ﰡ
(سورة المؤمنون)
(مكية وحروفها ٤٨٤٠ كلمها ١٨٤٠ آياتها ١١٨
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ٣٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
لأمانتهم على التوحيد: ابن كثير على صلاتهم موحدة: حمزة وعلي وخلف. وعِظاماً العظم موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس: ابن عامر وأبو بكر وحماد وجبلة الأول موحدا والثاني مجموعا:
زيد عن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين سَيْناءَ بكسر السين: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. تَنْبُتُ من الإنبات: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات.
تسقيكم بفتح النون: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية:
يزيد: الباقون بضم النون. مُنْزَلًا بفتح الميم وكسر الزاء: أبو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء.
الوقوف:
الْمُؤْمِنُونَ هـ لا خاشِعُونَ هـ لا مُعْرِضُونَ هـ لا فاعِلُونَ هـ لا حافِظُونَ هـ مَلُومِينَ هـ لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين أيضا العادُونَ هـ ج راعُونَ هـ لا يُحافِظُونَ هـ وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط الْوارِثُونَ هـ لا الْفِرْدَوْسَ ط خالِدُونَ هـ طِينٍ ج هـ للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر مَكِينٍ هـ ج للعطف لَحْماً صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيما آخَرَ ط الْخالِقِينَ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة لَمَيِّتُونَ هـ ط لذلك لَقادِرُونَ هـ للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء وَأَعْنابٍ لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب تَأْكُلُونَ هـ لا لأن شجرة مفعول فَأَنْشَأْنا لِلْآكِلِينَ هـ لَعِبْرَةً ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها تَأْكُلُونَ هـ لاحْمَلُونَ
هـ ط غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ مِثْلُكُمْ لا لأن قوله يُرِيدُ صفة بَشَرٌ عَلَيْكُمْ ط مَلائِكَةً ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلِينَ ج هـ للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام حِينٍ هـ كَذَّبُونِ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب فإذا مِنْهُمْ ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء ظَلَمُوا ج للابتداء بأن مع احتمال
التفسير:
لما انجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. «وقد» نقيضة «لما» لأنها تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول «البقرة». وأما الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون، وترك الالتفات، والنظر إلى موضع السجود، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه، والعبث بجسده وثيابه، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصا أو سوطا ونحوهما.
قال الحسن وابن سيرين: كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله ﷺ يفعل ذلك، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه،
وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعا: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: ٨٢] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف: ٢٠٥] وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: ٤٣] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته.
وقوله ﷺ «المصلي يناجي ربه»
ولا مناجاة مع الغفلة أصلا بخلاف سائر أركان الإسلام فإن المقصود منها يحصل مع الغفلة، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدوّ الله، وكذا الحج فإن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضرا. والمتكلمون أيضا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا: لأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور.
وعن النبي ﷺ أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال ﷺ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين.
فقال: بئس الخاطب أنت قلت: لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني: سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة، وأيضا كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراما أو مكروها أو مباحا لا ضرورة إليه ولا حاجة قولا أو فعلا.
فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:
٢٦] فإن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [البقرة: ٢٢٥] ولو لم يكن مباحا لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: ٧٢] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المراد بالزكاة هاهنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح المعنى إلا بتقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون، بل المراد فعل المزكي الذي هو التزكية.
فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة هاهنا على كل فعل محمود مرضي كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: ١٤] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «عن» وقال غيره: هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم «كان زياد على البصرة» أي واليا عليها، والمعنى أنهم
قيل: لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح.
ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: ١٢] ولورثت منه لقوله وَلَهُنَّ الرُّبُعُ [النساء: ١٢] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع حرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات
فقوله «لا صلاة إلا بطهور» «ولا نكاح إلا بولي»
لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية.
ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها، وقد مر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء:
٥٨] وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: ١] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [البقرة: ٢٣٨] وذلك في «البقرة» وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمداومة عليها وبمراقبة أعدادها وأوقاتها فرائض كانت أو سننا، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال «الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار»
وعن أبي أمامة مرفوعا «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش»
ويروى عن النبي ﷺ أنه قال «لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها: تكلمي.
