تفسير سورة المؤمنون

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف.

﴿ بسم الله ﴾ الذي له الأمر كله ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم إنعامه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال :«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل، فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة حتى سرّي عنه، فاسقبل القبلة ورفع يديه فقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، ثم قال : لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة »، ثم قرأ :﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾.
حتى ختم العشرة آيات، قال ابن عباس : قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة، وقيل : الفلاح البقاء والنجاة، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي وغيره.
تنبيه : قال الزمخشري قد نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه، ولا شك أنّ المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. فإن قيل : ما المؤمن ؟ أجيب : بأنه في اللغة هو المصدق وأما في الشريعة فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما : أنّ كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه، فهو مؤمن والآخر أنه صفة مدح لا يستحقها إلا البر التقي دون الفاسق، ثم إنه تعالى حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعاً لصفات سبعة :
الصفة الأولى : كونهم مؤمنين.
الصفة الثانية : المذكورة في قوله تعالى :﴿ الذين هم ﴾ أي : بضمائرهم وظواهرهم ﴿ في صلاتهم خاشعون ﴾ قال ابن عباس : مخبتون أذلاء، وقيل : خائفون، وقيل : متواضعون، وعن قتادة : الخشوع إلزام موضع السجود، روى الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين :«أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي رافعاً بصره إلى السماء، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره إلى نحو مسجده » أي : موضع سجوده وكان الرجل إذا قام إلى الصلاة هاب الرحمن أنّ يشدّ بصره إلى شيء أو يحدّث بشيء من شأنّ الدنيا، وقيل : هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها، ومن الخشوع أنّ يستعمل الأدب فيتوقى كف الثوب والعبث بجسده وثيابه والتشبيك والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم والسدل والفرقعة والاختصار، وتقليب الحصى ؛ روى الترمذي لكن بسند ضعيف :«أنه صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه »، ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زوّجني الحور العين فقال : بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث، وعنه أنه قال : كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع، وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله وهو في الصلاة فلا صلاة له، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها »، وقال صلى الله عليه وسلم «كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب » وقال :«من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ».
فينبغي للشخص أنّ يحتاط في صلاته ليوقعها على التمام، فإنّ بعض العلماء اختار عدم الإمامة، فقيل له في ذلك، فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أنّ يعاتبني الشافعيّ وإن قرأتها أنّ يعاتبني أبو حنيفة فاخترت عدم الإمامة طلباً للخلاص من هذا الخلاف. فإن قيل : لم أضيفت الصلاة إليهم ؟ أجيب : بأنّ الصلاة وصلة بين الله وبين عباده والمصلي هو المنتفع بها وحده، وهي عدّته وذخيرته فهي صلاته، وأما الله تعالى فهو غنيّ متعالٍ عن الحاجة إليها والانتفاع بها.
الصفة الثالثة المذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين هم ﴾ أي : بضمائرهم التي تتبعها ظواهرهم ﴿ عن اللغو ﴾ قال ابن عباس : عن الشرك ﴿ معرضون ﴾ أي : تاركون، وقال الحسن : عن المعاصي، وقال الزجاج : هو كل باطل ولهو وما لا يحمد من القول والفعل، وقيل : هو كل ما لا يعني الشخص من قول أو فعل وهو ما يستحق أنّ يسقط ويلغى، فمدحهم الله تعالى بأنهم معرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه هو بأنّ لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال تعالى :﴿ وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً ﴾ [ الفرقان، ٧٢ ] أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه.
الصفة الرابعة المذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين هم للزكاة فاعلون ﴾ أي : مؤدون.
تنبيه : الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين هو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى المستحق والمعنى فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو المراد هنا ؛ لأنه ما من مصدر إلا ويعبر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه : فاعل، تقول للضارب : فاعل الضرب، وللقاتل : فاعل القتل، وللمزكي : فاعل التزكية، ويجوز أنّ يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء، وقيل : الزكاة هنا هي العمل الصالح ؛ لأنّ هذه السورة مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة قال البقاعي : والظاهر أنّ التي فرضت بالمدينة هي ذات النصب، وأنّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة كما قال تعالى في سورة الأنعام :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ [ الأنعام، ١٤١ ] انتهى.
الصفة الخامسة المذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين هم لفروجهم ﴾ في الجماع ومقدّماته ﴿ حافظون ﴾ أي : دائماً لا يتبعونها شهوتها، والفرج اسم لسوأة الرجل والمرأة، وحفظه التعفف عن الحرام.
ثم استثنى من ذلك قوله تعالى :﴿ إلا على أزواجهم ﴾ اللاتي استحقوا أبضاعهنّ بعقد النكاح، ولعلوّ الذكر عبر بعلى ونظيره كان زياد على البصرة أي : والياً عليها، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان، ومن ثم سميت المرأة فراشاً، وقيل : على بمعنى من، وجرى على ذلك البغوي ﴿ أو ما ملكت إيمانهم ﴾ رقابه من الإماء. فإن قيل : هلا قال تعالى : أو من ملكت ؟ أجيب : بأنه إنما عبر بما لقرب الإماء مما لا يعقل لنقصهن عن الحرائر الناقصات عن الذكر ولأنه اجتمع فيها وصفان : أحدهما : الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والأخرى : كونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع، قال البغوي : والآية في الرجال خاصة ؛ لأنّ المرأة لا يجوز لها أنّ تستمتع بفرج مملوكها ﴿ فإنهم غير ملومين ﴾ على ذلك إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتي، وفي حال الحيض أو النفاس أو نحو ذلك كوطء الأمة قبل الاستبراء، فإنه حرام ومن فعله فإنه ملوم.
﴿ فمن ابتغى ﴾ أي : طلب متعدياً ﴿ وراء ذلك ﴾ العظيم المنفعة الذي وقع استثناؤه بزنا أو لواط أو استمناء بيد أو بهمية أو غيرها ﴿ فأولئك ﴾ المبعدون من الفلاح ﴿ هم العادون ﴾ أي : المبالغون في تعدّي الحدود، عن سعيد بن جبير قال : عذب الله تعالى أمّة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، أي : في أيديهم، وقيل : يحشرون وأيديهم حبالى.
الصفة السادسة : المذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين هم لأماناتهم ﴾ أي : في الفروج وغيرها سواء كانت بينهم وبين الله كالصلاة والصيام، أو بينهم وبين الخلق كالودائع والبضائع، أو في المعاني الباطنة كالإخلاص والصدق ﴿ وعهدهم راعون ﴾ أي : حافظون بالقيام والرعاية والإصلاح، والعهد ما عقده الشخص على نفسه فيما يقربه إلى ربه، ويقع أيضاً على ما أمر الله تعالى به كقوله تعالى :﴿ قالوا إن الله عهد إلينا ﴾ [ آل عمران، ١٨٣ ].
تنبيه : سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً، ومنه قوله تعالى :﴿ إنّ الله يأمركم أنّ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها ﴾ [ النساء، ٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ [ الأنفال، ٢٧ ]، وإنما تؤدّى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها. وقرأ ابن كثير : لأمانتهم بغير ألف بين النون والتاء على الإفراد لا من الإلباس أو لأنها في الأصل مصدر، والباقون بالألف على الجمع.
الصفة السابعة المذكورة في قوله تعالى :﴿ والذين هم على صلواتهم ﴾ التي وصفوا بالخشوع فيها ﴿ يحافظون ﴾ أي : يواظبون عليها ولا يتركون شيئاً من مفروضاتها ولا مسنوناتها يجتهدون في كمالاتها جهدهم، ويؤدّونها في أوقاتها.
فإن قيل : كيف كرّر الصلاة أولاً وآخراً ؟ أجيب : بأنهما ذكران مختلفان فليس بمكرر وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخر بالمحافظة عليها وذلك أنّ لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها، ويقيموا أركانها ويوطنوا أنفسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أنّ تتم به أوصافها، وأيضاً فقد وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أيّ صلاة كانت وجمعت آخراً على غير قراءة حمزة والكسائي، فإنّ غيرهما قرأ بالجمع، وأمّا هما فقرأا بالإفراد لتفاد المحافظة على أعدادها وهي الصلوات الخمس والسنن المرتبة مع كل صلاة، وصلاة الجمعة وصلاة الجنازة والعيدين والكسوفين والاستسقاء، والوتر والضحى وصلاة التسبيح، وصلاة الحاجة، وغيرها من النوافل.
ولما ذكر تعالى مجموع هذه الصفات العظيمة فخم جزاءهم فقال تعالى :
﴿ أولئك ﴾ أي : البالغون من الإحسان أعلى مكان ﴿ هم الوارثون ﴾ أي : المستحقون لهذا الوصف، فيرثون منازل أهل الجنة في الجنة روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله » وقال مجاهد : لكل واحد منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي له في النار »، وقال بعض المفسرين : معنى الوراثة هو أنّ يؤول أمرهم إلى الجنة وينالوها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث.
﴿ الذين يرثون الفردوس ﴾ وهو أعلى الجنة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون عرش الرحمن، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس » اللهمّ بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أنّ تجعلنا ووالدينا وأحبابنا من أهله ﴿ هم فيها خالدون ﴾ أي : لا يخرجون منها ولا يموتون وأنث الفردوس بقوله تعالى :﴿ فيها ﴾، على تأنيث الجنة، وهو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر، روي «أنّ الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وجعل خلالها المسك الإذفر وفي رواية : ولبنة من مسك مذرى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان »، وروي «أنّ الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث »، والمراد أنّ الله تعالى لم يكل ذلك إلى غيره من ملك من الملائكة، والجنة مخلوقة الآن ؛ قال تعالى :﴿ أعدت للمتقين ﴾ [ آل عمران، ١٣٣ ]، ولما أمر سبحانه وتعالى بالعبادات في هذه الآيات والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الله تعالى عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعاً :
الأول : الاستدلال بتقليب الإنسان في أدوار الخلقة وأدوار الفطرة، وهي تسع مراتب.
الأولى : قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ﴾ أي : آدم ﴿ من سلالة ﴾ هي من سللت الشيء من الشيء أي : استخرجته منه، وهو خلاصته، وقال ابن عباس : السلالة صفرة الماء، وقوله تعالى :﴿ من طين ﴾ متعلق بسلالة، وقيل : المراد بالإنسان هذا النوع ؛ والسلالة قال مجاهد : من بني آدم، وقال عكرمة : هو الماء يسيل من الظهر، والعرب تسمي النطفة سلالة، والولد سليلاً وسلالة ؛ لأنهما مسلولان منه.
المرتبة الثانية : قوله تعالى :﴿ ثم جعلناه ﴾ أي : نسله، فحذف المضاف ﴿ نطفة ﴾ أي : منياً من الصلب والترائب بأنّ خلقناه منها ﴿ في قرار مكين ﴾ أي : مستقر حصين هو الرحم.
