تفسير سورة المؤمنون

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)
﴿قد أفلح المؤمنون﴾ قد نقضية لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه وكان المؤمنين يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بمادل على ثبات ما توقعوه والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا أونجوا مما هربوا والإيمان في اللغة التصديق والمؤمن المصدق لغة وفي الشرع كل من نطق بالشهادتين موطئا قلبه لسانه فهو مؤمن قال عليه السلام خلق الله الجنة فقال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون ثلاثاً أنا حرام على كل بخيل مراء لأنه بالرياء أبطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢)
﴿الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون﴾ خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح وقيل الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها والإعراض عما سواها وأن لا يجاوز بصره لا يجاوز بصره مصلاه وأن لا يلتفت ولا يبعث ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ونحو ذلك وعن أبى الدرداء هواخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام وجمع الاهتمام وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى
458
المصلى له لانتفاع المصلي بها وحده وهي عدته وذخيرته وأما المصلى له فغني عنها
459
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
﴿والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ﴾ اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤)
﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ مؤدون وبفظ فاعلون يدل على المداومة بخلاف مؤدون وقيل الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير وعلى المعنى وهو فعل المزكي الذي هو التزكية وهو المراد هنا فجعل المزكين فاعلين له لأن لفظ الفعل يعم جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما تقول للضارب والقاتل والمزكي فعل الضرب والقتل والتزكية ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ودخل اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل عمل الفى فانك تقول هذا ضارب لزيد ولاتقول ضرب لزيد
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥)
﴿والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون﴾ الفرج يشمل سوءة الرجل والمرأة
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)
﴿إِلاَّ على أزواجهم﴾ موضع الحال أى إلاوالين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك كان زياد على البصرة أي والياً عليها والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين كانه قيل
المؤمنون (١٣ - ٦)
﴿أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين﴾
يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه وقال الفراء إلا من أزواجهم أي زوجاتهم ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم﴾ أي إمائهم ولم يقل من لأن المملوك جرى
459
مجرى غير العقلاء ولهذا يباع كما تباع البهائم ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم
460
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)
﴿فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك﴾ طلب قضاء شهوة من غير هذين ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون﴾ الكاملون في العدوان وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨)
﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم﴾ لأمانتهم وعهدهم لأمانتهم مكى وسهل سمى الشئ المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أهلها وإنما تؤدى العيون لا المعاني والمراد به العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عز وجل ومن جهة الخلق ﴿راعون﴾ حافظون والراعي القائم على الشئ بحفظ وإصلاح كراعي الغنم
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩)
﴿والذين هُمْ على صلواتهم﴾ صَلاَتِهِمْ كوفي غير أبي بكر ﴿يُحَافِظُونَ﴾ يداومون في أوقاتها وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها أو لأنها وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت وجمعت آخراً ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)
﴿أولئك﴾ الجامعون لهذه الأوصاف ﴿هُمُ الوارثون﴾ الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١)
﴿الذين يَرِثُونَ﴾ من الكفار في الحديث ما منكم من أحد الاوله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل الجنة ورث أهل النار
460
منزله وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ﴿الفردوس﴾ هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر وقال قطرب هو أعلى الجنان ﴿هُمْ فِيهَا خالدون﴾ أنث الفردوس بتأويل الجنة
461
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ أي آدم ﴿مِن سلالة﴾ من للابتداء والسلالة الخاصة لأنها تسل من بين الكدر وقيل إنما سمى التراب الذي خلق آدم منه سلالة لأنه سل من كل تربة ﴿مِن طِينٍ﴾ من البيان كقوله من الاوثان
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (١٣)
﴿ثُمَّ جعلناه﴾ أي نسله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأن آدم عليه السلام لم يصر نطفة وهو كقوله وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سلالة من ماء مهين وقيل الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة والعرب تسمى النطفة سلالة أي ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعني من نطفة مسلولة من طين أي من مخلوق من طين وهو آدم عليه السلام ﴿نُّطْفَةٍ﴾ ماء قليلاً ﴿فِى قَرَارٍ﴾ مستقر يعنى الرحم ﴿مكين﴾ حصين
المؤمنون (١٩ - ١٤)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)
