تفسير سورة الفرقان

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم، كما قال تعالى :﴿ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب ﴾ [ الكهف : ١ ]، وقال هاهنا :﴿ تَبَارَكَ ﴾ وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة، ﴿ الذي نَزَّلَ الفرقان ﴾ نّزل فعّل من التكرر والتكثر، كقوله :﴿ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة، والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً آيات بعد آيات، وأحكاماً بعد أحكام، وسوراً بعد سور، وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه، كما قال في هذه السورة :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ] ولهذا سماه هاهنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، والحلال والحرام، وقوله :﴿ على عَبْدِهِ ﴾ هذه صفة مدح وثناء، لأنه إضافه إلى عبوديته، كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسراء : ١ ]، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ [ الجن : ١٩ ]، وقوله :﴿ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] الذي جعله فرقاناً عظيماً ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء، كما قال ﷺ :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وقال :« وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة »، كما قال تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ] الآية، وهكذا قال هاهنا :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ ﴾ ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك، ثم أخبر أنه ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾ أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه، ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، الخالق لكل شيء المالك لأزمة الأمور الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة، بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف يملكون لعابديهم؟ ﴿ وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً ﴾ أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزَّ وجلَّ الذي هو يحيي ويميت، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم، ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ]، كقوله :﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، وقوله :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [ الصافات : ١٩ ] ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ [ يس : ٥٣ ] فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا تنبغي العبادة إلاّ له، وهو الذي لا ولد له ولا والد، ولا عديل ولا بديل ولا وزير ولا نظير بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
يقول تعالى مخبراً عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ ﴾ أي كذب ﴿ افتراه ﴾ يعنون النبي ﷺ ﴿ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾ أي واستعان على جمعه بقوم آخرين، فقال الله تعالى :﴿ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾ أي فقد افتروا هم قولاً باطلاً وهم يعلمون أنه باطل، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه، ﴿ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها ﴾ يعنون كتب الأوائل أي استنسخها ﴿ فَهِيَ تملى عَلَيْهِ ﴾ أي تقرأ عليه ﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ أي أول النهار وآخره، وهذا الكلام لسخافته وكذبه كل أحد يعلم بطلانه، فإنه قد علم بالتواتر أن محمداً ﷺ لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة، لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله، ومخرجه، وصدقه ونزاهته وبره وأمانته، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث :( الأمين ) لما يعلمون من صدقه وبره، فلما أكرمه الله بما أكرمه به، نصبوا له العداو، ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا فيما يقذفونه به، فتارة من إفكهم يقولون ساحر، وتارة يقولون شاعر، وتارة يقولون مجنون، وتارة يقولون كذاب، وقال الله تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٨ ]. وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض ﴾ الآية : أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين ﴿ الذي يَعْلَمُ السر ﴾، أي الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حمله عظيم، مع أن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى، كما قال تعالى :﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٧٤ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق ﴾ [ البروج : ١٠ ]. قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم، وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم، وإنما تعللوا بقولهم :﴿ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام ﴾ يعنون كما نأكله، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه ﴿ وَيَمْشِي فِي الأسواق ﴾ أي يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة ﴿ لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ يقولون : هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه؟ وهذا كما قال فرعون :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ] وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم، ولهذا قالوا ﴿ أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ﴾ أي علم كنز ينفق منه ﴿ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ أي تسير معه حيث سار، وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك، وله الحجة البالغة، ﴿ وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾، قال الله تعالى :﴿ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ ﴾ أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك، من قولهم ساحر، مجنون، كذاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك، ولهذا قال :﴿ فَضَلُّواْ ﴾ عن طريق الهدى ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾، وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيثما توجه، لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً؛ ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه إن شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن، فقال :﴿ تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك ﴾ الآية قال مجاهد : يعني في الدنيا، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصراً، كبيراً كان أو صغيراً. قال سفيان الثوري عن خيثمة قيل للنبي ﷺ : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك، ولا نعطي أحداً من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله. فقال :« اجمعوها لي في الآخرة »، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك ﴿ تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك ﴾ الآية.
وقوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة ﴾ أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً، لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال، ﴿ وَأَعْتَدْنَا ﴾ أي أرصدنا ﴿ لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً ﴾ أي عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم، وقوله :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ ﴾ أي جهنم ﴿ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ يعني في مقام المحشر، فقال السدي : من مسيرة مائة عام ﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ أي حنقاً عليهم، كما قال تعالى :﴿ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ﴾
1807
[ الملك : ٧-٨ ] أي يكاد ينفصل بيعضها من بعض من شدة غيظها على من كفر بالله. عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم، فمروا على حداد، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، وينظر الربيع بن خيثم إليها، فتمايل الربيع ليسقط، فمر عبد الله على أتون على شاطئ الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ فصعق، يعني الربيع، وحملوه إلى أهل بيته، فرابطة عبد الله إلى الظهر، فلم يفق رضي الله عنه. وعن مجاهد بإسناده إلى ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن : مالك؟ قالت : إنه يستجير مني فيقول : أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول : يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول : فما كان ظنك؟ فيقول : أن تسعني رحمتك، فيقول : أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلاّ خاف. وقال عبيد بن عمير في قوله :﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ قال : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ خرَّ لوجهه، ترتعد فرائصه، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه، ويقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسي، وقوله :﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ ﴾ قال قتادة : مثل الزج في الرمح أي من ضيقه، وسئل رسول الله ﷺ عن قول الله :﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ ﴾ قال :« والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط » وقوله :﴿ مُّقَرَّنِينَ ﴾ يعني مكتفين ﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ أي بالويل والحسرة والخيبة، ﴿ لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً ﴾ الآية. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال :« » أول من يكسى حلة من النار إبليس، فيضعها على حاجيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي : يا ثبوراه، وينادون : يا ثبورهم، حتى يقفوا على النار، فيقول : يا ثبوراه، ويقولون : يا ثبورهم، فيقال لهم :﴿ لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً ﴾ « عن ابن عباس : أي لا تدعو اليوم ويلاً واحداً وادعوا ويلاً كثيراً، وقال الضحاك : الثبور والهلاك، والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار، كما قال موسى لفرعون :﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] أي هالكاً.
1808
يقول تعالى : يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرنين، لا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً مما هم فيه، أهذ خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده، التي أعدها لهم جزاء ومصيراً على ما أطاعوه في الدنيا وجعل مآلهم إليها؟! ﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ ﴾ من الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن، ومراكب ومناظر وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد، وهم في ذلك خالدون أبداً دائماً سرمداً، بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء، ولا يبغون عنها حولاً، وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم، ولهذا قال :﴿ كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾ أي لا بد أن يقع وأن يكون، أي وعداً واجباً، وقال محمد بن كعب القرظي : إن الملائكة تسأل لهم ذلك ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ ﴾ [ غافر : ٨ ]، وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا، فذلك قوله :﴿ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾ وهذا المقام في هذه السورة كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور؛ ثم قال ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ﴾ [ الصافات : ٦٢-٦٣ ] الآيات.
يقول تعالى مخبراً عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم فقال :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله ﴾، قال مجاهد : هو عيسى والعزير. والملائكة، ﴿ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ ﴾ الآية، أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين : أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم؟ كما قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] الآية. ولهذا قال تعالى مخبراً عما يجيب به المعبودون يوم القيامة :﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ ﴾، أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، ﴿ ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ ﴾ أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر، أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك، ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ﴾ قال ابن عباس : أي هلكى، وقال الحسن البصري : أي لا خير فيهم. قال الله تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾ أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله، فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ]. وقوله :﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً ﴾ أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم، ﴿ وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ ﴾ أي يشرك بالله ﴿ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم على صدق ما جاءوا به من الله، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام ﴾ [ الأنبياء : ٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ ؟ أي اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي، ولهذا قال ﴿ أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾ أي بمن يستحق أن يوحى إليه، كما قال تعالى :﴿ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] ومن يستحق أن يهديه الله ومن لا يستحق ذلك، وقال محمد بن إسحاق في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ ؟ قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم، وفي « صحيح مسلم » :« يقول الله تعالى إني ميتليك ومبتل بك »، وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خيِّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً.
يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم :﴿ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة ﴾ أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى ﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ]، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا ﴿ لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة ﴾ فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله، كقولهم ﴿ أَوْ نرى رَبَّنَا ﴾، ولهذا قالوا ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ]، ولهذا قال الله تعالى :﴿ لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أي هم يوم يرونهم بشرى يومئذٍ لهم، وذلك يصدق على وقت الاحتضار، حين تبشرهم الملائكة بالنار، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه : أخرجي أيتها النفس الخيبثة في الجسد الخبيث، أخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم، فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه، كما قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٠ ]، وفي « الصحيح » عن البراء بن عازب : إن الملائكة تقول لروح المؤمن : أخرجي أيتها النفس الطيبة من الجسد الطيب إن كنت تعمرينه، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان، وقال آخرون : بل المراد بقوله ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى ﴾ يعني يوم القيامة، قاله مجاهد والضحاك وغيرهما، ولا منافاة بين هذا وما تقدم، فإن الملائكة في هذين اليومين - يوم الممات ويوم المعاد - تتجلى للمؤمنين وللكافرين، فنبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران، فلا بشرى يومئذٍ للمجرمين ﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أي وتقول الملائكة للكافرين : حرام محرم عليكم الفلاح اليوم، وأصل الحجر المنع، ومنه يقال : حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف، إما لسفهٍ أو صغرٍ أو نحو ذلك؛ ومنه يقال للعقل ( حِجْر ) لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق، والغرض أن الضمير في قوله :﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ عائد على الملائكة، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ ﴾ الآية، هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل، ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾، عن علي رضي الله عنه في قوله ﴿ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ قال : شعاع الشمس إذا دخل الكوة وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع، وقال ابن عباس هَبَآءً مَّنثُوراً } قال : هو الماء المهراق، قال قتادة : أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق.
1812
وروى عبد الله بن وهب عن عبيد بن يعلى قال : إن الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا بها لا شيء بالكلية، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية، كما قال تعالى :﴿ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية، وقال تعالى :﴿ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ].
وقوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ أي يوم القيامة ﴿ لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات، والغرفات الآمنات، فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٦ ] وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات، وأنواع العذاب والعقوبات ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٦ ] أي بئس المنزل منظراً وبئس المقيل مقاماً، ولهذا قال تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا وصاروا إلى ما صاروا إليه بخلاف أهل النار، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار، فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء وأنه لا خير عندهم بالكلية، فقال تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾، قال ابن عباس : إنما هي ساعة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين، وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، قال الله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾، قال قتادة : أي مأوى ومنزلاً. وقال ابن جرير عن سعيد الصواف : أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم يتقلبون في رياض الجنة، حتى يفرغ من الناس، وذلك قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾.
1813
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاق السماء وتفطرها، وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار، ونزول ملائكة السماوات يومئذٍ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر. ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، قال مجاهد : وهذا كما قال تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] الآية. قال شهر بن حوسب : حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
وقوله تعالى :﴿ الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن ﴾ الآية. كما قال تعالى :﴿ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار ﴾ [ غافر : ١٦ ] وفي « الصحيح » : أن الله تعالى يطوي السماوات بيمينه. ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول : أنا الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟. وقوله :﴿ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً ﴾ أي شديداً صعباً لأنه يوم عدل وقضاء فصل. كما قال تعالى :﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [ المدثر : ٩-١٠ ] فهذا حال الكافرين في هذا اليوم. وأما المؤمنون فكما قال تعالى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] الآية، وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال، قيل : يا رسول الله ﴿ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ] ما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله ﷺ :« والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ ﴾ الآية، يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول ﷺ، وما جاء من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه، وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم، وعض على يديه حسرة وأسفاً، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن معيط، أو غيره من الأشقياء، فإنها عامة في كل ظالم كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ] الآيتين، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه قائلاً ﴿ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً * ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ﴾ يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة، وسواء في ذلك ( أمية بن خلف ) أو أخوه ( أبي بن خلف ) أو غيرهما ﴿ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر ﴾ وهو القرآن ﴿ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي ﴾ أي بعد بلوغه إليَّ قال الله تعالى :﴿ وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾ أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه.
يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد ﷺ أنه قال :﴿ يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً ﴾، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه، كما قال تعالى :﴿ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن، أكثروا اللغط والكلام حتى لا يسمعونه؛ فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول، أو غناءٍ أو لهوٍ من هجرانه. وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين ﴾ أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن، كذلك كان في الأمم الماضين، لأن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم، كما قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] الآية، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾ أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا :﴿ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوارة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية؟ فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] الآية، ولهذا قال :﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾، وقال قتادة : بيناه تبيناً، وقال ابن زيد : وفسرناه تفسيراً ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ أي بحجة وشبهة ﴿ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ أي : ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلاّ أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم، قال ابن عباس :﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول ﴿ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق ﴾ أي : إلاّ نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم، وما هذا إلاّ اعتناء وكبير شرف للرسول ﷺ، حيث كان يأتيه الوحي من الله عزَّ وجلَّ بالقرآن صباحاً ومساء، سفراً وحضراً، لا كإنزال ما قبله من الكتب المتقدمة؛ فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد ﷺ أعظم نبي أرسله الله تعالى، وقد جمع القرآن للقرآن الصفتين معاً : ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا؛ ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجماً بحسب الوقائع والحوادث. روي عن ابن عباس أنه قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾، وقال تعالى :﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ].
ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة، وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات. ﴿ الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾، وفي الصحيح عن أنس، أن رجلاً قال : يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال :« إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ».
يقول تعالى متوعداً من كذب رسول الله محمداً ﷺ من مشركي قومه ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله؛ فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً أي نبياً موازراً ومؤيداً وناصراً، فكذبهما فرعون وجنوده ف ﴿ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ]، وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاً عليه السلام، ولهذا قال تعالى :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل ﴾ ولم يبعث إليهم إلاّ نوح فقط، وقد لبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ويحذرهم نقمة ﴿ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ [ هود : ٤٠ ]، ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يبق منهم أحداً، ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾ أي عبرة يعتبرون بها، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١١-١٢ ] أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار، لتذكروا نعمة الله عليكم من إنجائكم من الغرق. وقوله تعالى :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس ﴾ قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة، وأما أصحاب الرس فقال ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود، وقال عكرمة : أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس، وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة، وعن عكرمة : الرس بئر رسوا فيها نبيهم، أي دفنوا فيها.
وقوله تعالى :﴿ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً ﴾ أي وأمماً - أضعاف من ذكر أهلكناهم - كثيرة، ولهذا قال :﴿ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال ﴾ أبي بينا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة، وأزحنا الأعذار عنهم، ﴿ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾ أي أهلكنا إهلاكاً، كقوله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ]، والقرن هو الأمة من الناس، كقوله :﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٢ ]، وحَدَّه بعضُهم بمائة، وقيل بثمانين، والأظهر أن القرآن هو الأمة المتعاصرون من الزمن الواحد، وإذا ذهبوا وخلفهم جبل فهو الحديث. ﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء ﴾ يعني قرية قوم لوط وهي ( سدوم ) التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل، كما قال تعالى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين ﴾ [ الشعراء : ١٧٣ ]، وقال :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الججر : ٧٦ ]، وقال :﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الحجر : ٧٩ ]، ولهذا قال :﴿ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا ﴾ ؟ أي فيعتبروا بما بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله، ﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾ يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون، لأنهم ﴿ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾ أي معاداً يوم القيامة.
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول ﷺ إذا رأوه، كما قال تعالى :﴿ وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ] الآية، يعنونه بالعيب والنقص، وقال هاهنا :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً ﴾ ؟ أي على سبيل التنقص والإزدراء، وقوله تعالى :﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام، لولا أنصبروا وتجلدوا واستمروا عليها، قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً :﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب ﴾ الآية، ثم قال تعالى لنبيه منبهاً : أنّ من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله عزَّ وجلَّ، ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ ﴾ أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى :﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ﴾ [ فاطر : ٨ ] الآية، ولهذا قال هاهنا :﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾ ؟ قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول، ثم قال تعالى :﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾ ؟ الآية، أي هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة، فإن تلك تفعل ما خلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده، وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم.
شرع سبحانه وتعالى في بيانه الأدلة الدالة على وجوده، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل ﴾ ؟ قال ابن عباس ومجاهد : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ﴿ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ﴾ أي دائماً لا يزول، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً ﴾ أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف، وقال قتادة والسدي : دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ أي الظل، وقيل الشمس، ﴿ يَسِيراً ﴾ أي سهلاً، قال ابن عباس : سريعاً، وقال مجاهد خفياً حتى لا يبقى في الأرض ظل إلاّ تحت سقف أو تحت شجرة. وقال أيوب بن موسى ﴿ قَبْضاً يَسِيراً ﴾ : قليلاً قليلاً. وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً ﴾ أي يلبس الوجود ويغشاه، كما قال تعالى :﴿ والنوم سُبَاتاً ﴾ أي قاطعاً للحركة لراحة الأبدان، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً، ﴿ وَجَعَلَ النهار نُشُوراً ﴾ أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم.
