تفسير سورة يس

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة يس من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة، وروي عن ابن عباس أن ﴿ يس ﴾ بمعنى يا إنسان، وقال سعيد بن جبير : هو كذلك في لغة الحبشة، وقال زيد بن أسلم : هو اسم من أسماء الله تعالى، ﴿ والقرآن الحكيم ﴾ أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ﴿ إِنَّكَ ﴾ أي يا محمد ﴿ لَمِنَ المرسلين * على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم، ﴿ تَنزِيلَ العزيز الرحيم ﴾ أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به، تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى :﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ [ الشورى : ٥٢-٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴾ يعني بهم العرب، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله، وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ ﴾، قال ابن جرير : لقد وجب العذاب على أكثرهم، بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون، ﴿ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ بالله ولا يصدقون رسله.
يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جعل في عنقه غل، لجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مقمحاً، ولهذا قال تعالى :﴿ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ والمقمح هو الرافع رأسه، كما قالت أم زرع في كلامها : وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروى فأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين، كما قال الشاعر :
فما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر، لما دل الكلام والسياق عليه، وهكذا هذا، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين، قال ابن عباس : هو كقوله عزّ وجلّ :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ﴾ [ الإسراء : ٢٩ ] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير، وقال مجاهد :﴿ فَهُم مُّقْمَحُونَ ﴾ قال : رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم، فهم مغلولون عن كل خير، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ﴾، قال مجاهد عن الحق :﴿ ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ﴾ عن الحق فهم يترددون، وقال قتادة : في الضلالات، وقوله تعالى :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ ﴾ أي أغشينا أبصارهم عن الحق ﴿ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه، قال عبد الرحمن بن زيد : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ :﴿ إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ]، ثم قال : من منعه الله تعالى لا يستطيع، وقال عكرمة، قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ﴾ إلى قوله :﴿ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ قال : وكانوا يقولون هذا محمد، فيقول : أين هو أين هو؟ لا يبصره.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب قال :« قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها، وخرج عليهم رسول الله ﷺ عد ذلك وفي يده حفنة من تراب، وقد أخذ الله تعلى على أعينهم دونه، فجعل يذروها على رؤوسهم ويقرأ :﴿ يس * والقرآن الحكيم ﴾ حتى انتهى إلى قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾، وانطلق رسول الله ﷺ لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار، فقال : ما لكم؟ قالوا : ننتظر محمداً، قال : قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً، ثم ذهب لحاجته، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب، قال : وقد بلغ النبي ﷺ قول أبي جهل فقال :» وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه لآخذهم « »
2112
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ﴾ أي قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفليد فيهم الإنذارولا يتأثرون به. ﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر ﴾ أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون ﴿ الذكر ﴾ وهو القرآن العظيم، ﴿ وَخشِيَ الرحمن بالغيب ﴾ أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى، يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل، ﴿ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ ﴾ أي لذنوبه ﴿ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ أي كثير واسع حسن جميل كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الملك : ١٢ ].
ثم قال عزّ وجلّ :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى ﴾ أي يوم القيامة، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب :﴿ اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الحديد : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ ﴾ أي من الأعمال، وفي قوله تعالى :﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ قولان : أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كقوله ﷺ :« من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً » وهكذا الحديث الآخر :« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية بعده » وقال مجاهد في قوله تعالى :﴿ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ﴾ قال : ما أورثوا في الضلالة، وقال سعيد بن جبير :﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ يعني ما أثروا، يقول : ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم، وهذا القول هو اختيار البغوي. والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، قال مجاهد :﴿ مَاَ قَدَّمُواْ ﴾ أعمالهم ﴿ وَآثَارَهُمْ ﴾ قال : خطاهم بأرجلهم. وقال قتادة : لو كان الله عزّ وجلّ مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذا الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث.