فقالت: قد أفلح المؤمنون»
ويروى عن النبي ﷺ أنه قال «إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها»
قالت العلماء: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١] وكذا الكلام في كلام «طوبى». وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك «إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر».
ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع: الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد آدم لأنه استل من الطين، والكناية في جَعَلْناهُ راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون:
ومعنى أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن المقدّرين تقديرا فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة:
في الآية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقا للكفر والمعاصي.
وأجيب بأن الحسن هاهنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا: لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: ٦٢] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات.
روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يكتب لرسول الله ﷺ فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله ﷺ اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله: إن كان محمد ﷺ نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح.
وروي عن عمر أيضا سبق لسانه بقوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قبل أن ينزل.
واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به.
ويمكن إن يقال: بل الآية تتضمنها فإنها أيضا من جنس الإعادة. النوع الثاني: الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج: سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى: لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل:
لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا غافِلِينَ عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه نظيره ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: ٣] النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا: إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى بِقَدَرٍ بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع، أو بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مددا للينابيع والآبار. وقيل: أراد إثباته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة:
سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على أيّ وجه أراد، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر.
ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء بين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين: التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من
ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. قال جار الله: طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون المجموع اسما للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ سَيْناءَ بفتح السين فهو كصحراء، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون ألفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف بِالدُّهْنِ في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت: لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت، وكذا يحتمل أن تكون الباء في بِالدُّهْنِ للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديا. قال المفسرون: إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً قد مر في «النحل». ولعل القصد بالأنعام هاهنا الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة.
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ بالجمع بخلاف ما في «الزخرف» لتناسب قوله هنا مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ولتناسب قوله جَنَّاتٍ كما قال هنالك فاكِهَةٌ [الرحمن: ١١] على التوحيد لتناسب قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: ٦٣] وإنما قال هنا في الموضعين وَمِنْها تَأْكُلُونَ بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الآية: منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. واعلم أنه لما انجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من ألهم صنعتها، وفيه أيضا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية.
ثم حكى الله سبحانه عنهم شبها: الأولى قولهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار كونه مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: ٧٨] ويتأكد الاحتمال الأول بالشبهة الثالثة
١٤] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ [فصلت: ٩] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقادا وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي ﷺ بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهرا بأنه أرجح الناس عقلا ورزانة. قال جار الله: الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام: إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: ٩] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: ٩٥] أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [القصص: ٦٦] أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: ١٧٠] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعا يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحا عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك «هذا بذاك» والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: ٥٩] وباقي القصة إلى قوله إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قد مر تفسير مثلها في سورة هود.
ومعنى فَاسْلُكْ أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ [الآية: ١٢] وسَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ نقيض سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: ١٠١] لأن «على»
التأويل:
الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوا به بعد أن فنوا فيه.
الخشوع في الظاهر انتكاس الرأس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين.
والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية
فلك الشريعة في سفر السير إلى الله حْمَلُونَ
وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٥٦]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)
القراآت:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ بكسر التاء فيهما: يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه. وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء تَتْرا بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين وأن هذه بفتح الهمزة وسكون النون: ابن عامر وَإِنَّ بالكسر والتشديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون وأن بالفتح والتشديد زبرا بفتح الباء: عباس. الآخرون بضمها.
