مدنية وآياتها مائتان
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحي القيوم ﴾( راجع آية ٢٥٥ البقرة ص٨٣ )
﴿ نزل عليك الكتاب ﴾أي القرآن. وفي تخصيص القرآن بصيغة التنزيل إيماء إلى أنه نزل منجما على التدريج، بخلاف التوراة والإنجيل فقد نزلا جملة.
﴿ وأنزل الفرقان ﴾الفرقان : كل ما فرق به بين الحق والباطل. مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقانا، إذا فصل بينهما. أي وأنزل بهذه الكتب الفرقان بين الحق والباطل، فلم يبق لأحد عذر في جحودها والكفر بها.
﴿ عزيز ﴾ منيع الجانب. أو قوي غالب كل شيء، من العزة وهي حالة تمنع الإنسان أن يغلب ويقهر. يقال : عز يعز عزا وعزة، صار عزيزا وقوي بعد ذلة.
﴿ ذو انتقام ﴾ذو عقوبة شديدة لمن يكفر به لا يقدر على مثلها منتقم. يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته. والفعل المجرد منه نقم، كضرب علم.
﴿ آيات محكمات ﴾آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها ولا اشتباه. من الإحكام بمعنى الإتقان. يقال : أحكمه أي أتقنه، فاستحكم ومنعه من الفساد، كحكمه حكما. وذلك لإحكام عبارتها عن احتمال التأويل والاشتباه، ولمنع الخلق من التصرف فيها، لظهورها ووضوح معانيها، وإقامتها حجة من الله على عباده، وعصمة لهم من الزيغ. وإلى هذا المعنى يرجع تفسير بعضهم المحكمات : بما عرف تأويلها وفهم معناها المراد منها، أو مالا التباس فيها، ولا تحتمل من التأويل إلا وجها واحدا. ( المسألة الرابعة من المقدمة ص٨ ).
﴿ هن أم الكتاب ﴾أي أصله الذي يعول عليه في الأحكام، ويرجع إليه في الحلال والحرام، ويرد إليه ما تشابه من آياته وأشكل من معانيها. وأم كل شيء : أصله وعماده، قال الخليل : كل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى في لغة العرب أما.
﴿ وأخر متشابهات ﴾ومنه آيات أخر متشابهات وهي غير المحكمات. والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه، كوقت الساعة والروح والحروف المقطعة في أوائل السور، وإليه ذهب الحنفية. أو مالا يتضح معناه إلا بالنظر الدقيق وهو يشمل المجمل ونحوه، وإليه ذهب الشافعية. أو ما دل الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد، ولم يقم دليل على تعيين المراد منه، كآيات الصفات مثل : الاستواء واليد والقدم، والتعجب والضحك والفوقية، والنزول والرحمة والغضب، ونحو ذلك. يقال : اشتبه الأمران، إذا أشتبه كل واحد منهما الآخر حتى التبسا. وأمور مشتبهة ومشبهة – كمعظمة – مشكلة. وشبه عليه الأمر تشبيها : لبس عليه.
﴿ في قلوبهم زيغ ﴾ميل عن الاستقامة وانحراف عن الحق، وطرح للقصد السوي. يقال : زاغ يزيغ، مال. ومنه : زاغت الشمس إذا مالت.
﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ الابتغاء : الاجتهاد في الطلب. يقال : بغيت الشيء وابتغيته، إذا طلبت أكثر ما يجب. والفتنة : ما يدفع إليه الإنسان من شدة. وابتغاء الفتنة : طلب فتنة المؤمنين عن دينهم، بالتشكيك والتلبيس، وإثارة الشبه ومناقضة المحكم بالمتشابه. أو فتن أتباعهم الجهال بذلك.
﴿ وابتغاء تأويله ﴾وطلب تأويل الكتاب وتحريفه، التأويل الباطل الذي يشتهونه، والتحريف السقيم الذي يقصدونه، زاعمين أنه الغاية المرادة منه، وذلك شأن أهل البدع والأهواء والملاحدة في كل عصر.
و تبعهم في ذلك الذين سموا أنفسهم مبشرين في هذا العصر. والتأويل : يطلق بمعنى التفسير والبيان، ومنه :( نبئنا بتأويله ) ، وقول المفسرين : تأويل هذه الآية كذا وكذا. وبمعنى حقيقة الشيء وما يئول إليه، من الأول وهو الرجوع إلى الأصل، ورد الشيء إلى الغاية المرادة منه. يقال : آل الأمر إلى كذا يئول أولا، رجع. وأولته إليه رجعته، ومنه :( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ) أي ما ينتظرون إلا حقيقة ومآل ما اخبروا به من أمر المعاد. والمراد هنا المعنى الثاني، على ما اختاره الراغب. وذهب آخرون إلى اختيار المعنى الأول.
﴿ والراسخون في العلم ﴾ أي الثابتون المتمكنون فيه، وهم الذين أتقنوا علمهم، فلم يداخلهم فيه شك
ولم تعرض لهم فيه شبهة. وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض، واستعمل في المعاني، ومنه : رسخ الإيمان في قلبه، أي ثبت واستقر.
فإذا فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه فالوقف على لفظ الجلالة، وما بعده استئناف، أي والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ويفوضون علمه إليه سبحانه، ولا يقتحمون أسواره، كأهل الزيغ والضلال الذين خلطوا فيه بغير علم، واتبعوا أهواءهم بغير هدى.
وإذا فسر بما لا يتضح معناه إلا بنظر دقيق، فالحق الوقف على لفظ " العلم " ، أي أنه لا يعلم تأويله الحق المطابق للواقع إلا الله والراسخون في العلم، دون أولئك الزائغين. ويجوز الوقف على لفظ الجلالة، لأنه لا يعلمه بالكنه سواه.
وإذا فسر بما قام الدليل القاطع على أن ظاهره غير مراد، مع عدم قيام الدليل على تعيينه، جاز الوقف والعطف عند من يجوز الخوض فيه، وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله، وهم جمهور الخلف. ووجب الوقف على لفظ الجلالة عند من يمنع الخوض فيه ويمنع تأويله، وهم جمهور السلف.
ونقل ابن كثير : أنه إذا أريد من التأويل المعنى الأول الذي أسلفناه فالوقف على لفظ( العلم )، لأن الراسخين يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على ما هي عليه. وإذا أريد منه المعنى الثاني فالوقف على لفظ الجلالة، لأن الحقائق لا يعلمها على الجلية إلا الله عز وجل.
والحكمة في إنزال المتشابه على التفسير الأول : الابتلاء به، ليخضع العبد لسلطان الربوبية ويقر بالعجز والقصور. وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة، كما ابتلى سبحانه عباده بسائر التكاليف والعبادات. وعلى التفسير الثاني وكذا الثالث : أن يشتغل أهل النظر والفقه في الدين برد المتشابه إلى المحكم، فيطول بذلك نظرهم، ويتصل بالبحث عن معانيه فكرهم، فيثابون على اجتهادهم كما أثيبوا على عباداتهم. ولو أنزل القرآن كله محكما لاستوى في معرفته العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر وخمدت القرائح، ومع الغموض والخفاء تقع الحاجة إلى الفكرة، والحيلة إلى استخراج المعاني.
هذا، إلى أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة والإعجاز، وفي ألفاظه وآياته وأسلوبه من المجازات والكنايات، والتشبيهات، ما يوجب كد الأذهان وشحذ القرائح، لاستخراج معانيه واستقصاء مراميه، وذلك مما لا يقدر عليه إلا من أوتي أوفر حظ من العلم والفقه، وكانت له قدم راسخة في البحث والفهم.
هذا، ومن المتشابه آيات الصفات أحاديث الصفات كما قدمنا. ومذهب السلف فيها : أنها صفات ثابتة لله تعالى وراء العقل، جاء بها السمع، فيجب الإيمان بها كما وردت، مع وجوب اعتقاد تنزيهه تعالى عن التجسيم والتشبيه، لئلا يضاد النقل العقل، وأن ظاهرها غير مراد قطعا لاستحالته عليه تعالى : فإن ذاته وصفاته مخالفة لذوات المحدثات وصفاتهم. قال الشعراني وغيره : إن مذهب السلف أسلم وأحكم، وقد درج عليه صدر الأمة وسادتها، واختاره أئمة الفقه والحديث، حتى قال الإمام محمد ابن الحسن : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه. اه. أي من غير تأويل على سبيل التفصيل، ولا تمثيل له بالحوادث، تعالى الله عن الشبيه والمثال. ( راجع المسألة الرابعة من المقدمة ص٨ )
﴿ ربنا لاتزغ قلوبنا ﴾أي لا تملها عن الحق والإيمان بك والتسليم لك. يقال : زاغت الشمس تزيغ زيغ، مالت. وهو من قول الراسخين. وقيل من كلامه تعالى، أي قولوا ذلك.