2113
الحديث الأول : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :« خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال لهم :» إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد «، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال ﷺ :» يا بني سلمة : دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم « » الحديث الثاني : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :« كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ﴾ فقال لهم النبي ﷺ :» إن آثاركم تكتب « » فلم ينقلوا. وروى الحافظ البزار، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله ﷺ بد منازلهم من المسجد فنزلت :﴿ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ﴾ فأقاموا في مكانهم
. الحديث الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد فنزلت ﴿ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ﴾ فثبتوا في منازلهم. الحديث الرابع : عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :« توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي ﷺ، وقال :» يا ليته مات في غير مولده « فقال رجل من الناس : ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ :» إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة « » وروى ابن جرير عن ثابت قال : مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً، فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي، فقال يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم. وقوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، ( والإمام المبين ) هاهنا هو أم الكتاب، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ [ الإسراء : ٧١ ] أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر كما قال عزّ وجلّ :﴿ وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء ﴾ [ الزمر : ٦٩ ]، وقال تعالى :﴿ وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
2114
يقول تعالى واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك ﴿ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون ﴾. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار : إنها مدينة أنطاكية، وكان بها ملك يقال له :( أنطيقس ) كان يعبد الأصنام، فبعث الله تعالى إليه ثلاثة من الرسل وهم ( صادق ) و ( صدوق ) و ( شلوم ) فكذبهم.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا ﴾ أي بادروهما بالتكذيب، ﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾ أي قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث، ﴿ فقالوا ﴾ : أي لأهل تلك القرية ﴿ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ ﴾ أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له، ﴿ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ أي فكيف أوحي إليكم وأنتم شر ونحن بشر! فلم لا أوحي إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، كما أخبر الله تعالى عنهم ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] ! أي استعجبوا من ذلك وأنكروه، كما قال تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ] ! ولهذا قال هؤلاء :﴿ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كقوله تعالى :﴿ قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ﴾ [ العنكبوت : ٥٢ ]، ﴿ وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين ﴾ يقولون : إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت السعادة في الدنيا والأخرى، وإن لم تجيبوا فستعلمون غب ذلك، والله أعلم.
فعند ذلك قال لهم أهل القرية :﴿ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ﴾ أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا، وقال قتادة : يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، وقال مجاهد : يقولون : لم يدخل مثلكم إلى قرية إلاعذب أهلها ﴿ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾، قال قتادة : بالحجارة، وقال مجاهد : بالشتم ﴿ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي عقوبة شديدة، فقالت لهم رسلهم :﴿ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ أي مردود عليكم، كقوله تعالى في قوم فرعون :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ]، وقال قوم صالح :﴿ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله ﴾ [ النمل : ٤٧ ]، وقال قتادة ووهب بن منبه : أي أعمالكم معكم، وقوله تعالى :﴿ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾ أي من أجل أنا ذكرنامكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا، ﴿ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴾، وقال قتادة : أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم منا بل أنتم قوم مسرفون.
قال وهب بن منبه : إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، قالوا : وهو ( حبيب ) وكان يعلم الحرير وهو الحباك، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة، وقال ابن عباس : اسم صاحب يس ( حبيب النجار ) فقتله قومه، وقال السدي : كان قصاراً، وقال قتادة : كان يتعبد في غار هناك، ﴿ قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين ﴾ يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم ﴿ اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً ﴾ أي على إبلاغ الرسالة ﴿ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾ فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ﴿ وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ﴾ أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ﴿ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾ ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع ﴿ إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ ﴾ أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه، لا يملكون من الأمر شيئاً، فإن الله تعالى لو أرادني بسوء، ﴿ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ١١٧ ]، وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذوني مما أنا فيه ﴿ إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي إن اتخذتها آلهة من دون الله، وقوله تعالى :﴿ إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون ﴾ قال ابن إسحاق : يقول لقومه :﴿ إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ الذي كفرتم به ﴿ فاسمعون ﴾ أي فأسمعوا قولي، ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله :﴿ إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ أي الذي أرسلكم ﴿ فاسمعون ﴾ أي فاشهدوا لي بذلك عنده، وقد حكاه ابن جرير فقال : وقال آخرون : بل خاطب بذلك الرسل وقال لهم : اسمعوا قولي لشتهدوا لي بما أقول لكم عند ربي، إني آمنت بربكم واتبعتكم، وهذا قول أظهر في المعنى والله أعلم، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس : فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه، وقال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون، فلم يزالوا به حتى أقعصوه، وهو يقول كذلك، فقتلوه رحمه الله.
