تفسير سورة النساء

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة النساء من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

وعلى هذه الجملة يدل اسمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)
الناس اسم جنس، والاشتقاق فيه غير قوى. وقيل سمى الإنس إنسا لظهوره «١» فعلى هذه الإشارة: يا من ظهرتم عن كتم العدم بحكم تكليفى، ثم خصصت من شئت منكم بتشريفى، وحرمت من شئت منكم هدايتى وتعريفى. ونقلتكم إلى ما شئت بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفى.
ويقال لم أظهر من العدم أمثالكم، ولم أظهر على أحد ما أظهرت عليكم من أحوالكم.
ويقال سمّيت إنسانا لنسيانك، فإن نسيتنى فلا شىء أخسّ «٢» منك، وإن نسيت ذكرى فلا أحد أحطّ «٣» منك.
ويقال من نسى الحق فلا غاية لمحنته، ومن نسى الخلق فلا نهاية لعلوّ حالته.
ويقال يقول للمذنبين: يا من أنسيت عهدى، ورفضت ودى، وتجاوزت حدّى حان لك أن ترجع إلى بابى، لتستحقّ لطفى وإيجابى. ويقول للعارفين، يا من نسيت فينا حظّك، وصت عن غيرنا لحظك ولفظك- لقد عظم علينا حقّك، ووجب لدينا نصرك «٤»، وجلّ عندنا قدرك..
(١) حتى يقابل (الجن) لاختفائه. ربما كان قصد القشيري إلى ذلك.
(٢) وردت (أخص) بالصاد، وربما نقبلها على أساس أن الله يعاتب عبده: إن نسيتنى فأنت رغم ذلك (أخص الكائنات بمحبتى).
(٣) وردت (أحض) بالضاد وربما كانت أحصن.
(٤) وجب واستوجب والإيجاب عند القشيري ترد بمعنى الاستحقاق، وعلينا أن نتأمل الدقة فى استعمال (لدينا) ولم يقل (علينا) فلا وجوب على الله- بخلاف المعتزلة.
311
ويقال يا من أنست «١» بنسيم قربى، واستروحت إلى شهود وجهى، واعتززت بجلال قدرى- فأنت أجلّ عبادى عندى.
قوله: «اتَّقُوا رَبَّكُمُ» : التقوى جماع الطاعات، وأوله ترك الشّرك وآخره اتقاء كل غير، وأول الأغيار لك نفسك، ومن اتّقى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال، و (وقف) لله... لا لشهود حظّ فى الدنيا والعقبى.
قوله: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» : وهو آدم عليه السّلام، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضا كذلك، لمّا ظهرت مزية آدم عليه السّلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفنا، قال تعالى: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ».
ولفظ «النفس» للعموم والعموم يوجب الاستغراق.
قوله: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» : حكم الحقّ- سبحانه- بمساكنة الخلق مع الخلق لبقاء النسل، ولردّ المثل إلى المثل فربط الشكل بالشكل.
قوله: «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» : تعرّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة حيث خلق جميع هذا الخلق من نسل شخص واحد، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكل وجه فى الصورة والخلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.
ثم قال: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» تكرير الأمر بالتقوى يدلّ على تأكيد حكمه.
وقوله: «تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» : أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فمن قطع الرحم قطع، ومن وصلها وصل.
«إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» : مطلعا شهيدا، يعد عليك أنفاسك، ويرى حواسك، وهو متوّل خطراتك، ومنشىء حركاتك وسكناتك. ومن علم أنه رقيب عليه فبالحرى أن يستحيى منه.
(١) لاحظ كيف يربط القشيري بين الناس (والأنس) بعد أن ربطها (بالإنس) فمدار الكلام كله على لفظة (الناس) التي وردت فى الآية الكريمة.
312
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
من أقيم بمحلّ الرعاية فجاء على رعيّته فخصمه ربّه فإنه- سبحانه- ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فولىّ اليتيم إن أنصف وأحسن فحقّه على الله، وإن أساء وتعدّى فخصمه الله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع فى حالة واحدة، وأوجب العدل بينهن، فيجب على العبد أن يراعى الواجب فإن علم أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المباح، وإن علم أنه يقصّر فى الواجب فلا يتعرّض لهذا المباح، فإنّ الواجب مسئول عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
دلّ هذا على أن طعام الفتيان «١» والأسخياء مرىء لأنهم لا يطعمون إلا عن طيب نفس، وطعام البخلاء ردىء «٢» لأنهم يرون أنفسهم، وإنما يطعمون عن تكلّف لا عن طيب نفس.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «طعام السخىّ دواء وطعام البخيل داء».
(١) الفتيان جمع فتى. والفتوة أصل من أصول الصوفية عماده الإيثار والبذل والصفح والعفو، والأنفة عما فى الكونين إلى غير ذلك من محاسن السلوك التي ينبغى للنفس أن ترتاضها، وأن تتحلى بها حتى يتهيأ العبد لما هو أجل وأعظم، وأن يكون إيثاره لله وبذله لله وروحه لله، لأن من يؤمر بالتزام ذلك بالنسية للمخلوق لا يضن بأضعافه بالنسبة إلى الحق.
(٢) مشتبهة ولكنها أقرب ما تكون إلى (ردىء) وقد وضعناها مع التحفظ، والمعنى بتقبلها. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
السّفيه من يمنعك عن الحقّ، ويشغلك عن الربّ.
والسّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظهم على حقوق الله تعالى.
قوله: «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» : حفظ التجمل فى الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيرا من الإمساك عند تحرّر القلب والثقة بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كلّا على الناس فحفظك ما جعله الله كفاية لنفسك أولى، ثم الجود بفاضل كفايتك.
قوله: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» : إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويفضل «١» فلا تدّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشية فقر فى الغد، فإن ضاقت يدك عن الإنفاق فلا يتّسعنّ «٢» لسانك بالقبيح من المقال.
ويقال إذا دعتك نفسك إلى الإنفاق فى الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تطع نفسك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦).
(١) يفضل وفاضل هنا بمعنى يزيد وزيادة.
(٢) لاحظ المقابلة الجميلة فى تعبير القشيري بين (ضاقت يدك) و (يتسع لسانك)
إيناس الرشد العفة والديانة، والسخاء والصيانة، وصحبة الشيوخ، والحرص على مشاهدة الخير، وأداء العبادات على قضية الأمر.
ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربّه، وعند ما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتّكل على حوله وقوّته، وتدبيره واختياره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب فلو مات رجل وخلف ابنين تساويا فى الاستحقاق وإن كان أحدهما برا تقيا والآخر فاجرا عصيّا، فلا للتقى زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّة من قبل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطية للمسلمين:
قال الله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا»، ثم قال: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ... » الآية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان «١» والمستحقون، وحضر من لا نصيب لهم فى الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحق مولّى عليه، فعدوهم وعدا جميلا وقولوا: «إذا بلغ الصبى قلنا له حتى يعطيك شيئا» وهذا معنى قوله: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً». وفى هذا إشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غدا، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران
(١) السهمان ج سهم.
إن شاء الله بعد ما كانوا من أهل الإيمان، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضرا، ولا لك استحقاق سابق فبفضله ما أهّلك لمعرفته مع علمه بما يحصل منك فى مستأنف أحوالك من زلتك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
بيّن فى هذه الآية أن الذي ينبغى للمسلم أن يدخره لعياله «١» التقوى والصلاح لا المال لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ» فانه يتولى الصالحين.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
إنما تولّى الحق سبحانه خصمية اليتيم، لأنه لا أحد لليتيم غيره، وكلّ من وكل أمره إليه فتبرّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١).
(١) وردت (العبارة) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) هذه إشارة موجهة إلى الأولياء، فهم لا سند لهم من جاء أو سلطان أو مخلوق فإذا تعرضوا للأذى تولى الله عنهم خصومة المؤذى.
الوصية هاهنا بمعنى الأمر، فانه سبحانه جعل الميراث بين الورثة مستحقا بوجهين:
١- الفرض ٢- التعصيب، والتعصيب أقوى من الفرض لأن العصبة قد تستغرق جميع المال أما أكثر الفروض فلا يزيد على الثلثين، ثم إن القسمة تبدأ بأصحاب الفروض وهم أضعف استحقاقا، ثم العصبة وهم أقوى استحقاقا. قال صلّى الله عليه وسلّم:
«ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر» «١» كذلك أبدا سنته، كما فى قوله تعالى:
«ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» أعطاهم الكتاب بلفظ الميراث ثم قدّم الظالم على السابق، وهو أضعف استحقاقا إظهارا للكرم مع الظالم لأنه منكسر القلب ولا يحتمل وقته طول المدافعة.
وقوله «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ». لو كان الأمر بالقياس لكانت الأنثى بالتفضيل أولى لضعفها، ولعجزها عن الحراك، ولكنّ حكمه- سبحانه- غير معلّل «٢».
قوله جل ذكره: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
الأبناء ينفعونكم بالخدمة، والآباء بالرحمة الآباء فى حال ضعفك فى بداية عمرك، والأبناء فى حال ضعفك فى نهاية عمرك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
(١) صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٦٩ «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر»
(٢) تحتاج هذه العبارة إلى بعض توضيح. وربما كان أفضل تحديد لها ما يذكره ذو النون المصري:
«علة كل شىء صنعه، ولا علة لصنعه» ثم ما يوضحه أبو نصر السراج فى اللمع حيث يقول: «معنى هذا القول- والله أعلم- أن وجود النقصان فى كل شىء مصنوع كائن، لأنه لم يكن فكان، وليس فى صنع الصانع لمصنوعاته علة، وقال بعضهم:
يا شقامى من السّقا... م وإن كنت علّتى (اللمع ص ٤٤٠)
الإشارة فى ثبوت الميراث للأقربين من الورثة بالنّسب والسبب أنّ الميت إذا مات تحمّل القريب أحزانه فعوّض الله الوارث على ما يقاسيه ويخامر قلبه من التوجّع مال الموروث..
وكذا سنّته- سبحانه- التعويض على مقاساة الأذى- جودا منه لا وجوبا عليه «١» - كما توهّم قوم. وكلّ من كان أقرب نسبا أو أقوى سببا من الميت كان أكثر استحقاقا لميراثه، وفى معناه أنشدوا:
وما بات مطويا على أريحية (..........) عقب النوى موت الفتى ظل مغرما «٢»
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
(١) يلح القشيري دائما فى نفى كل وجوب على الله، كما لاحظنا ذلك فى مواضع شتى بينما لا يمنع المعتزلة من وجوب المثوبة للمطيع- عليه، ووجوب العقوبة للعاصى- عليه.
(٢) توجد فى البيت كلمات فارسية (آنگه شاد شود در عطاء ادن) أصبح حينئذ مسرورا بالعطاء. ومعنى البيت غير واضح.
حدوده: أوامره ونواهيه، وما تعبّد به عباده.
وأصل العبودية حفظ الحدود، وصون العهود، ومن حفظ حدّه لم يصبه مكروه ولا آفة، وأصل كلّ بلاء مجاوزة الحدود.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
وإنما هما عقوبتان: معجلة ومؤجلة، ويقترن بهما جميعا الذّلّ فلو اجتهد الخلائق على إذلال المعاصي بمثل الذل الذي يلحقهم بارتكاب المعصية لم يقدموا «١» عليها: لذلك قال قائلهم:
من بات «٢» مسلما «٣» بذنب أصبح وعليه مذلته، فقلت ومن أصبح مبرّا ببر ظلّ وعليه مهابته.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
إنما اعتبر فى ثبوت الفاحشة- التي هى الزنا- زيادة الشهود إسبالا لستر الكرم
(١) وردت (لم يقدروا) والملائم للمعنى أن تكون (لم يقدموا) مما يرجح أن الناسخ قد أخطا.
(٢) وردت (من مات) والسياق يقتضى (بات)، (وأصبح)، وظلّ..
(٣) وردت (مسلما) وهى خطأ من الناسخ.
على إجرام العباد، فإنّ إقامة الشهود- على الوجه الذي فى الشرع لإثبات تلك الحالة- كالمتعذّر «١».
وفى قوله- صلّى الله عليه وسلّم- لما عز لما قال له: يا رسول الله- صلوات الله عليك- إنّى زنيت فطهّرنى. فقال: لعلّك قبّلت.. ثم قال فى بعض المرات: «استنكهوه» «٢».
ففى هذا أقوى دليل لما ذكرت من إسباله الستر على الأعمال القبيحة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
الأمر بفنون العقوبات لهم على فعل ذلك أبلغ «٣» شىء فى الردع والمنع منه بالرفع، لعلّ العبد يحذر ذلك فلا يستحق التعذيب الأعظم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)
. «٤»
لا استغفار مع الإصرار «٥» فإن التوبة مع غير إقلاع سمه الكذّابين.
وقوله: «السُّوءَ بِجَهالَةٍ» : يعنى عمل عمل الجهّال.
(١) يدل هذا الرأى- فى نظرنا- أولا على فهم صائب لما وراء الحدود الشرعية من مرام بعيدة، ويدل ثانيا على سعة صدر الصوفية فى الصفح عن أرباب الخطايا، وستر معايب الخلائق، ولقد أحسن الحسن البصري حين قال: النصيحة على الملأ فضيحة.
(٢) وفى صحيح البخاري ج ٨ ص ٢٩٨ عن ابن عباس: لما أنى ماعز بن مالك النبي (ص) قال له لعلك قبلت او غمزت أو نظرت... إلخ قال نعم فعند ذلك أمر يرجمه (ومعنى استنكهوه: أي ابحثوا فى فمه عن نكهة الخمر فربما يكون ثملا). [.....]
(٣) وردت (بلغ) وهى خطأ فى النسخ.
(٤) أخطأ الناسخ فى كتابة الآية فجاءت (من قريبة)، (السوء بحجالة).
(٥) أخطأ الناسخ فكتبها (الاسرار) بالسين والمعني يرفضها.
وذنب كل أحد يليق بحاله، فالخواص ذنوبهم حسبانهم أنهم بطاعاتهم يستوجبون محلا وكرامة، وهذا وهن فى المكانة إذ لا وسيلة إليه إلا به.
قوله «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» : على لسان أهل العلم: قبل الموت، وعلى لسان المعاملة:
قبل أن تتعود النفس ذلك فيصير لها عادة، قال قائلهم:
قلت للنّفس إن أردت رجوعا فارجعى قبل أن يسدّ الطريق
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٨]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
يعنى إذا كشف الغطاء وصارت المعارف ضروريه «١» أغلق باب التوبة فإن من شرط التكليف أن يكون الإيمان غيبيا. ثم إن فى هذه الطريقة إذا عرف بالخيانة لا يشم بعده حقيقة الصدق. قال داوود- عليه السّلام- فى آخر بكائه لما قال الله تعالى لم تبكى يا داوود، وقد غفرت لك وأرضيت خصمك «٢» وقبلت توبتك؟
فقال: إلهى، الوقت الذي كان بي ردّه إلىّ فقال: هيهات يا داوود، ذاك ودّ قد مصى!! وفى معناه أنشدوا:
فخلّ سبيل العين بعدك للبكا فليس لأيام الصفاء رجوع
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
(١) المعرفة الضرورية- عند القشيري- هى التي تنال فى الانتهاء أما فى الابتداء فهى معرفة كسبية والأولى تشبه الشمس والثانية تشبه السراج، فإذا طلعت الشمس انبسط شعاعها على السراج (الرسالة ص ١٤٩).
(٢) وردت (حضك) ولكن الإرضاء حسبما نعلم من قصة داود كان لخصمه، لذلك رجحنا أن تكون (خصمك) فإرضاء الخصم ملائم لقبول التوبة والغفران.
التلبيس على المستضعفين، والتدليس على أهل السلامة والوداعة من المسلمين- غير محمودين عند الله. فمن تعاط ذلك انتقم الله منه، ولم يبارك له فيما يختزل من أموال الناس بالباطل والاحتيال. ومن استصغر خصمه فى الله فأهون ما يعاقبه الله به أن يحرمه الوصول إلى ما يأمل من محبوبه.
وقوله: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» : أي بتعاليم الدين والتأدب بأخلاق المسلمين وحسن الصحبة على كراهة النفس، وأن تحتمل أذاهن ولا تحملهن كلف خدمتك، وتتعامى عن مواضع خجلتهن.
