تفسير سورة سورة المعارج من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة المعارج
مكية وهي أربع وأربعون آية
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سأل ﴾ قرأ نافع وابن عامر سال بالألف ساكنة بدلا من الهمزة والباقون بهمزة وحمزة يجعلها في الوقف بين بين ﴿ سائل ﴾ أخرج النسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : هو النضر بن الحارث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : وكان عذابه يوم بدر فالمراد بالسؤال على هذا الدعاء وبدل على ذلك تعديته بالباء ويحتمل أن يكون سأل على قراءة نافع من السيلان والمعنى سأل واد بعذاب معنى الفعل لتحقق وقوعه إما في الدنيا وهو قتل بدر أو في الآخرة وهو عذاب النار قال البغوي سائل وأد من أودية جهنم يروى ذلك عن عبد الرحمان بن زيد ابن أسلم، وأخرج بن المنذر عن الحسن قال : نزلت ﴿ سأل سائل بعذاب واقع ١ ﴾ فقال الناس على من يقع العذاب ؟ فأنزل الله عز وجل ﴿ للكافرين ليس له دافع ٢ ﴾
﴿ للكافرين ليس له دافع ٢ ﴾
أخرج بن المنذر عن الحسن قال : نزلت ﴿ سأل سائل بعذاب واقع ١ ﴾ فقال الناس على من يقع العذاب ؟ فأنزل الله عز وجل ﴿ للكافرين ليس له دافع ٢ ﴾ الخ يكون السؤال للاستفهام فالباء في قوله تعالى :﴿ بعذاب ﴾ بمعنى عن أو يكون تعديته بالباء لتضمن سأل معنى أهم ﴿ واقع ﴾ صفة لعذاب ﴿ للكافرين ﴾ صفة أخرى لعذاب أو صلة الواقع وإن كان السؤال عمن يقع به العذاب كان جوابا ليس له دافع صفة أخرى للعذاب أو هو في حيز الجواب أي واقع للكافرين ﴿ ليس له دافع من الله ﴾
﴿ ليس له دافع من الله ﴾من جهة الله لتعلق إرادته ﴿ ذي المعارج ﴾ صفة لله تعالى أي ذي المصاعد قال سعيد بن جبير ذي الدرجات، قلت : وهي درجات القرب التي لا كيف لها التي تبلغ إليها الأنبياء والملائكة والأولياء ودرجات القبول يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو المصاعد في دار الثواب ودرجات الجنة، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة منها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ) رواه الترمذي، وعن أبي هريرة نحوه وفيه ( ما بين الدرجتين مائة عام ) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من بينهم كما تراءون الكواكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ) قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ) متفق عليه، وقال ابن مسعود في السماوات سماها معارج لأن الملائكة يعرج فيها وقال قتادة ذي الفواضل ﴿ تعرج الملائكة والروح ﴾.
﴿ تعرج الملائكة والروح ﴾ قرأ الكسائي يعرج بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث والجملة صفة للمعارج على طريقة ولقد أمر على اللئيم يسبني والرابط محذوف أي تعرج فيها الملائكة والروح إليه والروح جبرائيل عليه السلام وأفرده لفضله أو أعظم خلق من الملائكة، قلت : ويحتمل أن يكون المراد بالروح روح البشر الذي هو من عالم الأمر فإن أرواح البشر من الأولياء والأنبياء تعرج من خفض البعد والغفلة إلى معارج القرب والحضرة ﴿ إليه ﴾ أي إلى الله سبحانه أو إلى عرشه ﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ الظرف متعلق بمحذوف دل عليه واقع أي يقع العذاب بهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يعني يوم القيامة كذا أخرج البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس وقال يمان يوم القيامة فيه خمسين موطنا كل موطن ألف سنة، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة الكنز إلا أحي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت تستن عليه لا يفقد منها فصيلا واحدا يطأ بأخفافها وتعض بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح له بقاع فرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطأه بأظلافها كما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حين يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي بسند حسن عن أبي سعيد قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ( قلت : فعلى هذا التأويل لا تصادم بين