﴿ كدأب آل فرعون ﴾أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم. وأصل الدأب : الدوام، يقال : دأب على كذا يدأب دأبا ودأبا ودءوبا، إذا دوام عليه وجد فيه وتعب. ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة.
﴿ قل للذين كفروا ﴾قل لليهود الذين دعوتهم إلى الإسلام فتمردوا عليك بنقض العهد، وممالاة قريش عليك بعد غزوة أحد، وقالوا : لسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال، بل نحن أولو قوة ومعرفة به- إنكم ستغلبون في القتال كما غلب المشركون في بدر. ﴿ وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد ﴾ما مهدتموه لأنفسكم في الآخرة. والمهاد –كفراش وزنا ومعنى – وهو الموضع الذي يوطأ للصبي ويمهد له، وجمعه مهد، ككتاب وكتب.
﴿ في فئتين ﴾جماعتين التقتا في القتال يوم بدر، جماعة المسلمين وجماعة المشركين. وأصل الفئة :
من الفيء، وهو الرجوع. وسميت الجماعة فئة لأنه يرجع إليها في وقت الشدة، وجمعها فئات وفئون.
﴿ يرونهم مثليهم.. ﴾يرى الكفار المسلمين مثليهم، أي مثلي الكفار في العدد، وذلك عند الالتحاق في ساحة القتال، لتضعف قلوبهم وينهزموا، فيتمكن منهم المسلمون قتلا وأسرا. وأما تقليلهم في أعين الكفار في قوله تعالى :﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ فهو قبل ذلك، ليطمعوا في المسلمين ولا يجبنوا عن قتالهم. ﴿ والله يؤيد بنصره ﴾يقوى بنصره ولو بدون الأسباب العادية. يقال : أيدته تأييدا فهومِؤيد، أي قويته تقوية وأعنته، ومنه : " ذا الأيد " أي القوة.
﴿ إن في ذلك لعبرة ﴾لعظة من العبور، وهو التجاوز من حال إلى حال، ومنه : عبر الوادي
يعبره عبرا وعبورا، قطعه من عبره إلى عبره، أي من شاطئه إلى شاطئه. وسمى الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة.
﴿ والبنين ﴾لم يذكر البنات لشمول البنين لهن على سبيل التغليب.
﴿ والقناطير المقنطرة ﴾جمع قنطار، وهو المال الكثير الذي يتوثق به في دفع الحاجة. مأخوذ من الإحكام، تقول : قنطرت الشئ إذا أحكمته، ومنه القنطرة لتوثقها بعقد الطاق. والمقنطرة : أي المجموعة قنطارا قنطارا، كقولهم : دراهم مدرهمة، وإبل مؤبلة. وذكره للتأكيد.
﴿ والخيل المسومة ﴾أي الراعية في المروج والمسارح، يقال : سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى.
أو المطهمة الحسان، من السيما بمعنى الحسن. أوالمعلمة ذات الغرة والتحجيل، من السمة أو السومة بمعنى العلامة. والخيل : اسم جمع كرهط. أو جمع خائل، كطير وطائر. وسميت خيلا لاختيالها في مشيتها بطول أذنابها.
﴿ والأنعام ﴾الإبل والبقر والغنم، جمع نعم. ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة.
﴿ حسن المآب ﴾المرجع الحسن وهو الجنة، في الأحق بالرغبة فيها لبقائها دون المتع الفانية.
والمآب : اسم مصدر بوزن مفعل، من آب-كفال-إيابا وأوبا ومآبا، إذا رجع. وأصله مأوب، نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفا، مثل مقال.
﴿ ورضوان من الله ﴾رضاء عظيم منه تعالى، لا سخط بعده أبدا.
﴿ والقانتين ﴾ المطيعين الخاضعين لله، من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع.
﴿ والمستغفرين بالأسحار ﴾جمع سحر، وهو من ثلث الليل الأخير. أو من حين يدبر الليل إلى طلوع الفجر. وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة، إذ العبادة حينئد أشق، والنفس أصفى، والروع أجمع. وعن أنس : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
﴿ قائما بالقسط ﴾قائما بالعدل في قسمه وحكمه، وتدبير أمر خلقه. والقسط والإقساط : العدل.
يقال : قسط يقسط ويقسط قسطا، وأقسط إقساطا فهو مقسط، إذا عدل، ومنه :( إن الله يحب المقسطين ). ويطلق القسط على الجور، والفاعل قاسط، ومنه :( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ).
﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾أي إن الشريعة المرضية عند الله تعالى هي : الاستسلام والانقياد إليه، والدخول في طاعته. يقال : أسلم أي انقاد واستسلم، وأسلم أمره لله سلمه إليه. وفسر قتادة الإسلام بأنه : شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرعه وبعث به رسله، ودل عليه أولياء، فلا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به. وهو الدين الحنيف الذي جاء به خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ الذين أوتوا الكتاب ﴾هم اليهود والنصارى، وقد اختلفوا في الإسلام أو في التوحيد من بعد قيام الدلائل على صحته، وشهادة كتبهم به.
﴿ أسلمت وجهي لله ﴾أخلصت عبادتي لله وحده، وأطعته وانقدت له. وعبر عن الذات بالوجه لأنه أشرف الأعضاء، وبه يحصل التوجه إلى كل شيء.
﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب ﴾هذه الآية من أصرح الأدلة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للخلق كافة. قد نطقت بذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، قال تعالى :﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ﴾ وقال :﴿ ليكون للعالمين نذيرا ﴾ . وقال صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار ). وقال :( بعثت إلى الأحمر والأسود ). والأميون : من ليس لهم كتاب، والمراد مشركو العرب.
﴿ ألم تر ﴾ خطاب لكل من يتأتى منه الرؤية، على طريق الاستفهام التعجبي من حال اليهود من أهل الكتاب. أي ألم ينته علمك إلى الذين... الآية. والكتاب : التوراة.
﴿ أياما معدودات ﴾ أربعين يوما، وهي مدة عبادتهم العجل. فهونوا على أنفسهم الخطوب، ولم يبالوا بالمعاصي والذنوب.
﴿ اللهم ﴾ أصله : يا ألله، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم المشددة.
﴿ تولج الليل في النهار.. ﴾ تدخل طائفة من الليل في النهار، فيقصر الليل ويزيد النهار،
وتدخل طائفة من النهار في الليل، فيقصر النهار ويزيد الليل، من الولوج وهو الدخول، يقال : ولج منزله يلجه، دخله، ويقال : أولجه، أدخله.
﴿ وتخرج الحي من الميت... ﴾ تخرج الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، وتخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس، وتخرج الحب اليابس الحي النامي.
﴿ بغير حساب ﴾ ( آية ٢١٢ البقرة -٦٩ ) وفي الآية دليل على مزيد عظمته، وكمال قدرته على البعث والجزاء.
﴿ لا يتخذ المؤمنون... ﴾ كان بعض اليهود يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال لهم بعض الصحابة : اجتنبوهم، واحذروا مباطنتهم، لا يفتنوكم، عن دينكم، فأبوا إلا ملازمتهم، فنزلت الآية. أي لا تتخذوا لكم أنصارا وبطانة من الكافرين، متجاوزين إخوانكم المؤمنين، تسرون إليهم بالمودة وتركنون إليهم، وتلقون إليهم ذات صدوركم، فإنهم لا يألون جهدا في مضرتكم والنكاية بكم. ومثله قوله تعالى :( لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ). وقوله تعالى :( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ). وقوله تعالى :( لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) وقوله تعالى :( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ).
والأولياء : جمع ولي، بمعنى الموالي، من الولي وهو القرب.
﴿ فليس من الله شيء ﴾ أي ومن يوال الكفار هذه الموالاة، فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، بمعنى أنه منسلخ من ولاية الله رأسا.
﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ أي إلا أن تخافوا منهم مخافة. أو تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، من الضرر في النفس أو المال أو العرض. وذلك إذا كان الكفار غالبين ظاهرين، أو كنتم في قوم كفار، فيرخص لكم في مداراتهم باللسان، على ألا تنطوي قلوبكم على شيء من مودتهم، بل تدارونهم وأنتم لهم كارهون، وألا تعملوا ما هو محرم، كشرب الخمر، وإطلاعهم على عورات المسلمين، والانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين، فلا رخصة إلا في المداراة باللسان. وعن معاذ ومجاهد : أن هذا الحكم قد نسخ بعد قوة الإسلام. وعن الحسن : جواز التقية في كل وقت، لدفع الضرر بقدر الإمكان. و﴿ تقاة ﴾ مصدر تقيته –كرميته- بمعنى اتقيته، ووزنه فعلة، ويجمع على تقى، كرطبة ورطب. وأصل تقاة : وقية من الوقاية، فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. و( تقاة ) على المعنى الأول مفعول مطلق، والتقدير : إلا أن تتقوا منهم اتقاء، فوقع ( تقاة ) موقع اتقاء، والعرب تنيب المصادر بعضها عن بعض. وعلى المعنى الثاني مصدر مفعول به، وتقديره : إلا أن تتقوا منهم متقى، أي أمرا يتقى ويخاف ويحذر.
﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ يخوفكم عقابه وانتقامه.
﴿ محضرا ﴾ مشاهدا في الصحف لم يبخس منه شيء، قال تعالى :( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا } .
﴿ تحبون الله ﴾ أي تحبون طاعته أو ثوابه. وأكمل من ذلك : محبته تعالى لذاته، لا طمعا في ثوابه، ولا خوفا من عقابه.
﴿ إن الله اصطفى آدم ﴾ نزلت حين قال اليهود : نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم. أي أن الله تعالى اختار هؤلاء لأداء رسالته وهي الإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، إذ أمركم باتباعه فخالفتم، إليكم رسولا بشر به موسى وعيسى فكذبتم، وهو من بيت النبوة، ومن ذرية إبراهيم، كموسى وعيسى عليهما السلام، وقد اصطفاه كما اصطفى من قبله فلم كفرتم به ؟.
﴿ امرأة عمران ﴾ هي حنة أم مريم. وعمران هذا، غير عمران أبي موسى عليه السلام، وبينهما نحو ألف وثمنمائة سنة.
﴿ محرر ﴾ مخلصا لعبادتك وخدمة بيت المقدس، معتقا من أمر الدنيا، من حررت العبد : خلصته من الرق وأعتقته. ورجل حر : إذا كان خالصا لنفسه، ليس لأحد عليه يد وتصرف.
﴿ أعيذها بك ﴾ أمنعها وأجيرها بحفظك، من العوذ، وهو أن تلتجئ إلى غيرك وتتعلق به. يقال : عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه العوذة، وهي التميمة والرقية.
﴿ وكفلها زكريا ﴾ ضمها الله تعالى إلى زكريا وجعله كافلا لها، وضامنا لمصالحها –وهو زوج خالتها –بالقرعة التي أجروها حينما اختلفوا فيمن يكفلها، من الكفالة بمعنى الضمان. يقال : كفله وتكفل به وأكفله إياه، ضمنه. والكفيل : الضامن، كالكافل، وهو الذي يعول غيره.
﴿ المحراب ﴾ هو غرفة في بيت المقدس، لا يصعد إليها إلا بسلم أو هو المسجد، وكانت مساجدهم تسمى المحاريب. وسمي محرابا لأنه محل محاربة الشيطان والهوى.
﴿ أنى لك هذا ﴾ من أين يجيء لك هذا الرزق الذي أرى عندك في غير أوانه ؟ وتستعمل ( أنى ) بمعنى من أين ومتى وكيف، لتضمنها معانيها.
﴿ مصدقا بكلمة من الله ﴾ أي بكلمة كائنة من الله، يعنى عيسى بن مريم. وسمى كلمة لأن الله تعالى خلقه بكلمة ( كن ) من غير توسط سبب عادي فكان، وكان تأثير الكلمة في حقه أظهر أو مصدقا بكتاب من الله، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه، كما تقول العرب : أنشدني كلمة، يريدون قصيدة.
﴿ وحصورا ﴾ هو من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، من الحصر وهو الحبس، لحبسه نفسه عن شهوتها.
﴿ عاقر ﴾ عقيم لا تلد لكبر سنها، من العقر وهو العقم. يقال : عقرت المرأة تعقر عقرا وعقرا، فهي عاقر.
﴿ رب اجعل لي آية ﴾ علامة تدلني على حصول الحمل، لأبادر إلى شكر هذه النعمة والقيام بحقها.
﴿ إلا رمزا ﴾ إيماء وإشارة، حيث حبس عن النطق من غير آفة. وفعله من بابي نصر وضرب. والاستثناء منقطع، لأن الرمز ليس من جنس الكلام، أي النطق باللسان.
﴿ وسبح بالعشي والإبكار ﴾ لتسبيح : الصلاة. والعشي : جمع عشية، وهي من الزوال إلى الغروب.
والإبكار : مصدر أبكر بمعنى بكر، أريد به الوقت هو البكرة، وهو من طلوع الفجر إلى الضحى. ويقال : التسبيح التنزيه، والمراد نزهة تعالى دائما عما لا يليق به من العجز والنقص.
﴿ على نساء العالمين ﴾ أي عالمي زمانها، كما في نظائره.
﴿ اقنتي لربك ﴾ أخلص له وحده العبادة وأديمي له الطاعة، من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع.
﴿ يلقون أقلاهم ﴾ يرمون سهامهم في الماء الجاري للاقتراع على من يكفل مريم، فمن وقف قلمه عن الجري مع الماء فهو أحق بها، فجرت كلها مع الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت فكلفها الله له. والأقلام والسهام والأزلام والقداح بمعنى.
﴿ بكلمة منه ﴾ أي كائنة من الله، أي مبتدأة منه من غير توسط الأسباب العادية، قال له كن فكان.
﴿ المسيح ﴾ فعيل : بمعنى فاعل، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة. أو مسحه ذا العاهة ليبرأ.
أو بمعنى مفعول، أي ممسوح، لأن الله مسحه بالبركة، أو طهره من الذنوب. وهو لقب منقول عن الصفة.
﴿ في المهد وكهلا ﴾ أي في حال كونه صغيرا قبل أوان الكلام، وفي حال الكهولة. والمهد : اسم للمضجع الذي يهيأ للصبي في رضاعه. وهو في الأصل مصدر مهده يمهده، إذا بسطه سواه.
والكهل : من وخطه الشيب، أو اجتمعت قوته وكمل شبابه، ومنه : اكتهل النبات إذا طال وقوي.
فهو عليه السلام يكلمهم بكلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حالتي الطفولة والكهولة، وهو إحدى معجزاته عليه السلام. وفي تغير أطواره حياته من طفولة إلى كهولة رد على النصارى الذين يزعمون ألوهيته.
﴿ إذا قضى أمرا ﴾ أي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، ويحدث فورا بلا مهلة، فقال تعالى :﴿ وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر ﴾ . وأكثر المفسرين على أنه تمثيل لتأثير قدراته في مراده، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف، وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة. وكأن أصل الكلام : إذا قضى أمرا فيحصل عقبه دفعة، فكأنما يقول له كن فيكون. وقيل هو حقيقة ( آية ١١٧ البقرة ٤٥ ).
﴿ ويعلمه الكتاب ﴾ أي الكتابة والخط ليستفيد بهما. ﴿ والحكمة ﴾ وهي الإصابة في القول والعمل وأحكام الشرائع.
﴿ أخلق ﴾ أصور وأقدر. ﴿ لكم ﴾ لأجل تصديقكم بي.
﴿ وأبرئ الأكمه ﴾ أشفي بإذن الله من ولد أعمى فيبصر. يقال : برأ المريض يبرأ ويبرؤ برءا وبروءا. وبرؤ- ككرم وفرح- برءا وبرءا وبروءا، إذا نقه من مرضه. وأبرأه الله فهو بارئ وبرئ. وكمه يكمه كمها، إذا ولد أعمى، فهو أكمه، وامرأة كمهاء.
﴿ تدخرون في بيوتكم ﴾ تخبئونه فيها لحاجتكم إليه، من الادخار، وهو إعداد الشيء لوقت الحاجة إليه. يقال : دخرته وادخرته، إذا أعددته للعقبى. وأصله ( تذخرون ) – بالذال المعجمة-من اذتخر الشيء-بوزن افتعل-ثم دخله الإبدال.
﴿ حرم عليكم ﴾ أي في التوراة. وهو صريح في أن شريعة عيسى نسخت شريعة موسى عليهما السلام في بعض الأحكام.
﴿ أحس عيسى منهم الكفر ﴾ أي علمه يقينا، وتحققه ما يدرك بالحواس. يقال : أحس الشيء، علمه بالحس. وأحس بالشيء، شعر به بحاسته. ومنه :( هل تحس منهم من أحد ).
﴿ أنصاري إلى الله ﴾ أي أعواني، حال كوني ذاهبا إلى الله، أي ملتجئا إليه، جمع نصير.
﴿ الحواريون ﴾ أصفياء عيسى، جمع حواري. وحواري الرجل : ناصره وخالصته، من الحوار، وهو شدة البياض. ومنه قيل : الحواري للخبز الخالص الدقيق. وسموا حواريين لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم من النفاق والريبة، كنقاء الثوب الأبيض من الدنس.
﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ دبر اليهود الذين أحس عيسى منهم الكفر قتله غيلة، وتواطؤوا عليه، فأحبط الله تعالى تدبيرهم برفعه إلى محل كرامته، وإلقاء شبهه على من قصد اغتياله فقتلوه. والمكر : التدبير المحكم أو صرف غيرك عما يريده بحيلة. وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح، كمكر هؤلاء اليهود. ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل، ومنه ( مكرالله ) حيث نجى رسوله منهم. فلا ضرورة لادعاء المشاكلة اللفظية في إطلاق المكر في حقه تعالى، وإنما يراد به في حقه سبحانه المعنى اللائق بكماله.
