تفسير سورة النبأ

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة النبأ من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

إيلامًا لأنفس الضالين المكذبين.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق، وتنتهي به أيام الدنيا، وأن دار العذاب معدة للكافرين، وأن الفوز بالنعيم للمتقين.. أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفًا صفًا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولًا صحيحًا، ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه، وأن الناس فيه فريقان: فريق بعيد من الله، ومرجعه إلى النار، وفريق مآبه القرب من الله، ومنازل الكرامة، فمن كانت له مشيئة صادقة.. فليتخذ مآبًا إلى ربه، وليعمل عملًا صالحًا يقربه منه، ويحله محل كرامته.
ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم، وأنهم يعلمون غدًا ما قدمته أيديهم، ويرونه حاضرًا لديهم، وحينئذٍ يندمون، ولات ساعة مندم، ويبلغ من أَمْرِهم أن يقولوا: ليتنا كنا ترابًا لم نصب حظًا من الحياة.
أسباب النزول
لما بعث رسول الله - ﷺ - برسالة رب العالمين إلى العرب خاصة، وإلى الناس كافةً، وأمرهم بتوحيد الله عَزَّ وَجَلَّ، وصاع بأمر الله وبلغهم بالبعث والنشور بعد الموت، وتلا عليهم القرآن العظيم.. جعلوا يتساءلون بينهم، فكانوا كلما اجتمعوا في ناد من أنديتهم، أو ندوة من ندواتهم.. أخذوا يتحدثون في شأن محمد - ﷺ - ورسالته وما جاء به من ربه، ويسأل بعضهم بعضًا، ويسألون غيرهم عن طريق الإنكار عليه، ويتعجبون منه، ويقولون ما الذي أتى به محمد، وهل هو ساحر، أم شاعر، أم كاهن، أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء؟ فنزلت هذه السورة إنكارًا عليهم، وتعجيبًا من تساؤلهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿عَمَّ﴾: أصله (١): عن ما، أدغمت النون في الميم لاشتراكهما في الغنة،
(١) روح البيان.
10
فصار عما، ثم حذفت الألف كما في لِمَ وبِمَ وفيمَ وإلامَ وعلامَ، فإنها في الأصل: لما وبما وفيما وإلى ما وعلى ما؛ إما فرقًا بين الاستفهامية وغيرها، أو قصدًا للخفة لكثرة استعمالها، وقد جاءت في العشر غير محذوفة، كما ذكره أبو البقاء، ومنه قول الشاعر:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيْمٌ كَخِنْزِيْرٍ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ
ولكنه قليل لا يجوز إلا لضرورة، وما فيها من الإبهام للإيذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهوله، وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة، كأنه خفي جنسه، فيسأل عنه، فالاستفهام ليس على حقيقته، بل لمجرد التفخيم، فإن المسؤول عنه ليس بمجهول بالنسبة إلى الله تعالى إذ لا تخفى عليه خافية، قال الزجاج: اللفظ لفظ استفهام، والمعنى تفخيم القصة، كما تقول أي شيء تريد؟ إذا عظمت شأنه، وقرأ الجمهور (١): ﴿عَمَّ﴾ بحذف الألف لما ذكرنا آنفًا، وقرأ أبي وابن مسعود وعكرمة وعيسى: ﴿عما﴾ بالألف، وهو أصل: عم، ولكنه قليل كما مر آنفًا، وقرأ الضحاك واين كثير في رواية والبزي: ﴿عمه﴾ بهاء السكت عوضًا عن الألف إجراء للوصل مجرى الوقف لأن الأكثر في الوقف على ما الاستفهامية هو إلحاق هاء السكت إذا أضيف إليها نحو: مجيء مه، والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب، كما تقول أي رجل تريد؟ وزيد ما زيد؟ كأنه لما كان عدم النظير أو قليله خفي عليك جنسه، فأخذت تستفهم عنه، ثم جردت العبارة عن تفخيم الشيء، فجاء في القرآن، والمعنى عن أي شيء عظيم يتساءلون.
﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾؛ أي أهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث والحشر الجسماني ويتحدثون فيما بينهم، ويخوضون فيه إنكارًا واستهزاءً، لكن لا على طريق التساؤل عن حقيقته ومسماه، بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإن (ما) وإن وضعت لطلب حقائق الأشياء، ومسميات أسمائها، كما في قولك: ما المَلَك، وما الروح؟ لكنها قد يطلب بها الصفة والحال، تقول: ما زيد؟ فيقال عالم أو طبيب، وقيل: يتساءلون عن القرآن، وإنما كان عظيمًا؛ لأنه ينبىء عن التوحيد وتصديق الرسول ووقوع البعث والنشور، قال الفراء: التساؤل هو أن يسأل بعضهم
(١) البحر المحيط.
11
بعضًا كالتقابل، وقد يستعمل أيضًا في أن يتحدثوا به، وإن لم يكن سؤال، قال الله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١)﴾ الآية، وهذا يدل على أنه التحدث. انتهى.
وقرأ الجمهور: ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾، وقرأ عبد الله وابن جبير: ﴿يَسَّاءلون﴾ بغير تاء وشد السين، وأصله ﴿يتساءلون﴾ بالتاء، فأدغمت التاء في السين.
٢ - ثم ذكر سبحانه تساؤلهم عن ماذا، وبيَّنه فقال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾ والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر، وهو جواب وبيان لشأن المسؤول عنه، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون؟ هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب: عن النبأ العظيم الخارج عن دائرة علوم الخلق يتساءلون على منهاج قوله تعالى: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾.
والفائدة في أن يذكر السؤال ثم أن يذكر الجواب معه (١): كون هذا الأسلوب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، فـ ﴿عَنْ﴾ متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعةً إلى البيان، ومراعاة لترتيب السؤال، فإن الجار فيه مقدم على متعلقه.
وقيل: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾ استفهام آخر بمعنى: أعن النبأ العظيم، أم عن غيره؟ إلا أنه حذف منه حرف الاستفهام لدلالة المذكور عليه، ونظيره قوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾؛ أي: أهم الخالدون؟
٣ - ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)﴾ وصف النبأ بعد وصفه بـ ﴿الْعَظِيمِ﴾ تأكيدًا لخطره إثر تأكيد، وإشعارًا بمدار السؤال عنه، فهو متصف بالعُظم، ومتصف بوقوع الاختلاف فيه، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُخْتَلِفُونَ﴾ قدم عليه اهتمامًا به ورعايةً للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات في الاختلاف فيه؛ أي هم راسخون في الاختلاف فيه، فمن جازم باستحالته يقول: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧)﴾ ومن مقر يزعم أن آلهته تشفع له، كما قالوا ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾، ومن شاكٍ يقول: ﴿مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾.
(١) روح البيان.
وفي "الشوكاني": وقد استدل على أن ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ هو القرآن بقوله: ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)﴾ فإنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحرًا، وبعضهم شعرًا، وبعضهم كهانةً، وبعضهم قال: هو أساطير الأولين، وأما البعث.. فقد اتفق الكفار إذا ذاك على إنكاره، ويمكن أن يقال: إنه قد وقع الاختلاف في البعث في الجملة، فصدق به المؤمنون، وكذب به الكافرون، فقد وقع الاختلاف فيه من هذه الحيثية، وإن لم يقع الاختلاف فيه بين الكفار أنفسهم على التسليم والتنزل. ومما يدل على أنه القرآن قوله سبحانه ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)﴾، ومما يدل على أنه البعث أنه أكثر ما كان يستنكره المشركون، وتأباه عقولهم السخيفة.
وقيل: إن الضمير في قوله: ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ يرجع إلى المؤمنين والكفار؛ لأنهم جميعًا كانوا يتساءلون عنه، فأما المؤمن فيزداد يقينًا واستعدادًا وبصيرةً في دينه، وأما الكافر فاستهزاءً وسخريةً، قال الرازي: ويحتمل أنهم يسألون الرسول، ويقولون: ما هذا الذي يعدنا به من أمر الآخرة؟
والمعنى (١): أي عن أيِّ شيء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم فيما بينهم إنكارًا واستهزاءً، ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)﴾ أي: عن الخبر العظيم الشأن الذي اختلفوا فيه يتساءلون، فقوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)﴾ سؤال، وقوله: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾ جواب، فالسائل والمجيب هو الله تعالى، وإيراد الكلام بصورة السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح، وتثبيت الجواب في نفس السائل، كما مر. روي أن النبي - ﷺ - لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن.. جعلوا يتساءلون فيما بينهم، فيقولون ماذا جاء به محمد - ﷺ -؟ ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاءً. وقيل: ﴿النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾: هو نبوة محمد - ﷺ -، وذلك لأنهم عجبوا إرسال الله محمدًا إليهم.
٤ - ثم أخذ سبحانه يرد عليهم متوعدًا لهم، فقال: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤)﴾، فالكلام (٢) فيه ردع كما يستفاد من ﴿كَلَّا﴾، ووعيد كما يستفاد من ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾؛ أي ليس أمر البعث مما ينكر أو يشك فيه، بحيث يتساءل عنه، سيعلمون أن ما يتساءلون عنه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه، مقطوع لا شك، وقيل: ﴿كَلَّا﴾ بمعنى حقًا سيعلمون
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
أي حقًا يعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، ويعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
والمعنى: أي: ليس (١) الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون البعث بعد الموت، ثم توعدهم بأنهم سيعلمون إذا ما عاينوا بأنفسهم حقيقة ما كانوا ينكرون، وتنقطع عنهم الريبة حين يسأل كل عامل عما عمل، ويفصل بين الخلائق.
وقصارى ذلك: فليزدجروا عما هم فيه، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال، وأن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا شك فيه ولا ريب،
٥ - ثم أكد هذا الوعيد بقوله: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾ تكرير (٢) للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد في الوعيد، و ﴿ثُمَّ﴾ للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد، يعني: أن ﴿ثُمَّ﴾ موضوعة للتراخي الزماني، وقد تستعمل مجازًا في التراخي الرتبي؛ أي: لتباعد ما بين المعطوفين في الشدة والفظاعة، وذلك لتثبيه التباعد الرتبي بالتراخي الزماني في الاشتمال على مطلق التباعد بين الأمرين، والمعنى المجازي هو المراد هنا؛ لأن المقام مقام التشديد والتهديد، وذلك إنما يكون آكد بالحمل عليه، وبعضهم حملها على معناها الحقيقي فقال: سيعلمون حقيته عند النزع، ثم في يوم القيامة، ولا شك أن القيامة متراخية بحسب الزمان عن وقت النزع، فـ ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين، و ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ وعيد لهم بطريق الاستئناف، وتعليل للردع، والسين للتقريب والتأكيد، وليس مفعوله ما ينبىء عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه، ووقوع ما يختلفون فيه، بل هو عبارة عما يلاقون من فنون الدواهي والعقوبات، والتعبير عن لقائها بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل والاختلاف، والتقدير: أي سيعلمون ما يحل بهم من فنون العقوبات.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ بياء الغيبة في الموضعين، وقرأ الحسن وأبو العالية وابن دينار وابن عامر في روايةٍ عنه بالفوقية على الخطاب في الموضعين، وقرأ الضحاك: الأول بالفوقية، والثاني بالتحتية، وقال الضحاك أيضًا: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤)﴾
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
يعني: الكافرين عاقبة التكذيب ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾ يعني: المؤمنين عاقبة تصديقهم، وقيل: بالعكس، وقيل هو وعيد بعد وعيد، وقيل: المعنى: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤)﴾ عند النزع ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾ عند البعث، كما مر.
٦ - ثم شرع يبين عظيم قدرته، وآيات رحمته التي غفل عنها هؤلاء المنكرون مع أنها بين أعينهم في كل حين؛ ليعرفوا توحيده، ويؤمنوا بما جاء به رسوله، فقال:
١ - ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦)﴾ والاستفهام (١) للتقرير بمعنى: جعلنا الأرض مهادًا، والمهاد: بمعنى البساط والفراش، أي: ألم نجعل الأرض بساطًا ممهودًا، وفراشًا مفروشًا لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه وفراشه؛ أي: قدرتنا على هذه الأمور المذكورة أعظم من قدرتنا على الإعادة بالبعث، والمهاد: الوطاء والفراش، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾ و ﴿مِهَادًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾ إن كان الجعل بمعنى التصيير، وحال مقدرة إن كان بمعنى الخلق، وجوز أن يكون جمع مهد، ككعاب وكعب، وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى والبلاد وغيرها، أو للتصرف فيها بأن يجعل بعضها مزارع، وبعضها مساكن إلى غير ذلك.
والجملة الاستفهامية مستأنفة مسوقة لتحقيق النبأ، والمتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع والوعيد، ومن هنا اتضح أن المتساءل عنه هو البعث لا القرآن، أو نبوة النبي - ﷺ - كما قيل؛ لأن هذا الدليل إنما يصلح للاستدلال به على البعث.
وقرأ الجمهور ﴿مِهَادًا﴾ قال ابن الشيخ: المهاد: مصدر ماهدت بمعنى مهدت كسافرت بمعنى: سفرت، أطلق على الأرض الممهودة. وقرأ مجاهد (٢) وعيسى وبعض الكوفيين: ﴿مهد﴾ بفتح الميم وسكون الهاء، والمعنى: أنها كالمهد للصبي، وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر، ولم ينسب ابن عطية عيسى في هذه القراءة. وقال ابن خالويه: مهدًا على التوحيد عند مجاهد وعيسى
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
الهمداني، وهو الحوفي، فاحتمل أن يكون قول ابن عطية وبعض الكوفيين كنايةً عن عيسى الهمداني، وإذا أطلقوا عيسى، أو قالوا: عيسى البصرة.. فهو عيسى ابن عمر الثقفي.
والمعنى: أي فكيف تنكرون أو تشكون أيها الجاحدون في البعث والنشور، وقد رأيتم ما يدل عليه من قدرة الله التامة، وعلمه المحيط بكل شيء، وحكمته الباهرة التي تقتضي أن لا يكون ما خلق من الخلق عبثًا: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (١١٥)﴾.
فمن ينعم بهذه النعم لا يمكن أن يهملها ويتركها سدًى، انظروا إلى الأرض التي جعلها الله لك ممهدةً وموطأة الأكناف للناس والدواب، يقيمون عليها، ويفترشونها، وينتفعون بها بخيراتها الظاهرة والباطنة، ويبنون القصور الشامخة والعمارات السامقة، وهي بين أيديهم ذليلة لا تستعصي حتى على الطفل منهم يشقها كيف يشاء، وهي في ضخاتها وعظمتها، لكن الله الذي خلقها ذللها للناس ومهدها لهم، ووطأها وألانها بين أيديهم، وجعلها ساكنة ثابتة قارَّة لا تتحرك ولا تضطرب إلا بإذنه وقدرته تعالى، ألا ينظرون إلى عظمة هذه الأرض التي منها خلقوا، وفيها سيعودون، ومنها سيخرجون تارة أخرى شاؤوا أم أبوا، ألا ينظرون إلى أسرار التربة التي في الأرض، وما فيها من عجائب صنع الله تعالى، ففي هذا التراب الذي تحت قدميك الحلو والحامض، والدم واللحم، والعظم والخبر، والقطن والصوف، وما يأكل الناس والدواب ويلبس، فسبحان الخالق العظيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، واسمعوا قول الله سبحانه إذ يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)﴾ وأشباه ذلك من الآيات.
