تفسير سورة الشعراء

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الشعراء من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

و( السليم ) : هو السالم، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات، كالطويل والقصير والظريف. فالسليم : القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير.
وأيضا : فإنه ضد المريض والسقيم والعليل.
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم.
والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله صلى الله عليه وسلم فسلم في محبته مع تحكيمه لرسوله صلى الله عليه وسلم في خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شركة بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة، ومحبة وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء. وخلص عمله وأمره كله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن بغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله. ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأموال والأعمال : من أقوال القلب، وهي العقائد. وأقوال اللسان، وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله. دقِّه وجَله : هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ [ الحجرات : ١ ] أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.
قال بعض السلف : ما من فعلة، وإن صغرت، إلا ينشر لها ديوانان : لم ؟ وكيف ؟ أي لم فعلت ؟ وكيف فعلت ؟
فالأول : سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس وخوف ذمهم ؟
أو استجلاب محبوب عاجل أو دفعه مكروه عاجل ؟ أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية لله، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه، وابتغاء الوسيلة إليه ؟
ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك ؟
والثاني : سؤالك عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد. أي : هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه ؟
فالأول : سؤال عن الإخلاص.
والثاني : عن المتابعة. فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما.
فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص. وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة. وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص ومن هوى يعارض الإتباع. فهذا حقيقة سلامة القلب. فمن سلم قلبه ضمنت له النجاة والسعادة.
وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار، كقوله :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ [ الأنعام : ١ ].
وأصح القولين : أن المعنى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فيجعلون له عدلا يحبونه ويقدسونه ويعبدونه، كما يعبدون الله، ويعظمون أمره.
وقال في «طريق الهجرتين » :
وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات، بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم، مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها. فتصحيح هذه : هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله.
فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها : أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله. فإن الشأن كله فيها، والمدار كله عليها، والسؤال يوم القيامة عنها. قال تعالى :﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون ﴾ [ الحجر : ٩٢. ٩٣ ] قال غير واحد من السلف : هو عن قول «لا إله إلا الله » وهذا حق. فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، وواجباتها ولوازمها فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها، ولوازمها وحقوقها. قال أبو العالية : كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟
فالسؤال عماذا كانوا يعبدون : هو السؤال عنها نفسها. والسؤال عماذا أجابوا المرسلين : سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها ؟
فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تُثْنَى عليه الخناصر، ويُعَضَّ عليه بالنواجذ، ويُقبض فيه على الجمر. ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضله، بل يجعل هو المطلب الأعظم، وما سواه إنما يطلب على العضلة، والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
Icon