قال ابن مسعود : إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصه من دبره وقال الله له :﴿ ادخل الجنة ﴾ فدخلها، فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة، وذلك أنه قتل فوجبت له، فلما رأى الثواب ﴿ قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾ قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً، لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى :﴿ قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين ﴾ تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة وما هجم عليه، وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله :﴿ ياقوم اتبعوا المرسلين ﴾ [ يس : ٢٠ ]، وبعد مماته في قوله :﴿ قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين ﴾، وقال سفيان الثوري عن أبي مجلز :﴿ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين ﴾ بإيماني بربي وتصديقي المرسلين، ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب الجزاء والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله وBه، فلقد كان حريصاً على هداية قومه. وقال محمد بن إسحاق، عن كعب الأحبار أنه ذكر له ( حبيب بن زيد ) الذي كان مسليمة الكذاب قطعه باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله ﷺ، فجعل يقول له : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول : نعم، ثم يقول : أتشهد إني رسول الله، فيقول : لا اسمع، فيقول له مسليمة لعنه الله : أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول : نعم، فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ل حتى مات في يديه، فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب. وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾ يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه، غضباً منه تبارك وتعالى عليهم، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه، ويذكر عزّ وجلّ أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم، بل الأمر كان أيسر من ذلك، ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ فأهلك الله تعالى ذلك الملك، وأهلك أهل أنطاكية فبادوا عن وجه الأرض، فلم يبق منهم باقية، وقيل :﴿ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴾ أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم، وقيل : المعنى في قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء ﴾ أي من رسالة أُخرى إليهم قال قتادة : فلا و الله ما عاتب الله قومه بعد قتله ﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ قال ابن جرير : والأول أصح لأن الرسالة لا تسمى جنداً.
2118
قال المفسرون : بعث الله تعالى إليهم جبريل ﷺ، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تترد في جسد، وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي ( أنطاكية ) وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً منعند المسيح عيسى ابن مريم ﷺ كما نص عليه قتادة وغيره، وفي ذلك نظر من وجوه : أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عزّ وجلّ لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى :﴿ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ ﴾ [ يس : ١٤ ]، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام، ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ]. الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربع اللاتي فيهن بتاركة، وهن ( القدس ) لأنها بلد المسيح، و ( أنطاكية ) لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، و ( الاسكندرية ) لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة، ثم ( رومية ) لأنها مادنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، والله أعلم. الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر غير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى ﴾ [ القصص : ٤٣ ] فلعلى هذه يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أُخْرى غير ( أنطاكية ) كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً، أو تكون انطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أُخرى غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
2119
قال ابن عباس :﴿ ياحسرة عَلَى العباد ﴾ أي يا ويل العباد، وقال قتادة :﴿ ياحسرة عَلَى العباد ﴾ أي يا حسرة العباد على أنفسهم، على ما ضيعت من أمر الله وفرطت في جنب الله، والمعنى : يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، كيف كذبوا رسل الله وخالفوا أمر الله؟ فإنهم كانوا ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي يكذبونه ويستهزئون به، ويجحدون ما أرسل به من الحق، ثم قال تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية، ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جلّ وعلا، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها، ومعننى هذا كقوله جلّ وعلا ﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ هود : ١١١ ].
