ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: كل المحامد مختصة بالله تعالى لا تتجاوز منه إلى غيره، وهو إن كان في الحقيقة حمدًا لله لذاته بذاته، لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه، وبهذا الاعتبار تكون الجملة مقولًا لقول محذوف تقديره: قولوا يا عبادي عند ثنائي: الحمد لله، والشكر له على نعمه.
وهذه السورة (١) ختام السور المفتتحة بالحمد التي فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول، ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، وهو الختام المشار إليه بهذه السورة المفتتحة الابتداء. اهـ "خطيب".
واعلم (٢): أن الحمد يتعلق بالنعمة والمحنة؛ إذ تحت كل محنة منحة، فمن النعمة العطاس، وذلك لأنه سبب لانفتاح المسام؛ أي: ثقب الجسد، واندفاع الأبخرة المحتبسة عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر، فهو بحران الرأس، كما أن العرق بحران بدن المريض، ولذا أوجب الشارع الحمد للعاطس. قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سبق العطاس بالحمد لله وفي وجع الرأس والأضراس، ومن المحنة التجشي. وفي الحديث: "من عطس أو تجشأ فقال: الحمد لله على كل حال.. دفع الله بها عنه سبعين داءً أهونها الجذام". والتجشي: تنفس المعدة، وذلك لأن التجشي إنما يتولد من امتلاء المعدة من الطعام، فهو من المصائب في الدين خصوصًا إذا وقع حال الصلاة، ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول عند كل مصيبة "الحمد لله على كل حال".
ثم رتب الحمد على نعمة الإيجاد أولًا؛ إذ لا غاية وراءها؛ إذ كل كمال مبنيٌّ عليها فقال: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: مبدعهما ومخترعهما وخالقهما ابتداءً
(٢) روح البيان.
والمقصود من هذا: أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم.. فهو قادر على الإعادة. وقرأ الجمهور (١): ﴿فَاطِرِ﴾ على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري والضحاك: ﴿فطر﴾ على صيغة الفعل الماضي فعلى القراءة الأولى نعت للاسم الجليل؛ لأن إضافته محضة لكونه بمعنى الماضي، فتفيد التعريف، ومن جعلها غير محضة جعله بدلًا منه، وهو قليل في المشتق، ومثله: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ إضافته محضة أيضًا على أنه نعت آخر للاسم الجليل، ورسلًا منصوب بفعل مقدر؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عند البصريين، وجوز الكسائي عمله، أو منصوب بـ ﴿جَاعِلِ﴾؛ لأن اسم الفاعل بمعنى الماضي، وإن كان لا يعمل عند البصريين إلا معرفًا باللام إلا أنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله، وأما على أن إضافته غير محضة فهو منصوب بـ ﴿جَاعِلِ﴾ بلا خلاف.
والمعنى: أي مصير الملائكة وسائط بينه تعالى وبين أنبيائه والصالحين من عباده، يبلِّغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام، والرؤيا الصادقة. أو بينه تعالى وبين خلقه؛ حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه. وقال بعضهم: الإلقاء إما صحيح أو فاسد، فالصحيح إلهي رباني متعلق بالعلوم والمعارف أو ملكي روحاني، وهو الباعث على الطاعة وعلى كل ما فيه صلاح، وشحمى إلهامًا. والفاسد نفساني، وهو ما فيه حظ النفس، ويسمى هاجسًا أو شيطاني، وهو ما يدعو إلى معصية، ويسمى وسواسًا.
والمراد بالملائكة: بعضهم لا كلهم، جبرائيل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، والحفظة المتعاقبون، والملائكة المسددون حكام العدل، وغيرهم
وقرأ الجمهور: ﴿جَاعِلِ﴾ بصيغة اسم الفاعل مجرورًا. وقرأ الحسن: ﴿جَاعِلِ﴾ بالرفع والإضافة؛ أي: هو جاعل، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿جَاعِلِ﴾: بالرفع بغير تنوين. ﴿الْمَلَائِكَةِ﴾: نصبًا حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن يعمر وخليد بن نشيط: ﴿جعل﴾ فعلًا ماضيًا (الملائكة) نصبًا، وذلك بعد قراءته فاطر بألف والجر، كقراءة من قرأ: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا﴾، وقرأ الحسن وحميد بن قيس: ﴿رسلا﴾ بإسكان العين، وهي لغة تميم. وقال الزمخشري: وقرىء: ﴿الحمد لله الذي فطر السوات والأرض وجعل الملائكة﴾ فمن قرأ: ﴿فطر﴾ و ﴿جعل﴾.. فينبغي أن تكون هذه الجمل إخبارًا من العبد إلى ما أسداه إلينا من النعم، كما تقول: الفضل لزيد أحسن إلينا بكذا، خولنا كذا، يكون ذلك جهة بيان لفعله الجميل، كذلك يكون في قوله: ﴿فطر﴾ جعل؛ لأن في ذلك نعمًا لا تحصى، ومن قرأ: ﴿فاطر﴾ ﴿جاعل﴾.. فالأظهر أنهما اسما فاعل بمعنى المضي، فيكون صفة للجلالة.
﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ صفة لرسلًا؛ أي: أصحاب أجنحة ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ صفات لأجنحة، فهي مخفوضة بالفتحة الملفوظة، أو المقدرة؛ لأنها غير مصروفة للعدل والصفة؛ أي: جاعل الملائكة رسلًا أصحاب أجنحة اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة؛ أي: ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون أو يسرعون بها، فإن ما بين السماء والأرض، وكذا ما بين السموات مسيرة خمس مئة سنة، وهم يقطعونها في بعض الأحيان في وقت واحد.
ففي تعداد الأجنحة (١) إشارة إلى كمالية استعداد بعض الملائكة على بعض، وتفاوت أقدارهم وقواهم عند الله تعالى. والمعنى: إن من الملائكة خلقًا لكل منهم جناحان، وخلقًا لكل منهم ثلاثة، وخلقًا آخر لكل منهم أربعة، وعبارة النسفي هنا: والمعنى (٢): إن الملائكة طائفة، أجنحتهم اثنان اثنان؛ أي: لكل واحد منهم جناحان، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، ولعلَّ الثالث يكون في وسط الظهر بين
(٢) النسفي.
وذكر السهيلي: أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة ملكية، وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير، ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها أنه يسد ما بين المشرق والمغرب. هذا كلامه، كما في "إنسان العيون". وقال إسماعيل البروسوي: لا يجوز (١) العدول عن الظاهر مع إمكان الحمل على الحقيقة. وقد تظاهرت الروايات الدالة على إثبات الأجنحة للملائكة، وإن لم تكن كأجنحة الطير من حيث إن الله تعالى باين بين صور المخلوقات والملائكة، وان كانوا روحانيين، لكن لهم أجسام لطيفة، فلا يمنع أن يكون للأجسام أجنحة جسمانية، كما لا يمنع أن يكون للأرواح أجنحة روحانية نورانية، كما ثبت لجعفر الطيار رضي الله عنه.
والحاصل: أن المناسب لحال العلويين أن يكونوا طائرين، كما أن المناسب لحال السفليين أن يكونوا سائرين، ومن أمعن النظر في خلق الأرض والجو.. عرف ذلك، ويؤيد ما قلنا إن البراق، وإن كان في صورة البغل في الجملة، لكنه لما كان علويًا.. أثبت له الجناح، نعم إن الأجنحة من قبيل الإشارة إلى القوة الملكية، والإشارة لا تنافي العبارة هذا.
وقيل: لم يجمع الله سبحانه في الأرض لشيء من خلقه بين الأجنحة والقرون والخراطيم والقوائم إلا لأضعف خلقه، وهو البعوض.
وجملة قوله: ﴿يَزِيدُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿فِي الْخَلْقِ﴾؛ أي: في أي خلق كان من الملائكة وغيرهم، فاللام للجنس، والخلق بمعنى: المخلوق ﴿مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة.
فليس تفاوت أحوال الملائكة في عدد الأجنحة (٢)، وكذا تفاوت أحوال
(٢) روح البيان.
فالآية متناولة لزيادات الصور والمعاني، فمن الأولى حسن الصورة خصوصًا الوجه، قيل: ما بعث الله نبيًا إلا حسن الشكل، وكان نبينا - ﷺ - أملح الناس، ومنها ملاحة العينين واعتدال الصورة وسهولة اللسان وطلاقته وقوة البطش والشَّعر الحسن والصوت الحسن، وكان نبينا - ﷺ - طيب النغمة، وفي الحديث: "للهُ أشد أذنًا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب قينة إلى قينته" أي: من استماع مالك جارية مغنية أريد هنا المغنية، وفي الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم"؛ أي: أظهروا زينته بحسن أصواتكم، وإلا فجلَّ كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق، ورخص تحسين الصوت به والتطريب ما لم يتغير المعنى بزيادة أو نقصان في الحروف، ومنها حسن الخط، وفي الخبر عن رسول الله - ﷺ -: "الخط الحسن يزيد الحق وضحًا"؟ وهو بالفتح: الضوء والبياض، وفي الحديث: "عليكم بحسن الخط، فإنه من مفاتيح الرزق". وقال البروسوي: حسن الخط مما يرغب فيه الناس في جميع البلاد، فاستكمال صنعة الكتابة من الكمالات البشرية، وان كانت من الزيادات لا من المقاصد، وقد يتعيش بعض الفقراء بمنافع قلمه، ولا يحتاج إلى الغير، فتكون المنة لله على كل حال.
ومن الثانية كمال العقل، وجزالة الرأي، وجراءة القلب، وسماحة النفس، وغير ذلك من الزيادات المحمودة، كعلو الهمة؛ أي: التعلق بالمولى لا بالدنيا والعقبى. أو المعنى (١): يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء، حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانًا. وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية، كما قيل:
وَالنَّاسُ ألْفٌ مِنْهُمُ كَوَاحِدِ | وَوَاحِدٌ كَالأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا |
٢ - و ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ﴾ شرطية في محل النصب بـ ﴿يَفْتَحِ﴾؛ أي: أيُّ شيء يفتح الله سبحانه ﴿لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ﴾؛ أي: من خزائن رحمته، أية رحمة كانت من نعمة وصحة وعلم وحكمة ورزق ومطر إلى غير ذلك ﴿فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾؛ أي: لتلك الرحمة؛ أي: لا أحد من المخلوقات يقدر على إمساك تلك الرحمة، وحبسها عمن فتحت له، فإنه لا مانع لما أعطاه. وفي "الإرشاد": عبر عن إرسالها بالفتح إيذانًا بأنها أنفس الخزائن، وأعزها منالًا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام. قيل: الفتح ضربان (١):
الأول: فتح إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾، وقوله: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾.
والثاني: فتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية. وذلك قوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ﴾، وقوله: ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾.
﴿وَمَا يُمْسِكْ﴾؛ أي: وأيّ شيء يمسكه الله سبحانه من رحمته ويحبسه ويمنعه ﴿فَلَا مُرْسِلَ لَهُ﴾؛ أي: لا أحد من الموجودات يقدر على إرساله وإعطائه، فإنه لا معطي لما منعه، فهو سبحانه المعطي المانع، القابض الباسط، لا معطي سواه، ولا منعم غيره، واختلاف الضميرين بالتأنيث في الأول، والتذكير في الثاني لما أن مرجع الأول مفسر بالرحمة، ومرجع الثاني مطلق في كل ما يمسكه من رحمته وغضبه. ففي التفسير الأول وتقييده بالرحمة إيذان بأن رحمته سبقت غضبه؛ أي:
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك، فلا أحد ينازعه ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي يفعل ما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفي "الخازن": ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ فيما أمسك ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: فيما أرسل.
ومعنى الآية (١): مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه وتعالى، فما يعطِ من خير.. فلا يستطيع أحد منعه ولا إمساكه، وأيُّ خير يمسكه.. فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح؛ لأن الأمور كلها بيده تعالى، ومنها البذل والعطاء، والمنع والإمساك، وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك. وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة. وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم، والتوجه إليه في قضاء حوائجهم، والتوكل عليه في جميع مآربهم، والإعراض عما سواه من جميع خلقه.
ونحو الآية قوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)﴾. روى أحمد عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إذا انصرف من الصلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، وهو بالفتح: الحظ، والإقبال في الدنيا؛ أي: لا ينفع الفتى المحظوظ حظه في الدنيا منك؛ أي: عندك، وإنما ينفعه العمل والطاعة.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - ﷺ - كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: "سمع الله لمن حمده، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السماء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد أحق
وعن معاذ - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم، ويعظم برّهم فاجرهم، ويعن قرّاؤهم أمراءهم على معصية الله، فإذا فعلوا نزع الله يده عنهم".
وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي:
١ - ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
٢ - ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)﴾.
٣ - ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾.
٤ - ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾.
فعلى العاقل أن يجتهد حتى يأتي رزقه الصوري والمعنوي بلا جهد ولا مشقة ولا تعب، اللهم افتح لنا خير الباب، وارزقنا مما رزقت أولي الألباب، إنك مفتِّح الأبواب.
٣ - ثم أمر الله سبحانه عباده أن يذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ عامة، فاللام للجنس، أو يا أهل مكة خاصّة، فاللام للعهد ﴿اذْكُرُوا﴾ بلسانكم وجنانكم وجوارحكم. ﴿نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: إنعامه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ إن جعلت النعمة مصدرًا، أو منة الله حال كونها كائنة عليكم إن جعلت اسمًا؛ أي: راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها. وتخصيص العبادة والطاعة بمعطيها سواء كانت نعمة خارجة كالمال والجاه، أو نعمة بدنيّة كالصحة والقوة، أو نعمة نفسية كالعقل والفطنة، ومعنى أمرهم بالذكر لها: هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها، ورسمت (١) لفظة ﴿نِعْمَتَ﴾ بالتاء المبسوطة في أحد عشر موضعًا من القرآن، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي
وقرأ ابن وثاب وشقيق وأبو جعفر وزيد بن علي وحمزة والكسائي (١) ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾ بالخفض نعتًا على اللفظ، و ﴿مِنْ خَالِقٍ﴾ مبتدأ و ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ جوّزوا أن يكون خبرًا للمبتدأ، وأن يكون صفته، وأن يكون مستانفًا، والخبر على هذين الوجهين محذوف، تقديره: لكم. وقرأ شيبة وعيسى والحسن وباقي السبعة: ﴿غَيْرِ﴾ بالرفع، وجوزوا أن يكون نعتًا على الموضع، كما كان على الجر نعتًا على اللفظ، وهذا الوجه أظهر لتوافق القراءتين فيه، وأن يكون خبراَ للمبتدأ، وأن يكون فاعلًا باسم الفاعل الذي هو خالق؛ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، فحسن أعماله كقولك، أقائم زيد في أحد وجهيه. وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي: ﴿غيرَ﴾ بالنصب على الاستثناء والخبر إمّا ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ وإما محذوف، و ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ مستأنف، أو صفة أخرى لـ ﴿خَالِقٍ﴾، وفي "روح البيان": وجملة (٢) ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ كلام مستأنف لا محل له من الإعراب، ولا مساغ لكونه صفة أخرى لـ ﴿خَالِقٍ﴾؛ لأن معناه حينئذ نفي وجود خالق موصوف بوصفي المغايرة والرازقية معًا من غير تعرض لنفي وجود ما اتصف بالمغايرة فقط، ولا لكونه خبرًا للمبتدأ؛ لأن معناه نفي رازقية خالق مغاير له تعالى من غير تعرّض لنفي وجوده رأسًا مع أنّه المراد حتمًا. والمعنى: يرزقكم سبحانه وتعالى: ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ بالمطر ﴿و﴾ من ﴿الْأَرْضِ﴾ بالنبات.
وفائدة هذا التعريف: أنه إذا عرف أنه لا رازق سواه.. لم يعلّق قلبه بأحدٍ في طلب شيء، ولا يتذلّل للإنفاق لمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضًا، فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله، وتوهّم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح بشهود تقديره تعالى.
وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام؛ أي: لا
(٢) روح البيان.
قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث، وأنتم مقرّون بأنّ الله خلقكم ورزقكم. وفي "الفتوحات"؛ ﴿فَأَنَّى﴾ هنا بمعنى: كيف؛ أي: من أيِّ وجه، ومن أي حالة، وبأي سبب تعبدون غيره، فغيره ليس فيه وصف يقتضي أن تصرفوا لعبادته، فإنه لا يقدر على خلق، ولا على رزق، ولا على غيرها. اهـ شيخنا.
ومعنى الآية: يا أيها الناس راعوا نعم الله تعالى واحفظوها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة، فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم، فإلى أيّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق ووضح السبيل.
والخلاصة: احفظوا نعم الله تعالى، وأدّوا حقها، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان.
٤ - ثم سلّى الله سبحانه رسوله - ﷺ - فقال: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ ليتأسَّى بمن قبله من الأنبياء، ويتسلّى عن تكذيب كفار العرب؛ أي: وإن استمر المشركون على أن يكذّبوك با محمد فيما بلّغت إليهمِ فلا تحزن واصبر. ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ أولوا شأن خطير، وذوو عدد كثير، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ فصبروا وظفروا. ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ من الرجع، وهو الرد؛ أي: تردّ إليه عواقبها، فيجازي كل صابر على صبره، وكل مكذّب على تكذيبه. وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى تسلية الرسول - ﷺ - وأولياء أمته وتسهيل الصبر على الأذيّة إذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثل ما استقبله، وأنهم لمَّا صبروا لله كفاهم، علم أنه يكفيه بسلوك سبيلهم والاقتداء بهم. وقرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (١): ﴿ترجع﴾
والمعنى: أي وإن استمر قومك يا محمد على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين بعد أن أقمت لهم الحجج، وضربت الأمثال فتأسى بمن سبقك من الرسل، فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدّل لكلماتنا، وإلى الله مرجع أمرك وأمرهم، فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.
٥ - ثمّ ذكر أن البعث آت لا ريب فيه، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ عامة، أو يا كفار مكة خاصة. ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه إياكم بالبعث والجزاء، وإخباره لكم بالحساب والعقاب والجنة والنار ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: ثابت لا محالة لا خلف فيه.
وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه إلى أنّ كل ما وعد به الله من الثواب والعقاب والدرجات في الجنة والدركات في النار والقربات في أعلى عليّين، وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر، والبعد إلى أسفل سافلين حق، وصدق لا كذب فيه، فإذا علم ذلك استعدّ للموت قبل نزول الفوت، ولم يهتم للرزق، ولم يتهم الرب في كفاية الشغل ونشط في استكثار الطاعة ورضي بالمقسوم. ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: لا تمنعنكم زينة الحياة الدنيا، وزخارفها، وشهواتها عن التزوّد للآخرة؛ بأن يذهلكم التتسع بها عن طلب الآخرة، والسعي لها، وتقطعكم زينتها وشهواتها عن الرياضات والمجاهدات وترك الأوطان ومفارقة الإخوان في طريق الطلب، والمراد: نهيهم عن الاغترار بها، وإن توجّه النهي صورة إليها. وفي بعض الآثار: "يا ابن آدم، لا يغرنك طول المهلة، فإنما يعجل بالأخذ من يخاف الفوت" قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا: أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.
﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يخدعنكم أيها الناس ﴿بِاللَّهِ﴾؛ أي: بسعة كرمه وعفوه. ﴿الْغَرُورُ﴾ بفتح الغين؛ أي: الشيطان المبالغ في الغرور والخداع؛ بأن يمنّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، فيقول لكم: إن الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم، أو لسعة رحمته لكم.
وفي "المفردات": الغرور - بالفتح - كل ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشيطان، إذ هو أخبث الغاوين، وبالدنيا، لما قيل الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ.
ومعنى الآية (٣): أي إن وعد الله بالحشر والجزاء حق لا شكّ فيه، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، فيذهلنكم التمتع بمتاعها، ولا يلهينكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعًا لوساوس الشيطان.
والخلاصة: أنّكم لا تغتروا بالحياة الدنيا، وتتركوا فعل ما أمرتم به، وتفعلوا ما نهيتم عنه.
٦ - ثمّ ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ﴾ يا بني آدم لا لغيركم ﴿عَدُوٌّ﴾ عظيم عداوة قديمة بما فعل بأبيكم ما فعل لا تكاد تزول، أو معلن عداوته لكم بوسوسته. ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونكم على حذر منه في جميع أحوالكم؛ أي: فعادوه أنتم أشدّ العداوة بطاعة ربكم، وخالفوه فيما أمركم به من معصية الله، وكذبوه فيما يغرنكم به، فلا تكفي (٤) العداوة باللسان فقط، بل يجب أن تكون بالقلب والجوارح جميعًا، ولا يقوى المرء على عداوته إلّا بملازمة الذّكر ودوام الاستعانة بالربّ، فإنّ من هجم عليه كلاب الرّاعي يشكل عليه دفعها إلّا أن ينادي الراعي، فإنه يطردها بكلمة منه. ثمّ بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال: ﴿إِنَّمَا يَدْعُو﴾ الشيطان ﴿حِزْبَهُ﴾؛ أي أشياعه وجماعته وأتباعه المطيعين له إلى معاصي الله سبحانه. ﴿لِيَكُونُوا﴾؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
٧ - ثمّ كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه، فقال: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ثبتوا على الكفر بما وجب الإيمان به، وأصرّوا عليه. ﴿لَهُمْ﴾ بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان ﴿عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ معجّل ومؤجّل (١)، فمعجّله: تفرقة قلوبهم، وانسداد بصائرهم، وخساسة همّتهم، حتى إنهم يرضون بأن يكون معبودهم الأصنام والهوى والدنيا والشيطان، ومؤجّله: عذاب الآخرة، وهو ممّا لا يخفى شدّته وصعوبته، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، والخبر جملة قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾.
والمعنى: أي الذين كفروا بالله ورسوله لهم عذاب شديد في النّار من جراء كفرهم، وإجابتهم دعوة الشيطان، واتباعهم خطواته. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: ثبتوا على الإيمان واليقين. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الطاعات الخالصة لله تحصيلًا لزيادة نور الإيمان. ﴿لَهُمْ﴾ بسبب إيمانهم، وعملهم الصالح الذي من جملته عداوة الشيطان ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة، وهي في المعجل ستر ذنوبهم، ولولا ذلك لافتضحوا، وفي المؤجّل محوها من ديوانهم، ولولا ذلك لهلكوا. ﴿وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ لا غاية له، وهو اليوم سهولة العبادة، ودوام المعرفة، وما يناله في قلبه من زوائد اليقين وخصائص الأحوال، وأنواع المواهب، وفي الآخرة: تحقيق المسؤول، ونيل ما فوق المأمول.
والمعنى: أي والذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم به، وانتهوا عمّا نهاهم عنه لهم مغفرة من الله لذنوبهم، وأجر كبير كفاء ما ملؤوا به قلوبهم من عامر
٨ - والهمزة في قوله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. والفاء عاطفة على ذلك المحذوف و ﴿من﴾ اسم موصول في محل الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: أيتساوى الفريقان بعد تباين عاقبتهما، فيكون من زيّن وحسّن له عمله السيء؛ أي: زينه له الشيطان. ﴿فَرَآهُ حَسَنًا﴾؛ أي: فظنه جميلًا وأضلّه الله، كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح، وهداه الله سبحانه؛ أي: لا يكون مثله دلَّ على الخبر المحذوف قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ﴾ الخ، فهو تقرير له، وتحقيق للحق ببيان أن الكل بمشيئة الله تعالى، والفاء فيه لتعليل النفي المستفاد من الاستفهام، أي لا يكون مثله؛ لأنّ الله سبحانه يضل ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يضله لاستحسانه الضلال وصرف اختياره إليه، فيردّه إلى أسفل سافلين. ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يهديه لصرف اختياره إلى الهدى، فيرفعه إلى أعلى عليين، والفاء في قوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾ ولا تمت ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على المزين لهم؛ أي: بسببهم، ﴿حَسَرَاتٍ﴾؛ أي: لأجل حسرتك واغتمامك بعدم إيمانهم للإفصاح، وذهاب النفس كناية عن الموت، وحسرات جمع: حسرة، وهي شدّة الحزن على ما فات، والندم عليه، كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وجمعه للدلالة على تضاعف اغتمامه - ﷺ - على أحوالهم، أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر، و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ صلة ﴿تَذْهَبْ﴾، كما يقال: هلك عليه حبًا، ومات عليه حزنًا، ولا يجوز أن يتعلّق بحسرات؛ لأنّ المصدر لا تتقدّم عليه صلته.
والمعنى (١): إذا عرفت أن الكل بمشيئة الله تعالى، وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: لا تهلك نفسك للحسرات على غيّهم، وإصرارهم، والغموم على تكذيبهم وإنكارهم، فقد بدلت لهم النصح، وخرجت عن عهدة التبليغ، فلا مشقة لك من بعد، وإنما المشقّة عليهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم سقطوا عن عينك، ومن سقط عن عينك، فقد سقط عن عين الله، فلا يوجد أحد يرحمه. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿عَلِيمٌ﴾؛ أي: بليغ العلم. ﴿بِمَا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: بما يفعلون من القبائح، فيجازيهم عليها جزاءً قبيحًا، فإنهم وإن استحسنوا القبائح
والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنه من الوعيد الشديد. واعلم أنّ الكافر يتوهم أن عمله حسن، كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾، ثمّ الراغب في الدنيا يجمع حلالها وحرامها، ولا يتفكّر في زوالها، ولا في ارتحاله عنها قبل كمالها، فقد زيّن له سوء عمله.
والمعنى: أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك، فإنّ الله حكيم في قدره، فهو يضل من يضل من عباده، ويهدي من يشاء، لما في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام باستعداد النفوس؛ إما بإخباتها لربها، وإنابتها إليه، وميلها إلى صالح العمل، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات، وارتكاب الموبقات، ونحو الآية قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾، ثمّ هدّد الكافرين على قبيح أعمالهم، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾؛ أي: إن الله عليم بما يصنعون من القبائح، فيجازيهم عليه بما يستحقون، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال، وتدك منه الأرض دكًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فمن زين﴾ مبنيًا للمفعول ﴿سُوءُ﴾ بالرفع، وقرأ عبيد بن عمير: ﴿زين له سوء﴾ مبنيًا للفاعل، ونصب ﴿سوء﴾، وعنه أيضًا: ﴿أسوأ﴾ على وزن أفعل منصوبًا، وأسوأ عمله هو الشرك، وقرأ طلحة: ﴿أمن زين له سوء عمله﴾ بغير فاء. قال صاحب "اللوامح": للاستخبار بمعنى العامة للتقرير، ويجوز أن يكون بمعنى: حرف النداء، فحذف التمام كما حذف من المشهور الجواب انتهى، ومعنى بالجواب: خبر المبتدأ، وبالتمام: ما يؤدي لأجله؛ أي: يا من زين له سوء عمله تفكر وارجع إلى الله، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقرأ الجمهور: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾ مبنيًا للفاعل من ذهب، و ﴿نَفْسُكَ﴾ فاعل. وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن: ﴿تُذْهِبْ﴾ من أذهب مسندًا لضمير المخاطب ﴿نَفْسُكَ﴾ بالنصب، ورويت عن نافع.
٩ - ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه، وعظيم قدرته؛ ليتفكّروا في
والمراد بالرياح هنا (٢): الجنوب والشمال والصبا، فإنها رياح الرحمة لا الدّبور، فإنها رياح العذاب، أما الجنوب فريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وأما الشمال بالفتح ويكسر مهبها بين مطلع الشمس وبنات النعش، أو من مطلع الشمس إلى مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلًا، وأمّا الصبا: فمهبها من جانب المشرق إذا استوى الليل والنهار، سميت بها لأنها تصبو إليها النفوس؛ أي: تميل، ويقال لها: القبول أيضًا بالفتح؛ لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقبلها. ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾؛ أي: تهيّجه وتحركه من حيث هو، وتنشره وترفعه بين السماء والأرض لإنزال المطر؛ لأنه مزيد ثار الغبار إذا هاج وانتشر ساطعًا، والسحاب جسم يملأه الله ماء كما شاء.
وصيغة المضارع مع مضيّ أرسل وسقنا؛ لحكاية الحال الماضية استحضارًا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة، ولأن المراد بيان أحداثها لتلك الخاصيّة، ولذلك أسند إليها. ﴿فَسُقْنَاهُ﴾؛ أي: السحاب، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: فساقه؛ أي: ساق الله سبحانه ذلك السحاب وأجراه ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى الماء، وقال: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ﴾ التفاتا من الغيبة إلى التكلم دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وإنَّ الكل منه، والوسائط أسباب.
وقال أبو عبيدة: مقتضاه: فتسوقه؛ لأنه قال أولًا: فتثير سحابًا، قيل: النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع الدلالة على التحقق. اهـ. وقال: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾
(٢) روح البيان.
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ | إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ |
والكاف في قوله: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ في حيّز الرفع على الخبريَّة؛ أي: مثل ذلك الإحياء الذي تشاهدونه إحياء الموتى، واخراجهم من القبور يوم الحشر في صحة المقدوريّة وسهولة التأتّي من غير تفاوت بينهما أصلًا سوى الإلف في الأوَّل دون الثاني، فالآية احتجاج على الكفرة في إنكارهم البعث حيث دلّهم على مثال يعاينونه غير ما مرّةٍ.
وقال بعضهم (٤): معنى ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾: أي: في كيفية الإحياء، فكما أنَّ إحياء الأرض بالماء كذلك إحياء الموتى بالماء، كما روي أن الله تعالى يرسل من تحت العرش ماء كمنّي الرجال، فينبت به الأجساد كنبات البقل، ثم يأمر إسرافيل فيأخذ الصور فينفخ نفخة ثانية، فتخرج الأرواح من ثقب الصور كأمثال النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله: ليرجعنّ كل روح إلى جسده، فتدخل
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
(٤) روح البيان.
١٠ - ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ﴾ ويودّ ويطلب ﴿الْعِزَّةَ﴾ والشرف والمنعة. ﴿فـ﴾ ليطلبها من عنده تعالى بلزوم طاعته وتقواه، لا من عند غيره فإنه ﴿لِلَّهِ﴾ وحده لا لغيره ﴿الْعِزَّةَ﴾ والمنعة حال كونها ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: في الدنيا والآخرة؛ أي: عزة الدنيا والآخرة، لا يملك غيره شيئًا منها، فاستغنى عن ذكر الجواب بذكر دليله إيذانًا بأن اختصاص العزة به تعالى موجب لتخصيص طلبها به تعالى، ونظيره قولك: من أراد العلم فهو عند العلماء؛ أي: فليطلبه من عندهم؛ لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه، فقد أقمت الدليل مقام المدلول.
فإن قلت: قد أثبت العزة في آية أخرى لله ولرسوله وللمؤمنين، وهنا خصّها بالله سبحانه، فبينهما معارضة؟.
قلت: يجمع بينهما أن عز الربوبيّة والإلهيّة لله تعالى وصفًا، وهذا هو المراد هنا، وعزّ الرسول والمؤمنين له تعالى فعلًا ومنّةً وفضلًا، فإذًا العزة لله جميعًا، فعزة الرسول والمؤمنين أثر عزة الربوبية، وقال الزمخشري: لا تنافي بينهما؛ لأنّ العزة في الحقيقة لله بالذات، وللرسول بواسطة قربه من الله، وللمؤمنين بواسطة الرسول، فالمحكوم عليه أوّلًا غير المحكوم عليه ثانيًا، قيل: معنى هذا الكلام: من كان يريد أن يعلم من له العزة فلله العزة جميعًا؛ أي: العزة كلهامختصة بالله، عزة الدنيا، وعزة الآخرة، وقيل: من كان يريد العزة فليتعزّز بطاعة الله فقال: فهو دعاء، إلى طاعة من له العزة؛ أي: فليطلب العزة من عند الله تعالى بطاعته وتقواه، وذلك أن الكافرين كانوا يتعزّزون بالأصنام، كما قال: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)﴾، وأنّ الذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطاة قلوبهم كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩)﴾ فبيّن أن لا عزة إلا لله ولرسوله ولأوليائه المؤمنين. اهـ. "خازن" بتصرف. وفي "القرطبي": ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبِّه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أين تستحق، فتكون الألف واللام للاستغراق، وهذا هو المفهوم من هذه الآية.
﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره فقط من الملائكة الموكّلين بأعمال العباد ﴿يَصْعَدُ﴾ ويعرج ويعلو ﴿الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ الذي يطلب به العزة، ومعنى صعوده إليه: قبوله له، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول كل كلام يتّصف بكونه طيبًا من ذكر الله، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وتلاوة، وغير ذلك، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد والتمجيد وقيل: معنى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ﴾: أي: إلى سمائه، ومحل قبوله، وحيث يكتب الأعمال المقبولة، كما قال: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾، وقال الخليل عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾؛ أي: ذاهب إلى الشام الذي أمرني بالذهاب إليه.
فالظاهر أنّ الكتبة يصعدون بصحيفة إلى حيث أمر الله أن توضع، أو يصعد هو؛ أي: الكلم الطيب بنفسه، فلا حاجة إلى هذه التأويلات، قال بعضهم: بعض الأعمال ينتهي إلى سدرة المنتهى، وبعضها يتعدّى إلى الجنة، وبعضها إلى العرش، وبعضها يتجاوز العرش إلى عالم المثال، وقد يتعدى من عالم المثال إلى اللوح، ثمّ إلى المقام القلمي، ثمّ إلى العماء، وذلك بحسب تفاوت مراتب العمّال في الصدق والإخلاص، وصحة التصوّر والشهود والعيان. انتهى. ولكن لا نقل في ذلك كله، وهو إلى الخرافات أقرب، والأسلم عدم تأويل الآية، كما أشرنا إليه آنفًا. ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾؛ أي: يرفع الكلم الطيب ويحقّقه ويقوّيه، ولا ينال الدرجات العالية إلا به؛ إذ الكلم الطيب لا ينفع مع العصيان، فإنّ الأعمال كالمراقي له، وقول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، وهذا المعنى هو الظاهر هنا كما في "الإرشاد"، وقال به الحسن وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وغيرهم، ومعناه، أنه لا يقبل الكلم إلا مع العمل الصالح، وقيل: إن فاعل ﴿يَرْفَعُهُ﴾ هو الكلم الطيب، ومفعوله: العمل الصالح، ويؤيده قراءة نصب العمل، ومعناه: أنّ العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد والإيمان، وقيل: إن فاعل
والمعنى: إن الله يرفع العمل الصالح إليه ويقبله، كما سيأتي عن قتادة، وقال ابن عطية هذا أرجح الأقوال.. وقيل: العمل الصالح يرفع صاحبه ويشرفه، قاله ابن عباس، وقال قتادة: المعنى: إن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه؛ أي: يقبله، فيكون قوله: ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ﴾ على هذا مبتدأ خبره جملة ﴿يَرْفَعُهُ﴾، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه.
وقال أبو حيان: ويجوز (١) أن يكون العمل معطوفًا على الكلم الطيب؛ أي: يصعدان إلى الله، و ﴿يَرْفَعُهُ﴾ استئناف إخبار؛ أي: يرفعهما الله تعالى ويقبلهما، ووحّد الضمير لاشتراكهما في الصعود، والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة، فيكون لفظه مفردًا.
وصلاح العمل بالإخلاص فيه (٢)، وما كان كذلك قبله الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه، بل عليه العقاب، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءة للناس لا يتقبلها الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦)﴾ وروي عن ابن عباس أنه قال: الكلم الطيب: ذكر الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه. وعن الحسن وقتادة: لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، من قال وأحسن.. قبل الله منه.
والخلاصة: أنّ القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل، وأنشدوا:
لَا تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ | حَتَّى يُزَيِّنَ مَا يَقُوْلُ فِعَالُ |
وَإذَا وَزَنْتَ فِعَالَهُ بِمَقَالِهِ | فَتَوَازَنَا فَإِخَالُ ذَاكَ جَمَالُ |
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى الله.. ذكر أن المرائين لا يتقبّل منهم عمل، ولهم عذاب شديد عند ربهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ وانتصاب (١) ﴿السَّيِّئَاتِ﴾ على أنها صفة لمصدر محذوف، فإنّ يمكر لازم لا ينصب المفعول به؛ أي: يمكرون المنكرات السيئات، أو مفعول به على التضمين؛ أي: يعملون السيئات، وهي مكرات قريش بالنبيّ - ﷺ - في دار الندوة، وتدارؤهم الرّأي في إحدى الثلاث التي هي الإثبات، والقتل، والإخراج، كما حكى الله سبحانه عنهم في سورة الأنفال بقوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾. ﴿لَهُمْ﴾ بسبب مكراتهم ﴿عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: بالغ نهاية الشدّة في الدنيا والآخرة لا يدرك غايته، ولا يبالي بما يمكرون به ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ﴾ المفسدين الذين أرادوا أن يمكروا بالنّبي - ﷺ -.
وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم (٢) للإيذان بكمال تميّزهم بما هم فيه من الشرّ والفساد عن سائر المفسدين، واشتهارهم بذلك ﴿هُوَ﴾ مبتدأ ثانٍ لا ضمير منفصل لعدم شرطه، خاصةً دون مكر الله بهم، وفي "الإرشاد": لا من مكروا به. ﴿يَبُورُ﴾؛ أي: يهلك ويفسد ويبطل، فإنّ البوار فرط الكساد كما سيأتي. ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد، كما قيل: كسد حتى فسد، عبر بالبوار عن الهلاك والفساد.
ولقد أبارهم الله تعالى إبارة بعد إبارة مكراتهم؛ حيث أخرجهم من مكة، وقتلهم، وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه - ﷺ - بواحدة منهنَّ ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ فللمكر السيء قوم أشقياء غاية أمرهم الهلاك، وللكلم الطيّب والعمل الصالح قوم سعداء، نهاية شأنهم النجاة. قال مجاهد وشهر بن حوشب: المراد بالآية: أصحاب الرياء.
ومعنى الآية (٣): أي والذين يمكرون المكر السيء بالمسلمين بأن يعملوا كل
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وفي "التأويلات النجمية": يشير سبحانه بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ إلى الذين يظهرون الحسنات بالمكر، ويخفون السيئات من العقائد الفاسدة ليحسبهم الخلق من الصالحين الصادقين. ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾، وشدة عذابهم في تضعيف عذابهم، فإنهم يعذّبون بالسيئات التي يخفونها، ويضاعف لهم العذاب بمكرهم في إظهار الحسنات دون حقيقتها، كما قال تعالى: ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾؛ أي: مكرهم يبوّرهم ويهلكهم. انتهى.
١١ - ثمّ ذكر سبحانه دليلًا آخر على صحة البعث والنشور بما يُرى في الأنفس، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَلَقَكُمْ﴾ يا بني آدم إبتداء خلقًا إجماليًا في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السلام ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾، وقال قتادة: يعني آدم، والتقدير على هذا: والله خلق أباكم الأول، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب، فالكلام حينئذ على حذف مضاف. وقال بعضهم: من تراب تقبرون وتدفنون فيه؛ أي: خلقكم من تراب لتكونوا متواضعين كالتراب. وفي الحديث: "إن الله جعل الأرض ذلولا تمشون في مناكبها، وخلق بني آدم من التراب ليذلهم بذلك، فأبوا إلّا نخوةً واستكبارًا، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر".
﴿ثُمَّ﴾ خلقكم خلقًا تفصيليًا. ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ لتكونوا قابلين لكل كمال، كالماء الذي هو سر الحياة ومبدأ العناصر الأربعة، والنطفة هو الماء الصافي الخارج من بين الصلب والتّرائب، كما سيأتي. وقال بعضهم: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ يعني: آدم، وهو أصل البشر ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أخرجها من ظهر آبائكم بالتناسل والتوالد.
وفي "التأويلات": يشير سبحانه بقوله: ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ إلى أنه خلقكم من
﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ﴾ سبحانه ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: أصنافًا، أحمر وأبيض وأسود، أو ذكرانًا وإناثًا، وعن قتادة: جعل بعضكم زوجًا لبعض، فالذكر زوج الأنثى، وفي "التأويلات" يشير إلى ازدواج الروح والقالب فالروح من أعلى مراتب القرب، والقالب من أسفل دركات البعد، فبكمال القدرة والحكمة جمع بين أقرب الأقربين، وأبعد الأبعدين، ورتب للقالب في ظاهره الحواس الخمس، وفي باطنه القوى البشرية، ورتب للروح المدركات الروحانية، ليكون بالروح والقالب مدركًا لعوالم الغيب والشهادة كلها، وعالمًا بما فيها خلافة عن حضرة الربوبية عالم الغيب والشهادة. انتهى. ﴿وَمَا﴾ نافية ﴿تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى﴾ من حوامل حملًا، و ﴿مِنْ﴾ مزيدة في الفاعل لاستغراق النفي وتأكيده، والأنثى خلاف الذكر ﴿وَلَا تَضَعُ﴾؛ أي: لا تلد أنثى من حوامل ولدًا في حال من الأحوال ﴿إِلَّا﴾ حال كونها متلبسة ﴿بِعِلْمِهِ﴾ تعالى، تابعةً لمشيئته، قال في "بحر العلوم": بعلمه في موضع الحال، والمعنى: ما يحدث شيء من حمل حامل، ولا وضع واضع إلا وهو عالم به، يعلم مكان الحمل ووضعه وأيامه وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة وغير ذلك، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره.
﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ﴾ ﴿ما﴾: نافية، والتعمير إطالة العمر، والمعمر من أطيل عمره، ويقال للمعمر؛ ابن الليالي، وقوله: ﴿مِنْ مُعَمَّرٍ﴾؛ أي: من أحد، و ﴿مِنْ﴾ زائدة لتأكيد النفي، كما في من أنثى.
وسمي معمرًا باعتبار مصيره (١)، يعني: هو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه، والمعنى: وما يمد في عمر أحد وما يطول، ﴿وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ والضمير راجع إلى المعمر، والنقصان من عمر المعمر محال، فهو من التسامح في العبارة
واعلم: أن الزيادة والنقصان في الآية بالنسبة إلى عمرين كما عرفت، وإلا فمذهب أكثر المتكلمين وعليه الجمهور أن العمر يعني: عمر شخص لا يزيد ولا ينقص، وقيل: الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبت في اللوح، مثل أن يكتب فيه: إن حج فلان فعمره ستون، وإلا فأربعون، فإذا حج فقد بلغ الستين، وقد عمر، وإذا لم يحج فلا يجاوز الأربعين، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وكذا إن تصدق، أو وصل الرحم فعمره ثمانون، وإلا فخمسون، وإليه أشار النبي - ﷺ - بقوله: "الصدقة والصلة تعمران الديار، وتزيدان في الأعمار".
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما (١): وما يعمر من معمر إلا كتب عمره كم هو سنة، وكم هو شهرًا، وكم هو يومًا، وكم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره يوم، نقص من عمره شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال ابن جبير أيضًا: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبله فهو الذي يعمره، فالهاء على هذا للمعمر، وعن سعيد أيضًا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي إلى آخره.
وعن قتادة: المعمر: من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره: من يموت قبل الستين سنة. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مئة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيُّهما بلغ فهو كتاب، وهذا مثل قول النبي - ﷺ -: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره - أي: يؤخر في عمره - فليصل رحمه".
والضمير على هذا يرجع إلى المعمَّر. وقيل: المعنى: وما يعمر من معمر؛ أي: هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب، أي: بقضاء من الله
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَا يُنْقَصُ﴾ بضم الياء وفتح القاف مبنيًا للمفعول. وقرأ يعقوب وسلّام وعبد الوارث وهارون كلاهما عن أبي عمرو: ﴿ولا يَنقُص﴾ بفتح الياء وضم القاف مبنيًا للفاعل. وقرأ الحسن (٢) والأعرج والزهري: ﴿من عمْره﴾ بسكون الميم، وقرأ الباقون: بضمها، وهما لغتان، كالسحت والسحت، والنكر والنكر، والعمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ المذكور من الخلق وما بعده، أو إن كتابة الأعمال والآجال ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَسِيرٌ﴾ غير متعذر عليه، بل هو يسير لا يتعذر عليه منها شيء ولا يعسر لاستغنائه عن الأسباب، فكذلك البعث. اهـ. "قرطبي". وفي "بحر العلوم": إن ذلك إشارة إلى أن الزيادة والنقص على الله يسير، لا يمنعه منه مانع، ولا يحتاج فيه إلى أحد، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير.
ومعنى الآية: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ...﴾ الخ؛ أي (٣): واللهُ خلق الناس من النطفة، والنطفة من الغذاء، والغذاء ينتهي آخرًا إلى الماء والتراب، فهم من تراب صار نطفة، ثم جعلهم أصنافًا ذكرانًا وإناثًا بقدر معلوم؛ بحيث يكاد الفريقان يستويان عددًا، ولو لم يكن كذلك لفني الإنسان والحيوان؛ إذ حفظ النوع لا يتم إلا بتلك المساواة على وجه التقريب، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾؛ أي: ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه، ولو لم يكن كذلك لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين، فيفنى الإنسان والحيوان، ونحو الآية قوله: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (٨) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (٩)﴾.
﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ...﴾ إلخ؛ أي: لا أحد يقضى له بطول العمر
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ النظام البديع للعالم هين على الله؛ لعلمه الشامل وعدم خفاء شيء عليه.
١٢ - ثم ذكر سبحانه نوعًا آخر من بديع صنعه وعجيب قدرته فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ﴾ العذب والملح، وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر. إنما سُمي (١) العذب بحرًا؛ لكونه مع الملح، كما يقال للشمس والقمر: قمران بالتغليب. قال في "إخوان الصفا": فإن قيل: ما البحار؟ يقال: هي مستنقعات على وجه الأرض، حاصرة للمياه المجتمعة فيها. ﴿هَذَا﴾ البحر ﴿عَذْبٌ﴾؛ أي: طيب حال. ﴿فُرَاتٌ﴾؛ أي: بليغ عذوبته وحلاوته بحيث يكسر العطش. ﴿سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾؛ أي: سهل، انحدار مائه في الحلق لعذوبته، فإن العذب لكونه ملائمًا للطبع تجذبه القوة الجاذبة بسهولة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَائِغٌ﴾ اسم فاعل من ساغ، وقرأ عيسى بن عمر: ﴿سيغ﴾ على وزن فيعل؛ كميت، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم، وقرأ عيسى أيضًا: ﴿سيغ﴾ مخففًا من المشدد كميت مخفف ميت. ﴿وَهَذَا﴾ البحر الآخر ﴿مِلْحٌ﴾؛ أي: ذو ملوحة، وهي طعم الملح؛ أي: طعمه كطعم الملح، وقرأ الجمهور: ﴿مِلْحٌ﴾، وقرأ أبو نهيك وطلحة بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفضل الرازي: وهي لغة شاذة، ويجوز أن يكون مقصورًا من: مالح، فحذف الألف تخفيفًا، وقد يقال: ماء ملح في الشذوذ، وفي المستعمل: مملوح.
﴿أُجَاجٌ﴾؛ أي: شديد ملوحته، بحيث يحرق الحلق بملوحته، وهو نقيض
(٢) البحر المحيط.
﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ﴾؛ أي (١): من المالح خاصة، ولم يقل منه؛ لأنه معلوم. ﴿حِلْيَةً﴾؛ أي: زينة؛ أي: لؤلؤًا ومرجانًا، وفي "الأسئلة المقحمة": أراد بالحلية اللآلىء، واللآلىء إنما تخرج من ملح أجاج، لا من عذب فرات، فكيف أضافها إلى البحرين؟.
والجواب: قد قيل إن اللآلىء تخرج من عذب فرات، وفي الملح عيون من ماء عذب ينعقد فيه اللؤلؤ والمرجان. انتهى.
قال في "الخريدة": اللؤلؤ يتكوَّن في بحر الهند وفارس، والمرجان ينبت في البحر كالشجر، وإذا كلس المرجان عقد الزئبق، فمنه أبيض، ومنه أحمر، ومنه أسود، وهو يقوي العين كحلًا، وينشف رطوبتها. ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾؛ أي: تلبس تلك الحلية نساؤكم، ولما كان تزينهن بها لأجل الرجال فكأنها زينتهم ولباسهم، ولذا أسند إليهم، وقيل: معنى تلبسونها (٢): تلبسون كل شيء منها بحسبه، كالخاتم في
(٢) الشوكاني.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: ولتشكروا الله سبحانه على ما أنعم عليكم به من ذلك الفضل، وحرف الترجي للإيذان بكونه مرضيًا عنده تعالى. وفي "بحر العلوم": وكي تعرفوا نعم الله فتقوموا بحقها، ولا سيما أنه جعل المهالك سببًا لوجود المنافع وحصول المعايش.
واعلم: أنه تعالى ذكر هذه الآية دلالة على قدرته، وبيانًا لنعمته، وقال بعضم: ضرب البحر العذب والملح مثلًا للمؤمن والكافر، فكما لا يستوي البحران في الطعم، فكذا المؤمن والكافر لا يستويان، ولا الكفر والإيمان، فقوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ﴾ الخ إما استطراد في صفة البحرين، وما فيهما من النعم والمنافع، أو تفصيل للأجاج على الكافر من حيث إنه يشارك العذب في منافع كثيرة، كالسمك وجري الفلك ونحوهما، والكافر خلا من المنافع بالكلية على طريقة قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
ومعنى الآية: أي وتستخرجون (٢) الدر والمرجان من الملح الأجاج، ومن العذب الفرات، وتجري السفن في كل منهما تشقه شقًا بحيازيها حين جريها مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم كيف شئتم، وتذهبون فيها إن أردتم.
(٢) المراغي.
والمعنى (١): يدخل بعض ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعًا. و ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾؛ أي: ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم. وفي "بحر العلوم": معنى تسخير الشمس والقمر: تصييرهما نافعين للناس، حيث يعلمون بمسيرهما عدد السنين والحساب. انتهى. ومنه (٢) يعلم حكمة الإيلاج، فإنه بحركة النَّيِّرين تختلف الأوقات، وتظهر الفصول الأربعة التي تتعلق بها المصالح، والأمور المهمة، ثم قوله: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾ عطف على ﴿يُولِجُ﴾، واختلافهما صيغةً لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدِّد حينًا فحينًا، وأما تسخير النَّيِّرين.. فلا تعدد فيه، وإنما المتعدِّد والمتجدِّد آثاره، وقد أشير إليه بقوله تعالى: ﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد من الشمس والقمر ﴿يَجْرِي﴾؛ أي: بحسب حركته الخاصة وحركته القسرية على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة جريًا مستمرًا. ﴿لِأَجَلٍ﴾؛ أي: إلى وقت ﴿مُسَمًّى﴾؛ أي: معين قدره الله تعالى لجريانهما، وهو يوم القيامة، فحينئذ ينقطع جريهما.
وقال بعضهم: كل يجري إلى أقصى منازلهما في الغروب؛ لأنهما يغربان كل ليلة في موضع، ثم يرجعان إلى أدنى منازلهما، فجريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما في فلكيهما، والأجل المسمى: عبارة عن منتهى دوريتهما، ومدة الجريان للشمس سنة، وللقمر شهر، فإذا كان آخر السنة ينتهي جري الشمس، وإذا كان آخر الشهر ينتهي جري القمر، قال في "البحر": والمعنى في التحقيق يجري لإدراك أجلٍ على أن الجري مختص بإدراك أجل.
ولما ذكر (٣) أشياء كثيرة تدل على قدرته الباهرة من إرسال الرياح، والإيجاد
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿تَدْعُوهُمْ﴾ بتاء الخطاب، وعيسى وسلام ويعقوب بياء الغيبة، ذكره في "البحر المحيط". والقطمير: هو القشرة البيضاء الرقيقة الملتفة على النواة كاللفافة لها. وقيل: هو القمع الذي في رأس التمرة، وقيل: قشر الثوم وأيًا كان هو مثل في القلة والحقارة، كالنقير الذي هو النقرة، والنكتة في ظهر النواة، ومنه ينبت النخل والفتيل الذي في شق النواة على هيئة الخيط المفتول،
١٤ - ثم بيّن سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله تعالى بأنهم لا ينفعون ولا يضرون. فقال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ﴾؛ أي: الأصنام للإعانة وكشف الضر، ﴿لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾ لأنهم جماد، والجماد ليس من شأنه السماع ﴿وَلَوْ سَمِعُوا﴾ على سبيل الفرض والتقدير. ﴿مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾؛ أي: ما أجابوا لكم؛ لأنهم لا لسان لهم، ما أجابوكم لمطلبكم لعجزهم عن النفع بالكلية، فإن من لا يملك نفع نفسه كيف يملك نفع غيره، وقيل (٢): لو جعلنا لهم سماعًا وحياةً فسمعوا دعاءكم.. لكانوا أطوع لله منكم، ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموه إليه من الكفر.
والخلاصة: كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر، وتدعون من بيده النفع
(٢) الشوكاني.
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾؛ أي: يجحدون بإشراككم لهم، وبعبادتكم إياهم، ويتبرؤون منها بقولهم: ما كنتم إيانا تعبدون. وإنما (١) جيء بضمير العقلاء؛ لأن عبدتهم كانوا يصفونهم بالتمييز جهلًا وغباوةً، ولأنه أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والسمع، ويجوز أن يراد كل معبود من دون الله من الملائكة والجن والإنس والأصنام، فغلَّب غير الأصنام عليها، كما في "بحر العلوم"، ويجوز (٢) أن يرجع قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ وما بعده إلى من يعقل فقط ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين، والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًا، وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم، ويحتمل (٣) أن يكون قوله: ﴿يَكْفُرُونَ﴾ بما يظهر هنالك من جمودها وبطئها عند حركة كل ناطق، ومدافعة كل محتجٍّ فيجيء هذا على طريق التجوز، كقول ذي الرمة:
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِمَيَّةَ نَاطِقٍ | تُخَاطِبُنِيْ آثَارُهُ وَأُخَاطِبُهْ |
وَأَسْقِيْهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ | تُكَلِّمُنِيْ أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ |
ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾؛ أي: لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير أخبرك به، وهو الحق سبحانه فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين، والمراد: تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدّعون لهم من الإلهية.
والخلاصة: ولا يخبرك يا محمد عن أمر هذه الآلهة، وعن عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم، وهو الله الذي لا يخفى عليه شيء كان، أو سيكون في
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
الأول: أن يكون ذلك خطابًا للرسول لما أخبر بأن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذّب عابده، وهو أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله عنه، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾؛ أي: يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون المخبر عنه أمرًا عجيبًا هو كما قال؛ لأن المخبر عنه خبير.
والثاني: أن يكون خطابًا ليس مختصًا بأحد؛ أي: هذا الذي ذكر هو كما ذكر لا ينبئك أيها السامع كائنًا من كنت مثل خيبر.
قال الزروقي: الخبير: هو العلم بدقائق الأمور لا يتوصَّل إليها غيره إلا بالاختيار والاحتيال، وقال الغزالي: هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرةً ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبرها.
وحظ العبد من ذلك أن يكون خبيرًا لما يجري في بدنه وقلبه من الغش والخيانة والتطوف حول العاجلة، وإضمار الشر وإظهار الخير، والتجمل بإظهار الإخلاص والإفلاس عنه، ولا يكون خبيرًا بمثل هذه الخفايا إلا بإظهار التوحيد وإخفائه وتحقيقه، والوصول إلى الله بالإعراض عن الشرك، وما يكون متعلق العلاقة والميل، وذلك أن التعلق بما سوى الله تعالى لا يفيد شيئًا من الجلب والسلب، فإنه كله مخلوق، والمخلوق عاجز، وليست القدرة إلا لله تعالى، فوجب توحيده والعبادة له والتعلق به.
الإعراب
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ﴾: صفة للجلالة، ومضاف إليه، وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله إضافة محضة؛ لأنه بمعنى الماضي، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السموات، ﴿جَاعِلِ﴾: صفة ثانية للجلالة وهو مضاف ﴿الْمَلَائِكَةِ﴾: مضاف إليه إضافة محضة أيضًا من إضافة الوصف إلى
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)﴾.
﴿مَا﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول به مقدم لـ ﴿يَفْتَحِ﴾، ﴿يَفْتَحِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿مَا﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿يَفْتَحِ﴾، ﴿مِنْ رَحْمَةٍ﴾: حال من ﴿مَا﴾ الشرطية، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿لا﴾: نافية للجنس، ﴿مُمْسِكَ﴾: اسمها ﴿لَهَا﴾ خبرها، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: اسم شرط جازم في محل النصب مفعول به مقدم. لـ ﴿يُمسِك﴾، ﴿يُمسِك﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله مجزوم بما الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط، ﴿لا﴾: نافية للجنس ﴿مُرْسِلَ﴾: اسمها ﴿لَهُ﴾: خبرها ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار مجرور حال من ضمير ﴿لَهُ﴾؛ أي: حالة كونه كائنًا من بعده إمساكه، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿ما﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿ما﴾ معطوفة على جملة ﴿مَّا﴾ الأولى، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّاسُ﴾: بدل من أي، أو عطف بيان له، وجملة النداء مستأنفة ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة الفعلية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿اللَّهِ﴾: لفظ جلالة مضاف إليه، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نِعْمَتَ﴾؛ لأنها بمعنى الإنعام، وإذا كانت بمعنى المنعم به تعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال منه، ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام التوبيخي الإنكارى، ﴿مِنْ﴾: حرف جر زائد، ﴿خَالِقٍ﴾: مبتدأ، ﴿غَيْرُ اللَّهِ﴾: صفة لـ ﴿خَالِقٍ﴾ على المحل أو اللفظ، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: هل من خالق غير الله موجود، وجملة ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ إما حال من الضمير المستكن في خبر المبتدأ، أو مستأنفة، أو هي الخبر، والجملة الاستفهامية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾، ﴿لَا﴾: نافية للجنس، ﴿إِلَهَ﴾: اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف تقديره: لا إله موجود، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من المستكن في خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾ مستأنفة، مسوقة لتقرير النفي المستفاد مما قبله، ﴿فَأَنَّى﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿أنى﴾: اسم استفهام بمعنى كيف في محل النصب حال من مرفوع ﴿تُؤْفَكُونَ﴾، و ﴿تُؤْفَكُونَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل مرفوع بثبات النون، والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿يُكَذِّبُوكَ﴾: فعل مضارع وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب الشرط وجوبًا لكونه مقرونًا بقد، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿كُذِّبَتْ﴾: فعل ماضٍ مغيَّر الصيغة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، والتاء لتانيث نائب الفاعل. ﴿رُسُلٌ﴾: نائب فاعل لـ ﴿كذب﴾، ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: صفة لـ ﴿رُسُلٌ﴾؛وجملة ﴿إنَّ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَإِلَى﴾: الواو:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء، أي: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّاسُ﴾: بدل من أي، وجملة النداء مستأنفة، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه ﴿حَقٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة على كونها جواب النداء، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن وعد الله حق، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول: لا تغرنكم الحياة الدنيا، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَغُرَّنَّكُمُ﴾: فعل مضارع في محل الجزم بلا الناهية، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والكاف: مفعول به. ﴿الْحَيَاةُ﴾: فاعل، ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل النصب مقول الجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿لا﴾ ناهية ﴿يَغُرَّنَّكُم﴾: فعل مضارع ومفعول به، في محل الجزم بلا الناهية. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يغرن﴾، ﴿الْغَرُورُ﴾: فاعل، وهو من صيغ المبالغة كالصبور والشكور، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾ و ﴿عَدُوٌّ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿فَاتَّخِذُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه عدو لكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: اتخذوه عدوًا ﴿اتخذوه﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول أول ﴿عَدُوًّا﴾: مفعول ثان له، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنَّمَا﴾: مكفوف وكاف ﴿يَدْعُواْ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الشَّيْطَانَ﴾، ﴿حِزْبَهُ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ﴿لِيَكُونُوا﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر، وتعليل، ﴿يكونوا﴾: فعل ناقص واسمه منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، ﴿مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾: جار ومجرور مضاف إليه متعلق بمحذوف خبر ﴿يكونوا﴾، وجملة ﴿يكونوا﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَدْعُواْ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلته ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿شَدِيدٌ﴾: صفته، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة، ويجوز أن يكون الموصول بدلًا من الواو في ﴿لِيَكُونُوا﴾ أو صفة لـ ﴿حِزْبَهُ﴾، فيكون موضعه النصب، كما يجوز أن يكون محله الجر على أنه بدل من ﴿أَصْحَابِ﴾ أو أنه نعت لأصحاب، ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة له، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: عطف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ ثانٍ مؤخر، ﴿وَأَجْرٌ﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾، ﴿كَبِيرٌ﴾: صفة لـ ﴿أجر﴾، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول معطوف على جملة الموصول الأول.
﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨)﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾: الهمزة: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿منِ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماضٍ، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿زُيِّنَ﴾، ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿فَرَآهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿رأى﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾، والهاء: مفعول أول لـ ﴿رأى﴾، و ﴿حَسَنًا﴾: مفعول ثانٍ؛ أي لأنها قلبية، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿زُيِّنَ﴾، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: كمن هداه الله تعالى، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوفة، والتقدير: هل الفريقان متساويان، فمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلة؛ لتعليل النفي المستفاد من الاستفهام؛ أي: لا يكون مثله؛ لأن الله ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، وجملة ﴿يُضِلُّ﴾ خبرها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف؛ أي: لا يكون مثله لإضلال الله من يشاء، وهدايته من يشاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يُضِلُّ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة الموصول.
﴿وَيَهْدِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يُضِلُّ﴾، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يهدي﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة الموصول، ﴿فَلَا تَذْهَبْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأردت بيان ما هو الأفصح لك.. فأقول لك: ﴿لا تذهب﴾: ﴿لا﴾: ناهية جازمة ﴿تَذْهَبْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿نَفْسُكَ﴾: فاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَذْهَبْ﴾، ﴿حَسَرَاتٍ﴾: مفعول لأجله، والمعنى: فلا تهلك نفسك للحسرات، وقال المبرد: إنها تمييز، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون حالًا من ﴿نَفْسُكَ﴾ كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾: خبره ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، وجملة ﴿يَصْنَعُونَ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩)﴾.
﴿وَاللَّهُ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿فَتُثِيرُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿تثير﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الرِّيَاحَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَرْسَلَ﴾، والعائد مقدر؛ أي: فتثير بقدرته. ﴿سَحَابًا﴾: مفعول به ﴿فَسُقْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿تثير﴾، ﴿إِلَى بَلَدٍ﴾: متعلق بـ ﴿سقنا﴾، ﴿مَيِّتٍ﴾: صفة ﴿بَلَدٍ﴾، ﴿فَأَحْيَيْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿أحيينا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿سقنا﴾، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أحيينا﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول به، ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿الْأَرْضَ﴾. ﴿كَذَلِكَ﴾: خبر مقدم، ﴿النُّشُورُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)﴾.
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾: خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿خلق﴾، ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾: معطوف على قوله: ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾، {ثُمَّ
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾: مبتدأ، وخبر، ﴿فُرَاتٌ﴾: خبر ثانٍ، أو صفة لـ ﴿عَذْبٌ﴾، ﴿سَائِغٌ﴾: خبر ثالث، ﴿شَرَابُهُ﴾: فاعل سائغ؛ لأنه صفة مشبهة؛ أي: تسهل انحداره، ويجوز أن يكون ﴿سَائِغٌ﴾: خبرًا مقدمًا، ﴿شَرَابُهُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية لـ ﴿عَذْبٌ﴾، وجملة قوله: ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾ في محل النصب حال من البحران، ﴿وَهَذَا﴾: مبتدأ ﴿مِلْحٌ﴾: خبر ﴿أُجَاجٌ﴾: صفة له، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿هَذَا عَذْبٌ﴾. ﴿وَمِنْ﴾: الواو: إما عاطفة، والجملة بمثابة التتمة والتكميل للتمثيل، أو استئنافية، فتكون الجملة مستأنفة استطرادية. ﴿مِنْ كُلٍّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَأْكُلُونَ﴾، وهنا صفة محذوفة لـ ﴿كُلِّ﴾؛ أي ومن كل منهما، ﴿تَأْكُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة إما معطوفة
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾.
﴿يُولِجُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول به، ﴿فِي النَّهَارِ﴾ متعلق بـ ﴿يُولِجُ﴾، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَكُمْ﴾، وجملة ﴿وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿يُولِجُ﴾، ﴿وَالْقَمَرَ﴾: معطوف على ﴿الشَّمْسَ﴾، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَجْرِي﴾: خبره، ﴿لِأَجَلٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْرِي﴾. ﴿مُسَمًّى﴾: نعت لـ ﴿أَجَلٍ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الشمس والقمر.
﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)﴾.
﴿ذَلِكُمُ﴾: مبتدأ، ﴿اللَّهُ﴾: خبر أول ﴿رَبُّكُمْ﴾: خبر ثان ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ثالث
التصريف ومفردات اللغة
﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ﴾: أصل الفطر بفتح الفاء: الشق مطلقًا، وقيل: الشق طولًا يقال: فطر الشيء إذا أوجده على غير مثال سابق، وبابه نصر، كما في "المختار": كأنه شقَّ العدم بإخراجهما منه، وأما الفطر بكسر الفاء فترك الصوم.
﴿رُسُلًا﴾ والرسل: جمع رسول بمعنى المرسل؛ أي: مصيرهم وسائط بينه وبين أنبيائه.
﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ أولو بمعنى: أصحاب، اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، وإنما كتبت الواو بعد الألف في حالتي الجر والنصب لئلا يلتبس بإلى الجارة، وإنما كتبوه في الرفع حملًا عليهما، والأجنحة: جمع جناح، وهو للطائر
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ﴾ والفتح في الأصل: إزالة الإغلاق، وفي العرف: الظفر، ولما كان سببًا للإرسال والإطلاق استعير له بقرينة لا مرسل له مكان الفاتح.
﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الشرك من الأفك بالفتح، وهو: الصرف، يقال: ما أفكك عن كذا؛ أي: ما صرفك عنه، وقيل: هو من الإفك - بالكسر -، وهو الكذب، وفي "المختار": والأفك - بالفتح - مصدر أفكه؛ أي: قلبه وصرفه عن الشيء، وبابه ضرب، ومنه قوله تعالى: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا﴾. ﴿تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ من المرجع بمعنى الرد؛ أي: ترد إليه عواقبها.
﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الغَرور - بفتح الغين المعجمة - فعول من أوزان المبالغة، كالشكور والصبور، وفي "المفردات": الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، سمي به هنا الشيطان؛ لأنه لا نهاية لغروره.
﴿لَكُمْ عَدُوٌّ﴾؛ أي: عظيم؛ لأن عداوته عامة قديمة، والعموم يفهم من قوله: ﴿لَكُمْ﴾ حيث لم يخص ببعض دون بعض، والقدم يفهم من اسمية الجملة الدالة على الاستمرار اهـ. "كرخي".
﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ﴾ والذهاب المضي، وذهاب النفس كناية عن الموت، كما سيأتي في البلاغة.
﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ والإرسال في القرآن على معنيين:
الأول: بمعنى البعثة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾.
والثاني: بمعنى الإطلاق والتسخير، كما في قوله تعالى: ﴿أَرْسَلَ الرِّيَاحَ﴾ وفي "المفردات": الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة، وقد يكون ذلك للتسخير كإرسال الريح والمطر، وقد يكون ببعث من له اختيار نحو إرسال الرسل، وقد يكون ذلك بالتخلية وترك المنع نحو: ﴿أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ والإرسال يقابل الإمساك.
و ﴿الرِّيَاحَ﴾: جمع ريح بمعنى الهواء المتحرك، أصله روح، ولذا يجمع على أرواح، وأما أرياح قياسًا على رياح فخطأ.
والسحاب: جسم يملؤه الله تعالى ماء كما شاء، وقيل: بخار يرتفع من البحار والأرض فيصيب الجبال فيستمسك ويناله البرد، فيصير ماء وينزل، وأصل السحب الجر كسحب الذيل والإنسان على الوجه، ومنه السحاب لجره الماء.
﴿فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ﴾ والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، ولاعتبار الأثر، قيل: بجلده بلد؛ أي: أثر، والبلد الميت هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط.
قال الراغب: الموت يقال بإزاء القوة النامية الموجودة في النبات.
وفي "المصباح": البلد يذكر ويؤنث، والبلدة البلد، وتطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرًا كان أو خلاءً، وفي التنزيل: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ أي: إلى أرض ليس بها نبات ولا مرعى، فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم، فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى، وأطلق الحياة على وجودهما، وميت وميت بمعنى واحد، قاله محمد بن يزيد وأنشد:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْترَاحَ بِمَيْتٍ | إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ |
إِنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيْشُ كَئِيْبًا | كَاسِفًا بَالُهُ قَلَيْلَ الرَّجَاءِ |
وَمَنْ يَكُ ذَا رُوحٍ فذَلِكَ مَيِّتُ | وَمَا المَيْتُ إِلَّا مَنْ إِلىَ القَبْرِ يُحْمَلُ |
﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ والنشور إحياء الأموات يقال: نشر الله الميت وأنشره؛ أي: أحياه.
﴿يُرِيدُ الْعِزَّةَ﴾ أي: الشرف والمنعة، قال الراغب: العز حالة مانعة للإنسان من أنه يغلب من قولهم أرض عزاز؛ أي: صلبة.
﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ والصعود: الذهاب في المكان العالي، استعير لما
وأصل الطيب: الذي به يطلب العزة، والكلم الطيب: هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن، وصعوده إلى الله قبوله، والعمل الصالح هو ما كان بإخلاص.
﴿يَرْفَعُهُ﴾؛ أي: يقبله، والرفع يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعليتها عن مقرها، وتارة في البناء إذا طولته، وتارة في الذكر إذا نوهته، وتارة في المنزلة إذا شرفتها، كما في "المفردات". ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ﴾؛ أي: يعملون على وجه المكر والخديعة. ﴿السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: المنكرات السيئات كأن يراؤوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة الله.
وأصل المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وفي "القاموس": المكر: الخديعة والمكرات بفتحات جمع منكرة بسكون الكاف، وهي المرة من المكر الذي هو الحيلة والخديعة. اهـ. شيخنا. وقيل: المراد بالمكر هنا الرياء في الأعمال اهـ "قرطبي" ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾؛ أي: يهلك ويفسد ويبطل ولا يتم لهم، يقال: بار يبور بورًا وبوارًا: هلك، وبارت السوق أو السلعة: كسدت وبار العمل: بطل، وبارت الأرض: لم تزرع وبوّر الأرض تركها أو صيرها بائرة، وأباره: أهلكه.
﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ والنطفة: هي الماء الصافي الخارج من بين الصلب والترائب قل أو كثر. ﴿مِنْ أُنْثَى﴾ والأنثى خلاف الذكر، ويقالان في الأصل اعتبارًا بالفرجين، كما في "المفردات".
﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ﴾ والمعمر: من أطيل عمره، والعمر: اسم لمدة عمارة البدن بالحياة ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ﴾ أصل البحر: كل مكان واسع جامع للماء
وفي "القاموس": البحر: الماء الكثير عذبًا أو ملحًا، وقال بعضهم: البحر في الأصل يقال للملح دون العذب، فقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ...﴾ الخ. إنما سمي العذب بحرًا لكونه مع الملح، كما يقال للشمس والقمر: قمران.
﴿هَذَا عَذْبٌ﴾؛ أي: حلو لذيذ طعمه، ﴿فُرَاتٌ﴾؛ أي: كاسر للعطش، مزيل له، وقيل: فرات فعال يقال للواحد والجمع، وفي "القاموس": وفرت الماء، ككرم فروتة إذا عذب، ﴿سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾؛ أي: سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس، يقال: ساغ الشراب: سهل مدخله، والشراب ما يشرب، والمراد هنا: الماء.
﴿وَهَذَا مِلْحٌ﴾؛ أي: ذو ملوحة وحرارة.
﴿أُجَاجٌ﴾؛ أي: شديد الملوحة والحرارة، وفي "القاموس": وأج الماء أجوجًا بالضم يأجج كيسمع ويضرب وينصر إذا اشتدت ملوحته، وتقول: هجير أجاج للشمس فيه مجاج، وهو لعاب الشمس، وماء أجاج يحرق بملوحته. ﴿مَوَاخِرَ﴾؛ أي: شواق للماء حين جريانها، يقال: سفينة ماخرة: إذا جرت تشق الماء مع صوت، والجمع: المواخر، كما في "المفردات".
﴿مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ القطمير: القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة، وقيل: هي النكتة في ظهرها، واعلم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة الفتيل، وهو ما في شق النواة، والقطمير وهو اللفافة المذكورة، والنقير وهو ما في ظهرها، والشفروق وهو ما بين القمع والنواة، وقال الجوهري: ويقال: هو النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة، وكلها مذكور في القرآن إلا الأخير، كما ذكرناه في أوائل الكتاب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
ومنها: التعبير عن الإرسال بالفتح إيذانًا بانها أنفس الخزائن وأعزها منالًا، كأنما هي أبواب مؤصدة لا يفتح مغالقها إلا الله سبحانه من صنوف النعم وضروب الآلاء، كالرزق والمطر والصحة والأمن في الأوطان، وغير ذلك مما لا يحصى عدده.
ومنها: تنكير ﴿مِنْ رَحْمَةٍ﴾ إفادة للإشاعة والإيهام لتندرج في مطاويها ضروب النعم، كما تقدم؛ أي: أي شيء يفتح الله من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وعلم وحكمة.
ومنها: الطباق بين ﴿يَفْتَحِ﴾ و ﴿يمُسِك﴾، وكذلك بين ﴿يُضِلُّ﴾ ﴿وَيَهْدِي﴾، وبين ﴿تَحْمِلُ﴾ و ﴿تَضَعُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿يُكَذِّبُوكَ﴾ و ﴿كُذِّبَتْ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.
ومنها: المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار في قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ لأنها من المحسنات البديعية اللفظية.
ومنها: حذف الخبر لدلالة السياق عليه في قوله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ حذف منه الخبر؛ أي: كمن لم يزين له سوء عمله، ودل على هذا المحذوف قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ...﴾ الخ.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾؛ لأن ذهاب النفس كناية عن موتها؛ لأن النفس إذا ذهبت هلك الإنسان.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ لما فيه من الإسناد إلى السبب، والمثير حقيقة هو الله تعالى.
ومنها: الالتفات من الغيبة في قوله: ﴿أَرْسَلَ﴾ إلى التكلم في قوله: ﴿فَسُقْنَاهُ﴾، وقوله: ﴿فَأَحْيَيْنَا﴾ دلالة على زيادة اختصاصه به تعالى، وأن الكل منه والوسائط أسباب.
ومنها: تنكير بلد في قوله تعالى: ﴿إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ إشارة إلى أن المقصود بعض البلاد الميتة؟ وهي بلاد الذين تبعدوا عن مظان الماء.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ لوجود الأداة؛ أي: كمثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، أو كيفية الإحياء.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ﴾؛ لأن الصعود الذهاب في المكان العالي، استعير لما يصل من العبد إلى الله، كما مر.
ومنها: المجاز الإسنادي في قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، ففيه مجاز في المسند، ومجاز في الإسناد، فالصعود مجاز عن العلم؛ لأن الصعود صفة من صفات الأجرام، والكلم معلوم، فأسند الفعل للمفعول به.
ومنها: وضع اسم الإشارة موضع ضميرهم للإيذان بكمال تميزهم بما هم فيه من الشر والفساد عن سائر المفسدين والتخصيص واشتهارهم بذلك.
ومنها: الإتيان بضمير ﴿هُوَ﴾ في قوله: ﴿هُوَ يَبُورُ﴾ إفادة للحصر والتخصيص كما مرت الإشارة إليه في مبحث التفسير.
ومنها: المجاز الأول في قوله: ﴿مِنْ مُعَمَّرٍ﴾ لأن تسميته معمرًا باعتبار مصيره، فهو من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه.
ومنها: الاستخدام في قوله: ﴿وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾ وهو ذكر الشيء بمعنى، وعود الضمير إليه بمعنى آخر، وهو من المحسنات البديعية؛ لأن المعنى لا ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدًا، بل على معنى لا يجعل من الابتداء ناقصًا.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ...﴾ إلخ. وهو تركيب استعمل في غير ما وضع له علاقة المشابهة، وليس فيه ذكر للمشبه ولا لأداة التشبيه، فقد مثَّل الله سبحانه للمؤمن والكافر بالبحرين، ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك البحر العذب في منافع من السمك واللؤلؤ، وجري الفلك بما ينفع الناس، والكافر خالٍ من النفع، ويقال: إن المؤمن والكافر - وإن اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة - لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية.
ومنها: الاستطراد بقوله: ﴿وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا...﴾ إلى آخر الآية، فإن المقصود من الآية تشبيه المؤمن والكافر بالبحرين، فذكر منافع البحرين يسمى استطرادًا، وهو ذكر الشيء في غير موضعه لمناسبة بينه وبين ذلك الموضع.
ومنها: الإتيان بحرف الترجي في قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ للإيذان بكونه مرضيًا عنده تعالى.
ومنها: التجوز في قوله: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ﴾ لأن الأصل في الإشارة أن تكون إلى محسوس، ويستحيل إحساسه تعالى بالحواس.
ومنها: الإشارة إليه بإشارة البعيد في قوله ﴿ذَلِكُمُ﴾ مع كونه سبحانه أقرب من حبل الوريد للإيذان بغاية العظمة له تعالى؛ أي: تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أن ملك السموات والأرض له،
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين طريق الهدى وطريق الضلالة، وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير، والجاحد المعاند قسا قلبه، ولم يستفد من هديه.. ضرب مثلًا به تنجلي حالهما، ثم ذكر أن الهداية بيد الله يمنحها من يشاء، وأن هؤلاء المشركيين كالموتى لا يسمعون نصيحة، ولا يهتدون بعظة، وأن الله سبحانه لم يترك أمة سدى، بل أرسل الرسل، فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا، ومنهم من استكبر وعصى وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا، والنار في العقبى.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر دلائل وحدانيته، وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادًا واستكبارًا.. أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم، وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن أن العلماء هم الذين يخشون الله ويخافون عقابه.. أردف ذلك بذكر حال العالمين بكتاب الله تعالى، العاملين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة في السر والعلن، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابًا من ربهم كفاء أعمالهم، بل أضعاف ذلك فضلًا عن ربهم ورحمة، ويطمعون في غفران زلاتهم؛ لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهم أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزل فيه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه البيهقي في البعث وابن أبي حاتم من طريق نفيع بن الحارث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رجل للنبي - ﷺ -: يا رسول الله، إن النوم مما يقر الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم، قال: "إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت"، قال: فما راحتهم؟ فأعظم ذلك رسول الله - ﷺ -، وقال: "ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة" فنزلت: ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١٥ - ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الخطاب فيه عام لا خصوص أهل مكة، كما هو الغالب في الآيات المكية، أو خاص بهم؛ لأن الموضوع فيهم، ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾؛ أي: المحتاجون ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ سبحانه الاحتياج (٣) الكثير الشديد في أنفسكم، وفيما يعرض لكم من أمر مهم، أو
(٢) لباب النقول.
(٣) روح البيان
قال ذو النون (٣): الخلق محتاجون إليه تعالى في كل نفس وخطرة ولحظة، وكيف لا ووجودهم وبقاؤهم به. والفقراء (٤): جمع فقير: والفقير: من صيغ المبالغة كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير والشديد، والفقر: وجود الحاجة الضرورية، وفقد ما يحتاج إليه وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، فإنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب، وإن افتقار سائر المخلوقات بالنسبة إلى فقرهم كالعدم.
والمعنى (٥): يا أيها الناس أنتم أشد الخلق افتقارًا إلى الله تعالى، واحتياجًا إليه في أنفسكم وعيالكم وأموالكم، وفيما يعرض لكم من سائر الأمور، فلا غنى لكم عنه طرفة عين، ولا أقل من ذلك، ومن هنا قول الصديق رضي الله عنه: من عرف نفسه عرف ربه. أي: من عرف نفسه بالفقر والذل والعجز والمسكنة عرف ربه
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
(٤) روح البيان.
(٥) الصاوي.
وفي "النسفي": ولم يسمهم (١) بالفقراء للتحقير، بل للتعريض على الاستغناء، ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء، وذكر الحميد بعده ليدل به على أنه الغني النافع بغناء خلقه، والجواد المنعم عليهم؛ إذ ليس كل غني نافعًا بغناه إلا إذا كان الغني جوادًا منعمًا، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم.
قال سهل: لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى، ولهم بالفقر، فمن ادعى الغى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه، فينبغي للعبد أن يكون مفتقرًا بالسر إليه، ومنقطعًا عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع، وعلامته: أن لا يسأل من أحد. وقال الواسطي: من استغنى بالله لا يفتقر، ومن تعزز بالله لا يذل. وقال الحسيني: على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيًا بالله، وكلما ازداد افتقارًا ازداد غنى، وقال يحيى: الفقر خير للعبد من الغنى؛ لأن المذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال، وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء، وقال الشبلي: الفقر يجر البلاء، وبلاؤه كله عز. انتهى من "النسفي".
ومعنى الآية (٢): أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم، فإياه فاعبدوا، وإلى رضاه فسارعوا، وهو الغني عن عبادتكم وعن غيرها، وهو المحمود على نعمه، فكل نعمة بكم وبسواكم فهي منه، فله الحمد والشكر على
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنتم في حاجة إليه، وهو ذو الغنى وحده لا شريك له، والمحمود في جميع ما يقول ويفعل، ويشرِّع لكم ولغيركم من الأحكام،
١٦ - ثم أرشد إلى غناه وقدرته الكاملة بقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ﴾ الله سبحانه وتعالى؛ إذهابكم عن وجه الأرض، ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ عنها ويعدمكم كما قدر على إيجادكم وبقائكم ﴿وَيَأْتِ﴾؛ وينشىء ﴿بِخَلْقٍ﴾؛ أي: بمخلوق ﴿جَدِيدٍ﴾ مكانكم وبدلكم ليسوا على صفتكم، بل مستمرون على الطاعة، فيكون الخلق من جنسهم، وهو الآدمي، أو يأت بعالم آخر غير ما تعرفونه، فيكون من غير جنسهم.
وعلى كلا التقديرين فيه إظهار الغضب للناس الناسين، وتخويف لهم على سرفهم ومعاصيهم.
١٧ - ﴿وَمَا ذَلِكَ﴾ المذكور من الإذهاب بهم، والإتيان بآخرين ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه متعلق بقوله: ﴿بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: بمتعذر ولا صعب ولا مستعسر، بل هو هين عليه يسير؛ لشمول قدرته على كل مقدور، ولذلك يقدر على الشيء وضده، فإذا قال لشيء: كن.. كان من غير توقف ولا امتناع، وقد أهلك القرون الماضية، واستخلف الآخرين إلى أن جاء نوبة قريش، فناداهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ وبيَّن أنهم محتاجون إليه احتياجًا كليًا، وهو غني عنهم وعن عبادتهم، ومع ذلك دعاهم إلى ما فيه سعادتهم وفوزهم، وهو الإيمان والطاعة، وهم مع احتياجهم لا يجيبونه، فاستحقوا الهلاك، ولم يبقَ إلا المشيئة (١).
ثم إنه تعالى شاء هلاكهم لإصرارهم، فهلك بعضهم في بدر، وبعضهم في غيره من المعارك، وخلق مكانهم من يطيعونه تعالى فيما أمرهم به ونهاهم عنه، ويستحقون بذلك فضله ورحمته، واستمر الإفناء والإيجاد إلى يومنا هذا، لكن لا على الاستعجال، بل على الإمهال، فإنه تعالى صبور لا يؤاخذ العصاة على العجلة، ويؤخر العقوبة ليرجع التائب ويقلع العصر. ففي الآية وعظ وزجر لجميع الأجناس من الملوك ومن دونهم، فمن أهمل أمر الجهاد.. لم يجد المهرب من
وعبارة "النسفي" هنا: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ كلكم إلى العدم، فإن غناه بذاته لا بكم في القدم، ﴿وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وهو بدون حمدكم حميد، ﴿وَمَا ذَلِكَ﴾ الإنشاء والإفناء ﴿عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾؛ أي: بممتنع، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ويخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئًا. انتهى.
ومعنى الآية (١): إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم؛ لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم، ويأتِ بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره، وينتهون عما نهاهم عنه، وما ذلك بصعب على الله الخالق لجميع عباده، بل هو يسير هين عليه، وليس بخافٍ ما في هذا من تهديد ووعيد وزجر وتأنيب،
١٨ - ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله: ﴿وَلَا تَزِرُ﴾؛ أي: ولا تحمل ﴿وَازِرَةٌ﴾؛ أي: نفس آثمة، وكذا غيرها يوم القيامة ﴿وِزْرَ أُخْرَى﴾؛ أي: إثم نفس أخرى بحيث تتعرى منه المحمول عنها، بل إنما تحمل كل منهما وزرها الذي اكتسبته، بخلاف الحال في الدنيا، فإن الجبابرة يأخذون الولي بالولي، والجار بالجار.
ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى (٢): ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ لأنهم إنما حملوا أثقال ضلالهم مع أثقال إضلالهم، وكلاهما أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم في قولهم: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ بقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، ومثل هذا حديث: "من سن سنة سيئة.. فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنة السيئة، لا وزر من عمل بها، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفًى في محلها، ومنه يعلم وجه تحميل ذنوب المظلومين يوم القيامة على الظالمين، فإن المحمول في الحقيقة جزاء الظلم، وإن كان يحصل في الظاهر تخفيف حمل المظلوم، ولا يجري إلا في الذنب المتعدي، وفي الآية إشارة إلى أن
(٢) روح البيان.
وإنما قال (١): ﴿وَازِرَةٌ﴾، ولم يقل: ولا تزر نفس وزر أخرى؛ لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهنّ واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها. ﴿وَإِنْ تَدْعُ﴾ مضارع أسند إلى الغائبة؛ أي: ولو دعت نفس ﴿مُثْقَلَةٌ﴾؛ أي: نفس أثقلتها الأوزار، وهي تقع على المذكر والمؤنث، والمفعول محذوف؛ أي: أحدًا، فالثقل: الإثم، سمي به لأنه يثقل صاحبه يوم القيامة، ويثبطه عن الثواب في الدنيا، ﴿إِلَى حِمْلِهَا﴾ الذي عليها من الذنوب ليحمل بعضها قيل: في الأثقال في الظاهر، كالشيء المحمول على الظهر حمل بالكسر، وفي الأثقال المحمول في الباطن كالولد في البطن حمل بالفتح، كما في "المفردات".
﴿لَا يُحْمَلْ مِنْهُ﴾؛ أي: من حملها ﴿شَيْءٌ﴾ قليل ولا كثير؛ أي: لم تجب لحمل شيء منه. ﴿وَلَوْ﴾ للوصل (٢)؛ أي: للغاية ﴿كَانَ﴾؛ أي: المدعو المفهوم من الدعوة، وترك ذكره ليشمل كل مدعو ﴿ذَا قُرْبَى﴾؛ أي: ذا قرابة من الداعي كالأب والأم والولد والأخ ونحو ذلك؛ إذ لكل واحد منهم يومئذ شأن يغنيه، وحمل يعجزه، وقيل: التقدير: ولو كان الداعي ذا قربى، والمعنيان حسنان. اهـ "جمل".
ففي هذا دليل على أنه تعالى لا يؤاخذ بالذنب إلا جانيه، وأن الاستغاثة بالأقربين غير نافعة لغير المتقين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يلقى الأب والأم ابنه فيقول: يا بني، احمل عني بعض ذنوبي، فيقول: لا أستطيع، حسبي ما عليَّ، وكذا يتعلق الرجل بزوجته فيقول لها: إني كنت لك زوجًا في الدنيا، فيثني عليها خيرًا، فيقول: قد احتجت إلى مثقال ذرةٍ من حسناتك، لعلي أنجو بها مما ترين، فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكن لا أطيق، إني أخاف مثل ما تخوفت.
فإن قلت (٣): ما الفرق بين معنى قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، ومعنى:
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
قلتُ: إن الأول دال على عدل الله في حكمه، وأن لا يؤاخذ نفسًا بغير ذنبها، والثاني: في بيان أنه لا غياث يومئذ حتى إن نفسًا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب. ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها.
قال في "الإشارة": هذه الآية نفي للتحمل اختيارًا، والأولى نفي له إجبارًا، وفيه من (١) الإشارة أن الطاعة نور، والعصيان ظلمة، فإذا اتصف جوهر الإنسان بصفة النور، أو بصفة الظلمة.. لا تنقل تلك الصفة من جوهره إلى جوهر إنسان آخر أيًا كان، ألا ترى أن كل أحد عند الصراط يمشي في نوره لا يتجاوز منه إلى غيره شيء، وكذا من غيره إليه.
ومعنى الآية (٢): وان تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب شيئًا، ولو كانت قريبةً لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها، وقرأ الجمهور (٣): ﴿لَا يُحْمَلْ﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، وأبو السمال عن طلحة وإبراهيم بن زاذان عن الكسائي بفتح التاء من فوق وكسر الميم، وتقتضي هذه القراءة نصب شيء، كما اقتضت قراءة الجمهور رفعه، وفاعل ﴿تحمل﴾ ضمير عائد على مفعول ﴿تَدْعُ﴾ المحذوف؛ أي: وإن تدع مثقلة نفسًا أخرى إلى حملها.. لم تحمل منه شيئًا، وقرىء: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ على أن ﴿كَانَ﴾ تامة؛ أي: ولو حضر، آنذاك ذو قربى، ودعته لم يحمل منه شيئًا مثل قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾، ونحو الآية قوله: ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)﴾، ثم سلى رسوله - ﷺ - عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم، فقال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ﴾ يا محمد بهذه الإنذارات، والإنذار: الإبلاغ مع التخويف ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾؛ أي: يخافون
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
قال الزجاج: تأويله: إنَّ إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥)﴾، وقوله ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾، ومعنى ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم؛ أي: راعوها، كما ينبغي، وجعلوها منارًا منصوبًا، وعلمًا مرفوعًا، قال في "كشف الأسرار": وغاير بين اللفظين؛ لأن أوقات الخشية دائمة، وأوقات الصلاة معينة منقضية، والمعنى: إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والفساد، وإن كنت نذيرًا للخلق كلهم، وخص الخشية والصلاة بالذكر؛ لأنهما أصلا الأعمال الحسنة الظاهرة والباطنة؛ أما الصلاة.. فإنها عماد الدين، وأما الخشية فإنها شعار اليقين، وإنما يخشى المرء بقدر علمه بالله تعالى، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فقلب لم يكن عالمًا خاشيًا يكون ميتًا، لا يؤثِّر فيه الإنذار، كما قال تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾، ومع هذا جعل تأثير الإنذار مشروطًا بشرط آخر، وهو إقامة الصلاة، وأمارة خشية قلبه بالغيب محافظة الصلاة في الشهادة، وفي الحديث: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ وتطهر من أوضار (١) الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذه الإنذارات، وأصلح حاله بفعل الطاعات ﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى﴾ ويتطهر ﴿لـ﴾ غرض نفسه لاقتصار نفعه عليها، كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، وقيل: المعنى: ومن يعطي الزكاة.. فإنما ثوابه لنفسه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ فعلًا ماضيًا ﴿فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى﴾ فعلًا مضارعًا من تزكى، وقرأ العباس عن أبي عمرو: ﴿ومن يزكى فإنما يزكى﴾ بالياء من تحت وشد الزاي فيهما، هما مضارعان أصلهما: ومن يتزكى، أدغمت التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله: ﴿يذكرون﴾، وقرأ ابن مسعود وطلحة: ﴿ومن ازكى﴾
(٢) البحر المحيط.
ومعنى الآية: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ...﴾ الخ؛ أي (١): إنما يجدي النصح والإنذار لدى من يخشون الله سبحانه، ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، بل لإيمانهم بما أتيت به، وتصديقهم لك فيما أنبات به عن ربك، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك، لا من طبع الله على قلوبهم، فهم لا يفقهون إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم، ويقيمونها على ما رسمه الدين، فهي التي تطهر قلوبهم، وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له، كما جاء في الحديث: أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
والخلاصة: أنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس الله وشديد عقابه، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ثم حثَّ على الأعمال الصالحة، وأبان أن فائدتها عائدة إليهم، فقال: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى﴾ الخ؛ أي: ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي.. فنفع ذلك عائد إليه، كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام.. فضرر ذلك راجع إليه، وإلى الله سبحانه مصير كلِّ عامل، وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثل لنفسه.
والحاصل (٢): أن الله سبحانه ذكر أولًا أنه لا يحمل أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانيًا أن المذنب إن دعا غيره، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمل، ثم ذكر ثالثًا أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شيء،
١٩ - ثم ضرب مثلًا للمؤمن والكافر، فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾؛ أي: المسلوب حاسة البصر ﴿وَالْبَصِيرُ﴾؛ أي: الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير. فإن المؤمن (٣) من أبصر طريق الفوز والنجاة وسلكه، بخلاف الكافر، فكما لا يستوي الأعمى والبصير من حيث الحس الظاهري؛ إذ لا بصر للأعمى..
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
٢٠ - ﴿وَلَا﴾ لتأكيد نفي الاستواء، ﴿الظُّلُمَاتُ﴾ جمع ظلمة، وهي عدم النور، ﴿وَلَا﴾ للتأكيد أيضًا ﴿النُّورُ﴾، وهو الضوء المنتشر المعين للأبصار، وهذا تمثيل للباطل والحق، فالكافر في ظلمة الكفر والشرك والجهل والعصيان والبطلان لا يبصر اليمين من الشمال، فلا يرجى له الخلاص من المهالك بحال، والمؤمن في نور التوحيد والإخلاص والعلم والطاعة والحقانية بيده الشموع والأنوار أينما سار؛ أي: ولا تستوي الظلمات والنور. وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل، واتحاد الحق، يعني أن الحق واحد، وهو التوحيد.
فالموحد لا يعبد إلا الله تعالى، وأما الباطل فطرقه كثيرة، وهي وجوه الإشراك، فمن عابد للكواكب، ومن عابد للنار، ومن عابد للأصنام، ومن عابد للشمس، ومن عابد للملائكة، إلى غير ذلك، فالظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي ذلك النور الواحد.
٢١ - ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١)﴾؛ أي: شدة حر الشمس، قال الأخفش (١): و ﴿لا﴾ في قوله: ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ زائدةٌ، والتقدير: وما يستوي الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، والحرور: شدة حر الشمس، قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل: عكسه، وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون بالنهار خاصة، وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح، وقال قطرب: الحرور: الحر، والظل: البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر الذي يؤدي، قيل: أراد الثواب والعقاب، وسمي الحر حرورًا مبالغة في شدة الحر؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وقال الكلبي: أراد بالظل الجنة، وبالحرور النار، وقال عطاء: يعني: ظل الليل وشمس النهار، وقيل: يعني الراحة والشدة.
وإنما قدم الأعمى على البصير (٢)، والظلمات على النور، والظل على الحرور
(٢) روح البيان.
٢٢ - ثم ذكر سبحانه تمثيلًا آخر للمؤمن والكافر، فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ﴾ بنور الإيمان، ﴿وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ بأمراض الشرك والجهل، وهذا التمثيل أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل معه، وأوثرت صيغة الجمع في الطرفين تحقيقًا للتباين بين أفراد الفريقين، فالتفاوت بينهما أكثر؛ إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيًا، فذكر أن الأموات لا يساوون الأحياء، سواء قابلت الجنس بالجنس، أم قابلت الفرد بالفرد.
والحي (٢): ما به القوة الحساسة، والميت: ما زال عنه ذلك، وجه التمثيل أن المؤمن منتفع بحياته؛ إذ ظاهره ذكر، وباطنه فكر دون الكافر؛ إذ ظاهره عاطل وباطنه باطل، وقال بعض العلماء: هو تمثيل للعلماء والجهال، وتشبيه الجهلة بالأموات شائع، ومنه قوله:
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ | فَإِنَّهُ الْمَيْتُ ثَوْبُهُ كَفَنُ |
والمعنى (٤): أي وما يستوي الأعمى عن دين الله الذي ابتعث به نبيه - ﷺ -، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدًا - ﷺ -، وصدقه، وقبل عن الله ما ابتعثه
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
(٤) المراغي.
ونحو الآية قوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾، وقوله: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٤)﴾.
والخلاصة: أن المؤمن بصير سميع نيِّر القلب، يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يتقربه الحال في الجنات ذات الظلال والعيون، والكافر أعمى وأصم يمشي في ظلمات لا خروج له منها، فهو يتيه في غيه، وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضي به ذلك إلى حرور وسموم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم.
ثم بيَّن أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يُسْمِعُ﴾ كلامه إسماع فهم واتّعاظ، وذلك بإحياء القلب. ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته، ووفَّقهم لطاعته، فينتفع بإنذارك، ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد، ﴿بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾؛ أي (١): بمفهم من هو مثل الميت الذي في القبور، شبَّه الله سبحانه الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته - ﷺ -؛ أي: فكما لا يسمع أصحاب القبور ولا يجيبون.. كذلك الكفار لا يسمعون ولا يقبلون الحق.
وقرأ الجمهور (٢): بتنوين ﴿مسمع﴾ وقطعه عن الإضافة، وقرأ الحسن والأشهب وعيسى الثقفي وعمرو بن ميمون: بإضافته، والمعنى: إن الله يهدي من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية، ثم ضرب مثلًا لهؤلاء المشركين، وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ﴾ الخ؛ أي: فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب الله فتهديهم به إلى سبيل الرشاد.. لا
(٢) البحر والشوكاني.
والخلاصة: كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم، وهم كفار بالهداية والدعوة إليها، كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم، ولا تستطيع هدايتهم،
٢٣ - ثم بين عمل الرسول ووظيفته فقال: ﴿إِنْ أَنْتَ﴾؛ أي: ما أنت يا محمد ﴿إِلَّا نَذِيرٌ﴾؛ أي: رسول منذر بالنار والعقاب ومخوف، وأما الإسماع البتة فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى. والمعنى: أي: ما أنت إلا رسول منذر عقاب الله لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم، ولم تكلَّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
تنبيه: قوله (١): ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾، وقوله: ﴿لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ وغير ذلك لتمييز مقام الألوهية عن مقام النبوة كيلا يشتبها على الأمة فيضلوا عن سبيل الله، كما ضل بعض الأمم السالفة، فقال بعضهم: عزير ابن الله، وقال بعضهم: المسيح ابن الله، وذلك من كمال رحمته لهذه الأمة وحسن توفيقه.
قال بعضهم: فإن قلت: إنه قد ثبت أنه - ﷺ - أمر يوم بدر بطرح أجساد الكفار في القليب، ثم ناداهم بأسمائهم، وقال: "هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقًا، فإني وجدت ما وعدني الله حقًا؟ ". فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها؟ فقال النبي - ﷺ -: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئًا" فهذا الخبر يقتضي أن النبي - ﷺ - أسمع من في القليب، وهم موتى، فيعارض هذه الآية، فما وجه الجمع بينهما؟
قلتُ: يحمل الخبر على أن الله تعالى أحيى أهل القليب حينئذ حتى سمعوا كلام رسول الله - ﷺ - توبيخًا لهم، وتصغيرًا ونقمة وحسرة، وإلا فالميت من حيث هو ميت ليس من شأنه السماع، فقد أسمع الرسول - ﷺ - سماع الله تعالى، وإلا فليس
٢٤ - ثم بيَّن سبحانه أنه ليس نذيرًا من تلقاء نفسه، بل بإذن ربه وإرادته، وأنه ما جاء إلا بالحق، فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ إما حال من الفاعل؛ أي: حال كوننا محقين، أو من المفعول؛ أي: حال كونك محقًا، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: إرسالًا متلبسًا بالحق، وهذا أولى لشموله الأولين في المعنى؛ أي: وأرسلناك بالدين الحق الذي هو الإِسلام، أو بالقرآن حال كونك، ﴿بَشِيرًا﴾؛ أي: مبشرًا للمؤمنين بالجنة ﴿وَنَذِيرًا﴾؛ أي: منذرًا للكافرين بالنار.
والمعنى: أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي، وبالشرائع التي فرضتها على عبادي مبشرًا بالجنة من صدقك، وقبل منك ما جئت به من عندي ومنذرًا بعقاب من كذبك ورد عليك ما أوحيت به إليك، ثم بيَّن فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم، وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال، فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ﴾؛ أي: ما من أمة من الأمم السالفة وأهل عصر من الأعصار الماضية ﴿إِلَّا خَلَا﴾ ومضى ومر ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الأمة ﴿نَذِيرٌ﴾ من نبي أو عالم ينذرهم من عذاب الله تعالى، والاكتفاء بالإنذار؛ لأنه هو المقصود الأهم من البعثة.
قال في "الكواشي": وأما فترة عيسى فلم يزل فيها من هو على دينه، وداع إلى الإيمان. وفي "كشف الأسرار": والآية تدل على أن كل وقت لا يخلو من حجة خبرية، وأن أول الناس آدم، وكان مبعوثًا إلى أولاده، ثم لم يخل بعده زمان من صادق مبلغ عن الله، أو آمر يقوم مقامه في البلاغ والأداء حين الفترة، وقد قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦)﴾ لا يؤمر ولا ينهى.
فإن قيل (١): كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
قلت: معنى الآية: ما من أمةٍ من الأمم الماضية إلا وقد أرسلت إليهم رسولًا ينذرهم على كفرهم، ويبشرهم على إيمانهم؛ أي: سوى أمتك التي بعثناك إليهم، يدل على ذلك قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾، وقوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾.
وقيل: يجمع بينهما بأن المراد من هذه الآية المذكورة هنا: ما من أمة هلكوا بعذاب الاستئصال إلا بعد أن أقيم عليهم الحجة بإرسال الرسول بالإعذار والإنذار. انتهى ما في "كشف الأسرار". هذا الثاني هو أنسب بالتوفيق بين الآيتين، يدل عليه ما بعده من قوله: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ الخ، وإلا فلا يخفى أن أهل الفترة، ما جاءهم نذير على ما نطق به قوله تعالى: ﴿مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾، ويدل عليه أيضًا أن كل أمة أنذرت من الأمم، ولم تقبل.. استؤصلت، فكل أمة مكذبة معذبة بنوع من العذاب، وتمام التوفيق بين الآيتين في سورة يس إن شاء الله تعالى.
والمعنى: وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله إليهم النذر، وأزاح عنهم العلل، كما قال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾، وقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾.
٢٥ - ثم سلى رسوله - ﷺ - على ما يلاقيه من قومه من الإصرار علي العناد والتكذيب، وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل، فقال: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾؛ أي: وإن يكذبوك أيها الرسول مشركو قومك، فلا تبتئس بما يفعلون، ﴿فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم الماضية رسلهم، والحال أنه قد ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الباهرة والأدلة القاطعة، ﴿وَبِالزُّبُرِ﴾؛ أي: وبالكتب التي فيها مواعظ، كزبور داود، وصحف إبراهيم وموسى وشيث وإدريس. ﴿وَبِالْكِتَابِ﴾ والمراد به: الجنس الصادق بالمتعدد ﴿الْمُنِيرِ﴾ صفة للكتاب؛ أي: وبالكتب المنيرة؛ أي: التي توضح وتبين الأحكام والشرائع كالتوراة والإنجيل، والمراد بالبينات: المعجزات الظاهرة الدالة على صدق دعواهم وصحة نبوتهم، وبالزبر: الكتب التي فيها المواعظ والأمثال والحكم، وبالكتاب المنير: الكتب المظهرة
٢٦ - وبعد أن سلاه - ﷺ - هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ﴾ بأنواع العذاب، ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: ثبتوا على الكفر وداوموا عليه، وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة، والإشعار بعلية الأخذ، ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾؛ أي: إنكاري بالعقوبة، وتغييري عليهم؛ أي: هو واقع موقعه، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في ﴿نَكِيرِ﴾ وصلًا لا وقفًا.
وقال ابن الشيخ: الاستفهام فيه للتقرير المضمن للتعجب، فإنه - ﷺ - شدة الله عليهم، فحسن الاستفهام على هذا الوجه في مقابلة التسلية، يحذِّر كفار هذه الأمة بمثل عذاب الأمم المكذبة المتقدمة، والعاقل من وعظ بغيره.
والمعنى (٣): أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم فكذبوهم فيما جاؤوهم به.. أخذتهم بالعقاب والنكال، فانظر كيف كان شديد عقابي بهم، وإنكاري عليهم، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا في عمايتهم.. حل بهم مثل ما حلَّ بأولئك، فتلك سنة الله لا تبديل لها ولا تغيير، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)﴾ ولا يخفى ما في هذا من شدة التهديد والوعيد.
ووجه التسلي (٤): أنه - ﷺ - كان يحزن عليهم، وقد نهى الله عن الحزن بقوله: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ وذلك لأنهم كانوا غير مستعدين لما دعوا إليه من الإيمان والطاعة، فتوقع ذلك منهم كتوقع الجوهرية من الحجر القاسي مع أن الحزن للحق
(٢) النسفي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
قال بعضهم: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين، وعلى قدر ما يقاسيه منهم، وكل من رد رسالة نبي ولم يؤمن بها أصلًا، فإن لذلك النبي أجر المصيبة، وللمصاب أجر على الله سبحانه بعدد من رد رسالته من أمته بلغوا ما بلغوا، وقس على هذا حال الولي الوارث الداعي إلى الله على بصيرة.
٢٧ - ثم ذكر سبحانه نوعًا من أنواع قدرته الباهرة، وخلقًا من مخلوقاته البديعة فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ والاستفهام فيه تقريري (١)، والرؤية قلبية، والخطاب فيه لرسول الله - ﷺ -؛ أي: ألم تعلم يا محمد، يعني: قد علمت، أو لكل من يصلح له؛ أي: ألم تعلم يا محمد ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَنْزَلَ﴾ بقدرته وحكمته ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ أي: من الجهة العلوية سماءً أو سحابًا ﴿مَاءً﴾؛ أي: مطرًا ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء، والالتفات من الغيبة إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بفعل الإخراج لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة، ولأن الرجوع إلى نون العظمة أهيب في العبارة. ﴿ثَمَرَاتٍ﴾ جمع ثمرة، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر، ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ وصف سببي للثمرات، والمراد بالألوان: الأجناس والأصناف والهيئات؛ أي: مختلفًا أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها، أو أصنافها على أن كلًّا منها ذو أصناف مختلفة كالعنب، فإن أصنافه تزيد على خمسين وكالتمر فإن أصنافه تزيد على مئة وكالذرة فإن أصنافها تزيد على مئة، أو هيئاتها من الصفرة والحمرة والخضرة والبياض والسواد وغيرها.
وقرأ الجمهور: ﴿مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ على حد اختلف ألوانها، وقرأ زيد بن علي: ﴿مختلفة ألوانها﴾ على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء فيه، وأن لا تلحق، يقول سبحانه: منبِّهًا إلى كمال قدرته: ألم تشاهد (٢) أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء الواحد، فأنزلنا من السماء ماءً، وأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها وطعومها وروائحها، كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك.
(٢) المراغي.
﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ﴾ مبتدأ وخبر، ولكنه على حذف مضاف، والجدد: جمع جدة بالضم بمعنى الطريقة التي يخالف لونها ما يليها، سواء كانت في الجبل أو في غيره، والخطة في ظهر الحمار تخالف لونه، ولما لم يصح الحكم على نفس الجدد بأنها من الجبال.. احتيج إلى تقدير المضاف؛ أي: أن من الجبال ما هو ذو جدد؛ أي: صاحب خطط وطرائق متلونة يخالف لونها لون الجبل، فيؤول المعنى إلى أن من الجبال ما هو مختلف ألوانه؛ لأن بيض صفة جدد، وحمر عطف على بيض، فتلا عليه السلام القرائن الثلاث، فإن ما قبلها ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾، وما بعدها ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾؛ أي: منهم بعض مختلف ألوانه، فلا بد في القرينة المتوسطة بينهما من ارتكاب الحذف، فيقال: ومن الجبال ما هو مختلف ألوانه ليؤول المعنى إلى ما ذكر فيحصل تناسب القرائن.
وقرأ الجمهور: ﴿جُدَدٌ﴾ بضم الجيم وفتح الدال، وقرأ الزهري: بضمهما، جمع: جديدة، وروي عنه أنه قرأ بفتحهما، وردها أبو حاتم، وصححها غيره. ﴿بِيضٌ﴾ جمع: أبيض صفة جدد، ﴿وَحُمْرٌ﴾ جمع: أحمر، معطوف على بيض، ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾؛ أي: ألوان تلك الجدد البيض والحمر بالشدة والضعف، فقوله: بيض وحمر، وإن كان صفة لجدد، إلا أن قوله: ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ صفة لكل واحدة من الجدد البيض والحور، بمعنى أن بياض كل واحدة من الجدد البيض، وكذا حمرة الجدد الحمر يتفاوتان بالشدة والضعف، فرب أبيض أشد بياضًا من أبيض آخر، وكذلك رب أحمر أشد حمرةً من أحمر آخر، فنفس البياض مختلف، وكذا نفس العمرة، فلذلك جمع لفظ ألوان مضافًا إلى ضمير كل واحد من البيض والحمر، فيكون كل واحد منهما من قبيل الكلي المشكك، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ صفة ثالثة لجدد، فيكون ضمير ألوانها للجدد، فيكون تأكيدًا لقوله: ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾، ويكون اختلاف ألوان الجدد بأن يكون بعضها أبيض، وبعضها أحمر، فتكون الجدد كلها على لونين بياض وحمرة إلا أنه عبر عن اللونين بألوان لكثرة كل واحد منهما باعتبار محاله، كذا في "حواشي ابن الشيخ". قال
فالغرض من الآية: إما بيان اختلاف ألوان طرائق الجبال، كاختلاف ألوان الثمرات، فترى الطرائق الجبلية من البعيد منها بيض ومنها حمر ومنها سود، وإما بيان اختلاف ألوان الجبال نفسها، وكل منها أثر دال على القدرة الكاملة، كذا في "حواشي ابن الشيخ".
والغرابيب: جمع غربيب، كعفاريت وعفريت، يقال: أسود غربيب؛ أي: شديد السواد الذي يشبه لون الغراب، وكذا يقال: أسود حالك، كما يقال: أصفر فاقع، وأبيض يقق محركةً، وأحمر قانٍ لخالص الصفرة وشديد البياض والحمرة. وفي الحديث: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب". يعني: الذي يخضب بالسواد، كما في تفسير "القرطبي" أو الذي يشيب كما في "المقاصد الحسنة"، والسود: جمع أسود، وفي "أبي السعود": قوله: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ﴾، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ إيراد هاتين الجملتين اسميتين مع مشاركتهما للفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل على تباين الناس في الأحوال لما أنَّ اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر، فعبر عنه بما يدل على الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة فأمر حادث، فعبر عنه بما يدل على الحدوث، ولما كان فيه نوع خفاء علق الرؤية به بطريق الاسفهام التقريري بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما، فإنها مشاهدة غنية عن التأمّل، فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية، فتدبر. انتهى منه.
فإن قلت (١): إذا كان الغربيب تأكيدًا للأسود، كالفاقع مثلًا للأصفر.. ينبغي
قلت: الغرابيب: تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعده، والتقدير: سود غرابيب سود، فالتأكيد إذًا متأخر عن المؤكد، وفي الإضمار، ثم الإظهار مزيد تأكيد لما فيه من التكرار، وهذا أصوب من كون السود بدلًا من الغرابيب، كما ذهب إليه الأكثر حتى صاحب "القاموس"، كما قال: وأما غرابيب سود.. فبدل؛ لأن تأكيد الألوان لا يتقدم، وقيل هو على التقديم والتأخير؛ أي: سود غرابيب.
٢٨ - ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: ومن بني آدم ﴿وَالدَّوَابِّ﴾ جمع دابة، وهي ما يدب على الأرض من الحيوان، ﴿وَالْأَنْعَامِ﴾: جمع نعم محركة، وقد يسكن عينه: الإبل والبقر والضأن والمعز دون غيرها من الدواب، وقوله: ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ صفة لموصوف محذوف؛ أي: ومن هذه المذكورات صنف أو نوع أو بعض مختلف ألوانه، كاختلاف ألوان الثمرات والجبال بأن يكون أبيض وأحمر وأسود وأخضر وأصفر، ولم يقل هنا ألوانها؛ لأن الضمير يعود إلى البعض الدال عليه من التبعيضية في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء؛ لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله تعالى وبديع صنعه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالدَّوَابِّ﴾ مشدد الباء، والزهري بتخفيفها؛ كراهية التضعيف؛ إذ فيه التقاء الساكنين، كما همز بعضهم ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ فرارًا من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين، وحرّك أول الساكنين، وقرأ ابن السميقع: ﴿ألوانها﴾. وقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ تمّ الكلام عليه، وهو وصف لمصدر محذوف مؤكّد تشبيهي، تقديره: مختلف ألوانه اختلافًا كائنًا كذلك؛ أي: كاختلاف الثمار والجبال.
ولما قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾. وعدَّد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه، وعلى صفاته.. أتبع ذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ﴾ سبحانه ويخافه ﴿مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ به الذين علموه بصفاته، فعظموه (٢)؛ إذ شرط الخشية معرفة المخشي، والعلم بصفاته
(٢) البيضاوي.
وفي "الإرشاد": هو تتمة لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ بتعيين من يخشاه من الناس بعد بيان اختلاف طبقاتهم وتباين مراتبهم على معنى (١): إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشية، وهم العلماء به وبعظيم قدرته، قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل، وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا، وكفي بالاغترار جهلًا، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله.. فليس بعالم. وقال الشعبي: العالم من خاف الله وتقديم (٢) المخشي وهو المفعول للاختصاص وحصر الفاعلية؛ أي: لا يخشى الله من بين عباده إلا العلماء، ولو أخر لانعكس الأمر، وصار المعنى: لا يخشون إلا الله، وبينهما تغاير، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء دون غيرهم، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله دون غيره.
وقرأ الجمهور: بنصب الجلالة ورفع العلماء، وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين: برفع الجلالة ونصب العلماء على أن الخشية استعارة للتعظيم، فإن المعظَّم يكون مهيبًا، فالمعنى عليه: إنما يعظم الله سبحانه من بين جميع عباده العلماء، كما يعظِّم المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وهذه القراءة - وإن كانت شاذة - لكنها مفيدة جدًّا، وجعل عبد الله بن عمر الخشية بمعنى الاختيار؛ أي: إنما يختار الله من بين عباده العلماء، وعلى كل من القراءتين في هذه الآية للعلماء منقبة عظيمة وخصلة حميدة.
والمعنى (٣): أي إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على
(٢) روح البيان.
(٣) المراغى.
وعن عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله - ﷺ - شيئًا، فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - ﷺ -، فخطب فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية" أخرجه البخاري ومسلم. ثم بيَّن سبب خشيتهم منه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزٌ﴾ في انتقامه ممن كفر به ﴿غَفُورٌ﴾ لذنوب من آمن به وأطاعه، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى.
قيل (١): الخشية: تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل يكون تارةً بكثرة الجناية من العبد، وتارة بمعرفة جلال الله وهيبته، وخشية الأنبياء من هذا القبيل، فعلى المؤمن أن يجتهد في تحصيل العلم بالله حتى يكون أخشى الناس، فبقدر مراتب العلم تكون مراتب الخوف والخشية وروي عن النبي - ﷺ -: أنه سئل: يا رسول الله، أينا أعلم؟ قال: "أخشاكم لله سبحانه وتعالى، إنما يخشى الله من عباده العلماء"، قال: يا رسول الله، فأيُّ الأصحاب أفضل؟ قال: "من إذا ذكرت الله.. أعانك، وإذا نسيت.. ذكّرك"، قالوا: فأيّ الأصحاب شر؟ قال: "الذي إذا ذكرت لم يعنك، وإذا نسيت لم يذكرك"، قالوا: فأيُّ الناس شرٌّ؟ قال: "اللهم اغفر للعلماء، العالم إذا فسد فسد الناس". كذا في "تفسير أبي الليث". نسأل الله سبحانه أن يجعلنا عاملين محقّقين، وفي الخوف والخشية صادقين ومحقّين.
٢٩ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: يداومون على تلاوة القرآن، ويعملون بما فيه؛ إذ لا تنفع التلاوة بدون العمل، والتلاوة (٢): القراءة متتابعة، والقراءة أعم كالدراسة والأوراد الموظّفة، والقراءة منها، لكن التهجّي وتعليم الصبيان لا يعد قراءة، ولذا قالوا: لا يكره التهجّي للجنب والحائض
(٢) روح البيان.
﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضة؛ أي: أدّوها بآدابها وشرائطها وأركانها في أوقاتها، وغاير بين الجملتين بالاستقبال والمضي؛ لأن أوقات التلاوة أعم بخلاف أوقات الصلاة، وكذا أوقات الزكاة المدلول عليها بقوله: ﴿وَأَنْفَقُوا﴾ في وجوه البر ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ وأعطيناهم ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ وهي ضد السر؛ أي: إنفاق سر وعلانية، أو ذوي سرّ وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين؛ أي: أنفقوا كيفما أمكن لهم من غير قصد إليهما، فيه حثّ على الإنفاق كيفما تهيّأ، فإن تهيأ سرًا فهو أفضل، وإلا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراءٍ هو عين الرياء، ويمكن أن يراد بالسر صدقة النفل، بالعلانية صدقة الفرض، وفيه أيضًا حث على الإنفاق في جميع الأوقات.
وجملة ﴿يَرْجُونَ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾؛ أي: يقصدون ويطلبون، ﴿تِجَارَةً﴾؛ أي: مثوبة ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ صفة لتجارة؛ أي: لن تبطل ولن تخسر ولن تهلك؛ أي: يأملون من ربهم، ويطلبون منه بأعمالهم المذكورة مثوبة مدّخرة لا تبطل ولا تحبط.. قال في "الإرشاد": وأتى بقوله: ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ للدلالة على أنها ليست كسائر التجارات الدائرة بين الربح والخسران؛ لأنه اشتراء باقٍ بفانٍ، والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول رجائهم،
٣٠ - وقوله: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْجُونَ﴾ (١)، أو بـ ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ على معنى أنه ينتفي عنها الكساد، وتنفق عند الله ليوفيهم بحسب أعمالهم وخلوص نياتهم ﴿أُجُورَهُمْ﴾؛ أي: أجور أعمالهم من التلاوة والإقامة والإنفاق، فلا وقف على لن تبور أي لن تكسد لأجل أن يعطيهم أجور أعمالهم الصالحة وافية كاملة، أو متعلق بمحذوف دل عليه السياق؛ أي: فعلوا ذلك ليوفيهم أجور أعمالهم، ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ أي: من جوده وكرمه وخزائن رحمته ما يشاء مما لم يخطر ببالهم عند العمل، ولم يستحقوا له، بل هو كرم محض، ومن
وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ﴾ تعليل (١) لما قبله من التوفية والزيادة؛ أي: غفور لفرطاتهم وفي "بحر العلوم": ستَّار لكل ما صدر منهم مما من شأنه أن يستر، محاء له عن قلوبهم، وعن ديوان الحفظة. ﴿شَكُورٌ﴾ لطاعاتهم؛ أي: مجازيهمِ عليها وومثيب لهم، وقيل (٢): إن هذه الجملة هي خبر إن في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ مع تقدير رابط؛ أي: غفور لهم، وتكون جملة ﴿يَرْجُونَ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل ﴿أَنْفَقُوا﴾، والأول أولى.
وفي "التأويلات النجمية": غفور يغفر تقصيرهم في العبودية، شكور يشكر يسعيهم مع التقصير بفضل الربوبية.
وحاصل معنى الآية: أن الذين يتبعون كتاب الله تعالى، ويعملون بما فرض فيه من فرائض، فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرًا وعلانية بلا بسط ولا إسراف، هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربح تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدّموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه، ويبتغون فضلًا منه ورحمة فوق ذلك، وغفرانًا لما فرط من زلّاتهم، وما اجترحوا من سيئاتهم، فالله هو الغفور لما فرط من المطيعين من الزلات، الشكور لطاعاتهم، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى، ونحو الآية قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
قال أبو الليث: الشكر على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الشكر ممن دونه يكون بالطاعة وترك مخالفته.
والوجه الثاني: الشكر ممن هو شكله يكون بالجزاء والمكافأة.
والوجه الثالث: الشكر ممن فوقه يكون رضي منه باليسير، كما قال بعضهم الشكور: هو المجازي بالخير الكثير على العمل اليسير، والمعطي بالعمل في أيام
(٢) الشوكاني.
٣١ - ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهو القرآن، فـ ﴿مِنَ﴾ للتبيين، أو هو اللوح المحفوظ، فـ ﴿مِنَ﴾ للتبعيض، وجملة قوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾؛ أي: الصدق لا كذب فيه، ولا شكّ خبر الموصول حال كونه ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: موافقًا لما قبله من الكتب السماوية المنزّلة على الأنبياء في العقائد وأصول الأحكام، وهو حال مؤكدة؛ أي: أحقه مصدقًا؛ لأنَّ حقيّته لا تنفكّ عن هذا التصديق ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿بِعِبَادِهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿لَخَبِيرٌ﴾؛ أي: محيط ببواطن أمورهم ﴿بَصِيرٌ﴾؛ أي: عالم بظواهرها، وقدّم الجار والمجرور لرعاية الفاصلة التي على حرف الراء، فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوّة.. لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، يعرف صدقها منه، وتقديم الخبير للتنبيه على أن العمدة في ذلك العلم والإحاطة هي الأمور الروحانية.
المعنى (١): أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد هو الحق من ربك، وعليك وعلى أمتك أن نعمل به، وتتّبع ما فيه دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله، فصار إمامًا لها، إن الله سبحانه خبير بأحوال عباده بصير بما يصلح لهم، فيشرّع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
٣٢ - ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب والتأخير؛ أي: بعدما أوحينا إليك، أو بعد كتب الأولين، كما دلّ ما قبله على كل منهما، وسئل سفيان الثوري على ماذا عطف بقوله: ﴿ثُمَّ﴾؟ قال: على إرادة الأزل، والأمر المقضي؛ أي: بعدما أردنا في الأزل. ﴿أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾؛ أي: ملكنا بعظمتنا ملكًا تامًا، وأعطينا هذا القرآن عطاءً لا رجوع فيه. ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ المفعول الأول لـ ﴿أَوْرَثْنَا﴾ الموصول، والمفعول الثاني ﴿الْكِتَابَ﴾، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب.
وهذه الأمة اصطفاهم الله تعالى على سائر الأمم، كما اصطفى رسولهم على جميع الرسل، وكتابهم على كل الكتب، وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن، بل يشمل من يحفظ منه جزءًا، ولو أنه الفاتحة، فإن الصحابة رضوان لله عليهم أجمعين لم يكن واحد منهم يحفظ جميع القرآن، ونحن على القطع بأنهم مصطفون.
ولما كانت الوراثة بالسبب والنسب، وكان السبب جنسًا واحدًا، كالزوجية، وهما صاحبا الفرض، وكان النسب من جنسين: الأصول كالآباء والأمهات، والفروع كل ما يتولّد من الأصول كالأولاد والأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم، وهم صاحب فرض وعصبية، فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف: صنف صاحب الفرض بالسبب، وصنف صاحب الفرض بالنسب، وصنف صاحب الباقي وهم العصبة، كذلك الورثة هاهنا ثلاثة أقسام، كما قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ﴾؛ أي: فمن الذين اصطفينا من عبادنا ﴿ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بما عمل من الصغائر؛ لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع صاحبه من دخول الجنة مع الذين يدخلون الجنة، يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي، ووجه كونه ظالمًا لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات.. لكان لنفسه فيها من الثواب حظًا عظيمًا، وهذا القول هو الراجح، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة،
واعلم (١): أن الظلم ثلاثة أقسام: ظلم بين الإنسان وبين الله، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، وظلم بينه وبين الناس، وظلم بينه وبين نفسه، وهو المراد بما في هذه الآية كما في "المفردات". وتقديم الظالم في الذكر لا يدل على تقديمه في الدرجة لقوله تعالى: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾، كما في "الأسئلة المقحمة"، وقال بعضهم: قدم الظالم لكثرة الفاسقين، ولأن الظلم بمعنى الجهل، والركوب إلى الهوى مقتضى الجبلة، والاقتصاد والسبق عارضان، وقال أبو الليث: الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق كي لا يعجب السابق بنفسه، ولا ييأس الظالم من رحمة الله.
وقال القشيري: في الإرث يبدأ بصاحب الفرض، وإن قلّ نصيبه، فكذا هاهنا بدأ بالظالم، ونصيبه أقل من نصيب الآخرين، ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾؛ أي: متوسط في العمل بالكتاب في أغلب الأوقات، ولا يخلو من خلط شيء أو متوسط في أمر الدين، بحيث لا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ﴾؛ أي: متقدم إلى ثواب الله وجنته ورحمته ﴿بِالْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: بالأعمال الصالحة، بضم التعليم والإرشاد إلى العلم والعمل ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بإرادته وتوفيقه، جعله في "كشف الأسرار" متعلقًا بالأصناف الثلاثة على معنى ظلم الظالم، وقصد المقتصد، وسبق السابق بعلم الله تعالى، والظاهر تعلقه بالسابق، كما ذهب إليه أجلاء المفسرين على معنى بتيسيره وتوفيقه وتمكينه من فعل الخير، لا باستقلاله، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها قال القشيري: كأنه قال: يا ظالم ارفع رأسك، فإنك وإن ظلمت فما ظلمت إلا نفسك، ويا سابق اخفض فإنك وإن سبقت فما سبقت إلا بتوفيقي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَابِقٌ﴾ على صيغة اسم الفاعل، وقرأ أبو عمران الحوفي وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقراءة عن أبي عمرو: ﴿سبَّاق﴾ على صيغة المبالغة، وقيل: المراد بالطوائف الثلاث: التالي للقرآن تلاوة مجرّدة، والقارىء له العامل به، والقارىء العامل بما فيه والمعلم له، وقال الحسن:
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي أوحينا إليك القرآن، ثمّ أورثناه من اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة التي هي خير الأمم بشهادة الكتاب: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾.
وجعلناهم أقسامًا ثلاثة: ظالم لنفسه مفرِّط في فعل بعض الواجبات، مرتكب لبعض المحرمات، مقتصد مؤدِّ للواجبات، تارك للمحرمات، تقع منه تارة بعض الهفوات، وحينًا يترك بعض المستحسنات، سابقٌ بالخيرات بإذن الله، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
والخلاصة: أن الأمة في العمل أقسام ثلاثة: مقصّر في العمل بالكتاب، مسرف على نفسه، ومتردّد بين العمل به ومخالفته، ومتقدم إلى ثواب الله تعالى بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير الله وتوفيقه. ﴿ذَلِكَ﴾ السبق بالخيرات ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ الذي لا يقادر قدره، والمن العظيم من الله الكبير، لا ينال إلا بتوفيقه، أو (٢) ذلك الإيراث والاصطفاء، فيكون بالنظر إلى جميع المؤمنين من الأمة، وكونه فضلًا؛ لأن القرآن أفضل الكتب الإلهية، وهذه الأمة المرحومة أفضل جميع الأمم السابقة، وفي "التأويلات النجمية": ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: الذي ذكر من الظالم مع السابق في الإيراث والاصطفاء ودخول الجنة، ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذه المعرض الفضل العظيم؛ لأن الفضل العظيم في حق الظالم أن يجمعه مع السابق في الفضل والمقام، كما جمعه معه في الذكر انتهى.
٣٣ - وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين.. بيَّن جزاءهم ومآلهم بقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾؛ أي: بساتين استقرار وثبات وإقامة بلا رحيل؛ لأنه لا سبب للرحيل عنها، وهو إما بدل من الفضل الكبير؛ لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب.. نزل منزلة المسبب، وعلى هذا فتكون جملة ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ مستأنفة أو مبتدأ خبره قوله: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾؛ أي: هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن، ومن دخلها لم يخرج
(٢) روح البيان.
والأول هو الأصح، وعليه عامة أهل العلم، كما في "كشف الأسرار" قال أبو الليث: في تفسير أول الآية وآخرها دليل على أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون يدخلون الجنة، فأما أول الآية فقوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾ فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاث، وأما آخر الآية فقوله: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾؛ إذ لم يقل: يدخلانها. وفي "التأويلات النجمية": لما ذكرهم أصنافًا ثلاثة رتّبها، ولما ذكر حديث الجنة والتنعّم والتزيّن فيها.. ذكرهم على الجمع، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ الآية، نبَّه على أنّ دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله، وليس في الفضل تميّز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالمنعم.
وقرأ الجمهور: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو عمرو: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ مبنيًا للمفعول، وقرأ زر بن حبيش والزهري ﴿جنة﴾ على الإفراد، والجمهور: ﴿جَنَّاتُ﴾ بالجمع.
﴿يُحَلَّوْنَ﴾ خبر ثان، أو حال مقدرة؛ أي: يلبسون على سبيل التزيُّن والتحلي نساءً ورجالًا ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات ﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ ﴿مِن﴾ الأولى تبعيضية، والثانية بيانية، أي: يحلون بعض أساور كائنة من ذهب؛ لأنه أفضل من سائر أفرادها، والأساور جمع أسورة جمع سوار، كما سيأتي. ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ بالنصب معطوف على محل من أساور، واللؤلؤ: الدر؛ أي: ويحلون لؤلؤًا.
وقرأ الجمهور: ﴿يُحَلَّوْنَ﴾ بضم الياء وفتح الحاء وشدّ اللام مبنيًا للمفعول، وقرىء بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة، فهي حال إذا لبست الحلىّ، وقرأ عاصم ونافع: ﴿لؤلؤا﴾ بالنصب عطفًا على محل ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾، والباقون: بالجر عطفًا على ﴿ذَهَبٍ﴾.
وقال في "بحر العلوم": معطوف على ﴿ذَهَبٍ﴾ فإنهم يسوّرون بالجنسين: أساور من ذهب، ومن لؤلؤ، وذلك على الله يسير، وكم من أمر من أمور الآخرة
﴿وَلِبَاسُهُمْ﴾؛ أي: ما يلبسون ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنات ﴿حَرِيرٌ﴾ لا كحرير الدنيا، فإنه لا يوجد من معناه في الدنيا إلا الاسم. والمعنى: أي: بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب، واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلىء، ويكون لباسهم فيها حريرًا.
٣٤ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: ويقولون عند دخولهم الجنة حمدًا لربهم على ما صنع بهم، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي: الإحاطة بأوصاف الكمال لمن له تمام القدرة، ﴿الَّذِي أَذْهَبَ﴾؛ أي: أزال ﴿عَنَّا﴾ بدخولنا الجنة، ﴿الْحَزَنَ﴾؛ أي: جنس الحزن والغم والهمّ، سواء كان حزن الدنيا، أو حزن الآخرة من همّ المعاش وحزن زوال النعم والجوع والعطش وخوف السلطان ودغدغة التحاسد والتباغض وحزن الأعراض والآفات ووسوسة إبليس والسيئات وردّ الطاعات وسوء العاقبة والموت وأهوال يوم القيامة والنار والمرور على الصراط، وغير ذلك.
وقرأ الجمهور: ﴿الْحَزَنَ﴾ بفتحتين، وقرأ جناح بن حُبيش: بضم الحاء وسكون الزاي: أي: ويقولون حينئذ: الحمد لله الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر، وأراحنا مما كنا نتخوّف من هموم الدنيا والآخرة، ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ﴾ لذنوب المذنبين ﴿شَكُورٌ﴾ للمطيعين. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - ﷺ - قال: "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور". رواه البغوي بسنده.
والخلاصة: أنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة، ومن أجل المعاش والوساوس، ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلي، وإدخالهم الجنات.. ذكر سرورهم ببقائهم فيها، وأعلمهم بدوامها فقال: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا﴾؛ أي: أنزلنا ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ والدوام التي يقام فيها أبدًا، ولا ينتقل عنها، ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ ورحمته وإحسانه من غير أن يوجبه شيء من جهتنا. والمعنى (١): ﴿إِنَّ رَبَّنَا﴾ المحسن إلينا
٣٥ - ثمّ وصفوا الله بوصف آخر هو شكر له فقالوا: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا﴾ وأنزلنا ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ مفعول ثان لـ ﴿أحلّ﴾، وليست بظرف؛ لأنها محدودة مختصة، والمقامة مصدر ميمي بمعنى الإقامة؛ أي: دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدًا، فلا يريد النازل بها ارتحالًا منها، ولا يراد به ذلك ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾؛ أي: من إنعامه وتفضله من غير أن يوجبه شيء من قبلنا من الأعمال، فإن الحسنات فضل منه أيضًا، فلا واجب عليه.
وذلك أن دخول الجنة بالفضل والرحمة، واقتسام الدرجات بالأعمال والحسنات هذا مخلوق تحت رق مخلوق مثله لا يستحق على سيده عوضًا لخدمته، فكيف الظن بمن له الملك على الإطلاق، أيستحق من يعبده عوضًا على عبادته تعالى الله سبحانه عما تقول المعتزلة من الإيجاب. ﴿لَا يَمَسُّنَا﴾؛ أي: حالة كوننا لا يصيبنا ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في دار الإقامة في وقت من الأوقات ﴿نَصَبٌ﴾؛ أي: تعب بدن ولا وجع، كما في الدنيا. ﴿وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾؛ أي: قال وفتور وضعف ناشىءٍ من تعب؛ إذ لا تكليف فيها ولا كد، وإذا أرادوا أن يروه سبحانه لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظار وقت، بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلامًا، وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه، كما هم بلا كيفية.
والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له، وتكرير الفعل للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لُغُوبٌ﴾ بضم اللام، وعلي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي: بفتحها.
والمعنى: أي إنَّ ربنا لغفور شكور؛ لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا
والخلاصة: أنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا، فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة، كما قالوا: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)﴾ وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره: أتعبت نفسك، فقال: راحتها أطلب.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّاسُ﴾: بدل من أيّ، أو عطف بيان له، وجملة النداء مستأنفة، ﴿أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَى اللَّهِ﴾: متعلق بالفقراء؛ لأنه جمع فقير، وفقير صفة مشبهة، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْغَنِيُّ﴾: خبر أول، ﴿الْحَمِيدُ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة، ﴿إِن﴾: حرف شرط جازم ﴿يَشَأْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَيَأْتِ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾، ﴿بِخَلْقٍ﴾: متعلق بـ ﴿يأت﴾، ﴿جَدِيدٍ﴾: صفة لـ ﴿خلق﴾، ﴿وَمَا ذَلِكَ﴾: الواو: عاطفة ﴿ما﴾: حجازية، ﴿ذَلِكَ﴾: اسمها، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿عَزِيزٍ﴾، ﴿بِعَزِيزٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة ﴿عزيز﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِن﴾ الشرطية.
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: استئنافية ﴿لا﴾: نافية، ﴿تَزِرُ﴾: فعل مضارع، ﴿وَازِرَةٌ﴾: فاعل، أو صفة لفاعل محذوف؛ أي: نفس وازرة، ﴿وِزْرَ﴾: مفعول به، ﴿أُخْرَى﴾: مضاف إليه، ﴿وَإِنْ﴾: الواو: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿تَدْعُ﴾: فعل مضارع
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ حرف كاف ومكفوف، ﴿تُنْذِرُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿يَخْشَوْنَ﴾ صلتهم، ﴿رَبَّهُمْ﴾: مفعول به لـ ﴿يَخْشَوْنَ﴾. ﴿بِالْغَيْبِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَخْشَوْنَ﴾؛ أي: يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو من المفعول؛ أي: يخشون عذابه غائبًا عنهم، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يَخْشَوْنَ﴾، ﴿وَمَنْ﴾: الواو: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿تَزَكَّى﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ ﴿فَإِنَّمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب ﴿إنما﴾: كافة ومكفوفة، ﴿يَتَزَكَّى﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾: ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَزَكَّى﴾ على أنه تعليل له، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الْمَصِيرُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾: فعل وفاعل، ﴿وَالْبَصِيرُ﴾: معطوف عليه، والجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل للمؤمن والكافر، والتنافي بينهما في الذات والوصف والمستقر في الآخرة، ﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، ﴿الظُّلُمَاتُ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾، ﴿وَلَا النُّورُ﴾: معطوف على الظلمات، و ﴿لا﴾: زائدة لتأكيد النفي، ﴿وَلَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة لتأكيد النفي، ﴿الظِّلُّ﴾: معطوف على ﴿الْأَعْمَى﴾، ﴿وَلَا الْحَرُورُ﴾: معطوف على ﴿الظِّلُّ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى﴾، ﴿وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾: معطوف على ﴿الْأَحْيَاءُ﴾، و ﴿لا﴾: زائدة، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿يُسْمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يُسْمِعُ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلتها، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية حجازية، ﴿أَنْتَ﴾: في محل الرفع اسمها، ﴿بِمُسْمِعٍ﴾: ﴿الباء﴾: زائدة ﴿مسمع﴾: خبرها منصوب، والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿من﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿مسمع﴾. ﴿فِي الْقُبُورِ﴾: متعلق بمحذوف صلة ﴿من﴾ الموصولة، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿أَنْتَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿نَذِيرٌ﴾: خبر ﴿أَنْتَ﴾، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (٢٤)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من الفاعل؛ أي: محقين، أو من المفعول؛ أي: محقًا، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: إرسالًا متلبسًا بالحق. ﴿بَشِيرًا﴾: حال من المفعول، ﴿وَنَذِيرًا﴾: معطوف عليه. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿مِن﴾ زائدة، ﴿أُمَّةٍ﴾: مبتدأ ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿خَلَا﴾: فعل ماضٍ، ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خَلَا﴾، ﴿نَذِيرٌ﴾: فاعل ﴿خَلَا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إِنْ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿يُكَذِّبُوكَ﴾: فعل مضارع وفاعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: فاصبر على تكذيبهم، ولا تتأسف عليه، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مع جوابها مستأنفة، ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية للجواب المحذوف، أو رابطة الجواب، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، والجملة الفعلية في محل الجر بلام التعليل المقدرة مسوقة لتعليل الجواب المحذوف، أو هي الجواب، ﴿جَاءَتْهُمْ﴾: فعل ومفعول به، ﴿رُسُلُهُمْ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الموصول على تقدير: قد، ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿رُسُلُهُمْ﴾، أو متعلق بـ ﴿جَاءَتْهُمْ﴾، ﴿وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ﴾: معطوفان على البينات بإعادة الجار، ﴿الْمُنِيرِ﴾: صفة لـ ﴿الكتاب﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿أَخَذْتُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول. ﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿كيف﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي، في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليها وجوبًا ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿نَكِيرِ﴾: اسمها مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لرعاية الفاصلة، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم ونفي، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم من ذكر اختلاف أحوال الناس، ﴿أَنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَنْزَلَ﴾: خبره، وجملة ﴿أَنَّ﴾ سادة مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾ لأنها قلبية، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿مَاءً﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلَ﴾. ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أخرجنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾ على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم، ﴿بِهِ﴾:
﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)﴾.
﴿وَمِنَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من الناس﴾: خبر مقدم، ﴿وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ﴾: معطوفان على ﴿النَّاسِ﴾، ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾: صفة لمبتدأ مؤخر محذوف تقديره: صنف مختلف ألوانه كائن من الناس والدواب، ﴿أَلْوَانُهُ﴾: فعل مختلف، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: مختلف ألوانه اختلافًا كائنًا كذلك؛ أي: كاختلاف ألوان الجبال، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿يَخْشَى اللَّهَ﴾: فعل ومفعول به مقدم على فاعله لإفادة الحصر، ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: حال من ﴿الْعُلَمَاءُ﴾، و ﴿الْعُلَمَاءُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَزِيزٌ﴾: خبر أول له، ﴿غَفُورٌ﴾: خبر ثانٍ، والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾: فعل وفاعل ومفعول
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)﴾.
﴿وَالَّذِي﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الَّذِي﴾: مبتدأ ﴿أَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أوحيناه، ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: حال من العائد المحذوف، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْحَقُّ﴾: خبر، والجملة مستأنفة، ﴿مُصَدِّقًا﴾: حال من ﴿الْكِتَابِ﴾. ﴿لِمَا﴾: متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾، ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿بِعِبَادِهِ﴾: متعلق بـ ﴿لَخَبِيرٌ﴾، ﴿لَخَبِيرٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر أول لـ ﴿إن﴾، ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ثانٍ لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخٍ، ﴿أَوْرَثْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثانٍ قدّم لشرفه، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿أَوْرَثْنَا﴾، والجملة معطوفة على محذوف معلوم من السياق تقديره: أوحينا إليك هذا الكتاب، ثم أورثناه الذين اصطفينا. ﴿اصْطَفَيْنَا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: اصطفيناهم. ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾: حال من الموصول، أو من العائد المحذوف، ﴿فَمِنْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إيراثنا إياهم، وأردت بيان تفاصيلهم.. فأقول لك: ﴿مِنْهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿ظَالِمٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق بـ ﴿ظَالِمٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مُقْتَصِدٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿سَابِقٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿بِالْخَيْرَاتِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿سَابِقٌ﴾، أو متعلق به، ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْفَضْلُ﴾: خبر، ﴿الْكَبِيرُ﴾: صفة له، والجملة مستأنفة.
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٣٣)﴾.
﴿جَنَّاتُ﴾: مبتدأ، ﴿عَدْنٍ﴾ مضاف إليه، وجملة ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾: خبر، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا، أو ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾: بدل من ﴿الْفَضْلُ﴾، وجملة ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ حال من ﴿جَنَّاتُ﴾، ﴿يُحَلَّوْنَ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿فِيهَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية خبر ثان لـ ﴿جَنَّاتُ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿أَسَاوِرَ﴾: مفعول ثانِ لـ ﴿يُحَلَّوْنَ﴾، ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾: صفة لـ ﴿أَسَاوِرَ﴾، ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾: معطوف على محل ﴿مِنْ أَسَاوِرَ﴾، ﴿وَلِبَاسُهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿فِيهَا﴾: حال من ضمير الغائبين، ﴿حَرِيرٌ﴾: خبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُحَلَّوْنَ﴾.
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يُحَلَّوْنَ﴾: والتقدير: جنات
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (٣٥)﴾.
﴿الَّذِي﴾: بدل من الموصول الأول، أو نعت ثانٍ للجلالة ﴿أَحَلَّنَا﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، صلة الموصول، ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿أَحَلَّنَا﴾ ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَحَلَّنَا﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَمَسُّنَا﴾: فعل ومفعول به، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَمَسُّنَا﴾، ﴿نَصَبٌ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿أَحَلَّنَا﴾ الأول، ﴿وَلَا يَمَسُّنَا﴾: فعل ومفعول به، ﴿فِيهَا﴾: متعلق به، ﴿لُغُوبٌ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ الفقراء: جمع فقير، كالفقائر جمع: فقيرة، والفقير: المكسور الفقار، والفقر ذكره في "تاج المصادر" في باب ضرب، وجعله في "القاموس": من حدِّ كرم، وقال الراغب في "المفردات": يقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال فقر، وإن كان القياس يقتضيه، انتهى. وفهم من هذا أن الفقير صيغة مبالغة، كالمفتقر بمعنى ذي الاحتياج الكثير الشديد، والفقر: وجود الحاجة الضرورية، وفقد ما يحتاج إليه.
﴿مُثْقَلَةٌ﴾ والمثقلة: النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار، قال الراغب: الثقل والخفة متقابلان، وكل ما يترجح عما يوزن به أو يقدر به يقال: هو ثقيل، وأصله في الأجسام، ثم يقال في المعاني: أثقله الغرم والوزر. انتهى.. فالثقل هنا: الإثم، سمي به لأنه يثقل صاحبه يوم القيامة، ويثئطه عن الثواب في الدنيا.
﴿إِلَى حِمْلِهَا﴾ قيل: في الأثقال المحمولة في الظاهر، كالشيء المحمول على الظهر، حمل بالكسر، وفي الأثقال المحمولة في الباطن، كالولد في البطن حمل
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ يقال: وزر يزر كوعد يعد من الباب الثاني وزرًا بالفتح والكسر، وزر يوزر من الرابج حمل، والوزر الإثم والثقل.
﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ والإنذار: الإبلاغ مع التخويف. ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)﴾ والأعمى: فاقد حاسة البصر، والبصير ضده.
﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ﴾: جمع ظلمة، وهي عدم النور. ﴿وَلَا النُّورُ﴾: وهو الضوء المنتشر المعين للأبصار. ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١)﴾ قال الراغب: يقال لكل موضع لا تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس، ويعبر بالظل عن العز والمنعة، وعن الرفاهية انتهى. والحرور: فعول من الحر غلب على السموم، وهي الريح الحارة التي تؤثر تأثير الشمس تكون غالبًا بالنهار.
وعبارة "الزمخشري": الحرور: السموم إلا أن السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، وقيل: بالنهار خاصة، وفي "المصباح": الحر بالفتح خلاف البرد، يقال: حر اليوم والطعام يحر من باب تعب وحر حرورًا من بابي قعد وضرب لغة، والاسم الحرارة، فهو حار، وحرت النار تحر من باب تعب توقدت وأسعرت، والحرة بالفتح: أرض ذات حجارة سود، والجمع: حرار، مثل: كلبة وكلاب، والحرور وزان رسول: الريح الحارة.
قال الفراء: تكون ليلًا ونهارًا، قال أبو عبيدة: أخبرنا رؤبة أن الحرور بالنهار، والمسموم بالليل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الحرور والسموم بالليل والنهار، والحرور مؤنثة، وعبارة "القاموس": والحرور: الريح الحارة بالدليل، وقد تكون بالنهار، وحر الشمس والحر الدائم والنار. انتهى.
فائدة: قال الزمخشري: فإن قلت ﴿لا﴾ المقرونة بواو العطف ما هى؟.
وقد كررت ﴿لا﴾ هنا خمس مرات اثنين في الأولى ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠)﴾، واثنين في الثانية ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١)﴾، وواحدة في الثالثة ﴿وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾، فالزيادة في عبارتهم شاملة لأصل زيادتها كالأولى من الجملة الأولى، ولتكريرها كالثانية منها. اهـ شيخنا. والحي: من به القوة الحساسة، والميت: من زال عنه ذلك.
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ جمع: قبر، وهو مقر الميت، يقال: قبرته جعلته في القبر.
﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ﴾ الأمة: الجماعة الكثيرة، وتقال لكل أهل عصر، والمراد بها هنا: أهل العصر، فإن قيل: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد لم يرسل إليها رسول ينذرها؟
أجيب: بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخلُ من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث محمدًا - ﷺ -. اهـ "خطيب" و"خازن".
وهذا يقتضي أن أهل الفترة مكلفون لبقاء آثار الرسل المتقدمة فيهم. تأمل فالمسألة خلافية.
﴿إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ قال الراغب: الخلاء: المكان الذي لا ساتر في من بناء وساكن وغيرهما، والخلو يستعمل في الزمان والمكان، لكن لما تصور في الزمان المضي.. فسر أهل اللغة قولهم خلا الزمان بقولهم: مضى وذهب انتهي.
﴿وَبِالزُّبُرِ﴾: جمع زبور بمعنى المكتوب من: زبرت الكتاب كتبته كتابة غليظة، وكل كتاب غليظ الكتابة يقال له زبور، كما في "المفردات". ﴿ثَمَرَاتٍ﴾ جمع ثمرة، وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر. ﴿جُدَدٌ﴾ - بالضم والفتح -: جمع جدة بالضم، وهي الطرق المختلفة الألوان في الجبل وغيره، كما مر.
﴿غَرَابِيبُ﴾ جمع غربيب كعفاريت جمع عفريت، وهو شديد السواد، يقال: أسود غربيب، وأبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قان، وفي الحديث: "إن الله يبغض الشيخ الغربيب" يعني: الذي يخضب بالسواد. وقال امرؤ القيس في وصف فرسه:
العَيْنُ طَامِحَةٌ واليَدُّ سَابِحَةٌ | والرِّجْلُ لَافِحَةٌ والوَجْهُ غِرْبِيبُ |
﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ والعلانية: ضد السر، وهي الإظهار، وأكثر ما يقال ذلك في المعاني دون الأعيان، يقال: أعلنته فعلن؛ أي: أظهرته فظهر.
﴿تِجَارَةً﴾ والتجارة في العرف: تقليب المال لغرض الربح، والمراد من التجارة هنا: المعاملة مع الله لنيل الثواب، والتاجر الذي يبيع ويشتري وعمله التجارة وهي التصرف في رأس المال طالبًا للربح، وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذه اللفظة، وأما تجاه فأصله وجاه وتجوب، فالتاء فيه للمضارعة.
﴿لَنْ تَبُورَ﴾: البوار: فرط الكساد، والوصف منه: بائر، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد.. عبر بالبوار عن الهلاك مطلقًا، ومن الهلاك المعنوي ما في قولهم: خذوا الطريق ولو دارت، وتزوجوا البكر ولو بارت، واسكنوا المدن ولو جارت. ﴿أُجُورَهُمْ﴾ جمع أجر، والأجر ثواب العمل.
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾ قال الراغب: الوراثة: انتقال قينة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد، وسمي بذلك المنتقل عن الميت، ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب: قد ورث كذا انتهى.
﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا﴾ والاصطفاء في الأصل: تناول صفو الشيء وخالصه.
﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾؛ أي: عامل به تارة، ومخالف له أخرى، وإنما قال مقتصد بصيغة الافتعال؛ لأن ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة.
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ﴾؛ أي: متقدم إلى ثواب الله سبحانه، راجع دخول جنته، وأصل السبق: المتقدم في السير، ويستعار لإحراز الفضل كما هنا.
﴿بِالْخَيْرَاتِ﴾؛ أي: بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة، والخير كل ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع، وضده: الشر.
﴿حَرِيرٌ﴾: والحرير من الثياب: ما رق، كما في "المفردات"، وثوب يكون سداه ولحمته إبريسمًا، وإن كان في الأصل الإبريسم المطبوخ، كما في "القهستاني"، ويحرم لبسه على الرجال دون النساء إلا في الحرب، كما هو مبسوط في علم الفروع.
﴿الْحَزَنَ﴾: الحزن - بفتحتين - والحزن - بالضم والسكون - واحد، وهو: خشونة الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، وضده الفرح. وقيل: الحزن - بالتحريك -: الخوف من محذور يقع في المستقبل.
﴿أَحَلَّنَا﴾؛ أي: أنزلنا يقال: حلت إذا نزلت من حل الأحمال عند النزول، ثم جرِّد استعماله للنزول فقيل: حل حلولًا وأحله غيره، والمحلة: مكان النزول، كما في "المفردات".
﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿أحل﴾، وليست بظرف؛ لأنها محدودة مختصة، فلو كان ظرفًا لتعدى إليه الفعل بفي، والمقامة - بالضم -: مصدر ميمي، تقول: أقام يقيم إقامة ومقامة. ﴿لَا يَمَسُّنَا﴾ المس، كاللمس، وقد يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. ﴿نَصَبٌ﴾؛ أي: تعب وكد بالأشغال.
﴿لُغُوبٌ﴾؛ أي: ضعف وملالة عن كثرة الأشغال، والفرق بين النصب واللغوب: أن النصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب: ما يحدث منه من الفتور والضعف للجوارح. قال أبو حيان: هو لازم من تعب البدن، فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها:
عَلْيَاءُ لَا تَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا | لَوْ مَسَّهَا حَجَرٌ مَسَّتْهُ سَرَّاءُ |
﴿لُغُوبٌ﴾ إعياء من التعب، وفي "القاموس": لغب لغبًا ولغوبًا، كمنع وسمع وكرم: أعيا أشد الاعياء، وفي "المختار": اللغوب - بضمتين -: التعب والإعياء،
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تعريف الفقراء في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ للمبالغة في فقرهم، كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقراء فقط، وأن افتقار غيرهم بالنسبة إلى فقرهم كالعدم.
ومنها: الطباق بين ﴿يذهب﴾ و ﴿وَيَأْتِ﴾، بين ﴿الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾، و ﴿الظُّلُمَاتُ﴾ و ﴿النُّورُ﴾، و ﴿الظِّلُّ﴾ و ﴿الْحَرُورُ﴾، و ﴿الْأَحْيَاءُ﴾ و ﴿الْأَمْوَاتُ﴾، وبين: ﴿نَذِيرًا﴾ و ﴿بَشِيرًا﴾، وبين ﴿سِرًّا﴾ و ﴿عَلَانِيَةً﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين ﴿تَزِرُ﴾ و ﴿تَزِرُ﴾ و ﴿وِزْرَ﴾ في قوله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، وبين ﴿حِمْلِهَا﴾ و ﴿يُحْمَلْ﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩)﴾ الآية، شبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير بجامع ظلام الطريق، وعدم الاهتداء على الكافر، ووضوح الرؤية، والاهتداء للمؤمن، ثم استعار المشبه به ﴿الْأَعْمَى﴾ للكافر، واستعار ﴿البصير﴾ للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية الأصلية.
ومنها: تكرار إلا في قوله: ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ مبالغة في تأكيد النفي.
ومنها: تقديم الأعمى على البصير، والظلمات على النور، والظل على الحروو لتتطابق فواصل الآي.
ومنها: الاستعارة المرشحة في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ مثل المصرين على الكفر بالأموات، ورشح له بذكر القبور، وترشيح الاستعارة اقترانها بما يلائم المستعار منه، شبه تعالى من طبع على قلبه بالموتى في عدم القدرة على الإجابة، فكما لا يسمع أصحاب القبور ولا يجيبون، كذلك الكفار لا يسمعون ولا يقبلون الحق.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿يَعْمَلُونَ﴾ لكون الإنذار هو المقصود الأهم من البعثة.
ومنها: إعادة الجار في المعطوف في قوله: ﴿وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ﴾ لإفادة التأكيد.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لذمهم بما في حيز الصلة، والإشعار بعلية الأخذ.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة في: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ إلى التكلم في قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ لإظهار كمال الاعتناء بفعل الإخراج لما فيه من الصنع البديع المنبىء عن كمال القدرة والحكمة، ولأن الرجوع إلى نون العظمة أهيب في العبارة.
ومنها: التدبيج في قوله: ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ والتدبيج: أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو غير ذلك من الفنون، وقد أراد الله سبحانه بذلك الكناية عن المشتبه من الطرق إلى آخر ما ذكروه هنا.
ومنها: العدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ فأورد هاتين الجملتين اسميتين مع مشاركتهما للفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل على تباين الناس في الأحوال لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر، فعبر عنه بما يدل على
ومنها: التقديم والتأخير لغرض الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ فقصر الخشية على العلماء قصر صفة على موصوف، فكأنه قيل: إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، أما إذا قدمت الفاعل.. فإن المعنى ينقلب إلى أنهم لا يخشون إلا الله، فيكون قصر موصوف على صفة، وهما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل.
ومنها: مغايرة الأسلوب من الاستقبال في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ إلى المضي في قوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ للدلالة على أن أوقات التلاوة أعم بخلاف أوقات الصلاة، وكذا أوقات الزكاة المدلول عليها بقوله: ﴿وَأَنْفَقُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية المرشحة في قوله: ﴿تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ استعار التجارة للمعاملة مع الله تعالى لنيل ثوابه، وشبَّهها بالتجارة الدنيوية، وهي المعاملة مع الخلق بالبيع والشراء لغرض الربح بجامع الاكتساب في كلٍّ، ثم رشحها بقوله: ﴿لَنْ تَبُورَ﴾.
ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ لمرعاة الفاصلة التي على حرف الراء.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ شبه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد ولا تعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث، وفيه أيضًا تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول لشرفه وعظم قدره، وفي هذه الآية أيضًا من البلاغة الجمع ثم التقسيم، وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم، ثم يقسم ما جمعه، فجمع العباد هنا في إيراثهم الكتاب، ثم فصلهم بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ إلخ.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿عِبَادِنَا﴾.
ومنها: التعبير عن المستقبل بالماضي في قوله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ أي:
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (٤٤) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (٤٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) بيّن ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور.. أردف ذلك بذكر ما لأضدادهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم، وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائد وجور لا يدوم. وعبارة أبي حيان (٢): لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم.. ذكر حال
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لماذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم، ويدفع العذاب عنهم.. أردف ذلك ببيان أنه محيط بالأشياء علمًا، فلو كان لهم نصير في وقت ما.. لعلمه، إلا أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار، وكان ذلك مظنة أن يقال: كيف يخلدون في العذاب، وقد ظلموا في أيام معدودات.. أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم، وأنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن (١) أنه هو الذي استخلفهم في الأرض.. أكد هذا بأمره - ﷺ - أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته، وعدم إشراك غيره معه.
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام، وبَكَّتهم على هذا أشد التبكيت، وضرب لهم الأمثال ليبين لهم سخف عقولهم وقبح معتقداتهم.. أردف ذلك بذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضًا، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه، وتلك سنة الله سبحانه في الأولين من قبلهم، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما هدد المشركين بجريان سنته فيهم بإهلاكهم، كما أهلك المكذبين من قبلهم.. نبَّههم إلى ذلك بما يشاهدونه من
(٢) المراغي.
ثم ذكر حلمه بعباده، وأنه لو أخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانًا يدبّ على وجهها، لكنّه أخر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفي كل عامل جزاء عمله إن خيرًا فخير، وان شرًا فشر، وهو البصير بحال عباده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن أبي هلال أنه بلغه أن قريشًا كانت تقول: لو أن الله بعث منّا نبيًا.. ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيّها، ولا أشد تمسكًا بكتابها منا، فأنزل الله سبحانه قوله: ﴿وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)﴾، وقوله: ﴿لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾، وقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ﴾، وكانت اليهود تستفتح به على النصارى فيقولون: إنا نجد نبيًّا يخرج.
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ولمّا فرغ سبحانه وتعالى من ذكر جزاء عباده الصالحين.. ذكر جزاء عباده الطالحين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: جحدوا بوجود الله سبحانه، أو كفروا بوحدته ﴿لَهُمْ﴾ بمقابلة كفرهم الذي هو أكبر الكبائر وأقبح القبائح، ﴿نَارُ جَهَنَّمَ﴾ التي لا تشبه نارًا، ﴿لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: لا يحكم عليهم بموتٍ ثانٍ، ﴿فَيَمُوتُوا﴾ ويستريحوا من العذاب، ونصبه بأن مضمرة في جواب النفي {وَلَا
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَيَمُوتُوا﴾ بالنصب جوابًا للنفي، وقرأ عيسى بن عمر والحسن: ﴿فيموتون﴾ بإثبات النون، قال أبو عثمان المازني: على العطف على ﴿يقضى﴾، وقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة، ولا وجه لهذا التضعيف، بل هي كقوله: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾؛ أي: فلا يعتذرون، قال ابن عطية: وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿ولا يخفف﴾ بإسكان الفاء، شبّه المنفصل بالمتصل، كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب.
وقرأ الجمهور: ﴿نَجْزِي كُلَّ﴾ مبنيًا للفاعل، ونصب ﴿كل﴾ وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع بالياء مبنيًا للمفعول ورفع ﴿كل﴾.
والمعنى (٢): أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات، لهم نار جهنم، لا يحكم عليهم فيها بموت ثانٍ فيستريحوا من الآلام، ولا يخفّف عنهم العذاب فيها، بل كلّما خبت زيد سعيرها، ونحو الآية قوله: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧)﴾، وقوله: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)﴾، وقوله: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾، وقوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)﴾.
ثم بيّن أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه جاحد بوحدانيته، فقال: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾؛ أي: وهكذا نكافىء كل جاحد لآلاء الله منكر لرسله، فندخله نار جهنم بما قدّم في الدنيا من سيئات عمله.
٣٧ - ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الكفار، ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾؛ أي: يصيحون ويستغيثون، ﴿فِيهَا﴾؛
(٢) المراغي.
وقرأ الأعمش (٢): ﴿ما يذكّر فيه﴾ بالإدغام من اذكر بالإدغام، واجتلاب همة الوصل ملفوظًا بها في الدرج.
يعني: أنه إذا بلغ حدّ البلوغ يفتح الله له نظر العقل، فيلزم حينئذ على المكلف أن ينظر بنظر العقل إلى المصنوعات، فيعرف صانعها ويوحّده ويطيعه، وأَذا بلغ إلى
(٢) البحر المحيط.
وكل جماعة من الصحابة فمن بعدهم إذا بلغ أربعين سنة، أو رأى شيبًا.. بالغ في الاجتهاد، وطوى الفراش، وأقبل على قيام الليل، وأقلَّ معاشرة الناس، ولا فرق في ذلك بين الأربعين فما دونها؛ لأن الأجل مكتوم لا يدري متى يحل، أيقظنا الله وإياكم من رقدة الغافلين، والمعنى (١): عشتم في الدنيا أعمارًا لو كنتم من ينتفعون بالحق لانتفعتم به مدة عمركم، ونحو الآية حكاية عنهم: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ﴾.
والخلاصة: أنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم؛ لأنكم كنتم عصاة، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾؛ أي: وجاءكم الرسول ومعه كاتب الله ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره وتركتم طاعته.
والخلاصة: أنه احتج عليهم بأمرين: طول العمر، وإرسال الرسل.
قوله: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ معطوف (٢) على الجملة الاستفهامية؛ لأنه في معنى: قد عمرناكم، وجاءكم النذير من حيث إن همزة الإنكار إذا دخلت على حرف النفي أفادت التقرير، كما في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)...﴾ الخ؛ لأنه في معنى: قد شرحنا إلخ.
والمراد بالنذير: رسول الله - ﷺ -، وعليه جمهور المفسرين، كما قاله الواحدي، وقيل المراد: أيُّ رسولٍ كان؛ لأن الكلام مع الكفار على الإطلاق، وقيل ما معه من القرآن. وقيل: كمال العقل؛ لأنه فارق بين الخير والشر، أو موت الأقاوب
(٢) روح البيان.
قيل: أول من شاب من ولد آدم عليه السلام إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: ما هذا يا رب؟ قال: هذا وقار في الدنيا، ونور في الآخرة، فقال: ربّ زدني من نورك ووقارك. وفي الحديث: "إن الله سبحانه يبغض الشيخ الغربيب"؛ أي: الذي لا يشيب، كما في "المقاصد الحسنة".
وقيل: أول من صلع من البشر آدم عليه السلام؛ لطوله أثّر فيه حر الشمس؛ لأن طوله كان ستين ذراعًا، والفاء في قوله: ﴿فَذُوقُوا﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم قطع أعذاركم بما ذكر من التعمير ومجيء النذير، وأردتم بيان ما تستحقّون.. قأقول لكم: ذوقوا عذاب جهنم؛ لأنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فأنتم الظالمون، ﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ اليوم، ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾ ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله تعالى، والفاء في قوله: ﴿فَمَا﴾ للتعليل؛ أي: فذوقوا العذاب؛ لأنه ليس للظالمين أنفسهم بالكفر والشرك ناصر يدفع عنهم العذاب، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا نائمين، ولذا لم يذوقوا الألم، فلمّا ماتوا وبعثوا وتيقّظوا تيقّظًا تامًا.. ذاقوا العذاب وأدركوه.
والمعنى: أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء في حياتكم الدنيا، ولن تجدوا لكم ناصرًا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال،
٣٨ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه، ﴿عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي عالم ما غاب في السموات والأرض عن العباد، وما شوهد لهم؛ أي: يختص بالله سبحانه علم كل شيء غاب عن العباد فيهما، وخفي عليهم، فكيف يخفى عليه أحوالهم، وأنهم لو ردوا إلى الدنيا.. لعادوا لما نهوا عنه؛ أي: أنه تعالى عالم بكل شيء، ومن ذلك أعمالكم لا تخفى عليه منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحًا، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾.
قرأ الجمهور (١): ﴿عَالِمُ غَيْبِ﴾ بإضافة عالم إلى غيب، وقرأ جناح بن
ولم يقل: ذوات الصدور (٢)؛ لإرادة الجنس، وذات: تأنيث ذي بمعنى: صاحب، والمعنى: عليم بالمضمرات صاحبة الصدور؛ أي: القلوب، فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وجعلت الخواطر القائمة بالقلب صاحبة له بملازمتها وحلولها، كما يقال للّبن ذو الإناء، ولولد المرأة وهو جنين: ذو بطنها، فالإضافة لأدنى ملابسة.
وفي "التأويلات النجمية": أي عالم بإخلاص المخلصين وصدق الصادقين، وهما من غيب سموات القلوب، وعالم بنفاق المنافقين وجحد الجاحدين، وهما من غيب أرض النفوس انتهى.
٣٩ - ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب قال: ﴿هُوَ﴾؛ أي: الله سبحانه، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي (٣): جعلكم أمة خالفة لمن قبلها، قال قتادة: خلفًا بعد خلف، وقرنًا بعد قرن، والخلف هو التالي للمتقدم، وقيل: جعلكم خلفاءه في أرضه.
والخلائف (٤): جمع خليفة، وأما خلفاء فجمع خليف، كما سيأتي، وكلاهما بمعنى المستخلف؛ أي: جعلكم خلفاء في أرضه ممن كان قبلكم من الأمم،
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
٤٠ - ثم أمره سبحانه أن يوبِّخهم ويبكّتهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد تبكيتًا لهم: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني ﴿شُرَكَاءَكُمُ﴾؛ أي: عن آلهتكم وأصنامكم، والإضافة إليهم؛ حيث لم يقل شركائي؛ لأنهم جعلوهم شركاء الله، وزعموا ذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلًا، ﴿الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾؛ أي: تعبدون، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: حال كونكم متجاوزين دعاء الله وعبادته؛ أي (٣): أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهةً وعبدتموهم من دون الله تعالى، وجملة ﴿أَرُونِي﴾ - أي: أخبروني ﴿مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾؛ أي: أيَّ جزءٍ من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه دون الله - بدل من ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ بدل اشتمال، والمعنى: أخبروني عن شركائكم، أروني أيَّ شيء خلقوا من الأرض، وإنما فسّرنا الرؤية بالإخبار؛ لأنّ الرؤية والعلم سبب الإخبار،
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى (١): أي أخبروني أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان، أروني أيَّ جزءٍ من الأرض، أو من الأناس والحيوان خلقوا حتى يستحقّوا الإلهية، والشركة.
والخلاصة: أعلمتم هذه الآلهة ما هي، وعلى أيِّ حال هي، فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة، فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم توهّمتم فيها القدرة، فأروني أثرها؟
﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾؛ أي: بل ألهم شركة مع الله في خلق السمموات أو ملكها أو التصرف فيها؛ ليستحقّوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية، ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: بل أعطينا الشركاء وأنزلنا عليهم، ويجوز أن يكون الضمير للمشركين، ويكون فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة. ﴿كِتَابًا﴾ ينطق بأنا اتخذناهم شركاء، ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: الشركاء أو المشركون، ﴿عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ﴾؛ أي: على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب بأنّ لهم شركة جعلية.
وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وأبو عمرو وابن كثير وحفص وأبان عن عاصم (٢): ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ بالإفراد، وباقي السبعة بالجمع، قال مقاتل: يقول تعالى: هل أعطينا كفار مكة كتابًا فهم على بيان منه بأنّ مع الله شريكًا.
وخلاصة ما تقدم (٣): أخبروني عمّن تعبدونهم من دون الله هل استبدُّوا بخلق شيء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة الله، أو لهم شركة معه في خلق السموات، وآتيناهم برهانًا بهذه الشركة.
والخلاصة: أنّ عبادة هؤلاء؛ إما بدليل من العقل، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئًا، وإما بدليل من النقل، وإنّا لم نؤت المشركين كتابًا فيه الأمر بعبادة
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
٤١ - ولما أبان حقارة الأصنام.. أرشد إلى عظمته تعالى فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: يحفظهما ويمنعهما من ﴿أَنْ تَزُولَا﴾ وتسقطا وتقعا.
أي (٣): إن الله سبحانه يمنع السموات أن تضطرب وتتحرَّك وتنتقل عن أماكنها، فترتفع أو تستخفض، ويمنع الأرض من مثل ذلك، ويحفظهما برباطٍ خاص، وهو ما يسمّيه العلماء نظام الجاذبية، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجري في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها، ولولا ذلك لتحطّمت هذه الكرات المشاهدة، وزالت عن أماكنها، لكنها به ثبتت في مواضعها، واستقرّت في مداراتها.
﴿وَلَئِنْ زَالَتَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لئن زالت السموات والأرض عن مقرّهما
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير، ونحو الآية قوله: ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾، وقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾.
وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ حَلِيمًا﴾ غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جنايات الكفار حيث أمسكهما، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّ العظيم كلمة الشرك، ﴿غَفُورًا﴾ لمن رجع عن كلمة الكفر، وقال بالوحدانية، تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض؛ أي: ومن ثَمَّ حلم على المشركين، وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضي تعجيل العقوبة لهم.
والخلاصة: أنه يحلم وينظر ويؤجل، ولا يعجّل، ويستر ويغفر.
وفي "شرح الأسماء" للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: الحليم: هو الذي يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يستفزّه غضب، ولا يعتريه غيظ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش. انتهى. والفرق بين الحليم والصبور: أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور، كما يأمنها في صفة الحليم؛ يعني: أن الصبور يشعر بأنه يعاقب في الآخرة بخلاف الحليم، كما في "المفاتيح". ولعل هذا بالنسبة إلى المؤمنين دون الكفار، فعلى العاقل أن يتخلَّق بهذا الاسم بأن يصفح عن الجنايات، ويسامح في المعاملات، بل يجازي الإساءة بالإحسان، فإنه من كمالات الإنسان.
واعلم: أنّ التوحيد سبب لنظام العالم بأسره، ألا ترى أنه لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله؛ أي: لا يوجد من يوحِّد توحيدًا حقيقيًا، فإنه إذا انقرض أهل هذا التوحيد، وانتقل الأمر من الظهور إلى البطون.. يزول العالم، وينتقض أجزاؤه؛ لأنه إذًا يكون كجسد بلا روح، والروح إذا فارق الجسد يتسارع إلى الجسد البلى والفساد.
٤٢ - ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: أقسم وحلف مشركوا مكة، ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ إما منصوب على المصدرية؛ أي: أغلظ أيمانهم وأشدّها وأوكدها، أو مصدر واقع موقع الحال؛ أي: جاهدين ومبالغين في أيمانهم، والجهد بالفتح: بلوغ الغاية في الاجتهاد، وأما بالضم.. فهو الطاقة، والأيمان: جمع يمين، واليمين في الحلف مستعار من اليمين بمعنى اليد اعتبارًا بما يفعل المحالف والمعاهد عنده. قال الراغب: أي: حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى، وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله، ويسمّونه جهد اليمين، وعبارة "الصاوي" هنا: وإنما كان الحلف بالله غاية أيمانهم؛ لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا أرادوا التأكيد والتشديد.. حلفوا بالله، وهي اليمين المغلّظة، كما قال النابغة:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيْبَةً | وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ |
والمعنى (٢): أي وأقسم المشركون بالله أغلظ الإيمان، وبالغوا فيها أشد
(٢) المراغي.
والخلاصة: من إحدى الأمم على العموم، أو من الأمة التي يقال لها: إحدى الأمم تفضيلًا لها، ولا ينافي عموم ما هنا قوله في أواخر سورة الأنعام: ﴿أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا﴾؛ أي: اليهود والنصارى، ثم قوله: ﴿أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ﴾؛ أي: إلى الحق؛ لأن (١) تخصيص الطائفتين وكتابيهما هناك إنما هو لاشتهارهما بين الأمم، واشتهارهما فيما بين الكتب السماوية.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾؛ أي: نذير أفضل الكل، وأشرف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ﴿مَا زَادَهُمْ﴾؛ أي: ما زاد قريشًا ذلك النذير أو مجيئه. ﴿إِلَّا نُفُورًا﴾؛ أي: إلا تباعدًا عن الحق والهدى، وهربًا منه، وفيه إشعار بأن (٢) المثبت أصل النفور؛ لكونهم جاهليّة لم يأتهم نذير من عهد إسماعيل، وإسناد الزيادة إليه مجاز؛ لأنه هو السبب في أن زادوا في أنفسهم نفورًا.
٤٣ - ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ بدل من ﴿نُفُورًا﴾، أو مفعول له؛ أي: ما زادهم إلا عتوًّا وتكبرًا عن الإيمان به، أو ما زداهم إلا نفورًا لأجل الاستكبار والعتوّ، قال في "بحر العلوم": الاستكبار والتكبّر، كالاستعظام والتعظّم لفظًا ومعنى. انتهى. قال بعضهم: إن الله تعالى قد أنشأك من الأرض، فلا ينبغي لك أن تعلو على أمك، ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ معطوف على ﴿اسْتِكْبَارًا﴾، أو على ﴿نُفُورًا﴾، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كمسجد الجامع، وصلاة الأولى، وأصله: أن مكروا المكر السيء، فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف اتساعًا، وقال الراغب: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: محمود، وهو أن يتحرَّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قوله: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، ومذموم، وهو
(٢) الصاوي.
والمعنى: ما زادهم إلا المكر السيء في دفع أمره - ﷺ -، وفي قتله وإهلاكه، ومعنى الآية؛ أي (١): ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية، فما زادهم مجيئه إلا بعدًا عن الإيمان بالله، وانصرافًا عن الحق، واستكبارًا عن اتباع آياته، ومكروا بالناس مكرًا سيئًا، فصدّوهم عن سبيله.
والخلاصة: أنه قد تبين أن لا عهد لهم مع ادّعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها فضلت عن الطريق، فدعاها صاحبها، فازدادت بدعائه نفرة، وصارت بحيث يتعذّر أو يتعسّر ردّها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ بكسر همزة السيء، وقرأ الأعمش وحمزة بإسكانها وصلًا، فإما إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإما إسكانًا لتوالي الحركات، وإجراءً للمنفصل مجرى المتّصل، وقد غلّط كثير من النحاة هذه القراءة؛ ونزَّهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها، قالوا: وإنما يقف بالسكون، فغلط من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلًا، وتوجيه هذه القراءة ممكن بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف، كما في قول الشاعر:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ | إِثْمًا مِنَ اللهِ وَلَا وَاغِلِ |
وَلَا يُجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بِسَئْيٍ | وَلَا يُجْزُوْنَ مِنْ غِلْظٍ بِلِيْنِ |
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
وقد وقع مثل هذا في كلام العرب، فقد قالوا: من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا والعبرة في الأمور بالعواقب. ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
قال أبو عبد الله الرازي: فإن قلت (٢): كثيرًا ما نرى الماكر يفيده مكره، ويغلب خصمه بالمكر، والآية تدل على عدم ذلك؟
فالجواب: من وجوه:
أحدها: أن المكر في الآية هو المكر بالرسول - ﷺ - من العزم على القتل والإخراج، ولا يحيق إلا بهم؛ حيث قتلوا ببدر.
وثانيها: أنه عام، وهو الأصح، فإنه ﷺ نهى عن المكر، وقال: "لا تمكروا، ولا تعينوا ماكرًا، فإنه تعالى يقول: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلًا، فلا يريد نقضًا.
وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلًا في الظاهر، ففي الحقيقة هو الفائز، والماكر هو الهالك. انتهى.
ثم هدّدهم بأن يحل بهم مثل ما أحلّ بمن قبلهم من العذاب فقال: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ﴾ النظر هنا بمعنى الانتظار، والاستفهام فيه إنكاريّ؛ أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون، ﴿إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: إلا عادة الله سبحانه في الأولين؛ أي: في الأمم المتقدّمة بتعذيب مكذبيهم وماكريهم؛ بأن ينزل بهؤلاء العذاب، كما نزل بأولئك. والفاء في قوله: ﴿فَلَنْ﴾ لتعليل (٣) ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من
(٢) الفخر الرازي.
(٣) روح البيان.
وفي "الفتوحات": إن قلت (١): التبديل: تغيير الشيء عمّا كان عليه مع بقاء مادّته، والتحويل: نقله من مكان إلى آخر، فكيف قال ذلك مع أنّ سنة الله لا تبدّل ولا تحوّل؟
قلتُ: أراد بالأول أنّ العذاب لا يبدّل بغيره، وبالثاني أنه لا يحوّل عن مستحقّه إلى غيره، وجمع بينهما هنا تتميمًا لتهديد المسيء؛ لقبح مكره في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ اهـ "كرخي".
وفي الآية (٢) تنبيه على أنّ فروع الشرائع وإن اختلفت صورها، فالغرض المقصود منها لا يختلف ولا يتبدّل، وهو تطهير النفس وترشيحها للوصول إلى ثواب الله تعالى وجواره، كما في "المفردات".
٤٤ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ للاستفهام الإنكاري، أو التقريري، وهو الظاهر من دخول همزة الاستفهام على حرف النفي، وعبارة "الصاوي" هنا: والاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، ونفي النفي: إثبات.
والمعنى: بل ساروا في الأرض، ومرَّوا على ديار قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغيره، فنظروا آثار ديارهم. انتهى. وهي داخلة على محذوف يقتضيه
(٢) روح البيان.
(٣)
وهذه الجملة مسوقة (١) لتقرير معنى ما قبلها، وتأكيده؛ أي: أقعدوا ولم يسيروا في الأرض، فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول، وآثار عذابهم، وما أنزل الله بهم موجودةٌ في مساكنهم، ظاهرة في منازلهم، والحال وآثار أولئك قد كانوا أشد منهم قوة جسم، وأطول أعمارًا، وأكثر أموالًا، وأكبر أبدانًا.
والخلاصة: أقعد هؤلاء المشركون بالله في مساكنهم، ولم يسيروا في الأرض التي أهلكتا فيها أهلها بكفرهم بنا، وتكذيبهم رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام في تجاراتهم، فينظروا على أي حالة كان أخذهم، ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم، ونجعلهم مثلًا لمن بعدهم، فيتعظوا لهم، ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام.
ثم بين أنهم إذا صاروا على تمردهم وعنادهم.. فهم لا يفلتون من عقابه، فقال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ تقرير لما يفهم مما قبله عن استئصال الأمم السابقة، واللام (٢) و ﴿من﴾ لتأكيد النفي المستفاد من ﴿ما﴾ والمعنى: استحال من كل الوجوه أن يعجز الله سبحانه شيء ويسبقه ويفوته ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا﴾ تأكيد آخر لـ ﴿ما﴾ النافية، ففي الكلام ثلاث تأكيدات ﴿في الأرض﴾؛ أي: ما كان ليسبقه
(٢) روح البيان.
والإشارة في الآية أنه ما خاب له تعالى وليٌ، ولا ربح له عدوٌ فقد وسع لأوليائه فضلًا كثيرًا، ودمرَّ على أعدائه تدميرًا، وسبب الفضل والولاية هو التوحيد، كما أن سبب القهر والعداوة هو الشرك، وأن الله تعالى أمهل عباده، ولم يأخذهم بغتة، ليروا أن العفو والإحسان أحب إليه من الأخذ والانتقام، وليعلموا شفقته وبره وكرمه، وأن رحمته سبقت غضبه.
٤٥ - ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء، فيقولون: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ...﴾ بيَّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا لعلّهم يُنيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه، ويؤوب إلى رشده فقال: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿النَّاسَ﴾ جميعًا، ويعاقبهم ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ من الذنوب، وعملوا من الخطايا، ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا﴾؛ أي: على ظهر الأرض ووجهها، والكناية راجعة إلى الأرض، وإن لم يسبق لها ذكر؛ لكونها مفهومة من المقام، وقال أبو حيان: وتقدَّم الكلام على نظير هذه الآية في سورة النحل، وقال هناك: ﴿عَلَيْهَا﴾، وهنا قال: ﴿عَلَى ظَهْرِهَا﴾، والضمير عائد على الأرض، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به، وهو قوبه: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، وقال هناك: ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ وقال هنا: ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾ انتهى. وفي "الجمل" وهنا قال: ﴿عَلَى ظَهْرِهَا﴾ استعارة من ظهر الدابة دلالة على التمكن والتقلب عليها، والمقام هنا يناسب ذلك؛ لأنه حث على السير للنظر والاعتبار، والله سبحانه وتعالى أعلم بأسرار كتابه.
فإن قيل: كيف يقال لما عليه الخلق وجه الأرض وظهر الأرض، مع أن الظهر مقابل الوجه، فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد؟.
قلتُ: صح ذلك باعتبارين: فإنه يقال لظاهرها: ظهر الأرض من حيث أن
﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾؛ أي: من نسمة تدب عليها كائنة ما كانت، سواء كانت من بني آدم؛ لأنهم المكلفون المجازون، ويعضده ما بعد الآية، أو من غيرهم أيضًا، فإن شؤم معاصي المكلفين يلحق الدواب في الصحارى، والطيور في الهواء بالقحط ونحوه، ولذا يقال من أذنب ذنبًا، فجميع الخلق - من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر - خصماؤه يوم القيامة، وقد أهلك الله في زمان نوح عليه السلام جميع الحيوانات إلا ما كان منها في السفينة، وذلك بشؤم المشركين وسببهم، وقال بعض الأئمة: ليس معناه أن البهيمة تؤخذ بذنب ابن آدم، ولكنها خلقت لابن آدم، فلا معنى لإبقائها بعد إفناء من خلقت له.
والمعنى: أي ولو يعاقب الله الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام.. ما ترك على ظهر الأرض نسمة تدب؛ لشؤم المعاصي التي يفتنون فيها: ﴿وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ﴾؛ أي: يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾؛ أي: إلى وقت معين معلوم عند الله تعالى، حدده لأخذهم، لا يقصرون دونه، ولا يتجاوزونه إذا بلغوه، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي، وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين، ولو أخذهم بنفس الظلم.. لكان كل يوم إهلاك ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾؛ أي: وقت هلاكهم، وأخذهم، ومجازاتهم، وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن، أو يوم القتل والأسر ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى يجازيهم بما عملوا من خير أو شر؛ لأن الله تعالى ﴿كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ لا يخفى عليه شيء من أمرهم، دقَّ أو جل، ظهر أو بطن. وجملة ﴿إِن﴾ تعليل للجواب المحذوف، كما قدرناه، وهو العامل في إذا، لا جاء، كما توهّمه الشوكاني؛ لأن القاعدة عندهم: أن إذا خافضة لشرطها منصوبة بجوابها.
ثم إن البصير هو المدرك لكل موجود برؤيته، وخاصية هذا الاسم وجودز التوفيق عند ذكره، فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مئة مرة فتح الله بصيرته، ووفقه لصالح القول والعمل، نسأل الله سبحانه أن يفتح بصيرتنا إلى جانب اللاهوت،
الإعراب
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿الذين﴾ مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة له، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿نَارُ جَهَنَّمَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿الذين﴾، وجملة ﴿الذين﴾ معطوفة على قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ ﴿لَا﴾: نافية ﴿يُقْضَى﴾: فعل مضارع مغيَّر الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿يُقْضَى﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ثانٍ للموصول، أو حال من ضمير ﴿لَهُمْ﴾ ﴿فَيَمُوتُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية ﴿يموتوا﴾: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النفي، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة مع أن المضمرة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكون قضاء عليهم، فموتهم، ﴿وَلَا يُخَفَّفُ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿لا﴾: نافية ﴿يُخَفَّفُ﴾ فعل مضارع مغيَّر الصيغة ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور نائب فاعل لـ ﴿يُخَفَّفُ﴾ ﴿مِنْ عَذَابِهَا﴾: متعلق بـ ﴿يخفف﴾، ويجوز العكس، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿يُقْضَى﴾، ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف ﴿نَجْزِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله ﴿كُلَّ كَفُورٍ﴾: مفعول به، والتقدير: نجزي كل كفور جزاء كائنًا كالجزاء المذكور، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾؛ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير ﴿لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾، ﴿فِيهَا﴾؛ متعلق بـ ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾ ﴿رَبَّنَا﴾؛ منادى مضاف، وجملة النداء مقول لقول محذوف وقع تفسيرًا لـ ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾ تقديره؛ وهم يصطرخون فيها يقولون في صراخهم؛ ربنا إلخ، ﴿أَخْرِجْنَا﴾: فعل أمر، معناه الدعاء، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، و ﴿نا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف على كونها
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)﴾.
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري لدخولها على حرف النفي داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم نمهلكم ولم نعمركم، بل أمهلناكم وعمرناكم، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف تقديره: فيقال لهم: ألم نمهلكم ولم نعمركم، والقول المحذوف معطوف على القول المحذوف عند قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ ﴿وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾: ﴿لم﴾: حرف جزم ﴿نُعَمِّرْكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، مجزوم بـ ﴿لم﴾، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿ما﴾: نكرة موصوفة بمعنى عمرًا أو زمنًا في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿نُعَمِّرْكُمْ﴾، أو ظرف متعلق به ﴿يَتَذَكَّرُ﴾: فعل مضارع ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل لـ ﴿يَتَذَكَّرُ﴾، وجملة ﴿يَتَذَكَّرُ﴾ صفة لـ ﴿ما﴾ ﴿تذكر﴾: فعل ماض وفاعل مستتر صلة لـ ﴿مَن﴾ الموصولة، ﴿وَجَاءَكُمُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿جاءكم﴾: فعل ومفعول. ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ فعل ماضٍ ومفعول به وفاعل معطوف على قوله: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾؛ لأن معناه إخبار لكون الاستفهام فيه تقريريًا؛ أي: قد أمهلناكم وعمرناكم وجاءكم النذير، فلا عذر لكم، ﴿فَذُوقُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم تعميرنا إياكم، ومجيء النذير لكم، وأردتم بيان ما هو المستحق لكم.. فأقول لكم: ذوقوا. ﴿ذوقوا﴾: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون، والمفعول محذوف تقديره: فذوقوا نار جهنم، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مقول للقول
﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (٣٩)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿عَالِمُ﴾ خبره ﴿غَيْبِ السَّمَاوَاتِ﴾: مضاف إليه ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾: خبره ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها من علمه غيب السموات والأرض. ﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة صلة الموصول ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَائِفَ﴾، أو صفة له ﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم جعلنا إياكم خلائف في الأرض، وأردتم بيان عاقبتكم، فأقول لكم: ﴿من﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما ﴿كَفَرَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ الشرطية ﴿فَعَلَيْهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا ﴿عليه﴾: خبر مقدم ﴿كُفْرُهُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة ﴿وَلَا يَزِيدُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿الْكَافِرِينَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿مَقْتًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَزِيدُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية ﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر ﴿خَسَارًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وكررت للتوكيد، ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم، واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين، وهما: المقت والخسار.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ورأى هنا بصرية تتعدى لمفعول واحد بلا همز، ولاثنين بالهمز، كما هنا، وهي بمعنى: أخبروني ﴿شُرَكَاءَكُمُ﴾: مفعول أول لأرى، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾: صفة لـ ﴿شُرَكَاءَكُمُ﴾ ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تدعونهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾ ﴿أَرُونِي﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول أول، والجملة معترضة، وأعربها الزمخشري بدلًا من ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿مَاذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿خَلَقُوا﴾ خبره؛ أي: أي شيء خلقوه، أو ﴿ما﴾ اسم استفهام مبتدأ، ﴿ذا﴾ اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر لـ ﴿ما﴾، وجملة ﴿خَلَقُوا﴾ صلة لذا الموصولة؛ أي: ما الذي خلقوه، والاستفهام فيه إنكاري ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقُوا﴾، والجملة الاستفهامية في محل النصب مفعول ثانٍ؛ إما لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، وإما لـ ﴿أَرُونِي﴾، فالمسألة من باب التنازع، أو مفعول ثانٍ لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ وجملة ﴿أَرُونِي﴾ اعتراضية ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾: ﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري أضرب بها عن الاستفهام الإنكاري إلى استفهام آخر ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿شِرْكٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿شِرْكٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ﴾: ﴿أَمْ﴾: منقطعة أيضًا تفسر ببل، وهمزة الاستفهام ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿كِتَابًا﴾: مفعول ثانٍ، والجملة الإضرابية في محل النصب معطوفة على ما قبلها ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿هم﴾: مبتدأ ﴿عَلَى بَيِّنَتٍ﴾ خبره ﴿مِنْهُ﴾: صفة لـ ﴿بَيِّنَتٍ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ﴾: ﴿بَل﴾: حرف إضراب وابتداء ﴿إنْ﴾: نافية ﴿يَعِدُ الظَّالِمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿بَعْضُهُمْ﴾: بدل من ﴿الظَّالِمُونَ﴾ بدل بعض من كل ﴿بَعْضًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَعِدُ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿غُرُورًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَعِدُ﴾، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلا بغرور، أو صفة لمصدر محذوف، أي: إلا وعدًا باطلًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَزُولَا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع ما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، أي: عن زوالها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُمْسِكُ﴾؛ لأنه بمعنى يمنع ويحفظ، أو منصوب على أنه بدل اشتمال من ﴿السماوات﴾ ﴿وَلَئِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة واللام موطئة للقسم ﴿أَنْ﴾: حرف شرط جازم ﴿زَالَتَا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها ﴿إِنْ﴾ نافية ﴿أَمْسَكَهُمَا﴾: فعل ماض ومفعول به ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿أَحَدٍ﴾: فاعل ﴿أمسك﴾ ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور حال من أحد، أو صفة له، وعلى هذا يكون المعنى أحد غيره تعالى، وجملة ﴿إِنْ أَمْسَكَهُمَا﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دلّ عليه جواب القسم على حد قول ابن مالك:
وَاحْذِفْ لدَى اجتماعِ شَرْطٍ وقَسَم | جَوابَ ما أخّرْتَ فهُوْ مُلْتَزَم |
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤٢)﴾.
﴿وَأَقْسَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقْسَمُوا﴾ ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾: منصوب على المصدرية، أو على الحال؛ أي: جاهدين ﴿لَئِنْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿لَيَكُونُنَّ﴾:
﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.
﴿اسْتِكْبَارًا﴾: مفعول لأجله؛ أي: لأجل الاستكبار، أو بدل من ﴿نُفُورًا﴾، أو حال من مفعول ﴿زَادَهُمْ﴾، أي: حال كونهم مستكبرين ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بـ ﴿اسْتِكْبَارًا﴾ ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾: معطوف على ﴿اسْتِكْبَارًا﴾، أو على ﴿نُفُورًا﴾، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل: المكر السيء أو أن هناك موصوفًا محذوفًا؛ أي: مكر العمل السيء ﴿وَلَا يَحِيقُ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿لا﴾: نافية ﴿يَحِيقُ الْمَكْرُ﴾: فعل وفاعل ﴿السَّيِّئُ﴾ صفته ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿بِأَهْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَحِيقُ﴾، والجملة في محل النصب حال من مكر السيء أو مستأنفة.
﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
﴿فَهَلْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت هؤلاء المشركين، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك: هل
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (٤٤)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أقعدوا في منازلهم ولم يسيروا، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم ﴿يَسِيرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿يَنْظُرُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَسِيرُوا﴾ ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر كان مقدم للزومه الصدارة ﴿كَانَ عَاقِبَةُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه ﴿قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور صلة الموصول، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب مفعول ﴿يَنْظُرُوا﴾ معلقة عنها باسم الاستفهام ﴿وَكَانُوا﴾: ﴿الواو﴾: حالية ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿أَشَدَّ﴾: خبره ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَشَدَّ﴾ ﴿قُوَّةً﴾: تمييز منصوب باسم التفضيل، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب حال من الذين ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿مَا﴾: نافية ﴿كَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيُعْجِزَهُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف نفي وجحود ﴿يعجز﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، و ﴿الهاء﴾ مفعول به ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿شَيْءٍ﴾: فاعل ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾ ﴿وَاَلأَرضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ وجملة يعجز صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (٤٥)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُؤَاخِذُ﴾ ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: بما كسبوه، ويحتمل كون ﴿ما﴾ مصدرية؛ أي: بكسبهم ﴿ما﴾ نافية ﴿تَرَكَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ﴿عَلَى ظَهْرِهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرَكَ﴾ ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿دَابَّةٍ﴾: مفعول ﴿تَرَكَ﴾، وجملة ﴿تَرَكَ﴾ جواب ﴿لو﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ﴾، ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لكن﴾: حرف استدراك ﴿يُؤَخِّرُهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿إِلَى أَجَلٍ﴾: متعلق بـ ﴿يؤخر﴾ ﴿مُسَمًّى﴾: صفة ﴿لِأَجَلٍ﴾، والجملة الاستدراكية معطوفة على جملة ﴿لو﴾ الشرطية ﴿فَإِذَا جَاءَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، وجوابه محذوف تقديره: فيجازيهم على أعمالهم، والفاء رابطة الجواب، وجملة إذا معطوفة على الجملة الاستدراكية ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على الله ﴿بِعِبَادِهِ﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾ ﴿بَصِيرًا﴾: خبر كان، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الجواب المحذوف.
﴿يَصْطَرِخُونَ﴾: أي: يصيحون أشد الصياح للاستغاثة، أصله: يصترخون بوزن يفتعلون من الاصطراخ، والاسطراخ: افتعال من الصراخ، وهو الصياح بجهد وشدة، دخلت الطاء فيه للمبالغة كدخولها في الاصطبار والاصطفاء والاصطناع والاصطياد جريًا على القاعدة المشهورة عند الصرفيين: أن الفعل المبدوء بأحد أحرف الإطباق، وهي: الصاد والضاد والطاء والظاء، إذا صيغ منه على وزن افتعل، وما يتصرف منه.. أبدلت تاء الافتعال طاء مثال ذلك: الأفعال: صلح ضرب طرد ظلم، إذا بنينا منها صيغة افتعل.. قلنا على القياس: اصتلح اضترب اطترد اظتلم، ولتخفيف اللفظ أبدلت التاء طاء، والمجانسة بينهما ظاهرة، فنقلت إلى اصطلح اضطرب اطرد اظطلم، ويجوز في نحو: اظطلم وجهان آخران: اظّلَم اطلَّم.
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ والتعمير: إطالة العمر، والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، كما سبق.
﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هو المعتقدات والظنون التي في النفوس.
﴿خَلَائِفَ﴾ جمع خليفة، وهو الذي يقوم بما كان قائمًا به سلفه، وأما خلفاء فجمع خليف، وكلاهما بمعنى المستخلف بصيغة اسم المفعول.
﴿مَقْتًا﴾؛ أي: بغضًاواحتقارًا، قال الراغب: المقت: البغض الشديد لمن يراه متعاطيًا لقبيح اهـ.
﴿خَسَارًا﴾؛ أي: خسارة، فالعمر كرأس المال إذا اشترى به صاحبه رضا الله تعالى ربح، وإذا اشترى سخطه خسر.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: يحفظهما بقدرته، فإن الإمساك ضد الإرسال، وهو التعلق بالشيء وحفظه ﴿أَنْ تَزُولَا﴾؛ أي: تضطربا وتنتقلا من أماكنهما، والزوال: الذهاب، وهو يقال في كل شيء قد كان ثابتًا قبل، أي: كراهة زوالهما عن أماكنهما، فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ.
﴿حَلِيمًا﴾ والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، كما في "المفردات".
﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾؛ أي: غاية اجتهادهم فيها، قال الفراء: للجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك؛ أي: ابلغ غايتك، والجهد بالضم الطاقة، وعند غير الفراء كلاهما بمعنى الطاقة اهـ "زاده". وإنما كان القسم بالله غاية أيمانهم؛ لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق.. حلفوا بالله.
﴿لَيَكُونُنَّ﴾ بضم النون الأولى مضارع، اتصل به واو الجماعة، ولم تباشره نون التوكيد، أصله: ليكونونن بثلاث نونات، أولاها نون الرفع، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، وهو معرب مرفوع بثبوت النون لعدم مباشرته بنون التوكيد لوجود الفاصل، وهو واو الجماعة.
﴿نُفُورًا﴾؛ أي: تباعدًا عن الحق والهدى.
﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ﴾، الاستكبار: التكبر، كالاستعظام بمعنى التعظم. ﴿وَمَكْرَ السَّيِّئِ﴾ قال الراغب: المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، كما مر عنه ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ﴾ قال في "القاموس": حاق به يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا: أحاط به، كأحاق وحاق بهم العذاب: أحاط ونزل، كما في "المختار"، والحيق: ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، أي: ولا يصيب ولا ينزل. ﴿يَنْظُرُونَ﴾ النظر هنا بمعنى الانتظار ﴿إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ والسنة: الطريقة، وسنة النبي: طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله: طريقة حكمته. ﴿تَبْدِيلًا﴾ بوضع الرحمة موضع العذاب. ﴿تَحْوِيلًا﴾ بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع.
فمنها: التشبيه في قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾.
ومنها: المبالغة في نحو ﴿كَفُورٍ﴾ و ﴿شكور﴾ ونحو: ﴿حَلِيمًا﴾ ﴿عَلِيمًا﴾ ﴿قَدِيرًا﴾؛ فإنها من صيغ المبالغة.
ومنها: التهكُّم في قوله: ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ مثل قوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: خطرات القلوب، ففيه إسناد ما للحال إلى المحل؛ لأن الصدور محل القلوب، فالإضافة فيه لأدنى ملابسة.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ لزيادة التشنيع والتقبيح على من كفر بالله تعالى، وللتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين القبيحين بطريق الاستقلال والأصالة.
ومنها: التنكير للتعظيم في كل من الأمرين؛ أي: مقتًا عظيمًا ليس وراءه خزي وصغار، وخسارًا عظيمًا ليس وراءه شرٌّ وتبار.
ومنها: الاستفهام الإنكاري للتوبيخ في قوله: ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ﴾، وكذلك قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ لأنه كناية عن حفظهما؛ لأن الإمساك في الأصل: التعلق بالشيء، فكنى به عن الحفظ.
ومنها: ائتلاف اللفظ مع المعنى في قوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾، وهو أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضًا، ليس فيها لفظة نافرة عن أخواتها غير لائقة بمكانها؛ لأنه كانت هنا جميع الألفاظ المجاورة للقسم كلها من المستعمل المتداول فيه.
ومنها: إرسال المثل في قوله: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ قال كعب الأحبار لابن عباس في التوراة: من حفر حفرة لأخيه وقع فيه، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن همزة الإنكار دخلت على حرف النفي، فأفادت التقرير؛ لأن نفي النفي إثبات، كما مر، فصار المعنى: قد ساروا ونظروا.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن اللام في ﴿لِيُعْجِزَهُ﴾، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ لتأكيد النفي المستفاد من ﴿ما﴾، وكذا ﴿لا﴾ في قوله: ﴿وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ تأكيد آخر لـ ﴿ما﴾ النافية، ففي الكلام ثلاث تأكيدات.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ فقد شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها، ويحمل عليها أنواع الأثقال، ثم حذف المشبه به وهو الدابة، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر على طريقة الاستعارة المكنية.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وجملة ما تضمنته هذه السورة:
١ - الأدلة على قدرة الله سبحانه بإبداعه للكون، وأنه المنعم المتفضل.
٢ - تذكير الناس بالنعم ليشكروها.
٣ - تثبيت فؤاد رسول الله - ﷺ - بذكر قصص المكذبين الأنبياء والمرسلين.
٤ - نداء الناس عامة بأن يتحلو بالفضائل، ويتخلوا عن الرذائل، ولا يتبعوا خطوات الشيطان، وينظروا فيما أبدع الرحمن من الآيات في الأرض والسموات.
٥ - ضرب الأمثال لما سلف من القسمين، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة.
٦ - تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين وصالحين متقين، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقسامًا ثلاثة.
٧ - وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين، وما يلقاه كل منهما يوم القيامة (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة يس سورة مكية، قال القرطبي: بالإجماع إلا أن فرقة قالت: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ نزلت في بني سلمة من الأنصار، حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - ﷺ -، وليس زعمًا صحيحًا، وسيأتي بيان ذلك، وقيل: إلا قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ...﴾ الآية.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: سورة يس نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله.
تسميتها: وسميت هذه السورة سورة يس؛ لأن الله سبحانه افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، وتسمى أيضًا القلب والدافعة والقاضية والمعمِّمة.
وآيها: ثلاث وثمانون آية، وكلماتها: سبع مئة وتسع وعشرون كلمة، وحروفها: ثلاثة آلاف حرف.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال ابن حزم: سورة يس كلها محكمة، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ.
مناسبتها لما قبلها:
١ - أنه لما ذكر في السورة السالفة قوله: ﴿وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾، وقوله: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ﴾، وقد أعرضوا عنه وكذبوه.. افتتح هذه السورة بالقسم بصحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم؛ لينذر قومًا ما أنذر آباؤهم.
٢ - أنه قال فيما قبلها: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى﴾، وقال في هذه: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾، وقال: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾، وورد في فضلها أحاديث كثيرة:
ومنها: ما ذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي - ﷺ - قال: "ما من ميت يقرأ عليه يس إلا هوّن الله عليه".
ومنها: ما في مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر الله له في تلك الليلة". أخرجه أبو نعيم الحافظ.
ومنها: ما روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس، ومن قرأ يس كتب الله له بها قراءة القرآن عشر مرات".
ومنها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - ﷺ - قال: "إن في القرآن لسورة تشفع لقارئها، وتغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة: المعممة"، قيل: يا رسول الله، وما المعممة؟ قال: "تعم صاحبها بخير الدنيا، وتدفع عنه أهوال الآخرة، وتدعى أيضًا: الدافعة والقاضية"، قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: تدفع عن صاحبها كل سوء، وتقضي له كل حاجة".
ومنها (١): ما روى الدارمي عن شهر بن حوشب قال: قال ابن عباس: من قرأ يس حين أصبح يعطى يسر يومه حتى يمسي، ومن قرأها في صدر ليلة أعطي يسر ليلته حتى يصبح.
ومنها: ما روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن، فلا يقرؤون شيئًا سوى طه ويس"، وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قسوة فليكتب يس في جام؛ أي: إناء بزعفران، ثم يشربه.
ومنها: ما روى الثعلبي عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من دخل مقبرة، فقرأ سورة يس.. خفف العذاب عن أهلها ذلك اليوم، وكان له بعدد من فيها حسنات" وقال يحيى بن أبي كثير: إن من قرأ سورة يس ليلًا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، وقد حدثني بهذا
وفي "البيضاوي": عن ابن عباس (١): أنه - ﷺ - قال: "إن لكل شيء قلبًا، وقلب القرآن يس، من قرأها يريد بها وجه الله غفر له، وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن عشر مرات، وأيما مسلم قرىء عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس.. نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفًا، يصلون عليه، ويستغفرون له، ويشهدون غسله، ويتبعون جنازته، ويصلون عليه، ويشهدون دفنه، وأيما مسلم قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت.. لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة، فيشربها وهو على فراشه، فيقبض روحه وهو ريان، ويمكث في قبره وهو ريان، ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان. اهـ.
ومنها: "يس لما قرئت له".
قلت: وورد في فضلها أحاديث كثيرة ذكرت أكثرها هنا، وأغلبها أحاديث فيها مقال، وفيها موضوعات، وإنما ذكرتها استئناسًا بها في فضل هذه السورة الكريمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (١٥) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٧) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)﴾.المناسبة
قد سبق لك بيان وجه المناسبة بين آخر السورة السابقة وأول هذه السورة.
قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن هؤلاء المشركين قد ختم الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون.. أردف ذلك بذكر مَثَلٍ لقوم حالهم كحالهم في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب والاستكبار على الرسل، وصم الآذان عن سماع الوعظ
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات (٢): ما أخرجه أبو نعيم في "الدلائل" عن ابن عباس قال: كان النبي - ﷺ - يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عمي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي - ﷺ - فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب عنهم فنزلت: ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)﴾ إلى قوله: ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ إلى قوله: ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ إلى قوله: ﴿يُبْصِرُونَ﴾ فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو أين هو أين هو؟ ولا يبصر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري: قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى...﴾ الآية، فقال النبي - ﷺ -: "إن آثاركم تكتب، فلا تنتقلوا" وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله، قال الحافظ ابن كثير: وفي هذا الحديث غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسورة بكمالها مكية، قلت: فلا وجه لقوله؛ لأنه إذا ثبت أن هذه الآية نزلت بمكة، فلا مانع من نزولها مرتين، وإن لم يثبت نزولها بمكة، فقد تكون السورة مكية إلا آية، كما هو معروف، والله أعلم.
(٢) لباب النقول.