﴿ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة﴾ ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة﴾ أي صيرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين والخلق يتعدى إلى مفعول واحد ﴿عَلَقَةٍ﴾ قطعة دم والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ﴿فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً﴾ لحماً قدر ما يمضغ ﴿فَخَلَقْنَا المضغة عظاما﴾ فصيرناها عظاماً ﴿فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً﴾ فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس عظما العظم شامى وأبوبكر عظماً العظام زيد عن يعقوب عظاما العظم عن أبي زيد وضع الواحد موضع الجمع
461
لعدم اللبس إذ الإنسان ذو عظام كثيرة ﴿ثم أنشأناه﴾ الضمير يعود إلى الانسان أوإلى المذكور ﴿خلقا آخر﴾ أى خلقنا مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وسميعاً وبصيراً وكان بضد هذه الصفات ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن اليضة ولا يرد الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة ﴿فَتَبَارَكَ الله﴾ فتعالى أمره في قدرته وعلمه ﴿أَحْسَنُ﴾ بدل أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض من من ﴿الخالقين﴾ المقدرين أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر الممين لدلالة الخالقين عليه وقيل إن عبد الله بن سعد بن أبو سرح كان يكتب للنبي عليه السلام فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله ﷺ اكتب هكذا نزلت فقال عبد الله إن محمد نبينا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة ثم أسلم يوم الفتح وقيل هذه الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة مكية وقيل القائل عمر أو معاذ رضى الله عنهما
462
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك﴾ بعد ما ذكرنا من أمركم ﴿لَمَيّتُونَ﴾ عند انقضاء آجالكم
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ﴾ تحيون للجزاء
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (١٧)
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ﴾ جمع طريقة وهى السموات كأنه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها أو أراد به الناس وأنه إنما خلقنا فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها وما كان غافلاً عنهم وعما يصلحهم
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (١٨)
﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً﴾ مطراً ﴿بِقَدَرٍ﴾ بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم ﴿فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض﴾ كقوله فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض وقيل جعلناه ثابتاً في الأرض فماء الأرض كله من السماء ثم استأدى شكرهم بقوله ﴿وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون﴾ أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه فقيدوا هذه النعمة بالشكر
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (١٩)
﴿فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ﴾ بالماء ﴿جنات مّن نَّخِيلٍ﴾
المؤمنون (٢٣ - ١٩)
﴿وأعناب لَّكُمْ فِيهَا﴾ في الجنات ﴿فواكه كَثِيرَةٌ﴾ سوى النخيل والأعناب ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي من الجنات أي من ثمارها ويجوز أن هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يغتلها أي أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترزقون وتتعيشون
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
﴿وَشَجَرَةً﴾ عطف على جنات وهي شجرة الزيتون ﴿تخرج من طور سيناء﴾ طور سيناء وطور سنين لا يخلو إما أن يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسيتون وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف اليه كامرئ القيس وهو جبل فلسطين وسيناء غير منصرف بكر حال مكسور السين كقراءة الحجازي وأبي عمرو للتعريف والعجمة أو مفتوحها كقراءة غيرهم لأن الألف للتأنيث كصحراء ﴿تَنبُتُ بالدهن﴾ قال الزجاج الباء للحال أي تنبت ومعها الدهن تُنبت مكي وأبو عمرو إما لأن أنبت بمعنى نبت كقوله حتى إذا أنبت البقل أن لأن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن ﴿وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ﴾ أي إدام لهم قال مقاتل جعل الله تعالى في هذه إداماً ودهناً فالإدام الزيتون والدهن الزيت
463
وقيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع
464
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٢١)
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام﴾ جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ﴿لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ﴾ وبفتح النون شامي ونافع وأبو بكر وسقى وأسقى لغتان ﴿مّمَّا فِى بُطُونِهَا﴾ أي نخرج لكم من بطونها لبناً سائغاً ﴿وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ﴾ سوى الألبان وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾ أي لحومها
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
﴿وَعَلَيْهَا﴾ وعلى الأنعام في البر ﴿وَعَلَى الفلك﴾ في البحر ﴿تُحْمَلُونَ﴾ في أسفاركم وهذا يشير إلى أن المراد بالأنعام الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة فلذا قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البر قال ذو الرمة
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد ناقته
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٢٣)
﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يَا قََوْم اعبدوا الله﴾ وحدوه ﴿مَا لَكُم من إله﴾ معبود ﴿غيره﴾ بالرافع على المحل وبالجر على اللفظ والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أفلا تخافون عقوبة الله الذي هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق
المؤمنون (٢٧ - ٢٤)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)
﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾
العبادة فى شئ ﴿فقال الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ﴾ أي أشرافهم لعوامهم ﴿مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ﴾ يأكل ويشرب ﴿يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ أي يطلب الفضل عليكم