يقول تبارك وتعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ ﴾ أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى ﴿ الأرض الميتة ﴾ أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زويج بهيج، ولهذا قال تعالى :﴿ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ أي جعلنا رزقاً لهم ولأنعامهم، ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون ﴾ أي جعلنا فيها أنهاراً سارحة في أمكنة يحتاجون إليها ﴿ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ ﴾ لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها، وقوله جلّ وعلا :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي وما ذاك كله إلا من رحمه الله تعالى بهم، لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم، ولهذا قال تعالى :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى، واختار ابن جرير أن ( ما ) في قوله تعالى :﴿ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ﴾ بمعنى ( الذي ) تقديره : ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم، أي غرسوه ونصبوه، قال : وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه :﴿ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾، ثم قال تبارك وتعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض ﴾ أي من زروع وثمار ونبات، ﴿ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ فجعلهم ذكراً وأنثى ﴿ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها كما قال جلت عظمته :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ].
يقول تعالى : ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة، خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا، كما قال تعالى :﴿ يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، ولهذا قال عزّ وجلّ هاهنا :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار ﴾ أي نصرمه منه فيذهب فيقبل الليل، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴾ كما جاء في الحديث :« إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم » هذا هو الظاهر من الآية؛ وقوله جلّ جلاله :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ في معنى قوله :﴿ لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ : قولان : أحدهما : أن المراد مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات لأنه سقفها، فحينئذٍ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال :« كنت مع النبي ﷺ في المسجد عند غروب الشمس، فقال ﷺ :» يا أبي ذر أتدري أي تغرب الشمس «؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال ﷺ :» فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ «، وروى البخاري أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه، قال :» سألت رسول الله ﷺ عن قوله تبارك وتعالى :﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ قال ﷺ :« مستقرها تحت العرش » « وعنه قال :» كنت مع رسول الله ﷺ في المسجد حين غربت الشمس، فقال ﷺ :« يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس؟ » قلت : الله ورسوله أعلم، قال ﷺ :« فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عزّ وجلّ، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، كأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها ثم قرأ ﴿ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ » «. والقول الثاني : أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكوّر وينتهي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني، قال قتادة :﴿ لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ أي لوقتها ولأجلٍ لا تعدوه، وقيل : المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطلع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ( والشمس تجري لا مستقر لها ) أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً لا تفتر ولا تقف، كما قال تبارك وتعالى :
2122
﴿ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ] أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة، و ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز ﴾ أي الذين لا يخالف ولا يمانع ﴿ العليم ﴾ بجميع الحركات والسكنات، وقد قدَّر ذلك ووقَّته على منوال، لا اختلاف فيه ونلا تعاكس، كما قال عزّ وجلّ :﴿ فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم ﴾ [ الأنعام : ٩٦ ]، ثم قال جلّ وعلا :﴿ والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ﴾ أي جعلناه يسير سيراً آخر، يستدل به على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، كما قال عزّ وجلّ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ].
وقال تعالى :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ] الآية، وقال تبارك وتعالى :﴿ وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ [ الإسراء : ١٢ ]، فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري، وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبساً من الشمس، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير ﴿ كالعرجون القديم ﴾ قال ابن عباس : وهو أصل العذق، وقال مجاهد ﴿ العرجون القديم ﴾ : أي العذق اليابس، يعني ابن عباس أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديداً في أول الشهر الآخر. وقوله تبارك وتعالى :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ قال مجاهد : لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، وإذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا، وقال الحسن في قوله تعالى :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ قال : ذلك ليلة الهلال، وقال الثوري : لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا، وقال عكرمة في قوله عزّ وجلّ :﴿ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر ﴾ يعني أن لكل منهما سلطاناً فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ اليل سَابِقُ النهار ﴾ يقول : لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، فسلطان الشمس بالنهار، وسلطان القمر بالليل، وقال الضحّاك : لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا وأومأ بيده إلى المشرق، وقال مجاهد :﴿ وَلاَ اليل سَابِقُ النهار ﴾ المعنى أنه لا فترة بين الليل والنهار، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ، لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ يعني الليل والنهار والشمس والقمر كلهم ﴿ يَسْبَحُونَ ﴾ أي يدورون في فلك السماء، قال ابن عباس : في فلكه كفلكة المغزل، وقال مجاهد : الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل، لا يدور المغزل إلا بها ولا تدور إلا به.