قوله:
«فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً » كل ما كان على نفسك أشقّ كانت عاقبته أهنأ وأمرأ.
واعلم أن الحقّ سبحانه لم يطلع أحدا على غيبه، فأكثر ما يعافه الإنسان قد تكون الخيرة فيه أتم. وقد حكم الله- سبحانه- بأن مخالفة النفس توصل صاحبها إلى أعلى المنازل، وبعكس ذلك موافقتها، كما أن مخالفة القلوب توجب عمى البصيرة، وبعكس ذلك موافقتها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
يعلمهم حسن العهد ونعت الكرم فى العشرة، فيقول لا تجمع الفرقة واسترداد المال عليها، فإن ذلك ترك الكرم فإن خوّلت واحدة مالا كثيرا ثم جفوتها بالفراق فما آتيتها يسير فى جنب ما أذقتها من الفراق.
قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ... : يعنى أن للصحبة السالفة حرمة أكيدة، فقفوا عند مراعاة الذمام، وأوفوا بموجب الميثاق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
تشير الآية إلى حفظ الذمام، والوقوف على حد الاحترام، فإن السّجيّة تتداخلها الأنفة من أن ينكح فراشه غيره، فنهى الأبناء عن تخطى حقوق الآباء فى استفراش منكوحة الأب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
تكلّف انتزاع المعاني التي لأجلها حصل هذا التحريم محال من الأمر لأن الشرع غير معلّل «١»، بل الحق تعالى حرّم ما شاء على من شاء، وكذلك الإباحة، ولا علّة للشرائع بحال، ولو كانت المحرّمات من هؤلاء محلّلات [محرمات] «٢» لكان ذلك سائغا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
إذا حافظت الحدود، وراعيت العهود، وحصل التراضي بين النساء بحكم الشرع فما لا يكون فيه للخلق خصيمة، ولا من الحق سبحانه منه تبعة، فذلك مباح طلق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٥]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
(١) نظن أن هذه النظرة التي يأخذ بها القشيري أمور التشريع قابلة للمناقشة.
(٢) هذه كلمة زائدة ولم ينبه الناسخ إلى زيادتها، وربما كانت فى الأصل: «والمحللات محرمات» وحدث سقوط.
الرخص جعلت للمستضعفين، فأما الأقوياء فأمرهم الجدّ، والأخذ بالاحتياط والتضييق إذ لا شغل لهم سوى القيام بحق الحق، فإن كان أمر الظاهر يشغلهم عن مراعاة القلوب فالآخذ فى الأمور الظاهرة بالسهولة والأخف أولى من الاستقصاء فيما يمنع من مراعاة السر، لأنه ترك بعض الأمور لما هو الأهم والأجلّ، فمن نزلت درجته عن الأخذ بالأوثق والأحوط فمباح له الانحدار إلى وصف الترخص «١».
ثم قال فى آخر الآية: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» : يعنى على مقاساة ما فيه الشدة، وفى هذا نوع استمالة للعبيد حيث لم يقل اصبروا بل قال: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٦]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
لما عرّف النبي- صلّى الله عليه وسلّم- وأمّته أخبار من مضى من الأمم، وما عملوا، وما عاملهم به انتظروا ما الذي يفعل بهم فإن فيهم أيضا من ارتكب ما لا يجوز، فقالوا:
ليت شعرنا بأيّ نوع يعاملنا أبا لخسف أو بالمسخ أو بالعذاب أو بماذا؟
فقال تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» نعرّفكم ما الذي عملنا بهم.
(١) القاعدة «أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه» ولكن القشيري يرى بالنسبة لأرباب الأحوال أن (الرخصة فى الشريعة للمستضعفين واصحاب الحوائج والأشغال، وهؤلاء الطائفة (الصوفية) ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه، ولهذا قيل إذا انحطّ الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده مع الله تعالى، ونقض عهده فيما بينه وبينه سبحانه) الرسالة ص ١٩٩.
«وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أمّا أنتم فأتوب عليكم، أمّا من تقدّم فلقد دمّرت عليهم.
ويقال «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» : أي يكاشفكم بأسراره فيظهر لكم ما خفى على غيركم.
ويقال يريد الله ليبيّن لكم انفراده- سبحانه- بالإيجاد والإبداع، وأنه ليس لأحد شىء.
«وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» طريقة الأنبياء والأولياء وهو التفويض والرضاء، والاستسلام للحكم والقضاء.
وقيل «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» أي يتقبّل توبتكم بعد ما خلق توبتكم، ثم يثيبكم على ما خلق لكم من توبتكم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
عزل بهذا الحديث حديث الأولين والآخرين.
ومن أراد الله توبته فلا يشمت به عدوّا، ولا يناله فى الدارين سوء.
«وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ... » : إرادتهم منكوسة، وهى عند إرادة الحق- سبحانه- ضائعة مردودة.
ويُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ: يعنى ثقل الأوزار بمواترة الأوراد إلى قلوبكم، ويقال يريد الله أن يخفف عنكم مقاساة المجاهدات بما يلج لقلوبكم من أنوار المشاهدات.
ويقال يريد الله أن يخفف عنكم أتعاب الخدمة بحلاوة الطاعات.
ويقال يخفف عنكم كلف الأمانة بحملها عنكم.
(١) واضح من هذا الكلام أن الفضل كله لله هو الذي يخلق توبة العبد وهو الذي يثيبه على توبته، وقد ربطنا بين هذا وبين ما ذكره القشيري عند (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) التي جاء ذكرها فيما سبق (من هذا الكتاب ص ٢١٦)
ويقال يخفف عنكم أتعاب الطلب بروح الوصول.
«وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» : وصف بهذا فقرهم وضرّهم، و (... ) «١» بها عذرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
كل نفقة كانت لغير الله فهى أكل مال بالباطل.
ويقال القبض إذا كان على غفلة، والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة «٢»، فكل ذلك باطل، «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» : يعنى بارتكاب الذنوب، ويقال تعريضها لمساخطته سبحانه.
ويقال بنظركم إليها وملاحظتكم إياها.
ويقال باستحسانكم شيئا منها بإيثارها دون رضاء الحق.
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فإنّا لا نخليه من عقوبة شديدة، وهو أن نكلها إلى صاحبها، ونلقى حبلها على غاربها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
الكبائر- على لسان العلم- هاهنا الشّرك بالله، وعلى بيان الإشارة أيضا الشّرك
(١) مشتبهة.
(٢) والبذل إذا لم يكن بمشهد الحقيقة، أي لو كان ما تبذله وأنت تشهد نفسك دون أن تشهد الحق، فهو عمل ضائع، لأنك حينئذ ستحسب قدرا لنفسك.
الخفىّ. ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق، واستحلاء قبولهم، والتودد إليهم، والإغماض على حق الله بسببهم «١».
ويقال إذا سلم العهد فما حصل من مجاوزة «٢» الحد فهو بعيد عن التكفير.
ويقال أكبر الكبائر إثباتك نفسك فإذا شاهدت نفيها «٣» تخلّصت «٤» من أسر المحن. «وَنُدْخِلْكُمْ» فى أموركم «مُدْخَلًا كَرِيماً» إدخالا حسنا لا ترون منكم دخولكم ولا خروجكم وإنما ترون المصرّف لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
لسان المعاملة أن الأمر بالتعنى لا بالتمني، ولسان التوحيد أن الأمر بالحكم والقضاء لا بالإرادة والمنى. ويقال اسلكوا سبيل من تقدّمكم فى قيامكم بحق الله، ولا تتعرضوا لنيل ما خصّوا به من فضل الله. قوموا بحقّ مولاكم ولا تقوموا بمتابعة هواكم واختيار مناكم.
ويقال لا تتمنوا «٥» مقام السادة دون أن تسلكوا سبلهم، وتلازموا سيرهم، وتعملوا عملهم.. فإن ذلك جور من الظن.
ويقال كن طالب حقوقه لا طالب نصيبك على أي وجه شئت: دنيا وآخرة (وإلّا) «٦» أشركت فى توحيدك من حيث لم تشعر.
(١) ربما يشترك كثير من الباحثين فى هذا الرأي مع القشيري ولكنه عند أهل الملامة عنصر أساسى وخطير فى تعاليمهم، حيث يزيد إلى درجة استجلاب سخط الناس ولو مهم للعبد.
(٢) وردت (بالراء) وهى خطأ فى النسخ، ويكون المعنى إن الله يغفر مجاوزة الحد على شرط سلامة العهد وعدم الشرك.
(٣) وردت (ففيها) وهى خطأ فى النسخ. [.....]
(٤) وردت بالتاء المربوطة لا المفتوحة وهى خطأ فى النسخ.
(٥) وردت بالهاء لا بالميم والصحيح أنها بالميم ويتأيد ذلك بقوله بعد قليل (لا تتمنّ مقامات الرجال).
(٦) إضافة منا ليستقيم المعنى، إذ واضح أنها سقطت من الناسخ.
ويقال لا تتمنّ مقامات الرجال فإنّ لكل مقام أهلا عند الله، وهم معدودون فما لم يمت واحد منهم لا يورث مكانه غيره، قال تعالى: «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ» والخليفة من يخلف من تقدّمه، فإذا تمنّيت مقام ولىّ من الأولياء فكأنّك استعجلت وفاته على الجملة تمنيت أو على التفصيل، وذلك غير مسلّم.
ويقال خمودك تحت جريان حكمه- على ما سبق به اختياره- أحظى لك من تعرضك لوجود مناك، إذ قد يكون حتفك فى منيتك.
ويقال من لم يؤدّب ظاهره بفنون المعاملات، ولم يهذّب باطنه بوجوه «١» المنازلات فلا ينبغى أن يتصدّى لنيل المواصلات، وهيهات هيهات متى يكون ذلك! «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» : الفرق «٢» بين التمني وبين السؤال من فضله من وجوه:
يكون التمني للشىء مع غفلتك عن ربك فتتمنى بقلبك وجود ذلك الشيء من غير توقعه من الله، فإذا سألت الله فلا محالة تذكره، والآخر أن السائل لا يرى استحقاق نفسه فيحمله صدق الإرادة على التملّق والتضرع، والمتمنى يخلو عن هذه الجملة.
والآخر أن الله نهى عن تمنى ما فضل الله به غيرك إذ معناه أن يسلب صاحبك ما أعطاه ويعطيك إياه، وأباح السؤال من فضله بأن يعطيك مثل ما أعطى صاحبك.
ويقال لا تتمنّ العطاء وسل الله أن يعطيك من فضله الرضا بفقد العطاء وذلك أتمّ من العطاء، فإنّ التّحرّر من رقّ الأشياء أتمّ من تملّكها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
جعل المعاقدة فى ابتداء الإسلام نظيرة النّسب فى ثبوت الميراث بها فنسخ حكم الميراث
(١) وردت (بوجوده) والصواب أن الدال زائدة ليتلاءم المعنى مع (فنون) كذلك فإن (بوجوده المنازلات) غير مستقيمة.
(٢) لاحظ كيف تثرى بحوث القشيري التي من هذا القبيل علوم اللغة والبلاغة.
وبقي حكم الاحترام، فإذا كانت المعاقدة بين الناس بهذه المثابة فما ظنّك بالمعاهدة مع الله؟.
قال الله تعالى: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ» وأنشدوا:
إنّ الألى ماتوا على دين الهوى وجدوا المنيّة منهلا معسولا
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
خصّ «١» الرجال بالقوة فزيد بالحمل عليهم فالحمل على حسب القوة. والعبرة بالقلوب والهمم لا بالنفوس والجثث.
قوله: «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» : أي ارتقوا فى تهذيبهن بالتدريج والرفق، وإن صلح الأمر بالوعظ فلا تستعمل العصا بالضرب، فالآية تتضمن آداب العشرة.
ثم قال: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» : يعنى إن وقفت فى الحال عن سوء العشرة (........) «٢» ورجعت إلى الطاعة فلا تنتقم منها عمّا سلف، ولا تمتنع من قبول عذرها والتأبّى عليها.
يقال: «فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» بمجاوزتك عن مقدار ما تستوجب «٣» من نقمتك.
(١) جاءت (حضّ) أي أخطأ الناسخ فنقل نقطة الخاء إلى الضاد.
(٢) هنا ثلاث كلمات زائدة وضع الناسخ علامة مميزة للتنبيه على ضرورة حذفها لتكرارها بدون داع.
(٣) أي تستحق المرأة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
يقال لك عليها الطاعة بالبدن، فأمّا المحبة والميل إليك بالقلب فذلك إلى الله، فلا تكلّفها مالا يرزقك الله منها فإن القلوب بقدرة الله، يحبّب إليها من يشاء، ويبغّض إليها من يشاء.
ويقال «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» أي لا تنس وفاءها فى الماضي بنادر «١» جفاء يبدو فى الحال فربما يعود الأمر إلى الجميل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
قوله
[سورة النساء (٤) : آية ٣٧]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
: العبودية معانقة الأمر ومفارقة الزجر «٢».
«وَلا تُشْرِكُوا» الشّرك مجليّه اعتقاد معبود سواه، وخفيّه: ملاحظة موجود سواه،
(١) لا نستبعد أنها ربما كانت فى الأصل (ببادر) والمعنى يتقبل (نادر) و (بادر) فكلاهما يدل على قدر من الحفاء لا يستحق الاهتمام ويستوجب العفو.
(٢) أي طاعة ما أمرك به وترك ما نهاك عنه.
331
والتوحيد أن تعرف أنّ الحادثات كلّها حاصلة بالله، قائمة به فهو مجريها ومنشيها ومبقيها، وليس لأحد ذرة ولا شظية ولا سينة ولا شمة من الإيجاد والإبداع.
ودقائق الرياء وخفايا المصانعات وكوامن الإعجاب والعمل على رؤية الخلق، واستحلاء مدحهم والذبول تحت ردّهم وذمّهم- كلّ ذلك من الشّرك الخفىّ.
قوله: «وَبِالْوالِدَيْنِ» الإحسان إلى الوالدين على وجه التدريج إلى صحبة فإنك أمرت أولا بحقوقهما لأنهما من جنسك ومنهما تربيتك، ومنهما تصل إلى استحقاق زيادتك وتتحقق بمعرفتك. وإذا صلحت للصحبة والعشرة مع ذوى القربى والفقراء والمساكين واليتامى ومن فى طبقتهم- رقّيت عن ذلك إلى استيجاب صحبته- سبحانه.
قوله: «وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ... » الآية من جيرانك (....) «١» فلا تؤذهما بعصيانك، وراع حقهما بما تولى عليهما من إحسانك.
فإذا كان جار دارك مستوجبا للإحسان إليه ومراعاة حقه فجار نفسك- وهو قلبك- أولى بألا تضيّعه ولا تغفل عنه، ولا تمكّن حلول الخواطر الرديئة به.
وإذا كان جار نفسك هذا حكمه فجار قلبك- وهو روحك- أولى أن تحامى على حقّها، ولا تمكّن لما يخالفها من مساكنتها ومجاورتها. وجار روحك- وهو سرّك- أولى أن ترعى حقّه، فلا تمكنه من الغيبة عن أوطان الشهود على دوام الساعات.
قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الإشارة منه غير ملتبسة على قلوب ذوى التحقيق.
قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ... الآية: البخل على لسان العلم منع الواجب، وعلى بيان الإشارة ترك الإيثار فى زمان الاضطرار. وأمر الناس بالبخل معناه منعهم عن مطالبات الحقائق فى معرض الشفقة عليهم بموجب الشرع، وبيان هذا أن يقع بلسانك الانسلاخ عن العلائق وحذف فضولات الحالة فمن نصحه بأن يقول: «ربما لا تقوى على هذا، ولأن تكون مع معلومك الحلال أولى بأن تصير مكديا، وربما تخرج إلى سؤال الناس وأن تكون كلّا على
(١) مشتبهة.
332
المسلمين- ويروى له فى هذا الباب الأخبار والآثار أمثال هذا....» فلولا بخله «١» المستكن فى قلبه لأعانه بهمته فيما يسنح لقلبه «٢» بدل أن يمنع عنه ما (يجب ان) يقول فى معرض النصح. ومن كانت هذه صفته أدركه عاجل المقت حيث أطفأ شرر إرادة ذلك المستضعف بما هو عند نفسه أنه نصيحة وشفقة فى الشرع.