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات، أي بمجيء السحاب بعدها والرياح أنواع، فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشراً، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً ﴾ أي آلة يتطهر بها كالسحور. فهذا أصح ما يقال في ذلك، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن يزيد قال : كنا عند عبد الملك بن مروان، فذكروا الماء، فقال خالد بن يزيد : منه من السماء، ومنه ما يسوقه الغيم من البحر فيذبه الرعد والبرق؛ فأما ما كان من البحر فلا يكون منه نبات فأما النبات فمما كان من السماء؛ وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره : في البر بُرٌّ، وفي البحر دُرٌّ. وقوله تعالى :﴿ لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ أي أرضاً قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الحياة عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان، كما قال تعالى :﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ ﴾ [ فصلت : ٣٩ ] الآية، ﴿ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً ﴾ أي وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم، كما قال تعالى :﴿ فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ [ الروم : ٥٠ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾ أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقاً والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً ﴾ : أي ليذكروا بإحياء، الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه. وقوله :﴿ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً ﴾ قال عكرمة : يعني الذين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا، وفي « صحيح مسلم » عن رسول الله ﷺ أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل :« أتدرون ماذا قال ربكم؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم، « قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمن من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ».
يقول تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً ﴾ يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن ﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] ﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وفي « الصحيحين » :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وفيهما « وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة »، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾ يعني بالقرآن، قاله ابن عباس ﴿ جِهَاداً كَبيراً ﴾، كما قال تعالى :﴿ ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين ﴾ [ التوبة : ٧٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي خالق الماءين الحلو والملح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قاله ابن جريج واختاره ابن جرير، وهذا المعنى لا شك فيه، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات، والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه نهاراً أو عيوناً في كل أرض، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضهيم، وقوله تعالى :﴿ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي مالح مرٌّ، زُعاق لا يستساغ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب، البحر المحيط وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو القدرة التامة - العادة بذلك؛ فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء، فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحاً كان هواؤها صحيحاً وميتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به؟ فقال :« هو الطهور ماؤه، الحل ميتته » وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً ﴾ أي بين العذب والمالح ﴿ بَرْزَخاً ﴾ أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض ﴿ وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر، كقوله تعالى :﴿ مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٩-٢٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النمل : ٦١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً ﴾ الآية، أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة وعدّله، وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى كما يشاء، ﴿ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ﴾ فهو في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهراً، ثم يصير له أصهار واختان وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾.
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام، التي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً بلا دليل قادهم إلى ذلك ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء والأهواء، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾ أي عوناً في سبيل الشيطان على حزب الله، وحزب الله هم الغالبون، قال مجاهد ﴿ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾ قال : يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه، وقال سعيد بن جبير : عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقال زيد بن أسلم : موالياً، ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾ أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، مبشراً بالجنة لمن أطاع الله، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله، ﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجره أطلبها من أموالكم، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، ﴿ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ أي طريقاً ومسلكاً ومنهجاً يقتدي فيها بما جئت به، ثم قال تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ ﴾ أي في أمورك كلها، كن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبداً، الدائم الباقي السرمدي، الأبدي الحي القيوم، رب كل شيء ومليكه، اجعله ذخرك وملجأك، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك، كما قال تعالى :﴿ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ].
وقوله تعالى :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ أي أقرن بين حمده وتسبيحه، ولهذا كان رسول الله ﷺ يقول :« سبحانك اللهم ربنا وبحمدك »، أي أخلص له العبادة والتوكل، كما قال تعالى :﴿ رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ]، وقال تعالى :﴿ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [ هود : ١٢٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [ الملك : ٢٩ ] وقوله تعالى :﴿ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ﴾ أي بعلمه التام لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة، وقوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَ السماوات والأرض ﴾ الآية، أي هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي خلق بقدرته وسلطانه السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها ﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾، يدبر الأمر ويقضي الحق وهو خير الفاصلين، وقوله :﴿ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾ أي استعلم عنه من هو خبير بن عالم به، فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به، من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم علىلإطلاق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى، فما قاله فهو الحق، وما أخبره به فهو الصدق، ولهذا قال تعالى :﴿ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾، قال مجاهد : ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك، وقال شمر بن عطية : هذا القرآن خبير به، ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن ﴾ ؟ أي لا نعرف الرحمن، وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي ﷺ للكاتب :
1822
« اكتب بسم الله الرحمن الرحيم »، فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله تعالى :﴿ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] أي هو الله وهو الرحمن، وقال في هذه الآية :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن ﴾ أي لا نعرفه ولا نقرُّ به، ﴿ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ﴾ ؟ أي لمجرد قولك، ﴿ وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾ فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له.