2123
يقول تبارك وتعالى : ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى، وتسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك بل أوله سفينة نوح ﷺ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، ولهذا قال عزّ وجلّ ﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾ أي آباءهم ﴿ فِي الفلك المشحون ﴾ أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات، التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، قال ابن عباس ﴿ المشحون ﴾ الموقر، وقال الضحّاك وقتادة : هي سفينة نوح ﷺ، وقوله جلّ وعلا :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ قال ابن عباس : يعني بذلك الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها، وقال السدي في رواية : هي الأنعام، وقال ابن جرير : عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال : أتدرون ما قوله تعالى :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ ؟ قلنا : لا، قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح ﷺ على مثلها، وكذا قال الضحّاك وقتادة : المراد بقوله تعالى :﴿ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ أي السفن، ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جلّ وعلا :﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١١-١٢ ]، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ ﴾ يعني الذين في السفن، ﴿ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ ﴾ أي فلا مغيث لهم مما هم فيه، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ ﴾ أي مما أصابهم، ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾ وهذا استثناء منقطع تقديره : ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ونسلمكم إلى أجل مسمى، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَتَاعاً إلى حِينٍ ﴾ أي إلى وقت معلوم عند الله عزّ وجلّ.
يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ ﴾ قال مجاهد : من الذنوب، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه، وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه، واكتفى عن ذلك بقوله تعالى :﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ : أي على التوحيد وصدق الرسل، ﴿ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله ﴾ أي وإذا أمروا بالانفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين ﴿ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا ﴾ اي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق، محاجين لهم فيما أمروهم به :﴿ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ ﴾ أي هؤلاء الذين أمرتمونها بالإنفاق عليهم، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله تعلى فيهم ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي في أمركم لنا بذلك.
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم :﴿ متى هَذَا الوعد ﴾، كما قال تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ﴾ [ الشورى : ١٨ ]، قال الله عزّ وجلّ :﴿ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ﴾ أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهذه والله أعلم :« نفخة الفزع » ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ بأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فنفخ في الصورة نفخة يطولها ويمدّها، فلا يبقى أحد على وجه الارض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً، وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم، ولهذا قال تعالى :﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ﴾ أي على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك، ﴿ وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ﴾، وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر، ثم يكون بعد هذا :« نفخة الصعق » التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك، « نفخة البعث » والله أعلم.
هذه هي النفخة الثالثة وهي نفخة ( البعث والنشور ) للقيام من الأجداث والقبور، ولهذا قال تعالى :﴿ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ والنسلان هو المشي السريع، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً ﴾ [ المعارج : ٤٣ ] الآية، ﴿ قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم ﴿ قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ ؟ وهذا عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن : ينامون نومة قبل البعث، قال قتادة. وذلك بين النفختين، فلذلك يقولون :﴿ مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ﴾ فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون :﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون ﴾ وقال الحسن : إما يجيبهم بذلك الملائكة؛ وقال عبد الرحمن بن زيد : الجميع من قول الكفار :﴿ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون ﴾ نقله ابن جرير، واختار الأول وهو أصح، وذلك كقوله تبارك وتعالى في الصافات :﴿ وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين * هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٠-٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾، كقوله عزّ وجلّ :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ [ النازعات : ١٣-١٤ ]، وقال جلَّت عظمته :﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النحل : ٧٧ ]، وقال جل جلاله :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٥٢ ] أي إنما نأمرهم أمراً واحداً فإذا الجميع محضرون، ﴿ فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ اي من عملها ﴿ وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
يخبر تعالى عن أهل الجنة : أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات، فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل عن غيرهم، بما هم فيه من النعيم المقيم، والفوز العظيم، قال الحسن البصري : في شغل عما فيه أهل النار من العذاب، وقال مجاهد :﴿ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾ أي في نعيم معجبون به، وقال ابن عباس :﴿ فَاكِهُونَ ﴾ أي فرحون، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة في قوله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾ قالوا : شغلهم افتضاض الأبكار، وقال ابن عباس في رواية عنه :﴿ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴾ أي بسماع الأوتار، وقوله عزّ وجلّ :﴿ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ ﴾ قال مجاهد : وحلائلهم ﴿ فِي ظِلاَلٍ ﴾ اي في ظلال الأشجار ﴿ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ﴿ الأرآئك ﴾ هي السرر تحت الحجال، وقوله عزّ وجلّ :﴿ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ أي من جميع أنواعها ﴿ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ﴾ أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ :« أَلاَ هل مشمر إلى الجنة! فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وجلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير ونعمة في محله عالية بهية »، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال ﷺ :« قولوا إن شاء الله »، فقال القوم : إن شاء الله «. وقوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ قال ابن عباس : فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجننة، وهذا كقوله تعالى :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ﴾ [ الأحزاب : ٤٤ ]، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ :» بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله تعالى :﴿ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾، قال فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم «.
يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة، من أمره لهم ( أن يمتازوا ) بمعنى يتميزوا عن المؤمنين في موقفهم، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٢٨ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ ]، وقال :﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [ الروم : ٤٣ ] أي يصيرون صدعين فرقتين، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدوّ لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾ أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً ﴾ يقال : جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام، والمراد بذلك الخلق الكثير، وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ ﴾ أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به وعدو لكم إلى اتباع الشيطان؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول :﴿ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون ﴾ فيتميز الناس ويجثون، وهي التي يقول الله عزّ وجلّ :﴿ وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ».
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً ﴿ هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ أي هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، ﴿ اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الطور : ١٣-١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾، هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :« كنا عند النبي ﷺ فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال ﷺ :» أتدرون مم أضحك؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم، قال ﷺ :» من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول : رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى، فيقول : لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه : انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل « » وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ في حديث القيامة الطويل قال فيه :« ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت؟ فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك، وصمت وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع قال فيقال له : ألا نبعث عليك شاهدنا؟ قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال : لفخذه انطقي قال فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذ من نفسه، وذلك الذي يسخط الله تعالى عليه ».
روى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول : نعم أي رب عملت عملت عملت، قال : فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها، قالك فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً، ويبدو حسناته فود الناس كلهم يرونها، ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحد، ويقولك أي رب وعزتك، لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول له الملك، أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول : لا وعزتك أي رب ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى على فيه، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى، ثم تلا :﴿ اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
2130
وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ ﴾، قال بان عباس في تفسيرها يقول : ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى فكيف يهتدون؟ وقال مرة : أعميناهم، وقال الحسن البصري : لو شاء الله لطمس على أعينهم، فجعلهم عمياً يترددون، وقال السدي : ولو نشاء أعمينا أبصارهم، وقال مجاهد وقتادة والسدي :﴿ فاستبقوا الصراط ﴾ يعني الطريق، وقال ابن زيد يعني بالصراط هاهنا الحق فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم؟ وقال ابن عباس :﴿ فأنى يُبْصِرُونَ ﴾ لا يبصرون الحق، وقوله عزّ وجلّ :﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ ﴾ قال ابن عباس : أهلكناهم، وقال السدي : يعني لغيرها خلقهم، وقال أبو صالح : لجعلناهم حجارة، وقال الحسن البصري وقتادة : لأقعدهم على أرجلهم، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ فَمَا استطاعوا مُضِيّاً ﴾ أي إلى الإمام ﴿ وَلاَ يَرْجِعُونَ ﴾ إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون ولا يتأخرون.