وقوله: «وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» : إن كان الله أغناهم عن طلب الفضيلة بما خوّلهم وآتاهم كتموا ذلك طمعا فى الزيادة على غير وجه الإذن.
ويقال يكتمون ما آتاهم الله من فضله إذا سألهم مريد شيئا عندهم فيه نجاته، وضنوا عليه بإرشاده.
ويقال بخل الأغنياء بمنع النعمة، وبخل الفقراء بمنع الهمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٨]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)
أدخل هؤلاء أيضا تحت قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» فعقوبتهم فى العاجل أنهم ليسوا من جملة محبّيه، وكفى بذلك محنة.
والمختال الذي ينظر إلى نفسه والمرائى الذي ينظر إلى أبناء جنسه، وكلاهما مسوّمان بالشرك الخفىّ والله لا يحب المشركين. والفخور من الإبل كالمصراة من الغنم وهو الذي سدّت أخلافه ليجتمع فيها الدّرّ «٣» فيتوهم المشترى أن جميع ذلك معتاد لها وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا ورتبة وهو فى ذلك مدع وهو الفخور، والله لا يحبه، وكذلك المرائى الذي ينفق ماله رئاء الناس.
(١) حاول بعضهم أن يصححها فى الهامش فطن أن صوابها (تجعله) والصحيح أنها (بخله).
(٢) يستعمل القشيري الفعل (يسنح) للدلالة على ما يرد القلب من خواطر قد تصبح هواجس فنشده نحو العلائق والخلائق، وقد تكون إلهاما من قبل الحق سبحانه فتهديه السبيل.
(٣) الدّر- اللبن الغزير. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٩]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
ليس فى إيمانهم بالله عليهم مشقة، بل لو آمنوا لوصلوا إلى عزّ الدنيا والآخرة، ولا يحملهم على الإعراض عنه إلا قلة الوفاء والحرمة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
لا ينقص من ثوابهم شيئا بل يبتدئهم- من غير استحقاقهم- بفضله، ويضاعف أجورهم على أعمالهم فأمّا الظلم فمحال تقديره فى وصفه لأن الخلق خلقه، والملك ملكه.
والظالم من يعتدى حدا رسم له- وهو فى وصفه محال لعزّه فى جلال قدره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
إذا كان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- الشهيد على أمته، وهو الشفيع لهم، فإنما يشهد بما يبقى للشفاعة موضعها.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية: يحصلون على ندم ثم لا ينفعهم، ويعضون على أناملهم ثم لا يسكن عنهم جزعهم، فيتقنعون بخمار الذّل، وينقلبون إلى أوطان المحن «١» والضر.
(١) وردت (المحسن) والسين زيادة من الناسخ والصواب (المحن).
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
النّهى عن موجب السكر من الشراب لا من الصلاة، أي لا تصادفنكم الصلاة وأنتم بصفة السّكر، أي امتنعوا عن شرب ما يسكر فإنكم إن شربتم سكرتم، ثم إذا صادفكم الصلاة على تلك الحالة لا تقبل منكم صلاتكم.
والسّكر ذهاب العقل والاستشعار، ولا تصحّ معه المناجاة مع الحق.
المصلّى يناجى ربّه فكلّ ما أوجب للقلب الذهول عن الله فهو ملحق بهذا من حيث الإشارة ولأجل هذه الجملة حصل، والسكر على أقسام:
فسكر من الخمر وسكر من الغفلة لاستيلاء حب الدنيا.
وأصعب السكر سكرك من نفسك فهو الذي يلقيك فى الفرقة عنه، فإنّ من سكر من الخمر فقصاراه الحرقة- إن لم يغفر له. ومن سكر من نفسه فحاله الفرقة- فى الوقت- عن الحقيقة.
فأمّا السكر الذي يشير إليه القوم «١» فصاحبه محفوظ عليه وقته حتى يصلى والأمر مخفف عليه: (فإذا خرج عن الصلاة هجم عليه غالبه فاختطفه عنه ومن لم يكن محفوظا) «٢» عليه أحكام الشرع (فمشوب بحظّ) «٣».
(١) أي السكر عند الصوفية.
(٢) هذا الذي بين قوسين مستدرك فى هامش الصفحة وضعناه فى موضعه من النص.
(٣) (فمشوب بحظ) وضعنا هاتين اللفظتين هنا مستفيدين من أقوال القشيري فى مواضع مناظرة
وقوله تعالى: «وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ... » الآية: أذن للمضطر أن يترخّص فى عبور المسجد وهو على وصف الجنابة، فإذا عرج زائدا على قدر الضرورة فمعاتب غير معذور، وكذلك فيما يحصل من معاذير الوقت فى القيام بشرائط الوقت فمرفوعة عن صاحبه المطالبة به.
ثم إنه- سبحانه- بفضله جعل التيمم بدلا من الطهارة بالماء عند عوز الماء كذلك النزول إلى ساحات الفرق عن ارتقاء ذرة «١» الجمع- بقدر ما يحصل من الضعف- بدل لأهل الحقائق.
ثم إن التيمم- الذي هو بدل الماء- أعمّ وجودا من الماء، وأقلّ استعمالا من الأصل، فإن كل من كان أقرب كانت المطالبات عليه أصعب.
ثم فى الظاهر أمرنا باستعمال التراب وفى الباطن باستشعار الخضوع واستدامة الذبول «٢».
وردّ التيمم إلى التقليل، وراعى فيه صيانة لرأسك عن التّراب ولقدمك فإنّ العزّ بالمؤمن- ومولاه باستحقاق الجلال- أولى من الذل لما هو مفلس فيه من الحال، ولئن كان إفلاسه عن أعماله يوجب له التذلّل فعرفانه بجلال سيّده يوجب كل تعزّز وتجمّل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
فى مصنفاته الأخرى، وذلك نظرا لانبهام الكلمتين هنا لرداءة خط الناسخ (انظر حديث القشيري عن السكر فى الرسالة ص ٤١).
(١) نرجح أنها في الأصل (ذروة الجمع) وأن الواو قد سقطت من الناسخ.
(٢) لأن فيه تذكيرا للانسان بأصله.
ومكروا مكرا ولم يشعروا وجهة مكرهم أن أعطوا الكتاب ثم حرموا بركات الفهم حتى حرّفوا وأصرّوا.
قوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا... الآية: تركوا حشمة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ورفضوا حرمته، فعوقبوا بالشك فى أمره، ولذلك لم يترك أحد حشمته (محتشم) «١» إلا حيل بينه وبين نيل بركات صحبته وزوائد خدمته. ولو أنهم عاجلوا فى نفى ما داخلهم من الحسد وقابلوا حاله بالتبجيل والإعظام لوجدوا بركات متابعته، فأسعدوا به فى الدارين، وكيف لم يكونوا كذلك وقد أقصتهم السوابق فأقعدتهم القسمة عن بساط الخدمة؟ وإنّ من قعدت به الأقدار لم ينهض به الاحتيال.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
صرف القلوب عن الإرادة إلى أحوال أهل العادة حتى كانت دواعيه يتوفر فى رفض الدنيا فعاد لا يصبر عن جمعها «٢» ومنعها.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
(١) نرجح أن هذه الكلمة زائدة من الناسخ، أو ربما كان الأصل (حشمة محتشم).
(٢) وردت (جميعها) وهى خطأ فى النسخ.
العوام طولبوا بترك الشرك الجلىّ، والخواص طولبوا بترك الشرك الخفىّ، فمن توسّل إليه بعمله ويظنه منه، أو توهّم أن أحكامه- سبحانه- معلولة بحركاته وسكناته، أو راعى خلقا أو لاحظ نفسا فوطنه الشرك عند أهل الحقائق «١».
والله لا يغفر أن يشرك به وكذلك من توّهم أن مخالفته حصلت من غير تقديره فهو ملتحق بهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
من ركن إلى تزكية الناس له، واستحلى قبول الخواص له- فضلا عن العوام- فهو من زكّى نفسه، ورؤية النّفس أعظم حجاب، ومن توّهم أنه بتكلّفه يزكّى نفسه: بأوراده أو اجتهاده، بحركاته أو سكناته- فهو فى غطاء جهله.
قوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ... الآية: الإشارة إلى من أطلق لسان الدعوى من غير تحقيق، والمفترى- فى قالته فى هذا الأمر- لا ينطق بشىء إلا أجبّته الآذان وانزجرت له القلوب، فإذا سكت عاد إلى قلب خراب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
(١) يقول زكريا الأنصاري شارح الرسالة: (من كانت أفعاله لله تعالى وشاهدها طاعة له تعالى فهو فى التفرقة ومن شاهدها جارية عليه فضلا من الله فقد شاهدها بالله فهو فى الجمع (هامش ٣٩).
طاغوت كلّ أحد نفسه وهواه وجبته و (.....) «١» مقصوده من الأغيار، فمن لاحظ شخصا أو طالع سببا أو عرّج على علّة أو أطاع هوى، فذلك جبته وطاغوته. وأصحاب الجبت والطاغوت يستوجبون اللعن وهو الطرد عن بساط العبودية، والحجاب عن شهود الربوبية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤)
من جبل على الشّحّ لا يزداد بسعة يده إلا تأسفا على راحة ينالها الخلق، كأنّ من شرب قطرة ماء قد تحسّى بل رشف من ماء حياته! قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ... : بل ينكرون تخصيص الحق سبحانه لأوليائه بما يشاء حسدا من عند أنفسهم فلا يقابلونهم بالإجلال، وسنّة الله سبحانه مع أوليائه مضت بالتعزيز والتوقير لهم. ودأب الكافرين جرى بالارتياب فى القدرة فمنهم من آمن بهم، ومنهم من ردّ ذلك وجحد، وكفى بعقوبة الله منتقما عنهم.
قوله: «وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» : الملك العظيم معرفة الملك، ويقال هو الملك على النّفس.
(١) مشتبهة.
ويقال الإشراف على أسرار المملكة حتى لا يخفى عليه شىء.
ويقال الاطلاع على أسرار الخلق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)
الإشارة منه إلى الجاحدين لآيات الأولياء يقيمهم بوصف الصغار ويبقيهم فى وحشة الإنكار «١» كلّما لاح لقلوبهم شىء من هذه القصة «٢» جرّهم إنكارهم إلى ترك الإيمان بها والإزراء بأهلها على وجه الاستبعاد، فهم مؤبدة عقوبتهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٧]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
هم اليوم فى ظل الرعاية، وغدا فى ظل الحماية والكفاية، بل هم فى الدنيا والعقبى فى ظل العناية.
والناس فى هذه الدنيا متفاوتون: فمنهم من هو فى ظل رحمته، ومنهم من هو فى ظل رعايته، ومنهم من هو فى ظل كرامته، ومنهم من هو فى ظل عنايته، ومنهم من هو فى ظل قربته.
(١) وردت (الأفكار) بالفاء والصواب- حسب المعنى والسياق- وكما جاء بعد قليل فى (وجرهم إنكارهم) أن تكون (الإنكار).
(٢) يقصد من (القصة) : التصوف وأهله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٨]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)
ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال «١» الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم.
ويقال لله- سبحانه وتعالى- أمانات وضعها عندك فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله- سبحانه- سالمة من خيانتك فيها فالخيانة فى أمانة القلب ادعاؤك فيها، والخيانة فى أمانة السّرّ ملاحظتك إياها.
والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب والبعيد فى العطاء والبذل، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
قرن طاعته بطاعة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- تفخيما لشأنه ورفعا لقدره.
وأمّا أولوا الأمر- فعلى لسان العلم- السلطان، وعلى بيان المعرفة العارف ذو الأمر على المستأنف، والشيخ أولو الأمر على المريد، وإمام كل طائفة ذو الأمر عليهم.
(١) وردت (أحوال) والصواب أنها (أموال) لأن الأحوال لا تكون ودائع للناس عندك بل أموالهم [.....]
ويقال الولي أولى بالمريد (من المريد) «١» للمريد.
قوله: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ» على لسان العلم- إلى الكتاب والسّنّة، وعلى بيان التوحيد فوّض ذلك ووكل علمه إلى الله سبحانه، وإذا اختلف الخاطران فى قلب المؤمن فإن كان له اجتهاد العلماء تأمل ما يسنح لخاطره بإشارة فهمه، ومن كان صاحب قلب وكل ذلك إلى الحق- سبحانه- وراعى ما خوطب به فى سرائره، وألقى- بلا واسطة «٢» - فى قلبه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠)
أظهروا الإخلاص، ونافقوا فى السّر، ففضحهم- سبحانه- على لسان جبريل عليه السّلام بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» أي يرفضوه.
فمن حاد عن طريقه ورجع إلى غير أستاذه استوجب الحرمان والذم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١)
كل شىء سوى كلمة الحق فهو خفيف على المنافقين، فأمّا التوحيد فلا يسمع كلمته إلا مخلص، وأهل الفترة فى الله وأصحاب النفرة لا يسمعون ما هو الحق لأن خلاف الهوى يشقّ على غير الصديقين. وكما أن ناظر الخلق «٣» لا يقوى على مقابلة الشمس فكذلك
(١) هذا استدراك موجود فى هامش الصفحة أثبتناه فى موضعه من النص.
(٢) تأمل جيدا (بلا واسطة) فهذا وصف هام للمعرفة عند الصوفية، يميزها ويكشف جوهرها.
(٣) أي العين.
المنافقون لم يطيقوا الثبات له- صلّى الله عليه وسلّم- فلذلك كان صدودهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦٢]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢)
تضرّع غير المخلص عند هجوم الضّر «١» لا أصل له، فلا ينبغى أن يكون به اعتبار لأن بقاءه إلى زوال المحنة، والمصيبة العظمى ترك المبالاة (بما يحصل من التقصير) «٢».
ويقال من المصيبة أن يمحقك وقتك فيما لا يجدى عليك «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦٣]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
أبسط لهم لسان الوعظ بمقتضى الشفقة عليهم، ولكن انقبض بقلبك عن المبالاة بهم والسكون إليهم، واعلم «٤» أن من لا نكون نحن له لا يغنى عنه أن تعينه «٥» شيئا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
ما أمرنا الرسل إلّا بدعوة الخلق إلينا.
(١) وردت (الضرورة) والصواب (الضر) فالمعنى يقتضى ذلك ويؤيد أن الخطأ في النسخ.
(٢) ما بين قوسين تكملة وجدناها ضرورية لتوضيح المعنى فاستفدنا مما جاء فى موقف مشابه فى الرسالة ص ٣٤ حيث يقول (وترك المبالاة بما يحصل منك من التقصير خروج عن الدين).
(٣) من أقوالهم فى الوقت: الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك، والوقت سيف فكما أن السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.
(٤) وردت (ما علم) وهى خطأ فى النسخ، وربما كانت (فاعلم) فى الأصل واشتبهت على الناسخ.
(٥) (أن تعينه) المصدر المؤول من ان والفعل (أي عونك له) يقع فاعلا للفعل (يغنى).
وقوله: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ». لو جعلوك ذريعتهم لوصلوا إلينا، ويقال لو لازموا التذلل والافتقار وركبوا مطية الاستغفار لأناخوا بعقوة المبار.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٦٥]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
سدّ الطريق- إلى نفسه- على الكافة إلا بعد الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن لم يمش تحت رايته فليس له من الله نفس.
ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضات بالكلية بقلبك.
قوله: «ثُمَّ لا يَجِدُوا... » : فلا بدّ لك من (... ) «١» تلك المهالك بوجه ضاحك، كما قال بعضهم:
وحبيب إن لم يكن منصفا كنت منصفا... أتحسّى له الأمرّ وأسقيه ماصفا
إن يقل لى انشقّ... اخترت رضا لا تكلّفا
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
أخبر عن سقم إخلاصهم وقوة إفلاسهم، ثم أخبر الله بعلمه بتقصيرهم.
خلاهم عن كثير من الامتحانات ثم قال ولو أنهم جنحوا إلى الخدمة، وشدّوا نطاق الطاعة
(١) هنا كلمة ناقصة ربما كانت (مواجهة) أو (مقابلة) تلك المهالك بوجه ضاحك.
لكان ذلك خيرا لهم من إصرارهم على كفرهم واستكبارهم. ولو أنهم فعلوا ذلك لآتيناهم من عندنا ثوابا عظيما، ولأرشدناهم صراطا مستقيما ولأوليناهم عطاء مقيما.