1823
يقول تعالى ممجداً نفسه ومعظماً على جميل ما خلق السماوات من البروج، وهي الكواكب العظام، وقيل : هي قصور في السماء للحرس، والقول الأول أظهر، اللهم إلاّ أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان، كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ ﴾ [ الملك : ٥ ] الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود، كما قال تعالى :﴿ سِرَاجاً وَقَمَراً ﴾ ﴿ وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ﴾ [ يونس : ٥ ]، وقال :﴿ وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٦ ]، ثم قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً ﴾ أي يخلف كل واحد منهما الآخر يتعاقبان لا يفتران، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك، كما قال تعالى :﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ] الآية، وقال :﴿ يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] الآية وقال :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ [ يس : ٤٠ ] الآية وقوله تعالى :﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ﴾ أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، وقد جاء في الحديث الصحيح :« إن الله عزَّ وجلَّ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل » قال ابن عباس في الآية : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل، وقال مجاهد وقتادة : خلفه أي مختلفين : أي هذا بسواده وهذا بضيائه.
هذه صفات عباد الله المؤمنين ﴿ الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً ﴾ أي بسكينة ووقار من غير تجبر ولا استكبار، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً ﴾ [ الإسراء : ٣٧ ] الآية. وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء، فقد كان سيد ولد آدم ﷺ إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال : ما بالك! أأنت مريض؟ قال : لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة، وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار، كما قال رسول الله ﷺ :« إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا »، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلاّ خيراً، كما كان رسول الله ﷺ، لا تزيده شدة الجاهل عليه إلاّ حلماً، وكما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾ الآية، وقال مجاهد :﴿ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ : يعني قالوا سداداً، وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفاً من القول، وقال الحسن البصري : قالوا سلام عليكم، إن جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل، فقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾ أي في طاعته وعبادته، كما قال تعالى :﴿ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٧-١٨ ]، وقوله :﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ [ السجدة : ١٦ ] الآية، وقال تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [ الزمر : ٩ ] الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ أي ملازماً دائماً كما قال الشاعر :
إِنْ يُعذّبْ يكنْ غراماً وإن يع طِ جزيلاً فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات. ﴿ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ أي بئس المنزل منزلاً وبئس المقيل مقاماً، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البُخْت، وعقارب أمثال البغال الدُّهْم. فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها، فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم، فإذا وجدت حر النار رجعت. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ :« إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان يا منان، فيقول الله عزَّ وجلَّ لجبريل : اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل، فيجد أهل النار مكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجئ به، فيوقفه على ربه عزَّ وجلَّ، فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول : يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ردوا عبدي، فيقول : يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن تردني فيها، فيقول الله عزَّ وجلَّ : دعوا عبدي »
1825
وقوله تعالى :﴿ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ الآية، أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] الآية. وفي الحديث :« من فقه الرجل فصده في معيشته »، وعن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله ﷺ :« ما عال من اقتصد »، وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف، وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله عزَّ وجلَّ.
1826
عن عبدالله بن مسعود قال :« سئل رسول الله ﷺ أي الذنب أكبر؟ قال :» أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك «، قال : ثم أي؟ قال :» أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك «، قال : ثم أي؟ قال :» إن تزاني حليلة جارك «، قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك ﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ الآية وعن سلمة بن قيس قال، قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع :» ألا إنما هي أربع « فما أنا الآية وعن سلمة بن قيس قال، قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع :» ألا إنما هي أربع « فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ :» لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ :« لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلو النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ :» لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ في حجة الوداع :« ألا إنما هي أربع » فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله ﷺ :« لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا » وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال، « قال رسول الله ﷺ لأصحابه :» ما تقولون في الزنا؟ « قالوا : حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه :» لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره « قال :» فما تقولون في السرقة؟ « قالوا : حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال :» لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره « وعن الهيثم بن مالك عن النبي ﷺ قال :» ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له «، وقال ابن عباس : إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً ﷺ فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت :﴿ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ ﴾ الآية، ونزلت :
1827
﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً ﴾، روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : أثاماً : واد في جهنم، وقال عكرمة ﴿ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وقال قتادة ﴿ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ : نكالاً. كنا نحدث أنه واد في جهنم، وقال السدي ﴿ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ جزاء، وهذا أشبه بظاهر الآية وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه، وهو قوله تعالى :﴿ يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة ﴾ أي يقرر عليه ويغلظ ﴿ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ﴾ أي حقيراً ذليلاً، وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ ﴾ أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ من جميع ذلك فإن من هذه الله يتوب عليه، وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً ﴾ [ النساء : ٩٣ ] الآية، فإن هذه وإن كانت مدنية، إلاّ أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب.