﴿ إني متوفيك ورافعك إلي ﴾ أي آخذك وافيا بروحك وجسمك، ورافعك إلى محل كرامتي، فالعطف للتفسير. يقال : وفيت فلانا حقه، أي أعطيته إياه وافيا، فاستوفاه وتوفاه، أي أخذه وافيا. أو قابضك ومستوفي شخصك من الأرض، من توفى المال بمعنى استوفاه وقبضه.
واعلم أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب، كما قال تعالى :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ وقال :﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ . فاعتقاد النصارى القتل والصلب كفر لا ريب فيه. وقد أخبر الله تعالى أنه رفع إليه عيسى، كما قال :﴿ ورافعك إلي ﴾ وقال :﴿ بل رفعه الله إليه ﴾ فيجب الإيمان به.
والجمهور على أنه رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده وروحه إلى السماء. والخصوصية له عليه السلام هي في رفعه بجسده وبقائه فيها إلى الأمد المقدر له، أما التوفي المذكور في هذه الآية، وفي قوله تعالى ﴿ فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ﴾ فالمراد منه ما ذكرنا على الرواية الصحيحة عن ابن عباس والصحيح من الأقوال، كما قاله القرطبي، وهو اختيار الطبري وغيره. وكما كان عليه السلام في مبدء خلقه آية للناس ومعجزة ظاهرة، كان في نهاية أمره آية ومعجزة باهرة. والمعجزات بأسرها فوق قدرة البشر ومدارك العقول، وهي من متعلقات القدرة الإلهية ومن الأدلة على صدق الرسل عليهم السلام.
﴿ ومطهرك من الذين كفروا ﴾ بتبعيدك منهم برفعك، وبنجاتك مما قصدوا بك.
﴿ وجاعل الذين اتبعوك.. ﴾ هم كل من آمن بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وآمن بما جاء به من التوحيد الذي به جميع الرسل. ويندرج فيهم المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين آمنوا برسل الله جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم، وهم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان إلى يوم القيامة.
﴿ إن مثل عيسى عند الله ﴾ إن شأن عيسى بالنسبة لقدرة الله حيث خلقه من غير أب كشأن آدم حيث خلقه من غير أبوين، بل شأن آدم أعجب حيث خلقه من تراب يابس. فمن آمن بقدرته تعالى في خلقه آدم من تراب، كيف لا يؤمن بها في خلقه عيسى بن مريم من غير أب.
﴿ خلقه من تراب ﴾ كلام مستأنف، لبيان أن المشبه به أخرق للعادة وأغرب.
﴿ فلا تكن من الممترين ﴾ أي الشاكين في أن ذلك كذلك. والامتراء، الشك، من قولهم : مريت الناقة والشاة إذا حلبتها. فكان الشاك يجتذب بشكه مراء، كاللبن الذي يجتذب عند الحلب. ويقال : مارى فلان فلانا إذا جادله، كأنه يستخرج غضبه. والخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، أو لكل من يصلح للخطاب.
﴿ ندع أبناءنا... ﴾ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة ﴿ ثم نبتهل ﴾ أي نتباهل ونتلاعن، بأن نقول : بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، وافتعل وتفاعل أخوان، كاقتتل وتقاتل. والبهلة والبهلة : اللعنة. يقال، بهله الله يبهله بهلا، لعنه وأبعده من رحمته، ثم شاعت في كل دعاء مجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. والآية نزلت في محاجة نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما دعاهم إلى المباهلة امتنعوا وقالوا : إنه والله النبي المبشر به في التوراة والإنجيل، ولو باهلناه لم يبق نصراني على وجه الأرض.
﴿ كلمة سواء... ﴾ السواء : العدل والنصفة أي هلموا إلى كلمة ذات عدل وإنصاف بيننا وبينكم. أو السواء مصدر بمعنى مستوية، لا تختلف فيها الرسل والكتب المنزلة، وهي ﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه ؟ وقد زعم اليهود أن إبراهيم كان يهوديا يدين بما يدينون، وزعم النصارى أنه كان نصرانيا كذلك، فكذبهم الله تعالى بأنه لم يكن كما قالوا، وإنما كان ( حنيفا مسلما وماكان ) مثلهم ( من المشركين ) فإن النصارى أشركوا بزعم ألوهية المسيح، واليهود أشركوا بزعم التشبيه.
﴿ هاأنتم هؤلاء ﴾ ( ها ) حرف تنبيه، و( أنتم ) مبتدأ خبره ( حاججتم )، و( هؤلاء ) منادى حذف منه حرف النداء. وقيل : خبره ( هؤلاء ) وجملة
( حاججتم ) مستأنفة مبينة للجملة الأولى.
﴿ حنيفا مسلما ﴾ مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، منقادا لطاعته، أو موحدا. والإسلام يطلق بمعنى التوحيد، ومنه :( إن الدين عند الله الإسلام ).
﴿ لم تكفرون بآيات الله ﴾ أي لم تكفرون بآيات الله المنزلة في كتبه، الدالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون أنها حق بما قام عليها من دلائل الصدق.
﴿ لم تلبسون الحق بالباطل ﴾ تخلطونه به بتحريفكم التوراة والإنجيل أو بإظهار تكذيبه مع علمكم بصدقه صلى الله عليه وسلم، من اللبس وهو الخلط. يقال : لبس عليه الأمر يلبسه فالتبس، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته، وأمر ملبس وملتبس، أي مشتبه.
﴿ آمنوا بالذي أنزل ﴾ مكيدة دبرها اليهود ليلبسوا على الضعفاء من المسلمين أمر دينهم، فتشاوروا بينهم أن يظهروا الإسلام أول النهار، فإذا جاء آخره أظهروا الكفر، ليقول الجهال : إنما ردهم إلى دينهم إطلاعهم على نقيصة وعيب في دين الإسلام، وهم أهل كتاب، فيرتدوا عن الإسلام مثلهم، فأطلع الله نبيه بهذه الآية على ما دبروا.
﴿ ولا تؤمنوا إلا لمن... ﴾ هذا من قول اليهود. يقول بعضهم لبعض : لا تصدقوا إلا نبيا يقرر شرائع التوراة، فأما من جاء بما يخالفها كمحمد فلا تصدقوه. واللام زائدة، كما في قوله تعالى :﴿ ردف لكم ﴾ أي ردفكم.
﴿ إن الهدى هدى الله ﴾ أي قل جوابا لهم : إن الدين دين الله، فكل ما رضيه دينا فهو الدين الذي يجب اتباعه، وقد رضي الإسلام دينا ناسخا لبعض شرائع التوراة فيجب اتباعه.
﴿ أن يؤتى أحد مثل ﴾ أي وقل لهم : لأن، أي من أجل أن يؤتى أحد شريعة مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة، دبرتم ما دبرتم ؟ لا جرم أنه لم يدعكم إلى ذلك إلا الحسد، فحذف الجواب اختصارا، وهو كثير في لغة العرب. ويؤيده قراءة ابن كثير بهمزتين وتليين الثانية.
﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب إثم ولا حرج، مبالغة منهم في التعصب لدينهم، حتى استحلوا ظلم من خالفهم فيه وأخذ ماله بأي طريق أو لأنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه، والخلق لنا عبيد، فلا سبيل علينا إذا أكلنا أموالهم، فأكذبهم الله في ذلك بقوله :﴿ يقولون على الله الكذب وهم يعملون ﴾ أنهم كاذبون جراءة منهم على الله، أو يعملون أن الخيانة محرمة في كل شريعة.
﴿ لا خلاق لهم في الآخرة ﴾ لا نصيب لهم ولا حظ في نعيمها. ﴿ ولا يكلمهم الله ﴾ أي كلام لطف بهم، بل كلام نقمة وغضب. ﴿ ولا ينظر إليهم ﴾ أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم، ولا ينيلهم خيرا. ﴿ ولا يزكيهم ﴾ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة أو لا يثني عليهم بجميل.
﴿ يلوون ألسنتهم بالكتاب ﴾ يحرفون التوراة فيفتلون ألسنتهم بها، ويميلونها عن المنزل إلى المحرف المبدل كذبا على الله، ولهم في ذلك ما لا يحصى من اللي، وهو الفتل والميل. يقال : لوى فلان يد فلان يلويها ليا، فتلها وأمالها. ولوى لسانه بكذا، كناية عن الكذب وتخرص الحديث.
﴿ ولكن كونوا ربانيين ﴾ ولكن يقول : كونوا ربانيين، جمع رباني، وهو العالم الفقيه أو المدبر أمر الناس نسبة إلى الرب، بزيادة الألف والنون للمبالغة، كما في رقباني للغليظ الرقبة. أو إلى ربان كعطشان بمعنى مرب، وهو المعلم للخير، ومن يسوس الناس ويعرفهم أمور دينهم.