تنبيه : مكين في الأصل صفة للمستقر في الرحم وصف به المحل للمبالغة كما عبّر عنه بالقرار.
المرتبة الثالثة : قوله تعالى :﴿ ثم ﴾ أي : بعد تراخ في الزمان، وعلوّ في المرتبة والعظمة ﴿ خلقنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ النطفة ﴾ أي : البيضاء جداً ﴿ علقة ﴾ حمراء دماً غليظاً. شديد الحمرة جامداً غليظاً.
المرتبة الرابعة : قوله تعالى :﴿ فخلقنا ﴾ أي : بما لنا من القوة والقدرة العظيمة ﴿ العلقة مضغة ﴾ أي : قطعة لحم قدر ما يمضغ لا شكل فيها ولا تخطيط.
المرتبة الخامسة : قوله تعالى :﴿ فخلقنا المضغة ﴾ أي : بتقليبها بما شئنا لها من الحرارة والأمور اللطيفة الغامضة ﴿ عظاما ﴾ من رأس ورجلين وما بينهما.
المرتبة السادسة : قوله تعالى :﴿ فكسونا ﴾ بما لنا من قوة الاختراع تلك ﴿ العظام لحماً ﴾ بما ولدنا منها ترجيعاً لحالها قبل كونها عظاماً فسترنا تلك العظام، وقويناها وشددناها بالروابط والأعصاب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر : عظاماً، والعظام بفتح العين وإسكان الظاء من غير ألف على التوحيد اكتفاء باسم الجنس عن الجمع، والباقون بكسر العين وفتح الظاء وألف بعدها على الجمع ؛ قال الجلال المحلي : وخلقنا في المواضع الثلاثة بمعنى صيرنا.
المرتبة السابعة : قوله تعالى :﴿ ثم أنشأناه ﴾ أي : هذا المحدث عنه بعظمتنا ﴿ خلقاً آخر ﴾ أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً وناطقاً، وكان أبكم وسميعاً، وكان أصم وبصيراً وكان أكمه وأودع ظاهره وباطنه بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطره وغرائب حكمه لا تدرك بوصف الواصف، ولا تبلغ بشرح الشارح، وثم لما بين الخلقين من التفاوت ؛ قال الزمخشري : وقد احتج به أبو حنيفة رحمه الله فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده، فقال : يضمن البيضة ولا يرد الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة، اه. ولما كان هذا التفصيل لتطوير الإنسان سبباً لتعظيم الخالق ؛ قال تعالى :﴿ فتبارك الله ﴾ أي : تنزه عن كل شائبة نقص وحاز جميع صفات الكمال، وأشار إلى جمال الإنسان بقوله تعالى :﴿ أحسن الخالقين ﴾ أي : المقدرين، ومميز أحسن محذوف أي : خلقا. روي «عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ قوله ﴿ خلقاً آخر ﴾ قال :" فتبارك الله أحسن الخالقين " وروي «أنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا فنزلت فقال عبد الله : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ »، فلحق بمكة كافراً، ثم أسلم يوم الفتح، وروى «سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت يا عمر وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع : الصلاة خلف المقام، وضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن أو ليبدلن الله خيراً منكن فنزل قوله تعالى :﴿ عسى ربه إن طلقكن ﴾ [ التحريم، ٥ ] الآية، والرابع : قلت : فتبارك الله أحسن الخلقين، فقال : هكذا نزل » قال العارفون : هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر والشقاوة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه قيل : إنه مات كافراً ؛ قال الله تعالى :﴿ يضل به كثيراً ويهدي به كثيرا ﴾ [ البقرة، ٢٦ ].
المرتبة الثامنة : قوله تعالى :﴿ ثم إنكم بعد ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من الوصف بالحياة والمد في العمر في آجال متفاوتة ما بين طفل ورضيع ومحتلم شديد وشاب نشيط وكهل عظيم وشيخ هرم إلى ما بين ذلك من شؤون لا يحيط بها إلا اللطيف الخبير ﴿ لميتون ﴾ أي : لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت وهو ميت دون اسم الفاعل، وهو مائت، فإنه للحدوث لا للثبوت.
المرتبة التاسعة : قوله تعالى :﴿ ثم إنكم يوم القيامة ﴾ أي : الذي تجمع فيه جميع الخلائق ﴿ تبعثون ﴾ للحساب والجزاء.
النوع الثاني : من الدلائل الاستدلال بخلق السماوات وهو قوله تعالى :﴿ ولقد خلقنا فوقكم ﴾ في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك ﴿ سبع طرائق ﴾ أي : سموات جمع طريقة ؛ لأنها طرق الملائكة ومتعلقاتهم، وقيل : الأفلاك لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها، وقيل : لأنها طرق بعضها فوق بعض كطارقة النعل، وكل شيء فوقه مثله، فهو طريقة ﴿ وما كنا ﴾ أي : بمالنا من العظمة ﴿ عن الخلق ﴾ أي : الذي خلقناه تحتها ﴿ غافلين ﴾ أي : أنّ تسقط عليهم فتهلكهم بل نمسكها كآية ويمسك السماء أنّ تقع على الأرض إلا بإذنه ولا مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلاف وتدبير أمرها حتى تبلغ منتهى أمرها، وما قدر لها من الكمال حسب ما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة.
النوع الثالث من الدلائل : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيرها في النبات، وهو قوله تعالى :﴿ وأنزلنا من السماء ﴾ أي : من جرمها وهو ظاهر اللفظ وعليه أكثر المفسرين أو من السحاب وسماه سماء لعلوه ﴿ ماء بقدر ﴾ أي : بقدر ما يكفيهم لمعاشهم في الزرع والغرس والشرب وأنواع المنفعة، ويسلمون معه من المضرة إذ لو كان فوق ذلك لأغرقت البحار الأقطار، ولو كان دون ذلك لأدّى إلى جفاف النبات والأشجار ﴿ فأسكناه ﴾ أي : فجعلناه ثابتاً مستقراً ﴿ في الأرض ﴾ كقوله تعالى :﴿ فسلكه ينابيع في الأرض ﴾ [ الزمر، ٢١ ]، و«عن ابن عباس عن النبي : صلى الله عليه وسلم أنّ الله تعالى أنزل من الجنة خمسة أنهار سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا العراق، والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس من أصناف معايشهم، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء » وذلك قوله تعالى :﴿ وإنا على ذهاب به لقادرون ﴾ قدرة هي في نهاية العظمة، فإنّا كما قدرنا على إيجاده واختراعه نقدر على رفعه وإزالته وزواله، فإذا رفعت هذه الأشياء كلها من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا ؛ قال البغوي : وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن سفيان عن عثمان بن سعيد عن سابق الإسكندري عن سلمة بن علي عن مقاتل بن حبان.
تنبيه : في تنكير ذهاب إيماء إلى تكثير طرقه، وفيه إيذان باقتدار المذهب وأنه لا يتعايا عليه شيء إذا أراده، وهو أبلغ في الإيعاد من قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إنّ أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين ﴾ [ الملك، ٣٠ ]، فعلى العباد أنّ يستعظموا النعمة في الماء ويقيدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفادها إذا لم تشكر.
ثم إنه تعالى سبحانه لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ذكر بعده هذه النعمة الحاصلة من الماء بقوله تعالى :﴿ فأنشأنا ﴾ أي : فأخرجنا وأحيينا ﴿ لكم ﴾ خاصة لا لنا ﴿ به ﴾ أي : بذلك الماء الذي جعلنا منه كل شيء حي ﴿ جنات ﴾ أي : بساتين ﴿ من نخيل وأعناب ﴾ صرح بهذين الصنفين لشرفهما ولأنهما أكثر ما عند العرب من الثمار، وسمى الأوّل باسم شجرته لكثرة ما فيها من المنافع المقصودة بخلاف الثاني، فإنه المقصود من شجرته، وأشار إلى غيرهما بقوله تعالى :﴿ لكم ﴾ أي : خاصة ﴿ فيها ﴾ أي : الجنات ﴿ فواكه كثيرة ﴾ تتفكهون بها ﴿ ومنها ﴾ أي : ومن الجنات من ثمارها وزروعها ﴿ تأكلون ﴾ رطباً ويابساً وتمراً وزبيباً.
وقوله تعالى :﴿ وشجرة ﴾ عطف على جنات أي : وأنشأنا لكم شجرة أي : زيتونة ﴿ تخرج من طور سيناء ﴾ وهو الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه السلام بين مصر وإيلة، وقيل : بفلسطين، وفي رواية أخرى : طور سينين، ولا يخلو إما أنّ يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء أو سينين، وإما أنّ يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس، وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء وهو نافع وابن كثير وأبو عمرو، فقد منع الصرف للتعريف والعجمة والتأنيث لأنها بقعة، وفعلاء لا تكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن قرأ بفتح السين وهم الباقون لم يصرفه ؛ لأنّ الألف للتأنيث كصحراء ؛ قال مجاهد : معناه البركة أي : من جبل مبارك، وقال قتادة : معناه الحسن أي : الجبل الحسن، وقال الضحاك : هو بالقبطية ومعناه الحسن، وقال عكرمة : بالحبشية، وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة، فهو سيناء وسينين بلغة القبط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ﴿ تنبت ﴾ بضم التاء الفوقية، و كسر الباء الموحدة من الرباعي، والباقون بفتح الفوقية وضم الموحدة من الثلاثي فقوله تعالى :﴿ بالدهن ﴾ تكون الباء على الأول زائدة، وعلى الثاني معدية قال المفسرون : وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل ؛ لأنّ منه تشعبت في البلاد وانتشرت ؛ ولأنّ معظمها هناك.
قال بعض المفسرين : وإنما عرف الدهن ؛ لأنه أجل الأدهان وأكملها، وهو في الأصل مائع لزج خفيف يتقطع ولا يختلط بالماء الذي هو أصله فيسرج ويدهن به، وقوله تعالى :﴿ وصبغ للآكلين ﴾ عطف على الدهن أي : إدام يصبغ اللقمة بغمسها فيه، وهو الزيت ؛ قيل : إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ووصفها الله تعالى بالبركة في قوله تعالى :﴿ يوقد من شجرة مباركة ﴾ [ النور، ٣٥ ].
النوع الرابع من الدلائل : الاستدلال بأحوال الحيوانات، وهو قوله تعالى :
﴿ وإن لكم في الأنعام ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم ﴿ لعبرة ﴾ عظيمة تعتبرون بها وتستدلون بها على البعث وغيره ﴿ نسقيكم مما في بطونها ﴾ أي : اللبن نجعله لكم شراباً نافعاً للبدن موافقاً للشهوة تلتذون به من بين الفرث والدم ﴿ ولكم فيها ﴾ أي : جماعة الأنعام، وقدم الجار تعظيماً لمنافعها حتى كأنّ غيرها عدم ﴿ منافع كثيرة ﴾ باستسلامها لما يراد منها مما لا يتيسر من أصغر منها وبأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وغير ذلك من آثارها ﴿ ومنها تأكلون ﴾ أي : وكما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضاً بسهولة من غير امتناع مّا من شيء من ذلك ولو شاء لمنعها وسلطها عليكم، ولو شاء لجعل لحمها لا ينضج أو جعله قذراً لا يؤكل، ولكنه بقدرته وعلمه هيأها لما ذكر وذللها.