والأمر- على بيان الإشارة- يرجع إلى مخالفة الهوى وذبح النفوس بمنعها عن المألوفات، والخروج من ديار (تقبّل النّفس) «١»، ومفارقة أوطان (إرادة) «٢» الدنيا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
جعل طاعة المصطفى- صلّى الله عليه وسلّم- مفتاح الوصول إلى مقامات النبيين والصديقين والشهداء على الوجه الذي يصحّ للأمة وكفى له عليه السّلام بذلك شرفا.
ثم قال: «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ» : جرّد عليهم محلّهم عن كل علة واستحقاق وسبب فإن ما لاح لهم وأصابهم صرف فضله وابتداء كرمه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣).
(١) وضع الناسخ (تقبل النفس) فى مكان خاطئ يبهم المعنى إذ وضعها قبل (على بيان الإشارة) والصواب أن تكون في مكانها الذي اخترناه حتى يستقيم السياق.
(٢) وردت (أراد) بدون همز للألف وبدون تاء مربوطة فاخترنا (إرادة) لملاءمتها للسياق.
الفرار إلى الله من صفات القاصدين، والفرار مع الله من صفات الواصلين فلا يجد القرار مع الله إلا من صدق فى الفرار إلى الله. والفرار من كل غير شأن كل موحّد.
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ... الآية: أي لم تستقر عقائدهم على وصف واحد، فكانوا مرتبطين بالحظوظ فإذا رأوا مكروها يظلّ المسلمين شكروا وقالوا: الحمد الله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم، وتمنوا أن لو كانوا معكم، خسروا فى الدنيا والآخرة: فهم لا كافر قبيح ولا مؤمن مخلص.
قوله: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» : يعنى طرحوا حشمة الحياة فلم يراعوا حرمتكم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٤]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤)
من لم يقتل نفسه فى نفسه لا يصحّ جهاده بنفسه فأولا (إخراج خطر الروح) «١» من القلب ثم تسليم النفس للقتل.
وقوله «فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» يعنى بقاؤنا بعده خير له من حياته بنفسه لنفسه، قال قائلهم:
ألست لى عوضا منى؟ كفى شرفا فما وراءك لى قصد ومطلوب
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٥]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥).
(١) هكذا فى النسخة (ص) وربما كان المقصود أنك لا تستطيع أن تبذل نفسك إلا إذا قويت على قهرها والتهوين من خطرها.
أي شىء يمنعكم عن القتال فى سبيل الله؟ وما الذي لا يرغّبكم فى بذل المهجة «١» لله؟
وماذا عليكم لو بذلتم أرواحكم فى الله ولله؟ أتخافون أن تخسروا على الله؟ أم لا تعلمون أنكم تحشرون إلى الله؟ فلم لا تكتفون ببقائه بعد فنائكم فى الله؟
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٦]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
المخلصون لله لا يؤثرون شيئا على الله، ولا يضنون بشىء عن الله، فهم أبدا على نفوسهم لأجل الله، والذين كفروا على العكس من أحوال المؤمنين. ثم قوّاهم وشجّعهم بقوله:
«فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» أي لا تضمروا لهم مخافة، فإنى متوليكم وكافيكم على أعدائكم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)
أخرجوا أيديكم عن أموركم، وكلوها إلى معبودكم.
ويقال اقصروها عن أخذ الحرام والتصرف فيه.
ويقال امتنعوا عن الشهوات.
ويقال «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» إلا عن رفعها إلى الله فى السؤال بوصف الابتهال.
(١) وردت (المحجة) بالحاء وهذا خطا فى النسخ وصوابها (المهجة) لملاءمتها للسياق.
فلمّا كتب عليهم القتال استثقلوا أمره، واستعجلوا لطفه. والعبودية فى ترك الاستثقال، ونفى الاستعجال، والتباعد عن التبرم والاستثقال.
قوله جل ذكره: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا.
مكنّك من الدنيا ثم قال: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ»، فلم يعدّها شيئا لك ثم لو تصدّقت منها بشقّ تمرة لتخلّصت من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم.
واستقلال الكثير من نفسك- لأجل حبيبك- أقوى أمارات صحبتك.
ويقال لما زهّدهم فى الدنيا قلّلها فى أعينهم ليهون (عليها «١» ) تركها.
ويقال قل متاع الدنيا بجملتها قليل، والذي هو نصيبك منها أقلّ من القليل، فمتى يناقشك لأجلها (بالتخليل) «٢»، لو سلم عهدك من التبديل؟
وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخسّ من الخسيس من رضى بالخسيس بدلا عن النفيس.
وقد اختلع المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولا: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ» (فأحفظهم) «٣» عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٨]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨).
(١) الضمير فى (عليها) يعود على أعينهم، وربما كانت فى الأصل (عليهم) فيعود الضمير على الزهاد. [.....]
(٢) نرجح أنها فى الأصل (التحليل) إشارة إلى قوله (ص) حلالها حساب وحرامها عقاب.
الموت فرح للمؤمن، فالخبر عن قربه بشارة له، لأنه سبب يوصله إلى الحق، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه.
ويقال إذا كان الموت لا بد منه فالاستسلام لحكمه طوعا خير من أن يحمل كرها.
ثم أخبر أنهم- لضعف بصائرهم ومرض عقائدهم- إذا أصابتهم حسنة فرحوا بها، وأظهروا الشكر، وإن أصابتهم سيئة لم يهتدوا إلى الله فجرى فيهم العرق المجوسىّ «١» فأضافوه «٢» إلى المخلوق، فردّ عليهم وقال: قل لهم يا محمد كلّ من عند الله خلقا وإبداعا، وإنشاء واختراعا، وتقديرا وتيسيرا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٧٩]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
ما أصابك من حسنة فمن الله فضلا، وما أصابك من سيئة فمن نفسك كسبا وكلاهما من الله سبحانه خلقا «٣» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٠]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
هذه الآية تشير إلى الجمع لحال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم، فقال سبحانه طاعته طاعتنا، فمن تقرّب منه تقرّب منا، ومقبوله مقبولنا، ومردوده مردودنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨١]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
(١) لعل القشيري يقصد بذلك إلى أنهم بنسبتهم شيئا لغير الله يشركون، وينأون عن التوحيد.
(٢) أخطأ الناسخ فنقلها (فاذاقوه) فصوبناها بما يلائم السياق.
(٣) هذا تلخيص دقيق لرأى القشيري فيما يصيب العباد.
يعنى إذا حضروك «١» استسلموا فى مشاهدتك، فإذا خرجوا انقطع عنهم نور إقبالك، فعادوا إلى ظلمات، كما قالوا:
إذا ارعوى عاد إلى جهله... كذى الضنى عاد إلى نكسة
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
تدبر إشارة المعاني بغوص الأفكار، واستخراج جواهر المعاني بدقائق الاستنباط.
قوله: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ... : لمّا كانوا غافلين عن الحق لم يكن لهم من ينقل إليه أسرارهم فأظهروا السرّ بعضهم لبعض. فأمّا المؤمنون فعالم أسرارهم مولاهم، وما يسنح لهم خاطبوه فيه فلم يحتاجوا إلى إذاعة السّر لمخلوق فسامع نجواهم الله، وعالم خطابهم الله.
قوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ... » أي لو بثّوا «٢»
(١) أخطأ الناسخ فنقلها (حقروك) فصوبناها بما يلائم السياق.
(٢) كتبها الناسخ (ثبوا) فصوبناها بما يلائم السياق: (بثوا أسرارهم).
أسرارهم عند من هو (....) «١» ومن هو من أهل القصد لأزالوا عنهم الإشكال، وأمدوهم بنور الهداية والإرشاد «٢».
«وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ» مع أوليائه لهاموا فى كل واد من التفرقة كأشكالهم فى الوقت.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
استقم معنا بتسليم الكلّ منك إلى أمرنا فإنّك- كما لا يقارنك أحد فى رتبتك لعلوّك على الكل- فنحن لا نكلّف غيرك بمثل ما تكلفت، ولا نحمّل غيرك ما تحملت لانفرادك عن أشكالك فى القدوة «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٥]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)
الشفيع يخلّص للمشفوع له حاله. ويستوجب الشفيع- من الله سبحانه على شفاعته- عظيم الرتبة، ومن سعى فى أمرنا بالفساد تحمّل الوزر واحتقب الإثم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٦]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
(١) مشتبهة، وما بعدها قد يكفى عنها.
(٢) فى هذا الخصوص بحث القشيري فى إحدى وصاياه على ألا يقضى المريد بذات نفسه إلا لأوباب الطريقة من الشيوخ إذ يقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب غير هذه الطريقة. فحجج أهلها- فى مسائلهم- أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب، والذي للناس غيب فهو لهم ظهور فهم من أهل الوصال، والناس أهل استدلال الرسالة ص ١٩٧، ١٩٨.
(٣) لا نستبعد أيضا أنها فى الأصل (القدرة) لتلائم التكليف والتحمل والمعنى يتقبل (القدوة) و (القدرة).
تعليم لهم حسن العشرة وآداب الصحبة. وإن من حمّلك فضلا صار ذلك- فى ذمتك- له قرضا، فإمّا زدت على فعله وإلّا فلا تنقص عن مثله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٧]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
هذا الخطاب يتضمن نفيا وإثباتا فالنفى يعود إلى الأغيار ويستحيل لغيره ما نفاه، والإثبات له بالإلهية ويستحيل له النفي فيما أثبته.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٨٨]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)
(....) «١» العهد فيهم أنهم أعدائى، لا ينالون منّى فى الدنيا والعقبى رضائى، وإنكم لا تنقذون بهممكم من أقمته بقسمتي «٢» فإن المدار على القسم دون (....) «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
(١) مشتبهة.
(٢) أي ما قسمته له فى سابق الآزال لا قدرة لمخلوق على تغييره.
(٣) سقطت كلمة من الناسخ ربما كانت (الاحتيال) وربما كانت (الهمم) فكلاهما يفيد أنه لا منجاة لإنسان بعمله وحده بل المدار على القسمة.
الإشارة إلى أرباب التخليط والأحوال السقيمة يتمنون أن يكون الصديقون منهم، وهيهات أن يكون لمناهم تحقيق! ومادام المخالفون لكم غير موافقين فبائنوهم وخالفوهم ولا تطابقوهم بحال، ولا تعاشروهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا وموافق لك فى قصدك خير لك من مخالف على الكره تعاشره.
قوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ... الإشارة من هذه الآية أن عند الاعذار أذن فى معاشرة فى الظاهر «١» رفقا بالمستضعفين.
«فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ... » الإشارة منه أنه إذا عاشركم من ليس من أهل القصة معرجين فى أوطان نصيبهم فلا تدعوهم إلى طريقتكم وسلّموا لهم أحوالهم. فإن أمكنكم أن تلاحظوهم بعين الرحمة بحيث تؤثر فيهم همتكم «٢» وإلا فسلّموا لهم أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩١]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
(١) أي أن الصحبة والمعاشرة ينبغى ألا يصل أمرهما الى حد المساكنة، لأن صحبة الحق أولى من كل غير... وهذا مبدأ نادى به القشيري وطبقه على نفسه إبان محنته الأليمة. [.....]
(٢) وردت (همتهم) وهى خطأ من الناسخ لأن المعنى يتطلب (همتكم).
إن من رام الجمع بين الضدين خاب سعيه، ولم يرتفع عزمه، فكما لا يكون شخص واحد منافقا ومسلما لا يكون شخص واحد مريدا للحق ومقيما على أحكام أهل العادة. فإن الإرادة والعادة ضدان «١»، والواجب مباينة الأضداد، ومجانبة الأجانب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٢]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢)
خفف أمر الخطأ على فاعله حتى حمّل موجب قتل الخطأ على العاقلة فالخواص عاقلة المستضعفين من الأمة، وأهل المعرفة عاقلة المريدين، والشيوخ عاقلة الفقراء فسبيلهم أن يحملوا أثقال المستضعفين فيما ينوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٣]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
كما يحرّم قتل غيرك عليك يحرّم قتل نفسك عليك، ومن اتّبع هواه سعى فى دم نفسه، ومن لم ينصح مريدا بحسن وعظه ولم يعنه بهمته فقد سعى فى دمه، وهو مأخوذ بحاله
(١) الناس- عند القشيري- إما أهل العادة أو أهل الإرادة.
وخليق «١» بأن تكون له عقوبة الأذية بألا يتمتع بما ضنّ به على المريدين من أحواله: ولقد قال- سبحانه-: يا داود إذا رأيت لى طالبا فكن له (خادما) «٢» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
«٣» عاشروا الناس على ما يظهرون من أحوالهم، ولا تتفرّسوا فيهم بالبطلان فإنّ متولّى الأسرار الله «٤». هذا إذا كان غرض فاسد يحملكم عليه من أحكام النّفس، فأمّا من كان نظره بالله ولم ينستر عليه شىء فليحفظ سرّ الله فيما كوشف به، ولا يظهر لصاحبه ما أراد الله فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
(١) وردت (وحقيقة بأن) وصوابها وحقيق بان ولكننا آثرنا (وخليق بأن) حتى يمتنع اللبس.
(٢) مشتبهة هنا ولكنها واضحة فى موضع سبق (انظر تفسير آية وأنبتها نباتا حسنا ص ٢٣٧
(٣) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها.
(٤) تدل هذه النظرة على سماحة الصوفية واتساع صدورهم، فالأصل عندهم أن كل الناس طيبون، ويجب أن تحسن الظن بهم جميعا، ونتقبل ظواهرهم تاركين أسرارهم للمولى سبحانه.
الحقّ سبحانه جمع جميع أوليائه فى أفضاله لكنه غابر بينهم فى الدرجات، فمن غنيّ ومن عبد هو أغنى منه «١»، ومن كبير ومن هو أكبر منه، هذه الكواكب درّية ولكن القمر فوقها، وإذا طلعت الشمس بهرت الجميع بنورها! قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)
الإشارة منه إلى من أدركه الأجل وهو فى أسر نفسه وفى رقّ شهواته- ليس له عذر حيث لم يهاجر إلى ظلّ قربته ليتخلّص من هوى نفسه «٢» إذ لا حجاب بينك وبين هذا الحديث إلا هواك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
الإشارة منه إلى الذين ملكتهم المعاني فأفنتهم عنهم، فبقوا مصرّفين له، لا لهم حول ولا قوة، يبدو عليهم ما يجريه- سبحانه- عليهم، فهم بعد عود نفوسهم بحق الحقّ محو عنهم، فلا يهتدون إلى غيره سبيلا، ولا يتنفّسون لغيره نفسا.
(١) واضح أن القشيري يقصد الغنى فى الأحوال لا الغنى فى الأموال فليس لهذه كبير قيمة.
(٢) وردت هكذا (هوى نفسه) فصوبناها.
ويقال على موجب ظاهر الآية إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضّل الحقّ- سبحانه- عليهم بالعفو.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٠]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
من هاجر فى الله عما سوى الله، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة فى عفوة الكرم، ومقيلا فى ذرى القبول، وحياة وسعة فى كنف القرب.
والمهاجر- فى الحقيقة- من هجر نفسه وهواه، ولا يصحّ ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته، ومن قصده ثم أدركه الأجل قبل وصوله فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محطّ روحه إلا أوطان قربه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠١]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
القصر فى الصلاة سنّة فى السفر، وكان فى ابتداء الشرع عند الخوف «١»، فأقرّ ذلك مع زوال الخوف رفقا بالعباد، فلما دخل الفرض القصر لأجل السفر عوضوا بإباحة النّفل فى السفر على الراحلة أينما توجهت به دابته من غير استقبال، فكذلك الماشي ليعلم أنّ الإذن
(٣) نرجح أنها فى الأصل (فاختطفهم) عن الدنيا بالعقبى ثم سلبهم فهذا أقرب إلى مراحل تدرج الفناء الصوفي.
(١) لأن فى مبدا الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو فى سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ويرى ابن عمر أن هناك فرقا بين صلاة السفر وصلاة الخوف، وهو يحتج على قصر الصلاة فى السفر ويراه فى صلاة الخوف.
(تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٤٦) لابن كثير.