هذه الآية وبين قوله تعالى في تنزيل السجدة ﴿ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ﴾ إذ معناه يحكم الله تعالى بالأمر وينزل به جبرائيل من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه جبرائيل في يوم من أيام الدنيا وكان قدر سيره ألف سنة خمسمائة سنة نزوله وخمسمائة عروجه لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام يعني لو سار تلك المسافة واحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة لكن الملائكة يقطعون في يوم واحد بل في أدنى زمان. أخرج البيهقي من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ﴾ قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقدراه ألف سنة وفي قوله تعالى :﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ قال : هذا يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وقيل : المراد من الآيتين يوم القيامة يكون على بعضهم أقول وعلى بعضهم أقصر حتى يكون على المؤمنين أهون من الصلاة المكتوبة كما مر، وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا يكون على المؤمنين كمقدار ما بين الظهر والعصر، ومعنى قوله تعالى :﴿ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ﴾ مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء وحكم الحكام في يوم كان مقداره ألف سنة، وقيل : الظرف في هذه الآية أعني قوله تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة متعلق بيعرج كما هو متعلق في سورة التنزيل ووجه الجمع بين الآيتين أن المراد في آية سورة التنزيل أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه من الأرض إلى السماء في يوم وقدر مسيره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام فصار نزوله وعروجه ألف سنة والمراد في هذه السورة مدة المسافة من منتهى الأرض السابعة إلى منتهى أعلى السماوات فوق السماء السابعة، قال البغوي روى ليث عن مجاهد أن مقدار هذا خمسين ألف سنة وقال محمد بن إسحاق لو سار ابن آدم من الدنيا إلى موض العرش سيرا طبيعيا له سار خمسين ألف سنة ومن ها هنا قالت الصوفية العلية : إن فناء القلب الذي يحصل للصوفي بالجذب من الله تعالى بتوسط النبي صلى الله عليه وسلم والمشايخ لو أراد واحد أن يحصله بالعبادات والرياضات من غير جذب من الشيخ فإنما يحصل له في زمان كان مقداره خمسين ألف سنة وإذا لم يتصور بقاء أحد بل بقاء الدنيا إلى هذه المدة ظهر أن الوصول إلى الله تعالى من غير جذب منه تعالى بتوسط أحد من المشايخ كما هو المعتاد وبلا توسط روح رجل كما يكون لبعض الآيسين من الأفراد محال والله المستعان.
﴿ فاصبر ﴾ يا محمد على تكذيبهم ﴿ صبرا جميلا ﴾ لا يشعر به استعجال واضطراب وجزع والفاء للسببية متعلق بسأل فإن السؤال عن تعنت واستهزاء وذلك مما نضجر به فالمعنى فاصبر ولا تضجر عن سؤالهم ولا تستعجل في عقوبتهم أو متعلق بسأل على قراءة نافع أو بمحذوف متعلق به في يوم على معنى فاصبر فقد سأل بهم العذاب وقرب وقوعه يقع.
﴿ إنهم ﴾ أي الكفار ﴿ يرونه ﴾ أي العذاب ﴿ بعيدا ﴾ من الإمكان أو مستبعدا في العقل محتملا احتمالا ضعيفا.
﴿ ونراه قريبا ٧ ﴾ في الوقوع فإن كل ما هو آت قريب والقرب في الوقوع يستلزم على تقدير كونه متعلقا بمحذوف وإن كان هو متعلقا بيعرج فهذا متعلق بمضمر دل عليه واقع.
﴿ يوم تكون السماء كالمهل ٨ ﴾ المذاب من النحاس وغيره من الفلزات أو دردي الزيت، أخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : السماء يكون ألوانا تكون كالمهل وتكون وردا كالدهان وتكون واهية تشقق فيكون حالا بعد حال.
﴿ وتكون الجبال كالعهن ٩ ﴾ أي كالصوف المصبوغ ألوانا لأن الجبال مختلفة الألوان فإذا بسطت وطيرت في الهواء اشتبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
﴿ ولا يسأل حميم حميما ١٠ ﴾ لا يسأل قريب لشدة ما يقع على نفسه معطوف على تكون أضيف إليه يوم بواسطة حرف العطف، قرأ البراء عن ابن كثير لا يسأل بضم الياء على بناء المفعول أي لا يطلب حميم من حميم أو لا يسأل منه حاله وهذا لاختلاف ليس في المشهور ولم يذكره في التيسير.