464
ويترأس ﴿وَلَوْ شَاء الله﴾ إرسال رسول ﴿لأَنزَلَ ملائكة﴾ لأرسل ملائكة ﴿مَّا سَمِعْنَا بهذا﴾ أي بإرسال بشر رسولاً أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب آلهتنا والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر ﴿في آبائنا الأولين﴾
465
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ جنون ﴿فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ﴾ فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٢٦)
﴿قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ﴾ فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم ايادى غذ في نصرته إهلاكهم أو انصرني بدل ما كذبون كقولك هذا بذاك أي بدل ذاك والمعنى أبدلنى من غم تكذيبهم سلوة النصرة عليهم
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ أي أجبنا دعاءه فأوحينا إليه ﴿أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا﴾ أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظاً يكلؤونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم عليه من الله عين كالئة ﴿وَوَحْيِنَا﴾ أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها رُوي أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ﴿فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا﴾ أي عذابنا بأمرنا ﴿وَفَارَ التنور﴾ أي فار الماء من تنور الخبر أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة فلما نبع الماء من التنور من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة واختلف في مكانه فقيل في مسجد الكوفة وقيل بالشام وقيل بالهند ﴿فاسلك فِيهَا﴾ فأدخل
465
في السفينة ﴿مِن كُلّ زَوْجَيْنِ﴾ من كلّ أمة زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك ﴿اثنين﴾ واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة وروى أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أي من كل أمة زوجين اثنين واثنين تأكيد وزيادة بيان ﴿وَأَهْلَكَ﴾ ونساءك وأولادك ﴿إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول﴾ من الله بإهلاكه وهو ابنه واحدى زوجتيه فجئ بعلى مع سبق الضار كما جئ باللام مع سبق النافع في قوله وَلَقَدْ
المؤمنون (٣٣ - ٢٧)
﴿مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مغرقون﴾ سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ونحوها لها ما كسبت وعليها ما اكبسبت ﴿مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مغرقون﴾ ولا تسألنى تجاه الذين كفروا فإني أغرقهم
466
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨)
﴿فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك﴾ فإذا تمكنتم عليها راكبين ﴿فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين﴾ أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ولم يقل فقولوا وإن كان فإذا استويت أنت ومن معك في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
﴿وَقُلْ﴾ حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها ﴿رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً﴾ أي إنزالاً أو موضع انزلت منزلاً أبو بكر أي مكاناً ﴿مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين﴾ والبركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
﴿إن في ذلك﴾ فيما فعل بنوح وقومه ﴿لآيات﴾ لعبروا مواعظ ﴿وَإِنْ﴾ هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة ﴿كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى وَلَقَدْ تركناها آية فهل من مذكر
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (٣١)
﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا﴾ خلقنا ﴿مّن بَعْدِهِمْ﴾ من بعد قوم نوح ﴿قرنا آخرين﴾ هم عاد وقوم هود ويشهد له قول هود واذكروا إِذْ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ومجئ قصة هود على أثر قصة نوح في الاعراف وهود والشعراء
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣٢)
﴿فأرسلنا فيهم﴾ الارسال يعدى بالى ولم يعد بفى هنا وفي قوله كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ وما أرسلنا فى قرية ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للارسال كقوله رؤبة
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام
﴿رَسُولاً﴾ هو هود ﴿مِنْهُمْ﴾ من قومهم ﴿أَنِ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون﴾ أن مفسرة لأرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣)
﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ﴾ ذكر مقالة قوم هود في جوابه في الأعراف وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال فما قومه فقيل له قالوا كيت وكيت وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبى ﷺ متصل بكلامه ولم يكن بالفاء وجئ بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه ﴿الذين كفروا﴾ صفة للملأ أولقومه ﴿وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة﴾
467
أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك
المؤمنون (٤١ - ٣٣)
﴿وأترفناهم﴾ ونعمناهم ﴿في الحياة الدنيا﴾ بكثرة الأموال والأولاد ﴿مَا هذا﴾ أي النبي ﴿إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ﴾ أي منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم
468
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٣٤)
﴿ولئن أطعتم بشرا مثلكم﴾ أى فيما يأمركم به وينهاكم عنه ﴿إِنَّكُمْ إِذاً﴾ واقع فى جزاء الشرط وجواب للذين فاولوهم من قومهم ﴿لخاسرون﴾ بالانقياد لمثلكم ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ﴾ بالكسر نافع وحمزة وعلى حفص وغيرهم بالضم ﴿وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ﴾ مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثنى أنكم للتأكيد وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف ومخرجون خبر عن الأول والتقدير أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (٣٦)
﴿هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ﴾ وبكسر التاء يزيد ورُوي عنه بالكسر والتنوين فيهما والكسائي يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أي بعد ما توعدون من البعث
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)
﴿إِنْ هِىَ﴾ هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به غلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة ﴿إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا وهذا لأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت لا التي لنفي الجنس ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ أي يموت
468
بعض ويولد بعض ينقوض قرن فيأتي قرن آخر أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وهو قراءة أبي وابن مسعود رضى الله عنهما ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ بعد الموت
469
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨)
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً﴾ أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه له وفيما يعدنا من البعث ﴿وَمَا نَحْنُ لَهُ بمؤمنين﴾ بمصدقين
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (٣٩)
﴿قَالَ رَبّ انصرنى بِمَا كَذَّبُونِ﴾ فأجاب الله دعاء الرسول بقوله
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (٤٠)
﴿قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ﴾ قليل صفة للزمان كقديم وحديث في قولك ما رأيته قديماً ولا حديثا وفى معناه عن قريب وما زائدة أو بمعنى شئ أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف ﴿لَّيُصْبِحُنَّ نادمين﴾ إذا عاينوا ما يحل بهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة﴾ أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم
المؤمنون (٤٩ - ٤١)
﴿بالحق﴾ بالعدل من الله يقال فلان يقضي بالحق أي بالعدل ﴿فجعلناهم غُثَاء﴾ شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلى واسودّ من الورق والعيدان ﴿فَبُعْداً﴾ فهلاكاً يقال بعد بعدا وأبعد هلك وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها ﴿لّلْقَوْمِ الظالمين﴾ بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو هيت لك
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (٤٢)
﴿ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين﴾ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣)
﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ﴾ من صلة أي ما تسبق أمة ﴿أَجَلُهَا﴾ المكتوب لها والوقت الذى حد لهلاكها وكتب ﴿وما يستأخرون﴾ لا يتأخرون عنه
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٤٤)
﴿ثم أرسلنا رسلنا تترا﴾ فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف تترى بالتنوين مكي وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للإلحاق كأرطى وهو نصب على الحال في القراءتين
469
أي متتابعين واحداً بعد واحد وتاؤها فيهما بدل من الواو والاصل وترى من الوتر وهو الفرد فقلبت الواو تاء كتراث ﴿كل ما جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما ﴿فَأَتْبَعْنَا﴾ الأمم والقرون ﴿بَعْضُهُم بَعْضاً﴾ في الهلاك ﴿وجعلناهم أَحَادِيثَ﴾ أخباراً يسمع بها ويتعجب منها والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبى عليه الصلاة والسلام وتكون جمعا للأحدوثة وهو ما يتحدث به الناس تليها وتعجباً وهو المراد هنا ﴿فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يؤمنون﴾
470
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٤٥)
﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون﴾ بدل من أخاه ﴿بأياتنا﴾ التسع ﴿وسلطان مُّبِينٍ﴾ وحجة ظاهرة
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (٤٦)
﴿إلى فرعون وملئه فاستكبروا﴾ امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعاً وتكبراً ﴿وَكَانُواْ قَوْماً عالين﴾ متكبرين مترفعين
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (٤٧)
﴿فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا﴾ البشر يكون واحد جميعا ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ﴿وَقَوْمُهُمَا﴾ أي بنو إسرائيل ﴿لَنَا عابدون﴾ خاضعون مطيعون وكل من دان الملك فهو عابد له عند العرب
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
﴿فكذبوهما فكانوا من المهلكين﴾ بالغرق
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩)
﴿ولقد آتينا موسى﴾ أى
المؤمنون (٥٤ - ٤٩)
قوم موسى ﴿الكتاب﴾ التوراة ﴿لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ يعملون بشرائعها ومواعظها
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
﴿وجعلنا ابن مريم وأمه آية﴾ تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة وحدلان الأعجوبة فيهما واحدة أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ﴿وآويناهما﴾ جعلنا
470
مأواهما أي منزلهما ﴿إلى رَبْوَةٍ﴾ شامي وعاصم ربوة غيرهما أى أرض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها ﴿ومعين﴾ ماء ظاهر جار على وجه الأرض أوانه مفعول أي مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه أو فعيل أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة
471
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)
﴿يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات﴾ هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوابه حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل في زمانه وكان يأكل من الغنائم أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والأمر للترفيه والإباحة ﴿واعملوا صالحا﴾ موافقاً للشريعة ﴿إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ فأجازيكم على أعمالكم
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢)
﴿وَإِنَّ هذه﴾ كوفي على الاستئناف وأن حجازي وبصرى بمعنى ولان اى فاتقون ى ن هذه أو معطوف على ما قبله أي بما تعملون عليهم وبأن هذه أو تقديره واعلموا أن هذه ﴿أُمَّتُكُمْ﴾ أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ملة واحدة وهي شريعة الاسلام وانتصاب أمة على الحال والمعنى وإن الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله إِنَّ الدّينَ عند الله الإسلام ﴿وَأَنَاْ رَبُّكُمْ﴾ وحدي ﴿فاتقون﴾ فخافوا عقابي في مخالفتكم أمرى
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
﴿فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ تقطع بمعنى قطع أي قطعوا أمر دينهم
471
﴿زُبُراً﴾ جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً وقيل تفرقوا في دينهم فرقاً كلٍ فرقة تنتحل كتاباً وعن الحسن قطعوا كتاب الله قطعاً وحرفوه وقرئ زَبرا جمع زبرة أي قطعاً ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم ﴿بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي ﴿فَرِحُونَ﴾ مسرورون معتقدون أنهم على الحق
472
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤)
﴿فذرهم في غمرتهم﴾
المؤمنون (٦٣ - ٥٤)
جهالتهم وغفلتهم ﴿حتى حِينٍ﴾ أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ﴾ ما بمعنى الذي وخبر أن
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦)
﴿نسارع لهم في الخيرات﴾ والعائد من خبران إلى اسمها محذوف أي نسارع لهم به والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون إن الله لا فعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح ﴿بَل لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ بل استدراك لقوله أيحسبون أى أنهم أشباه البهائم لاشعور لهم حتى يتأملوا في ذلك أنه استدراج أو مسارعة في الخير
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧)
ثم بين ذكر أوليائه فقال ﴿إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ﴾ أي خائفون
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
﴿والذين هم بآيات رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ أي بكتب الله كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (٥٩)
﴿والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ كمشركي العرب
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)
﴿والذين يؤتون ما آتوا﴾ أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقرئ يؤتون ما أتوا بالقصر أي يفعلون ما فعلوا ﴿وقلوبهم وجلة﴾ خائفة أن لا تقبل منهم لتقصيرهم ﴿أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون﴾ الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبر ان الذين
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (٦١)
﴿أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات﴾ يرغبون في الطاعات فيبادرونها ﴿وَهُمْ لَهَا سابقون﴾ أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)
﴿وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ﴾ أي اللوح أو صحيفة الأعمال ﴿يَنطِقُ بالحق وهم لا يظلمون﴾ لا يقرءون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان ولا يظلم منهم أحد بزيارة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف مالا وسع له به
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)
﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا﴾ بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين ﴿وَلَهُمْ أعمال مّن دُونِ ذلك﴾ أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة
المؤمنون (٧١ - ٦٣)
متخطية لذلك أي لما وصف به المؤمنون ﴿هم لها عاملون﴾ وعليها مقيمون لايفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)
﴿حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ﴾ متنعميهم ﴿بالعذاب﴾ عذاب الدنيا وهوالقحط سبع سنين حين دعا عليهم النبى عليه الصلاة والسلام أو قتلهم يوم بدر وحتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية ﴿إذا هم يجأرون﴾ يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (٦٥)
﴿لا تجأروا اليوم﴾ فإن الجؤار غير نافع لكم ﴿إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ﴾ أي من جهتنا لا يلحقكم نصرا ومعونة
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
﴿قد كانت آياتي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي القرآن ﴿فَكُنتُمْ على أعقابكم تَنكِصُونَ﴾ ترجعون القهقرى والنكوص أن يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراءه
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (٦٧)
﴿مُسْتَكْبِرِينَ﴾ متكبرين على المسلمين حال من تنكصون ﴿به﴾ بالبيت أوبالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو بآياتى لأنها في معنى كتابي ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكباراً ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدى تعديته أو يتعلق الياء بقوله ﴿سامرا﴾ تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعراً وسحراً والسامر نحو الحاضر فى الإطلاق على الجمع وقرئ سمّارا أو بقوله ﴿تَهْجُرُونَ﴾ وهو من الهجر الهذيان تهجرون نافع من أهجر في منطقه إذا أفحش
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول﴾ أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به ‍‍ ﴿أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين﴾ بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستبدعوه
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ﴾ محمداً بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أي عرفوه بهذه الصفات ﴿فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ بغياً وحسدا
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٠)
﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ﴾ جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم
474
عقلاً وأثقبهم ذهناً ﴿بَلْ جَاءهُمْ بالحق﴾ الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والإسلام ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً فلذلك نسبوه إلى الجنون ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كارهون﴾ وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبي طالب
475
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
﴿ولو اتبع الحق﴾ أى الله ﴿أهواءهم﴾ فيما يعتقدون من الآلهة ﴿لفسدت السماوات﴾
المؤمنون (٧٧ - ٧١)
﴿والأرض﴾ كما قال لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إلا الله لفسدتا ﴿وَمَن فِيهِنَّ﴾ خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع ﴿بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ﴾ بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين الآية ﴿فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ﴾ بسوء اختيارهم
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ﴾ حجازي وبصرى وعاصم خرجا فخرج على وحمزة شامى خراجا فخراج وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله والخرج أخص من الخراج تقول خراج القرية وخرج الكوفة فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت القراءة الأولى يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير من ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ أفضل المعطين
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)
﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ وهو دين الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (٧٤)
﴿وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لناكبون﴾ لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
﴿وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ﴾ لما أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فقال له أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال بلى فقال قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو القحط الذي أصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب ﴿لَّلَجُّواْ﴾ أي لتمادوا ﴿فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ﴾ يترددون يعني لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله ﷺ والمؤمنين ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
﴿ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا﴾ استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل استحال إذا انتقل من حال إلى حال
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
﴿حتى إِذَا فَتَحْنَا﴾ فتّحنا يزيد ﴿عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أي باب
476
الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل ﴿إِذَا هُمْ فيه مبلسون﴾ متحيرون آيسون
المؤمنون (٨٧ - ٧٨)
من كل خير وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يبلس المجرمون
477
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٧٨)
﴿وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ خصها بالذكر لأنها تتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي تشكرون شكرا قليلا وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً والمعنى إنكم لم تعرفوا عظيم هذه النعم ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشكروا له شيئا
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
﴿وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ﴾ خلقكم وبثكم بالتناسل ﴿فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٨٠)
﴿وهو الذي يحيي وَيُمِيتُ﴾ أي يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء ﴿وله اختلاف الليل والنهار﴾ أى مجئ أحدهما عقيب الآخر واختلافهما في الظلمة والنور أو في الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)
﴿بَلْ قَالُواْ﴾ أي أهل مكة ﴿مِثْلَ مَا قَالَ الأولون﴾ أي الكفار قبلهم ثم بين ما قالوا بقوله
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
﴿قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لَمَبْعُوثُونَ﴾ متنا نافع وحمزة وعلي وحفص
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣)
﴿لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا﴾ أى البعث ﴿من قبل﴾ مجئ محمد ﴿إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين﴾ جمع أسطار جمع سطر وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطور أوفق
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤)
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله ﴿قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فإنهم
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥)
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا ﴿قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادراً على إعادة الخلق وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية أفلا تذكرون بالتخفيف حمزة وعلي وحفص وبالتشديد غيرهم
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧)
﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أفلا تخافونه فلا تشركوا به أو أفلا تتقون فى جحودكم
المؤمنون (٩٤ - ٨٨)
قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨)
﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء﴾ الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبئ عن عظم الملك ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ﴾ تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته والخادع هو الشيطان والهوى الأول لله بالإجماع إذ السؤال لمن وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت من رب هذا فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعرة... إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قيل لخاد...
أي لمن المزالف ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت من رب هذا فجوابه فلان
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (٩٠)
﴿بَلْ أتيناهم بالحق﴾ بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل ﴿وَإِنَّهُمْ لكاذبون﴾ في قولهم اتخذ الله ولداً ودعائهم الشريك ثم أكد كذبهم بقوله
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١)
﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل من جنسه ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله﴾ وليس معه شريك في الألوهية ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ﴾ لانفرد كل واحد من الآلهة بالذى خلقه فاستبد به ولتميز ملك كل واحد منهم عن الآخر ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا مما لكهم متمايزة وهم متغالبون وحين لم تروا أثراً لتمايز الممالك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شئ ولا يقال إذاً لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة لدلالة وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن حآجه من المشركين ﴿سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من الأنداد والأولاد
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
﴿عالم﴾ بالجر صفة لله وبالرفع مدني وكوفي غير حفص خبر
479
مبتدأ محذوف ﴿الغيب والشهادة﴾ السر والعلانية ﴿فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ من الأصنام وغيرها
480
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣)
﴿قل رب إما تريني ما يوعدون﴾ اما والنون مؤكدان أى إن كان لابد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)
﴿رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين﴾ أي فلا تجلعنى قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم عن الحسن رضى الله عنه أخبره الله
المؤمنون (١٠٠ - ٩٥)
﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون﴾
أن له في أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها فأمر أن يدعو هذا الدعاء ويجوز أن يسأل النبى المعصوم ﷺ ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذ قام من مجلسه سبعين مرة لذلك والفاء فى فلا لجواب الشرط ورب اعتراض بينهما للتأكيد
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)
﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لقادرون﴾ كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦)
﴿ادفع بالتى﴾ بالخصلة التي ﴿هِىَ أَحْسَنُ السيئة﴾ هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفصيل كأنه قال ادفع بالحسنة السيئة والمعنى أصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان وعن ابن عباس رضى الله عنهما هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة وقيل هي منسوخة بآية السيف وقيل محكمة إذ المداراة محثوث عليها مالم تؤد إلى ثلم دين ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧)
﴿وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ من وساوسهم ونخساتهم والهمزة النخس والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض والمعنى أن
480
الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب حثالها على المشى
481
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)
﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلاً أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩)
﴿حتى إذا جاء أحدهم الموت﴾ حتى يتعلق بيصفون أى لا يزالون يشركون إلى وقت مجئ الموت أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ﴿قَالَ رَبّ ارجعون﴾ أي ردوني إلى الدنيا خاطب الله بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
﴿لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ في الموضع الذي تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى قال قتادة ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط لعلي ساكنة الياء كوفي وسهل ويعقوب ﴿كَلاَّ﴾ ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ﴾ المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ﴿هُوَ قَائِلُهَا﴾ لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه ﴿وَمِن وَرَائِهِمْ﴾ أي أمامهم والضمير للجماعة ﴿برزخ﴾ حائل بينهم وبين
المؤمنون (١٠٨ - ١٠٠)
الرجوع إلى الدنيا ﴿إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور﴾ قيل إنها النفخة الثانية ﴿فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ وبالإدغام أبو عمر ولا جتماع المثلين وإن كانا من كلمتين يعني يقع التقاطع بينهم حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين ولا يكون التواصل بينهم بالأنساب إذ يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وإنما يكون بالأعمال ﴿وَلاَ يَتَسَاءلُونَ﴾ سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا لأن كلاً مشغول عن سؤال صاحبه بحاله ولا تناقض بين هذا وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتساءلون فللقيامة مواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون وفي موطن يفيقون فيتساءلون
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)
﴿فَمَن ثَقُلَتْ موازينه﴾ جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عندالله تعالى من قوله فلا نقيم لها يوم القيامة وزنا ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون﴾
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣)
﴿وَمَنْ خَفَّتْ موازينه﴾ بالسيئات والمراد الكفار ﴿فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾ غبنوها ﴿فِى جَهَنَّمَ خالدون﴾ يدل من خسروا أنفسهم ومحل للبدل والمبدل منه لأنه الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤)
﴿تَلْفَحُ﴾ أي تحرق ﴿وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كالحون﴾ عابسون فيقال لهم
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
﴿ألم تكن آياتي﴾ أي القرآن ﴿تتلى عَلَيْكُمْ﴾ في الدنيا ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ﴾ وتزعمون أنها ليست من الله تعالى
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦)
﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا﴾ ملكتنا ﴿شِقْوَتُنَا﴾ شقاوتنا حمزة وعلي وكلاهما مصدر أي شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها وقول أهل التأويل
482
غلب علينا ما كتب علينا من الشقاوة لا يصح لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره ولا يكتب غير الذي علم أنه يختاره فلا يكون مغلوباً ومضطرا فى في الفعل وهذا لأنهم إنما يقولون ذلك القول اعتذاراً لما كان منهم من التفريط في أمره فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذراً فيما كان منهم ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ﴾ عن الحق والصواب
483
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧)
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي من النار ﴿فَإِنْ عُدْنَا﴾ إلى الكفر والتكذيب ﴿فَإِنَّا ظالمون﴾ لأنفسنا
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)
﴿قال اخسؤوا فِيهَا﴾ اسكتوا سكوت ذلة وهوان ﴿وَلاَ تُكَلّمُونِ﴾
المؤمنون (١١٥ - ١٠٨)
في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم ولا كلام بعد ذلك إلاالشهيق والزفير أن يحضروني ارجعوني ولا تكلموني بالياء في الوصل والوقف يعقوب وغيره بلا ياء
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
﴿إِنَّهُ﴾ إن الأمر والشأن! ‍ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين}
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ مفعول ثان وبالضم مدني وحمزة وعلي وكلاهما مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسبة مبالغة قيل هم الصحابة رضى الله عنهم وقيل أهل الصفة خاصة ومعناه اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين ﴿حتى أَنسَوْكُمْ﴾ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ﴿ذِكْرِى﴾ فتركتموه أي كان التشاغل بهم سبباً لنسيانكم ذكري ﴿وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ استهزاء بهم
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)
﴿إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صَبَرُواْ﴾ بصبرهم ﴿أَنَّهُمْ﴾ أي لأنهم ﴿هُمُ الفائزون﴾ ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً أي جزيتهم اليوم فوزهم لأن جزى يتعدى إلى اثنين وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جنة إنهم حمزة
483
وعلي على الاستئناف أي إنهم هم الفائزون لا أنتم
484
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢)
﴿قال﴾ أى الله أو والمأمور بسؤالهم من الملائكة قل مكي وحمزة وعلي أمر لمالك أن يسألهم ﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض﴾ فى الدنيا ﴿عدد السنين﴾ أي كم عدد سنين لبثتم فكم نصب بلبثتم وعدد تمييز
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)
﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا بالاضافى إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ﴿فَاسْأَلِ العادين﴾ أي الحساب أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم فسل بلا همز مكي وعلي
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
﴿قال إن لبثتم إلا قليلا﴾ أى مالبثتم فى الدنيا وبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها قل إن حمزة وعلى
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً﴾ حال أي عابثين أو مفعول له أي للعبث ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا ترجعون﴾ بفتح التاء وكسر الجيم حمزة وعلى يعقوب وهو معطوف على أَنَّمَا خلقناكم أو على عبثاً أي للعبث ولنترككم غير مرجوعين بل خلقناكم للتكليف ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فنثيب المحسن ونعاقب المسيء
المؤمنون (١١٨ - ١١٦)
‍‍‍
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
﴿فتعالى الله﴾ عن أن يخلق عبثاً ﴿الملك الحق﴾ الذي يحق له الملك لأن كل شئ منه وإليه أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم﴾ وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين وقرئ شاذاً برفع الكريم صفة للرب تعالى
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (١١٧)
﴿ومن يدع مع الله إلها آخر لاَ بُرْهَانَ﴾ أي لا حجة ﴿لَهُ بِهِ﴾ اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان منه فإن الله مثيبه أو صفة لازمة جئ بها للتوكيد كقوله يطير بجناحيه لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ﴾ أي جزاؤه وهذا جزاء الشرط ﴿عِندَ رَبّهِ﴾ أي فهو يجازيه لا محالة ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ جعل فاتحة السورة قد أفلح المؤمنون وخاتمتها إنه لا يفلح الكافرون فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
﴿وَقُل رَّبّ اغفر وارحم﴾ ثم قال ﴿وَأَنتَ خير الراحمين﴾ لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته
485
سورة النور مدينة وهي ستون وأربع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

486
Icon