فى المناجاة مستديم فى كل وقت فإن أردت الدخول فمتى شئت، وإن أردت التباعد مترخصا فلك ما شئت، وهذا غاية الكرم، وحفظ سنّة الوفاء، وتحقق معنى الولاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٢]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)
تدل هذه الآية على أن الصلاة لا ترتفع عن العبد مادام فيه نفس من الاختيار لا فى الخوف ولا فى الأمن، ولا عند غلبات أحكام الشرع إذا كنت بوصف التفرقة، ولا عند استيلاء سلطان الحقيقة إذا كنت بعين الجمع:
قوله جلّ ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
الوظائف الظاهرة موقته «١»، وحضور القلب بالذكر مسرمد غير منقطع أمّا بالرسوم
(١) أي حسب ميقات.
فوقتا دون وقت، وأمّا بالقلوب فإياكم والغيبة عن الحقيقة لحظة كيفما اختلفت بكم الأحوال..
الذكر كيفما كنتم وكما كنتم، وأما الصلاة فإذا اطمأننتم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
: قوموا بالله وليكن «١» استنادكم فى جهادكم إلى الله.
«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ» : القوم شاركوكم فى إحساس الألم، ولكن خالفوكم فى شهود القلب، وأنتم تشهدون ما لا يشهدون، وتجدون لقلوبكم ما لا يجدون، فلا ينبغى أن تستأخروا عنهم فى الجد والجهد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)
«٢» لم يأمرك «٣» بالحكم بينهم على عمّى ولكن بما أراك الله «٤» أي كاشفك به من أنوار البصيرة حتى وقفت عليه بتعريفنا إياك وتسديدنا لك، وكذلك من يحكم بالحق من أمتك.
قوله: «وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» : أي لا تناضل عن أرباب الحظوظ ولكن مع
(١) أخطأ الناسخ إذ كتبها (ولا يكن).
(٢) أخطأ الناسخ إذ كتبها واستغفروا.
(٣) وردت (لم يأمركم) والصواب (لم يأمرك) لأن الخطاب كله موجه إلى الرسول (ص).
(٤) يحتج من ذهب من علماء الأصول بهذه الآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان له أن يحكم بالاجتهاد، وفيما رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد عن رجلين من الأنصار اختصما إلى الرسول (ص) فى مواريث بينهما قد درست وليس عندهما بينة.. ينتهى الحديث على النحو التالي.
«إنى إنما أقضى بينكما يرأى فيما لم ينزل علىّ فيه». [.....]
أبناء الحقوق، ومن جنح إلى الهوى خان فيما أودع نفسه من التقوى، ومن ركن إلى أنواع نوزاع المنى خان فيما طولب به من الحياء لاطلاع المولى «١».
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لأمتك فإنا قد كفيناك حديثك بقولنا: ليغفر لك الله نما تقدم من ذنبك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨)
هم المؤثرون حظوظهم على حقوقه، والراضون بالتعريج فى أوطان هواهم دون النقلة إلى منازل الرضا، إن الله لا يحب أهل الخيانة فيذلهم- لا جرم- ولا يكرمهم.
قوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
الغالب على قلوبهم رؤية الخلق ولا يشعرون أنّ الحق مطّلع على قلوبهم أولئك الذين وسم الله قلوبهم بوسم الفرقة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٩]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
أي ندفع عنهم- بحرمتك- لأنك فيهم، فكيف حالهم يوم القيامة إذ زالت عنهم بركاتكم أيها المؤمنون؟!
(١) (يقال إن سبب نزول هذه الآية أن رجلا شكا أن طعمة بن أبيرق سرق درعه، فلما رأى السارق ذلك ألقى الدرع فى بيت رجل برىء، وقال لنفر من عشيرته إنى غيبت الدرع فى بيت فلان، فانطلقوا إلى النبي (ص) ليلا فقالوا: يا نبىّ الله إن صاحبنا برىء. وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك. فقام رسول الله (ص) فبراه وعذره على رءوس الناس، فأنزل الله هذه الآية) وقد حرصنا على إثبات سبب نزولها لأن ما بعدها من الآي مرتبط بهذه الواقعة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٠]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠)
«ثُمَّ»
: حرف يدل على التراخي أي يزجون «١» عمرهم فى البطالات والمخالفات ثم فى آخر أعمارهم يستغفرون الله.
وقوله «يَجِدِ اللَّهَ»
: الوجود غاية الحديث «٢»، والعاصي لا يطلب غير الغفران، ولكن الله- سبحانه يوصله إلى النهاية بفضله- إذا شاء، فسنّته تحقيق ما فوق المأمول لمن رجاه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١١]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١)
الحقّ غنيّ عن طاعة المطيعين، وزلة «٣» العاصين، فمن أطاع فحظّه حصّل، ومن عصى فحظه أخذ.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٢]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)
من نسب إلى برىء ما هو صفته من المخازي عكس الله عليه الحال، وألبس ذلك البريء ثواب محاسن راميه، وسحب ذيل العفو على مساويه، وقلب الحال على المتعدّى بما يفضحه بين أشكاله، فى عامة أحواله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٣]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
(١) وردت (يرجون) بالراء والصواب بالزاي.
(٢) (التواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة، وسمعت الأستاذ أبا على الدقاق يقول:
التواجد يوجد استيعاب العبد، والوجد يوجب استغراق العبد، والوجود يوجب استهلاك العبد فهو كمن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق فى البحر) الرسالة ص ٣٧.
(٣) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون بالزاي لأن المناسب للسياق لفظ ضد الطاعة.
الفضل إحسان غير مستحق «١»، والإشارة هاهنا- من الفضل- إلى عصمته إياه، فالحقّ- سبحانه- عصمه تخصيصا له بتلك العصمة، وكما عصمه عن ترك حقه- سبحانه- عصمه بأن كفّ عنه كيد خلقه فقال: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ..»
الآية.
كلّا، لن يكون لأحد سبيل إلى إضلالك فأنت فى قبضة العزة، وما يضلّون إلا أنفسهم، وما يضرونك بشىء، إذ المحفوظ منا محروس عن كل غير، وإنّ الله سبحانه قد اختصك بإنزال الكتاب، واستخلصك بوجوه الاختصاص والإيجاب، وعلّمك ما لم تكن تعلم، ولم يمن عليك بشىء بمثل ما منّ به على من خصّه به من العلم. ويحتمل أنه أراد به علمه- صلّى الله عليه- بالله بجلاله، وعلمه بعبودية نفسه، ومقدار حاله فى استحقاق عزّه وجماله.
ويقال علّمك ما لم تكن تعلم من آداب الخدمة إذ لم تكن ملتبسا عليك معرفة الحقيقة.
ويقال أغناك عن تعليم الأغيار حتى لا يكون لأحد نور إلا مقتبسا من نورك، ومن لم يمش تحت رايتك لا يصل إلى جميع برّنا، ولا يحظى بقربنا ووصلنا.
«وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً»
: فى الآباد أنّك كنت- لنا بشرف العز وكرم الربوبية فى الآزال- معلوما. ويقال وعلّمك ما لم تكن تعلم من علوّ رتبتك على الكافة.
ويقال «عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ»
أنّ أحدا لا يقدّر قدرنا إلا بمقدار موافقته لأمرنا قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٤]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤)
(١) لأن الفضل معناه الزيادة، فربما يرمى القشيري إلى أنه غير مستحق بسبب ذلك لأنه يفوق المستحق
362
أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبه إلى غيره ففضيلة الصدقة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه، والفتوة أن يكون سعيك لغيرك، ففى الخبر: «شرّ الناس من أكل وحده» وكلّ أصناف الإحسان ينطبق عليها لفظ الصدقة.
قال صلّى الله عليه وسلّم فى قصر الصلاة فى السفر: «هذه صدقة تصدّقها الله عليكم فاقبلوا صدقته» «١» والصدقة على أقسام: صدقتك على نفسك، وصدقتك على غيرك فأمّا صدقتك (على نفسك فحملها على أداء حقوقه تعالى، ومنعها عن مخالفة أمره، وقصر يدها عن أذية الخلق، وصون خواطرها وعقائدها عن السوء. وأمّا صدقتك) «٢» على الغير فصدقة بالمال وصدقة بالقلب وصدقة بالبدن.
فصدقة بالمال بإنفاق النعمة، وصدقة بالبدن بالقيام بالخدمة، وصدقة بالقلب بحسن النية وتوكيد الهمة.
والصدقة على الفقراء ظاهرة لا إشكال فيها، أمّا الصدقة على الأغنياء فتكون بأن تجود عليهم بهم، فتقطع رجاءك عنهم فلا تطمع فيهم.
وأمّا المعروف: فكلّ حسن فى الشرع فهو معروف، ومن ذلك إنجاد المسلمين وإسعادهم فيما لهم فيه قربة إلى الله، وزلفى عنده، وإعلاء النواصي بالطاعة.
(١) هكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى عمار.
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال على بن المديني هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر بن الخطاب، ولا يحفظ الا من هذا الوجه ورجاله معروفون.
(٢) ما بين القوسين استدراك فى الهامش وضعناه فى موضعه من النص حسب العلامة المميزة.
363
ومن تصدّق بنفسه على طاعة ربه، وتصدّق بقلبه على الرضا بحكمه، ولم يخرج بالانتقام لنفسه، وحثّ الناس على ما فيه نجاتهم بالهداية إلى ربه، وأصلح بين الناس بصدقه فى حاله- فإنّ لسان فعله أبلغ فى الوعظ من لسان نطقه، فهو الصّديق فى وقته. ومن لم يؤدّب نفسه لم يتأدب به غيره، وكذلك من لم يهذّب حاله لم يتهذّب به غيره.
«وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» غير سائل به مالا أو حائز لنفسه به حالا فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة فى طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود فى هذه الآية «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٥]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
خواطر الحق سفراؤه تعالى إلى العبد، فمن خالف إشارات ما طولب به من طريق الباطن استوجب عقوبات القلوب، ومنها أن يعمى عن إبصار رشده. وكما أن مخالف الإجماع عن الدين خارج فمخالف ما عرف من الحقيقة بعد ما تبين له الطريق- ساقط.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١١٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦)
(١) نلاحظ فى هذه الفقرة أن القشيري يوجه- بطريق غير مباشر- لومه إلى بعض الوعاظ المحترقين الذين ظهروا فى عصره وقبل عصره.
قوله
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٧ الى ١٢٠]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
: إثبات الغير فى توهم ذرة من الإبداع عين الشرك، فلا للعفو فيه مساغ. وما دون الشرك فللعفو فيه مساغ، ومن توسّل إليه سبحانه بما توهّم من نفسه فقد أشرك من حيث لم يعلم. كلّا، بل هو الله الواحد.
قوله: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ: أوقعوا على الجمادات تسميات «١»، وانخرطوا فى سلك التوهم، وركنوا إلى مغاليط الحسبان، فضلّوا عن الحقيقة.
«وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ»، أي ما يدعون إلا إبليس الذي أبعده الحقّ عن رحمته، وأسحقه «٢» ببعده، وما إبليس إلا مقلّب فى القبضة على ما يريده المنشئ، ولو كان به ذرة من الإثبات لكان به شريكا فى الإلهية. كلّا، إنما يجرى الحقّ- سبحانه- على الخلق أحوالا، ويخلق «٣» عقيب وساوسه للخلق ضلالا، فهو الهادي والمضل، وهو- سبحانه- المصرّف للكل، فيخلق (....) «٤» فى قلوبهم عقيب وساوسه إليهم طول الآمال، ويحسّن فى أعينهم قبيح الأعمال، ثم لا يجعل لأمانيّهم تحقيقا، ولا يعقب لما أمّلوه تصديقا، فهو تعالى موجد تلك الآثار جملة، ويضيفها إلى الشيطان مرة، وإلى الكافر مرة، وهذا معنى قوله:
«وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ» الآية ومعنى قوله تعالى «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢١]
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١).
(١) واضح من كلام القشيري أنه يفهم الإناث على أنها الأوثان، وهكذا عن عائشة. وروى عن بعض الصحابة أنها الملائكة إشارة إلى قوله تعالى فى موضع آخر (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا). وعن الحسن: الإناث كل شىء ميت ليس فيه روح.
(٢) فى النسخة ص (استحقه) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) يؤكد القشيري نسبة خلق كل شىء لله، وتجريد الشيطان من كل سلطان.
(٤) مشتبهة.
الذين قسم لهم الضلالة فى الحال حكم عليهم بالعقوبة فى المآل «١»، ولولا أنه أظهر ما أظهر بقدرته وإلا متى كانت شظية من الضلالة والهداية لأربابها؟! والوقوف على صدق التوحيد عزيز، وأرباب التوحيد قليل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
الذين أسعدناهم حكما وقولا، أنجدناهم حين أوجدناهم كرما وطولا، ثم إنّا نحقّق لهم الموعود من الثواب، بما نكرمهم به من حسن المآب.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
من زرع الحنظل لم يجتن الورد والعبهر «٢»، ومن شرب السّمّ الزّعاف لم يجد طعم العسل، كذلك من ضيّع حقّ الخدمة لم يستمكن على بساط القربة، ومن وسم بالشّقوة لم يرزق الصفوة، ومن نفته القضية «٣» فلا ناصر له من البريّة.
قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ.... الآية. من تعنّي فى خدمتنا لم يبق عن نيل
(١) وردت (المال) وصوابها (المآل).
(٢) العبهر- الياسمين وقيل النرجس (لسان العرب ج ٢٠ ص ٥٣٦) ط بيروت. [.....]
(٣) القضية مقصود بها القضاء، قضاء الله.
نعمتنا، بل من أغنيناه «١» فى طلبنا أكرمناه بوجودنا، بل من جرّعناه كأس اشتياقنا أنلناه أنس لقائنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٥]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥)
لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله يعنى أفرد قصده إلى الله، وأخلص عقده لله عما سوى الله، ثم استسلم فى عموم أحواله لله بالله، ولم يدّخر شيئا عن الله لا من ماله ولا من جسده، ولا من روحه ولا من جلده، ولا من أهله ولا من ولده، وكذلك كان حال إبراهيم عليه السّلام.
وقوله «وَهُوَ مُحْسِنٌ» : الإحسان- بشهادة الشرع- أن تعبد الله كأنّك تراه، ولا بد للعبد من بقية «٢» من عين الفرق حتى يصحّ قيامه بحقوقه- سبحانه- لأنه إذا حصل (مستوفى) «٣» بالحقيقة لم يصح إسلامه ولا إحسانه، وهذا اتّباع إبراهيم عليه السّلام الحنيف الذي لم يبق منه شىء على وصف الدوام.
وقوله «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» : جرّد الحديث عن كل سعى وكد وطلب وجهد حيث قال: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» فعلم أنّ الخلّة لبسة يلبسها الحقّ لا صفة يكتسبها العبد.
(١) ربما كانت (عنيناه) بالعين أي من احتمل العناء فى سبيلنا لتلائم (جرعناه كأس) أما (أغنيناه) بالغين فيكون معناها أوجدنا فيه الغناء عما سوانا.
(٢) أي لا بد أن يرد إلى القرق الثاني حتى يستطيع أن يقوم بالفرائض الواجبة عليه فى أوقاتها.
(٣) هكذا جاءت فى النسخة ص وربما كانت فى الأصل (مساس) بالحقيقة، فنحن نعرف عن مذهب القشيري فى هذا الخصوص أن العبد ينبغى أن يحافظ على الشريعة مهما كانت الظروف، وأي مساس بالشريعة بدعوى الاصطلام أو الفناء- فمردود، وهو آية تقص فى صدق صاحبه.
ويقال الخليل المحتاج «١» بالكلية إلى الحق فى كل نفس ليس له شىء منه بل هو بالله لله فى جميع أنفاسه وأحواله، اشتقاقا من الخلّة (التي هى الخصاصة وهى الحاجة) «٢».
ويقال إنه من الخلة التي هى المحبة، والخلة أن تباشر المحبة جميع أجزائه، وتتخلل سرّه حتى لا يكون فيه مساغ للغير.
فلمّا صفّاه الله- سبحانه- (عليه السّلام) عنه، وأخلاه منه نصبه للقيام بحقه بعد امتحائه «٣» عن كل شىء ليس الله سبحانه.
ثم قال: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا....» «٤» : لا يلبى الحاج إلا لله، وهذه إشارة إلى جمع الجمع «٥».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٧]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)
نهاهم عن الطمع الذي يحملهم على الحيف والظلم على المستضعفين من النّسوان واليتامى، وبيّن أنّ المنتقم به لهم الله، فمن راقب الله فيهم لم يخسر على الله بل يجد جميل الجزاء، ومن تجاسر عليهم قاسى لذلك أليم البلاء.
(١) يشير القشيري بذلك إلى محاولة فريق من المعتزلة صرف الخلة عن كل ما يتطرق إليها من دلالة حسبة، والتماسهم ذلك فى الشعر القديم وقد نبهنا إلى ذلك فى هامش سبق.
(٢) هذه العبارة مكررة خطأ من الناسخ.
(٣) وردت (بعد امتحانه) بالنون وقد صوبناها إلى (امتحائه) أي بعد وصوله إلى المحو.
(٤) آية ٢٧ سورة الحج
(٥) وردت (جميع الجمع) والصواب (جمع الجمع)
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٨]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨)
صحبة الخلق بعضهم مع بعض إن تجردت عن حديث الحق فإنها تتعرض للوحشة والملامة، وممازجة النفرة والسآمة. فمن أعرض عن الله بقلبه أعرض الخلق عن مراعاة حقه، وخرج الكافة عليه باستصغار أمره واستحقار قدره. ومن رجع إلى الله بقلبه، استوى له- فى الجملة والتفصيل- أمره، واتسع «١» لاحتمال ما يستقبل من سوء خلق الخلق صدره فهو يسحب «٢» ذيل العفو على هنات جميعهم، ويؤثر الصلح بترك نصيبه وتسليم نصيبهم قال الله تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ».
واتضاعك فى نفسك عن منافرة من يخاصمك أجدى عليك، وأخرى لك من تطاولك على خصمك باغيا الانتقام، وشهود مالك فى مزية المقام. وأكثر المنافقين فى أسر هذه المحنة.
قوله تعالى: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ... » : وشحّ النفس قيام العبد بحظّه.
فلا محالة من حجب عن شهود الحق ردّ إلى شهود النّفس.
قوله تعالى: «وَإِنْ تُحْسِنُوا» : يعنى يكن ذلك خيرا لكم. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.
«وَتَتَّقُوا» : يعنى عن رؤيتكم مقام أنفسكم، وشهود قدركم، يعنى وأن تروا ربّكم، وتفنوا برؤيته عن رؤية قدركم.
(١) وردت (والتسع) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) وردت (ويستحب) وهى خطأ النسخ.
«فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» : يعنى إذا فنيتم عنكم وعن عملكم، فكفى بالله عليما بعد فنائكم، وكفى به موجدا عقب امتحائكم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢٩]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)
«٢» يعنى أنّكم إذا (....) «٣» فى أموركم انعكس الحال عليكم، وانعكس صلاح ذات بينكم فسادا لكم، فإذا قمتم بالله فى أموركم استوى العيش لكم، وصفا عن الكدر وقتكم.
ويقال من حكم الله بنقصان عقله فى حاله «٤» فلا تقتدرون أن تجبروا نقصانهم بكفايتكم.
قوله تعالى «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ» : يعنى لا تزيغوا عن نهج الأمر. قفوا حيثما وقفتم، وأنفذوا فيما أمرتم.
وقوله: «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» يعنى أنكم إذا منعتموهن عن صحبة أغياركم ثم قطعتم عنهن ما هو حظوظهن منكم أضررتم بهن من الوجهين لا منكم نصيب، ولا إلى غيركم سبيل، وإن هذا الحيف عظيم. والإشارة «٥» من هذا أنه إذا انسد عليك طريق حظوظك فتح- سبحانه- عليك شهود حقه، ووجود لطفه فإنّ من كان فى الله تلفه فالحق- سبحانه- خلفه، وإن تصلحوا ما بينكم وبين الخلق، وتثقوا فيما بينكم وبين الحق فإن الله غفور لعيوبكم، رحيم بالعفو عن ذنوبكم.
(١) وردت (امتحانكم) وهى خطأ فى النسخ فالامتحاء يرادف الفناء.
(٢) وردت (وان) وهى خطأ في النسخ.
(٣) مشتبهة، ونرجح أنها كلمة تساوى فى المعنى (قمتم بأنفسكم) لتقابل ما جاء بعد (فإذا قمتم بالله). [.....]
(٤) يشير القشيري بذلك الى النساء.
(٥) أسلوب القشيري في هذه الإشارة فى حاجة منا الى وعى وتيقظ، فالحظوظ للعبد، والحقوق للحق، والشهود للحق والوجود يكون للطف. والمغفرة- بمعنى التغطية- تكون للعيب، والعفو- الإزالة- يكون للذنب والعيب قد يبقى مغطى ولكن الذنب يزول.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٠]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
الصحبة التي لا بدّ منها صحبة القلب مع دوام افتقار إلى الله إذ الحقّ لا بدّ منه. فأمّا الأغيار فلا حاجة لبعضهم إلى بعض إلا من حيث الظاهر، وذلك فى ظنون أصحاب التفرقة، فأمّا أهل التحقيق فلا تجرية لهم أن حاجة الخلق بجملتها إلى الله سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣١]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)
كلّف الكافة بالرجوع إليه، ومجانبة من سواه، والوقوف على أمره، ولكن فريقا وفّق وفريقا خذل. ثم عرّف أهل التحقيق أنه غنىّ عن طاعة كلّ ولىّ، وبرىء عن «١» زلة «٢» كل غوىّ.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢)
قطع الأسرار عن التّعلّق بالأغيار بأن عرّفهم انفراده بملك ما فى السموات والأرض، ثم أطمعهم فى حسن تولّيه، وقيامه بما يحتاجون إليه بجميل اللطف وحسن الكفاية بقوله:
«وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» يصلح يملك حالك ولا يختزل مالك.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٣]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣).
(١) قبل (عن) واو زائدة فحذفناها
(٢) وردت (ذلة) بالذال والصواب أن تكون هنا بالزاي.
من استغنى عنه فى آزاله فلا حاجة له إليه فى آباده. ويقال لا يحتاج إلى أحد والعبد لا يستغنى عنه فى نفس.
ويقال لا نهاية للمقدورات فإن لم يكن عمرو فزيد، وإن لم يكن عبد فعبيد، والذي لا بدل عنه ولا خلف فهو الواحد الأحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٤]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
لمّا علّقوا قلوبهم بالعاجل من الدنيا ذكّرهم حديث الآخرة، فقال «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» تعريفا لهم أنّ فوق هممهم من هذه الخسيسة «١» ما هو أعلى منها من نعيم الآخرة، فلمّا سمت إلى الآخرة قصودهم قطعهم عن كل مرسوم «٢» ومخلوق بقوله: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥).
(١) يقصد الدنيا بهذا الوصف.
(٢) الرسم- كما يقول أبو نصر السراج فى لمعه- هو ما رسم به ظاهر الخلق برسم العلم ورسم الخلق فيمتحى بإظهار سلطان الحق عليه.
سئل الجنيد عن رجل غاب اسمه وذهب وصفه وامتحى رسمه فقال: نعم عند مشاهدته قيام الحق له بنفسه لنفسه فى ملكه، فيكون ذلك معنى قوله امتحى رسومه يعنى علمه وفعله المضاف إليه بنظره إلى قيام الله له فى قيامه (اللمع ص ٤٢٧).
(٣) آية ٧٣ سورة طه
القسط العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه من كلّ من هو لك عليه أمر، وإلى تحصيل ذلك الحق سبيل إمّا أمر بمعروف أو زجر عن مكروه أو وعظ بنصح أو إرشاد إلى شرع أو هداية إلى حق.
ومن بقي لله عليه حق لم يباشر خلاصة التحقيق سره لله.
وأصل الدّين «١» إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله- سبحانه أحدا إمّا والدا أو أمّا أو ولدا أو قريبا أو نسيبا، أو ادّخر عنه نصيبا فهو بمعزل عن القيام بالقسط.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
يا أيها الذين آمنوا من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث الكشف والعيان.
ويقال يا أيها الذين آمنوا تصديقا آمنوا تحقيقا بأن نجاتكم بفضله لا بإيمانكم.
ويقال يا أيها الذين آمنوا فى الحال آمنوا باستدامة الإيمان إلى المآل «٢» ويقال يا أيها الذين آمنوا آمنوا وراء كل وصل وفصل «٣» ووجد وفقد.
(١) بهذا نستطيع أن نجد صلة رحم بين لفظتى (الدّين) و (الدّين) إذ يكون لكل منهما ارتباط- على نحو ما- بالحق وصاحب الحق.
(٢) وردت (المال) وهى خطأ فى النسخ، فالمقصود بالحال: الدنيا، والمآل: العقبى
(٣) الوصل معناه لحوق الغائب. وقال يحيى بن معاذ: «من لم يعمّ عينيه عن النظر إلى ما تحت العرش لم يصل إلى ما فوق العرش». يعنى لم يلحق ما فاته من مراقبة الذي خلق العرش. وقال الشبلي:
من زعم أنه واصل فليس له حاصل.
والفصل فوت الشيء المرجو من المحبوب.
قال بعضهم فرح الاتصال ممزوج بترح الانفصال (اللمع ص ٤٣٣)
ويقال يا أيها الذين آمنوا باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا أنختم بعقوة الوصول، واستمكنت منكم حيره البديهة «١» وغلبات الذهول «٢» ثم أفقتم عن تلك الغيبة فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات «٣» فإن الصمدية منزهة متقدسة عن كل قرب وبعد، ووصل وفصل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨)
الذين تبدّلت بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم انتعشوا ثم ختم بالسوء أحوالهم، أولئك الذين قصمتهم «٤» سطوة العزة حكما، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالا- فالحقّ سبحانه لا يهديهم لقصد، ولا يدلهم على رشد، فبشّرهم بالفرقة الأبدية، وأخبرهم بالعقوبة السرمدية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٠]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)
(١) الحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأملهم وحضورهم وتفكرهم تحجبهم عن التأمل والفكرة، وقال الواسطي: حيرة البديهة أجل من سكون التولي عن الحيرة (اللمع ص ٤٢١).
(٢) الغلبات عند قوة الرغبة والانفلات من دواعى الهوى والنفوس، عند قوة رغبة الطالب إذا لاح له أعلام المزيد فى حال طلبه المطلوب، فلو ظن أن مطلوبه وراء بحر سبحه أو فى تيه سلكه بالهجوم عند غلبات الإرادة وقوة سلطان المطالبة عليه (اللمع ص ٤١٧).
(٣) هذا تنبيه هام وخطير يدحض به المضللين والأدعياء، أولئك الذين شن عليهم القشيري هجومه العنيف فى مستهل «رسالته» والذين أساءوا إلى التصوف وأهله.
(٤) القصم: الكسر. حكى عن الزقاق أنه قال: لو أن المعاصي كانت شيئا اخترته لنفسى ما أجزتنى ذلك لأن ذلك يشيهنى، وإنما قصم ظهرى حين سبق لى منه ذلك. (اللمع ص ٤٣٤). [.....]
374
من اعتصم بمخلوق فقد التجأ إلى غير مجير، واستند إلى غير كهف، وسقط فى مهواة من الغلط بعيد قعرها، شديد مكرها. أيبتغون العزّ عند الذي أصابه ذل التكوين؟! متى يكون له عزّ على التحقيق؟ ومن لا عزّ له يلزمه فكيف يكون له عز يتعدّى إلى غيره؟
ويقال لا ندرى أي حالتهم أقبح: طلب العز وهم فى ذل القهر وأسر القبضة أم حسبان ذلك وتوهمه من غير الله؟
ويقال من طلب الشيء من غير وجهه فالإخفاق «١» غاية جهده، ومن رام الغنى «٢» فى مواطن الفاقة فالإملاق قصارى كدّه.
ويقال لو هدوا بوجدان العزّ لما صرفت قصودهم إلى من ليس بيده شىء من الأمر.
قوله: «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» العزّ على قسمين: عزّ قديم فهو لله وصفا، وعزّ حادث يختص به سبحانه من يشاء فهو له- تعالى- ملكا ومنه لطفا «٣».
قوله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ.... الآية: لا تجاوروا أرباب الوحشة فإن ظلمات أنفسهم تتعدى إلى قلوبكم عند استنشاقكم ما يردّون من أنفاسهم، فمن كان بوصف ما متحققا شاركه حاضروه فيه فجليس من هو فى أنس مستأنس «٤»، وجليس من هو فى ظلمة مستوحش.
ويقال هجران أعداء الحقّ فرض، ومخالفة الأضداد ومفارقتهم دين، والركون إلى أصحاب الغفلة قرع باب الفرقة.
(١) وردت (الأحقاف) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود الخيبة والإخفاق.
(٢) أخطأ الناسخ فكتبها بالألف هكذا: (الغنا).
(٣) يتساءل القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» تحت اسم «العزيز» : فإن قيل كيف الجمع بين قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» وقوله تعالى «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» ثم يجيب: لا تنافى بينهما فان العز الذي للرسول وللمؤمنين هو لله تعالى ملكا وخلقا، وعزه- سبحانه وتعالى- له وصفا، فاذا العز كله لله تعالى.
(٤) أخطأ الناسخ إذ كتبها (مستأنف) ولا معنى لها هنا والصواب (مستأنس) لتقابل (مستوحش)
375
قوله: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» : أوضح برهان على سريرة (....) «١» صحبة من يقارنه «٢» وعشرة من يخادنه فالشكل مقيد بشكله، والفرع منتشر عن أصله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤١]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
لمّا عدموا الإخلاص فى الحقيقة، وما ذقوا فيما استشعروا من العقيدة، امتازوا «٣» عن المسلمين فى الحكم، وباينوا الكافرين فى الاسم، وواجب على أهل الحقّ التحرّز عنهم والتحفّظ منهم، ثم ضمن لهم- سبحانه- جميل الكفاية بقوله: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» «٤» وهذا على العموم فإن وبال كيدهم إليهم مصروف، وجزاء مكرهم عليهم موقوف، والحقّ- من قبل الحقّ سبحانه- منصور أهله، والباطل- بنصر الحقّ سبحانه- مجتث أصله.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)
(١) مشتبهة ولا بد أنها كلمة بمعنى (المرء) أو (الشخص)... ونحوهما.
(٢) يقارنه هنا معناها أن يكون له قرين.
(٣) امتازوا هنا معناها افترقوا بعلامات مخصوصة.
(٤) قال على رضى الله عنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يوم القيامة حين يحكم الله بينهم، فلا يكون للكافرين سبيل إلى حجة. ويرى غيره أن الله لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا فى الدنيا فلن يستطيعوا عليهم نصرا بالكلية، ولكن قد يحصل لهم ظفر فى بعض الأحيان على بعض الناس ولكن العاقبة للمتقين فى الدنيا والآخرة. (ابن كثير ص ٥٦٧)
خداع المنافقين: إظهار الوفاق فى الطريقة واستشعار الشرك فى العقيدة.
وخداع الحق إياهم: ما توهموه من الخلاص، وحكموا به لأنفسهم من استحقاق الاختصاص، فإذا كشف الغطاء أيقنوا أن الذي ظنّوه شرابا كان سرابا، قال تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» «١» وقوله: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا....»
الآية: علامة النفاق وجود النشاط عند شهود الخلق، وفتور العزم عند فوات رؤية الخلق.
وقوله: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ... » الآية: أخسّ الخلق من يدع «٢» صدار العبودية، ولم يجد سبيلا إلى حقيقة الحرية «٣»، فلا له من العز شظية، ولا فى الغفلة عيشة هنية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤).
(١) آية: ٤٧ سورة الزمر.
(٢) وردت (تدع) والصواب (يدع) لأن الكلام ليس خطابا، ومعناها ترك.
(٣) حقيقة الحرية إشارة إلى نهاية التحقق بالعبودية لله تعالى، وهو ألا يملكك شىء من المكونات وغيرها، فتكون حرا إذا كنت لله عبدا، كما قال بشر الحافى لسرى السقطي رحمهما الله فيما حكى عنه أنه قال:
إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك، لا تراء أهلك فى الحضر، ولا وفقتك فى السفر، اعمل لله، ودع الناس عنك.
وقال الجنيد: آخر مقام العارف الحرية.
وقال بعضهم: لا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى الله مسترقا (اللمع ص ٤٥٠)
كرّر «١» عليهم الوعظ، وأكّد بمباينة الأعداء عليهم الأمر، إبلاغا فى الإنذار، وتغليظا فى الزجر، وإلزاما للحجة (....) «٢» موضع العذر.