2131
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره، ردّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، كما قال تعالى :﴿ الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير ﴾ [ الروم : ٥٤ ]، وقال عزّ وجلّ :﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾ [ النحل : ٧٠، الحج : ٥ ]، والمراد من هذا والله أعلم الإخبار عن هذه الدار، بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ؟ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم صيرورتهم إلى سنن الشيبة، ثم إلى الشيخوخة، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها وهي الدار الآخرة، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ يقول تعالىّ مخبراً عن نبيّه محمد ﷺ : أنه ما علمه الشعر ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ أي ما هو ي طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته، ولهذا ورد أنه ﷺ كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه، قال الشعبي : ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا إنثى إلا يقول الشعر، إلا رسول الله ﷺ. وعن الحسن البصري قال : إن رسول الله ﷺ كان يتمثل بهذا البيت :
( كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً )... ، فاق أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً قال أبور بكر أو عمر رضي الله عنهما : أشهد أنك رسول الله، يقول تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾. وروى الأموي في « مغازيه » أن رسول الله صلى لله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر، وهو يقول :« نَفَلّق هاما »، فيقول الصدّيق رضي الله عنه متمماً للبيت :
.... من رجال أعزة... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وعن عائشة ري الله عنها قالت : كان رسول الله صلى لله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود... وهو في شعر ( طرفة بن العبد ) في معلقته المشهورة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً... « ويأتيك بالأخبار من لم تزود »
وثبت في الصحيح أنه ﷺ تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، ولكن تعباً لقول أ صحابه رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون :
لا هم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن أولاء قد بغوا علينا... إذا أرادوا قتنة أبينا
2132
ويرفع ﷺ صوته بقوله : أبينا، ويمدها، وقد روى هذا بزحاف في « الصحيحين » أيضاً، وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسليم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها نحور العدو :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا : هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن الشعر، بلى جرى على اللسان من غير قصد إليه، وكذلك ما ثبت في « الصحيحين » عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله ﷺ في غار، فنكبت اصبعه، فقال صلى لله عليه وسلم :
هل أنت إلا أصبع دميت... وفي سبيل الله ما لقيت
وكذ هذا لا ينافي كونه ﷺ ما علم شعراً وما ينبغي له، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم : الذي ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ]، وليس هو بشر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال، وقد كانت سجيته ﷺ تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً. قال ﷺ :« لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً » على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية، ومنهم ( أمية بن أبي الصلت ) الذي قال فيه رسول الله ﷺ :« آمن شعره وكفر قلبه »، وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي ﷺ مائة بيت يقول ﷺ عقب لك بيت :« هيه »، يعني يستطعمه فيزيده منذلك، وفي الحديث :« إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً »، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر ﴾ يعني محمداً ﷺ ما علمه الله الشعر، ﴿ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ﴾ أي وما يصلح له ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ أي ما هذا الذي علمناه ﴿ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴾ أي بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره، ولهذا قال تعالى :﴿ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ﴾ أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض، كقوله :﴿ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة، كما قال قتادة : حب القلب، حي البصر، وقال الضحاك : يعني عاقلاً، ﴿ وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين ﴾ أي وهو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين.
2133
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم ﴿ فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴾ قال قتادة : مطيقون أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم، لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه، وكذا لون كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير، وقوله تعالى :﴿ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ أي منها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار، ﴿ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ إذا شاءوا نحروا واجتزروا ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين ﴿ وَمَشَارِبُ ﴾ أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك، ﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ ؟ أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره؟
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة، وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ﴾ أي لا تقدر الألهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل، وأحقر وأدحر، بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها ولا الانتقام ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، وقوله تبارك وتعالى :﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴾، قال مجاهد : يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم، وقال قتادة :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ﴾ يعني الآلهة، ﴿ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴾ والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً إنما هي أصنام، وهذا القول حسن، وهو اختيار ابن جرير، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ﴾ أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله، ﴿ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً، ولا صغيراً، ولا كبيراً، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً.
