وينتقل الحديث بعد ذلك عن المشركين وتكذيبهم وتعلقهم بأصنامهم اللاّت والعزى ومناة، ثم يتهكم الله بهم فيما يزعمونه من أن الملائكة بنات الله فيقول :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى ﴾ ؟ إنها قسمة جائرة، وما هذه الأصنام إلا مجرد أسماء ليس فيها شيء من معنى الآلهة، أنتم سميتموها وآباؤكم من قبلكم، ﴿ ما أنزل الله بها من سلطان ﴾، وهي لا تنفعكم ولا تشفع لكم، أما الله سبحانه فله وحده الآخرة والدنيا. إنكم أيها المشركون لا تعلمون الحقيقة وما تتبعون إلا الظن والأوهام.
ثم يأمر الرسول الكريم أن يُعرض عنهم، لأنهم جاهلون بالحقائق، والله تعالى يعلم الضالّ من المهتدي.
ثم تستعرض السورة الكريمة أصول العقيدة كما هي منذ أقدم الرسالات، وتبين أن الإنسان معرّض للخطأ والآثام، ولكن الذين يجتنبون كبائر الذنوب والفواحش، ويرتكبون صغائرها يَسَعُهُم الله تعالى بمغفرته الواسعة.
بعد ذلك تُرسي السورة قواعد ثابتة، بأن الإنسان ليس له إلا جزاء عمله، وليس له إلا ما يسعى به، وسوف يُعلن هذا العمل يوم القيامة ﴿ وإن إلى ربك المنتهى ﴾ وإليه يعود الجميع.
ثم توجه الأنظار إلى مصارع الغابرين، ثم تخاطب الخلق عامة، بقوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربك تتمارى ﴾ فبأي نعمة من نعم ربك ترتاب ! !
ثم تُختم السورة الكريمة بآيات رائعة الوقع، فيها إنذار ووعيد، وتذكير عجيب ﴿ هذا نذير من النذر الأولى ﴾ أي إن هذا القرآن نذير من جنس النذر الأولى التي أُنذرت بها الأمم السابقة، ﴿ أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة، أفمن هذا الحديث تَعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا ﴾ ختام رائع، وتوجيه عظيم، وتذكير ليس له نظير.
ﰡ
هوى : سقطَ وغرب.
لقد أقسَم الله تعالى بخلْق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتَها إلا هو، وهي نجومُ السماء،
صاحبكم : هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وما غوى : ما اعتقد باطلا، ولا حاد عن الهدى.
بأن محمّداً، صاحبَكم يا معشرَ قريش وتعرفونه حقَّ المعرفة، وهو محمد الأمين كما سمَّيتموه، ما عَدَلَ عن طريق الحق، وما اعتقدَ باطلا.
ولا يتكلّم إلا بوحيٍ من الله تعالى.
وعلّمه إياه جبريلُ الأمين، شديدُ القوى.
فاستوى : فاستقام، واستوى لها عدة معان أخرى.
ذو حصافة عقل ورأي سديد، فاستقام على صورته الحقيقية. ولقد رآه النبيُّ عليه الصلاة والسلام مرَّتَين : مرةً على الأرض في غارِ حِراء، ومرةً أخرى ليلةَ المعراج. ورأى من عجائبِ صنع الله ما رأى، مما استطاعَ أن يخبركم به.
فتدلّى : فنزل.
قراءات :
قرأ هشام : ما كذّب بتشديد الدال. والباقون : ما كذَب بدون تشديد.
وبعد هذا كلّه تجادِلونه على ما يراه وتكذّبونه ! !
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب : أفَتمرونه بفتح التاء، أي تغلبونه. والباقون : أفتمارونه.
كذلك رآه مرةً أخرى.
عند سِدرة المنتهى بقرب الجنة.
﴿ إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى ﴾ من فضلِ الله ما لا يحيط به وصف..
وما طغى : وما تجاوز ما أُمر به.
لقد رأى من عجائب آياتِ ربه الكبرى ما يَبْهَرُ الفؤاد ويجِلُّ عن الوصف.
يخاطب الله تعالى قريشاً فيقول :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللات.... ﴾
أخبِروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله وهي اللات والعزى ومناة.... هل لها قدرة توصف بها ؟
قراءات :
قرأ رويس ويعقوب : اللاتّ بتشديد التاء، والباقون : اللات من غير تشديد.
قراءات :
قرأ ابن كثير : مناءة بمدّ الألف والهمزة المفتوحة، والباقون : مناة.
﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى ﴾.
إن هذه القسمة جائرة، وغير عادلة.
ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذِب والافتراء في عبادةِ الأصنام وتسميتها آلهةً بقوله :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾
هي أسماء لفّقتموها، وما تتبعون إلا الظنَّ الذي تهواه أنفسكم في هذا الشأن.
أما الآن وعلى لسان محمدٍ، فقد جاءكم من ربكم الهدى لو تتبعونه.
ومع هذا فإن هذه الأصنام لا تنفعكم، ولا تشفع لكم عند الله، وما هي إلا أباطيل من صنع الكهنة والسَدَنة ليأكلوا أموالَ الناس بالباطل..
لأن ذلك الذي يتبعونه هو منتَهى ما وصلوا إليه من العلم، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى ﴾، فهؤلاء قومٌ لا تجدي فيهم الذكرى ولا تؤثر فيهم الموعظة، فلا تبتئس بإنكارهم وكفرهم، اللهُ أعلمُ بهم.
والفواحش : أيضا من الكبائر وهي ما عظُم قبحها.
اللّمم : مقاربة الذنب والدنو منه، أو ما صغُر من الذنوب.
أنشأكم : خلقكم.
أجنّة : جمع جنين، وهو الولد ما دام في بطن أمه.
وقد بيّن أوصافَ المحسِنين بقوله تعالى :﴿ الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم ﴾
يعني أن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائرِ المعاصي والفواحش، فإذا وقعوا في معصيةٍ وتابوا فَ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة ﴾ يغفر كل ذنب كما قال تعالى :﴿ قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]. وعلى هذا يكون اللَّمَمُ هو الإتيان بالمعصِية ( من أيّ نوعٍ ) ثم يتوب عنها.
ولذلك ختم الآية بأن هذا الجزاء، بالسُّوء والحسنى، مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس فقال :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ﴾ فهو أعلمُ بأحوالكم، وعندَه الميزانُ الدقيق، وجزاؤه العدْل، واليه المرجع والمآل.
ويرى كثير من المفسرين أن الآية تعني أن الذي يجتنب الكبائرَ يكفِّر الله عنه الصغائرَ، كما قال تعالى :﴿ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [ النساء : ٣١ ]، وهذه الآية مدنية. وعلى كل حالٍ فالله تعالى واسعُ المغفرة، رؤوف بعباده حليم كريم.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف : الذين يجتنبون كبير الإثم بالإفراد، والباقون : كبائر الإثم بالجمع.
أَعلمتَ يا محمدُ بأمر ذلك الجاحد الذي أعرضَ عن اتّباع الحق.
وقد أعطى قليلا من المال ثم قطع عطاءه،
إن الشرائع التي يعرفها ذلك الرجل على غير هذا.
صحف موسى : التوراة.
ألَم يُخْبرَ بما في صُحف موسى،
وإبراهيمَ الذي بلغَ الغايةَ في الوفاء بما عاهد الله عليه ! ! وكانت قريش تدّعي أَنها على دِين إبراهيم، بينما أن دين إبراهيم يخالفُ ما يقولون وما يعملون.
لقد اتفقت الأديان على أنه لا تحمل نفسٌ ذنوبَ نفسٍ أخرى.
الأوفى : الأكمل.
ثم يجزيه الله على عمله أوفَى جزاءٍ فيضاعِفُ له الحسنةَ أضعافا كثيرة، ويجازيه بالسيئة مثلَها فقط أو يعفو عنها، ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم ﴾ [ الحجر : ٤٩ ].
في ختام هذه السورة الكريمة يعجَب اللهُ تعالى من أمر الإنسان، وأنه كيف يتشكّك في أمر الله وقدرته، ويجادل ويماري في أمر الرسالات ! ! فمهما طالَ وجودُ الإنسان في هذه الحياة فإن مصيره الموتُ والرجوعُ إليه.
من نطفةٍ فيها آلاف الحيوانات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة.
وهو الذي يحيينا مرةً أخرى يومَ البعث،
أقنى : أعطاه فوق الغنى من المال ما يُقتنى ويُدّخر.
وأنه سبحانه ﴿ هُوَ أغنى وأقنى ﴾ فأعطى ما يكفي، وزادنا رضىً بما يُقْتَنَى ويُدّخر.
وقد نصّ بشكل خاص بأنه ربّ الشعرى اليمانية ( ألمع نجمٍ في كوكبة الكلب الأكبر، وأَلْمع ما يُرى من نجوم السماء )، لأن بعض العرب كانوا يعبدونها. وكان قدماء المصريين يعبدونها أيضا، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس، يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى، وهو أهم حادث في العام، وابتداء عام جديد.
لقد أهلك الله عاداً الأولى قومَ هود.
قراءات :
قرأ نافع وابن كثير : عاداً الَّولى بإدغام التنوين باللام. والباقون : عاداً الأولى.
قراءات :
قرأ حفص : وثمودَ بغير تنوين. والباقون : وثموداً بالتنوين.
أهوى : أسقطها في الأرض، خسف بها الأرض.
أما المؤتفكة قم لوط، فقد قلَب بهم الأرض وخسفها لطغيانهم وكفرهم.
فأحاط بها من العذاب الشديد المرعب ما لا يوصف.
فبأيّ نِعمِ ربك عليك أيها الإنسانُ، تشكّ وترتاب ! ! وكما قال تعالى :﴿ يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم ؟.... ﴾ [ الإنفطار : ٦ ]. إن هذه كلَّها أدلةٌ على وحدانية ربك وربوبيته.
قراءات :
قرأ الجمهور : تتمارى بتاءين. وقرأ يعقوب : تمارى بتاء واحدة.
قربتْ القيامة.
ولا يكشِف عن وقتها إلا الله، ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ].
فما لكم ساهون لاهون ! ! وهل بعدَ هذا كلّه ينبغي أن تعجَبوا من هذا القرآن، وهو حديثٌ عظيم فيه كل ما يقودكم إلى الهدى والصلاح والسعادة ! !