الوقوف:
آخَرِينَ هـ ج للآية مع الفاء واتصال المعنى غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ الدُّنْيا لا لأن ما بعده مقول القول مِثْلُكُمْ لا لأن ما بعده صفة بشر تَشْرَبُونَ هـ
التفسير:
عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الآية: ٦٩] وقيل: إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ومعنى فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا «بإلى» وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة أي قلنا لهم على لسان الرسول اعْبُدُوا اللَّهَ قال بعضهم: قوله أَفَلا تَتَّقُونَ غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة. والجمهور على أنه موصول لأنه دعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان. قال جار الله: إنما قال في هذه السورة وَقالَ الْمَلَأُ بالواو وفي الأعراف قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الآية: ٦٦] بغير واو ومثله في سورة هود قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [الآية: ٥٣] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله. وقال السكاكي صاحب المفتاح: إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله مِنْ قَوْمِهِ على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله مِنْ قَوْمِهِ متعلق بالدنيا. ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب. وَمعنى أَتْرَفْناهُمْ أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى. وقوله مِمَّا تَشْرَبُونَ أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه. ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ «واذن» واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم
السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء. ثم دعا عليهم بالهلاك في الدارين بقوله فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كما مر في سورة هود. وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحا بخلاف ما يجيء من قوله فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا
والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في «الأعراف» وفي «هود» وغيرهما. وعن ابن عباس أنهم بنو إسرائيل. والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهم وبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم. ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها، وفيه أن المقتول ميت بأجله. وقال الكعبي: معنى الآية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا، وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم. ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحدا، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضا في الإهلاك. والتاء في تَتْرا بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحدا بعد واحد، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا فلذلك جاء في القرآن «رسلنا» و «رسلهم» و «رسولها» وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعا له من غير لفظه، ومنه أحاديث الرسول ﷺ ويكون جمعا للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخبارا يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية. ثم ذكر طرفا من قصة موسى عليه السلام. عن الحسن بِآياتِنا أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلطان المبين هو المعجز، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات التسع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها.
ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها، أو يراد به تسلط موسى عليه السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزنا. ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم. أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدما وعبيدا لهم. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على الواحد وعلى الجمع. والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ويقال أيضا: هما مثلاه وهم أمثاله. ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك. ثم حكى ما
ثم أجمل قصة عيسى بقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الآية: ٩٢] قال جار الله: لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر. واللفظ محتمل للتثنية على تقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. والأقرب حمل اللفظ على الوجه الذي لا يتم إلا بمجموعهما وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة. والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة. عن كعب وقتادة وأبي العالية: هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وعن الحسن: فلسطين والرملة. ومثله عن أبي هريرة قال: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه «معيون» على «مفعول» وقال الفراء والزجاج: إن شئت جعلته «فعيلا» من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي: المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى. وقال جار الله:
ووجه من جعله «فعيلا» أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. قال المفسرون:
سببب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد ما مات ملكهم. قوله سبحانه يا أَيُّهَا الرُّسُلُ ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه: أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل حقيق أن
روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله ﷺ بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره ﷺ وهو صائم فرده الرسول إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت:
اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا.
وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: ١٧٣] والمراد نعيم بن مسعود. ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام، فكلا مما رزقناكما واعملا عملا صالحا اقتداء بالرسل. وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا ﷺ لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال. وقيل: طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه، وصاف لا ينسى الله فيه، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل. وفي تقديم الأكل من الطيبات على الأمر بالعمل الصالح دليل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقا بأكل الحلال. وفي قوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تحذير من مخالفة هذا الأمر. وقال في سورة سبأ إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الآية: ١١] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد هاهنا على الأصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود.
ومن قرأ وَإِنَّ بالكسر فعلى الاستئناف، ومن قرأ بالفتح مخففا ومشددا فعلى حذف لام التعليل والمعلل فَاتَّقُونِ ثم من قال: الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية.
والضمير في فَتَقَطَّعُوا راجع إلى أممهم. قال الكلبي ومقاتل والضحاك: يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. ومن قال: الخطاب لعيسى فهذه إشارة إلى ملته في وقتها.
وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار إليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال فَتَقَطَّعُوا بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد من المأمور به كان سبب الذم أقوى، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله زُبُراً بضم الباء جمع زبور أي حال كونه كتبا مختلفة يعني جعلوا دينهم أديانا ومذاهب
التأويل:
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون.
«المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء»
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «١» وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع وَآوَيْناهُما يعني مريم النفس وعيسى القلب إِلى رَبْوَةٍ القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان يا أَيُّهَا الرُّسُلُ أي القوى المرسلة إلى القالب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ الى ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠)
القراآت:
تهجرون بضم التاء وكسر الجيم: نافع. الآخرون بفتح التاء وضم الجيم خرجا فخرج بغير الألف فيهما: ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف. الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني فتحنا بالتشديد: يزيد سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الثانية والثالثة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك «من رب هذا» «ولمن هذا» في معنى واحد.
مُشْفِقُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ لا يُشْرِكُونَ هـ لا راجِعُونَ هـ لا لأن الكل معطوفات على اسم «إن» والخبر أُولئِكَ الجملة سابِقُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ عامِلُونَ هـ يَجْأَرُونَ هـ لا لحق القول لا تُنْصَرُونَ هـ تَنْكِصُونَ هـ لا لأن ما بعده حال مُسْتَكْبِرِينَ هـ قد قيل: على جعل الجار والمجرور مفعول سامِراً أو مفعول تَهْجُرُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ مُنْكِرُونَ هـ لصورة الاستفهام وهو العطف جِنَّةٌ ط كارِهُونَ هـ فِيهِنَّ ط مُعْرِضُونَ هـ ط لأن الاستفهام إنكار خَيْرٌ ز وقد قيل: بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه. الرَّازِقِينَ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ لَناكِبُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ مُبْلِسُونَ هـ وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ وَالنَّهارِ ط تَعْقِلُونَ هـ الْأَوَّلُونَ هـ لَمَبْعُوثُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الْعَظِيمِ هـ لِلَّهِ ط تَتَّقُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تُسْحَرُونَ هـ لَكاذِبُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما نفي الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع: الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبىء عن تكرار، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال: جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة. والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته. ومنهم من قال: الإشفاق كمال الخوف أي هم من سخط الله عاجلا ومن عقابه آجلا في نهاية الخوف، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي. وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى.
الثانية قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ والظاهر أنها القرآن. وقيل: هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع. وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح، بل التصديق بكونها دلائل موصلة إلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهرا. الثالثة التبري عما سوى الله ظاهرا وباطنا بأن لا يشرك به طرفة عين. الرابعة قوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة في شأن ذلك الإعطاء. ثم علل ذلك الوجل بقوله أَنَّهُمْ أي لأنهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ
فإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق، ويحتمل
روي أن رسول الله ﷺ قرأ ويأتون ما أتوا
أي يفعلون ما فعلوا.
وعن عائشة أنها قالت: قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه.
وفي قوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ معنيان: أحدهما يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها.
قال جار الله: وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقال في قوله وَهُمْ لَها سابِقُونَ إنه متروك المفعول أو منويه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها، والمراد إياها سابقون كقولك «هو لزيد ضارب» بمعنى «هو زيدا ضارب» جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا. وجوّز أن يكون لَها سابِقُونَ خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك «هذا هو» لهذا الأمر أي صالح له.
وحين انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لها الأوّل قوله وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وفي الوسع قولان: أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائما فليصل قاعدا وإلا فليوم إيماء. وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم. الثاني قوله وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ والمراد بنطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل.
والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم. أما قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ففيه طريقان: أحدهما راجع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون. وَلَهُمْ أَعْمالٌ متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى. هُمْ لَها عامِلُونَ في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها بحكم الشقاء الأزلي. وثانيهما وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ونهايته ما أتى به هؤلاء. وَلَدَيْنا كِتابٌ يحفظ أعمالهم. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود وَلَهُمْ أَعْمالٌ من دُونِ ذلِكَ الذي وصف هُمْ لَها
وهي النوافل السرية والأعمال القلبية. ثم إنه رجع إلى وصف الكفار بقوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين
دعا عليهم رسول الله ﷺ فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف.
فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. والجؤار الصراخ باستغاثة. ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم.
ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في «الأنعام».
وفي مرجع الضمير في بِهِ أقوال: أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد. وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكبارا وعتوّا. ورابعها أنه يتعلق ب سامِراً أو ب تَهْجُرُونَ والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان، وأهجر في منطقه إذا أفحش. والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله ﷺ والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع.
ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور أربعة: الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به. الثاني قوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ والمراد أمر الرسالة. ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: ٦] فلذلك أنكروه واستبعدوه، أو تقرير أنه أتى آباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال، فما دعاهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وقيل: أراد أفلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟
عن النبي ﷺ «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما
الثالث قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبها على مصدوقية أمر النبي فقال بَلْ جاءَهُمْ متلبسا بِالْحَقِّ أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وأقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفا من قالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ نظيره ما مر في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وقيل: الحق الإسلام، والمراد لو انقلب الإسلام شركا كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: الحق هو الله، والمعنى لو كان الله آمرا بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلها ولكان شيطانا فلا يقدر على إمساك السموات والأرض، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ إن كانت الباء للتعدية فظاهر، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف أي أتاهم رسولنا متلبسا بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ١٦٩] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي جعلا وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل: الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون خَرْجاً فَخَراجُ يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.
وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب، وأشار إلى هذه الطرق بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالاخرة عَنِ الصِّراطِ المستقيم المذكور لَناكِبُونَ والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع
روى أحمد في مسنده (٥/ ٣٤٠) «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم»
ولم يأت على ذكر التبعية.
يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، جاء أبو سفيان إلى رسول الله ﷺ فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال:
بلى. فقال الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أن يكشف عنا الضر فأنزل الله الآية.
والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان.
ثم استشهد على ذلك بقوله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أي قبل ذلك بِالْعَذابِ يعني ما جرى عليهم يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في «آل عمران» وَما يَتَضَرَّعُونَ عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك. ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، والإبلاس السكوت مع تحير أو اليأس من كل خير. ثم نبه بقوله وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ على أن أسباب التأمل في الدلائل موجودة، وأبواب الأعذار بالكلية مسدودة، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي. وفي قوله قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تشكرون شكرا قليلا «وما» مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد. وعن أبي مسلم أنه قال: أراد بالقلة العدم. وفي الآية ثلاثة معان: أحدها إظهار النعمة. وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله. وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل.
ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة. وفي قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وتهديد. ثم نبه بقوله بَلْ قالُوا الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد. قال علماء المعاني: قوله لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا وارد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني. وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر
ومعنى تُسْحَرُونَ تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين بقوله بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق وَإِنَّهُمْ مع ذلك لَكاذِبُونَ حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة.
التأويل:
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه وَهُمْ لَها سابِقُونَ على قدر سبق العناية وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم حتى إذا أخذنا أَكابِرَ مُجْرِمِيها مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أولا بعذاب الغبن حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها وَلَهُ اخْتِلافُ ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال قالُوا
فيه أن اليأس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته وَهُوَ يُجِيرُ الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٩١ الى ١١٨]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
القراآت:
عالم بالرفع: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ، الآخرون بالخفض لَعَلِّي أَعْمَلُ بسكون الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. شقاوتنا حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون شِقْوَتُنا بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. سِخْرِيًّا بضم السين وكذلك في صاد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي
الوقوف:
عَلى بَعْضٍ ط يَصِفُونَ هـ ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف يُشْرِكُونَ هـ ما يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله «فلا» جواب للشرط وهو إما والنداء عارض الظَّالِمِينَ هـ لا لَقادِرُونَ هـ السَّيِّئَةَ ط يَصِفُونَ هـ الشَّياطِينِ هـ لا يَحْضُرُونِ هـ ارْجِعُونِ هـ لا لتعلق لعل كَلَّا ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل: مبتدأ بها بمعنى حقا والأول أحسن قائِلُها ط يُبْعَثُونَ هـ وَلا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدُونَ هـ كالِحُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ضالِّينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَلا تُكَلِّمُونِ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء تَضْحَكُونَ هـ صَبَرُوا ط لمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر الْفائِزُونَ هـ سِنِينَ هـ الْعادِّينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لا تُرْجَعُونَ هـ الْحَقُّ هـ لا لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي تعالى متوحدا غير مشارك إِلَّا هُوَ هـ لا لأن قوله رَبُّ الْعَرْشِ يصلح بدلا من هو وخبر مبتدأ محذوف الْكَرِيمِ ط آخَرَ لا لأن الجملة بعده صفة بِهِ لا لأن ما بعده جواب عِنْدَ رَبِّهِ ط الْكافِرُونَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ.