﴿ ولا يأمركم ﴾ بالنصب عطفا على يقول، و( لا ) مزيدة لتأكيد معنى النفي، وهو شائع في الاستعمال أي ما كان لبشر أن يؤتيه الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه، أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا.
وقرئ بالرفع على الاستئناف، أي ولا يأمركم الله.
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ﴾ أخذ الله الميثاق من النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأخذ العهد.
على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعد من الأنبياء وينصره إن أدركه، فإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه. فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. وإذا كان هذا حكم الأنبياء، كانت الأمم بذلك أولى وأحرى. وأصل الميثاق : العقد المؤكد باليمين.
﴿ لما آتيناكم من كتاب وحكمة ﴾ اللام موطئة للقسم، وما ( ما ) شرطية في موضع النصب بآتيت، والمفعول الثاني ضمير المخاطب، و( من ) بيان ل ( ما )، وقوله ( لتؤمنن ) جواب القسم، وهو دليل جواب الشرط.
﴿ وأخذتم على ذلكم إصري ﴾ قبلتم عهدي. والإصر : العهد. وأصله من الإصار، وهو الطنب والأوتاد التي يشد بها البيت، وأطلق على العهد إصر لأنه مما يؤصر، أي يشد ويعقد.
﴿ وله أسلم من في السموات ﴾ أي وله تعالى استسلم وانقاد كل من في السموات والأرض، من الملائكة والإنسان والجن، طائعين وكارهين، فالكل تحت قهره وسلطانه، وفي قبضة قدرته وتسخير إرادته. والطوع : الانقياد بسهولة، يقال : طاعه وطاع له طوعا-من باب قال، وفي لغة من بابي باع وخاف-انقاد له. والكره : الإباء. يقال : كرهه- كسمعه- كرها وكرها وكراهية وكراهة، إذا أباه. والجملة حالية، أي كيف يبغون غير دينه والحال هذه.
﴿ والأسباط ﴾ أولاد يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده ( آية ١٣٢ البقرة ص ٤٨ ).
﴿ من يبتغ غير الإسلام ﴾ من يطلب بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم دينا غير دين الإسلام، وشريعة غير شريعته، فلن يرضى الله منه ذلك، لأن الإسلام الذي جاء به هو الدين المرضى عند الله تعالى، قال تعالى :﴿ ورضيت لكم الإسلام دينا ﴾ . وقيل : الإسلام التوحيد، وهو الذي أجمعت عليه الشرائع الإلهية، لما فيه من إسلام الوجه لله تعالى.
﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ ضموا إلى كفرهم ما به ازدادوا فيه، وذلك كالإصرار عليه، وكطعن أهل الكتاب في الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وطعنهم في القرآن.
﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ أي لن يتوقع منهم توبة حتى تقبل، لأنهم غير أهل لأن يوفقوا لها. فهو من قبيل :- ( ولا ترى الضب بها ينجحر ) أي لا تراه أصلا حتى ينجحر.
﴿ لن تنالوا البر ﴾ لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تنالوا ثوابه حتى يكون ما تبذلونه في سبيل الله مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها. والنيل : الإصابة. يقال : نال ينال نيلا، إذا أصاب ووجد. والبر : الإحسان وكمال الخير. وأصله التوسع في فعل الخير. يقال : بر العبد ربه، أي توسع في طاعته. والإنفاق : البذل، ومنه إنفاق المال. وعن الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى ويطلب ثوابه حتى التمرة يدخل في هذه الآية.
﴿ كل الطعام كان حلا ﴾ قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها، وهي محرمة في ملته ؟ فقال لهم : كان ذلك حلالا لإبراهيم. فقالوا : كل شيء نحرمه فإنه كان محرما في ملة نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله الآية مكذبا لهم. والمعنى : كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم بسبب بغيهم وظلمهم، إلا ما حرمه إسرائيل- وهو يعقوب عليه السلام- على نفسه وعلى بنيه باجتهاد منه، وهو لحوم الإبل وألبانها، وكانت أحب شيء إليه، فحرمت عليهم في التوراة، ولم تكن محرمة من قبل في ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. ﴿ فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ فلم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا.
﴿ فاتبعوا ملة إبراهيم ﴾ وهي ملة الإسلام التي أنا عليها، حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله بتحريف آياته، والتشديد على أنفسكم بتحريم الطيبات. ﴿ حنيفا ﴾ أي مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى الدين الحق ( آية ١٣٥ البقرة ٤٨ ).
﴿ إن أول بيت... ﴾ قالت اليهود للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء. وقال المسلمون، بل الكعبة أفضل، فأنزل الله الآية. أي إن أول بيت وضعه الله متعبدا للناس وقبلة للصلاة، وموضعا للحج والطواف، سواء العاكف فيه والباد، لهو الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام بمكة، وأنتم تزعمون أنكم على دينه ومنهجه، فكيف لا تصلون إليها، ولا تنسكون فيها، مؤمنين بشريعته، ﴿ ببكة ﴾ لغة في مكة، والميم والباء يتعاقبان لغة، كما في لازم ولازب. ﴿ مباركا ﴾ كثير الخير والنفع لما حجه أو اعتمره، أو اعتكف فيه أو طاف حوله، لمضاعفة ثواب العبادة فيه. من البركة، وهي النماء والزيادة.
﴿ فيه آيات بينات ﴾ على حرمته ومزيد فضله، منها : أي الأمر ببنائه الرب الجليل، وبانيه إبراهيم الخليل، وهو مهبط الخيرات ومصعد الطاعات. ومنها : الحجر الأسود، والحطيم وزمزم، والمشاعر كلها، ومقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه أثناء البناء. ومنها : إهلاك من قصده من الجبابرة بسوء، كأصحاب الفيل وغيرهم. وعدم تعرض ضوارى السباع للصيود فيه. ومنها : أمن من دخله.
﴿ مقام إبراهيم ﴾ وقد كان ملتصقا بجدار البيت، حتى أخره عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إلى ناحية المشرق حيث هو الآن، ليتمكن الطائفون من الطواف، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين.
﴿ ومن دخله كان آمنا ﴾ الضمير المنصوب عائد إلى البيت بمعنى الحرم كله، بقرينة أن بعض هذه الآيات موجود في كل الحرم لا في خصوص البيت. فهو من باب الاستخدام، فهو ذكر اللفظ بمعنى وإعادة الضمير إليه بمعنى آخر. والمراد آمن من دخله في الدنيا وفي الآخرة.
﴿ ومن كفر ﴾ أي جحد فرضية الحج، فلم يرى فعله برا ولا تركه مأتما.
﴿ تبغونها عوجا ﴾ تطلبون لسبيل الله –وهي ملة الإسلام –اعوجاجا وميلا عن القصد والاستقامة. أو تطلبونها معوجة أي مائلة زائغة عن الحق. والمراد طلب ذلك لأهلها، وذلك بالتحريش والإغراء بينهم، لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم. من البغاء- بالضم- وهو الطلب يقال : بغيت له كذا وبغيته، أبغيه بغاءا وبغى وبغية وبغية، إذا طلبته. والعوج- بكسر العين وفتحها- : مصدر عوج، كتعب. قال ابن الأثير : إن مكسور العين مختص بما ليس بمرئي، كالرأي والقول. والمفتوح مختص بما هو مرئي. كالأجساد. وعن ابن السكيت : أن المكسور أعم من المفتوح.
واختار المرزوقي أنه لا فرق بينهما.
﴿ إن تطيعوا فريقا ﴾ أي من اليهود في إثارة الإحن التي كانت بينهم في الجاهلية وتهييج الفتن، كراهة لما أنتم عليه بعد الاسلام من التآخي والتراحم، يصيرونكم بعد إيمانكم كافرين فاحذروا أشد الحذر.
﴿ يعتصم بالله ﴾ يمتنع بالله ويستمسك بدينه أو كتابه من الاعتصام وهو الاستمساك بالشيء في منع النفس من الوقوع في آفة. ويقال : اعتصم بالله، أي امتنع بلطفه من المعصية.
﴿ اتقوا الله حق تقاته ﴾ أي اتقاء حقا، أي ثابتا واجبا، من حق الشيء بمعنى ثبت ووجب، وذلك بأداء ما كلفتم به على قدر الطاقة، كما قال تعالى بيانا لذلك :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ والتقاة : اسم مصدر من اتقى، كالتؤدة من اتأد.
﴿ بحبل الله ﴾ أي بعهد الله، أو بدينه، أو بالقرآن لأن سبب يوصل إليه. وأصل الحبل : السبب الذي يتوصل به إلى البغية.
﴿ وكنتم على شفا.. ﴾ على طرف ﴿ حفرة من النار ﴾ ليس بينكم وبينها إلا أن تموتوا كفارا. والشفا : طرف الشيء وحرفه، مثل شفا البئرٍ.