قوله: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً» : توعّدهم على موالاتهم للكفار بما لم يتوعّد على غيره من المخالفات، لما فيه من إيثار الغير على المعبود وإيثار الغير على المحبوب من أعظم الكبائر فى أحكام الوداد. فإذا شغل من قلبه محلا- كان للمؤمنين- بالأغيار استوجب ذلك العقوبة فكيف إذا شغل محلا من قلبه- هو للحق- بالغير؟! والعقوبة التي توعّدهم بها أن يكلهم وما اختاروه من موالاة الكفار، وبئس البدل! كذلك من بقي (عن) «٣» الحق تركه مع الخلق فيتضاعف عليه البلاء للبقاء عن الحق والبقاء مع الخلق، وكلاهما شديد من العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٥]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥)
دلّت الآية على أنّ المنافق ليس بمستأمن لأنّ الإيمان ما يوجب الأمان، فالمؤمن يتخلّص بإيمانه من النار، فما يكون سبب وقوعه فى الدرك الأسفل من النار لا يكون إيمانا، ويقال هذا تحقيق قوله: «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكره فوق كل مكر. لمّا أظهر المنافق ما هو مكر مع المؤمنين كانت عقوبتهم أشد من عقوبة من جاهر «٤» بكفره.
ويقال نقلهم «٥» فى آجلهم «٦» إلى أشد ما هم عليه فى عاجلهم، لما فى الخبر: «من كان
(١) نعرف من مذهب القشيري أنه لا يميل إلى القول بالتكرار في القرآن الكريم، ولعل أبسط نتائج هذا المذهب أنه لا يرى فى البسملة التي تأنى فى مستهل كل سورة بلفظها- أي شىء من التكرار، بل هى عنده متجددة بما يتلاءم والسورة، لأجل هذا تستوقفنا هنا كلمة: «كرر» ونتدبر الأسباب القوية التي أرجع إليها التكرار.
(٢) مشتبهة.
(٣) وردت (من) ولكن المعنى يرفضها قطعا ويؤيد (عن) خصوصا وقد جاءت (عن) فى العبارة التالية التي هى بمثابة نتيجه للجزء الأول من الكلام. [.....]
(٤) وردت (جاهد) بالدال والصواب ان تكون (جاهر) بالراء فالمعنى يقتضى ذلك.
(٥) وردت هكذا (نقلهم) بنقطة محذوفة فوق الحرف الأول ثم ثلاث نقط فوق القاف وربما أراد الناسخ أن يحذف النقطة الثالثة فأخطا وحذف النقطة التي فوق النون.
(٦) وردت (أجلهم) والصواب (آجلهم).
بحالة لقى الله بها» فالمنافق- اليوم- فى الدرك الأسفل من الحجر «١» فكذلك ينقلون إلى الدرك الأسفل من النار. والدرك الأسفل من الحجر- اليوم- لهم ما عليهم من اسم الإيمان وليس لهم من الله شظية وهذا هو البلاء الأكبر.
ويقال استوجبوا الدرك الأسفل من النار لأنهم صحبوا اليوم اسم الله الأعظم لا على طريقة الحرمة. ويقال استوجبوا ذلك لأنهم أساءوا الأدب فى حال حضورهم بألسنتهم، وسوء الأدب يوجب الطرد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٦]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
لم يشترط كل هذه الشرائط فى رجوع أحد عن جرمه ما اشترط فى رجوع المنافقين عن نفاقهم لصعوبة حالهم فى كفرهم. وبعد تحصيلهم هذه الشروط قال لهم: «فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» ولم يقل من المؤمنين، وفى هذا إشارة أيضا إلى نقصان رتبتهم وإن تداركوا بإخلاصهم ما سبق من آفتهم، وفى معناه أنشدوا:
والعذر مبسوط ولكنما شتان بين العذر والشكر
ويقال إن حرف (مع) للمصاحبة، فإذا كانوا مع المؤمنين استوجبوا ما يستوجب جماعة المؤمنين، فالتوبة هاهنا أي رجعوا عن نفاقهم، وأصلحوا- بصدقهم فى إيمانهم، واعتصموا بالله بالتبرؤ من حولهم وقوتهم، وشاهدوا المنّة لله عليهم حيث هداهم، وعن نفاقهم نجّاهم.
قوله: «وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ» : ونجاتهم بفضل ربهم لا بإيمانهم فى الحال، ورجوعهم عن نفاقهم فيما مضى عليهم من الأحوال.
ويقال أخلصوا دينهم لله وهو دوام الاستعانة بالله فى أن يثبتهم على الإيمان، ويعصمهم عن الرجوع إلى ما كانوا عليه من النفاق.
(١) نرجح أنها (الهجر) بالهاء ويتأيد ذلك بقوله فيما بعد (ليس لهم من الله شظية).
ويقال تابوا عن النفاق، وأصلحوا بالإخلاص فى الاعتقاد، واعتصموا بالله باستدعاء التوفيق وأخلصوا دينهم لله فى أن نجاتهم بفضل الله ولطفه لا بإتيانهم بهذه الأشياء- فى التحقيق.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٧]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
هذه الآية من الآيات التي توجب حسن الرجاء وقوة الأمل، لأنه جعل من أمارات الأمان من العقوبات شيئين اثنين: الشكر والإيمان، وهما خصلتان يسيرتان خفيفتان فإن الشكر قالة، والإيمان حالة، ولقد هوّن السبيل على العبد حين «١» رضى منه بقالته وحالته. والشكر لا يصح إلا من المؤمنين فأمّا الكافر فلا يصح منه الشكر لأن الشكر طاعة والطاعة لا تصح من غير المؤمن.
وقوله: «وَآمَنْتُمْ» يعنى فى المآل فكأنه بيّن أن النجاة إنما تكون لمن كانت عاقبته على الإيمان، فمعنى الآية لا يعذبكم الله عذاب التخليد «٢» إن شكرتم فى الحال وآمنتم فى المآل.
ويقال إن شكرتم وآمنتم صدقتم بأن نجاتكم بالله لا بشكركم وبإيمانكم.
ويقال الشكر شهود النعمة من الله والإيمان رؤية الله فى النعمة، فكأنه قال: إن شاهدتم النعمة من الله فلا يقطعنّكم شهودها عن شهود المنعم.
وقوله: «وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» أي والله شاكر عليم، ومعنى كونه شاكرا أنه مادح للعبد ومشهد عليه فيما يفعله لأن حقيقة الشكر وحدّه الثناء على المحسن بذكر إحسانه فالعبد بشكر الله أي يثنى عليه بذكر إحسانه إليه الذي هو نعمته عليه، والربّ يشكر للعبد أن يثنى عليه بذكر إحسانه الذي هو طاعته له، فإن الله يثنى عليه بما يفعله من الطاعة مع علمه بأن له ذنوبا كثيرة.
ويقال يشكره- وإن علم أنه سيرجع فى المستأنف إلى قبيح أعماله.
(١) وردت (من) ونرجح أنها فى الأصل (حين).
(٢) وردت (التخليل) ونرجح أنها (التخليد) فهو وصف عذاب جهنم.
ويقال يشكره لأنه يعلم ضعفه، ويقال يشكره لأنه يعلم أنه لا يعصى وقصده مخالفة ربّه ولكنه يذنب لاستيلاء أحوال البشرية عليه من شهوات غالبة.
ويقال يشكره لأن العبد يعلم فى حالة ذنوبه أن له ربّا يغفر له.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٨]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)
قول المظلوم فى ظالمه- على وجه الإذن له- ليس بسوء فى الحقيقة، لكنه يصح وقوع لفظة السوء عليه كقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» «١» والجزاء ليس بسيئة.
ويقال من علم أن مولاه يسمع استحيا من النطق بكثير مما تدعو نفسه إليه.
ويقال الجهر بالسوء هو ما تسمعه نفسك منك فيما تحدّث فى نفسك من مساءة الخلق فإن الخواص يحاسبون على ما يتحدثون فى أنفسهم «٢» بما (يعد) «٣» لا يطالب به كثير من العوام فيما يسمع منهم الناس.
قوله: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» : قيل ولا من ظلم. وقيل معناه ولكن من ظلم فله أن يذكر ظالمه بالسوء «٤».
ويقال من لم يؤثر مدح الحقّ على القنح فى الخلق فهو المغبون فى الحال.
ويقال من طالع الخلق بعين الإضافة إلى الحق بأنهم عبيد الله لم ينبسط فيهم لسان اللوم
(١) الآية ٤٠ سورة الشورى.
(٢) من ذلك ما يحكيه القشيري فى كتابه «التحبير فى التذكير» عن الشبلي حيث يقول: «قال بعضهم كنت مع الشبلي- رحمه الله- ففتح له بمنديل حسن فمر بكلب ميت فقال لى: كفن هذا الكلب بهذا المنديل. وعدت إليه فقال لى فعلت ما أمرتك به؟ فقلت: لا. فلم يقل لى شيئا فقلت له: ما سبب ذلك الذي أمرتنى به؟ فقال: عند ما مررت به استقذرته واستقبحته، فنوديت في سرى: ألسنا نحن خلقناه؟ فأمرتك بذلك كفارة لما خطر لى».
(٣) ربما كانت هذه اللفظة (يعد) زائدة، أو سقطت (لا) قبلها فيكون معنى (لا يعد) لا يحسب ولا يعتبر.
(٤) عن ابن عباس: إن الله لا يحب أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد أرخص له.
وعن الحسن البصري يكفى أن يقول المظلوم «اللهم أعنى عليه واستخرج حقى منه» وفى رواية عنه أنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدى عليه.
يقول الرجل لصاحبه: «أنا أحتمل من (....) «١» خدمتك حرمة لك ما لا أحتمله من ولدي»، فإذا كان مثل هذا معهودا بين الخلق فالعبد بمراعاة هذا الأدب- بينه وبين مولاه- أولى.
ويقال لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من العوام، ولا يحب ذلك بخطوره «٢» من الخواص.
ويقال الجهر بالسوء من القول من العوام أن يقول فى صفة الله ما لم يرد به الإذن والتوفيق.
والجهر بالسوء من القول فى صفة الخلق أن تقول ما ورد الشرع بالمنع منه، وتقول فى صفة الحق ما لا يتصف به فإنك تكون فيه كاذبا، وفى صفة الخلق عن الخواص ما اتصفوا به من النقصان- وإن كنت فيه صادقا.
قوله «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» : سميعا لأقوالكم، عليما بعيوبكم، يعنى لا تقولوا للأغيار ما تعلمون أنكم بمثابتهم.
ويقال سميعا لأقوالكم عليما ببراءة ساحة من تقوّلتم عليه، فيكون فيه تهديد للقائل- لبرىء الساحة- بما يتقوّل عليه.
ويقال سميعا: أيها الظالم، عليما: أيها المظلوم تهديد لهؤلاء وتبشير لهؤلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٤٩]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
«إِنْ تُبْدُوا خَيْراً» تخلقا بآداب الشريعة، وتخفوه تحققا بأحكام الحقيقة.
«أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» أخذا من الله ما ندبكم إليه من محاسن الخلق.
«فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا» لعيوبكم «قَدِيراً» على تحصيل محبوبكم وتحقيق مطلوبكم.
ويقال إن تبدوا خيرا لتكونوا للناس قدوة فيما تسنّون وما تعينون غيركم على ما يهدون به من سلوك سنّتكم، وإن تخفوه اكتفاء بعلمه، وصيانة لنفوسكم عن آفات التصنّع، وثقة
(١) مشتبهة.
(٢) أي (بأن يخطر عليهم خاطر) فعقوبة العوام على النطق والقول وعقوبة الخواص على (الخاطر)
بأن «١» من تعملون «٢» له يرى ذلك ويعلمه منكم، وإن تعفوا عن سوء أي تتركوا ما تدعوكم إليه نفوسكم «٣» فالله يجازيكم بعفوه على ما تفعلون، وهو قادر على أن يبتليكم بما ابتلى به الظالم، فيكون تحذيرا لهم من أن يغفلوا عن شهود المنّة، وتنبيها على أن يستعيذوا أن يسلبوا العصمة، وأن يخذلوا حتى يقعوا فى الفتنة والمحنة.
ويقال إن تبدوا خيرا فتحسنوا إلى الناس، أو تخفوه بأن تدعوا لهم فى السرّ، أو تعفوا عن سوء إن ظلمتم.
ويقال من أحسن إليك فأبد معه خيرا جهرا، ومن كفاك شرّه فأخلص بالولاء والدعاء له سرّا، ومن أساء إليك فاعف عنه كرما وفضلا تجد من الله عفوه عنك عما ارتكبت، فإن ذنوبك أكثر، وهو قادر على أن يعطيك من الفضل والإنعام ما لا تصل إليه بالانتصاف من خصمك، وما تجده بالانتقام «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)
أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عدّ من ذميم فعلهم، ثم بيّن أنه
(١) أخطا الناسخ فكتبها (باب).
(٢) مستدركة في الهامش (تعلمون) لأنها فى المتن (تعلمون) والصواب ما جاء فى الهامش. [.....]
(٣) إشارة القشيري هنا فى حاجة منا إلى تدبر، فهو يبدأ أولا بالنفس، ثم ينتقل إلى الناس، ذلك لأنه حسب ما نعرف عنه يعتبر صراعك مع نفسك هو الميدان الأول الذي ينبغى أن تحارب فيه أهواءك وأطماعك ودعواك هى أعدى أعدائك، ثم تأتى من بعد ذلك علاقاتك خارج نفسك أي مع الناس.
(٤) واضح من هذا مقدار ما يتمتع به الصوفية من رحابة الصدر ولين الجانب وسماحة الطبع.
ضاعف «١» من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لتعلم أنه لأهل الفساد بالمرصاد.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
لما آمنوا بجميع الرسل، وصدقوا فى جميع ما أمروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء.
وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (....) «٢» إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (من) «٣» أمر بالإيمان به إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله. فالإشارة فى هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلّى الله عليه وسلّم: «الحجّ عرفة» «٤» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يدرك الحج.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» «٥» قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٣]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣)
(١) وردت (أضعف) وهى خطأ من الناسخ، ولا بد أن تكون (ضاعف) العذاب لأن جزاء الكافرين عذاب مهين وهو الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروى.
(٢) مشتبهة.
(٣) نرجح أنها في الأصل (ما) أمر بالإيمان به منعا للبس، ويمكن أن تقبل (من) على أنها مرتبطة بالرسل.
(٤) «الحج عرفه من جاء قبل طلوع الفجر من ليلة فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه (الامام أحمد فى مسنده وأبو عدى فى الكامل والحاكم فى مستدركه والبيهقي فى السنن) ٣٥٨/ ٢ منتخب كنز العمال.
(٥) «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شىء»
.
مفتاح كنوز السنة (مادة العتق) للدكتور ا. فنسنك ط لجنة ترجمة دائرة المعارف الاسلامية، ومراجعه سنن أبى داود كتاب ٢٨ باب ١ وسنن ابن ماجه كتاب ١٩ باب ٣ وموطأ مالك كتاب ٣٩ ومسند أحمد ج ٢ ص ١٧٨، ١٨٤.
384
اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه: أحدهما سؤالهم الرؤية والثاني عبادة العجل بعد ما ظهرت لهم الآيات الباهرة.
فأمّا سؤالهم الرؤية فذمّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، وكل ذلك سوء أدب.
الإشارة فيه أيضا أن من يكتفى بأن يكون العجل معبوده- متى- يسلم له أن يكون الحقّ مشهوده؟
ويقال القوم لم يباشر العرفان أسرارهم فلذلك عكفوا بعقولهم «١» على ما يليق بهم من محدود جوّزوا أن يكون معبودهم.
قوله جل ذكره: وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً.
حجة ظاهرة، بل تفردا صانه من التمثيل والتعطيل.
والسلطان المبين التحصيل والتنزيه المانع من التعطيل والتشبيه.
ويقال السلطان المبين القوة بسماع الخطاب من غير واسطة.
(١) هذا كلام له أهمية قصوى فى تحديد مدى تقدير القشيري لقيمة العقل.