﴿ يبصرونهم ﴾ أي يرونهم صفة لحميم أو استئناف يدل على أن المنافع من السؤال ليس الخفاء بل إما تشاغل كل عن السؤال عن غيره لشدة على نفسه أو الغيبة عن السؤال بمشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ونحو ذلك وجمع الضميرين لعموم الحميم لوقوعه نكرة في حيز النفي، قال البغوي ليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس فيكون للرجل أباه وأخاه وقرابته ويبصر حميمه فلا يكلمه لاشتغاله بنفسه، وقيل : معنى يبصرونهم يعترفونهم أما المؤمن فببياض الوجه وأما الكافر فبسواد الوجه ﴿ يود ﴾ يتمنى ﴿ المجرم ﴾ المشرك الجملة حال من فاعل يبصرونهم أو من مفعوله والعائد وضع المظهر موضع الضمير أو مستأنفة في جواب ما يصنع المجرم يعني أن المجرم يشتغل بنفسه عن غيره بحيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس وأحبهم إليه في الدنيا فضلا أن يهتم بحاله ويسأله وعلى هذا قوله تعالى :﴿ ولا يسأل حميم حميما ١٠ ﴾ مختص بالكفار وأما المؤمنون فيسألون أحمامهم ويشفعون لهم وقد تواتر في ذلك الأحاديث بالمعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد منا شدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين لله تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ) الحديث متفق عليه، وفي حديث طويل عن أبي سعيد الخدري ﴿ لو يفتدي ﴾ أي المجرم أو المتمني والجملة بيان للوداد ﴿ من عذاب ﴾ متعلق بيفتدي مضاف إلى ﴿ يومئذ ﴾ قرأه الجمهور مجرورا بالإضافة وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم لاكتسابه البناء من المضاف إليه ﴿ ببنيه ﴾ مع ما عطف عليه متعلق بيفتدي.
﴿ وصاحبته ﴾ زوجته ﴿ وأخيه ﴾
﴿ وفصيلته ﴾ أي عشيرته الذين فصل عنهم ﴿ التي تؤويه ﴾ عند الشدائد.
﴿ ومن في الأرض جميعا ﴾ من الثقلين والخلائق ﴿ ثم ينجيه ﴾ ذلك الافتداء معطوف على يفتدي عطف بثم للاستبعاد.
﴿ كلا ﴾ لا ينجيه من عذاب الله شيء ردع المجرم عن الوداد ﴿ إنها ﴾ الضمير لغير مذكور وهي النار يدل عليه العذاب أو ضمير مبهم ﴿ لظى ﴾ وهو خبر أو بدل أو الضمير للقصة ولظى مبتدأ وخبره ما بعده على تقدير كونه مرفوعا واللظى اللهب الخالص، قال البغوي هو اسم من أسماء الجهنم، وقيل : هي الدركة الثانية سميت بذلك لأنها تتلظى أي تتلهب، أمال الهمزة والكسائي لظى وللشوى وتولى وفأوعى وورش وأبو عمر بين والباقون بالفتح.
﴿ نزاعة للشوى ١٦ ﴾ أي الأطراف اليدان والرجلان أو جمع شواة وهي لجلدة الرأس كذا قال مجاهد وروى إبراهيم بن مهاجر عنه اللحم دون العظام، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس العصب والعقب وقال الكلبي يأكل الدماغ ثم يعود كما كان، قرأ حفص عن عاصم نزاعة بالنصب على الاختصاص أو الحال المؤكدة مرادف أو المنتقلة على أن لظى بمعنى ملتظية والباقون بالرفع.
﴿ تدعوا ﴾ أي النار خبر بعد خبر لأن أو للظى ﴿ من أدبر ﴾ عن الحق ﴿ وتولى ﴾ عن الطاعة فيقول النار إلي يا مشرك إلي يا منافق إلي إلي، قال ابن عباس يدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ثم يلتقطهم كما يلتقط الطير الحب.
﴿ وجمع ﴾ المال ﴿ فأوعى ﴾ أي جعله في وعاء وأمسكه ولم يؤد حق الله تعالى عنه
﴿ * إن الإنسان خلق هلوعا ١٩ ﴾ حال مقدرة إن أريد اتصافه بالهلع بالفعل ومحققة إن أريد اشتماله على مبدأ تلك الصفة فإنها من أمور الجبلية التي هي من رذائل النفس المقتضى للاتصاف به بالقوة، وجملة إن الإنسان في محل التعليل لقوله أدبر الخ، والهلوع الحريص على ما لا يحل له رواه السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير الشحيح، وقال عكرمة الضجور وقال قتادة الجزوع، وقال مقاتل ضيق القلب والهلع شدة الحرص وقلة الصبر، وقال عطية عن ابن عباس تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى :﴿ إذا مسه الشر جزوعا ٢٠ ﴾ لا يصبر ﴿ وإذا مسه الخير ﴾ المال ﴿ منوعا ﴾.
﴿ إذا مسه الشر جزوعا ٢٠ ﴾ لا يصبر.
﴿ وإذا مسه الخير ﴾ المال ﴿ منوعا ﴾
لا ينفق في سبيل الله ولا يشكر، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) متفق عليه، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر ) متفق عليه.
﴿ إلا المصلين ٢٢ ﴾ أي المؤمنين الكاملين عبر بالمصلي عن المؤمن أي المؤمن الكامل كما عبر بالإيمان عن الصلاة في قوله تعالى :﴿ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ﴾ فإن الصلاة أعلى مقامات المؤمن وهي معراج المؤمن وعماد الدين قال المجدد حقيقة الصلاة فوق سائر المقامات التي يمكن حصولها للبشر والاستثناء متصل إن كان اللام في الإنسان للجنس أو للاستغراق فهو مفرد في معنى الجمع أو المعنى أن المجرم أدبر وتولى الخ لأن جنس الإنسان أو كل فرد من خلق مقدرا منه الهلع إلا المؤمنين الكاملين الموصوفين بالصفات المذكورة الدالة على الاستغراق في طاعة الله تعالى والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وعدم إيثار العاجل على الآجل فإنهم لم يخلقوا هلوعا بل خلقوا مقدرا منهم الصبر على الضراء والشرك على السراء الموجبين للإكرام في الجنات، روى مسلم عن حبيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته السراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا ) فعلى هذا التأويل وزان هذه الآية وزان قوله تعالى :﴿ إن الإنسان لفي خسر ٢ إلا الذين آمنوا ﴾ الخ ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا إن كان اللام في الإنسان للعهد والمعنى المجرم الذي أدبر وتولى الخ خلق هلوعا لكن المؤمن الموصوف بتلك الصفات لم يخلق كذلك بل خلق مستعدا للإكرام في الجنات وعلى كلا التأويلين تدل هذه الآية على أن استعدادات الإنسان مختلفة في أصل الخلقة كما قال به المجدد أن مبادي تعينات المؤمن جزئيات للاسم الهادي ومبادئ تعينات الكفار جزئيات لاسم المضل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ) وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ) رواه مسلم في الباب أحاديث كثيرة جدا.
﴿ الذين هم على صلاتهم دائمون ٢٣ ﴾ أي مقبلون في الصلاة بقلوبهم إلى الله تعالى وبأبصارهم إلى موضع السجود دائما ما داموا في الصلاة فهل بمعنى أورد في سورة المؤمنين ﴿ الذين هم في صلاتهم خاشعون ٢ ﴾ فلا يلزم التكرار بقوله تعالى :﴿ والذين هم على صلواتهم يحافظون ٩ ﴾ إذ المراد بالدوام دوام الحضور بالمحافظة التحرز عن فواتها وفوات شرائطها وأركانها وآدابها روى البغوي بسنده عن أبي الخير أنه قال : سألنا عقبة بن عامر عن قول الله عز وجل :﴿ الذين هم على صلاتهم دائمون ٢٣ ﴾ الذين يصلون أبدا ؟ قال : لا ولكنه إذا صلى لا يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه، وروى أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه ) وروى البيهقي في السنن الكبير عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد )، وروى الترمذي عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الالتفات في الصلاة هلكة ).
فائدة : في جعل البصر حيث يسجد تأثير عظيم لدفع الخطرات وحضور القلب.
﴿ والذين في أموالهم حق معلوم ٢٤ ﴾ كالزكاة والصدقات الموظفة ﴿ للسائل والمحروم ﴾.
﴿ للسائل ﴾ الذي يسأل ﴿ والمحروم ﴾ الذي لا يسأل فيحرم عن العطاء غالبا قوله للسائل الخ صفة لحق بعد صفة.
﴿ والذين يصدقون بيوم الدين ٢٦ ﴾ فإن التصديق بيوم الدين لو كان على حقيقة لا يكون الإنسان جزوعا في الشربل صابرا تحسبا ولا منوعا في الخير فتقف طالبا للثواب.
﴿ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون ٢٧ ﴾ خائفون على أنفسهم فإن مقتضى التصديق والإيمان الخوف والرجاء.
﴿ إن عذاب ربهم غير مأمون ٢٨ ﴾ لا يقدر على منعه أحد.
﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ٢٩ ﴾ قدم المفعول لرعاية الفواصل وزيدت اللام لتقوية عمل المشتق والفرج اسم سوأة الرجل والمرأة وحفظ الفرج عدم استعماله فيما يشتهيه.
﴿ إلا على أزواجهم ﴾ استثناء مفرغ وإنما صح في الإثبات لتضمن الحفظ معنى النفي وعلى صلة للحافظين من قولك احفظ على عنان فرسي أي يحفظون فروجهم على النساء إلا على أزواجهم فهي حينئذ بمعنى من أو حال أي حفظوها في كافة الأحوال إلا في حال التزوج أو التسري، ويحتمل أن يكون الاستثناء من فعل منفي مقدر دل عليه الحفظ أي يحفظون فروجهم لا يبذلونها على امرأة إلا على أزواجهم ﴿ أو ما ملكت أيمانهم ﴾ أي سرياتهم وإنما قال ما بإجراء المماليك مجرى غير العقلاء فإن الشرع ألحقهم بها عقابا على كفرهم فأجاز بيعهم واستخدامهم، والمراد بما ملكت أيمانهم السرايا دون العبيد فإنه لا يجوز للرجال إتيان العبد في دبره لما بينا حرمته في سورة البقرة بالسنة والقياس في تفسير قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ﴾ فإن قيل : كيف يقدم السنة والقياس على نص الكتاب الوارد ها هنا لعموم قوله تعالى ما ملكت أيمانهم العبيد والإماء ؟ قلنا : ليس على هذه إجماعا فإنه لا يجوز وطئ امرأة في حالة الحيض والظهار ولا وطئ أمة محرمة عليه بالرضاع فيجوز تخصيص هذا النص بخبر الآحاد والقياس ولا يجوز للمرأة الاستمتاع بفرج عبده فإن كلمة على في قوله تعالى :﴿ على أزواجهم ﴾ وكلمة ما التي هي لغير العقلاء تدلان على جواز استعمال المماليك استعمال المفترش لا على عكس ذلك في وطئ الأمة دون تمكين العبد ﴿ فإنهم غير ملومين ﴾ تعليل لمضمون الاستثناء فإن عدم حفظ الفرج عن الزوجة والسرية وإتيانهن على وجه مشروع لا يلام عليه فإنه مباح ضرورة إبقاء النسل، وسياق الكلام يدل على أن الأصل في الجماع الحرمة كما ذكرنا في سورة البقرة وإنما صح بشرائط من النكاح أو ملك اليمين وعدم الجزئية والطهارة من الحيض والنفاس والإتيان في محل الولد دون الدبر.
﴿ فمن ﴾ الفاء للسببية ﴿ ابتغى ﴾ أي طلب الإتيان ﴿ وراء ذلك ﴾ أي وراء الزوجات والسرايا ﴿ فأولئك ﴾ المبتغين وراء ذلك ﴿ هم العادون ﴾ الكاملون في العدوان حيث أتى بفعل حرام مع الكفاية بما أحل الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها ) رواه الدارمي عن ابن مسعود.
مسألة : وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز متعة النكاح فإن المرأة لا تدخل بالمتعة في الزوجات حتى أن القائلين بإباحتها لا يقولون بجريان التوارث بالمتعة، وقال البغوي وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام وهو قول العلماء، قال ابن جريج سألت عطاء عنه فقال مكروه سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء، وعن سعيد بن جبير قال عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم، قلت : وفي الباب حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ملعون من نكح يده ) رواه الأزدي في الضعفاء وابن الجوزي من طريق الحسن بن عرفة في الجزئية المشهورة بلفظ ( سبعة لا ينظر الله إليهم فذكر الناكح يده ) وإسناده ضعيف.
﴿ والذين هم لأماناتهم ﴾ قرأ ابن كثير لأماناتهم ها هنا وفي المؤمنين بغير ألف على التوحيد والباقون على الجمع ﴿ وعهدهم راعون ﴾ حافظون أي يحفظون الأمانات ويؤدونها إلى أهلها فمنها ما هي بينه وبين الله تعالى كالصلاة والصوم والغسل من الجنابة وغير ذلك والفرائض الواجبة حقا لله تعالى، ومن هذا الباب إضافة الكمالات من الوجود وتوابعها والنعماء الظاهرة والباطنة كله إلى الله تعالى فيجب العلم والإقرار بأنها كلها من عواري الله المستودعة حتى يجد نفسه فقرا خاليا عنها حين وجودها كلابس ثوب العارية عاري في الحقيقة فيعلم أن الكبرياء والعظمة رداء الله تعالى وإزاره لا يجوز لأحد التنازع فيه ويشكر عند وجود النعم ويصبر عند سلبها ولا يجزع، ومنها ما هي بين العباد كالودائع والبضائع والعواري فعلى العبد الوفاء لجميعها ويحفظون العهود التي عاهدوا الله تعالى يوم الميثاق وغير ذلك كما أن الله تعالى أخذ العهد من أهل الكتاب إن بينوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه والعهود التي عاهدوا فيما بينهم في المعاملات والمعاشرات فإبقاء كلها واجب، روى الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( آية المنافق ثلاث –زاد مسلم- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) ثم اتفقا ( إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا ائتمن خان ) وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عهد غدر وإذا خاصم فجر ) وروى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحسماء قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت فذكرت بعد ثلاث فإذا هو في مكانه فقال :( لقد شققت على أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك ).
﴿ والذين هم بشهاداتهم ﴾ قرأ حفص عن عاصم ويعقوب بشهادات على الجمع والباقون بالإفراد ﴿ قائمون ﴾ أي يقومون فيها بالحق فلا يكتمونها ولا يغيرونها ولا يخافون لومة لائم سواء كانت الشهادة قط خالصا لله تعالى كالشهادة على التوحيد والرسالة وشهادة أهل الكتاب على ما في التوراة من نعت النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة بهلال رمضان وبالحدود ونحو ذلك أو كانت الشهادة حقا للعباد بالمداينات ونحوها على أنفسهم أو الوالدين والأقربين.
﴿ والذين هم على صلاتهم يحافظون ٣٤ ﴾ أي يراعون أوقاتها وأركانها وسننها وآدابها ويحترزون عن فواتها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا بوجهين مختلفتين للدلالة على فضلها على غيرها من أركان الإسلام.
﴿ أولئك ﴾ أي أهل هذه الصفات ﴿ في جنات مكرمون ﴾ خبر لأولئك وفي جنات ظرف متعلق به قدم عليه لرعاية الفواصل.
﴿ فمال الذين كفروا ﴾ الفاء للسببية وما استفهامية للتوبيخ مبتدأ خبره ما بعده، قال البغوي نزلت في جماعة من الكفار كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه فقال الله تعالى توبيخا ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك ولا ينتفعون بما يستمعون من ﴿ قبلك ﴾ ظرف متعلق بما بعده ﴿ مهطعين ﴾ حال من الذين كفروا وعامله معنى الفعل أي ما يصنع الكافرون مهطعين قبلك أي مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومد النظر إليك متطلعين إليك كذا قال البغوي، وفي القاموس هطع كمنع هطؤها وهطعا أسرع مقبلا خائفا وأقبل يبصره على الشيء لا يقلع عنه وأهطع مد عنقه وصوب رأسه.