التفسير:
لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ بقوله وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال لأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله إِذاً لَذَهَبَ وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخرين. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمر نبيه ﷺ بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَجْعَلْنِي قريبا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ
عن الحسن أنه ﷺ كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» «١»
فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلا كما يقال: أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم
عن النبي ﷺ وقد اشتكى إليه رجل أرقا به فقال: إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
قوله حَتَّى إِذا جاءَ قيل: متعلق بقوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وقيل:
ب يَصِفُونَ أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسأل الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ [الانعام: ٢٧] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي [المنافقون: ١٠] وأما وجه الجمع في قوله ارْجِعُونِ مع وحدة المنادي
٢٤] أي ألق ألق. وقيل رَبِّ للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر:
ألا فارحموني يا إله محمد وقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
عن النبي ﷺ «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت»
قال جار الله: أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسا وأبني عليه. وقيل: أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل: كيف سألوا الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئا مع علمه بتعذره كقول القائل «ليت الشباب يعود» والاستغاثة بجنس هذه المسألة قد تحسن.
قولهم لَعَلِّي ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر «مكنوني لعلي أتدارك» مع كونه جازما بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله كَلَّا أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة إِنَّها كَلِمَةٌ والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ الضمير لكل المكلفين أي أمامهم بَرْزَخٌ حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف: حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قد مر معناه في أواخر «طه». وقوله فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل، فقد يكون أحد القريبين في
عن النبي ﷺ «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس: حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين وعلى جسر جهنم»
وقد مر مثل اية الموازين في أول «الأعراف» فليرجع إلى هنالك. وقوله فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ولا محل له كالمبدل فإن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس: خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى تَلْفَحُ تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن.
وعن النبي ﷺ أنه قال: تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته.
وقال الجوهري: الكلوح تكشر في عبوس.
ثم بيّن سبحانه أنه يقال لهم حينئذ تقريعا وتوبيخا أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالت المعتزلة: لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر، وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله: معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي:
أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي في علم الله وسابق تقديره.
وحمله المعتزلة على الاعتراف بأنهم اختاروا الضلال قالوا: ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن
ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ قالَ فالضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة، ومن قرأ قل فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا كَمْ لَبِثْتُمْ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول أيام سرور والثاني أيام غم وحزن. واختلفوا في الأرض فقيل: وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخا. وقال آخرون: المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة «في» ولقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ
وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا: إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره، أو اسأل الملائكة الذين يعدّون أعمال العباد ويحصون أعمالهم.
وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل: أرادوا بقولهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلا. ثم زاد في التوبيخ بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوفا على عَبَثاً أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلا فَتَعالَى الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال «بيت كريم» إذا كان ساكنوه كراما. وقرىء الْكَرِيمِ بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: ١٥١] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقول القائل: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرىء إِنَّهُ لا يُفْلِحُ بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير. جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وأورد في خواتيهما إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ نبه
التأويل:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
في طلب الحق شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٧] عن طلب الغير فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعلقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقيا، فإذا تصرفت الدجاجة فيها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ: مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة. ولهذا قال فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأجيبوا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم العلماء بالله النصحاء لأجله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بهممهم وبيد الرد ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات.