تفسير سورة الذاريات

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً﴾ الرياح تذرو كل شيء تمر به؛ كرمل وتراب ونحوهما؛ أي تفرقه وتبدده. وقيل: «الذاريات» النساء الولود؛ لأنهن يذرين الأولاد السحب تحمل الماء. وقيل: هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم وتجاراتهم، أو هي الحوامل من سائر النساء والحيوانات
﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً﴾ السفن تجري ميسرة بإذن الله؛ تحمل المتاجر ليسر الخلق ورخائهم. أو هي السحب؛ تجري وتسير؛ إلى حيث أراد الله تعالى. أو هي الكواكب التي تجري في منازلها
﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً﴾ الملائكة التي تقسم الأرزاق بأمر الله تعالى. وقيل: الرياح؛ لأنها تقسم الماء بتصريف السحاب
﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ﴾ به من البعث والحساب والجزاء ﴿لَصَادِقٌ﴾ واقع لا محالة
﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ الدين: الجزاء على الأعمال
﴿الْحُبُكِ﴾ طرائق النجوم
﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ هو قولهم في الرسول عليه الصلاة والسلام: ساحر، وشاعر، ومجنون
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ يصرف عنه من صرف
﴿قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ﴾ الكذابون المفترون؛ ويصح أن يطلق على المنجمين
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ﴾ في جهل يغمرهم
﴿أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ﴾ متى يوم الجزاء
﴿يُفْتَنُونَ﴾ يحرقون ويعذبون
﴿ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ﴾ عذابكم الذي تستحقونه
﴿مَا يَهْجَعُونَ﴾ ما ينامون
﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ﴾ نصيب وافر؛ يرون إعطاءه حقاً من الحقوق في أعناقهم ﴿لَّلسَّآئِلِ﴾ الذي يطلب من الناس ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾ الذي لا يسأل الناس تعففاً
﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ آيات دالة على قدرته تعالى، ووحدانيته
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ﴾ آيات أيضاً ﴿أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ هذه الآيات؛ فتعتبرون بها، وتدينون بخالقها وموجدها فإنكم لو تأملتم ما تنبته الأرض من النبات، وفكرتم فيما تخرجه من الأقوات: تضعون الحبة فيخرج لكم منها المئات، وتضعون البذرة فينشىء لكم منها البساتين والجنات؛ إلى غير ذلك من اختلاف الطعوم والألون، والهيئات؛ لو تأملتم ذلك بعين الفكرة والتبصرة؛ لما وسعكم إلا أن تقولوا: وفي الأرض آيات وأي آيات
ولو تأملتم في أنفسكم لوجدتم العجب العجاب؛ انظروا مثلاً كيف أنشأكم الله تعالى ابتداء من طين، ثم كيف خلقكم من نطفة في قرار مكين بل انظروا إلى النطفة نفسها، وكيف يتكون منها الجنين؛ الذي لا يتكون إلا من الاتحاد الذي يتم بين جرثومة الذكر وبويضة الأنثى، وبذلك تتكون خلية؛ يحدث انقسام بينها إلى خليتين، ثم انقسام آخر لكل من الخليتين، ثم آخر للمنقسمين، وآخر وآخر؛ وهكذا دواليك؛ إلى أن يصل العدد إلى أربعين جيلاً من الخلايا؛ حتى يزيد مجموع الخلايا - التي يتكون منها الإنسان الواحد - عن سكان الكرة الأرضية بأكثر من ألف مرة. وكل خلية من هذه الخلايا تعيش بمعزل عن الأخريات؛ وكل منها بمثابة مصنع للإنتاج؛ فمنها ما ينتج الشعر، ومنها ما ينتج الأظافر، ومنها ما ينتج العظام، ومنها ما ينتج الدم، وهكذا. ومتى نضجت هذه الخلايا، واكتمل نموها: تخصص كل منها في تكوين نوع واحد من الأنسجة والأعضاء. هذا وقد أصبح من السهل جداً - تحت المجهر - التفريق بين الخلايا المكونة للكبد، والخلايا المكونة للكلى؛ بالرغم من أن مهمة العضوين تكاد تكون واحدة: هي الاشتراك في عملية التغييرات الكيميائية في الجسم.
ومن هذه الخلايا ما ينتج الجهاز العصبي؛ الذي يتوقف عليه إيصال الرسائل من الحواس والأعضاء المختلفة إلى المخ؛ ومن المخ تنتقل الرسائل - التي هي بمثابة أوامر وأحكام - إلى العضل والأطراف؛ التي تتحرك
641
بموجبها - تبعاً للظروف المحيطة بالإنسان - أو إلى الغدد الجمة؛ فتفرز سائلاً معيناً - وفقاً للحالة التي يجابهها الشخص - كالدموع، واللعاب، والأدرينالين.
