. وخَرَّجَه الزمخشري على أَنْ يكنَ خبر» حِسابُه «قال: ومعناه: حسابُه عدمُ الفلاحِ. والأصلُ: حسابُه أنه لا يُفلح هو، فوضع» الكافرون «في موضع الضمير، لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك» حِسابُه أنه لا يُفلح «في معنى: حسابهم أنهم لا يُفْلحون» انتهى. ويجوزُ أَنْ يكونَ ذلك على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي [ل] أنَّه لا يُفْلح. وقرأ الحسن «لا يَفْلح» بفتح الياءِ واللام، مضارعَ فَلَح بمعنى أفلح، فَعَل وأَفْعَل فيه بمعنىً. والله أعلم، وهو يقول الحقَّ ويَهْدي السبيلَ.
376
Icon