قال مجاهد وعكرمة :« جاء ( أبي بن خلف ) لعنه الله، إلى رسول الله ﷺ وفي يده عظم رميم، وهو يفته ويذروه في الهواء، وهو يقول : يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال ﷺ :» نعم، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار « »، ونزلت هذه الآيات من آخر يس :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ إلى آخرهن، وقال ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول الله ﷺ : أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله ﷺ : نعم : يمتيك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم »، قال : ونزلت من آخر يس، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في ( أُبي بن خلف ) أو ( العاص بن وائل ) أو فيهما، فهي عامة في كل من أنكر البعث، والألف واللام في قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان ﴾ للجنس يعم كل منكر للبعث، ﴿ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ أي أو لم يستدل من انكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين، كما قال عزّ وجلّ :﴿ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ﴾ [ المرسلات : ٢٠ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ [ الإنسان : ٢ ] أي من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟ كما قال الإمام أحمد في « مسنده » عن بشر بن جحاش قال :« إن رسول الله ﷺ بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال رسول الله ﷺ :» قال الله تعالى : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيذ، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق وأنى أوان الصدقة؟ «، ولهذا قال تعالى :﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ ؟ أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة، للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده، ولهذا قال عزّ وجلّ :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها؛ أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت.
قال الإمام أحمد، قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما :
2136
« ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله ﷺ ؟ فقال : سمعته ﷺ يقول :» إن رجلاً حضره الموت فلما أيس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً، ثم أوقدوا فيه ناراً، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي، فامتحشت فخذوها فدقوها فذروها في اليم، ففعلوا، فجمعه الله تعالى إليه، ثم قال له : لم فعلت ذلك؟ قال : من خشيتك، فغفر الله عزّ وجلّ له « »، وفي « الصحيحين » « بأنه أمر بنيه أن يحرقوهن، ثم يسحقوه، ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر في يوم رائح، أي كثير الهواء، ففعلوا ذلك، فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له : كن فإذا هو رجل قائم، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : مخافتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له » وقوله تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾ أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضراً نضراً، ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء قادر على ما يريد لا يمنعه شيء، قال قتادة : يقول : هذا الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادرعلى أن يبعثه، وقيل : المراد بذلك شجر المرخ و الغفار ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدهما بالآخر، فتتولد النار بينهما كالزناد سواء، وفي المثل : لكل شجر نار واستمجد المرخ والغفار، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العنَّاب.
2137
يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة، في خلق السماوات والسبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت، والأرضيين السبع وما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار وما بين ذلك، ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة كقوله تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقال عزّ وجلّ هاهنا ﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ أي مثل البشر فيعيدهم كما بدأهم، وهذه الآيات الكريمة كقوه عزّ وجلّ :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقال تبارك وتعالى هاهنا :﴿ بلى وَهُوَ الخلاق العليم * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد كما قيل :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما يقول له ( كن ) قولةً ( فيكون )
عن أبي ذر رضي الله عنه، « أن رسول الله ﷺ قال :» إن الله تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، إني جوّاد ماجد واجد أفعل ما أشاء، عطاي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون « وقوله تعالى :﴿ فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي تنزيه وتقديس للحي القيوم، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وإليه ترجع العباد يوم المعاد فيجازي كل معامل بعمله، وهو العادل المنعم المتفضل، ومعنى قوله سبحانه :﴿ فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ كقوله عزّ وجلّ :﴿ تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك ﴾ [ الملك : ١ ] فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، ومن الناس من زعم أن ﴿ الملك ﴾ هو عالم الأجساد، ﴿ المَلَكُوتُ ﴾ هو عالم الأرواح، والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. روى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال :» قمت مع رسول الله ﷺ ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في ركعات، وكان ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع قال : سمع الله لمن حمده، ثم قال الحمد لله، ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف وقد كادت تنكسر رجلاي «. عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال :» قمت مع رسول الله ﷺ ليلة فقام، فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال : ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه :« سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة »، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة «.
Icon