﴿ وعليها ﴾ أي : الأنعام الصالحة للحمل وهي الإبل والبقر، وقيل : المراد الإبل خاصة ؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفن في قوله تعالى :﴿ وعلى الفلك تحملون ﴾ لأنها سفائن البر، فكما يحمل على الفلك في البحر فيحمل على هذه في البر قال ذو الرمة في المعنى :
سفينة بر تحت خدي زمامها ***
قال الزمخشري : يريد صيدحه أي : ناقته ؛ لأنّ اسمها كان صيدح قال :
رأيت الناس ينتجعون غيثاً فقلت لصيدح انتجعي بلالا
يريد بلال بن أبي بردة الأشعري والي الكوفة.
ولما بيّن سبحانه وتعالى دلائل التوحيد أردفها بذكر القصص كما هو العادة في سائر السور مبتدئاً بقصة نوح عليه السلام، فقال تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ نوحاً ﴾ وهو الأب الثاني بعد آدم عليهما الصلاة والسلام، وكان اسمه يشكر، وسمي نوحاً لوجوه : أحدها : لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم الله تعالى بالطوفان، فندم على ذلك، ثانيها : لمراجعته ربه في شأنّ ابنه، ثالثها : أنه مرّ بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. ﴿ إلى قومه ﴾ وهم جميع أهل الأرض لتواصل ما بينهم لكونهم على لغة واحدة محصورين لا أنه أرسل إلى الخلق كافة ؛ لأنّ ذلك من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء ﴿ فقال ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنّ قال ﴿ يا قوم ﴾ ترفقاً بهم ﴿ اعبدوا الله ﴾ وحده لأنه إلهكم وحده لاستحقاقه لجميع خلال الكمال، واستأنف على سبيل التعليل قوله :﴿ ما لكم من إله ﴾ أي : معبود بحق ﴿ غيره ﴾ فلا تعبدوا سواه ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي : أفلا تخافون عقوبته إن عبدتم غيره، وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء، والباقون بضمهما.
﴿ فقال ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أنّ كذبوه بأنّ قال ﴿ الملأ ﴾ أي : الأشراف الذي تملأ رؤيتهم الصدور عظمة ﴿ الذين كفروا من قومه ﴾ لعوامهم ﴿ ما هذا ﴾ أي : نوح عليه السلام ﴿ إلا بشر مثلكم ﴾ أي : فلا يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أنّ يكون بعض البشر نبياً، ولم ينكروا أنّ يكون بعض الطين إنساناً وبعض الماء علقة، وبعض العلقة مضغة إلى آخره، فكأنه قيل : ما حمله على ذلك فقالوا :﴿ يريد أنّ يتفضل ﴾ يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا ﴿ عليكم ﴾ لتكونوا أتباعاً له ولا خصوصية له دونكم ﴿ ولو شاء الله ﴾ أي : الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره ﴿ لأنزل ﴾ كذلك ﴿ ملائكة ﴾ رسلاً بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري : وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضوا للألوهية بحجر ﴿ ما سمعنا بهذا ﴾ أي : الذي دعا إليه نوح من التوحيد ﴿ في آبائنا الأولين ﴾ أي : الأمم الماضية.
﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو إلا رجل به جنة ﴾ أي : جنون ولأجله يقول ما يدعيه ﴿ فتربصوا به ﴾ أي : فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه ﴿ حتى ﴾ أي : إلى ﴿ حين ﴾ لعله يفيق أو يموت.
فكأنه قيل : فما قال ؟ فقيل :﴿ قال ﴾ عندما أيس من فلاحهم ﴿ رب انصرني ﴾ أي : أعني عليهم ﴿ بما كذبون ﴾ أي : بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.
﴿ فأوحينا ﴾ أي : فتسبب عن دعائه أنّ أوحينا ﴿ إليه أنّ اصنع الفلك ﴾ أي : السفينة ﴿ بأعيننا ﴾ أي : إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء، فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم، روي أنه لما أوحي إليه أنّ يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ؛ قال الجوهري : جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجئ. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى :﴿ ووحينا ﴾ أي : وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة، ووصف كيفية اتخاذها له، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود ﴿ فإذا جاء أمرنا ﴾ أي : بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب ﴿ وفار التنور ﴾ قال ابن عباس : وجه الأرض، وفي القاموس : التنور الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وعن قتادة : أنه أشرف موضع في الأرض أي : أعلاه، وعن علي : طلع الفجر، وعن الحسن : أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه، وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس، والأقرب كما قال الرازي، وعليه أكثر المفسرين، هو التنور المعروف بتنور الخباز، فيكون له فيه آية، روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته، فركب وقيل : كان تنور آدم، وكان من حجارة، فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد، وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة، وقيل : بالهند.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل ﴿ فاسلك ﴾ أي : أدخل ﴿ فيها ﴾ أي : السفينة ﴿ من كل زوجين، ﴾ من الحيوان ﴿ اثنين ﴾ ذكراً وأنثى، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي : من كل نوع زوجين، فزوجين مفعول واثنين تأكيد، و الباقون بغير تنوين، فاثنين مفعول، ومن متعلق باسلك، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما، فجعل يضرب يده في كل جمع، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض ﴿ وأهلك ﴾ أي : وأهل بيتك من زوجك وأولادك ﴿ إلا من سبق عليه ﴾ لا له ﴿ القول منهم ﴾ بالهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث، فحملهم وزوجاتهم الثلاثة، وفي سورة هود ﴿ ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ﴾ [ هود، ٤٠ ]، قيل : كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل : جميع من كان في السفينة ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء ﴿ ولا تخاطبني ﴾ أي : بالسؤال في النجاة ﴿ في الذين ظلموا ﴾ أي : كفروا، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنهم مغرقون ﴾ أي : قد حتم القضاء عليهم لظلمهم بالإشراك والمعاصي، ومن هذا شأنه لا يشفع له، فإنه تعالى بعد أنّ أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً ولزمتهم الحجة البالغة لم يبق إلا أنّ يجعلوا عبرة للمعتبرين ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل.
ولقد بالغ سبحانه وتعالى حيث اتبع النهي عنه الأمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم بقوله تعالى :﴿ فإذا استويت ﴾ أي : اعتدلت ﴿ أنت ومن معك ﴾ أي : من البشر وغيرهم ﴿ على الفلك ﴾ ففرغت من امتثال الأمر بالحمل ﴿ فقل الحمد لله ﴾ أي : الذي لا كفء له ؛ لأنه مختص بصفات الحمد ﴿ الذي نجانا ﴾ بحملنا فيه ﴿ من القوم ﴾ أي : الأعداء الأغبياء ﴿ الظالمين ﴾ أي : الكافرين لقوله تعالى :﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ﴾ [ الأنعام، ٤٥ ].
تنبيه : إنما قال تعالى : قل، ولم يقل : قولوا ؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان لهم نبياً وإماماً فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة وإظهار كبرياء الربوبية، وإن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل أتبعه بالإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض بقوله تعالى :
﴿ وقل رب أنزلني ﴾. في الفلك ثم في الأرض، وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه ﴿ منزلاً مباركاً ﴾ أي : يبارك له فيه ويعطيه الزيادة في خير الدارين، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي : مكان النزول، والباقون بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان، ثم إن الله تعالى أمره أنّ يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته وهو قوله تعالى :﴿ وأنت خير المنزلين ﴾ ما ذكر لأنك تكفي نزيلك كل ملم وتعطيه كل أمر.
ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص حث على تدبرها بقوله تعالى :
﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من أمر نوح والسفينة وإهلاك الكفار ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على قدرة الله تعالى وصدق الأنبياء في أنّ المؤمنين هم المفلحون وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين، وإن عظمت شوكتهم واشتدت صولتهم ﴿ وإن كنا ﴾ بما لنا من العظمة والوصف الثابت الدال على تمام القدرة ﴿ لمبتلين ﴾ أي : فاعلين فعل الخبير المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالح منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم وينقص سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة كما قال تعالى :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف، ١٢٨ ].
تنبيه : إن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة.
القصة الثانية : قصة هود، وقيل : صالح عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ثم أنشأنا ﴾ أي : أحدثنا وأحيينا ﴿ من بعدهم ﴾ أي : من بعد إهلاكهم ﴿ قرناً ﴾ أي : قوماً ﴿ آخرين ﴾ هم عاد قوم هود، وقيل : ثمود قوم صالح.
﴿ فأرسلنا ﴾ أي : فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أنا أرسلنا ﴿ فيهم رسولاً منهم ﴾ هو هود، وقيل : صالح ؛ قال البغوي : والأوّل هو الأظهر وهو المروي عن ابن عباس ويشهد له حكاية الله قول هود :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح ﴾ [ الأعراف، ٦٩ ] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء، ثم بين تعالى ما أرسل به بقوله تعالى :﴿ أن اعبدوا الله ﴾ أي : وحدوه لأنه لا مكافئ له، ثم دل على الاستغراق بقوله تعالى :﴿ ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ﴾ أي : هذه الحالة التي أنتم عليها مخافة عقابه فتؤمنون، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بضم النون في الوصل والباقون بكسرها، والقراءة في غيره ذكرت قريباً.
﴿ وقال الملأ ﴾ أي : الأشراف التي تملأ رؤيتهم الصدور ﴿ من قومه الذين كفروا ﴾ أي : غطوا ما يعرفون من أدلة التوحيد والانتقام من المشركين ﴿ وكذبوا بلقاء الآخرة ﴾ أي : بالمصير إليها ﴿ وأترفناهم ﴾ أي : والحال أنا بما لنا من العظمة نعمناهم ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ بالأموال والأولاد وكثرة السرور يخاطبون أتباعهم ﴿ ما هذا ﴾ أشاروا إليه تحقيراً له عند المخاطبين ﴿ إلا بشر مثلكم ﴾ في الخلق والحال، ثم وصفوه بما يوهم المساواة لهم في كل وصف فقالوا :﴿ يأكل مما تأكلون منه ﴾ أي : من طعام الدنيا ﴿ ويشرب مما تشربون ﴾ أي : من شرابها فكيف يكون رسولاً دونكم.
وقولهم :﴿ ولئن ﴾ اللام لام قسم أي : والله لئن ﴿ أطعتم بشراً مثلكم ﴾ أي : فيما يأمركم به ﴿ إنكم إذاً ﴾ أي : إن أطعتموه ﴿ لخاسرون ﴾ أي : مغبونون لكونكم فضلتم مثلكم عليكم بما يدعيه.