﴿ عن اليمين وعن الشمال ﴾ متعلق بمهطعين ﴿ عزين ﴾ جماعات في تفرقة واحدتها عزة كذا في الصحاح وفي القاموس عزة كعدة العصبة من الناس.
﴿ أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم ٣٨ ﴾ بلا إيمان وعمل صالح استفهام إنكار ردا لقولهم مع زعمهم كون البعث مستحيلا لو كان كما يقول محمد لنكون فيها أفضل حظا منهم كما في الدنيا.
﴿ كلا ﴾ ردع من ذلك الطمع الباطل ﴿ إنا خلقناهم مما يعلمون ﴾ استدلال بالنشأة الأولى على إمكان النشأة الثانية وبطلان دعوى استحالة البعث وتعليل لبطلان طمعهم في دخول الجنة بلا إيمان والمعنى إنا خلقناهم من نطفة مستقذرة ثم من علقة كذلك ثم من مضغة لا يقتضي شيء منها للإكرام ولا يناسب عالم القدس فمن لم يستكمل نفسه بالإيمان والطاعة ولم يتخلق بالأخلاق المرضية لله سبحانه لم يستعد دخولها، روى البغوي بسنده عن بسر بن جحاش قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وبصق يوما في كفه ووضع عليها أصبعه فقال :( يقول الله ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين بردين والأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت الصدق فإني أوان الصدق ) أو المعنى إنا خلقناهم من أجل ما تعلمون حيث قال الله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ أي ليعرفون فمن لم يستكمل نفسه بالعلم والعمل كيف يطمع منازل الكاملين.
﴿ فلا أقسم برب المشارق والمغارب ﴾ يعني مشارق الكواكب ومغاربها ومشرق الشمس والقمر كل يوم من أيام السنة ومغربها ﴿ إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم ﴾ أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمدا صلى الله عليه وسلم بدلكم من هو خير منكم وهم المؤمنون الأنصار لله ولرسوله.
﴿ إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم ﴾ أي نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم أو نعطي محمدا صلى الله عليه وسلم بدلكم من هو خير منكم وهم المؤمنون الأنصار لله ولرسوله ﴿ وما نحن بمسبوقين ﴾ بمغلوبين إن أردنا أن نهلكهم معطوف على إنا لقادرون وفي ذكره برب المشارق والمغارب الاستدلال بقدرته تعالى على خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والكواكب واختلاف مشارق كل منها كل يوم ومغاربها على قدرته تعالى وعدم عجزه من تبديلهم عمن هم خير منهم.
﴿ فذرهم ﴾ الفاء للسببية يعني إذا علمت قدرتنا على إهلاكهم فلا تهتم بهم فإنما أردنا استدراجهم وتعذيبهم أشد العذاب ﴿ يخوضوا ويلعبوا ﴾ في دنياهم الفعلان مجزومان على جواب الأمر ﴿ حتى يلاقوا ﴾ متعلق بقوله ذرهم يعني ذرهم كي يلاقوا ﴿ يومهم الذي يوعدون ﴾ العذاب فيه.
﴿ يوم يخرجون من الأجداث ﴾ أي القبور بدل من يومهم ﴿ سراعا ﴾ جمع سريع ككراما جمع كريم حال بما أسند إليه يخرجون ﴿ كأنهم إلى نصب ﴾ متعلق بما بعده أي ﴿ يوفضون ﴾ أي يسرعون حال بعد حال، قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والباقون بفتح النون وإسكان الصاد، قال مقاتل والكسائي يعني إلى أوثانهم الذي كانوا يعبدونها من دون الله يعني أنهم كما كانوا يسرعون إلى أوثانهم أيهم يستلمها أولا كذلك يسرعون من الأجداث إلى المحشر ليروا جزاء أعمالهم وقال الكلب إلى علم وإرادته يعني كما أن أهل العسكر يسرعون إلى أعلامهم.
﴿ خاشعة أبصارهم ﴾ حال أيضا ﴿ ترهقهم ﴾ تغشاهم ﴿ ذلة ﴾ القليل للخشوع أو بيان له ﴿ ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ﴾ في الدنيا وينكرونها تأكيد لما سبق أو استئناف والله أعلم.