مثال ذلك: إذا أبصر إنسان لصاً أمامه بيده خنجر: فإن الجهاز العصبي يوجه إلى المخ إشارة بذلك الخطر المحدق؛ فتتلقى الجوارح من المخ إشارة بما يجب اتباعه. وقد يشير المخ - تبعاً للسلوك الشخصي للإنسان - بالفرار من اللص؛ أو بالهجوم عليه وانتزاع الخنجر من يده، أو بمبادرته بطلقة من مسدس، أو ضربة من عصا ونحوها. على أن الزمن الذي تستغرقه هذه الرسائل - الذاهبة والآيبة - يدق على أي آلة أو أداة لاسلكية أو الكترونية؛ وفي الوقت ذاته لا يتجاوز جزء من مائة من الثانية.
فعلاقة الحواس بالمخ علاقة ثابتة ما ثبت الوعي والإدراك؛ الذي يتفرع منهما التمييز، والتصور، والذاكرة، والتعليل، والطموح، وإدراك الهدف.
ولا يخفى ما في خلقة المخ من أعاجيب وغرائب؛ فمن أعجب الأعاجيب: اختزان العلوم والمعارف، والمدارك، والمحفوظات؛ واستخراج ما يراد من ذلك من سجلاتها المرتبة المبوبة في ظرف قد لا يتجاوز ارتداد الطرف؛ بوساطة ذبذبات يعجز اللسان عن وصفها، ويضيق الجنان عن الإحاطة بها
هذا وقد دل الفحص المجهري على أن عدد الخيوط العصبية في المخ يتجاوز عشرة آلاف مليون. كل واحد منها تدب فيه الحياة، ويحمل وظيفة عضوية يؤديها على أكمل وجه
وعلى هذا المنوال تؤدي أجسامنا - بما احتوته من أعضاء - وظائفها ذات الأهداف المتباينة؛ بغير وعي منها، الأمر الذي يدل دلالة قطعية على أن هناك إرادة عليا تسيرها وتوجهها
ولو لم يكن في بديع صنع الإنسان: سوى أنه يأكل الطعام، ويشرب الشراب؛ في مدخل واحد؛ ثم يخرج كلاهما من مخرج منفصل عن الآخر؛ لكفى ذلك عجباً وناهيك بما يفعله الجسم بالطعام والشراب حين يهضمهما، ويأخذ أطايبهما؛ ثم يلقي بنفايتهما؛ بعد أن يستنفذ وقوده، ويأخذ حاجته، ويستوعب كفايته ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
ولو تأملتم في حواسكم: لوجدتم أعجب العجب انظروا مثلاً إلى حاسة اللمس؛ وكيف أنكم تستطيعون بها الفرق بين الناعم والخشن، والبارد والحار، واللين والرخو. وانظروا أيضاً إلى حاسة الشم؛ وكيف تستطيعون بواسطتها معرفة ذكي الرائحة من رديئها، وطيب النكهة من فاسدها.
642
وانظروا أيضاً إلى حاسة الذوق، وكيف تستدلون بواسطتها إلى تذوق الأصناف والطعوم، ومعرفة الحلو والحامض، والمر، والمالح.
وكذلك البصر؛ وانطباع المرئيات عليه، وانعكاسها على صفحة المخ لتترك أثرها.
وكذلك السمع؛ وانقلاب المسموعات إلى مفهومات، وانطباع هذه المفهومات في حافظة المخ؛ لتزودكم به، وقت حاجتكم إليه. وهكذا سائر الأعضاء بما وهبها الله تعالى من مزايا يضيق الخاطر عن حصر فوائدها ومنافعها
فإذا ما فكر الإنسان في خلقة نفسه، ودقة حواسه، وتأمل هذه الآلات والأدوات؛ التي صاغها الخلاق العليم، وبرأها المدبر الحكيم وهل يستطيع الإنسان - بما أوتي من علم ومال، وجاه وسلطان - أن يستعيض عن أحدها لو سلبها، أو أن يردها بعد تلفها، أو أن يفهم كنهها، ويعرف سر تركيبها حقاً لو تأمل الإنسان بعض ذلك؛ لما وسعه إلا أن يقول: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾
643
﴿وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ﴾ في الدنيا. أي إن رزقكم مقدر في السماء، مسجل في اللوح المحفوظ؛ يسعى إليكم؛ قبل أن تسعون إليه، ويجري وراءكم؛ قبل أن تكدون في تحصيله. وربما أريد بالرزق: المطر؛ لأنه سبب له، ويأتي الرخاء والخصب بواسطته ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ به في الآخرة؛ من نعيم مقيم للطائع، وعذاب أليم للعاصي. وقيل: أريد بما توعدون: الجنة. وأنها فوق السماء السابعة؛ تحت عرش الرحمن
﴿فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ﴾ أي رزقكم المقدر لكم، وما توعدون به في كتب الله المنزلة، وعلى ألسنة رسله المرسلة ثابت واقع ﴿مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ أي كما أنكم - أيها المخاطبون المكلفون - قد تميزتم عن سائر الحيوانات بالنطق؛ فكذلك تميز كلامه تعالى، ووعده ووعيده؛ بالصدق والحق
﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أي أنكرهم ولا أعرفهم
﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ ذهب إليهم خفية
﴿فَأَوْجَسَ﴾ أضمر
﴿فِي صَرَّةٍ﴾ في صيحة؛ تعجباً لما سمعت ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ ضربت وجهها بأصابع يديها: فعل المتعجب ﴿وَقَالَتْ﴾ كيف ألد وأنا ﴿عَجُوزٌ﴾ كبيرة السن؛ لا تحمل عادة؛ فضلاً عن أني ﴿عَقِيمٌ﴾ لم ألد في شبابي؛ فكيف في شيخوختي ويأسي؟
﴿قَالَ﴾ إبراهيم لضيفه ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ ما شأنكم، وما طلبكم؟
﴿إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ قوم لوط
﴿مُّسَوَّمَةً﴾ معلمة؛ على كل واحد منها اسم من يهلك به ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾ للكافرين
﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا﴾ أي من كان في قرى قوم لوط
﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ هو بيت لوط عليه السلام.
-[٦٤٤]- قيل: هو وابنتاه
﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ﴾ أي في القرى بعد تخريبها ﴿آيَةً﴾ علامة تدل على إهلاكهم، وما فعله الله تعالى بهم؛ ليتعظ المتعظ، ويتذكر المتذكر
﴿بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ بحجة ظاهرة
﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ﴾ أي بما يركن إليه؛ من جند ومال
﴿فَنَبَذْنَاهُمْ﴾ طرحناهم ﴿فِي الْيَمِّ﴾ في البحر ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ فاعل ما يلام عليه
﴿وَفِي عَادٍ﴾ قوم هود ﴿الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ التي لا فائدة فيها؛ من سحاب ومطر ونحوهما. وهي الدبور؛ وسميت عقيماً: لأنها لا تلقح الأشجار، ولا تنضج الثمار
﴿مَا تَذَرُ﴾ ما تترك ﴿إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ﴾ وهو كل ما بلي وتفتت
﴿وَفِي ثَمُودَ﴾ قوم صالح ﴿إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ﴾ بما وهبكم الله تعالى من سعة ورزق
﴿حَتَّى حِينٍ﴾ إلى انقضاء آجالكم
﴿فَعَتَوْاْ﴾ استكبروا ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ وهي نار تنزل من السماء ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ إليها، وينتظرون خيرها؛ وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون
﴿بِأَيْدٍ﴾ بقوة ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ لقادرون؛ والوسع: الطاقة
﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ ذكراً وأنثى. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة. وقال: كل اثنين منها زوج؛ والله تعالى فرد لا مثل له
﴿فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ﴾ أي الجأوا إليه ليخلصكم من أوضار الذنوب
﴿أَتَوَاصَوْاْ بِهِ﴾ أي أأوصى بعضهم بعضاً بهذا القول؛ وهو قولهم: ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ يعني أنهم لم يتواصوا بهذا القول؛ بل العلة واحدة: وهي أنهم قوم طاغون
﴿فَتَوَلَّ﴾ أعرض ﴿عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ حيث بلغتهم الرسالة التي كلفت بها
﴿وَذَكِّرْ﴾ عظ بالقرآن تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} لأن من يوصف بالإيمان: أولى به أن يتصف بالإصغاء للذكرى، وتفهم العظة؛ شأن سائر العقلاء.
أما غير المؤمن: فقد غطى قلبه عن فهم الحقيقة، وأعمى عينه عن رؤية الهدى، وأصم سمعه عن داعيالله؛ فلا تنفعه الذكرى. فتعال معي يا أخي المؤمن نتعاهد على ألا نسرق، ولا نقتل، ولا نزني، ولا نغتب، ولا نكذب، ولا نرتكب إثماً يلحق بنا أو بغيرنا الضرر؛ وأنا الكفيل لك بثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ أي إلا ليكونوا عباداً لي
﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ بل أنا المتكفل بأرزاقهم ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ بل أنا الكفيل بإطعامهم
﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أنفسهم بالكفر ﴿ذَنُوباً﴾ نصيباً من العذاب ﴿مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ أي مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم في الكفر؛ من القرون الماضية؛ وقد أهلكهم الله تعالى وأبادهم.
644
سورة الطور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

645
Icon