ثم بينوا إنكارهم بقولهم :﴿ أيعدكم أنكم إذا متم ﴾ ففارقت أرواحكم أجسادكم ﴿ وكنتم ﴾ أي : وكانت أجسادكم ﴿ تراباً ﴾ باستيلاء التراب على ما دون عظامكم ﴿ وعظاماً ﴾ مجردة عن اللحوم والأعصاب ﴿ أنكم مخرجون ﴾ أي : من تلك الحالة التي صرتم إليها فراجعون إلى ما كنتم عليه من الحياة على ما كان لكم من الأجسام.
تنبيه : قوله تعالى : مخرجون خبر إنكم الأولى، وإنكم الثانية تأكيد لها لما طال الفصل.
ثم استأنفوا التصريح بما دل عليه الكلام من استبعاد ذلك فقالوا :﴿ هيهات هيهات ﴾ اسم فعل ماض بمعنى مصدر أي : بعد بعد جداً، وقال ابن عباس : هي كلمة بعد أي : بعيد، ثم كأنه قيل : لأي شيء هذا الاستبعاد ؟ فقيل :﴿ لما توعدون ﴾ من الإخراج من القبور فإن قيل : ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أنّ يرفع بهيهات كما ارتفع به في قوله :
فهيهات هيهات العقيق وأهله ***
فما هذه اللام ؟ أجيب : بأنّ الزجاج قال في تفسيره : البعد لما توعدون فنزل منزلة المصدر، ويصح أنّ تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به أو أنّ اللام زائدة للبيان.
فائدة : وقف البزي والكسائي على هيهات الأولى والثانية بالهاء، والباقون بالتاء على المرسوم.
وقولهم :﴿ إن هي ﴾ ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله إن الحياة ﴿ إلا حياتنا الدنيا ﴾ ثم وضع هي موضع الحياة ؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة ؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس ﴿ نموت ونحيى ﴾ أي : يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم، وقيل : يموت قوم ويحيا قوم، وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء، وقيل : في الآية تقديم وتأخير أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا :﴿ وما نحن بمبعوثين ﴾ بعد الموت
فكأنه قيل : فما هذا الكلام الذي يقوله ؟ فقيل : كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هو إلا رجل افترى ﴾ أي : تعمد ﴿ على الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ كذباً ﴾ فلا يلتفت إليه ﴿ وما نحن له بمؤمنين ﴾ أي : بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة،
فكأنه قيل : فما قال ؟ فقيل :﴿ قال رب ﴾ أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم ﴿ انصرني ﴾ أي : أوقع لي النصر ﴿ بما كذبون ﴾ فأجابه ربه بأن :﴿ قال عما قليل ﴾ من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها ﴿ ليصبحن ﴾ أي : ليصيرنّ ﴿ نادمين ﴾ أي : على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب. .
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٩:فكأنه قيل : فما قال ؟ فقيل :﴿ قال رب ﴾ أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم ﴿ انصرني ﴾ أي : أوقع لي النصر ﴿ بما كذبون ﴾ فأجابه ربه بأن :﴿ قال عما قليل ﴾ من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها ﴿ ليصبحن ﴾ أي : ليصيرنّ ﴿ نادمين ﴾ أي : على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب..
﴿ فأخذتهم الصيحة ﴾ أي : صيحة العذاب والهلاك كائنة ﴿ بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا، وقيل : صيحة جبريل عليه السلام، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق ﴿ فجعلناهم ﴾ بسبب الصيحة ﴿ غثاء ﴾ أي : مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله :﴿ فجعله غثاء أحوى ﴾ [ الأعلى، ٥ ]
أي : أسود يابساً، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى :﴿ فبعداً ﴾ أي : هلاكاً وطرداً عن الرحمة ﴿ للقوم الظالمين ﴾ الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه : يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه : نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة : المذكورة في قوله تعالى :﴿ ثم أنشأنا ﴾ أي : بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير ﴿ من بعدهم ﴾ أي : من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده ﴿ قرونا ﴾ أي : أقواماً ﴿ آخرين ﴾ فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل : المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس : بني إسرائيل،
ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى :﴿ ما تسبق من أمة أجلها ﴾. أي : الذي قدر لها بأنّ تموت قبله ﴿ وما يستأخرون ﴾ عنه.
تنبيه : ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
﴿ ثم أرسلنا رسلنا تتراً ﴾ أي : متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو : رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل : فكان ماذا ؟ قيل :﴿ كلما جاء أمّة رسولها ﴾ أي : بما أمرناه من التوحيد ﴿ كذبوه ﴾ أي : كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
تنبيه : أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم ؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ ﴿ فأتبعنا ﴾ القرون بسبب تكذيبهم ﴿ بعضهم بعضاً ﴾ في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى :﴿ وجعلناهم أحاديث ﴾ أي : أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل :
ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث
والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى :﴿ فبعداً لقوم ﴾ أي : أقوياء على ما يطلب منهم ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة : قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ثم أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ موسى وأخاه هارون بآياتنا ﴾ قال ابن عباس : الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات ﴿ وسلطان مبين ﴾ أي : حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر ؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى :﴿ من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ﴾ [ البقرة، ٩٨ ]، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السلام، وإنّ يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج، وإنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي، قال الرازي : واعلم أنّ الآية تدل على أنّ معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضاً وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما، فكذلك المعجزات.
﴿ إلى فرعون وملئه ﴾ أي : وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدماً، ومن الواضح أنّ التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، وأشار بقوله تعالى :﴿ فاستكبروا ﴾ إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت، وطلبوا أنّ لا يكونوا تحت أمر من دعاهم، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى :﴿ وكانوا قوماً ﴾ أي : أقوياء ﴿ عالين ﴾ أي : متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى :﴿ فقالوا أنؤمن ﴾ أي : بالله تعالى مصدقين ﴿ لبشرين مثلنا ﴾ أي : في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم :﴿ وقومهما ﴾ أي : والحال أنّ قومهما أي : بني إسرائيل ﴿ لنا عابدون ﴾ خضوعاً وتذللاً أي : في غاية الذل والانقياد كالعبيد، فنحن أعلى منهما بهذا، أو لأنه كان يدعي الإلهية، فادعى للناس العبادة وأنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.
﴿ فكذبوهما ﴾ أي : فرعون وملؤه موسى وهارون، ﴿ فكانوا ﴾ أي : فرعون وملؤه بسبب تكذيبهم ﴿ من المهلكين ﴾ أي : بالغرق ببحر القلزم ولم تغنِ عنهم قوّتهم في أنفسهم، ولا قوتهم على خصوص بني إسرائيل واستعبادهم ولا ضر بني إسرائيل ضعفهم عن دفاعهم ولا ذلهم لهم وصغارهم في أيديهم.
ولما كان ضلال بني إسرائيل بعد إنقاذهم من عبودية فرعون وقومه أعجب قال تعالى تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ موسى الكتاب ﴾ أي : التوراة ﴿ لعلهم ﴾ أي : قوم موسى وهارون عليهما السلام ﴿ يهتدون ﴾ من الضلالة إلى المعارف والأحكام، ولا يصح عود الضمير إلى فرعون وملئه ؛ لأنّ التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملئه بدليل قوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ﴾ [ القصص، ٤٣ ].
القصة الخامسة : قصة عيسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وجعلنا ﴾ أي : بعظمتنا وقدرتنا ﴿ ابن مريم ﴾ نسبه إليها تحقيقاً لكونه لا أب له، وكونه بشراً محمولاً في البطن مولوداً لا يصلح لرتبة الإلهية، وزاد في تحقيق ذلك بقوله :﴿ وأمه ﴾ وقال تعالى :﴿ آية ﴾ ولم يقل : آيتين ؛ لأنّ الآية فيهما واحدة ولادته من غير فحل، ويحتمل أنّ الآية الأولى حذفت لدلالة الثانية عليها، والتقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية لأنّ الله تعالى : جعل مريم آية لأنها حملته من غير ذكر، وقال الحسن : قد تكلمت في صغرها كما تكلم عيسى وهو قولها :﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ [ آل عمران، ٣٧ ]، ولم تلتقم ثدياً قط.
تنبيه : قال بعض المفسرين : ولعل في ذلك إشارة إلى أنه تكلمت به آية للقدرة على إيجاد الإنسان بكل اعتبار من غير ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومن ذكر بلا أنثى وهي حوّاء عليها السلام، ومن أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام، ومن الزوجين وهو بقية الناس ﴿ وآويناهما ﴾ أي : بعظمتنا ﴿ إلى ربوة ﴾ أي : مكان عالٍ من الأرض.
تنبيه : قد اختلف في هذه الربوة، فقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس، وهو قول قتادة وكعب، قال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وقال عبد الله بن سلام : هي دمشق، وقال أبو هريرة : هي الرملة، وقال السدي : هي أرض فلسطين، وقال ابن زيد : هي مصر، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء، والباقون بضم الراء ﴿ ذات قرار ﴾ أي : منبسطة مستوية واسعة يستقر عليها ساكنوها ﴿ ومعين ﴾ أي : ماء جار ظاهر تراه العيون.
تنبيه : قد اختلف في زيادة ميم معين وأصالتها فوجه من جعلها مفعولاً أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلاً أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة قيل : سبب الإيواء أنها مرت بابنها إلى الربوة، وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، ثم رجعت إلى أهلها بعدما مات ملكهم وهاهنا آخر القصص.