فنحن نعرف من مذهبه فى المعرفة أن العقل يعول عليه فقط فى البداية، يقول في رسالته ص ١٩٧ (تجب البداءة بتصحيح اعتقاد بين العبد وبين الله تعالى صاف عن الظنون والشبه خال من الضلال والبدع صادر عن البراهين والحجج) ولكن العقل بعدئذ غير جدير بمواصلة الصعود إلى ما هو أعلى من ذلك لأنه يصاب بآفات (التجويز والتحير والتوهم والتحدد) ويناط بغير العقل من الملكات الأخرى وهى القلب والروح والسر وعين السر أو سر السر أن تواصل القصود نحو الذرى العليا. فما أشبه الذين يريدون تطبيق الوسائل العقلية على الربوبية بمن عبدوا العجل! وعكفوا بعقولهم على المحدود!
385
ويقال السلطان المبين لهذه الأمة غدا، وهو بقاؤهم فى حال لقائهم- قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تضامون فى رؤيته» «١» - فى خبر الرؤية.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٤]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤)
ما زادهم فى الظاهر آية إلا زادوا فى قلوبهم جحدا ونكرا، فلم تنفعهم زيادة نصيب الإعلام لمّا لم تنفتح لشهودها بصائر قلوبهم، قال تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٥]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولا تصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان.
ويقال لحقهم شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي فبنقضهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذلوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السّلام- بغير حق، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادّعوا شدة التفهّم، وقالوا: قلوبنا أوعية العلوم، فردّ الله عليهم وقال: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ» فحجبهم عن محلّ العرفان، فعمهوا فى ضلالتهم.
(١) «... إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر» البخاري كتاب ٩ باب ١٥ و ٢٦ وكتاب ٦٥ سورة ٤ مفتاح كنوز السنة ص ٥٧.
(٢) آية ١٠١ سورة يونس
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
مجاوزة الحدّ ضلال، كما أن النقصان والتقاصر عن الحقّ ضلال، فقوم «١» تقوّلوا على مريم ورموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحدّ فى تعظيمها فقالوا: ابنها ابن الله، وكلا الطائفتين وقعوا فى الضلال.
ويقال مريم- رضى الله عنها- كانت وليّة الله، فشقى بها فرقتان: أهل الإفراط وأهل التفريط. وكذلك كان أولياؤه- سبحانه- فمنكرهم يشقى بترك احترامهم، والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبونه يشقون بالزيادة فى إعظامهم، وعلى هذه الجملة درج الأكثرون من الأكابر.
قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ... يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ.
قوله تعالى: «وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.... عَزِيزاً حَكِيماً» قيل أوقع الله شبهه «٢» على الساعي به فقتل وصلب مكانه، وقد قيل: من حفر بئرا لأخيه وقع فيها «٣»
(١) أخطأ الناسخ فكتبها (فقوموا).
(٢) وردت (شبهة) بالتاء المربوطة والصواب (شبهه).
(٣) اختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقى على جميع أصحابه، وكانوا اثنى عشر رجلا (ذكر أسماءهم) ومنهم ليودس زكريا يوطا. ويقول ابن اسحق (نقلا عن رواية نصرانية) أن ليودس مقابل ثلاثين درهما هو الذي دل الأعداء على عيسى بأن قبّله ساعة دخولهم فأخذوه فصلبوه. انتهت الرواية.
تعليق: هذه الرواية التي اعتمد عليها ابن اسحق تتفق مع ما جاء فى الأناجيل الأربعة وليودس هذا هو يهوذا الاسخريوطى.
وقيل إن عيسى عليه السّلام قال: من رضى بأن يلقى عليه شبهى فيقتل دونى فله الجنة، فرضى به بعض أصحابه «١»، فيقال لمّا صبر على مقاساة التلف لم يعدم من الله الخلف «٢»، قال الله تعالى: «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» «٣».
ويقال لمّا صحّت صحبة الرجل مع عيسى- عليه السّلام- بنفسه صحبه بروحه، فلمّا رفع عيسى- عليه السّلام- إلى محل الزلفة، رفع روح هذا الذي فداه بنفسه إلى محل القربة «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٥٩]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
لما حكم بأن لا أمان لهم فى وقت اليأس لم ينفعهم الإيمان فى تلك الحالة، فعلم أنّ العبرة بأمان الحقّ لا بإيمان العبد.
قال جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٠ الى ١٦١]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١).
(١) عن ابن اسحق عن رجل كان نصرانيا وأسلم أنه ذكر له أن عيسى حين جاءه من الله إنى رافعك قال يا معشر الحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقى في الجنة حتى يشبه للقوم فى صورتى فيقتلوه فى مكانى فقال أحدهم واسمه سرجس: أنا يا روح الله. قال: فاجلس فى مجلسى فجلس فيه، ورفع عيسى (عم) فدخلوا على سرجس وصلبوه.
وفى رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس اتفاق كبير مع ذلك دون ذكر اسم (سرجس). [.....]
(٢) أخطأ الناسخ إذ نقلها (الخلق) بالقاف.
(٣) آية ٣٠ سورة الكهف.
(٤) فى تعبير القشيري ذكاء، ففى حالة عيسى قال (رفع) دون أن يحدد كيفية الرفع، أبا الجسد أم بالروح أم بهما معا، وفى حالة الثاني قال (رفع روحه)، ونفهم- من حيث المصطلح- أن الزلفة أقوى من القربة.
يقال ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات.
فمن ركب محظورا بظاهره حرم «١» ما كان يجده من الأحوال المباحة، والألطاف الحاصلة فى سرائره.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٢]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
الراسخ فى العلم هو ألا يكون فى الدليل مقلّدا، كما لا يكون فى الحكم مقلدا، بل يضع النظر موضعه إلى أن ينتهى إلى حد لا يكون للشكّ فى عقله مساغ.
ويقال الراسخ فى العلم من يرتقى عن حد تأمل البرهان «٢» ويصل إلى حقائق البيان.
ويقال الراسخ فى العلم أن يكون بعلمه عاملا حتى يفيد عمله علم ما خفى على غيره، ففى الخبر:
«من عمل بما علمه ورّثه الله علم ما لم يعلم» «٣».
وخصّ «الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» فى الإعراب فنصب اللفظ بإضمار أعنى على المدح لما للصلاة من التخصيص من بين العبادات لأنها تالية الإيمان فى أكثر المواضع فى القرآن، ولأن الله
(١) أخطأ الناسخ حين كتبها (جرم) بالجيم والصواب أن تكون بالحاء لارتباطها بتحريم المباحات فيما سبق.
(٢) أي ينبغى ألا يعكف الإنسان على العقل وحده بل عليه أن يرتقى عن هذا الحد.
(راجع الهامش الذي يتناول هذه القضية من هذا الكتاب)
(٣) أورده أبو نعيم فى حلية الأولياء عن أنس بن مالك.
ويرى أبو نصر السراج أن هذا العلم الموروث هو علم الاشارة، فيكشف الله سبحانه لقلوب أصفيائه المعاني المذخورة، واللطائف والأسرار المخزونة وغرائب العلوم وطرائف الحكم فى معانى القرآن... اللمع ص ١٤٧ (كتاب المستنبطات).
- سبحانه- أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم (بها) «١» ليلة المعراج بغير واسطة جبريل عليه السّلام... وغير هذا من الوجوه.
قوله تعالى «أَجْراً عَظِيماً» : الأجر العظيم هو الذي يزيد على قدر الاستحقاق بالعمل.
قال جلّ ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٣]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)
إفراد النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء بالإيمان لإفرادهم بالتخصيص والفضيلة فأفرد نوحا على ما استحقه من المقام وأفرد رسولنا عليه السّلام على ما استحقه هو، فاشتركا فى الإفراد لكنهما تباينا فى الفضيلة على حسب المقام، فتفرّد واحد من بين أشكاله بغير فضائل، وتفرّد آخر من بين أضرابه «٢» بألف فضيلة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٤]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
سنّة الله فى أوليائه ستر قوم، وشهر قوم، وبذلك جرت سنّته أيضا فى الأنبياء- عليهم السّلام- أظهر أسماء قوم وأجمل تفصيل آخرين. والإيمان واجب بجميع الأنبياء جملة وتفصيلا، كما أن الاحترام واجب لجميع الأولياء جملة وتفصيلا، وكذلك أحوال العباد ستر عليهم بعضا وأظهر لهم بعضها، فما أظهرها لهم- طالبهم بالإخلاص فيها، وما سترها
(١) إضافة وضعناها ليتماسك المعنى.
(٢) وردت (أخرابه) بالخاء وهى خطأ فى النسخ والصواب (أضرابه) أي (أشكاله) التي سبقت، والفقرة كلها غير واضحة، وقد أثبتناها كما هى.
عليهم- فلأنه غار «١» على قلوبهم من ملاحظة أحوالهم تأهيلا لهم للاختصاص بحقائق أفردهم بمعانيها.
«وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» : إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٥]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)
وقف الخلق عند مقاديرهم وبيّن أنه أرسل إليهم الرسل فتفردوا عليهم إلى اجتباء ثوابهم، واجتناب ما فيه استحقاق عذابهم، وأنه ليس للخلق سبيل إلى راحة يطلبونها ولا إلى آفة يجتنبونها إما فى الحال أو فى المآل.
قوله جل ذكره: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
أنّى يكون لمن له إلى الله حاجة على الله حجّة؟! ولكنّ الله خاطبهم على حسب عقولهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٦٦]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
سلّاه الله عن تكذيب الخلق إياه بما ذكره من علم الله بصدقه، ولذلك قال: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٧ الى ١٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩).
(١) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (ص) : إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي العبد المؤمن ما حرّم الله تعالى عليه، الرسالة ص ١٢٦ وقال القشيري: إذا وصف الحق سبحانه بالغيرة فمعناه أنه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده. (الرسالة نفس الصفحة).
جعل صدّهم المؤمنين (من) «١» اتباع الحقّ نظير كفرهم بالله، والله تعالى عظّم حقوق أوليائه كتعظيم حقّ نفسه، ثم قال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا» جعل ظلمهم سبيل كفرهم، فعلّق استحقاق العقوبة المؤبّدة عليها جميعا. والظلم- وإن لم يكن كالكفر فى استحقاق وعيد الأبد- فلشؤم الظلم لا يبعد أن يخذله الله حتى يوافى ربّه على الكفر.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
«يا أَهْلَ الْكِتابِ» : أخبر أنه سبحانه غنى عنهم، فإن آمنوا فحظوظ أنفسهم اكتسبوها وإن كفروا «٢» فبلاياهم لأنفسهم اجتلبوها. والحقّ- تعالى- منزّه الوصف عن (الجهل) «٣» لوفاق أحد، والنقص لخلاف أحد.
قوله: «وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» يعنى إن خرجوا عن استعمال العبودية- فعلا، لم يخرجوا عن حقيقة كونهم عبيده- خلقا، قال تعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» «٤».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)
(١) ربما كانت (عن) فهكذا فى الآية الكريمة.
(٢) فى النسخة (وإن لم تكفروا) ولكنها مصححة باستدراك فى الهامش (وإن كفروا) وهو الأصوب.
(٣) نظن أن الناسخ قد أخطأ فى نقل هذه الكلمة فان من عادة القشيري فى مثل هذا السياق أن يذكر أن طاعة المطيع ليست زينا للحق ومعصية العاصي ليست شينا له، لأجل هذا نرجح أن العبارة هنا تستقيم لو كانت (والحق تعالى منزه الوصف عن الكمال لوفاق أحد وعن النقص لخلاف أحد).
(٤) آية ٩٣ سورة مريم.
غلوّهم فى دينهم جريهم على مقتضى حسبانهم حيث وصفوا- بمشابهة الخلق- معبودهم، ثم مناقضتهم حيث قالوا الواحد ثلاثة والثلاثة واحد «١»، والتمادي فى الباطل لا يزيد غير الباطل.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٢]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢)
كيف يستنكف عن عبوديته وبالعبودية شرفه، وكيف يستكبر عن التذلّل وفى استكباره تلفه، ولهذا الشأن نطق المسيح أول ما نطق بقوله: إنى عبد الله، وتجمّل العبيد فى التذلل للسّادة، هذا معلوم لا تدخله ريبة».
وقوله: َ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»
لا يدل على أنهم أفضل من المسيح، لأنه إنما خاطبهم على حسب عقائدهم، والقوم اعتقدوا تفضيل الملائكة على بنى آدم.
(١) الثلاثة إما أن يكون مقصودا منها: الله والمسيح ومريم، وإما- كما ورد فى الأناجيل- الأب والابن والروح القدس، وسواء انصرفت إلى هؤلاء أم إلى أولئك فانه شرك محض تولى القرآن الكريم تفنيده فى مواضع شتى. [.....]
(٢) وردت (رتبة) ولا نحسب أن لها معنى هنا، ونرجح أنها فى الأصل (ريبة) أي هذا معلوم لا شك فيه.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٣]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
العذاب الأليم ألا يصلوا إليه «١» أبدا بعد ما عرفوا جلاله، فإذا صارت معارفهم ضرورية «٢» فإنهم يعرفون أنهم عنه بقوا «٣»، فحسراتهم حينئذ على ما فاتهم أشدّ عقوبة لهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
البرهان مالاح فى سرائرهم من شواهد الحق.
قوله جل ذكره: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.
وهو خطابه الذي فى تأملهم معانيه حصول استبصارهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٥]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
«٤» «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ» : والسين للاستقبال أي يحفظ عليهم إيمانهم فى المآل «٥» عند التوفى، كما أكرمهم بالعرفان والإيمان فى الحال.
قوله جل ذكره: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
(١) أي يقطع بينهم وبين رؤيته سبحانه، وفى هذا يقول ذو النون (خوف النار إذا قيس إلى خوف القطع عن المحبوب كقطرة الماء تقذف فى أعظم المحيطات.
ويقول بعضهم: إلهى إذا شئت أن تعذبنى فألق بي إلى النار ولا تعذبنى بذل الحجاب.
(٢) قلنا من قبل فى هامش سابق- نقلا عن مذهب القشيري: إن المعرفة فى البداية كسبية وفى الانتهاء ضرورية، ومعنى الكلام هنا أنهم يحرمون من أعظم الأشياء متعة بعد ما لاحت لهم بعض المعارف... وذلك غاية فى التعذيب.
(٣) (عنه بقوا) البقاء عن الله سبحانه أشد أنواع العقاب.
(٤) سقطت (بالله) من الناسخ فأثبتناها فى موضعها.
(٥) وردت (المال) ويلزم وضع المد على الألف لتكون (المآل) وقد تكرر هذا فى مواضع كثيرة فيما سبق.
هذه الهداية هى إكرامهم بأن عرفوا أن هذه الهداية من الله لهم فضل لا لأنهم استوجبوها بطلبهم وجهدهم، ولا بتعبهم وكدّهم «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
قطع الخصومة بينهم فى قسمة «٢» الميراث فيما أظهر لهم من النصّ على الحكم، فإن المال محبّب إلى الإنسان، وجبلت النفوس على الشحّ فلو لم ينص على مقادير الاستحقاق (لقابلة الأشباه) «٣» فى الاجتهاد، فكان يؤدى ذلك إلى التجاذب والتواثب فحسم تلك الجملة بما نصّ على المقادير فى الميراث قطعا للخصام. ولتوريثه للنسوان- وإن لم يوجد منهن الذبّ عن العشيرة- دلالة على النظر لضعفهن. وفى تفضيل الذكور عليهن لما عليهم من حمل «٤» المؤن وكذا السعى فى تحصيل المال، والقيام عليهن.
(١) يهدف القشيري دائما إلى أن يعود بكل شىء إلى فضل الله، وأن يشعر العبد دائما بأن عمله ليس وحده كافيا للنجاة، فاذا طالع العبد نفسه فى شىء ما ففى ذلك وبال عليه.
(٢) وردت (بالصاد) والصواب أن تكون بالسين، وربما كانت (قضية) فى الأصل.
(٣) هكذا فى النسخة (ص) ونرجح أنها فى الأصل (لقابله الاشتباه) فى الاجتهاد اى ان النص على المواريث أزال كل اشتباه ينجم عن الاجتهاد.
(٤) وردت (يحمل) ونرجح أنها فى الأصل: (حمل) فقبلها جار.
(حاشية) لم يتعرض القشيري لمعنى (الكلالة) ولقد كنا نود لو أوضح الرأى فيها، خصوصا وأن موضوعها منبهم، وتسمى هذه الآية الأخيرة من سورة النساء بآية الصيف، قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك يعنى ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب قال:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الكلالة فقال: «يكفيك آية الصيف» فقال لأن أكون سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها أحب إلى من ان يكون لى حمر النعم.
Icon