﴿ فأنقذكم منها ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ أمة يدعون إلى الخير ﴾ الأمة : الجماعة التي تؤم وتقصد لأمر ما. وتطلق في القرآن أيضا.
على أتباع أنبياء، وعلى القدوة، وعلى الملة، وعلى الطائفة من الزمان، إلى غير ذلك من معانيها. والمراد بالخير : ما فيه صلاح للناس، ديني أو دنيوي. وبالمعروف : ما عرف بالعقل والشرع حسنه. أو ما وافق الكتاب والسنة. وبالمنكر : ضد ذلك.
﴿ كالذين تفرقوا ﴾ هم اليهود والنصارى. وفيه زجر للمؤمنين عن التفرق والاختلاف للهوى.
﴿ كنتم خير أمة ﴾ أفاد أن هذه الأمة خير الأمم، وأنفع الناس للناس، لاتصافها بما وصفها الله به في هذه الآية.
﴿ إلا أذى ﴾ أي لن يضركم اليهود إلا ضررا يسيرا لا يبالى به، كالسب والطعن والتهديد ونحوه، فلا تبالوا بهم.
﴿ ضربت عليهم الذلة.. ﴾ [ راجع آية ٦١ البقرة ص ٣١ ]، و﴿ ثقفوا ﴾ أي وجدوا، أو ظفر بهم.
﴿ إلا بحبل من الله.. ﴾ أي لا يسلمون من الذلة في أي حال إلا فيحال اعتصامهم بحبل من الله، وهو دينه أو كتابه، ﴿ و حبل من الناس ﴾ وهو عهد الذمة والأمان. والواو بمعنى أو.
﴿ ليسوا سواء ﴾ تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأضرابه والنجاشي
و أصحابه. أي ليس أهل الكتاب متساوين في الاتصاف بما ذكر من القبائح، بل منهم طائفة سلمت منها، واتصفت بالخير، وقد وصفها الله هنا بثمانية أوصاف.
﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ مستقيمة ثابتة على طاعة الله، من قام بمعنى استقام. تقول : أقمت العود فقام، أي استقام واعتدل.
﴿ آناء الليل ﴾ أي ساعاته. جمع إنى وأني وأنى وإنو. فالهمزة في ( آناء ) منقلبة عن ياء، كرداء. أو عن واو ككساء.
﴿ مثل ما ينفقون ﴾ أي حال ما ينفقه الكفار في الدنيا- قربة أو مفاخرة وسمعة في ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه في الآخرة، من غير أن يعود عليهم بفائدة- كحال زرع لقوم ظالمين، أصابته ريح مهلكة فاستأصلته، ولم ينتفع أصحابه منه بشيء. وهو من التشبيه المركب. ﴿ فيها صر ﴾ بكسر أوله : برد شديد. أو سموم حارة مهلكة.
﴿ لا تتخذوا بطانة ﴾ أي لا تتخذوا أولياء وأصفياء لكم من غير إخوانكم المؤمنين، كاليهود والمنافقين، تصافونهم وتطلعونهم على أسراركم، لأنهم لا يألون جهدا في إفساد أمركم، ويودون مضرتكم
ومشقتكم في دنياكم ودينكم. وآية ذلك ظهور عداوتهم لكم، وما يخفونه منها أشد وأفظع، إنهم يكرهونكم وأنتم تحبونهم، والحال أنكم تؤمنون بكتابهم وهم يكفرون بكتابكم، وينافقونكم بإظهار الإيمان إذا لقوكم، فإذا خلوا إلى أنفسكم عضوا عليكم الأنامل من الغيظ والحنق، وإن نلتم حسنة أساءتهم، وإن أصابتكم سيئة أفرحتهم، فكيف تنخدعون بهم، وتتخذون بطانة لكم ! ؟ وبطانة الرجل ووليجته : خاصته الذين يستنبطون أمره ويداخلونه، تشبيها ببطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه، وهي ضد الظهارة، ويسمى بها الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث.
﴿ لا يألونكم خبالا ﴾ أصل الألو : التقصير. يقال : ألا في الأمر يألوألوا و ألوا، إذا قصر فيه.
وهو لازم يتعدى بالحرف، ويستعمل متعديا إلى مفعولين، فيقال : لا آلوك نصحا، على تضمين الفعل معنى المنع، أي لا أمنعك ذلك. والخبال : الشر والفساد. أي لا يقصرون لكم عن جهد فيما يورثكم شرا وفسادا. أولا يمنعوكم خبالا، أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولايبقون شيئا منه عندهم.
﴿ ودوا ما عنتم ﴾ أحبوا ما عنتم، أي مشقتكم وشدة ضرركم، من العنت، وهو الوقوع في أمر شاق،
أو الإثم. والفعل من باب طرب. و ﴿ ما ﴾ مصدرية.
﴿ خلوا ﴾ خلا بعضهم ببعض، حيث لا يراهم المؤمنون [ آية ١٤ البقرة ص ١٨ ]
﴿ عضوا عليكم ﴾أي لأجلكم. والعض معروف، مصدر عض، من باب فرح. والأنامل : رءوس الأصابع، جمع أنملة. والغيظ : أشد الغضب. وعضهم الأنامل : كناية عن شدة غضبهم وتحسرهم، لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، وعجزهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي منهم.
﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ واذكر لهم وقت خروجك غدوة إلى غزوة أحد من حجرة عائشة، ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر، فيعلموا أنهم إذا لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد أعدائهم.
﴿ تبوئ المؤمنين ﴾ تنزلهم وتهيئ لهم مواطن وأماكن للقتال. يقال : بوأته وبوأت له منزلا أنزلته فيه.
﴿ إذ همت طائفتان.. ﴾ هما حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر. والفشل : الجبن والخور. يقال : فشل يفشل فشلا فهو فشل، أي جبان ضعيف القلب. والظاهر أن ذلك كان مجرد حديث نفس عند رؤية انخزال رأس المنافقين : عبد الله بن أبي مع أصحابه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ وأنتم أذلة ﴾ أي ضعفاء لقلة العدد والعدد. فقابلوا هذه النعمة بامتثال أمر الله وطاعته وشكر على ما أنعم.
﴿ إذ تقول للمؤمنين.. ﴾ أي في يوم بدر، وقد أمد الله فيه المؤمنين بألف من الملائكة، كما قال تعالى :
:﴿ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة ﴾( ١ ) ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف من الملائكة ؟ ولذا قال تعالى :﴿ بلى ﴾. ثم صار خمسة آلاف، لقوله تعالى :{ إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا
( ١ ) آية ٩ الأنفال.
يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة }وقد صبروا واتقوا، وأتاهم المشركون من مكة حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير. فكان المدد خمسة آلاف، كما روي عن قتادة.
وقال الشعبي : إن المدد لم يزد على الألف، وقد بلغ المسلمين أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله﴿ ألن يكفيكم ﴾إلى قوله ﴿ مسومين ﴾فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يمدهم، فلم يمد الله المسلمين بالخمسة الآلاف أيضا. واختار أبن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف، ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بما زاد عن ذلك، ولا على أنهم لم يمدوا به، ولا يثبت شيء من ذلك إلا بنص.
﴿ ويأتوكم من فورهم هذا ﴾ويأتوكم-أي المشركون- من ساعتكم هذه. والفور : مصدر فارت القدر، أي اشتد غليانها، ثم استعير للسرعة، ثم أطلق على الحالة التي لا بطء فيها. وقد تحقق من المشركين ذلك حيث أتوا على عجل دون إبطاء لإنقاذ العير من المسلمين.
﴿ مسومين ﴾معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة. و قرئ بالفتح، أي معلمين من جهته تعالى بعلامات القتال، من التسويم، وهو إظهار علامة الشيء.
﴿ ليقطع طرفا.. ﴾أي ولقد نصركم الله يوم بدر ليهلك طائفة﴿ من الذين كفروا ﴾بالقتل والأسر.
أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة. أو يتوب عليهم إن أسلموا. أو يعذبهم العذاب الشديد في الآخرة إن ماتوا مصرين على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم. فجملة
﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. وأصل الكبت : الخزي والإذلال.
﴿ لا تأكلوا الربا.. ﴾نهى عن تعاطي الربا، مع تقريعهم لما كانوا عليه من تضعيف الفائدة
الربوبية. فقال :﴿ أضعافا مضاعفة ﴾ليس لتقييد النهي به، بل هو بيان لما كانوا عليه في الجاهلية من التعامل الفاسد المؤدى إلى استئصال المال. وقد حرم الله أصل الربا ومضاعفته.
﴿ عرضها السموات والأرض.. ﴾عرضها كعرضهما. والمراد أنها في غاية السعة والبسط، فشبهت بأوسع ما يتصوره الإنسان. وخص العرض بالذكر للمبالغة في ذلك، لأنه غالبا يكون أدنى من الطول. أي فإذا كان عرضها كذلك فما بالك بطولها ؟
﴿ في السراء والضراء ﴾في اليسر والعسر. والمراد أنهم لا يتركون الإنفاق في الخير في جميع الأحوال.
﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ : الممسكين عليه، الكافين عن إمضائه ع القدرة عليه، من الكظم، وهو الحبس. يقال : كظم البعير جرته، إذا ردها وكف عن الاجترار. وكظم القربة : ملأها وشد على رأسها مانعا من خروج ما فيها. والغيظ : توقد حرارة القلب من الغضب.
﴿ فاحشة ﴾فعلة بالغة في القبح كالزنى، من الفحش، وهو مجاوزة الحد في السوء.
﴿ أو ظلموا أنفسهم ﴾بارتكاب أي ذنب. وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص.
﴿ سنن ﴾وقائع في الأمم المكذبة، أجراها الله حسب عادته، وهي الإهلاك عند التمرد والعصيان.
﴿ ولا تهنوا ﴾تحريض على الجهاد والصبر، وتشجيع للمؤمنين وتسلية لهم عما أصابهم يوم أحد.
أي لا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم يوم أحد عن القتال في سبيل الله، ولا تحزنوا على من قتل منكم ولا على ما فاتكم من الغنيمة. والوهن –بالسكون والتحريك- : الضعف.
﴿ إن يمسسكم قرح ﴾ : القرح –بفتح القاف وضمها-عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد، فيشمل القتل والجراح، أو هو الجراح. أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يثبطهم ذلك عن العودة إلى قتالكم، فأنتم أولى ألا تضعفوا إذ أنكم ترجون من الله مالا يرجون.
﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ : نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى : أديل المسلمون من المشركين يوم بدر فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا سبعين وقتلوا خمسة وسبعين، من المداولة، وهي نقل الشيء من واحد إلى آخر. يقال : تداولته الأيدي، إذا انتقل من واحد إلى آخر. ومنه قولهم : الدولة – بالضم – للكرة. والأيام دول : يوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء.
﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ : أي نداولها بينكم وبين عدوكم، ليظهر أمركم، وليعاملكم الله معاملة من يريد أن يعلم المخلصين من غيرهم. أي يميز الثابتين على الإيمان من غيرهم. وإطلاق العلم على التمييز مجاز، من إطلاق اسم السبب على المسبب.
﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ﴾ : وليطهرهم ويصفيهم من الذنوب، من المحص، أو التمحيص. يقال : محصت الذهب بالنار ومحصته، إذا أزلت عنه ما يشوبه من خبث. أو من التمحيص بمعنى الابتلاء والاختبار.
﴿ ويمحق الكافرين ﴾ : يهلكهم إن كانت الدولة عليهم، من المحق، وهو محو الشيء والذهاب به. وأصله : نقص الشيء قليلا قليلا حتى يفنى. يقال : محق هذا الطعام، إذا نقصه حتى أفناه محقا.
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا.. ﴾ : عتاب للمنهزمين يوم أحد، أي بل أظننتم أن تدخلوا الجنة وتنالوا درجة القرب والرضا، ولما تجاهدوا في سبيل الله جهاد الصابرين على مره وشدائده ! ولقد كنتم قبل هذا اليوم تتمنون أن تنالوا مرتبة الشهادة، لتلحقوا بمن استشهد من إخوانكم ببدر، وتلحون من أجل ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى القتال، فلما حمى وطيسه ورأيتم بأعينكم ما تمنيتم حين استشهد بعض إخوانكم لم تلبثوا أن انهزمتم، ولم تثبتوا لأعداكم !.
﴿ ولما يعلم الله الذين ﴾ : أي ولم تجاهدوا جهاد الصابرين فيعلم الله ذلك منكم. وهو مثل ما يقال : ما علم الله في فلان خيرا، ويراد : ما فيه خير حتى يعلمه. فهو كناية عن نفي تحقق هذا الجهاد منهم في الماضي مع توقعه في المستقبل.
﴿ انقلبتم على أعقابكم ﴾رجعتم إلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال. يقال لكم من رجع إلى حاله السيئ الأول : نكص على عقبيه، وارتد على عقبيه. والعقب : مؤخر الرجل، وجمعه أعقاب.
﴿ وما كان لنفس أن تموت.. ﴾ تحريض على الجهاد، و إعلام بأن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحدا لن يموت قبل أجله، وإن خاض المهالك واقتحم المعارك، فقد كتب الله ذلك مؤقتا، قدر فيه الأجل المعلوم، فلا يتقدم ولا يتأخر.
﴿ وكأين من نبي قاتل.. ﴾ كلام مستأنف، سيق توبيخا للمنهزمين، حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل، مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس. ( وكأين ) كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة، ثم هجر معنى جزئيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية المفيدة للتكثير، يكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها. وهي مبتدأ خبره جملة ﴿ قاتل معه ربيون ﴾أي وكثير من الأنبياء قاتل معه لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه علماء أتقياء. أو عابدون أو جماعات كثيرة، فما جبنوا وما ضعفوا عن الجهاد وما خضعوا للأعداء. و( ربيون )جمع ربي وهو العالم بربه، منسوب إلى الرب كالرباني، وكسر الراء من تغيرات النسب. أو منسوب إلى الربة وهي الجماعة.
﴿ فما وهنوا.. ﴾أي فما جبنوا عن الجهاد. وأصل الوهن : الضعف. أريد به ما ذكر بقرينة عطف قوله :( وما ضعفوا )عليه. ﴿ وما استكانوا ﴾أي ما خضعوا، من الاستكانة وهي الخضوع. واصلها من السكون لأن الخاضع يسكن لمن خضع له. أو ما ذلوا، من الكون. يقال : أكانه يكينه إذا ذله.
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب... ﴾أي الخوف والفزع. يقال : رعبه يرعبه، خوفه.
وأصله من الملء، يقال : سيل راعب، إذا ملأ الأودية. ورعبت الحوض : ملأته. أي سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا.
﴿ ما لم ينزل به سلطانا ﴾أي أشركوا به آلهة لم ينزل الله بها حجة. والمراد : أنه لا حجة لهم حتى ينزلها. وسميت الحجة سلطانا لقوتها ونفوذها. وأصل المادة يدل لغة على الشدة والقوة، ومنها السليط للشديد، واللسان الطويل. والتسليط : التغليب، وإطلاق القهر والقدرة.
﴿ مثوى الظالمين ﴾مكان إقامتهم واستقرارهم. يقال : ثوى بالمكان وفيه يثوي ثواء وثويا، وأثوى به، أطال الإقامة به أو نزل.
﴿ وإذ تحسونهم ﴾تقتلونهم قتلا ذريعا. يقال حسه حسا، إذا قتله. حقيقته : أصاب حاسته بآفة فأبطلها، نحو كبده و فأده، أي أصاب كبده وفؤاده. ومنه : جراد محسوس، وهو الذي قتله البرد، أو مسته النار.
﴿ حتى إذا فشلتم ﴾جبنتم وضعفتم أمام عدوكم ﴿ وتنازعتم في الأمر وعصيتم ﴾أمر نبيكم منعكم الله النصر، فجواب الشرط محذوف. ﴿ ثم صرفكم عنهم ﴾ردكم عنهم بهزيمتكم. ﴿ ليبتليكم ﴾ليعاملكم معاملة من يمتحن غيره، ليتميز الصابر المخلص من غيره.
﴿ إذ تصعدون ﴾متعلقب( صرفكم )، أي تذهبون في الوادي وتمضون فيه هربا من عدوكم، من الإصعاد، وهو الذهاب في صعيد الأرض والإبعاد فيه. يقال : أصعد في الأرض، إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، فهو مصعد.
﴿ ولا تلوون ﴾لا تعرجون على أحد منكم، ولا تلتفتون إلى ما وراءكم من شدة الهرب، من لوى بمعنى عطف.
﴿ أمنة نعاسا ﴾ الآمنة- بفتحتين- : الأمن. والنعاس : الفتور في أوائل النوم. أي ثم أعقبكم بما أصابكم من الخوف والرعب أمنا تنامون معه أيها المؤمنون وأنتم في مصافكم. أما المنافقون فلم يلق عليهم النعاس وبقوا في خوفهم فزعين، و( نعاسا )بدل من( أمنة ).
﴿ إلى مضاجعكم ﴾مصارعهم التي قدر الله قتلهم فيها بأحد، وقتلوا هنالك ألبته، فإن قضاء الله لا مرد له، ولا ينفع الحذر مع القدر. جمع مضجع، وهو مكان الاضطجاع.
﴿ استزلهم الشيطان ﴾طلب زلتهم وخطيئتهم. أو حملهم عليها بوسوسته لهم : أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالثبات في مواقفهم التي عينها لهم، فأطاعوه فحرموا التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا.