وقد اختلف في المخاطب بقوله تعالى :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ﴾ على وجوه ؛ أحدها : أنه محمد صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة، ثانيها : أنه عيسى عليه السلام ؛ لأنه روي أنّ عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، ثالثها : أنه كل رسول خوطب بذلك، ووصي به لأنه تعالى في الأزل متكلم آمر ناهٍ، ولا يشترط في الأمر وجود المأمورين بل الخطاب أزلاً على تقدير وجود المخاطبين، فقول البيضاوي : لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أنّ كلاً منهم خوطب به في زمانه، تبع فيه «الكشاف »، فإن المعتزلة أنكروا قدم الكلام فحملوا الآية على خلاف ظاهرها، وأنت خبير بأنّ عدم اشتراط ما ذكر إنما هو في التعلق المعنوي لا التنجيزي الذي الكلام فيه، فإنه مشروط فيه ذلك، وإنما خاطب جميع الرسل بذلك ليعتقد السامع أنّ أمراً خوطب به جميع الرسل ووصوا به حقيق أنّ يؤخذ به ويعمل عليه، وهذا كما قال الرازي أقرب ؛ لأنه روي «عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدّة الحر عند فطره وهو صائم، فرد صلى الله عليه وسلم إليها وقال : من أين لك هذا ؟ فقالت : من شاة لي، ثم رده صلى الله عليه وسلم وقال : من أين هذه الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي، فأخذه ثم إنها جاءته فقالت : يا رسول الله لم رددته ؟ فقال صلى الله عليه وسلم بذلك أمرت الرسل أنّ لا تأكل إلا طيباً، ولا تعمل إلا صالحاً »، والمراد بالطيب الحلال، وقيل : طيبات الرزق الحلال الصافي القوام، فالحلال هو الذي لا يعصى الله تعالى فيه، والصافي هو الذي لا ينسى الله فيه، والقوام هو الذي يمسك النفس ويحفظ العقل، وقيل : المراد بالطيب المستلذ أي : ما تستلذه النفس من المأكل والمشرب والفواكه، ويشهد له مجيئه على عقب قوله تعالى :﴿ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ﴾ [ المؤمنون، ٥٠ ]، واعلم أنه سبحانه وتعالى كما قال للمرسلين :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ﴾ قال للمؤمنين :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾، ودل سبحانه وتعالى على أنّ الحلال عون على الطاعة بقوله تعالى :﴿ واعملوا صالحاً ﴾ فرضاً ونفلاً سراً وجهراً غير خائفين من أحد غير الله تعالى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله تعالى :﴿ إني بما ﴾ أي : بكل شيء ﴿ تعملون عليم ﴾ أي : بالغ العلم فأجازيكم عليه،
وقرأ :﴿ وإن هذه ﴾ بكسر الهمزة الكوفيون على الاستئناف، والباقون بفتحها على تقدير واعلموا أنّ هذه أي : ملة الإسلام، وخفف النون ساكنة ابن عامر وشدّدها مفتوحة الباقون ﴿ أمتكم ﴾ أي : دينكم أيها المخاطبون أي : يجب أنّ تكونوا عليها حال كونها ﴿ أمة واحدة ﴾ لا شتات فيها أصلاً، فما دامت موحدة، فهي مرضية ﴿ وأنا ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن أشرك معي غيري هلك ﴿ فاتقون ﴾ أي : فاحذرون.
﴿ فتقطعوا ﴾ أي : الأمم وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم ؛ لأنّ الآية التي قبلها قد صرحت بأنّ الأنبياء ومن نجا منهم أمة واحدة لا خلاف بينهما، فعلم قطعاً أنّ الضمير للأمم، ومن نشأ بعدهم ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم فقدم، وقوله :﴿ أمرهم ﴾ أي : دينهم بعد أنّ كان مجتمعاً متصلاً ﴿ بينهم ﴾ وقوله تعالى :﴿ زبراً ﴾ حال من فاعل تقطعوا أي : أحزاباً متخالفين، فصاروا فرقاً كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الأديان المختلفة جمع زبور بمعنى الفرقة، وقيل : معنى زبراً كتباً أي : تمسك كل قوم بكتاب فآمنوا به وكفروا بما سواه من الكتب ﴿ كل حزب ﴾ أي : فرقة من المتحزبين ﴿ بما لديهم ﴾ أي : عندهم من ضلال وهدى، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها ﴿ فرحون ﴾ أي : مسرورون فضلاً عن أنهم راضون.
وقوله تعالى :﴿ فذرهم ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : اترك كفار مكة ﴿ في غمرتهم ﴾ أي : ضلالتهم، شبهها بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها ﴿ حتى حين ﴾ أي : إلى أنّ يقتلوا أو يموتوا، سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره.
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أنّ حالهم في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد حالة رضا عنهم أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، و كتبت له الحسنى وزيادة فقال تعالى :﴿ أيحسبون ﴾ أي : لضعف عقولهم، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ﴿ أنما نمدهم ﴾ أي : نعطيهم ونجعله مدداً لهم ﴿ به من مال ﴾ نيسره لهم ﴿ وبنين ﴾ نمتعهم بهم.
ثم أخبر عن أنّ بقوله تعالى :﴿ نسارع ﴾ أي : نعجل ﴿ لهم ﴾ أي : به ﴿ في الخيرات ﴾ لا نفعل ذلك ﴿ بل لا يشعرون ﴾ أنهم في غاية البعد عن الخيرات ﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ﴾ [ الأعراف، ١٨٢ ]، وقال تعالى في موضع آخر :﴿ فلا تعجبك أمولهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ [ التوبة، ٥٥ ]، وروي عن زيد بن ميسرة أنه قال : أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أيفرح عبدي أنّ أبسط إليه الدنيا، وهو أبعد له مني، ويحزن أنّ أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني، وعن الحسن أنه لما أتي عمر رضي الله عنه بسواري كسرى فأخذهما ووضعهما في يد سراقة بن مالك فبلغا منكبيه، فقال عمر : اللهم إني قد علمت أنّ نبيك عليه الصلاة والسلام كان يحب أن يصيب مالاً لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه، ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك اللهم لا يكون ذلك مكراً منك، ثم تلا :﴿ أيحسبون ﴾ الآية.
ولما ذكر أهل الافتراق ذكر أهل الوفاق ووصفهم بأربع صفات.
الأولى : قوله تعالى :﴿ إن الذين هم ﴾ أي : ببواطنهم ﴿ من خشية ربهم ﴾ أي : الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم ﴿ مشفقون ﴾ أي : دائمون على الحذر.
الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿ والذين هم بآيات ربهم ﴾ أي : القرآن ﴿ يؤمنون ﴾ أي : يصدقون.
الصفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ والذين هم بربهم ﴾ أي : الذي لا محسن إليهم غيره ﴿ لا يشركون ﴾ أي : شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في الإحسان إليهم أحد.
ولما أثبت لهم الإيمان الخالص نفى عنهم العجب بقوله تعالى :﴿ والذين يؤتون ﴾ أي : يعطون ﴿ ما آتوا ﴾ أي : ما أعطوا من الصدقة والأعمال الصالحة، وهذه الصفة الرابعة ﴿ وقلوبهم وجلة ﴾ أي : شديدة الخوف أنّ لا يقبل منهم ولا ينجيهم من عذاب الله، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ أنهم إلى ربهم ﴾ أي : الذي طال إحسانه إليهم ﴿ راجعون ﴾ بالبعث، فيجازيهم على النقير والقطمير، ويجزيهم بكل قليل وكثير، وهو الناقد البصير، ولا تنفع هناك الندامة، وليس هناك إلا الحكم العدل والحكم القاطع من جهة مالك الملك ؛ قال الحسن البصري : المؤمن جمع إيماناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً.
ثم أثبت لهم ما أفهم أنّ ضده لأضدادهم بقوله تعالى :﴿ أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ﴾ أي : يبادرون إلى الأعمال الصالحة قبل الموت.
ولما ذكر تعالى كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر أنه تعالى لا يكلف أحداً فوق طاقته بقوله تعالى :﴿ ولا نكلف نفساً إلا وسعها ﴾ أي : طاقتها، فمن لم يستطع أن يصلي الفرض قائماً فليصل قاعداً، ومن لم يستطع أنّ يصلي قاعداً فليصل مضطجعاً، ومن لم يستطع أنّ يصوم رمضان فليفطر ؛ لأنّ مبنى المخلوق على العجز ﴿ ولدينا ﴾ أي : وعندنا ﴿ كتاب ينطق بالحق ﴾ بما عملته كل نفس، وهو اللوح المحفوظ تسطر فيه الأعمال، وقيل : كتب الحفظة ونظيره قوله تعالى :﴿ هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ﴾ [ الجاثية، ٢٩ ]، وقوله تعالى :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ [ الكهف، ٤٩ ]، فشبه تعالى الكتاب بمن يصدر عنه البيان، فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرف بما فيه كما يعرف بنطق الناطق إذا كان محقاً فإن قيل : ما فائدة ذلك الكتاب مع أنّ الله تعالى يعلم ذلك إذ لا تخفى عليه خافية ؟ أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء، وقد يكون في ذلك حكمة لا يطلع عليها إلا هو تعالى ﴿ وهم ﴾ أي : الخلق كلهم ﴿ لا يظلمون ﴾ أي : لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد في سيئاتهم.
ثم ذكر حال الكفار فقال تعالى :﴿ بل قلوبهم ﴾ أي : الكفرة من الخلق ﴿ في غمرة ﴾ أي : جهالة قد أغرقتها ﴿ من هذا ﴾ أي : القرآن أو الذي وصف به حال هؤلاء أو من كتاب الحفظة ﴿ ولهم أعمال من دون ذلك ﴾ المذكور للمؤمنين ﴿ هم ﴾ أي : الكفار ﴿ لها ﴾ أي : لتلك الأعمال الخبيثة ﴿ عاملون ﴾ أي : لا بد أنّ يعملوها فيعذبون عليها لما سبق من الشقاوة.
﴿ حتى إذا أخذنا مترفيهم ﴾ أي : رؤساءهم وأغنياءهم ﴿ بالعذاب ﴾ قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر، وقيل : هو الجوع دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :«اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » فابتلاهم الله تعالى بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والقذر والأولاد ﴿ إذا هم يجأرون ﴾ أي : يصيحون ويستغيثون ويجزعون، وأصل الجأر رفع الصوت بالتضرع ؛ قاله البغوي، فكأنه قيل : فهل يقبل اعتذارهم أو يرحم انكسارهم ؟ فقيل : لا بل يقال لهم بلسان الحال أو المقال.
﴿ لا تجأروا اليوم ﴾ فإن الجأر غير نافع لكم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنكم منا لا تنصرون ﴾ أي : بوجه من الوجوه، ومن عدم نصرنا لم يجد له ناصراً فلا فائدة لجأره إلا إظهار الجزع.
ثم علل عدم نصره لهم بقوله تعالى :﴿ قد كانت آياتي ﴾ أي : من القرآن ﴿ تتلى عليكم ﴾ أي : من أوليائي وهم الهداة النصحاء ﴿ فكنتم ﴾ كوناً هو كالجبلة ﴿ على أعقابكم ﴾ عند تلاوتها ﴿ تنكصون ﴾ أي : تعرضون مدبرين عن سماعها والعمل بها، والنكوص الرجوع القهقرى.
﴿ مستكبرين ﴾ عن الإيمان، واختلف في عود الضمير في ﴿ به ﴾ فقال ابن عباس : بالبيت الحرام، وشهرة استكبارهم وافتخارهم أنهم قوّامه أغنت عن سبق ذكره، وذلك أنهم يقولون : نحن أهل حرم الله وجيران بيته، فلا يظهر علينا أحد ولا نخاف أحداً، فيأمنون فيه، وسائر الناس في الخوف، وقيل : بالقرآن، فلم يؤمنوا به، وقوله تعالى :﴿ سامراً ﴾ نصب على الحال أي : جماعة يتحدثون بالليل حول البيت، وقوله تعالى :﴿ تهجرون ﴾ قرأه نافع بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش أي : تفحشون وتقولون الخنا ذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والباقون بفتح التاء وضم الجيم، أي : تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان وعن القرآن وترفضونها وتسمون القرآن سحراً وشعراً.
ثم إنه تعالى لما وصف حالهم ردَّ عليهم بأنّ بين أنّ إقدامهم على هذه الأمور لا بد أنّ يكون لأحد أمور أربعة :
أحدها : أنّ لا يتأملوا في دليل نبوّته، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أفلم يدّبروا القول ﴾ أي : القرآن الدال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأصل يدبروا يتدبروا أدغمت التاء في الدال.
ثانيها : أنّ يعتقدوا أنّ ما جاء به الرسول أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أم جاءهم ﴾ في هذا القول ﴿ ما لم يأت آباءهم الأولين ﴾ الذين بعد إسماعيل وقبله.
ثالثها : أنّ لا يكونوا عالمين بأمانته وحسن حاله قبل ادعائه النبوّة، وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أم لم يعرفوا رسولهم ﴾ أي : الذي أتاهم بهذا القول الذي لا قول مثله، وهم يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وما جاءهم به من معالي الأخلاق حتى أنهم لا يجدون فيه إذا تحققت الحقائق نقيصة يذكرونها ولا وصمة يستحلونها كما دلت عليه الأحاديث الصحاح منها حديث أبي سفيان بن حرب الذي في أول البخاري في سؤال هرقل ملك الروم له عن شأنه صلى الله عليه وسلم وقد اتفقت كلمتهم بتسميته الأمين ﴿ فهم ﴾ أي : فتسبب عن جهلهم به أنهم ﴿ له ﴾ أي : نفسه أو القول الذي أتى به ﴿ منكرون ﴾ فيكونوا ممن جهل الحق لجهل حال الآتي به، وفي هذا غاية التوبيخ لهم بجهلهم وبغباوتهم بأنهم يعرفون أنه أصدق الخلق وأعلاهم في كل معنى جميل، ثم كذبوه.
رابعها : أنّ يعتقدوا فيه الجنون فيقولوا إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، وهو المراد من قوله تعالى :
﴿ أم يقولون ﴾ أي : بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن ﴿ به ﴾ أي : رسولهم ﴿ جنة ﴾ أي : جنون فلا يوثق به.
ولما كانت هذه الأقسام منفية عنه فإنهم أعرف الناس بهذا النبي الكريم، وإنه أكملهم خلقاً وأشرفهم خلقاً، وأظهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً وأمتنهم رأياً، وأرضاهم قولاً وأصوبهم فعلاً أضرب عنها وقال تعالى :﴿ بل ﴾ أي : لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأنّ هذا الرسول الكريم ﴿ جاءهم بالحق ﴾ أي : القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام، وقال الجلال المحلي : الاستفهام فيه للتقرير بالحق من صدق النبي ومجيء الرسول للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأنّ لا جنون به، وبل للانتقال ﴿ وأكثرهم ﴾ أي : والحال أنّ أكثرهم ﴿ للحق كارهون ﴾ متابعة للأهواء الردية والشهوات البهيمية عناداً، وإنما قيد تعالى الحكم بالأكثر ؛ لأنّ بعضهم يتركه جهلاً وتقليداً وخوفاً من أنّ يقال صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله تعالى وتأييداً.
ثم بين تعالى أنّ اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم بقوله تعالى :﴿ ولو اتبع الحق ﴾ أي : القرآن ﴿ أهواءهم ﴾ بأنّ جاء بما يهووه من الشرك والولد لله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿ لفسدت السماوات ﴾ على علوها وإحكامها ﴿ والأرض ﴾ على كثافتها وانتظامها ﴿ ومن فيهن ﴾ على كثرتهم وانتشارهم وقوّتهم أي : خرجت عن نظامها المشاهد بسبب ادعائهم تعدد الآلهة لوجود التمانع في الشيء عادة عند تعدد الحاكم كما سبق تقريره في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ [ الأنبياء، ٢٢ ]، ﴿ بل أتيناهم ﴾ بعظمتنا ﴿ بذكرهم ﴾ أي : بالقرآن الذي فيه ذكرهم وشرفهم، وقيل : بالذكر الذي تمنوه بقولهم : لو أنّ عندنا ذكراً من الأولين ﴿ فهم عن ذكرهم ﴾ أي : الذي هو شرفهم ﴿ معرضون ﴾ لا يلتفتون إليه.
ثم بين تعالى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سبباً لنفرتهم بقوله تعالى :﴿ أم تسألهم ﴾ أي : على ما جئتم به ﴿ خرجاً ﴾ أي : أجراً، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبعدها ألف، والباقون بسكون الراء، ولما كان الإنكار معناه النفي حسن موقع فاء السببية في قوله تعالى :﴿ فخراج ربك ﴾ أي : رزقه في الدنيا وثوابه في العقبى ﴿ خير ﴾ لسعته ودوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم، وقرأ ابن عامر بسكون الراء والباقون بفتحها وألف بعدها قال أبو عمرو بن العلاء : الخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه ؛ قال الزمخشري : والوجه أنّ الخرج أخص من الخراج كقولك : خراج القرية، وخرج الكردة أي : الرقبة زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ خرجاً فخراج ربك يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير، وقوله تعالى :﴿ وهو خير الرازقين ﴾ تقرير لخيرية خراجه.
ولما زيف سبحانه وتعالى طريق القوم أتبعه بصحة ما جاء به الرسول عليه السلام بقوله تعالى :﴿ وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ﴾ تشهد عقولهم السليمة على استقامته لا عوج فيه يوجب اتهامهم له، كما تشهد له به العقول الصحيحة، فمن سلكه أوصله إلى الغرض، فحاز كل شرف.
تنبيه : قد ألزمهم الله تعالى الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم وعللهم، فإن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأنّ يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل له سلماً إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم إلا مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل من غير برهان.
﴿ وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي : بالبعث والثواب والعقاب ﴿ عن الصراط ﴾ أي : الذي لا صراط غيره ؛ لأنه لا موصل إلى القصد غيره ﴿ لناكبون ﴾ أي : عادلون منحرفون في سائر أحوالهم سائرون على غير منهج أصلاً بل خبط عشواء.
﴿ ولو رحمناهم ﴾ أي : عاملناهم معاملة المرحوم في إزالة ضرره وهو معنى قوله تعالى :﴿ وكشفنا ما بهم من ضر ﴾ أي : جوع أصابهم بمكة سبع سنين ﴿ للجوا ﴾ أي : عادوا وتمادوا ﴿ في طغيانهم ﴾ الذي كانوا عليه قبل هذا ﴿ يعمهون ﴾ أي : يترددون.
﴿ ولقد أخذناهم بالعذاب ﴾ وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أنّ يجعل عليهم سنين كسني يوسف، فأصابهم القحط، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال : بلى، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فقد أكلوا الفرث والعظام والعلهز وشكا إليه الضرع فادع الله تعالى يكشف عنا هذا القحط فدعا فكشف عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
تنبيه : العلهز وبر يخلط بدماء اللحم، فيؤكل في الجدب والعلهز أيضاً : القراد الضخم، وشكا بعض الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم السنة فقال :
ولا شي مما يأكل الناس عندنا سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم «واستسقى لرفع هذه المحن » فقال الله تعالى عنهم :﴿ فما استكانوا ﴾ أي : خضعوا خضوعاً هو كالجبلة لهم وأصله طلب السكون ﴿ لربهم ﴾ أي : المحسن إليهم عقب المحنة ﴿ وما يتضرعون ﴾ أي : يجددون الدعاء بالخضوع والذل والخشوع في كل وقت بحيث يكون لهم عادة بل هم على ما جبلوا عليه من الاستكبار والعتو.
﴿ حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا ﴾ أي : صاحب ﴿ عذاب شديد ﴾ قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر، وهو قول مجاهد، وقيل : هو الموت، وقيل : هو قيام الساعة ﴿ إذا هم فيه ﴾ أي : ذلك الباب مطروحون لا يقدرون منه على نوع خلاص ﴿ مبلسون ﴾ متحيرون آيسون من كل خير.
ثم إنه سبحانه التفت إلى خطابهم وبين عظيم نعمته من وجوه :
أحدها : ما ذكره بقوله تعالى :
﴿ وهو الذي أنشأ ﴾ أي : خلق ﴿ لكم ﴾ يا من يكذب بالآخرة ﴿ السمع ﴾ بمعنى الإسماع ﴿ والأبصار ﴾ على غير مثال سبق لتحسنوا بها ما نصب من الآيات ﴿ والأفئدة ﴾ أي : التي هي مراكز العقول فتتفكروا في الآيات وتستدلوا بها على الوحدانية فكنتم بها أعلى من بقية الحيوان جمع فؤاد وهو القلب، وإنما خص هذه الثلاثة بالذكر ؛ لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، فمن لم يعملها فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها كما قال عز وجل :﴿ فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم، ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله ﴾ [ الأحقاف، ٢٦ ]، ولما صور لهم هذه النعم وهي بحيث لا يشك عاقل في أنه لو تصور أنّ يعطي آدمي شيئاً منها لم يقدر على مكافأته حسن تبكيتهم في كفر النعم، فقال تعالى :﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾ لمن أولاكم هذه النعم التي لا يقدر غيره على شيء منها مع ادعائكم أنكم أشكر الناس لمن أسدى إليكم أقل ما يكون من النعم التي يقدر على مثلها كل أحد، فكنتم بذلك مثل الحيوانات العجم صماً بكماً عمياً ؛ قال أبو مسلم : ليس المراد أنّ لهم شكراً وإن قل، لكنه يقال للكفور الجاحد النعمة ما أقل شكر فلان.
ثانيها : ما ذكره في قوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي ذرأكم ﴾ أي : خلقكم وبثكم ﴿ في الأرض ﴾ للتناسل ﴿ وإليه ﴾ وحده ﴿ تحشرون ﴾ يوم النشور.
ثالثها : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي ﴾ من شأنه أنه ﴿ يحي ويميت ﴾ فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده.
رابعها : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ وله اختلاف الليل والنهار ﴾ أي : التصرف فيهما بالسواد والبياض والزيادة والنقصان ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي : بالنظر والتأمل أنّ الكل منا وأن قدرتنا تعم الممكنات كلها، وأن البعث من جملتها فتعتبرون.
ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري النفي حسن بعده بقوله تعالى :﴿ بل قالوا ﴾ أي : هؤلاء العرب ﴿ مثل ما قال الأولون ﴾ من قوم نوح ومن بعدهم فقالوا ذلك تقليداً للأولين.
ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين :
أحدهما : ما ذكره بقوله تعالى :﴿ قالوا ﴾ أي : منكرين للبعث متعجبين من أمره ﴿ أئذا متنا وكنا ﴾ أي : بالبلاء بعد الموت ﴿ تراباً وعظاماً ﴾ نخرة، ثم أكدوا الإنكار بقولهم :﴿ أئنا لمبعوثون ﴾ أي : لمحشورون بعد ذلك قالوا ذلك استبعاداً ولم يتأملوا أنهم قبل ذلك أيضاً كانوا تراباً فخلقوا.
ثانيهما : ما ذكره بقوله تعالى : إنهم قالوا :﴿ لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ﴾ أي : البعث بعد الموت ﴿ من قبل ﴾ كأنهم قالوا : إن هذا الوعد كما وقع منه صلى الله عليه وسلم فقد وقع قديماً من سائر الأنبياء ولم يوجد مع طول العهد، وظنوا أنّ الإعادة تكون في دار الدنيا، ثم قالوا :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا إلا أساطير ﴾ أي : أكاذيب ﴿ الأولين ﴾ كالأضاحيك والأعاجيب جمع أسطورة بالضم، وقيل : جمع أسطار جمع سطر ؛ قال رؤبة :
إني وأسطار سطرن سطراً ***
وهو ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له.
ولما أنكروا البعث هذا الإنكار المؤكد ونفوه هذا النفي المحتم أمره الله تعالى أنّ يقررهم بثلاثة أشياء هم بها مقرون، ولها عارفون يلزمهم من تسليمها الإقرار بالبعث قطعاً :
أحدها : قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : مجيباً لإنكارهم البعث ملزماً لهم ﴿ لمن الأرض ﴾ أي : على سعتها وكثرة عجائبها ﴿ ومن فيها ﴾ على كثرتهم واختلافهم ﴿ إن كنتم ﴾ أي : مما هو كالجبلة لكم ﴿ تعلمون ﴾ أي : أهلاً للعلم وفيه تنبيه على أنهم أنكروا شيئاً لا ينكره عاقل.
ولما كانوا مقرين بذلك أخبر تعالى عن جوابهم قبل جوابهم ليكون من دلائل النبوة وإعلام الرسالة بقوله تعالى استئنافاً :﴿ سيقولون ﴾ أي : قطعاً ذلك كله ﴿ لله ﴾ أي : المختص بصفات الكمال، ثم إنه تعالى أمره بقوله :﴿ قل ﴾ أي : لهم إذا قالوا لك ذلك منكراً عليهم ﴿ أفلا تذكرون ﴾ أي : في ذلك المركوز في طباعكم المقطوع به عندكم ما غفلتم عنه من تمام قدرته وباهر عظمته فتصدقوا ما أخبر به من البعث الذي هو دون ذلك، وتعلموا أنه لا يصلح شيء منها وهو ملكه أنّ يكون شريكاً له تعالى ولا ولداً وتعلموا أنّ القادر على الخلق ابتداءً قادر على الإحياء بعد الموت، وأنه لا يصح في الحكمة أصلاً أنّ يترك البعث لأنّ أقلكم لا يرضى بترك حساب عبيده والعدل بينهم، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد بإدغام التاء الثانية في الذال.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم ﴿ من رب ﴾ أي : خالق ومدبر ﴿ السماوات السبع ﴾ كما تشاهدون من حركاتها وسير أفلاكها ﴿ ورب العرش ﴾ أي : الكرسي ﴿ العظيم ﴾ كما قال تعالى :﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض ﴾ [ البقرة، ٢٥٥ ].
﴿ سيقولون لله ﴾ أي : الذي له كل شيء هو رب ذلك لا جواب لهم غير ذلك، ولما تأكد الأمر وزاد الوضوح حسن التهديد على التمادي فقال تعالى :﴿ قل ﴾ أي : منكراً عليهم ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي : تحذرون عبادة غيره.
ثالثها قوله :﴿ قل ﴾ أمره الله تعالى بعدما قرّرهم بالعالمين العلوي والسفلي أن يقرّرهم بما هو أعم وأعظم وهو قوله تعالى :﴿ من بيده ﴾ أي : من تحت قدرته ومشيئته ﴿ ملكوت كل شيء ﴾ من إنس وجن وغيرهما، والملكوت : الملك البليغ، قال ابن الأثير : كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحداً لا يخفر جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يعاب عليه، ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال تعالى :﴿ وهو يجير ﴾ أي : يمنع ويغيث من شاء فيكون في حرز لا يقدر أحد على الدنو من ساحته ﴿ ولا يجار عليه ﴾ أي : ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه ولا ولد يضارعه، وأنه السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ثم ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله تعالى :﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ أي : في عداد من يعلم،
ولذلك استأنف قوله تعالى :﴿ سيقولون لله ﴾. أي : الذي بيده ذلك خاصاً به.
تنبيه : سيقولون لله الأول لا خلاف فيها، وأما الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو : سيقولون الله بزيادة همزة الوصل مع التفخيم فيهما، ورفع الهاء والباقون بغير همز الوصل مع الترقيق وكسر الهاء والتقدير ذلك كله لله، ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث استأنف قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : لهم منكراً عليهم ﴿ فأنى تسخرون ﴾ أي : فكيف بعد إقراركم بهذا كله تخدعون وتصرفون عن الحق وكيف يخيل لكم أنه باطل.
ولما كان الإنكار بمعنى النفي حسن قوله تعالى :
﴿ بل ﴾ أي : ليس الأمر كما يقولون بل ﴿ أتيناهم بالحق ﴾ أي : بالصدق من التوحيد والوعد بالنشور ﴿ وإنهم لكاذبون ﴾ في كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده ومن أعظم كذبهم قولهم :﴿ اتخذ الرحمن ولداً ﴾ [ مريم، ٨٨ ].
قال تعالى رداً عليهم :
﴿ ما اتخذ الله ﴾ أي : الذي لا كفء له ﴿ من ولد ﴾ أي : لا من الملائكة ولا من غيرهم لما قام من الأدلة على غناه وأنه لا مجانس له، ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال تعالى :﴿ وما كان معه ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ من إله ﴾ يشابهه في الألوهية ﴿ إذاً ﴾ لو كان معه إله آخر ﴿ لذهب كل إله بما خلق ﴾ بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره.
فإن قيل : إذاً لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله تعالى :﴿ لذهب ﴾ جزاءً وجواباً، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل ؟ أجيب : بأن الشرط محذوف تقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله تعالى : وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن معه المحاجة من المشركين ﴿ ولعلا بعضهم ﴾ أي : بعض الآلهة ﴿ على بعض ﴾ إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه ولا يكون مجيراً غير مجار عليه بيده وحده ملكوت كل شيء. ولما طابق الدليل الإلزامي نفي الشريك نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك من قوله تعالى :﴿ سبحان الله ﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن شائبة كل نقص ﴿ عما يصفون ﴾ من كل ما لا يليق بجناية المقدس من الأنداد والأولاد لما سبق من الدليل على فساده.
ثم أقام دليلاً آخر على كماله يوصفه بقوله تعالى :﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي : ما غاب وما شوهد، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي برفع الميم على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو، والباقون بالخفض على أنه صفة لله، ثم رتب على هذا الدليل قوله تعالى :﴿ فتعالى ﴾ أي : تعاظم ﴿ عما يشركون ﴾ معه من الآلهة.
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ قل رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ إما ﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة أي : إن كان لا بد أن ﴿ تريني ﴾ لأنَّ ما والنون للتأكيد ﴿ ما يوعدون ﴾ من العذاب في الدنيا والآخرة.
﴿ رب فلا تجعلني ﴾ بإحسانك إليّ ﴿ في القوم الظالمين ﴾ أي : قرينا لهم في العذاب.
فإن قيل : كيف يجوز أن يجعل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم ؟ أجيب : بأنه يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه وإخباتاً له واستغفاره صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه سبعين مرة أو مائة مرة لذلك وما أحسن قول الحسن في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : وليتكم ولست بخيركم، كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه وإنما ذكر ربه مرتين مرة قبل الشرط، ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
﴿ وإنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ على أن نريك ﴾ أي : قبل موتك ﴿ ما نعدهم ﴾ من العذاب ﴿ لقادرون ﴾ لكنا نؤخره علماً بأن بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون وهو صادق بالقتل يوم بدر أو فتح مكة.
ثم كأنه قال : فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم، فقال تعالى :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾ أي : من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة ﴿ السيئة ﴾ أذاهم إياك وهذا قبل الأمر بالقتال فهي منسوخة، وقيل : محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة ﴿ نحن أعلم بما يصفون ﴾ في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب، وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
ولما أدب سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع بالتي هي أحسن علمه ما به يقوى على ذلك بقوله تعالى :﴿ وقل رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ أعوذ بك ﴾ أي : ألتجئ إليك ﴿ من همزات الشياطين ﴾ أي : أن يصلوا إليّ بوساوسهم، وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي وإنما جمع همزات لتنوع الوسواس أو لتعدد المضاف إليه.
﴿ وأعوذ بك رب ﴾ أي : أيها المربى لي ﴿ أن يحضرون ﴾ في حال من الأحوال خصوصاً حال الصلاة وقراءة القرآن وحلول الأجل ؛ لأنها أحرى الأحوال، وهم إنما يحضرون بالسوء، ولو لم تصل إليَّ وساوسهم، فإن بعدهم بركة، وعن جبير بن مطعم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال عمر : ولا أدري أي صلاة هي فقال :«الله أكبر كبيراً ثلاثاً، والحمد لله كثيراً ثلاثاً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه ؛ قال : نفثه الشعر ونفخه الكبر، وهمزه الموتة » أخرجه أبو داود ؛ لأن الشعر يخرج من القلب فيلفظ به اللسان، وينفثه كما ينفث الريق والمتكبر ينتفخ ويتعاظم ويجمع نفسه ويحتاج إلى أن ينفخ، والموتة الجنون والمجنون يصير في الدنيا كالميتة.
ثم إن الله تعالى أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت بقوله تعالى :﴿ حتى ﴾ وهي هنا كما قال الجلال المحلي ابتدائية أو متعلقة بيصفون أو بكاذبون كما قال الزمخشري، وقدّم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال :﴿ إذا جاء أحدهم الموت ﴾ فكشف له الغطاء وظهر له الحق ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب ﴿ قال ﴾ متحسراً على ما فرّط فيه من الإيمان والطاعة مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس من دأب البهائم ﴿ رب ارجعون ﴾ أي : ردوني إلى الدنيا دار العمل، ويجوز أن يكون الجمع له تعالى وللملائكة أو للتعظيم على عادة مخاطبات الأكابر سيما الملوك كقوله :
ألا فارحموني يا إله محمد ***
وقوله :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ***
أو القصد تكرير الفعل للتأكيد ؛ لأنه في معنى أرجعني كما قيل في قفا واطرقا فإنهما بمعنى قف قف واطرق اطرق،
ولما كان في تلك الحالة مع وصوله إلى الغرغرة ليس على القطع من اليأس قال :﴿ لعلي أعمل ﴾ أي : لأن كون على رجاء من أن اعمل ﴿ صالحاً فيما تركت ﴾ أي : ضيعت من الإيمان بالله وتوابعه فيدخل في الأعمال الأعمال البدنية والمالية وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بلى قدوماً على الله، وأما الكافر فيقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت » قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله ولا عشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله فرحم الله امرأ عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب، وقال ابن كثير : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت واستقال ربه، فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى، ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع ولو رجع لم يعمل بطاعة الله عز وجل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، قال الله تعالى له ردعاً ورداً لكلامه :﴿ كلا ﴾ أي : لا يكون شيء من ذلك وكأنه قيل : فما حكم ما قال ؟ فقيل :﴿ إنها كلمة ﴾ والمراد بالكلمة في اللغة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض رب ارجعون إلى آخره ﴿ هو قائلها ﴾ وقد عرف منه الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها، فلا يجاب إليها ولا تسمع منه وهو لا محالة لا يخليها، ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه، وتسلط الندم ﴿ ومن ورائهم ﴾ أي : أمامهم والضمير للجماعة ﴿ برزخ ﴾ أي : حاجز حائل بينهم وبين الرجعة، واختلف في معناه فقال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وقال قتادة : بقية الدنيا، وقال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث، وقيل : هو الموت، وقيل : هو القبر هم فيه ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ وهو يوم القيامة، وفي هذا إقناط كليّ من الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.
﴿ فإذا نفخ في الصور ﴾ أي : القرن، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ﴿ فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ﴾ ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وعن ابن مسعود أنها النفخة الثانية قال : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي منادٍ هذا فلان بن فلان، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه فيفرح المرء أن يكون له حق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذه منهم، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون، وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنها النفخة الثانية فلا أنساب بينهم أي : لا يتفاخرون بالأنساب يومئذٍ كما كانوا يتفاخرون بها في الدنيا ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا من أنت ومن أي قبيل أنت، ولم يرد أن الإنسان ينقطع نسبه، فإن قيل : قد قال تعالى هنا : ولا يتساءلون، وقال تعالى في موضع آخر :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ [ الصافات، ٢٧ ] ؟ أجيب : بأن ابن عباس قال : إن للقيامة أحوالاً ومواطن ففي موطن يشتد عليهم الخوف فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل، فلا يتساءلون، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون، وقيل : التساؤل بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
﴿ فمن ثقلت موازينه ﴾ أي : بالأعمال المقبولة، قال البقاعي : ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل دليل على القدرة ﴿ فأولئك ﴾ أي : خاصة قال أيضاً : ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد للدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون بالنجاة والدرجات العلى.
﴿ ومن خفت موازينه ﴾ لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان ﴿ فأولئك ﴾ خاصة ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال وقوله تعالى :﴿ في جهنم خالدون ﴾ بدل من الصلة، أو خبر ثان لأولئك، وهي دار لا ينفك أسيرها ولا ينطفئ سعيرها.
ثم استأنف قوله تعالى :﴿ تلفح ﴾ أي : تغشى بشدّة حرّها وسمومها ووهجها ﴿ وجوههم النار ﴾ فتحرقها، فما ظنك بغيرها، واللفح كالنفح إلا أنه أشد تأثيراً ﴿ وهم فيها كالحون ﴾ أي : عابسون قد شمرت شفاههم العليا والسفلى عن أسنانهم، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ».
وقوله تعالى :﴿ ألم تكن آياتي ﴾ أي : من القرآن على إضمار القول أي : يقال لهم : ألم تكن آياتي ﴿ تتلى عليكم ﴾ أي : تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً ﴿ فكنتم بها تكذبون ﴾.
ثم استأنف جوابه بقوله تعالى :﴿ قالوا ربنا ﴾ أي : المسبغ علينا نعمه ﴿ غلبت علينا شقوتنا ﴾ أي : ملكتنا بحيث صارت أحوالها مؤدّية إلى سوء العاقبة ﴿ وكنا ﴾ أي : بما جبلنا عليه ﴿ قوماً ضالين ﴾ في ذلك عن الحق أقوياء في موجبات الشقوة فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة.
﴿ ربنا ﴾ يا من عودنا بالإحسان ﴿ أخرجنا منها ﴾ أي : من النار تفضلاً منك على عادة فضلك وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك ﴿ فإن عدنا ﴾ إلى مثل ذلك الضلال ﴿ فإنا ظالمون ﴾ لأنفسنا.
ثم استأنف جوابهم بأن :﴿ قال ﴾ لهم بلسان ملك بعد قدر الدنيا مرتين كما يقال للكلب ﴿ اخسؤوا ﴾ أي : انزجروا زجر الكلاب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان ﴿ فيها ﴾ أي : النار ﴿ ولا تكلمون ﴾ أصلاً، فإنكم لستم بأهل لمخاطبتي لأنكم لن تزالوا متصفين بالظلم فييأس القوم بعد ذلك، ولا يتكلموا بكلمة إلا الزفير والشهيق والعواء كعواء الكلاب، وقال القرطبي : إذا قيل لهم ذلك انقطع رجاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض فانطبقت عليهم، وعن ابن عباس أنّ لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : ربنا أبصرنا وسمعنا، فيجابون : حق القول مني، فينادون ألفاً : ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، فينادون ألفاً : يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون : إنكم ماكثون، فينادون ألفاً : ربنا أخرجنا منها، فيجابون : أولم تكونوا أقسمتم، فينادون ألفاً : أخرجنا نعمل صالحاً، فيجابون : أولم نعمركم، فينادون ألفاً : رب ارجعون، فيجابون : اخسؤوا فيها ولا تكلمون، ثم لا يكون لهم إلا الزفير والشهيق والعواء،
ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنه كان ﴾. أي : كوناً ثابتاً ﴿ فريق ﴾ أي : ناس قد استضعفتموهم﴿ من عبادي ﴾ وهم المؤمنون ﴿ يقولون ﴾ مع الاستمرار ﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ﴿ آمنا ﴾ أي : أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل ﴿ فاغفر لنا ﴾ أي : استر لنا زللنا ﴿ وارحمنا ﴾ أي : افعل بنا فعل الراحم ﴿ وأنت خير الراحمين ﴾ لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.
﴿ فاتخذتموهم ﴾ أي : فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم ﴿ سخرياً ﴾ أي : تسخرون منهم وتستهزؤن بهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل : الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية، أي : تسخرونهم وتتعبدونهم ؛ قال الزمخشري : والأول مذهب الخليل وسيبويه، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن كثير وحفص، والباقون بالإدغام ﴿ حتى أنسوكم ذكري ﴾ أي : بأن تذكروني فتخافوني، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم ﴿ وكنتم منهم تضحكون ﴾ استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بلال وعمار وصهيب وخباب.
ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى :﴿ إني جزيتهم اليوم ﴾ أي : بالنعيم المقيم ﴿ بما صبروا ﴾ أي : على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى :﴿ إنهم هم الفائزون ﴾ أي : بمطلوبهم الناجون من عذاب النار، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم.
ثم إن الله تعالى :﴿ قال ﴾ لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتاً وتوبيخاً لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة، وأنهم فيها مخلدون سألهم ﴿ كم لبثتم في الأرض ﴾ على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزاً ﴿ عدد سنين ﴾ أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبراً وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون.
﴿ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ﴾ يشكون في ذلك. فإن قيل : كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك، ولا يقع من أهل النار الكذب ؟ أجيب : بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا :﴿ فاسأل العادين ﴾ أي : الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم ؛ قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين، وقيل : قالوا ذلك تصغيراً للبثهم وتحقيراً له بالإضافة إلى ما وقعوا فيه من دوام العذاب قال بعضهم :
ألا أن أيام الشقاء طويلة كما أن أيام السرور قصار
وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين وترك الهمز بعدها وكذا يفعل حمزة في الوقف والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها
ثم :﴿ قال ﴾ الله تعالى لهم على لسان الملك :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ لبثتم ﴾ أي : في الدنيا ﴿ إلا قليلاً ﴾، لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلاً في جنب ما يلبث في الآخرة ﴿ لو أنكم كنتم تعلمون ﴾ أي : في عداد من يعلم في ذلك الوقت لما آثرتم الفاني على الباقي ولأقبلتم على ما ينفعكم ولتركتم أفعالكم التي لا يرضاها عاقل، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وقرأ حمزة والكسائي : قل ؛ أمراً، والباقون : قال ؛ خبراً، ولبثتم تقدم مثله، وتوجيه قال وقل.
ثم وبخهم الله تعالى على تغافلهم بقوله تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم ﴾ على ما لنا من العظمة، وقوله تعالى :﴿ عبثاً ﴾ حال أي : عابثين كقوله : لاعبين، أو مفعول له أي : ما خلقناكم للعبث، ولم يدعنا إلى خلقكم إلا حكمة اقتضت ذلك، وهي أن نتعبدكم ونكلفكم المشاق من الطاعات وترك المعاصي ﴿ و ﴾ حسبتم ﴿ أنكم إلينا لا ترجعون ﴾ في الآخرة للجزاء، وروى البغوي بسنده عن أنس «أن رجلاً مصاباً مرَّ به على ابن مسعود فرقاه في أذنه أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، ثم ختم السورة فبرئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال ».
وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء الفوقية وكسر الجيم، والباقون بضم الفوقية وفتح الجيم.
ثم نزّه سبحانه وتعالى نفسه عما يقوله ويصفه به المشركون بقوله تعالى :﴿ فتعالى الله ﴾ أي : الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث، وغيره مما لا يليق به ﴿ الملك ﴾ أي : المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة وحفظاً ورعاية ﴿ الحق ﴾ أي : الذي لا يتطرق الباطل إليه في شيء في ذاته ولا في صفاته فلا زوال له ولا لملكه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ فلا يوجد له نظير أصلاً في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو متعالٍ عن سمات النقص والعبث، ثم زاد في التعيين والتأكيد والتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره بقوله تعالى :﴿ رب العرش ﴾ أي : السرير المحيط بجميع الكائنات التي تنزل منه محكمات الأقضية والأحكام ولذا وصفه بالكرم فقال :﴿ الكريم ﴾ أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنه الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادّعى إلهاً آخر، فقد ادعى باطلاً بقوله تعالى :﴿ ومن يدع مع الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفء له ﴿ إلهاً آخر ﴾ يعبده ﴿ لا برهان له به ﴾ أي : بسبب دعائه بذلك إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، ثم ذكر أنّ من قال ذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله تعالى :﴿ فإنما حسابه ﴾ أي : جزاؤه الذي لا يمكن زيادته ولا نقصه ﴿ عند ربه ﴾ أي : الذي رباه ولم يربه أحد سواه الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته، فلا يخفى عليه شيء من أمره، ولما افتتح السورة بقوله :﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ ختمها بقوله :﴿ إنه لا يفلح الكافرون ﴾ أي : لا يسعدون، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
ولما شرح الله تعالى أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بالانقطاع إليه والالتجاء إلى غفرانه ورحمته بقوله تعالى :﴿ وقل رب ﴾ أي : أيها المحسن إليّ ﴿ اغفر وارحم ﴾ أي : أكثر من هذين الوصفين ﴿ وأنت خير الراحمين ﴾ فمن رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين وكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن وخيبة كل كافر، فنسأل الله تعالى أن يكون لنا ولوالدينا ولأحبابنا أرحم راحم وخير غافر إنه المتولي للسرائر والمرجو لإصلاح الضمائر.
Icon