وقوله تعالى :﴿ فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾. في معنى قوله :﴿ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ قولان : أحدهما أنهم بدلا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات، قال ابن عباس : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات، وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً، وأبدلهم بالفجور إحصاناً، وبالكفر إسلاماً، ( والقول الثاني ) : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول : نحوّا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال فيقال له : عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فيقول : نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول : يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا » قال : فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه « وعن أبي هريرة قال : ليأتين الله عزَّ وجلَّ بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل : من هم يا أبا هريرة؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات، وقال علي بن الحسين زين العابدين ﴿ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ قال : في الآخرة. وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال :
1828
« جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال : يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلاّ اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي ﷺ :» أأسلمت؟ « قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال النبي ﷺ :» فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات «، فقال : يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال :» وغدراتك وفجراتك «، فولى الرجل يكبر ويهلل » ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى :﴿ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً ﴾ أي فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [ التوبة : ١٠٤ ] الآية، وقال تعالى :﴿ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] الآية : أي لمن تاب إليه.
1829
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام، وقيل : الكذب والفسق واللغو والباطل، وقال محمد بن الحنفية : هو اللغو والغناء، وقال عمرو بن قيس : هي المجالس السوء والخنا، وقيل : المراد بقوله تعالى :﴿ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ أي شهادة الزور، وهي الكذب متعمداً على غيره كما في « الصحيحين » :« » ألا أنبئكم بأكبر الكبائر «؟ ثلاثاً قلنا : بلى يا رسول الله قال :» الشرك بالله عقوق الوالدين «. وكان متكئاً فجلس، فقال :» ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور « فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت »، والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾، أي لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال :﴿ مَرُّوا كِراماً ﴾ وروى ابن أبي حاتم عن ميسرة قال : بلغني أن بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف فقال رسول الله ﷺ :« لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ وهذه أيضاً من صفات المؤمنين ﴿ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢ ] بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه، ولا يتغير عما كان عليه، بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه، وجهله وضلاله، كما قال تعالى :﴿ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ]، فقوله :﴿ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى، قال مجاهد قوله :﴿ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾ قال : لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً، وقال الحسن البصري : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم وأعمى، وقال قتادة : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه.
وقوله تعالى :﴿ والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة، قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال : أن يرى الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً، أو ولد ولد، أو أخاً، أو حميماً مطبعاً لله عزَّ وجلَّ.
1830
وقال ابن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام. وقوله تعالى :﴿ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ قال ابن عباس والحسن والسدي : أئمة يقتدى بنا في الخير، وقال غيرهم : هداة مهتدين دعاة إلى الخير، ولهذا ثبت في « صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية ».
1831
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة، والأقوال والأفعال الجليلة، قال بعد ذلك كله :﴿ أولئك ﴾ أي المتصفون بهذه ﴿ يُجْزَوْنَ ﴾ يوم القيامة ﴿ الغرفة ﴾ وهي الجنة سميت بذلك لارتفاعها، ﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي على القيام بذلك، ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا ﴾ أي في الجنة ﴿ تَحِيَّةً وَسَلاَماً ﴾ أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴿ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار ﴾ [ الرعد : ٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون، ولا يزولون عنها ولا يبتغون عنها حولاً، كما قال تعالى :﴿ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض ﴾ [ هود : ١٠٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾ أي حسنت منظراً وطابت مقيلاً ومنزلاً، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي ﴾ أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً.
قال ابن عباس : لولا دعاؤكم : أي لولا إيمانكم، وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين. وقوله تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾ أيها الكافرون ﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾ أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم، يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة.
Icon