﴿ ضربوا في الأرض ﴾ سافروا فيها لتجارة أو غيرها فماتوا. وأصل الضرب : إيقاع شيء على شيء، ثم استعمل في السير، لما فيه من ضرب الأرض بالأرجل، ثم صار حقيقة فيه. ﴿ أو كانوا غزى ﴾أي غزاة فقتلوا. جمع غاز، كصائم وصوم. والغزو : الخروج لمحاربة العدو. وأصله قصد الشيء، ومنه المغزى، أي القصد.
﴿ فظا ﴾كريه الخلق، خشن الجانب، جافيا في المعاشرة قولا وفعلا. وفعله من باب تعب. وأصل الفظ مكروه طبعا. ﴿ غليظ القلب ﴾قاسيه، من الغلظة ضد الرقة، وتنشأ عنها الفظاظة وفعله ككرم وضرب.
﴿ وشاورهم في الأمر ﴾أي في أمر الحرب ونحوه مما تجري في المشاورة عادة، وفي أمر الدين الذي لم ينزل فيه وحي، للاستظهار بآرائهم، ولتطييب قلوبهم، ولتستن بك أمتك في ذلك. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا، ومن تركها لم يعدم غيا ). وقد درج الأئمة الراشدون من بعده صلى الله عليه وسلم على هذه السنة التي هي من أهم عزائم الأحكام في الإسلام. وإنما كانوا يستشيرون الأمناء الصلحاء من أهل العلم والدين، والبصر بالأمور، والصدق والأمانة، والشجاعة في الحق.
والمشورة والمشاورة : استخراج الرأي بمراجعة البعض البعض. مأخوذة من قولهم : شرت الدابة، إذا علمت خبرها بجري أو غيره. أو من قولهم : شرت العسل واشترته، إذا أخذته من الخلية.
﴿ فإذا عزمت فتوكل على الله ﴾أي فإذ ا عقدت قلبك على الأمر بعد المشاورة، فاعتمد على الله في إمضائه وفوض أمرك إليه، فإن بيده مقاليد الأمور كلها، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
والتوكل : الاعتماد على الله والتفويض إليه. وهو لا ينافي الأخذ بالأسباب، ومنها الشورى، كما تشير إليه الآية، وخبر :( اعقلها وتوكل ). والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، وربط بينهما ربطا عاديا، وجعلها من سننه الكونية، فترك الأخذ بها جهل، وترك التوكل عليه زندقة.
﴿ أن يغل ﴾يخون في الغنائم، من الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة خفية قبل قسمتها. يقال : غل شيئا من المغنم يغل غلولا، أخذه خفية. وأصله من الغلل، وهو دخول الماء في خلل الشجر. وسميت هذه الخيانة غلولا، لأنها تجري في المال على خفاء من وجه لا يحل. والمراد : تنزيهه صلى الله عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر. أو المراد نهى أمته صلى الله عليه وسلم عن الغلول.
﴿ لقد من الله على المؤمنين ﴾أي من قومه، أو من العرب مطلقا.
﴿ ويزكيهم ﴾يطهرهم من الكفر والذنوب. أو يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كانوا عليه من دنس الجاهلية، والاعتقادات الفاسدة.
﴿ أو لما أصابتكم ﴾أحين نالكم من المشركين يوم أحد نصف ما نالهم منكم قبل ذلك يوم بدر، رجعتم وقلتم، من أين لنا هذا القتل والخذلان ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وفينا رسوله، وهؤلاء مشركون ! ؟
﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾أي الذي نالكم إنما هو من شؤم مخالفتكم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ فادرءوا ﴾فادفعوا﴿ عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾في أن الحذر يدفع القدر.
﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون ﴾ ( آية ١٥٤ البقرة ص ٥٢ ).
﴿ أصابهم القرح ﴾ نالهم القتل والجراح بالسلاح يوم أحد( آية ١٤٠ من هذه السورة ص ١٢٦ ).
﴿ يخوف أولياء ﴾أي يخوفكم أولياءه، بأن يعظمهم في قلوبكم. وهم أبوسفيان وأصحابه.
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا ﴾ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالهم بإطالة أعمارهم –مع ما هم فيه من التمتع بطيبات الدنيا وزينتها، وعلى ما هم عليه من الكفر والطغيان-خير لأنفسهم، إنما نمهلهم لازدياد ذنوبهم وآثامهم بتعززهم وتجبرهم. والإملاء في الأصل : إطالة المدة. يقال : أملى عليه الزمان، طال عليه، وأملى له : طول له وأمهله.
﴿ ما كان لله ليذر... ﴾ ما كان الله مريدا لأن يذركم، على ما أنتم عليه المؤمنين من اختلاط المخلص بالمنافق، حتى يميز المنافق منكم من المخلص، بالامتحان والابتلاء، وقد وقع ذلك في يوم أحد.
يقال : مزت الشيء أميزه ميزا، فصلت بعضه عن بعض، وميزته : فرقت بين جزئيه.
﴿ يجتبي من رسله من يشاء ﴾فيطلعه على بعض غيبه، ومن ذلك نفاق المنافقين وإخلاص المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ عالم الغيب فال يظهر على غيبه أحدا. إلا من ارتضى من رسول ﴾. من الاجتباء بمعنى الاختيار. واجتباء الله العبد : تخصيصه إياه بفيض إلهي، يحصل له منه أنواع من النعم بلا كسب منه.
﴿ سيطوقون ﴾سيجعل ما تبخلوا به من المال الواجب عليهم أداؤه طوقا من نار في أعناقهم يوم القيامة. أو سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق.
﴿ ليس بظلام للعبيد ﴾أي ليس بذي ظلم لهم أصلا حتىٍ يعذبهم بدون جرم، بل هو عادل، ومن العدل أن يثيب المطيع ويعذب العاصي. وصيغة ( ظلام )صيغة نسب، كعطار ولبان.
﴿ بقربان ﴾ما يتقرب به إلى الله من أنواع البر. مصدر كالغفران والرجحان، من قولك، قربت قربانا، سمى به التقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها.
﴿ والزبر ﴾أي المكتب. جمع زبور، وهو الكتاب المقصور على الحكم والمواعظ، كزبور داوود عليه السلام. من الزبر وهو الزجر، لزجره عن الباطل. وأما الكتاب فهو ما تضمن الأحكام والحكم،
﴿ لتبلون ﴾والله لتخبرن وتمتحن في أموالكم وأنفسكم حتى يتبين الجازع من الصابر، والمخلص من المنافق، من الابتلاء وهو الاختبار والامتحان. والمراد : أنه تعالى يعاملهم بهذه المحن معاملة من يختبر غيره ليتميز الصادق من الكاذب. وقد أخبرهم الله بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه، ويستعدوا للقائه، ويقابلوه بحسن الصبر والثبات.
﴿ بمفازة من العذاب ﴾بمنجاة من العذاب. مصدر ميمي بمعنى الفوز، تقول : فاز يفوز إذا نجا.
﴿ الألباب ﴾العقول الخالصة عن شوائب الحس والوهم. خلوص اللب عن القشر. جمع لب بوزن قفل.
﴿ باطلا ﴾عبثا وهزلا، عاريا عن الحكمة، خاليا عن المصلحة، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة، منتظما لمصالح عظيمة، يدور عليها أمر معاش العباد، ومعرفة أحوال المبدأ والمعاد.
﴿ سبحانك ﴾تنزيها لك عما لا يليق بك من خلق الباطل !
﴿ وتوفنا مع الأبرار ﴾أي في زمرتهم، وعلى مثل أعمالهم. والأبرار : الأنبياء والصالحون. جمع بر، كرب وأرباب. أو جمع بار، كصاحب وأصحاب. وهو الكثير الخير والأتساع في الإحسان.
﴿ لا يغرنك تقلب ﴾الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم و المراد أمته. أي لا يغرنكم ضربهم في الأرض، وتصرفهم في البلاد للتجارات وطلب المكاسب والأرباح، وما هم فيه من رغد العيش.
﴿ وبئس المهاد ﴾ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم. وأصل المهاد : الفراش الذي يوطأ للصبي ويمهد.
﴿ نزلا ﴾أي حال كون الجنات ضيافة وإكراما من الله تعالى، أعدها لهم كما يعد القرى للضيف.
وأصل النزل-بضمتين وبضم فسكون-ما يعد للضيف أول نزوله من الطعام والشراب والصلة، ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء وإن لم يكن ضيف، وجمعه أنزال.
﴿ اصبروا ﴾أي على المصائب فلا تجزعوا، وعلى الطاعات فلا تضجروا، وعن المعاصي فلا تشتهوا.
﴿ وصابروا ﴾غالبوا الأعداء في الصبر على شدائد الحروب، ولا تكونوا أضعف منهم فيكونوا أشد منكم صبرا. ﴿ ورابطوا ﴾أقيموا في الثغور، رابطين خيلكم فيها، مترصدين للغزو، مستعدين له أكثر من أعدائكم. والمراد به : الحث على مداومة الجهاد في سبيل الله، إذ هو سبيل الفلاح. والله أعلم.