٢ - ٧ ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧)﴾؛ أي: وجعلنا الجبال لها كالأوتاد في لا تميل باهلها ولا تضطرب بسكانها، كما ترسى الخيام بالأوتاد، ولولاها لكانت دائمة الاضطراب لما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان والمعادن المختلفة الأشكال والألوان، فلا تتم الحكمة في كونها مهادًا، فهو من باب التشبيه البليغ كما سيأتي، والأوتاد: جمع وتد، وهو ما يوتد ويحكم به المتزلزل المتحرك من اللوح وغيره.
فإن قيل (١): أليست إرادة الله وقدرته كافيتين في التثبيت؟.
أجيب: بأنه نعم إلا أنه مسبب الأسباب، وذلك من كمال القدرة، وإطلاق كلمة الأرض على الكرة الأرضية اصطلاح أهل الهيئة، وليس معناها في اللغة إلا البسيط الممدود تحت أقدام المخلوقين المسمى بالبر، وهو قشر جامد على مائع مذاب، ولا بد أن يكون في معرض الميدان والاضطراب، ولولا أن الجبال أثقلته واشتبكت به أصولها، وهي من الأحجار الصلبة والصخور الجامدة.. لكانت الزلازل دائمة الحدوث، والخسف والشق وهلاك آلاف من النفوس في كل يوم متواترةً متكررةً، ولكن الحكمة الربانية اقتضت تصلب القشر الأرضي بالأحجار؛ لئلا تميد بأهلها، فسبحان الذي جعل الجبال أوتادًا، والأرض مهادًا، وسلكها ينابع وأنهارًا وسبلًا فجاجًا، جل جلاله وعز كماله.
٣ - ٨ ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ﴾ معطوف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه، فإنه في قوة: إنا جعلنا الأرض مهادا، أو على ما يقتضيه الاستفهام التقريري، فإنه في قوة أن يقال: قد جعلنا الأرض مهادًا. ﴿أَزْوَاجًا﴾؛ أي: حال كونكم أصنافًا ذكرًا وأنثى ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتسنى التناسل.
والمعنى (٢): أي وجعلناكم أصنافًا ذكورًا وإناثًا ليتمتع كل منكم بالآخر، وليتم الائتناس، والتعاون على سعادة المعيشة، وحفظ الحياة بالإنسال والتوليد، وتكميلها بالتربية والتعليم قال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وقيل: معناه: وخلقناكم أشكالًا كل واحد شكل للآخر، وقيل: معنى أصنافًا: أي: أسود وأبيض وأحمر وأصفر وصغيرًا وكبيرًا، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين بني آدم.
وقال بعضهم: معنى الآية: وخلقناكم حال كونكم معروضين لأوصاف متقابلة، كل واحد منها مزدوج بما يقابله، كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والعلم والجهل، والقوة والضعف، والذكورة والأنوثة، والطول والقصر، إلى غير
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
ذلك، وبه يصح الابتلاء، فإن الفاضل يشتغل بالشكر، والمفضول بالصبر، ويعرت قدر النعمة عند الترقي من الصبر إلى الشكر، وكل ذلك دليل على كمال القدرة، ونهاية الحكمة. اهـ.
والمعنى الأول أقرب، فالله تبارك وتعالى يذكرنا بهذه القدرة العظيمة، وبهذه النعمة الجليلة، وهو أنه خلقنا أزواجًا لنتعاون على أمور الحياة، وليقوم الرجل بوظيفته من العمل والكسب والرعاية والحماية، ولتقوم المرأة بوظيفتها من التربية والتهذيب وشؤون المنزل وأمور الزوج والأطفال، ولتعاون الرجل في هذه الأمور التي خلقت لأجلها، ولولا التعاون بين الرجل والمرأة.. لاختل نظام الحياة، وعاش كل واحد منهما في شقاء وعناء، فسبحان الله الذي خلقنا أزواجًا، وجعل بيننا مودة ورحمة، وجعل كلًّا منا سكنًا لصاحبه، فله الحمد، وله الشكر، وله الثناء الحسن على ما أنعم وتكرم.
٤ - ٩ ﴿وَجَعَلْنَا﴾ أي: صيَّرنا ﴿نَوْمَكُمْ﴾ وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعدة إليه، ولذا قل في أهل الرياضة لقلة الرطوبة ﴿سُبَاتًا﴾؛ أي: موتًا لأن النوم أحد الموتتين، ولكنه لم تفارقه الروح، أو كالموت، والمسبوت: الميت، من السبت، وهو: القطع؛ لأنه مقطوع عن الحركة، ومنه سمي يوم السبت؛ لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت، فسمي بذلك، وقيل: معنى ﴿سُبَاتًا﴾؛ أي: راحةً لأبدانكم، قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه؛ أي: جعلنا نومكم راحةً لكم، وقال ابن الأنباري: جعلنا نومكم قطعًا لأعمالكم؛ لأن أصل السبت: القطع، وهو - أي النوم - من نعم الله الكبرى على الناس، فإن النوم بعض ساعات في اليوم يريح القوة من تعبها، وينشطها من غسلها، ويعيد إلى الجسم ما فقد منه من نشاط، ولو لم يكن النوم موتًا، واليقظة بعثًا.. لم يتم هذا التجديد لقوى الإنسان، بل يفقد الإنسان الطاقة على العمل، فالمرء قد يصبر على فقد الطعام والشراب أيامًا، ولكنه لا يطيق الصبر على السهر، والسهر يفني الجسم ويبليه، فالله سبحانه جعل نومنا في الليل قطعًا للحركة، وايقافًا للعمل، لتحصيل الراحة في فترة النوم من كثرة الترداد، والسعي في سحابة النهار، وإذا استرحنا في النوم.. فقد تجددت عزائمنا، ونشطت جوارحنا، وقويت أجسامنا، ونستأنف أعمالنا ونحن أقوى ما نكون، والنوم سلطان
يملكنا ولا نملكه، ويتحكم فينا، ولا نستطيع التحكم فيه.
والمعنى: أي وجعلنا نومكم في الليل قطعًا للمتاعب التي تكابدونها في النهار سعيًا في تحصيل أمور المعاش، فالمشاهد أن في نوم بعض ساعات الليل راحة للقوى من تعبها، ونشاطًا لها من كسلها، وإعادة لما فقد منها، ولولا ذلك لنفدت القوى وانقطع المرء عن العمل في شؤون الحياة المختلفة.
٥ - ١٠ ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾ الذي يقع فيه النوم ﴿لِبَاسًا﴾ يستركم بظلامه كما يستركم اللباس؛ أي: وجعلنا الليل بظلامه ساترًا للأجسام، ومغطيًا لها كاللباس الذي يغطي الجسم ويستره، ووجه المنة في ذلك: أن ظلمته تستر الإنسان عن العيوب إذا أراد هربًا من عدو، أو إخفاء لما لا يحب أن يطلع عليه غيره، ولله در المتنبي:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةً تَكْذِبُ
والمانوية: طائفة تعتقد أن الخير من النهار، والشر من الليل، وقال بعض أرباب المحبة:
اللَّيْلُ لِلْعَاشِقِيْنَ سِتْرٌ يَا لَيْتَ أَوْقَاتَهُ تَدُوْمُ
خصوصًا أهل الإحسان والطاعات الذين يحبون أن يخفوا عن الناس أعمالهم لتتجرد من الرياء، وتخلص لله سبحانه، وفي ظلام الليل فوائد كثيرة، وبالظلام ينام المرء نومًا عميقًا هادئًا يحفظ جسمه من التعب والنصب، ولولا هذا اللباس من الظلام.. لما نام الإنسان هذا المنام، ولما أصابه هذا الهدوء، ففي الظلام تستريح الأعصاب، ويستريح النظر، ويتجدد الفكر، وينمو العقل، ويتعمق المرء في التفكير الدقيق، فسبحان الذي جعل الليل لباسًا، والنهار معاشًا.
٦ - ١١ ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)﴾؛ أي: جعلناه وقتًا لتحصيل أسباب المعاش؛ لأن الناس يتقلبون فيه في حوائجهم ومكاسبهم.
والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكم النهار مضيئًا لتسعوا فيما يقوم به معاشكم، وما قسمه الله لكم من الرزق، والله سبحانه جعل النهار مشرقًا نيرًا مضيئًا، تبعث منه الحياة وتدب فيه أصولها؛ ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب للمعاش، والتكسب والتجارات والصناعات والزراعة وغيرها، فللَّه الفضل والمنّة، فلو جعل علينا الليل سرمدًا إلى يوم القيامة، فمن يأتينا بنهار غيره عزّ
وجلّ، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١)﴾.
والمعاش: مصدر بمعنى العيش، وكل شيء يعاش به، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وقت طلب معاش، كما سيأتي البحث عنه في مبحث التصريف.
٧ - ١٢ ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ﴾؛ أي: خلقنا فوق رؤوسكم ﴿سَبْعًا﴾؛ أي: سبع سموات ﴿شِدَادًا﴾ جمع شديد؛ أي: غلاظًا قوية الخلق محكمة البناء لا يؤثر فيها مر الدهور، ولا كر العصور، ليس فيها تصاع ولا فطور، غلظ كل واحدة منها مسيرة خمس مئة عام، كما ورد في الحديث، والتعبير (١) عن خلقها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق.
٨ - ١٣ ﴿وَجَعَلْنَا﴾؛ أي: أنشأنا وأبدعنا ﴿سِرَاجًا﴾ هو الشمس، والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السموات بالبناء، قال الراغب: السراج: الزاهر بفتيلة ودهن، ويعبر به عن كل شيء مضيء، ويقال للسراج مصباح. ﴿وَهَّاجًا﴾؛ أي: وقادًا متلألئًا، من وهجت النار إذا أضاءت، أو بالغًا في الحرارة من الوهج وهو الحر، وهو كما قال بعض المفسرين: ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾؛ أي: مضيئًا جامعًا بين النور والحرارة، وقال بعضهم: ﴿سِرَاجًا﴾؛ أي شمسًا ﴿وَهَّاجًا﴾؛ أي حارًا مضطرم الاتقاد، وقال ابن عمر: الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها، ولهيبها يضطرم علوًا. كذا في "البحر".
قيل (٢): إن الشمس والقمر خلقا في بدء أمرهما من نور العرش، ويرجعان في القيامة إلى نور العرش، وذلك فيما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ألا أحدثكم بما سمعت عن رسول الله - ﷺ - يقول في الشمس والقمر، وبدء خلقهما، ومصير أمرهما، قال: قلنا: بلى يرحمك الله، فقال: إن رسول الله - ﷺ -، سئل عن ذلك، فقال: "إن الله تعالى لما أبرز خلقه إحكامًا، ولم يبق من خلقه غير آدم، خلق شمسين من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أن يدعها شمسًا، فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وما كان في سابق علمه أن يطمسها
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
20
ويحولها قمرًا، فإنه خلقه دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرهما لشدة ارتفاعهما في السماء، وبعدهما من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما كان خلقها في بدء أمرهما.. لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، ولا يدري الأجير متى يعمل، ومتى يأخذ أجره، ولا يدري الصائم متى يصوم، ولا تدري المرأة متى تعتد، ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم، ومتى وقت حجهم، فكان الرب تعالى انظر لعباده، وأرحم بهم، فأرسل جبريل، فأمر جناحه على وجه القمر، فطمس منه الضوء، وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ فالسواد الذي ترونه في القمر شبه الخطوط فيه، فهو أثر المحو".
قال: "فإذا قامت القيامة، وقضى الله بين الناس؟ وميز بين أهل الجنة والنار، ولم يدخلوهما بعد، يدعو الرب تعالى الشمس والقمر، ويجاء بهما أسودين مكورين، قد وقفا في زلازل وبلابل ترعد فرائصهما من هول ذلك اليوم، ومخافة الرحمن، فإذا كانا حيال العرش.. خرا لله ساجدين، فيقولان: إلهنا، قد علمت طاعتنا لك، ودأبنا في عبادتك، وسرعتنا للمضيّ في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا، فقد علمت أنا لم ندعهم إلى عبادتنا، ولم نذهل عن عبادتك، فيقول الرب: صدقتما، إني قد قضيت على نفسي أن أبدىء وأعيد، وإني معيدكما إلى ما أبدأتكما منه، فارجعا إلى ما خلقتكما منه، فيقولان: ربنا مم خلقتنا، فيقول: خلقتكما من نور عرشي، فارجعا إليه، قال: فتلمح من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورًا، فيختلطان بنور العرش، فذلك قوله تعالى: ﴿يُبْدِئُ وَيُعِيدُ﴾. كذا في "كشف الأسرار".
وقال الشيخ في "الفتح المكي": وأما الكواكب كلها فهي في جهنم مظلمة الأجرام، عظيمة الخلق، وكذلك الشمس والقمر، والطلوع والغروب لهما في جهنم دائمًا. انتهى.
يقول الفقير: لعل التوفيق بين هذا وبين الخبر السابق أن كلًّا من الشمس والقمر حامل لشيئين: النورية، والحرارة، فما كان فيهما من قبيل النور.. فيتصل بالعرش من غير جرم؛ لأن الجرم لا يخلو من الغلظة والظلمة والكثافة، وما كان من قبيل النار والحرارة.. فيتصل بالنار مع جرمهما، فكل منهما يرجع إلى أصله.
21
انتهى من "روح البيان"، والحديث المذكور إن كان له أصل صحيح فمقبول، وإلا فلا.
وقد جعل الله سبحانه في هذه الكواكب سر الحياة (١)، فالحرارة والضوء يطردان الأمراض، وينعشان كل حي، ولا أدل على هذا مما نشاهد من فتك الأمراض بمن يكون بمنأى عن ضوئها وحرارتها، والجراثيم لا تتوالد إلا حيث يحتجب عنها السكان، ويبتعد عنها المكان.
٩ - ١٤ ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ النون (٢) للعظمة وللإشارة إلى جمعية الذات، والأسماء والصفات. ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾، أي: من السحائب التي انعصرت واستدرت بالرياح، أي: شارفت أن تعصرها الرياح وتدرها فتمطر ولم تعصرها بعد، فالإنزال من المستعد لا من الواقع، وإلا فيلزم تحصيل الحاصل وهمزة أعصر للحينونة، و ﴿الْمُعْصِرَاتِ﴾ اسم فاعل، يقال: أعصر الزرع: إذا حان له أن يحصد، وأعصرت الجارية؛ أي: حان لها أن تعصر الطبيعة رحمها فتحيض، وفي "المفردات": المعصر: بكسر الصاد المرأة التي حاضت ودخلت في عصر شبابها. انتهى. ولو لم تكن للحينونة.. لكان ينبغي أن يقرأ ﴿المعصَرات﴾ بفتح الصاد، على أنه اسم مفعول؛ لأن الرياح تعصرها، ويجوز أن يكون المراد من ﴿الْمُعْصِرَاتِ﴾: الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب فتمطر، فهي أيضًا اسم فاعل، والهمزة للحينونة كذلك.
فإن قيل: لِمَ لم تجعل الهمزة للتعدية؟ قلنا: لأن الرياح عاصرة لا معصرة.
﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ أي: ماءً منصبًا بكثرة، والمراد: تتابع القطر حتى يكثر الماء فيعظم النفع به، يقال: ثج الماء؛ أي: سال بكثرة وانصب، وثجه غيره؛ أي: أساله وصبه فهو لازم ومتعد، ومن الثاني: قوله - ﷺ -: "أفضل الحج العج والثج" أي: رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدي.
ولا معارضة بين ما هنا، وبين قوله تعالى: ﴿وَأَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾، فإن ابتداء المطر إن كان من السماء يكون الإنزال منها إلى السحاب، ومنه إلى الأرض، وإلا فإنزاله منها باعتبار تكونه بأسباب سماوية من جملتها حرارة الشمس، فإنها تثير
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وتصعد الأجزاء المائية من أعماق الأرض الرطبة، أو من البحار والأنهار إلى جو الهواء، فتنعقد سحابًا فتمطرنا، فالإنزال من المعصرات حقيقة، ومن السماء مجاز باعتبار السببية، والله مسبب الأسباب.
والمعنى: أي وأنزلنا من السحاب والغيوم التي تتحلب بالمطر ماء كثير السيلان، عظيم الانصباب،
١٥ - ثم بين عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال: ﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الماء؛ أي: بسبب وصوله إلى الأرض، واختلاطه بها وبما فيها، وهذه اللام لام المصلحة، لا لام الغرض، كما تقول المعتزلة.
﴿حَبًّا﴾ كثيرًا يقتات به؛ أي: يكون قوتًا للإنسان، وهو ما يقوم به بدنه؛ كالحنطة والشعير والذرة والطيف ونحوها، ﴿وَنَبَاتًا﴾ كثيرًا يعتلف به؛ أي يكون علفًا للدواب؛ كالحشيش والبرسيم ونحوهما، كما قال تعالى: ﴿كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه؛ لأن غالبه غذاء الناس.
١٦ - ﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦)﴾؛ أي: بساتين ملتفًّا بعضها ببعض، لتشعب أغصانها، أي: أخرجناها ليتفكه بها الإنسان، والجنات: جمع جنة، والجنة في الأصل: هي السترة من مصدر جنه إذا ستره، تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه، وعلى الأرض ذات الشجر.
قال الفراء: الجنة: ما فيه النخل، والفردوس: ما فيه الكرم، والمراد هنا: هو الأشجار لا الأرض، وقوله: ﴿أَلْفَافًا﴾؛ أي: ملتفةً تداخل بعضها في بعض، وهذا من محسنات الجنان، كما نرى في بساتين الدنيا، قالوا: ولا واحد للألفاف كالأوزاع والأخياف، والأوزاع: بمعنى الجماعات المتفرقة كالأخياف، فإنه أيضًا بمعنى الجماعات المتفرقة المختلطة، ومنه الأخياف للإخوة من آباء شتى، وأمهم واحدة، وقيل: جمع لف بكسر اللام ككن وأكنان، وقيل: جمع لفيف كشريف وأشراف، وقيل: جمع لف بضم اللام جمع لفاء كخضر وخضراء، فيكون ألفافًا جمع الجمع، وقيل: جمع ملتفة بحذف الزوائد.
والمعنى: أي وأنزلنا من السحاب ماءً كثيرًا، لنبدل بوساطته جدب الأرض
(١) روح البيان.
خصبًا، فنخرج من الأرض حبًا يقتات به الناس كالحنطة والشعير، ونباتًا تقتات به الدواب، وحدائق ذات أغصان ملتفة.
وقد جمع الله سبحانه في هذه الآية جميع أنواع ما تنبته الأرض، فإن ما يخرج منها؛ إما أن يكون ذا ساق، أو لا، والأول: إذا اجتمع بعضه إلى بعض وكثر حتى التف.. فهو الحديقة، والثاني: إما أن يكون له أكمام فيها حب، وإما أن يكون بغير ذلك، وهو النبات.
وقدم الحب لأنه غذاء أشرف أنواع الحيوان، وهو الإنسان، وأعقبه بذكر النبات؛ لأنه غذاء بقية أنواع الحيوان، وأخر الحدائق؛ لأنه مما يستغني عنها الكثير من الناس.
قال ابن الشيخ: قدم ذا الحب؛ لأنه هو الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات؛ لاحتياج سائر الحيوانات إليه، وأخرت الجنات لانعدام الحاجة الضرورية إلى الفواكه.
واعلم: أن فيما ذكر من أفعاله تعالى دلالةً على صحة البعث، وحقيته من وجوه ثلاثة:
الأول: باعتبار قدرته تعالى، فإن من قدر على إنشاء هذه الأفعال البديعة من غير مثال يحتذيه وقانون ينتحيه.. كان على الإعادة أقدر وأقوى.
والثاني: باعتبار علمه وحكمته، فإن من أباع هذه المصنوعات على نمط رائق مستتبع لغاية جليلة، ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق، يستحيل أن يفنيها بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
والثالث: باعتبار نفس الفعل، فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، كأنه قيل: ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للإيمان به، فمالكم تخوضون فيه إنكارًا، وتتساءلون عنه استهزاءً؟
١٧ - ثم شرع في بيان ما يتساءلون عنه، فقال ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، أي: إن اليوم الذي يفصل الله سبحانه فيه بين الخلائق، وبين السعداء والأشقياء باعتبار تفاوت
الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها، ﴿كَانَ﴾ في علمه وتقديره الأزلي، وإلا فثبوت الميقاتية ليوم الفصل غير مقيد بالزمان الماضي؛ لأنه أمر مقرر قبل حدوث الزمان ﴿مِيقَاتًا﴾؛ أي: ميعادًا ومجمعًا ووقتًا لبعث الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثوابًا وعقابًا، لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر، فالميقات وهو الوقت المؤقت؛ أي: المعين أخص من مطلق الوقت، فهو هنا زمان مقيد بكونه وقت ظهور ما وعد الله من البعث والجزاء.
١٨ - ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ بدل من ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ، فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخة، وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره، ويجوز أن يكون منصوبًا بضمار أعني، والنفخ: نفخ الريح في الشيء، ومنه: نفخ الروح في النشأة الأولى، كما قال تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾، ويقال: انتفخ بطنه، ومنه استعير انتفخ النبات إذا ارتفع، ورجل منفوخ؛ أي: سمين، و ﴿الصُّورِ﴾: القرن النوراني، والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام، وقرأ أبو عياض ﴿في الصَور﴾ بفتح الواو جمع صورة، أي: يرد الله الأرواح إلى الأبدان، والجمهور: بسكون الواو.
والمعنى: إن يوم ينفخ في الصور نفخة ثانية للبعث حتى تتصل الأرواح بالأجساد، وترجع بها إلى الحياة، كان ميقاتًا لجمع الأولين والآخرين، وقوله: ﴿فَتَأْتُونَ﴾ معطوف على جملة محذوفة ثقة، بدلالة الحال عليها، وإيذانًا بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى: ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ﴾، أي: فضرب فانفلق، والتقدير هنا: يوم ينفخ في الصور فتبعثون من قبوركم، فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلًا حال كونكم ﴿أَفْوَاجًا﴾؛ أي: زمرًا زمرًا، وجماعات جماعات مختلفة متباينة الأوضاع حسب اختلاف أعمالهم وتباينها، وهو جمع فوج، وهو جماعة من الناس، وفي المفردات: الجماعة: المارة المسرعة؛ أي: حال كونكم أممًا، كل أمة مع إمامها، كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾.
١٩ - وقوله: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾ معطوف على ﴿يُنْفَخُ﴾ بمعنى تفتح، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، أي: شقت وصدعت من هيبة الله تعالى بعد أن كانت لا فطور فيها ﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾؛ أي: ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة نزولًا غير معتاد،
كما في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: أمره وبأسه ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ وقيل: المراد بالفتح الكشف بإزالتها من مكانها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (١١)﴾ وبالأبواب الطرق والمسالك؛ أي: تكشط فيصير مكانها طرقًا لا يسدها شيء وقيل: تتقطع قطعًا صغارًا حتى تكون كالألواح في الأبواب المعهودة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿فتحت﴾ مخففًا، وقرأ الباقون بالتشديد.
وحاصل معنى الآيات: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧)﴾؛ أي: إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين، والآخرين، يثابون فيه أو يعاقبون، ويتمايزون فيه، ويكونون مراتب ودرجاتٍ بحسب أعمالهم، قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾، وقد جعله حدًا تنتهي عنده الدنيا، وتجتمع فيه الخلائق ليرى كل امرىء ما قدمت يداه، فيجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، ثم بين هذا اليوم، وزاد في تفخيمه وتهويله، فقال: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ﴾ فتحيون وتبعثون من قبوركم، وتأتون إلى الموقف من غير تلبث، وإمام كل أمة رسولها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾.
﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾؛ أي: وانشقت السماء وتصدعت، وجاء نحو هذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾، وقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (١)﴾، وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ﴾ ذاك أنه يحصل اضطراب في نظام الكواكب، فيذهب التماسك بينها، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب، لا يلتقي فيها شيء بشيء، وذلك هو خراب العالم العلوي، كما يخرب الكون السفلي
٢٠ - ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ معطوف على ينفخ أيضًا؛ أي: وتسير الجبال عن أماكنها في الهواء، وتقلع عن مقارها. ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾؛ أي: فتكون هباءً منتشرًا، يظن الناظر أنها سراب، والمسيِّر هو الله تعالى، كما قال: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً﴾؛ أي: وسيرت الجبال في الجو بتسيير الله تعالى وتسخيره على هيئاتها بعد قلعها عن مقارها، وذلك بعد حشر الخلائق بعد النفخة الثانية، ليشاهدوها، ثم يفرقها في الهواء، وذلك قوله تعالى: ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ والسراب ما تراه نصف النهار كأنه ماء، قال الراكب: هو اللامع في المفازة كالماء، وذلك لِانسِرَابِهِ في مرأى العين أي ذهابه وجريانه، وكان الجبال لا حقيقة لها، كالسراب لا حقيقة له، أي
فصارت بتسييرها، مثل السراب؛ أي: شيئًا كلا شيء؛ لتفرق أجزائها، وانبثات جواهرها، كقوله تعالى: ﴿وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (٥) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)﴾، أي: غبارًا منتشرًا، وهي وإن اندكت وانصدعت عند النفخة الأولى، لكن تسييرها كالسحاب، وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية.
والمعنى: أي إن الجبال لا تكون في ذلك اليوم على ثباتها المعروف، بل يذهب ما كان لها من قرار، وتعود كأنها سراب يرى من بعد، فإذا قربت منه لم تجد شيئًا لتفرق أجزائها، وانبثاث جواهرها.
والخلاصة: أنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن يجمع بينها بأن تقول:
أول أحوالها: الاندكاك والانكسار، كما قال تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤)﴾.
وثانيتها: أن تصير كالعهن المنفوش، كما قال: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)﴾.
وثالثتها: أن تصير كالهباء، وذلك بأن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن، كما قال: ﴿فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (٦)﴾.
ورابعتها: أن تنسف وتقلع أصولها؛ لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها، والأرض تحتها غير بارزة، فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها، وهو المراد من قوله تعالى: ﴿فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا﴾.
وخامستها: أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها في الهواء كأنها غبار، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾؛ أي: تراها في رأي العين ساكنة في أماكنها، والحال أنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أن الأجرام إذا تحركت نحوًا من الإنحاء لا تكاد تتبين حركتها، وإن كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد.
وسادستها: أن تصير سرابًا؛ أي لا شيء، كما في هذه الآية.
٢١ - وبعد أن عدد وجوه إحسانه ودلائل قدرته على إرساله رسوله، وذكر أن يوم
الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة، وبين أهوال هذا اليوم وامتياز شؤونه وأحواله عن شؤون أيام الدنيا وأحوالها.. ذكر وعيد المكذبين، وما يلاقونه في ذلك اليوم، فقال:
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ﴾ دار العذاب ﴿كَانَتْ﴾ في حكم الله سبحانه وقضائه ﴿مِرْصَادًا﴾؛ أي: موضع رصد ورقوبة يرصد فيه، ويرقب خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها، فالمرصاد: اسم للمكان الذي يرصد فيه، كالمنهاج: اسم للمكان الذي ينهج فيه؛ أي: يسلك، قال الراغب: المرصاد: موضع الرصد كالمرصد، لكن يقال للمكان الذي اختص بالترصد والترقب، وقوله: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١)﴾ تنبيه على أن عليها مجاز الناس. انتهى. كأنه عمم المرصاد حيث إن الصراط محبس للأعداء وممر للأولياء، والأول أولى؛ لأن الرصد في مثل ذلك المكان الهائل إنما هو للتعذيب، وهو للكفار والأشقياء.
٢٢ - ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ متعلق بمحذوف هو؛ إما نعت لـ ﴿مِرْصَادًا﴾ أي: مرصادًا كائنًا للطاغين، وقوله تعالى: ﴿مَآبًا﴾ بدل منه؛ أي: مرجعًا يرجعون إليه لا محالة، وإما حال من ﴿مَآبًا﴾ قدمت عليه لكونه نكرة، ولو تأخرت.. لكانت صفة له، قالوا: الطاغي من طغى في دينه بالكفر، وفي دنياه بالظلم، وهو في اللغة من جاوز الحد في العصيان، والمراد هنا: المشركون، لما دل عليه ما بعده من الآيات وعذابهم لا يتناهى لكون اعتقادهم باطلًا، وكذا إذا لم يعتقدوا شيئًا أصلًا، وإن كان الاعتقاد صحيحًا كالمؤمن العاصي، فعذابه متناهٍ.
والمعنى: أن جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعمالهم، وخبث عقيدته وفعاله.
روى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس. ﴿لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢)﴾؛ أي: إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا، ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق،
٢٣ - وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بين مدة ذلك، فقال: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾ حال مقدرة من الضمير المستكن في ﴿لِلطَّاغِينَ﴾؛ أي: مقدرين اللبث فيها، واللبث: أن يستقر في المكان، ولا يكاد ينفك عنه، يقال: لبث بالمكان أقام به ملازمًا له. ﴿أَحْقَابًا﴾ ظرف للبثهم، وهو جمع حقب، وهو ثمانون سنة أو أكثر، والدهر والسنة والسنون، والمراد منه: التأبيد؛ أي: حال كونهم لابثين فيها دهورًا متلاحقة يتبع
بعضها بعضًا، فكلما انقضى زمن.. يتجدد لهم زمن آخر، ما قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾،
٢٤ - ثم بين أحوالهم فيها، فقال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا﴾ فِيها جملة مستأنفة؛ أي: لا يحسون في جهنم ﴿بَرْدًا﴾ ينتفعون به، ويميلون إليه ﴿وَلَا شَرَابًا﴾ يزيل عطشهم
٢٥ - ﴿إِلَّا حَمِيمًا﴾؛ أي: ماءً حارًا بلغ الناية في حره ﴿وَغَسَّاقًا﴾؛ أي: صديدًا منتنًا يسيل من جلودهم أي لا يذوقون في جهنم بردًا يبرد حر السعير عنهم إلا غساق، ولا شرابًا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم، فهم لا يذوقون مع شدة الحر ما يكون فيه راحة من ريح باردة، أو ظل يمنع من نار، ولا يجدون شرابًا يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة من بواطنهم، ولكن يجدون الماء الحار المغلي، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق، وسائر الرطوبات المستقذرة.
والخلاصة (١): أنهم لا يذوقون فيها شرابًا إلا الحميم البالغ الغاية في السخونة، أو الصديد المنتن، ولا بردًا إلا الماء الحار المغلي، قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم، ومن الشراب الغساق، وكذا قال الربيع بن أنس فهم لا يذوقون إلا من هذا وهذا؛ أي: الحميم والغساق، أما الحميم: فهو الحار الذي انتهى حره، وزاد عن درجة الغليان، فإن طلبوا الماء.. سقوا من هذا الحميم، فقطّع أمعاءهم، وصهر ما في بطونهم والجلود، وأما الغساق.. فهو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو لا يستطاع من برد ونتن، لا يواجه نتنه وقذارته، يقال: غسق الجرح إذا سال منه ماء أصفر، فهو القيح والصديد تعافه الأنفس، وتمجه الطباع، وهم يعاقبون بالشيء وضده، فالحميم: حار في منتهى الحرارة، والغساق: بارد في أشد البرودة المؤلمة، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - ﷺ - قال: "لو أن دلوًا من غساق يراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا"، ونقل ابن كثير في تفسير سورة ص عن كعب الأحبار قال: قال كعب: ﴿وَغَسَّاقًا﴾ عين في جهنم، يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك، فيستنقع، فيؤتى بالآدمي، فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام، ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه كله ما يجر
(١) المراغي.
29
الرجل ثوبه. رواه ابن أبي حاتم، وقرأ أبو عمرو (١) والمنقري وابن يعمر: ﴿أن جهنم﴾ بفتح الهمزة، والجمهور: بكسرها، وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن علي وابن وثاب وعمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح: ﴿لَبِثِيْنَ﴾ بغير ألف بعد اللام، وقرأ الجمهور: بألف بعدها، والفرق بين القراءتين: أن فاعلًا يدل على من وجد منه الفعل ولو مرة، وفَعِلًا من شأنه ذلك، ولكن مع المبالغة، كحاذر وحذر.
فائدة: وقد ذكر الإِمام الطبري في تفسيره "جامع البيان" خمسة أقوال في معنى الأحقاب (٢):
أحدها: أن معنى أحقابًا: لا انقطاع لها كلما مضى حقب.. جاء بعده حقب آخر، والحقب: ثمانون سنة من سنين الآخرة، قاله قتادة والربيع.
ثانيها: أن الأحقاب: ثلاث وأربعون حقبًا، كل حقب سبعون خريفًا، كل خريف سبع مئة سنة، كل سنة ثلاث مئة وستون يومًا، كل يوم ألف سنة، قاله مجاهد.
ثالثها: أن الله تعالى لم يذكر شيئًا إلا وجعل له مدة يثقطع إليها، ولم يجعل لأهل النار مدة، بل قال فيهم: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾، فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار، ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك السنين ألف سنة مما نعده، قاله الحسن.
رابعها: أن مجاز الآية ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾ لا يذوقون في تلك الأحقاب بردًا ولا شرابًا، إلا حميمًا وغساقًا، ثم يلبثون فيها لا يذوقون فيها إلا الحميم والغساق من أنواع العذاب، فهذا توقيت لأنواع العذاب، لا لمكثهم في النار، فإنه أبدي، وهذا أحسن الأقواد بنظر المفسر؛ أعني: الطبري.
خامسها: أنه يعني به أهل التوحيد، قاله خالد بن معدان. وروى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يخرج من النار من دخلها حتى يمكث فيها
(١) البحر المحيط.
(٢) الطبري.
30
أحقابًا، والحقب: بضع وستون سنة، والسنة ثلاث مئة وستون يومًا كألف سنة مما تعدون، فلا يتكلن أحد أن يخرج من النار". انتهى.
والحاصل: أن الأحقاب يدل على التناهي، فهو وإن كان جمع قلة.. لكنه بمنزلة جمع الكثرة، وهو الحقوب، أو بمنزلة الأحقاب المعرف بلام الاستغراق، ولو كان فيه ما يدل على خروجهم منها، فدلالته من قبل المفهوم، فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾؛ لأن المنطوق يرجح على المفهوم فلا يعارضه، وقال أبو حيان المدة منسوخة بقوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾. انتهى. ويجوز (١) أن يكون ﴿أَحْقَابًا﴾ ليس بظرف أصلًا، بل هو حال من الضمير المستكن في ﴿لَابِثِينَ﴾ بمعنى: حقبين؛ أي: نكدين محرومين من الخير والبركة في السكون والحركة، على أن يكون جمع حقب - بفتح الحاء وكسر القاف - من حقب الرجل إذا حرم الرزق، وحقب العام: إذا قل خيره ومطره. وقوله ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ تفسير لكدهم، ولا يتوهم حينئذٍ تناهي مدة لبثهم فيها حتى يحتاج إلى التوجيه السابق، هذا ما قالوه في هذا المقام، وقد أطالوا فيه بما لا يسع له هذا المختصر،
٢٦ - وقوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)﴾ مصدر مؤكد لعامله المحذوف؛ أي: جوزوا بذلك جزاءً وفاقًا، أو جازيناهم بذلك جزاءً وفاقًا لأعمالهم وأخلاقهم كأنه نفس الوفاق مبالغة، أو ذا وفاق لها على حذف المضاف، أو جزاءً موافقًا لها، أو وافقها وفاقًا، فيكون ﴿وِفَاقًا﴾ مصدرًا مؤكدًا لفعله كـ ﴿جزاء﴾، والجملة صفة الجزاء. وجه الموافقة بينهما: أنهم أتوا بمعصية عظيمة، وهي الكفر، فعوقبوا عقابًا عظيمًا، وهو التعذيب بالنار، فكما أنه لا ذنب أعظم من الشرك، فكذا لا جزاء أقوى من التعذيب بالنار، كما قال: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ فتوافقا، وقيل: كان وفاقًا حيث لم يزد على قدر الاستحقاق، ولم ينقص عنه.
وقرأ الجمهور: ﴿وِفَاقًا﴾ بتخفيف الفاء. وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة بشدها من: وفقه، كذا قال سعدي المفتي.
اعلم: أن الكفار لما كان من نيتهم الاستمرار على الكفر، كما سيشير إليه
(١) روح البيان.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧)﴾ إذ معناه: أنهم كانوا مستمرين على الكفر مع توقع الحساب.. وافقه عدم تناهي العذاب واللبث فيها أحقابًا بعد أحقاب، ولما كانوا مبدلين التصديق الذي يروح النفس، ويثلج به الصدر بالتكذيب الذي هو ضده.. جوزوا بالحميم والغساق بدل ما يجعل للمؤمنين مما يروحهم من برد الجنة وشرابها.
وللمناسبة بين العلم والماء يعبر الماء في المنام بالعلم،
٢٧ - وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم.. فصل أنواع جرائمهم، فذكر أنها نوعان فقال:
١ - ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧)﴾ تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور، وبيان لفساد قوتهم العملية؛ أي: كانوا ينكرون الآخرة ولا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم، فلذا كانوا يقدمون على جميع المنكرات، ولا يرغبون في شيء من الطاعات، وفسر الرجاء هنا: بالخوف؛ لأن الحساب من أصعب الأمور على الإنسان، والشيء الصعب لا يقال فيه إنه يرجى، بل يقال: إنه يخاف ويخشى.
والمعنى: أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم؛ لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب، ولا يتوقعونه، ورغبة المرء في فعل الخيرات، وترك المحظورات، إنما تكون غالبًا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك في الآخرة، فمن كان منكرًا لها لا يقدم على شيء مما يحسن عمله، ولا يحجم عن أمر مما يقبح.
٢ - ٢٨ ﴿وَكَذَّبُوا﴾ بيان لفساد قوتهم النظرية. ﴿بِآيَاتِنَا﴾ الناطقة بذلك، وفي بعض التفاسير: بآياتنا القولية والفعلية الظاهرة على ألسنة الرسل وأيديهم. ﴿كِذَّابًا﴾؛ أي: تكذيبًا مفرطًا، ولذلك كانوا مصرين على الكفر، وفنون المعاصي، فعوقبوا بأهول العقاب جزاءً وفاقًا، ويغالًا: من باب فعل المضعف شائع فيما بين الفصحاء، مطرد مثل: كلم كلامًا. قال في "الصحاح": ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)﴾ هو أحد مصادر المشدد؛ لأن مصدره قد يجيء على تفعيل، مثل: التكليم، وعلى فعال، مثل:
(١) المراغي.
كِذّاب، وعلى تفعلة، مثل؛ توصية، وعلى مُفَعَّل، مثل: ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾.
والمعنى (١): أي وكذبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، وبجميع ما جاء في القرآن.
والخلاصة: أنهم أقدموا على جميع المنكرات، ولم يرعووا عن فعل السيئات، وأنكروا بقلوبهم الحق، واتبعوا الباطل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿كِذَابًا﴾ بتشديد الذال مصمدر كذب المضعف، وهي لغة لبعض العرب يمانية يقولون، في مصدر فَعَّل: فِعَّالًا، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل، نحو: تكذيب، ومن تلك اللغة فول الشاعر:
لَقَدْ طَالَ ما ثَبَّطْتَنِيْ عَنْ صَحَابَتِيْ وَعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤُهَا مِنْ شِفَائِيَا
ومن كلام أحدهم وهو يستفتي في الحج: الحلق أحب إليك أم القصار؟ يريد التقصير. وقرأ علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى البصرة بخلاف عنه: كذابًا بتخفيف الذال، وذلك لغة اليمن؛ بأن يجعلوا مصدر كذب المخفف كذابًا بالتخفيف مثل؛ كتب كتابًا، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه، مثل أعطيته عطاء، وقال الأعشى:
فَصَدَّقْتُهَا وَكَذَّبْتُهَا وَالْمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
وقال الزمخشري: وهو مثل قوله: ﴿أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾؛ يعني: وكذبوا بآياتنا، فكذبوا كذابًا، وقرأ عمر بن عبد العزيز: ﴿كُذَّابا﴾ بضم الكاف وتشديد الذال، فخرج على أنه جمع كاذب، وانتصب على الحال المؤكدة، أو على أنه مفرد صفة لمصدر محذوف؛ أي: تكذيبًا كذابًا؛ أي: مفرطًا في التكذيب.
٢٩ - وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية.. أرشد إلى أنها في مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى، لا يغيب عنه شيء منها، فقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾؛ أي: وأحصينا كل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم، فانتصابه على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره قوله: ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي: حفظناه وضبطناه. قرأ الجمهور (٣): ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾،
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
بالنصب على الاشتغال؛ أي: وأحصينا كل شيء أحصيناه، وهو الراجح (١) لتقدم جملة فعلية، ولا يضره كون هذه الجملة معترضة كما سيجيء؛ لاعتراضها بين السبب والمسبب، أو لأن المقصود المهم هنا الإخبار عن الإحصاء، لا الإخبار عن كل شيء، وقرأ أبو السمال برفعه على الابتداء، وما بعده خبره، وانتصاب ﴿كِتَابًا﴾ على المصدرية؛ لأنه مصدر مؤكد لـ ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ من غير لفظه لما أن الإحصاء والكتابة من واد واحد؛ أي: يشتركان في معنى الضبط، فكأنه قال: وكل شيء أحصيناه إحصاءً مساويًا في القوة والثبات بالعلم المقيد بالكتابة، أو كتبناه كتابًا، وأثبتناه إثباتًا. ويجوز أن يكون من الاحتباك، حذف فعل الثاني بقرينة الأول، ومصدر الأول بقرينة الثاني؛ أي: أحصيناه إحصاءً، وكتبناه كتابًا، ويجوز نصبه على الحال؛ أي: أحصينا كل شيء حال كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، أو في صحف الحفظة، وقيل: المراد به: العلم؛ لأن ما كتب كان أبعد من النسيان، والأول أولى لقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾، والجملة معترضة كما مر آنفًا، اعترض بها لتوكيد كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، بأنهما محفوظان للمجازاة.
والمعنى (٢): أي إنا علمنا جميع ما عملوا علمًا ثابتًا، لا يعتريه تغيير ولا تحريف، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئًا مما كانوا يصنعون في الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاءً لا يزول منه شيء، ولا يغيب، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه، كما قال تعالى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾.
وإنما قيل: ﴿كِتَابًا﴾ دون أن يقال إحصاءً؛ لأن الكتابة هي السماوية في قوة العلم بالشيء، فإن من يريد أن يحيى كلام متكلم، حتى لا يغيب منه شيء.. عمد إلى كتابته، فكأنه تعالى يقول: وكل شيء أحصيناه إحصاءً يساوي في ثباته وضبطه ما يكتب.
٣٠ - وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات.. رتب عليه هذا الجزاء، فقال: ﴿فَذُوقُوا﴾ ما أنتم فيه من العذاب الأليم ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ﴾ فوق عذابكم ﴿إِلَّا عَذَابًا﴾ من جنسه، كما قال: ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨)﴾ ذاك أن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
فيها تقريعًا وتوبيخًا لهم في يوم الفصل، وغضبًا من أرحم الراحمين، والفاء في ﴿فَذُوقُوا﴾ سببية (١) دالة على أن الأمر بالذوق مسبب عن كفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات، ومعلل به، فيكون ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ إلخ جملةً معترضة، بين السبب ومسببه، تؤكد كل واحد من الطرفين؛ لأنه كما دل على كون معاصيهم مضبوطة مكتوبة.. يدل على أن ما يتفرع عليها من العذاب كائن لا محالة مقدر على حسب استحقاقهم، وفي الالتفات المنبىء عن التشديد في التهديد، وإيراد ﴿لَن﴾ المفيدة لكون ترك الزيادة من قبيل ما لا يدخل تحت الصحة من الدلالة على تبالغ الغضب ما لا يخفى.
وقد روي أن النبي - ﷺ - قال: "إنَّ هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار"؛ أي: لأن فيها الإياس من الخروج، فكلما استغاثوا من نوع من العذاب.. أغيثوا بأشد منه، فتكون كل مرتبة منه متناهية في الشدة، وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة، وهذا لا يعارض قوله تعالى: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾؛ لأن المراد بالمنفي التكلم باللطف والإكرام، لا بالقهر والجلال.
فإن قيل: هذه الزيادة إن كانت غير مستحقة.. كانت ظلمًا، وإن كانت مستحقة.. كان تركها في أول الأمر إحسانًا، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه.
فالجواب: أنها مستحقة، ودوامها زيادة لثقل العذاب، وأيضًا ترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط حتى يكون إيقاعه بعده رجوعًا في "الإحسان" وأيضًا كانوا يزيدون كفرهم وتكذيبهم وأذيتهم لرسول الله - ﷺ -، وأصحابه رضي الله عنهم، فيزيد الله عذابهم لزيادة الاستحقاق، فلا ظلم.
فإن قيل: قوله: ﴿فَذُوقُواْ...﴾ إلخ تكرار؛ لأنه ذكر سابقًا أنهم لا يذوقون إلخ. قلنا: إنه تكرار لزيادة المبالغة في تقرير الدعوى، وهو كون العقاب جزاءً وفاقًا،
٣١ - وقوله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١)﴾ شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين، وما أعده الله سبحانه لهم من الخير إثر بيان سوء أحوال الكافرين، وما أعد الله لهم؛
(١) روح البيان.
من الشر على ما هو العادة القرآنية، ووجه تقديم بيان حال الكفرة غني عن البيان؛ أي: إن للذين يتقون الكفر والقبائح التي هي من أعمال الكفرة مفازًا؛ أي: فوزًا وظفرًا بمطالبهم، ونجاة من مكارهم، دل على هذا المعنى تفسيره بما بعده من قوله: ﴿حَدَائِقَ﴾ إلخ، فالمفاز على هذا المعنى: مصدر ميمي، أو موضع فوز وظفر، على أنه اسم مكان.
فإن قيل: الخلاص من الهلاك أهم من الظفر باللذات (١)، فلِمَ أهل الأهم، وذكر غير الأهم؟
قلنا: لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز بالنعيم، لكونه حاصلًا لأصحاب الأعراف مع أنهم غير فائزين بالنعيم، بخلاف الفوز بالنعيم، فإنه يستلزم الخلاص من الهلاك، فكان ذكره أولى،
٣٢ - وقوله: ﴿حَدَائِقَ﴾؛ أي: بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، بدل من ﴿مَفَازًا﴾ بدل اشتمال، إن كان مصدرًا ميميًا؛ لأن الفوز يدل عليه دلالة التزامية، أو بدل بعض، إن جعل اسم مكان، وهو جمع حديقة، وهي الروضة ذات الأشجار، وقيل: الحديقة كل بستان عليه حائط؛ أي: جدار، وفيه من النخل والثمار، وفي "المفردات": الحديقة: قطعة من الأرض ذات ماء، سميت بذلك تشبيهًا بحدقة العين في الهيئة، وحصول الماء فيها.
﴿وَأَعْنَابًا﴾؛ أي: كرومًا، وهو تخصيص بعد التعميم إظهارًا لفضلها جمع عنب، وهو ثمر الكرم، قال بعضهم: ذكر نفسها، ولم يذكر شجرها - وهو الكرم - لأن زيادة الشرف فيها لا في شجرها.
والمعنى: أي إن لمن اتقى محارم الله، وخاف عقابه فوزًا بالكرامة، والثواب العظيم، في جنات النعيم، ثم فسر هذا الفوز وفصله بقوله: ﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢)﴾؛ أي: بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار، لها أسوار محيطة بها، وفيها
الأعناب اللذيذة الطعم، مما تشتهيه النفوس، وتقر به العيون، وقد أفردت بالذكر - وهو مما يكون في الحدائق - عناية بأمرها، كما جاء في قوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾،
٣٣ - ثم وصف ما في الحدائق والجنات فقال:
(١) روح البيان.
﴿وَكَوَاعِبَ﴾؛ أي: نساء (١) أبكارًا، فلكت ثديهن؛ أي: استدارت وصارت كالكعب في النتوء، يقال: فلك ثدي الجارية تفليكًا؛ أي: استدار كفلكة المغزل، جمع كاعب، يقال: كعبت المرأة كعوبًا ظهر ثديا، وارتفع ارتفاع الكتب، ويقال: لهن النواهد، جمع ناهد وناهدة، وهي المرأة كعب ثديها، وبدا للارتفاع. ﴿أَتْرَابًا﴾؛ أي: لداتٍ؛ أي: مستويات في السنن، ولدة الرجل تربه وقرينه في السنن والميلاد، والهاء عوض عن الواو الذاهبة من أوله لأنه من الولادة، والأتراب الأقران في السن، قال الراغب: أي: لدات ينشان معًا تشبيهًا في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر، ولوقوعهن على الأرض معًا.
والظاهر ما في تفسير "الزاهدي": وهو كونهن بنات ست عشرة لكونها نصف سن الرجل، وأيضًا دل عليه الوصف بالكعوب، وهو ارتفاع ثديهن، والمراد: أنهن بالغات تمام كمال النساء في الحسن واللطافة، والصلاح للمصاحبة والمعاشرة، بحيث لا يكن في سن الصغر حتى تضعف الشهوة لهن، ولا في سن الكبر حتى تنكسر الشهوة عنهن، بل رواء الشباب؛ أي: ماؤه جار فيهن، لم يشبن، ولم يتغير عن حد الحسن حسنهن.
وإنما ذكرن لأن بهن نظام الدنيا، ولطافة الآخرة من جهة التنعم الجسماني.
والمعنى (٢): أي وحورًا كواعب لم تتدلى أثدائهن، وهن أبكار عرب أتراب، والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء في الدنيا على نحو من اللذة، وإن كنا لا نعلم كنهه في الآخرة، وعلينا أن نؤمن به، وأنه تمتع يفوق ما هو مثله من لذات هذه الحياة، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروي.
٣٤ - ﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤)﴾؛ أي: كأسًا مملوءة بالخمر، فدهاقًا بمعنى: مدهقة، وصفت به الكاس للمبالغة في امتلائها، يقال: أدهق الحوض ودهقه: ملأه؛ أي: وكأسًا من الخمر مترعة ملأى متتابعةً على شاربها، والمراد بالكأس الإناه المعروف، ولا يسمى بالكأس إلا إذا كان فيه الشراب
٣٥ - ﴿لَا يَسْمَعُونَ﴾؛ أي: المتقون ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الحدائق ﴿لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا﴾ واللغو: الباطل من الكلام،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
والكذاب: الكذب؛ أي: لا ينطقون بلغو، وهو ما يلغى ويطرح لعدم الفائدة فيه، ولا يكذب بعضهم بعضًا حتى يسمعوا شيئًا من ذلك، بخلاف حال أهل الدنيا في مجالسهم، لا سيما عند شربهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿كِذَّابًا﴾؛ بالتشديد، وقرأ الكسائي هنا بالتخفيف، ووافق الجماعة على التشديد في قوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨)﴾ المتقدم في هذه السورة للتصريح بفعله هناك، وقد قدمنا الخلاف في ﴿كِذَّابًا﴾، هل هو من مصادر التفعيل، أو من مصادر المفاعلة؟
والمعنى: أي لا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضًا كما يجري بين الشرب في الدنيا لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم، ولم تتغير عقولهم، كما قال تعالى: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (١٩)﴾ واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين،
٣٦ - ولما ذكر أنواع النعيم.. بين أن هذا جزاء لهم على ما عملوا، وتفضل منه سبحانه فقال: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ مصدر مؤكد منصوب بمعنى: إن للمتقين مفازًا فإنه في قوة أن يقال: جازى الله سبحانه المتقين على أعمالهم الصالحة بمفاز، وما بعده جزاء عظيمًا مضاعفًا كائنًا من ربك على أن التنوين للتعظيم ﴿عَطَاءً﴾؛ أي: وأعطاهم الله ذلك عطاءً بلا مقابلة عمل تفضلًا وإحسانًا منه تعالى عطاء ﴿حِسَابًا﴾؛ أي: كثيرًا كافيًا لهم صفة لـ ﴿عَطَاءً﴾، بمعنى: كافيًا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف؛ أي: محسبًا.
والخلاصة: أي جازاهم الله سبحانه بما ذكر، وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاءً كافيًا وافيًا.
فإن قلت (٢): إن ذلك يقتضي أن الله تعالى جعل الشيء الواحد جزاءً وعطاءً وهو غير ظاهر؛ لأن كونه جزاءً يستدعي ثبوت الاستحقاق، وكونه عطاءً يستدعي عدم الاستحقاق، فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين.
قلت: ذلك الاستحقاق إنما يثبت بحكم الوعد، لا من حيث أن الطاعة توجب الثواب على الله، فذلك الثواب بالنظر إلى وعده تعالى إِياه بمقابلة الطاعة
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
يكون جزاءً، وبالنظر إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون تفضلًا وعطاء، وهذا الكلام في مقابلة قوله سابقًا: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)﴾ لأن جزاء المؤمنين من قبيل الفضل لتضاعفه، وجزاء الكافرين من قبيل العدل.
وقوله: ﴿عَطَاءً﴾ بدل من ﴿جَزَاءً﴾ بدل الكل؛ لأن العطاء والجزاء متحدان ذاتًا، وان تغايرا في المفهوم، وفي جعله بدلًا من ﴿جَزَاءً﴾ نكتة لطيفة، وهي: أن بيان كونه عطاءً تفضلًا منه، هو المقصود، وبيان كونه جزاءً وسيلة إليه، فإن حق البدل أن يكون مقصودًا بالنسبة، وذكر المبدل منه وسيلة إليه، وقال بعضهم: العطاء من الله موضع الفضل لا موضع الجزاء، فالجزاء على الأعمال، والفضل: موهبة الله يختص به الخواص من أهل وداده، وقيل: معنى ﴿حِسَابًا﴾؛ أي (١): جزاء وعطاء على حسب أعمالهم، بأن يجازي كل عملٍ بما وعد له من الأضعاف من عشرة وسبع مئة، وغير حساب، فما وعده الله تعالى من المضاعفة داخل في الحسب؛ أي: المقدار؛ لأن الحسب - بفتح السين وسكونها - بمعنى: القدر، والتقدير على هذا: عطاء بحساب، فحذف الجار ونصب الاسم؛ أي: عطاء بحسب وقدر ما وجب لهم في وعد الرب سبحانه، فإنه وعد للحسنة عشرًا، ووعد لقوم سبع مئة، وقد وعد لقوم جزاءً بغير حساب؛ أي: لا نهاية له ولا مقدار، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وقال أبو عبيدة: ﴿حِسَابٍ﴾؛ أي: كافيًا. وقال ابن قتيبة: كثيرًا، يقال: أحسبت فلانًا؛ أي: أكثرت له العطاء. وقال الزجاج: حسابًا؛ أي: ما يكفيهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿حِسَابًا﴾ بكسر الحاء وفتح السين المخففة؛ أي: كافيًا، وقرأ ابن قطيب وأبو هاشم: ﴿حسابا﴾ بكسر الحاء وتشديد السين، وهو مصدر مثل كذاب، أقيم مقام الصفة؛ أي: إعطاء محسبًا؛ أي: كافيًا، وقرأ ابن عباس والسراج: ﴿حسنا﴾ بالنون من الحسن، وحكى عنه المهدوي: ﴿حسبا﴾ بفتح الحاء وسكون السين، وبالباء نحو قولك: حسبك كذا؛ أي: كافيك.
٣٧ - ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ بدل من ﴿رَبِّكَ﴾، والمراد: رب كل شيء وخالقه ومالكه ﴿الرَّحْمَنِ﴾؛ أي: مفيض الخير والجود على كل موجود بحسب حكمته، وبقدر استعداد
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
39
المرحوم، وهو بالجر: صفة للرب، وقيل: للأول، وأيًا ما كان، ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل، ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور، قال الغاشاني: أي: ربهم المعطي ذلك العطاء هو الرحمن؛ لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة، فمشربه من اسم الرحمن دون غيره.
وقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾؛ أي: لا يملك أهل السموات والأرض ﴿مِنْهُ خِطَابًا﴾؛ أي: خطابه تعالى في شيء ما، استئناف (١) مقرر لما أفادته الربوبية العاة من غاية العظمة والكبرياء، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه، وضمير ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾ لأهل السموات والأرض، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْه﴾ صلة للتأكيد على طريقة قولهم: بعت منك؛ أي: بعتك، يعني: أنه صلة خطابًا، قدم عليه فانقلب بيانًا.
والمعنى: لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم، كما ينبىء عنه لفظ الملك؛ إذ المملوك لا يستحق على مالكه شيئًا، خطابًا ما في شيء ما؛ لتفرده بالعظمة والكبرياء، وتوحده في ملكه بالأمر والنهي والخطاب، والمراد: نفي قدرتهم على أن يخاطبوه تعالى بشيء من نقص العذاب، وزيادة الثواب من غير إذنه على أبلغ وجه وآكده، كأنه قيل: لا يملكون أن يخاطبوه بما سبق من الثواب والعقاب، وبه يحصل الارتباط بين هذه الآية وبين ما قبلها من وعيد الكفار، ووعد المؤمنين، ويظهر منه أن نفي أن يملكوا خطابه لا ينافي الشفاعة بإذنه.
وقيل: إن الضمير (٢) في قوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾ عائد على المشركين، قاله عطاء عن ابن عباس؛ أي: لا يخاطب المشركون الله، أما المؤمنون.. فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم، وقيل: عائد على المؤمنين؛ أي: لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه، وقرأ عبد الله (٣) وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن: وابن عامر وعاصم: ﴿رَبِّ﴾ و ﴿الرَّحْمَنِ﴾ بالجر، وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان نافع وابن كثير برفعهما، وقرأ الأخوان حمزة والكسائي: ﴿رَبِّ﴾ بالجر، و ﴿الرحمن﴾ بالرفع، وهي قراءة الحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيص بخلاف عنهما، فالجر على البدل من ﴿رَبِّكَ﴾، و ﴿الرَّحْمَنِ﴾
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
40
صفة أو بدل من ﴿رَبِّ﴾، أو عطف بيان، وهل يكون بدلًا من ﴿رَبِّكَ﴾؟ فيه نظر؛ لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر، فيكون كالصفات والرفع على إضمار: هو رب، أو على الابتداء، وخبره ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾.
والمعنى: أي إنه سبحانه وتعالى المالك لشؤونهما المدبر لأمورهما، ولا يملك أحد من أهلما محاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه،
٣٨ - ثم أكد هذا وقرره بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ والظرف متعلق بقوله: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾؛ أي: لا يتكلم أهل السموات والأرض يوم يقوم الروح والملائكة صفًا؛ أي: حال كونهم مصطفين لكثرتهم صفًا واحدًا، وقيل: هما صفان: الروح صف، والملائكة صف، وقيل: صفوف، وهو الأوفق لقوله تعالى: ﴿وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ وقيامهم مما أمرهم الله به في أمر العباد، فانتصاب ﴿صَفًّا﴾ إما على الحال كما قدرنا، أو على المصدرية؛ أي: يصفون صفًا، وجملة ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ إما حال من فاعل ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ العائد إلى أهل السموات والأرض، أو مستأنفة مقررة لما قبلها، وأخر (١) الملائكة هنا تعميمًا بعد التخصيص، وأخر الروح في سورة القدر تخصيصًا بعد التعميم.
فالظاهر: أن الروح من جنس الملائكة، لكنه أعظم منهم خلقًا ورتبةً وشرفًا؛ إذ هو بمقابلة الروح الإنساني، كما أن الملائكة بمقابلة القوى الروحانية، ولا شك أن الروح أعظم من قواه التابعة؛ كالسلطان مع أمرائه وجنده ورعاياه، وتفسير الروح بجبريل ضعيف (٢)، وإن كان هو مشهورًا بكونه روح القدس، والروح الأمين؛ إذ كونه روحًا ليس بالنسبة إلى ذاته، إلا فالملائكة كلهم روحانيون، وإن كانوا أجسامًا لطيفة غير الأرواح المهمية، وإنما بالنسبة إلى كونه نافخ الروح، وحامل الوحي الذي هو كالروح في الأحياء، وقد اتفقوا على أن إسرافيل أعظم من جبريل ومن غيره، فلو كان أحد يقوم صفًا واحدًا.. لكان هو إسرافيل دون جبريل، والله أعلم بمراده من ﴿الرُّوحُ﴾.
وفي "الشوكاني": واختلف في ﴿الرُّوحُ﴾، وقيل: إنه ملك من الملائكة أعظم من السموات السبع، ومن الأرضين السبع، ومن الجبال، وقيل: هو جبريل، قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: الروح جند من جنود الله ليسوا ملائكة،
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
41
قاله أبو صالح ومجاهد، وقيل: هم أشراف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان، وقيل: هم حفظة على الملائكة، قاله ابن أبي نجيح، وقيل: هم بنو آدم، قاله الحسن وقتادة، وقيل: هم أرواح بني آدم، تقوم صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، وذلك بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام، قاله عطية العوفي، وقيل: إنه القرآن، قاله زيد بن أسلم. انتهى.
وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ يجوز أن يكون بدلًا من ضمير ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ العائد إلى أهل السموات والأرض، الذين من جملتهم الروح والملائكة، وهو أرجح (١)؛ لكون الكلام غير موجب، والمستثنى منه مذكور، وفي مثله يختار البدل على الاستثناء، ويجوز أن يكون منصوبًا على أصل الاستثناء.
والمعنى: لا يشفعون لأحد إلا من أذن له الرحمن منهم بالشفاعة للخلق، أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن الرحمن بالشفاعة فيه، ﴿و﴾ كان ذلك الشخص المشفوع له ممن ﴿قَالَ﴾ في الدنيا ﴿صَوَابًا﴾ أي: حقًا، قاله الضحاك ومجاهد، أو: لا إله إلا الله، قاله أبو صالح، وأصل الصواب السداد من القول والفعل، وقيل: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾، يعني: الملائكة والروح الذين قاموا صفًا هيبةً وإجلالًا إلا من أذن له الرحمن منهم في الشفاعة، وهم قد قالوا صوابًا. قال الواحدي: فهم لا يتكلمون، يعني: الخلق كلهم، إلا من أذن له الرحمن، وهم المؤمنون والملائكة، وقال في الدنيا صوابًا؛ أي: شهد بالتوحيد، ، وعبارة "الروح": وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون قوله تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ ومؤكدة له على أن أهل السموات والأرض إذا لم يقدروا يومئذِ على أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلا من أذن الله له منهم في التكلم، وقال ذلك المأذون له قولًا صوابًا؛ أي: حقًا صادقًا، أو واقعًا في محله من غير خطأ في قوله، فكيف يملكون خطاب رب العزة، مع كونه أخص من مطلق الكلام، وأعز منه مرامًا، وقيل: ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ﴾ إلخ منصوب على أصل الاستثناء.
والمعنى: لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن، وقال ذلك الشخص صوابًا؛ أي: حقًا هو التوحيد، وكلمة الشهادة دون غيره من أهل الشرك،
(١) روح البيان.
42
فإنهم لم يقولوا في الدنيا صوابًا، بل تفوهوا بكلمة الكفر والشرك. وإظهار ﴿الرَّحْمَنُ﴾ (١) في موضع الإضمار؛ للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة، لا أن أحدًا يستحقه عليه تعالى.
وحاصل المعنى (٢): أن الملائكة على جلالة أقدراهم، ورفيع درجاتهم، لا يستطيعون أن يتكلموا في هذا اليوم إجلالًا لربهم، ووقوفًا عند أقدارهم، إلا إذا أذن لهم ربهم، وقالوا قولًا صدقًا وصوابًا، وفي الآية دلالة على أنهم مع قربهم من ربهم لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد، أو يطلب منحة إلا من بعد أن يأذن له ربه، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب له؛ لأنه يقول الصواب، وإنما يكون الكلام ضربًا من التكريم لمن يؤذن له، ويختص به، ولا أثر له فيما أراده ألبتة. والملائكة مخلوقات غيبها الله سبحانه عنا، ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها، فعلينا أن نؤمن بها، وإن لم نرها، ونصدق بما جاء في كتابه من أوصافه غير باحثين عن حقيقتها،
٣٩ - وبعد أن ذكر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وبين عظمة يوم القيامة.. أردف ذلك ببيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ (٣) إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور، ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده؛ أي: ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الروح والملائكة مصطفين غير قادرين هم ولا غيرهم على التكلم من الهيبة والجلال. ﴿الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾؛ أي: الثابت المتحقق لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، وذلك لأنه متحقق علمًا، فلا بد أن يكون متحققًا وقوعًا، كالصباح بعد مضي الليل، وفيه إشارة إلى أنه واقع ثابت في جميع الأوقات والأحايين، ولكن لا يبصرون به لاشتغالهم بالنفس الملهية وهواها الشاغل، والفاء في قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطًا، وكون مفعولها مضمون الجزاء، وانتفاء الغرابة في تعلقه بها حسب القاعدة المستمرة، وقوله: ﴿اتَّخَذَ﴾ جواب الشرط، و ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾ متعلق بقوله: ﴿مَآبًا﴾؛ أي: مرجعًا، قدم عليه اهتمامًا به، ورعاية للفواصل. وقال قتادة: ﴿مَآبًا﴾؛ أي: سبيلًا، وتعلق الجار والمجرور به لما فيه من معنى الاقتضاء والإيصال، والتقدير: إذا كان الأمر كما ذكر
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
من تحقق اليوم المذكور، ووقوعه بلا محالة، وأردتم بيان الأصلح لكم.. فأقول لكم: من شاء أن يتخذ مرجحًا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم.. فعل ذلك بالإيمان والطاعة.
وفي "التأويلات النجمية": ﴿مَآبًا﴾؛ أي: مرجعًا؛ أي: رجوعًا من الدنيا إلى الآخرة، ومن الآخرة إلى رب الدنيا والآخرة لأنهما حرامان غير مقصودين عند أهل الله، بل غاية مقصودهم رضا ربهم، لا نعيمها.
ومعنى الآية (١): أي ذلك اليوم متحقق لا ربب يه، ولا مفر منه، وأنه يوم تبلى فيه السرائر، وتنكشف فيه الضمائر، أما أيام الدنيا.. فأحوال الخلق فيها مكتوبة، وضمائرهم غير معلومة، فمن شاء اتخاذ مرجع حسن عند ربه.. عمل عملًا صالحًا يقربه من ربه، ويدنيه من كرامته وثوابه، ويباعد بينه وبين عقابه،
٤٠ - ثم زاد في تخويف الكيفار وانذارهم، فقال: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ﴾؛ أي (٢): خوفناكم بما ذكر، في هذه السورة من الآيات الناطقة بالبعث، وبما بعده من الدواهي، أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن، والخطاب لمشركي العرب وكفار قريش؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث، وفي بعض التفاسير؛ الظاهر عموم الخطاب كعموم ﴿من﴾ لأن في إنذار كل طائفة فائدة لهم. ﴿عَذَابًا قَرِيبًا﴾ هو عذاب الآخرة، وقربه لتحقق إتيانه حتمًا، ولأنه قريب بالنسبة إليه تعالى وممكن وان رأوه بعيدًا وغير ممكن، فسيرونه قريبًا، لقوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ﴾ بدل من ﴿عَذَابًا﴾، أو ظرف لمضمر هو صفة له؛ أي: عذابًا كائنًا يوم ينظر المرء؛ أي: يشاهد ﴿مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ من خير أو شر، وهو تثنية يد، أصله: يدان، سقطت نونها بالإضافة، و ﴿مَا﴾؛ إما موصولة منصوبة بـ ﴿يَنُظرُ﴾؛ لأنه يتعدى بنفسه وبإلى، والعائد محذوف؛ أي: ما قدمته، أو استفهامية منصوبة بـ ﴿قَدَّمَتْ﴾ معلقة بـ ﴿يَنُظرُ﴾؛ أي: يوم ينظر المرء أيَّ شيء قدمت يداه، فالمرء عام للمؤمن والكافر؛ لأن كل أحد يرى عمله في ذلك اليوم مثبتًا في صحيفة عمله، خيرًا كان أو شرًا، فيرجو المؤمن ثواب الله على صالح عمله، ويخاف الكافر عقاب الله على سيء عمله، وأما الكافر.. فكما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي﴾ وقيل:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
44
المراد بالمرء: الكافر؛ لقوله: ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ﴾، فيكون الكافر ظاهرًا وضع موضع المضمر؛ لزيادة الذم؛ أي: يا قوم، فالمنادى محذوف، ويجوز أن تكون ﴿يا﴾ لمحض التحسر، ولمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه، والمراد بالكافر: الجنس العام. ﴿كُنْتُ تُرَابًا﴾ في الدنيا، فلم أخلق، ولم أكلف، وهو في محل رفع على أنه خبر ﴿ليت﴾، أو ليتني كنت ترابًا في هذا اليوم، فلم أبعث؛ لما يرى مما قد أعده الله له من أنواع العذاب، كقوله: ﴿لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ إلى قوله: ﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧)﴾، وقيل: يحشر الله الحيوان، فيقتص للجمّاء من القرناء نطحتها؛ أي: قصاص المقابلة، لا قصاص التكليف، ثم يرده ترابًا، فيود الكافر حاله، ما قال - ﷺ -: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء". وهذا صريح في حشر البهاثم، واعادتها لقصاص المقابلة، لا للجزاء ثوابًا وعقابًا.
وقيل: الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: خلقتني من نار، وخلقته من طين، وقيل: ترابًا؛ أي: متواضعًا لطاعة الله تعالى، لا جبارًا ولا متكبرًا، وقيل: المراد بالكافر: أبو جهل، وقيل: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي. قال مقاتل: نزل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وقوله: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ﴾ في أخيه الأسد بن عبد الأسد. وقيل: أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، والأول أولى اعتبارًا بعموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، كما تقدم غير مرة. وقرأ الجمهور: ﴿الْمَرْءُ﴾ بفتح الميم، وابن أبي إسحاق بضمها، وضعفها أبو حاتم، ولا ينبغي أن تضعف؛ لأنها لغة قوم يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة، فيقولون: مرؤ ومرأ ومرىء، على حسب الإعراب، وأما مؤمنو الجن.. فلهم ثواب وعقاب، فلا يعودون ترابًا، وهو الأصح، فيكون مؤمنوهم مع مؤمني الإنس في الجنة، أو في الأعراف، ونعيمهم ما يناسب مقامهم، ويكون كفارهم مع كفار الإنس في النار، وعذابهم بما يلائم شأنهم.
ومعنى الآية: أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه في حياته الأولى من الأعمال، فإن كان قد آمن بربه، وعمل عمل الأبرار.. فطوبى له وحسن مآب، وإن كان قد كذب به وبرسوله.. فله الويل وأليم العذاب، ويقول الكافر من شدة ما يلقى، ومن هول ما يرى: ﴿لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ يريد: ليتني لم أكن من
45
المكلفين، بل كنت حجرًا أو ترابًا، لا يجري عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب، وفي الآية إيماءٌ إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه.
الإعراب
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)﴾.
﴿عَمَّ﴾: ﴿عن﴾: حرف جر ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الجر بـ ﴿عن﴾ مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، وقرىء: ﴿عما﴾ بإثبات الألف على الأصل، ولكنه قليل أو ضرورة، وعليه قول حسان بن ثابت:
عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِيْ لَئِيْمٌ كَخِنْزِيْرِ تَمَرَّغَ فِيْ رَمَادِ
الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾ و ﴿يَتَسَاءَلُونَ﴾: فعل وفاعل مرفوع بثبات النون، والجملة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، والاستفهام فيه لتفخيم الشأن، كأنه قال: عن أي شيء يتساءلون، كأنه لا نظير له، نظير قولهم: ما الغول؟ وما العنقاء؟؛ أي: أيُّ شيء من الأشياء هو. ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله؛ أي: يتساءلون عن النبأ العظيم، والجملة المحذوفة مستأنفة مسوقة لبيان ذلك الشيء المستفهم عنه.
﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الجر، صفة ثانية لـ ﴿لنبأ﴾ ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿فِيهِ﴾ و ﴿مُخْتَلِفُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول.
﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (١٢)﴾.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر للمتسائلين استهزاء ﴿سَيَعْلَمُونَ﴾: ﴿السين﴾: حرف استقبال وتنفيس ﴿يعلمون﴾: فعل وفاعل مرفوع بالنون، ومفعوله محذوف تقديره: ما يحل بهم، والجملة مستأنفة ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب مع تراخ، ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤)﴾: تأكيد لفظي للجملة التي قبلها، ولا يضر توسط حرف العطف؛ لأنه للتأكيد، والنحاة
46
يأبون ذلك إلا أن يكون عطفًا، وإن أفاد التأكيد، ويمكن أن يجاب عنه بأن ثمة تغايرًا ملحوظًا، وهو: أن الوعيد الثاني أشد من الأول، وبهذا الاعتبار صار مغايرًا لما قبله، ولذا عطف بـ ﴿ثُمَّ﴾. ﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ﴿نَجْعَلِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿الْأَرْضَ﴾: مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، ﴿مِهَادًا﴾: مفعول ثانٍ؛ لأن الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق، فيكون ﴿مِهَادًا﴾: حالًا مقدرة، ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧)﴾: معطوف على ﴿الْأَرْضَ مِهَادًا﴾، والجملة الفعلية مستأنفة. مسوقة لبيان قدرته تعالى على البعث، وإيراد الدلائل عليه، وذكر منها تسعة كما عددناها بالأرقام في مبحث التفسير، ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ما قبله؛ لأنه بمعنى: وجعلنا الأرض مهادًا ﴿أَزْوَاجًا﴾: حال من المفعول، أي: متجانسين متشابهين ذكورًا وإناثًا، ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩)﴾: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ما قبله أيضًا، ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (٩)﴾: فعل وفاعل ومفعولان أيضًا، معطوف على ما سبق، ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)﴾ معطوف أيضًا، وهي مماثلة لما قبلها، و ﴿مَعَاشًا﴾: مصدر ميمي بمعنى: المعيشة، وقد وقع هنا ظرفًا للزمان؛ أي: وقت معاش. ﴿وَبَنَيْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا على سابقه، ﴿فَوْقَكُمْ﴾: ظرف مكان متعلق بـ ﴿بنينا﴾. ﴿سَبْعًا﴾: مفعول به؛ أي: سبع سموات ﴿شِدَادًا﴾ صفة لـ ﴿سَبْعًا﴾.
﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (١٣) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (١٨) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (٢٢)﴾.
﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف أيضًا. ﴿وَهَّاجًا﴾: صفة ﴿سِرَاجًا﴾، والجعل هنا بمعنى الخلق، ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف أيضًا ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾، ﴿مَاءً﴾،: مفعول به ﴿ثَجَّاجًا﴾: صفة له ﴿لِنُخْرِجَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿نخرج﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿نخرج﴾، ﴿حَبًّا﴾: مفعول به لـ ﴿نخرج﴾، ﴿وَنَبَاتًا﴾: معطوف على ﴿حَبًّا﴾ ﴿وَجَنَّاتٍ﴾: معطوف على ﴿حَبًّا﴾ أيضًا، وعلامة نصبه الكسرة؛ لأنه من جمع المؤنث السالم، ﴿أَلْفَافًا﴾: صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين ملتفة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام،
47
والجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾ أيضًا؛ أي: أنزلنا منها ما لإخراجنا به حبًا... إلخ. ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه؛ ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ ﴿مِيقَاتًا﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا واقعًا في جواب سؤال مقدر، كأن سائلًا سأل لما أقام الأدلة على البعث، فقال: ما وقت البعث؟ فأجاب بقوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ الخ. ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾: بدل من ﴿يَوْمَ الْفَصْلِ﴾، وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلًا من ﴿مِيقَاتًا﴾، أو منصوب بفعل محذوف تقديره: أعني. ﴿يُنْفَخُ﴾ فعل مضارع مغبر الصيغة ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع، نائب فاعل لـ ﴿يُنْفَخُ﴾، وجملة ﴿يُنْفَخُ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿فَتَأْتُونَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة ﴿تأتون﴾: فعل مضارع مرفوع بالنون، والواو: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُنْفَخُ﴾. ﴿أَفْوَاجًا﴾: حال من فاعل ﴿تأتون﴾، ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾: فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿تأتون﴾، وعدل فيه إلى المضي إشارة إلى تحقق الوؤوع، وقيل: الواو حالية، والجملة في محل النصب على الحال؛ أي: فتأتون والحال أن السماء قد فتحت، ﴿فَكَانَتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿كانت﴾: فعل ماضٍ ناقص معطوف على ﴿فُتِحَتِ﴾، واسمها ضمير يعود على ﴿السَّمَاءُ﴾، ﴿أَبْوَابًا﴾: خبرها، ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾: فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿يُنْفَخُ﴾، ﴿فَكَانَتْ﴾: فعل ماضٍ ناقص معطوف على ﴿سُيِّرَتِ﴾، واسمها ضمير يعود على ﴿الْجِبَالُ﴾. ﴿سَرَابًا﴾: خبرها، ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة ﴿كَانَتْ﴾: فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿جَهَنَّمَ﴾. ﴿مِرْصَادًا﴾: خبرها؛ أي: راصدة للمعذبين بها مترقبة لهم، أو مرصدة بمعنى: معدة؛ فهو إما من رصد الثلاثي بمعنى ترقب، وإما من أرصد الرباعي؛ أي: أعده ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ متعلق بـ ﴿مِرْصَادًا﴾، و ﴿مَآبًا﴾: خبر ثانٍ لـ ﴿مِرْصَادًا﴾؛ أي: مثابة يثوبون إليها ويرجعون، ويجوز تعلق ﴿لِلطَّاغِينَ﴾ بـ ﴿مَآبًا﴾.
﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (٢٤) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (٢٥) جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)﴾.
﴿لَابِثِينَ﴾: حال مقدرة من الضمير المستكن في ﴿لِلطَّاغِينَ﴾، ﴿فِيهَا﴾ متعلقان به
48
﴿أَحْقَابًا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لَابِثِينَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَذُوقُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَذُوقُونَ﴾. ﴿بَرْدًا﴾: مفعول به. ﴿وَلَا شَرَابًا﴾: معطوف على ﴿بَرْدًا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿لَابِثِينَ﴾؛ أي: لابثين هم فيها حال كونهم غير ذائقين، فهي حال متداخلة، أو صفة لـ ﴿أَحْقَابًا﴾، وقيل: مستأنفة ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿حَمِيمًا﴾: بدل من ﴿شَرَابًا﴾؛ لأن الكلام غير موجب، ﴿وَغَسَّاقًا﴾: معطوف على ﴿حَمِيمًا﴾، وهذا أسهل مما سلكه المفسرون، فقد قال بعضهم: إنه استثناء منقطع، وعليه جرى في "الكشاف" قال: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ ينفس عنهم حر النار، ﴿وَلَا شَرَابًا﴾ يسكن عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميمًا، وتبعه الجلال، وقال أبو حيان: والظاهر أنه متصل من قوله: ﴿وَلَا شَرَابًا﴾. ﴿جَزَاءً﴾: مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: جوزوا بذلك جزاء، ﴿وِفَاقًا﴾: صفة لـ ﴿جَزَاءً﴾، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانُوا﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿جَزَاءً﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿لَا يَرْجُونَ﴾ خبرها ﴿حِسَابًا﴾: مفعول ﴿يَرْجُونَ﴾؛ أي: محاسبة. ﴿وَكَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿كَانُوا﴾ على كونها خبرًا؛ لأن ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿كِذَّابًا﴾: مفعول مطلق منصوب بـ ﴿كَذَّبُوا﴾؛ أي: تكذيبًا. ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾، ﴿الواو﴾: اعتراضية ﴿كل شيء﴾: منصوب على الاشتغال بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وأحصينا كل شيء أحميناه ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿كل شيء﴾: مفعول به، والجملة جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين المسبب وسببه، فإن قوله الآتي ﴿فَذُوقُوا﴾ مسبب عن تكذيبهم، وفائدة الاعتراض تقرير ما ادعاه من قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)﴾. ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب ﴿كِتَابًا﴾: يجوز أن يكون مصدرًا من معنى ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾؛ أي: أحصيناه إحصاءًا؛ أي: كتبناه كتابًا؛ لأن أحصيناه بمعنى: كتبنا؛ لالتقاء الإحصاء والكتابة في معنى الضبط والتحصيل، أو يكون مصدرًا لـ ﴿أحصينا﴾، ويجوز أن يكون حالًا بمعنى مكتوبًا، ﴿فَذُوقُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة لقول محذوف على ﴿كَذَّبُوا﴾ تقديره: فقيل لهم: ذوقوا إلخ ﴿ذوقوا﴾ إلخ نائب فاعل محكي لقيل المحذوف، وجملة
49
القول المحذوف معطوفة على ﴿كَذَّبُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿ذوقوا﴾: فعل أمر وفاعل، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لقيل، ومفعول الذوق محذوف، تقديره: فذوقوا جزاءكم، ومفعول به أوّل معطوف على ﴿ذوقوا﴾. ﴿فَلَنْ نَزِيدَكُمْ﴾ ناصب وفعل منصوب بالفتحة ومفعول به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به ثانٍ.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣) وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (٣٥) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٣٨)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: خبرها مقدم ﴿مَفَازًا﴾: اسمها مؤخر والجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان أحوال أهل الجنة، ﴿حَدَائِقَ﴾: بدل من ﴿مَفَازًا﴾: بدل بعض من كل ﴿وَأَعْنَابًا﴾: معطوف على ﴿حَدَائِقَ﴾ ﴿وَكَوَاعِبَ﴾: معطوف على ﴿حَدَائِقَ﴾ أيضًا، ﴿أَتْرَابًا﴾: صفة لـ ﴿كواعب﴾، ﴿وَكَأْسًا﴾: معطوف على ﴿حَدَائِقَ﴾ أيضًا، ﴿دِهَاقًا﴾: صفة لـ ﴿كَأْسًا﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يسمعون﴾: فعل وفاعل ﴿فِيهَا﴾، متعلق بـ ﴿يَسْمَعُونَ﴾، ﴿لَغْوًا﴾: مفعول به، ﴿وَلَا كِذَّابًا﴾: معطوف على ﴿لَغْوًا﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾، ﴿جَزَاءً﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: جزاهم الله بذلك جزاء، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: صفة لـ ﴿جَزَاءً﴾، ﴿عَطَاءً﴾: بدل من ﴿جَزَاءً﴾، وفي هذا البدل سر لطيف، وهو الإلماع إلى أن ذلك تفضل وعطاء، و ﴿جَزَاءً﴾ مبني على الاستحقاق، و ﴿حِسَابًا﴾: نعت لـ ﴿عَطَاءً﴾، والمعنى: كافيًا، فهو مصدر أقيم مقام الوصف، كما مر، أو باقٍ على مصدريته مبالغة، ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾: بدل من ﴿رَبِّكَ﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَمَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف مكان، متعلق بمحذوف صلة ﴿وَمَا﴾، ﴿الرَّحْمَنِ﴾ بدل من ﴿رَبِّ﴾، أو نعت له ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَمْلِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿يَمْلِكُونَ﴾، ﴿خِطَابًا﴾: مفعول به ﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾، أو بـ ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾، ﴿يَقُومُ الرُّوحُ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾ معطوف على ﴿الرُّوحُ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر بإفة الظرف إليه، ﴿صَفًّا﴾: حال من الفاعل، أي:
50
مصطفين، وجملة ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ تأكيد لقوله: ﴿لَا يَمْلِكُونَ﴾، أو مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع بدل من الواو في ﴿يَتَكَلَّمُونَ﴾، أو في محل النصب على الاستثناء؛ لأن الكلام غير موجب ﴿أَذِنَ﴾: فعل ماضٍ ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿أَذِنَ﴾. ﴿الرَّحْمَنُ﴾: فاعل، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَقالَ﴾: فعل ماضٍ معطوف على ﴿أَذِنَ﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿صَوَابًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: قولًا صوابًا.
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (٣٩)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ ﴿الْيَوْمُ﴾: بدل منه، ﴿الْحَقُّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿فَمَن﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصح عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر بهذه المثابة، وأردتم بيان ما هو الأصلح لكم.. فأقول لكم: ﴿من شاء﴾: ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، كما مَرَّ مرارًا ﴿شَاءَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿من﴾، ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: فمن شاء اتخاذ مآب إلى ربه. ﴿اتَّخَذَ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿من﴾ الشرطية، ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾: متعلق بـ ﴿مَآبًا﴾، و ﴿مَآبًا﴾: مفعول ﴿اتَّخَذَ﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (٤٠)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَنْذَرْنَاكُمْ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿أَنْذَرْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول، و ﴿عَذَابًا﴾ مفعول به ثانٍ، ﴿قَرِيبًا﴾ صفة ﴿عَذَابًا﴾. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿عَذَابًا﴾؛ أي: عذابًا قريبًا كائنًا ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ﴾، أو متعلق بـ ﴿عَذَابًا﴾، ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَنْظُرُ﴾. ﴿قَدَّمَتْ﴾: فعل ماضٍ، والتاء علامة تأنيث
51
الفاعل ﴿يَدَاهُ﴾: فاعل ومضاف إليه مرفوع بالألف؛ لأنه مثنى، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَنْظُرُ الْمَرْءُ﴾ ﴿يَا﴾: حرف تنبيه، أو حرف نداء، والمنادى محذوف؛ أي: يا هؤلاء القوم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿وَيَقُولُ﴾، ﴿لَيْتَنِي﴾: ليت حرف تمنٍّ ونصب، والنون نون الوقاية؛ لأنها تقي حركة البناء الأصلي في الحرف، والياء ضمير المتكلم في محل النصب اسمها، ﴿كُنْتُ تُرَابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿ليت﴾ وجملة ﴿ليت﴾ في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَمَّ﴾ أصله: عن ما، والأصل في ﴿ما﴾ الاستفامية أنها إذا جرت حذف ألفها، ما ذكره ابن مالك بقوله:
وَمَا فِي الاسْتِفهامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ ألِفُهَا وَأوْلهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وقد وقف عليها ابن كثير في رواية البزي عنه بهاء السكت على خلاف عنه، وفي ذلك قال الشاطبي:
وَفِيْمهْ وَممَّهْ قِفْ وَعَمَّهْ لِمَهْ بِمَهْ بِخُلْفِ عَنِ الْبَزِّيِّ وَادْفَعْ مُجَهِّلَا
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)﴾؛ أي: عن أي شيء يسأل بعضهم بعضًا من التساؤل الذي يدل على المشاركة.
﴿عَنِ النَّبَإِ﴾ والنبأ: الخبر الذي يعني به ويهتم بشأنه، والمراد به: خبر البعث من القبور، والعرض على مالك يوم الدين.
﴿كَلَّا﴾ كلمة تفيد رد ما تقدم من الكلام ونفيه. ﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾: تأكيد لفظي لما قبله على ما قاله ابن مالك، ولا يضر توسط حرف العطف، والنحويون يمنعون هذا، ولا يسمونه إلا عطفًا، وإن أفاد التأكيد. اهـ "سمين".
وقيل: الأول عند النزع، والثاني: في القيامة. وقيل: الأول للبعث، والثاني: للجزاء. اهـ "بيضاوي". وقال زاده: ثم موضوعة للتراخي الزمانى، وقد استعمل هنا للتراخي الرتبي تشبيهًا لتباعد الرتبة بتباعد الزمان. اهـ.
52
﴿مِهَادًا﴾ والمهاد - بكسر الميم -: البساط والفراش، وقال بعضم: المهاد: مصدر ماهدت بمعنى مهدت، كسافرت بمعنى: سفرت، أطلق على الأرض الممهودة؛ أي: المبسوطة المفروشة كالمهد للصبي، ويجوز أن يكون جمع مهد، ككعاب جمع كعب، وجمعه لاختلاف أماكن الأرض من القرى، والبلدان والصحارى والعمران، أو للتصرف فيها بأن جعل بعضها مزارع وبحضها مساكن إلى غير ذلك.
وقرىء: ﴿مهدًا﴾ على تشبيهها بمهد الصبي، وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر، ففي الكلام حينئذٍ تشبيه بليغ.
﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧)﴾ جمع وتد، كأكتاف وكتف، وهو ما يدق في الأرض ليربط إليه الحبل الذي تشد به الخيمة، وقيل: هو ما يوتد ويحكم به المتزلزل المتحرك من اللوح وغيره.
﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (٨)﴾؛ أي: أصنافًا ذكورًا وإناثًا، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتسنى التناسل، واحدها: زوج، ويطلق على الذكر والأنثى، ويقال لكل واحد من القرينين المزدوجين: حيوانًا أو غيره؛ كالخف والنعل، ولا يقال للإثنين زوج، بل زوجان، ولذا كان الصواب أن يقال: قرضته بالمقراضين، وقصصته بالمقصين؛ لأنهما اثنان، لا بالمقراض وبالمقص، كذا قال الحريري في "درة الغواص"، وقال صاحب "القاموس": يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج. انتهى. ولعله من قبيل الاكتفاء بأحد الشقين عن الآخر، وزوجة للمرأة لغة رديئة، لقوله تعالى: ﴿يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، ويقال لكل ما يقترن بآخر مماثلًا له، أو مضادًا: زوج، ولذا قال بعضهم في الآية: وخلقناكم حال كونكم معروضين لأوصاف متقابلة، كل واحد منها مزدوج بما يقابله؛ كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والعلم والجهل، والقوة والضعف، والذكورة والأنوثة، والطول والقصر، إلى غير ذلك.
وبه يصح الابتلاء، فإن الفاضل يشتغل بالشكر، والمفضول بالصبر، ويعرف قدر النعمة عند الترقي من الصبر إلى الشكر، وكل ذلك دليل على كمال القدرة ونهاية الحكمة.
53
﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ﴾ والنوم: استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه، ولذا قلَّ النوم في أهل رياضة النفس؛ لقلة الرطوبات فيهم. ﴿سُبَاتًا﴾؛ أي: راحةً أو موتًا؛ أي: كالموت، والمسبوت: الميت من السبت، وهو القطع؛ لأنه مقطوع عن الحركة، ومنه سمي يوم السبت؛ لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت، فسمي بذلك، وقيل: السبات - بضم السين -: قطع الحركة لتحصيل الراحة.
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠)﴾؛ أي: كاللباس، واللباس: ما يلبسه الإنسان ليستر به جسمه ويغطيه.
﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)﴾؛ أي: وقتًا لتحصيل أسباب المعاش والحياة، وهو مصدر ميمي من عاش يعيش عيشًا ومعاشًا ومعيشة وعيشة، وعلى هذا لا بد من تقدير المضاف، ولذا قدروا لفظ الوقت، ويحتمل أن يكون اسم زمان على صيغة مفعل، فلا حاجة حينئذٍ إلى تقدير المضاف، وتفسيره بوقت معاش إبراز لمعنى صيغة اسم الزمان، وتفصيل لمفهومها، وأصله: معيشًا بوزن: مفعل، نقلت حركة الياء إلى العين، فسكنت، لكنها قلبت ألفًا. لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال.
﴿سَبْعًا شِدَادًا﴾؛ أي: سبع سموات قوية محكمة، لا فطور فيها، ولا تصدع.
﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ والسراج: ما يضيء وينير، والوهاج: المتلألىء، والمراد به: الشمس.
﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ والمعصرات: السحائب، والغيوم إذا أعصرت؛ أي: حان وقت أن تعصر الماء، فيسقط منها. ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾؛ أي: كثير الانصباب عظيم السيلان، والمراد به: المطر، والثج: الانصباب بكثرة وشدة، ويقال: ثج الماء بنفسه؛ أي: انصب، وثججته أنا؛ أي: صببته ثجًا وثجوجًا، فيكون لازمًا ومتعديًا، وفي "المختار": ثج الماء والدم: سال، وبابه رد، ومطر ثجاجٌ؛ أي: منصب جدًّا، والثج أيضًا: سيلان دماء الهدي، وهو لازم، تقول منه ثج الدم يثج بالكسر ثجًا بالفتح.
﴿حَبًّا﴾ والحب: ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير والذرة ونحوها من
54
المطعومات، والحب والحبة - يعني بالكسر - يقال في بزور الرياحين.
﴿وَنَبَاتًا﴾ والنبات: ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش.
﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (١٦)﴾ والجنات: واحدها جنة، وهي الحديقة والبستان فيه الشجر أو النخل، والجنات الألفاف: الملتفة الأغصان لتقاربها، وطول أفنانها، ولا واحد لها؛ كالأوزاع والأخياف كما مر. وقيل: واحدها لف بكسر اللام وفتحها، وقال أبو عبيدة: واحدها لفيف كشريف وأشراف، والأوزاع والأخياف كلاهما بمعنى الجماعات.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ هو يوم القيامة، سمي بذلك؛ لأن الله يفصل فيه بحكمه بين الخلائق ﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾؛ أي: حدًا تنتهي عنده الدنيا، وأصله: موقاتًا بوزن مفعال، قلبت الواو لسكونها إثر كسرة.
﴿فِي الصُّورِ﴾ والصور في الأصل: البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتًا، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه، ويجتمعوا عند النافخ.
﴿أَفْوَاجًا﴾ جمع فوج، وهو جماعة من الناس، وفي "المفردات": الفوج: الجماعة المارة المسرعة.
﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ﴾؛ أي: انشقت وتصدعت من هيبة الله تعالى بعد أن كانت لا فطور فيها.
﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾؛ أي: ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة.
﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾؛ أي: زالت عن أماكنها وتفتت صخورها.
﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾؛ أي: كالسراب، فهي بعد تفتتها ترى كأنها جبال، وليست بجبال، بل غبارًا متراكمًا، والسراب: ما تراه نصف النهار كأنه ماء، قال الراغب: هو اللامع في المفازة كالماء، وذلك لانسرابه في مرأى العين؛ أي: ذهابه وجريانه، وتنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع، يقال: هو أخاع من السراب، يعني: أنها تصير شيئًا كلا شيء، لتفرق أجزائها، وانبثاث جواهرها.
﴿كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ والمرصاد: اسم للمكان الذي يرصد فيه؛ كالمنهاج اسم
55
للمكان الذي ينهج فيه؛ أي: يسلك، قال الراغب: المرصاد: موضع الرصد كالمرصد، وهو هنا: موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها.
﴿لِلطَّاغِينَ﴾؛ أي: للذين طغوا في مخالفة ربهم، ومعارضة أوامره. ﴿أَحْقَابًا﴾ جمع حقب بضمتين، وواحد الحقب: حقبة، وهي مدة مبهمة من الزمان.
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ والبرد: برد الهواء، وقد يراد به: النوم، ومن أمثالهم: منع البرد البرد؛ أي: أصابه من شدة البرد ما منعه النوم.
﴿وَلَا شَرَابًا﴾؛ أي: شرابًا يسكن عطشهم، ويزيل الحرقة عن بواطنهم.
﴿إِلَّا حَمِيمًا﴾ وهو الماء الحار المغلي. ﴿وَغَسَّاقًا﴾؛ أي: قيحًا وصديدًا وعرقًا دائم السيلان من أجسادهم. ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦)﴾؛ أي: موافقًا أعمالهم السيئة. ﴿لَا يَرْجُونَ﴾ لا يتوقعون ﴿حِسَابًا﴾؛ أي: محاسبة على أعمالهم، أو ثواب حساب.
﴿كِذَّابًا﴾؛ أي: تكذيبًا، وفعال من باب فعل المضاعف شائع فيما بين الفصحاء مطرد، مثل: كلم كلامًا.
﴿كِتَابًا﴾ مصدر مؤكد لـ ﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ من غير لفظه كما مر.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١)﴾ مفازًا: مصدر ميمي من فاز الثلاثي، وأصله مفوز بوزن مفعل بفتح العين، نقلت حركة الواو إلى الفاء فسكنت، ثم أبدلت ألفًا لتحركها أصالة، وفتح ما قبلها في الحال؛ أي: إن لهم فوزًا بالنعيم الدائم، والثواب الجسيم. ﴿حَدَائِقَ﴾ جمع حديقة؛ أي: بساتين، فيها أنواع الثمر والحجر، والهمزة فيه مبدلة من الياء الواقع في الاسم المفرد المؤنث الواقعة ثالثًا حرف مد زائدًا.
﴿وَأَعْنَابًا﴾ جمع: عنب، وهو ثمر الكرم.. ﴿وَكَوَاعِبَ﴾ جمع كاعب، وهي التي نهض ثدياها وتكعبا. ﴿أَتْرَابًا﴾: جمع ترب، وهي التي سنها من سن صاحبتها. ﴿وَكَأْسًا﴾ والكأس: إناء من بلور للشراب. ﴿دِهَاقًا﴾؛ أي: ممتلئة، يقال: أدهق الحوض؛ أي: ملأه، قال خداش:
أَتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا فَأتْرَعْنَا لَهُ كَأْسًا دِهَاقَا
﴿لَغْوًا﴾ واللغو: الباطل من الكلام الذي يلغى ولا يعتبر لعدم إفادته. ﴿وَلَا كِذَّابًا﴾؛ أي: تكذيبًا. ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ الهمزة فيه مبدلة من ياء، أصله: جزاي،
56
أبدلت ياؤه همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿عَطَاءً﴾؛ أي: تفضلًا منه، وإحسانًا، أصله: عطاو، أبدلت الواو همزة؛ لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿حِسَابًا﴾؛ أي: كافيًا لهم، تقول: أعطاني فلان حتى أحسبني؛ أي: حتى كفاني بعطائه، قال الشاعر:
فَلَمَّا حَلَلْتُ بِهِ ضَمَّنِيْ فَأوْلَى جَمِيْلًا وَأَعْطَى حِسَابَا
أي: أعطى ما كفى. ﴿خِطَابًا﴾ الخطاب: المخاطبة والمكالمة. ﴿الرُّوحُ﴾ جبريل عليه السلام، ﴿مَآبًا﴾ المآب: المرجع. ﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ﴾ الإنذار: الإخبار بالمكروه قبل وقوعه ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ﴾ والمرء: الإنسان ذكرًا كان أو أنثى ﴿مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾؛ أي: ما صنعه في حياته الأولى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإبهام في قوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)﴾ للإيذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهوله، وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة، كأنه خفي جنسه، فيسأل عنه، فالاستفهام ليس على حقيقته، بل لمجرد التفخيم، فإن المسؤول عنه ليس بمجهول بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ لا يخفى عليه خافية.
ومنها: ذكر السؤال أولًا بقوله: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (١)﴾، ثم ذكر الجواب بقوله: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢)﴾: لأن هذا الأسلوب أقرب إلى التفهيم والإيضاح.
ومنها: وصف النبأ بقوله: ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣)﴾ بعد وصفه بالعظيم؛ تأكيدًا لخطره إثر تأكيد، وإشعارًا بمدار التساؤل عنه.
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ على عامله اهتمامًا به، ورعايةً للفواصل.
ومنها: جعل الصلة فيه جملة اسمية للدلالة على الثبات؛ أي: هم راسخون في الاختلاف فيه.
ومنها: الإطناب بتكرار الجملة للوعيد والتهديد في قوله: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾ للمبالغة في التأكيد والتشديد.
57
ومنها: الإتيان بـ ﴿ثُمَّ﴾ في الجملة الثانية، للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (٦) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (٧)﴾ أصل الكلام: جعلنا الأرض كالمهاد الذي يفترشه النائم، والجبال كالأوتاد التي تثبت الدعائم، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغًا، ومثله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠)﴾؛ أي: كاللباس في الستر والإخفاء، فوجه الشبه: الستر؛ لأن كلًّا من اللباس والليل يستر المتلبس به؛ أي: يستركم عن العيون إذا أردتم النجاة بأنفسكم من عدو يلاحقكم، أو بياتًا له، إذا أردتم إنزال الوقيعة به في منأى عن العيون، أو يعينكم على إخفاء ما لا ترغبون في أن يطلع عليه أحد.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (١٠)﴾ وبين: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (١١)﴾ قابل بين الليل والنهار، والراحة والعمل، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾؛ أي: كالأبواب في التشقق والانصداع، فحذفت الأداة ووجه الشبه، فصار بليغًا.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (١٩)﴾ للدلالة على التحقق، وكذا قوله: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (٢٠)﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾؛ أي: كانت كالسراب الذي يرى نصف النهار كأنه ماء؛ أي: فصارت بتسييرها مثل السراب؛ أي: شيئًا كلا شيء.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (٢٣)﴾؛ لأنه كناية عن التأبيد؛ أي: ماكثين فيها أبدًا.
ومنها: الطباق بين ﴿بَرْدًا﴾ و ﴿حَمِيمًا﴾.
ومنها: الأمر الذي يراد به الإهانة والتحقير في قوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (٣٠)﴾، وفيه أيضًا لالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغةً في التوبيخ والإهانة.
ومنها: التخصيص في قوله: ﴿وَأَعْنَابًا﴾ بعد التعميم في قوله: ﴿حَدَائِقَ﴾ إظهارًا لفضلها على سائر الفواكه.
58
ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾، والروح هو جبريل داخل في الملائكة، فقد ذكر مرتين: مرة استقلالًا، ومرة في ضمن الملائكة تنبيهًا على جلالة قدره.
ومنها: إظهار ﴿الرَّحْمَنِ﴾ في موضع الإضمار في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ للإيذان، بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة، لا أن أحدًا يستحقه عليه تعالى.
ومنها: تقديم المعمول على عامله في قوله: ﴿إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ اهتمامًا به، ورعاية للفواصل.
ومنها: التعبير بالجزء عن الكل في قوله: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ إشعارًا بأن أكثر الأعمال تزوال بها.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
59
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
تضمنت هذه السورة المقاصد التالية:
١ - سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد - ﷺ -.
٢ - تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
٣ - إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
٤ - أحداث يوم القيامة.
٥ - ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
٦ - فوز المتقين بجنات النعيم.
٧ - إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
٨ - إنذار الكافرين بالعذاب الأليم، وتمنيهم في ذلك اليوم أن لو كانوا ترابًا.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا (١).
* * *
(١) فرغنا من تسويد هذه السورة في تاريخ: ٢/ ٧/ ١٤١٦ هـ. سنة ألف وأربع مئة وست عشرة هجرية.
60
سورة النازعات
سورة النازعات - وتسمى: سورة الساهرة، وسورة الطامة - مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة النبأ، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة النازعات بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآيتها: ست أو خمس وأربعون آية، وكلماتها: مئة وثلاث وسبعون كلمةً، وحروفها: تسع مئة وثلاثة وخمسون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى أنذر الكفار في السورة السابقة بعذاب يوم القيامة، وهددهم بجهنم وساءت مصيرًا، وأن عذابهم فيها جزاء موافق لتمودهم وتكذيبهم لرسوله محمد - ﷺ -. وأقسم في هذه السورة على أن البعث والنشور حق لا ريب فيه، وقد أقسم سبحانه في هذه السورة بأصناف من مخلوقاته على أن ما جاء به رسوله محمد - ﷺ - من حشر الناس، وعرضهم على ربهم لينال كل عامل جزاء عمله، حق لا ريب فيه، وأيضًا أن يوم ترجف الراجفة من مبادىء النبأ العظيم.
الناسخ والمنسوخ: وهذه السورة كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة النازعات؛ لذكر النازعات فيها.
والله أعلم
* * *
61

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (١) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (٢) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (٣) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (٤) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (٨) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (١٠) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (١٥) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (١٩) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصَى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (٢٢) فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (٢٥) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (٣٢) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (٣٣) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾.
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وقد بدأ الله سبحانه هذه السورة بالحلف بأصناف من مخلوقاته، إن ما جاء به رسوله - ﷺ - من أمر البعث، وعرض الخلائق على ربهم لينال كل عامل جزاء عمله، حق لا ريب فيه في يوم تعظم فيه الأهوال، وتضطرب القلوب، وتخشع الأبصار، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظامًا نخرة، تمر فيها الرياح، ويتحققون أن صفقتهم كانت في الدنيا خاسرة؛ إذ إنهم أنكروا في الدنيا معادهم.
قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكار البعث، وتماديهم
62
في العتو والطغيان، واستهزاءهم بالرسول - ﷺ -، وكان ذلك يشق عليه، ويصعب على نفسه.. ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر، وبين له أنه قد بلغ في الجبروت حدًا لم يبلغه قومك، فقد ادعى الألوهية، وألب قومه على موسى، وكان موسى مع هذا كله يتحمل المشاق العظام في دعوته إلى الإيمان، ليكون ذلك تسليةً لرسوله - ﷺ -، عما يلاقيه من قومه من شديد العناد، وعظيم الإعراض، يرشد إلى ذلك قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾. وفي ذلك عبرة أخرى لقومه، وهي أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة، وأشد شوكة، وأعظم سلطانًا، لما تمرد على موسى عليه السلام، وعصى أمر ربه.. أخذه الله نكال الآخرة والأولى، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آيةً، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم، وقوي سلطانكم.. لم تبلغوا مبلغ فرعون، فأخذكم أهون على الله منه. وفي هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا بالله ورسوله.. فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه، كما قال في آية أخرى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (١٤)﴾.
قوله تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص على المشركين قصص موسى عليه السلام مع فرعون، وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ فرعون ونكل به، وجعله عبرة للباقين، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له، وعدم إيمانهم بما جاءهم به.. أخذ يخاطب منكري البعث وينبههم إلى أنه لا ينبغي لهم أن يجحدوه، فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها على حكمة مبدعها وعظيم قدرته وواسع حكمته وإلى خلق الأرض التي دحاها، وجعلها معدة للسكنى، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء، وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله
(١) المراغي.
63
سبحانه لما بين (١) أنه قادر على نشر الأموات، كما قدر على خلق الأكوان.. بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين كائن لا بد منه، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة، حين تعرض الأعمال على العالمين، فيتذكر كل امرىء ما عمل، ويظهر الله الجحيم، وهي دار العذاب للعيان، فيراها كل ذي بصر، وفي ذلك اليوم يوزع الجزاء على العالمين؛ فأما من جاوز الحدود التي حدها الله سبحانه في شرائعه، وفضل لذائذ الدنيا على ثواب الآخرة.. فدار العذاب مستقره ومأواه، وأما من خاف مقامه بين يدي ربه في ذلك اليوم، وزجر نفسه عن هواها، فلم يجر وراء شهواتها.. فالجنة منزله ومأواه، جزاء ما قدمت يداه.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...﴾ الآيات، مناسبتا لما قبلها: أنه لما كان المشركون يسألون الرسول عنادًا واستهزاءً عن الساعة، ويطلبون إليه أن يعجل بها، كما يرشد إلى ذلك: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾، وربما سألوه عن تحديد وقتها، فكان النبي - ﷺ - يردد في نفسه ما يقولون، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون، كما هو شأن الحريص على الهداية المجد في الإقناع.. نهاه الله سبحانه وتعالى عن تمني ما لا يرجى، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك، فإن علمها عند ربك، وإنما شأنك أن تنذر من يخافا فتنبهه من غفلته، حتى يستعد لما يلقاه حينئذٍ.
أما هؤلاء المعاندون: فدعهم في غوايتهم، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون، فإذا جاء هذا اليوم.. خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفًا من نهار أوله أو آخره، ولم يلبثوا نهارًا كاملًا لمفاجأتها لهم على غير استعداد لوقوعها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) سعيد بن منصور عن محمد بن كعب قال: لما نزل قوله تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ
(١) المراغي.
(٢) لباب النقول.
64
Icon